حدّثني
جدّي
طرقتُ الباب بأدب جمّ... هكذا كان والدي قد علمني، متشدّداً عليَّ
بآداب السلوك، وبشكل خاص عندما أدخل إلى غرفة جدي... تنحنح جدّي من الداخل،
فهمتُ منه أنّ ذلك إذنٌ لي بولوج الغرفة، دخلتُ مبتسماً كعادتي، أغلقتُ الباب،
ورحتُ أمسح المكان بعينين ترغبان في شيء ما.
كان جدي متلفعاً بعباءَته الصوفية الخشنة، يجلس متكوراً على ذاته في
الزاوية المعهودة قرب الموقد... في جوف الموقد عدّة حطبات مشتعلة ترسلُ لهباً
أحمرَ، وسحابةً من دخان أزرق تنتشر في فضاء الغرفة. وبضعُ جمرات كبيرة متوهّجة
تتراكم في صدر قاعه.
عرف جدّي ما أريد، أشار إليَّ بيديه. كنت أريدأن أقبع في حضنه،
أتلذّذ بدفء النار والعباءة الصوفية. فتح لي ذراعيه وشعّت في عينيه ابتسامة
طيبة رائعة. ضمني إلى صدره، وشدَّ عليَّ بذراعيه وطرفي عباءَته الدافئة، وراح
وجهي يغوص في كثافة شعر صدره و لحيته الكثّة البيضاء، متلذّذاً بحنانه الغامر
ورائحة الدخان المنتشرة من ثيابه... بعد فترة قليلة من المداعبة التي كنتُ
أتمنّى لها ألاّ تنتهي، رفع جدي عنّي طرفي عباءَته، ودفع وجهي إلى الأعلى بباطن
راحته، وقال بصوته الجهوري الخشن:
-..إيه ياولد قل لي ماذا تعلّمتَ من دروس البارحة؟؟
أيقنت أن فترة الدفء والمداعبة قد انتهت، وأن جدّي قد باشر مرحلة
الحصار... انفلتُّ بهدوءٍ من حضنه. جلستُ قبالته في الزاوية الأخرى، نظرتُ
إليه، فإذا به يبتسمُ بعمق، حنيتُ رأسي. قلت له:
-.... البارحة... في درس التاريخ حدثنا الأستاذ عن فترة من الزمن
أسماها "السفر برلك"...هكذا أسماها، لم يكن هذا الاسم موجوداً في الكتاب... قال
لنا أشياء كثيرة عن " السفر برلك"... الجوع-السرقة- الاعتداء- الحروب- التشرد-
الموت...
سكتُّ فجأة لأنني شعرتُ أنَّ جدي بدأ يتململ في زاويته ويُصلح من
جلسته. نظرتُ إلى وجهه، فإذا عيناه تلتمعان ببريق وهّاج، وقد أخذ يداعب لحيته
بأطراف أصابعه، سألني باهتمام:
-... وماذا أيضاً؟؟
قلتُ:
-لا... أذكرُ أكثر من ذلك...
هزّني جدي بهدوء من كتفي... قال:
-... وماذا يعرف أستاذُك عن السفر برلك!!... إنه لا يعرف إلاّ
القليل.
سألتهُ:
-...وهل هنالك أكثر؟؟
تلمّظ جدي. حكّ أطراف لحيته البيضاء الأنيقة. قال:
-... هناك أشياء كثيرة.
قلتُ باندفاع طفولي:
- حدّثني عنها.
ابتسم جدي. احتواني بنظراته. قال:
-... اسمع يابنيَّ هذه القصة. فهي تلخّص كل السفر برلك. لم يخبرني
عنها أحد، بل عرفتها وعايشتها.
نظرتُ إلى جدي بعينين متلهفتين. ردَّ على كتفيه طرفي عباءَته...
غاضت ابتسامته الطيبة...قال:
-.....في مدينتنا هذه، وفي غمرة أيام السفر برلك. كان يعيش بيننا
لصٌّ مشهور جداً اسمه "سليمان الازميرلي". كان قوياً، بطّاشاً، يزرع الخوف
والهلع في قلوب كل أبناء مدينتنا. إلا أن "سليمان الأزميرلي" هذا، لم يكن يسرق
البيوت ولا المحالَّ التجاريَّة، ولا يتعرض للأفراد في طريقهم، بل كان يسلب
الجنازات... كان الموت منتشراً بكثرة في تلك الأيام، وكلما مرّت جنازة في
طريقها من المسجد إلى المقبرة، كان يعترضها "سليمان الازميرلي".. يقف أمام
النعش والمشيّعين، يصرخ بأعلى صوته، فيضع الرجالُ النعش على الأرض، ولا يسمحُ
لهم بمتابعة طريقهم إلى المقبرة قبل أن يتقاضى منهم مبلغاً محدّداً يفرضه عليهم
يتناسب مع مقام المتوفّى وأهله وذويه....وهكذا..
قاطعت جدي متوثّباً:
-... ألم تشكوه للحاكم آنذاك؟؟
ضحك جدي بعمق كبير حتى أذهلني، لاحَ برأسه، ثم تابع:
-.....وجاءَ يوم توفّي فيه "أمين الخزانة" في مدينتنا، وكان شيخاً
جليلاً وقوراً، وكانت خزانته مترعة بالسبائك والأموال الطائلة... يومها، ذهب
بعض الوجهاء إلى دار الولاية، وقابلوا الوالي فيها، وقالوا له:
-..... ياسيدنا الوالي، لقد مات الشيخ أمين خزائننا. فمن تعيّن لنا
بديلاً عنه؟؟
أجاب الوالي بلا تردّد:
-..... لقد أصبح "سليمان الأزميرلي" أميناً للخزنة.
صُعق بعضهم، وابتسم آخرون، وانتهت المقابلة.
غادر الوفد دار الولاية، وأتّوا بيت "سليمان الأزميرلي" وأبلغوه
قرار الوالي... قالوا له:
-..... لقد أصبحت أحد شيوخنا الكبار، وأمين خزائننا، قمْ معنا نصلِّ
العشاء، وتهيّأ لاستلام مهمّتك منذ صباح الغد.
أطرق "سليمان الأزميرلي" برأسه، فكر قليلاً، قال لهم:
-.. لا.. ليس الآن. لن أستلم عملي في الصباح. سأرجئ ذلك لبعد غدٍ...
انصرف الجميع من بيته، وقد ساورهم اعتقاد أنه يريد غداً سلبَ
الجنازة، وبعد غد يستلم أمانة الخزانة.
تلمّظ جدي من جديد. داعب بعض جمرات ماتزال تشعُّ في كبد الموقد
الطينيّ. اتسعت ابتسامته في وجهي، وتابع:
-... في اليوم التالي، سار المشيّعون في جنازة الشيخ أمين الخزانة
المتوفّى.
في منتصف الطريق بين المسجد والمقبرة، برز لهم "سليمان الأزميرلي"
صرخ بهم، أذعن الجميع، وبدأت أيديهم تلوب في جيوبهم بحثاً عن المال لدفعه إليه.
لكنّه رفع يده وقال:
-... أولاً... اكشفوا الغطاء عن الميت.
ففعلوا... قرّب فمه من أذن الميت المسجى في نعشه، وقال له كلمات
قليلة، لم يسمعها ولم يفهمها أحد... وأمرهم أن يغطّوه ويحملوه ثانية ويتابعوا
طريقهم.
كان الشوق لمعرفة النهاية يأكلني من الداخل، فصرخت بعبث طفولي:
-... ألم يأخذ منهم مالاً؟؟
ضحك جدي.. هزَّ رأسه، وأجاب:
-..لا.. لم يأخذ شيئاً، لقد سألوه: ألا تريد مالاً ياشيخنا...قال:لا..
لا أريد مالاً أبداً.. تبادلوا فيما بينهم نظرات حائرة..
قالوا له:
-.. لن نتابع سيرنا حتى تخبرنا ماذا قلت للشيخ الراحل.. أجابهم:
-.. قلت له.. يا أخي.. إنك راحلٌ من هذه الدار الفانية إلى الدار
الباقية، إلى دار الخلود... هناك ستلتقي الأبرار والصدّيقين.
قل لهم.."في تلك الدار الفانية أصبح "سليمان الأزميرلي" أميناً
لخزانة الأموال...
سكت جدي وأطرق برأسه، وقد تلاشت كل ملامح الابتسامة والرضا من
وجهه... ودون رغبة مني وجدتني أقف سريعاً وأقترب منه وأنا أحدّق فيه، سألته:
- ...وماذا بعد؟؟!!
ضحك جدي ضحكة شاحبة... وقال:
-.. ألا يكفي يابنيّ؟!!
قلتُ له:
-.. سأحكي هذه القصة لأستاذنا فهو لا يعرفها.
صمت جدي قليلاً، احتواني بنظرات حنونة، وامتدت ذراعاه نحوي، وضمّني
من جديد إلى صدره الدافئ... وراحت أصابع كفّي تعبث بسرور وتتجوّل في ثنايا شعر
صدره ولحيته الكثّة...
الألوان
الرّماديّة
انقضت سنتان قاسيتان، وأنا أرتادُ ديوان الوزارة في كل أسبوع مرّة،
سائلاً بإلحاح حيناً، وبهدوء مصنوع أحياناً كثيرة، عن مصير طلب التعيين... منذ
أكثر من سنتين، أعلنت الوزارة في لوحة إعلاناتها الخاصة، وفي الصّحف والإذاعة
والتلفزيون، عن رغبتها الماسّة في تعيين موظفين متخصّصين من حملة الإجازة
الجامعية في الحقوق... كنتُ أقرأ في فصل من رواية مترجمة للكاتب الكبير أرنست
همنغواي، عندما طرقت مسامعي كلمات المذيع عبر الشاشة وهو يعلن عن حاجة الوزارة
إلى موظفين متخصّصين... ليلتها لم يعرف النوم إلى عينيَّ سبيلاً. طويتُ الكتاب
بأناقة، وغطستُ في بحر من التفكير...
منذ أكثر من سنة تخرّجتُ في الجامعة، أحمل في يدي شهادة الإجازة في
الحقوق، وفي قلبي حبّاً عميقاً متبادلاً مع مها زميلة الدراسة. كانت الفرحة
وقتئذٍ عميقة، ومرآة المستقبل تعكس لي آمالاً عريضة جداً، وطيف مها الجميلة
يرافقني أنّى حللت... ظلّت هذه الآمال تضيق مساحتُها حتى بدأت أبخرة الإحباط
تلسع أعصابي...
ليلتها، لم أنم... بقيت ساهراً مع أحلام ورديّة، وابتسامات مها
العذبة، تنقلني الأحلام عبر أروقة مضيئة، أتقلّب في فراشي وأنا أرسم خطّة
الغد...
أوراقي جاهزة. منذ شهور طويلة أعددتُ كل شيء. في الصباح تناولتُ
أوراقي ورحتُ أقصد مبنى الوزارة في ذلك الحي البعيد. قدّمتُ أوراقي للموظف
المسؤول، أخذتُ إشعاراً بذلك وخرجتُ من المبنى الضّخم. عندما لفظني الباب
الرئيسي للوزارة، تنفّستُ الصعداء بمزيج من الفرحة والأمل والحذر، ورحتُ أغذُّ
السيرَ نحو منزل مها أنقلُ لها فرحتي وآمالي العريضة.
سنتان طويلتان جداً، خلتهما دهراً عاصفاً وأنا أترددّ إلى ديوان
الوزارة أقابل الموظف المسؤول ذاته بكرشه الضخم وشاربيه المتهدلين. غدت إجابته
منقوشة على صفحة عقلي وأعصابي. في كل لحظة كانت إجابته تقرع مسامعي حتى اتّهمتُ
أذني بالصّمم..."لم يأتِ دورُك بعد، عندما يأتي دورك نعلنُ عن ذلك...". كان
يكرّر هذه العبارة بأسلوب مزيج من الجدّ والإشفاق والسخرية. وأنا أظلّ أمامه
ساهماً، أنظر إلى تكشيرته الفظّة التي تكشف عن لثتين تساقطت بعض أسنانهما
فأحدثت كهوفاً تدعو للتقزّز...
لمدة سنتين وأنا أنزع أوراق "الروزنامة" واحدة بعد الأخرى والإجابة
ذاتها تتكرّر "لم يأتِ دورك بعد" حتى كدت أقتنع بها،لولا معرفتي بأن زملاء
آخرين كثراً قد لُبّيت طلباتهم، وأصبحوا في عداد من يلجُ باب... الوزارة الشامخ
كل صباح.
بعد مرور زمن لا أدري مداه، أصبحتُ لا أقتنع بإجابة رئيس الديوان ذي
العينين الصغيرتين، والعنق الغليظ المتهدّل، هذا الموظف الذي يمارس أبشع أشكال
التعالي وهو يجلس خلف مكتبه. يعرف أكثر من غيره إلى أين أُبعِدَت معاملتي
المهملة، بل في أيّ كيس قماشيّ تختبئ. كان الانفعال يأكل أعصابي، وأنا أتصورّها
متروكة للغبار والقوارض. ولكن انفعالي هذا سرعان ما يتراجع عندما أرى عدداً من
المراجعين من أمثالي، فألوذ بالصبر وضبط الأعصاب، إذ أتذكّر أنني لستُ المواطنَ
الوحيدَ المهمل في مدينتنا الكبيرة. ومع ذلك لم يتسرّب اليأس إلى قلبي لأنّ مها
كانت في كل لقاء تغمرني بحبّها وتنعش في نفسي آمالاً كادت تذبل، وتأخذ بيدي
على طريق التماسك والكبرياء... ظللتُ أراجع الموظّف المنفوش خلف مكتبه كديك
روميّ. لاعناً في سرّي نكدي وتعاسة حظّي اللذين ربطا مصيري. بهمهمات مثل هذا
الموظف الخبيث...
مراجعتي الأخيرة له، كانت أشدَّ إيلاماً من سابقاتها. لقد أسقطتني
في مستنقع الخيبة وفقدان الأمل... لستُ أدري كيف وجدتُ نفسي وحيداً في غرفة
الديوان، لم يستوقفني البوّاب، ولم يكن رئيس الديوان مترهل الجسد وراء مكتبه.
تجوّلت بناظريَّ في أرجاء الغرفة الواسعة. كان مكتبه ينوء بالعديد من الأقلام
والمصنّفات والأوراق المبعثرة، وأسلاك الهواتف المتداخلة. وجدران الغرفة
الأربعة تستند إليها قامات شامخة من الخزائن المفتوحة... هالني المنظر واستلَّ
منّي كل قناعاتي وآمالي. كانت الخزنُ إياها تغصّ بالمعاملات المهملة المكدّسة
المتروكة لعبث الفئران والتآكل وتراكم الغبار... مزّقني المشهد ودفع بي إلى
التعجّل بالهروب قبل أن يأتي الموظف ذو الشّفتين الرقيقتين المطبقتين والأسنان
المخلّعة، وينعق في وجهي: "لم يأتِ دورك بعد".
خرجتُ أضرب في تيه الأزقّة والشوارع، ألعنُ في سرّي مالا أجرؤ على
الجهر به علانية... هتف بي صوت من الأعماق: "كيف لمنحوس مثلِكَ، لا ظهرَ له
ولا...... أن يُنظر في معاملته".
عدتُ إلى البيتِ متأخراً، كان أوّلُ ما استقبلني مرآةٌ صغيرة معلقة
في منعطف المدخل.وقفتُ أمامها طويلاً. داعبتْ أناملي شحوباً في الوجه وذبولاً
في العينين وجفافاً في الشّفتين. تحسّرتُ على شيءٍ من وسامةٍ كنتُ أعتزُّ بها،
وأملاً كان يترقرق في العينين، وقد لاحت لي بعضُ خصلات شعرٍ مشعّثةٍ بدأ البياض
يأكلها بصمت، وقتئذٍ تمنيّتُ صادقاً أن أداري مظهري عن مها فلا تراني.
دون أن أخلع حذائي وبعض ثيابي قذفتُ بجسدي إلى السرير، أنّت
مفاصلهُ، وصرّت تحت ضغط الجسد المتوتر... داهمتني فكرة الرحيل. هاجمتني
بعنف:"عليك أن تترك هذه الدنيا إلى دنيا أخرى... بلاد الله واسعة. ولكن..
الوطن... الوطن!!...وطن الإنسان حيث يجدُ نفسه... ومها؟!!... مها الجميلة،
هل... لا...لا... ولكن إلى أين سأرحل؟ إلى أيّ مكان... أيّ مكان... يقيناً، لن
تجد في أيّ مكان من يقول لك: لم يأتِ دورك بعد... لن تتعرّض لمثل هذا الإهمال.
لن تكون أنت في جانب، والموظف المترهّل والفئران والغبار، في جانب آخر.
رئيس الديوان ذو الوجه الرّمادي. المواقف الرمادية، وتلك المساحات
الرمادية التي لا حدود لها، والأرض الرمادية، والإنسان الرمادي، وأمور رماديّة
كثيرة، كنتُ أظنّها بيضاء مشرقة، تدفعني بشراسة نحو الرحيل... آهِ كم أمقت
الألوان الرمادية... ولكن. هل أستطيع الرحيل؟؟ هل الحصول على جواز سفر أمرٌ
ممكن لا تقف دونه معوّقات رمادية وشروط رمادية كثيرة؟؟؟!!!...
طحنتني تلك التداعيات. حاولتُ أن أستسلم لهدوء نسبيّ علّني أتخلّص
من آلامي الممزقّة. أغمضتُ عيني، ومن خلال غبش العينين لاح لي خيالُ مها...
سحبتُ أنفاساً متتالية عميقة ومددْتُ ذراعيّ، شعرتُ بشيء من الارتخاء يدغدغ
أعصابي، وسيطرتُ عليَّ حالةٌ بين النوم واليقظة. تذكّرتُ فجأةً... قفزَتْ إلى
ذاكرتي كلماتُ صديقي حازم، ذاك الذي كان يتعاطف مع نكدي وتعاستي. قال لي يوماً:
عليكَ أن تلجأ إلى إنسان كبير مسؤول، يجب أن تبحث عن إنسان ذي مركز اجتماعي
مرموق "إيده طايلة"... وحدَه يعرف كيف ينتشل معاملتك من مخدعها الأبدي...
عندما وصلتُ بخواطري المرّةِ إلى هذه النقطة، غمرني إحساس آخر
بالهدوء، على الرغم من أنني لا أرى الحلّ المناسب في البحث عن إنسان "إيده
طايلة". كما أنني لا أعرف إنساناً ما من هذا القبيل.
شيءُ ماشدّني بعنف عن السرير، انتصبتُ في وسط الغرفة، شددتُ ملابسي
المتهدلة، خطوتُ باتجاه باب شقّتي الصغيرة، اختلستُ نظرة عجلى إلى المرآة. لم
يرقِ لعينيَّ المنظر. خرجتُ وصفقتُ الباب خلفي بعنف، تمنيّتُ أن تأتي مها فلا
تجدُني.. ابتلعني جوف الشارع، قذفتني الأرصفة من واحد إلى آخر. عصفتُ بي
التداعيات من جديد: "عليك بإنسان مرموق، إيده طايلة... تبّاً لك ياحازم. من أين
لي بمثل هذا الكائن. أنت تعرفني جيداً. تعرف كم أنا بعيد عن مثل هؤلاء..."
فجأة، نبت في ذهني المكدود خاطرٌ محيّر. ماذا لو تراجعتُ قليلاً عن رؤاي
الثابتة؟! إنه هو. الجار الجديد الذي سكن منذ أشهر قليلة في أول حارتنا
الفرعيّة. إنه الإنسان ذو المركز المرموق. لا شك بأن "إيده طايلة". فهو دائماً
يحشر جسده في ملابس أنيقة، وفي كل يوم يؤمّ شقَّتَهُ رجالٌ كثرُ أنيقون مثله،
يأتون لزيارته. إن ملامحهم تنبئ بأنهم مسؤولون كبار، يقصدون رجلاً كبيراً،
مسؤولاً خطيراً... كلمةٌ منه كافية، لا يحتاج لأخرى. إشارةٌ منه "تفكُّ مشنوق".
أنا أريد منه فقط أن يفكَّ لي معاملتي من رباطها.
وجدتُ نفسي ابتسمُ كالأبله... من أين لي أن أصلَ إليه وهو على ماهو.
تبّاً لك ياحازم كم تدفع بي إلى المواقف الصعبة. ترى أليس هناك حلٌّ آخر؟؟
تبلَّدَ ذهني عن الإجابة. وجدتني أبتسم من جديد، وبسذاجة أعمق. توقفتُ فجأة عن
المسير الطائش عبر الأرصفة. شيءٌ ما في داخلي أمرني بالعودة إلى البيت. استدرتُ
تلقائياً. ورحتُ أنهب الخطواتِ نحو البيت. كانت الابتسامات الساذجة تتسّعُ
وتتسّع حتى غمرتْ كل ملامحي. في البيت كنتُ عاجزاً تماماً عن التفكير. شعرتُ
بالشّلل التام. امتطيتُ ظهر السرير. وبدأت أحسُّ بأن الهالوك والطحالب والأشواك
تعشّش في جسدي وأعصابي وذهني، وأنا أحلّق بجناحين طويلين جداً صوب جارنا الجديد
الأنيق الذي يطرق بابَه كلَّ يومٍ عشرات الرجال الأنيقين، ترى هل سيتعاطف معي،
أم أنه سيرفض إصراري ومواقفي الحادّة وملابسي غير الأنيقة.
في تلك الليّلة لم يزرني النوم إلا مع مطلع الفجر. كان نومي قلقاً
يدور في دوّامة من الكوابيس المتصلة المتلاحقة. حطّمتني تلك الكوابيس، أسلمني
الواحد للآخر. نسيتُها إلاّ واحداً منها أفقتُ على إثره صارخاً بخوف كبير،
وجسدي المتوتّر يسبحُ في رذاذٍ من التعرّق الحار... رأيتُ الغرفة التي أنام
فيها واسعة جداً، وقد غادرتني مها منذ لحظات قليلة... بدأت الغرفة تضيق من
حولي، سقفها ينخفض فوق رأسي، جدرانها تقتربُ، تقتربُ أكثر. في كل زاوية منها
بدا وحشٌ مفترسٌ يزداد تكشيراً عن أنياب حادة، كلما ازدادت الجدران اقتراباً...
أفاعٍ تتلوّى من حولي. الفحيح يملأ جوَّ الغرفة...اقتربتِ الجدران أكثر. أصبحتُ
محاصَراً بإحكام. اختلط العواء بالفحيح وأصبحتُ في متناول المخالب والأنياب...
قفزتُ عن السرير وصوتُ صراخي يمزّق حنجرتي. هرعتُ بخطواتٍ سريعة نحو الباب،
أعدو بشدة والباب يبتعد. أمدُّ يديَّ لأمسكَ شيئاً ما.. أفقتُ مذعوراً وقد
تكوّر جسدي في منتصف السرير، وكفّاي تضغطان عنقي بعنف شديد...
لملمتُ لهاثي وتعرّقي وجسدي المنهك، وغادرتُ شقّتي البائسة، وذهبتُ
لا ألوي على شيء، أسوّي ملابسي المثنيّة، وأمشّطُ شعري، بأصابعي، وأعيد إلى
ملامحي بعضَ صحوتها.. لحظتئذٍ قرّرتُ بشكل قاطع أن ألجأ إلى جارنا الجديد،
المسؤول الكبير. عادت الابتسامة تغطّي جانباً من وجهي. "سأدخل إلى عالمه قبل أن
أطرح عليه موضوعي المعقّد، يجب أن أستميله إليّ"... لم أجد صعوبة أبداً في
إقامة الصلة معه. انتظرته مراراً في مدخل البناية. ألقيتُ عليه تحية رزينة.
أعاد لي التحيّة بأحسن منها. "غريبٌ أمرُه، كنتُ أتصوّره متعالياً صعب المراس،
بل يجب أن يكون كذلك.". دعوتُه مرّة لتناول فنجاون قهوة في مقهى مجاور أنيق،
لبّى الدعوة بسرور. "ما أغرب ذلك!!". تبادلنا أحاديث عامة مقتضبة، كان لبقاً
ورائعاً. آهٍ.. ما أجملَ وأسهلَ الاقتراب من عالم الكبار.كان يرفض منّي أن
أمدحَهُ وأتملّقهُ. ازداد سروري.
"شكراً لك يا حازم، ما أشدَّ سذاجتي لأنني لم أطرق هذا الباب منذ
زمن بعيد".
طلبتُ منه أن أزورهُ في بيته. رحب بسرور بالغ، اعتصرتني قشعريرة من
الدهشة والاستغراب. "لاشك أنه مسؤول خطير من نوع آخر". اجتاحتني أمواج من
الكبرياء والزهو وأنا أسير إلى جانب المسؤول الكبير خارجين من المقهى.
صافحني بمودّة، وأكّد لي ضرورة زيارتي له غداً في شقته.. بدأت أشعر
بنظرات الحسد تخترق جسدي، يوجّهها لي الكثيرون من أبناء الحي، وملامح
الزهووالاعتزاز تتعمّق في داخلي، لقد استطعتُ أن أصل أخيراً إلى مسؤول كبير "إيده
طايلة". ستخرج معاملتي المهملة من سجنها، وسيعتذر منّي رئيسُ الديوان الفظّ عن
تصرّفاته الحمقاء.
بتُّ أعدُّ الساعات الفاصلة بيني وبين زيارتي لجاري العظيم. حان
الموعد. لبستُ أجمل ثيابي. رتبّتُ شعري. قذفتُ وجهي وجسدي برذاذٍ من عطرٍ ثمين
أختزنه لوقت الحاجة، وذهبت أبتسم لكل من أشاهدُه.
استقبلني ببشاشة واحترام كبيرين.."آهٍ لقد اقتربت ساعة الفرج".
جلسنا وبيننا فنجانان من قهوة ساخنةٍ لذيذة. كان يحدّثني عن الوضع
الاقتصادي والتفجّر السكاني، والتطورات الاجتماعية المتلاحقة. لم يكن هذا
الحديث يروق لي، وبدأتِ الخواطر تتنازعني بعنفٍ من الداخل. حزمتُ أمري وقرّرتُ
أن ألجَ إلى قضيّتي بشيء من المهارة واللبّاقة.. سألتُه بهدوء واحترام".
- ..سيدي.. أما وقد أصبحنا صديقين متقاربين. هل لي أن أسألك عن
العمل الذي تمارسه؟؟
ابتسم برقّةٍ، وقادني إلى غرفةٍ أخرى وأشار بيده قائلاً:
-.. أنا أعمل في الترجمة. الترجمة المحلفّة. أترجمُ الوثائق والقيود
الرسميّة.
وقفنا متقابلين، سيطر علينا معاً صمت جليدي، وبين الشكِّ واليقين،
اعتقدتُ أنه يراوغ، وأنه لا يريدُ أن يكشف لي أوراقه دفعة واحدة..."كلّهم
هكذا".. وتأكّد لي أن عمله الرسميّ يقتضي السريّة لأنه رجل مهمٌّ وخطير
جداً...بادرته بسؤال، وابتسامةٌ ماكرة ترتسم على عينيَّ وشفتيّ:
-... سيدي.. أيعقل ذلك؟؟!! وعشراتُ الرجال الأنيقين يطرقون بابكَ كل
يوم.. أليسوا من المسؤولين الكبار أصحاب المناصب الرفيعة؟!...
ضحكَ بصوتٍ عالٍ مستغرباً ماسمع. ربتَ على كتفي، أجابني بهدوء:
-..لا.. ليسوا كما تتصور، فأنا لا أملك صداقات مع مثل هؤلاء...
الذين تراهم يطرقون بابي، أناس عاديّون يأتون بالوثائق لأترجمها لهم، ويعودون
لأخذها.. ثم أضاف وهو يبتسم: "أنا لا أملك مكتباً أمارس فيه عملي، فالبيت
مكتبي.
أصابني ذهول مدمّر، وسكون مطبق... لاح لي وجه مها شامخاً عنيداً
جميلاً أكثر من أيّة فترة مضت.. أطبقتُ ناظريّ على تلك الملامح، وصافحتُ صديقي
مودّعاً.
عندما خرجتُ من بيت جاري الذي لم تكن "إيده طايلة"، تمنيّتُ أن تأتي
إليّ مها، فتعيد لي توازني وتنقذني من ضياعي وكآبتي..
سرتُ في الطريق وحيداً أردّدُ في سرّي:"تبّاً لك يا حازم".
الخروج من طقوس الحلم
كيف حصل ماحصل، لا يذكر أبداً، كلُّ ما يعرفه أنه وجد نفسه في
دوّامة من الانفجارات ودويّ القنابل الرعناء.
ستُّ سنوات دفنها نعيم في جوف الغربة، في العاصمة البريطانية. عاد
بعدها يطرق أبواب القدس مُثقلاً بالبرامج والهموم، يحمل في حقيبته شهادة مهندس
ميكانيكي. لعل المهندس المُحدث كان يحدسُ بأن شهادته ستبقى طيَّ الحقيبة، يدفعه
إلى ذلك التخمين يقين راسخ.. هكذا قالت لي خواطرُه، وأنذرته مشاعرُه.
طوت رياحُ الحياة أشرعةَ الغربة، وعاد نعيم أدراجه نحو الوطن، إلى
القدس، المدينة التي أحبّها بلا حدود. الصورة ذاتها. لاجديد فيها. إنها ترتسم
في مخيّلته.. قال له والده:
-.. انتظرناك طويلاً ياولدي.. واختنق الكلام في حلقه..
وقالت له أمّه والدموع في عينيها:
-.. أنت الآن ربُّ الأسرة وعمادها. انظر. والدك العجوز. أخوتك
الصّغار. وتعثّرت كلماتها بالدموع المرّة.
وخزتْه نفسُه من الداخل. كان كل ماحوله يُنذر بالمأساة. غطّت
ملامحَه ابتسامةٌ شاحبة ساخرة. أشاح بوجهه. لقد تأزَّمت روحه بين صورتين: الوطن
المنكوب.. والشهادة المطويّة بإتقان في ثنايا المحفظة. تضعضع كيانُه بين
الصورتين. هدّه التناقض الأليم، هرب بنفسه من واقعه، وتاه في دروب مسدودة. أغمض
عينيه على صور نازفة متتابعة. توقّف شريط الصّور الصّامتة، ارتسمت في خبيئته
لوحات أليمة مُرعبة. لطمت عينيه حزمةٌ من ضياء. حاول أن يهرب منها، رفرف
بجفنيه، لم يجد ملاذاً.. في كل الاتجاهات كان يقرأ كلماتٍ من نور تملأ صفحات
الأفق. طمأنته تلك الكلمات، وساقته خواطرهُ المشحونة بالرضا والألم إلى شرفات
عالم هلامي متأرجح. التفت حوله بذهول مُريع، لم يجد أحداً. كان الجوُّ من حوله
يفرز ظلاماً مقيتاً. هالتهُ وحدتُهُ، استنجد بأمّه وأبيه، صرخ ملء صوته. ارتدَّ
إليه الصّدى. حاول أن يستمدَّ من الموقف شجاعة، خفَّف من حدّة أنفاسه
المتوتّرة. التفتَ إلى كل الاتجاهات..
تساءَل: "كيف سقطتُ في هذا الظلام الطائش؟؟" جمد كأنه تمثال من حجر
استسلم لسباتٍ موغل في الصّمت. حملته أحلامٌ لولبيّة رعناء قذفت به بعيداً.
تساءَل: "غريب!! ماذا يجري؟!" تلاشى الظلام دفعة واحدة. سيطر نورٌ
مبهر، غطّى عينيه براحتيه:"ماهذا؟!! أقصُّةٌ من قصص الأساطير؟ أحلمٌ؟!..
لا...لا.. أنا في يقظة تامة. أيّةٌ يقظة هذه!!.."
نظر إلى جسده، وجده عارياً، ليس كعري الأطفال.. امتدَّ أمامه بحرٌ
لا نهاية له، أخذ يتوغل عبر المياه الدافئة مُخلّفاً وراءَه شاطئاً رملياً واسع
الامتداد. على صفحة المياه الزرقاء ارتسمت أمامه شهادة المهندس تتيه بحروفها
الكبيرة اللامعة.. مدَّ يده إليها بحنان، فاجأته موجة صخّابة عاليه. سقط في جوف
الموجة. تصوّر أنّه قد تغلّب عليها. البحرُ كلّه انقلب إلى سلاسل من الأمواج
الشرسة، راح يتخبّط في طيّاتها. شهق، صرخ. تحشرج. تقيّأ... الأمواج تبتلعه
وتُسلمه الواحدة إلى الأخرى. غاب نعيم في أعماق الموج، أيقن أنه يتدحرج نحو
الموت سريعاً... قبل أن ينطفئ عود الثقاب، أومضت في ذهنه المكدود رُؤى متداخلة:
القدس، والده. إخوته. الوطن. المستقبل. شهادة المهندس. صفعهُ صوتُ والده
العجوز: "انتظرناك طويلاً ياولدي". مدّ يده نحو مصدر الصّوت، يريد أن يمسك يدَ
والده فيقبّلها. كانت يده تعبثُ في سياط الأمواج. استسلم للمصير الأسود. وراح
يدخل تدريجيّاً في طقوس موت فجائيّ. أطلقها ضحكة مُجلجلة..
"آهٍ. ما أجمل الانتصار. ماأحلى الغلبةَ. لقد قهرت الأمواج".
البحرُمن حوله ينبسط كما كان وديعاً هادئاً. أشعّة الشمس تمرّغُ
شفتيها على صفحته الساكنة. وهو يخطو خطواته الأخيرة نحو الشاطئ الرمليّ الذي
فردَ له جناحيه. راقه جداً أن يتغلب على الموت، وراح يبني أحلاماً في عالم
المستقبل الجميل. نظر إلى البحر باستخفاف. سخر من أمواجه المهزومة. إلاّ أنه
أحسّ أن الشاطئ الذي يستدفئ برماله يضيق من حوله. يضيق ويضيق. النور المبهر
يتراجع خلسة. سقط فيما يشبه العتمة. فرك عينيه بعنف ونظر إلى الأعلى. شاهد
جدراناً أربعة تنبت حوله يجلّلها سقف اسمنتيّ. ابتسم ببلاهة:
"عجيب!! كيف تبخّرت مياه البحر!! كيف حلّت محلّها هذه الغرفة
الأنيقة!!". في أحد زوايا الغرفة، كان يجثم مكتب ضخم عليه كثير من الكتب
والمخطّطات، وعلى ناصية المكتب قطعةُ خشب صقيلة، حُفر عليها بالعاج والصدف وبخط
واضح عريض: "المهندس الميكانيكي نعيم المقدسي.. ضحك ملء شدقيه. اعتمر قلبهُ
بفرح طفولي غامر. امتطى صهوة كرسيٍّ دوّار تقبع خلف المكتب. قذف ظهرَه إلى
الخلف. وأغمض عينيه. تاه في سراديب أحلام مستقبليّة مُشرقة، وحياة رافهة وأيام
سعيدة. صرخ هامساً: "أبشر يا أبتاه. سأنتشلك وأمّي وإخوتي من مستنقع الفقر
الآسن.".
***
استمرأ نعيم هذه السعادة الهابطة. غاب بعيداً. تذكّر أنه رهن طقوس
الموت منذ زمن بعيد. تساءَل بعذوبة: "أتحصل مثل هذه السعادة. في عالم الموت."..
أبداً لم يسمع نعيم أيّة طرقات على باب الغرفة. لم يستأذنه أحد. لم يعكّر عليه
خلوته وأحلامه أيّة أصوات ناشزة، لكنه استفاق متمهلاً على أصوات ضحكات هادئة
تقترب من أذنيه. إنّه مايزال يمتطي متن كرسيّه الدوّار. فتح عينيه ببطء. حلّت
ملامح الذهول والدهشة محلَّ بريق السعادة المتدليّة من حدقتيه. ياللغرابة..
ماذا أرى؟؟ صعق نعيم حين رأى فارساً مهيباً يمتطي صهوة حصانه الضخم، يقترب من
مكتبه الجميل، جأر نعيم بأعلى صوته: "من أنت؟؟ وكيف وصلت؟! كيف مرق حصانك من
الباب الصغير؟! ماذا!!
ترجل الفارس بهدوء. اقترب من نعيم باحترام كبير. ألقى التحية بكلمات
رجوليّة مقتضبة. قال:
-.. أنا سعيدٌ بقدومي إليك أيها المهندس الكبير.. أنا أبو محجن
الثقفي. وهذه الفرس البلقاء. وهذا سيف سعد.
سأل نعيم والحيرة تأكله:
-.. أبو محجن!! وما الذي جاء بك يا أبا محجن؟؟
ابتسم الفارس ابتسامة يشوبها الألم. قال:
-.. جئتُ من مفارق الزمن البعيد. طفتُ كثيراً في شرفات هذا الزمن
الحديث. شعرتُ بغربتي. خفتُ على كرامتي. آثرتُ العودة وحيداً حيث كنت. لم أجد
غيركَ إنساناً أأتمنه على سيفي وفرسي...
انحنى الفارس بأدب جم وأخذ ينسحب مع حزمة النور القادمة من النافذة
العريضة:
انقضَّ نعيم بعنف نحو النافذة. صاح بملء صوته.
-.. أبا محجن.. أبا محجن.. لا تتركني وتذهب. فأنا في أمسِّ الحاجة
إليك.
ارتدَّ إليه الصَّدى جافّاً. سقط في الخيبة. دار حول نفسه عدة
مرّات. كاد يسقط على الأرض، لولا أن يده التائهة وقعت على عرف البلقاء، فتماسك
واستند إليها.
***
جمحت البلقاء بعنف في مكانها. أطلقت صهيلاً هزَّ أرجاء القاعة. هبَّ
نعيم من رقدته كالمجنون. كان وحيداً في الغرفة. لقدخرج أبواه. وحيداً في غرفة
بائسة مع أحلامه وآلامه التي خرّبته من الداخل وإلىجانبه محفظة مُغلقة على
أسرار كبيرة تتوسّد حشية مهترئة مطروحة على الأرض.
بعصبيّة مُرعبة مسح نعيم أرجاء الغرفة البائسة. لم يجد فيها أحداً.
كاد يصرخ بهلع: "أبا محجن.. البلقاء".. خانته حنجرته الجافّة. خذلته اليقظة.
استسلم لواقعه. قرّر أن يتخلص من أحلامه وصداعه إلى الأبد، وأن ينتصر على
هواجسه القاتلة. هتف من أعماقه بصلابة:
"سأدخل طقوس الموت من جديد.. لبيّك يا أبا محجن.. لن أتخلّى عن
سيفكَ وفرسك".
وعندما استفاق نعيم من طقوس الموت المجّاني الحالم، وغادر بيته. كان
شارع السوق الرئيس في القدس يحمل على شفتيه ابتسامة طيّبة هادئة، تختزن في
ذاكرتها أزيز الرّصاص ودخان القنابل، لتستقبل كل الّذين هزّتهم الصحوة، وتخلّوا
عن أحلامهم المجانيّة...
آلام
كنتُ مُتكوِّراً على جسدي في زاوية البيت، أُتابع بذهول مرٍّ ما
تفرزه الشاشة الصغيرة من صور ومشاهد. شيءٌ ما هزّني من الأعماق، مسحتُ عينيَّ
لأبعد الغبش والخوف. تلفتُّ حولي.. زوجتي وأولادي من حولها يحملقون بعيون
متحسّرة موزّعة بيني وبين الشاشة. مشاهد مرعبة. عيون تهطل بالتحدّي والكبرياء،
عشرات الخيام، جبالٌ صلدة من الصخور والثلوج، وديانٌ سحيقة تحمل في ثناياها
الموت والعذاب. لم أستطع متابعة النظر إلى العيون العقابيّة اللاّهبة. في زاوية
الشاشة كلماتٌ باهتة خجلى: "الجنوب اللبنانيّ والمُبعدون الفلسطينيّون"..
مزّقني المنظر، أغمضتُ عينيَّ مُرغماً، تدحرجتُ بين أمواج الظلام الدّامس،
اجتاحتني خواطر لا حصرَ لها، انتصب أمامي شبحٌ يسدُّ فراغَ الأفق. مدَّ الشبح
إليّ يداً بيضاء. حدّثني بصوت هادئ خلته تراتيل صلاة العيد: "لا تخف يابنيّ.
لاشئ جديد... إليك بعض قصص التاريخ، اقرأها جيداً". اختفى الشبح فجأة.. صرخت
بأعلى صوتي، كان صراخي لا يتجاوز حلقي. ظللت أصرخ علّني أطرد من روحي تلك
الخواطر المفزعة. أخيراً امتثلتُ للأمر، تكوّرت من جديد في الزاوية، ورحتُ
أقرأُ بنهم شديد:
***
كان أمراً عادياً جداً لهاسميك، أن تنسى أشياء كثيرة. أن تنسى بعضَ
أناقة ملابسها. أن تنسى شيئاً يتعلّق بالطعام أو المواعيد الاجتماعية. إلا أنَّ
شيئاً ما في حياتها لن تنساه مطلقاً. إنّه راسخٌ في عمق ذاكرتها، ماثلٌ أبداً
أمام عينيها بكلِّ تفاصيله المفزعة الأليمة...
في يدها اليمنى أثرٌ ماديٌّ يذكّرها بكلِّ شيء.. في كلِّ عمل، في كل
حركة، في كل مصافحة.. فعلى معصمها أثرٌ عميق لضربة سكّين حادّة تلقّتها وهي في
الثانية عشرة من عمرها..
كانت هاسميك ابنة عائلة أرمنيّة كبيرة مؤلفة من الأب والأم وستّة
أبناء.. آزنيف، وسونيا، وهاسميك، وآغوب وآرتين، وأسطور... وتعود بها الذاكرة
إلى مطلع هذا القرن الذي أخذت شمسه بالأفول تدريجيّاً وراء الأفق. في مطلع هذا
القرن، كانت جلجلة الوحشيّة التركيّة تسدُّ منافذ الحياة والكون في هذا الشرق
الذبيح أبداً. وكانت مذابح الأرمن على يد الطّغاة الأتراك تمزجُ الدّمَ بالتراب
والدمع الحزين...
ذات صباح... استيقظ الأب مبكراً، واجمَ الملامح. أشار بيده، أنصتَ
الجميعُ إليه. الألم يتدلّى من عينيه. الخوفُ يلجمُ لسانَه. قال: بصوت متهدج:
-.. اتخذوا التدابير اللازمة. علينا أن نرحل بأسرع وقت ممكن. والتفت
إلى آغوب، وربت على كتفه:
-.. إنني أعوِّل عليك ياولدي. ثم غاصت كلماته في ملوحة الدموع
اللزجة.
في المساء، والليل ستارٌ كتيم. كانت عربةٌ محملة بأفراد العائلة
وبعض الأمتعة القليلة، تغادر منطقة أورفة في شمال سورية، متجهةً نحو الجنوب
الغربي، عبر جموع الراحلين وتنهداتهم المريرة. الأبُ يقود العربة في محاور
الطريق الوعرة المتشعّبة، قاصداً مدينة حلب، وما أكثر ما أيقظه تعثُّر العربة
وهو ساهم سادر. الأم والأبناء يجترّون حزناً عميقاً، وخوفاً لا حدود له. كانت
أنباءُ الدم والجثث والأشلاء تقرعُ ناقوسَ الفناء، فتزرعُ القلوبَ هلعاً يمزّق
الأعصاب.
في شطر من الطريق، اقترح الأب التوقف لأخذ قسط من الراحة. ترجّل
الجميع، وراحوا يوزّعون أبصارهم بين أورفة وحلب. مسافةٌ بعيدة بعيدة، وشقاء
مرٌّ، ورحلة إلى المجهول...
أيقظهم من شرودهم، وقع حوافر خيول متعدّدة. تجمّعت العائلة حول
ذاتها كخراف أفزعتها الذئاب. وقف آغوب في مقدمة العائلة، يحاول أن يردُّ الفزع
عنها، اتجه صوب الخيول القادمة. همس في صوت خفيض. تماسكوا. لا تجزعوا. خطا إلى
الأمام خطوةً واحدةً. كان حصان ضخم يتقدّم القادمين، يضرب الأرض بحوافره..
ارتفع صوت باللغة التركية.
-.. هيه... هيه.. أنتم أيها الأوباش. أيها الكفّار. إلىأين أنتم
ذاهبون.؟ كيف تعبرون أرضي دون إذن منّي.؟؟
رجلٌ تركي ضخم القامة يمتطي حصاناً صهيله يبدد السكون، مدجج
بالسلاح. عيناه لم تكونا مرئيتين جيداً. وعبر الظلام عرف آغوب أنه ضابط
تركي.بدا لهم شيئاً مخيفاً كالموت. بضع خيول كانت تحيط به عن قرب.
-.. هيه.. سؤالي لكم أيها الأوغاد. أيها الكفّار. أين وجهتكم؟؟...
فوجئ الجميع. أخرسهم الفزع المدمّر. ردّد بعضهم صلواتٍ خافتة. رسمت
الأم إشارة الصليب. رفعت
يديها إلى السماء. تضرّعت بصوت مسموع: نجّنا
يارب السماء والأرض.
تشجَّع آغوب. ردَّ عليه بصوت متقطّع:
-.. إلى الجنوب. إلى حلب. لزيارة أقربائنا هناك.
حملت الريح إلى آغوب رائحة خمرة سيئة النكهة. كان الضابط التركي
يبدو غليظاً ضارياً. ومن تحت شاربيه الكثين تدلت ابتسامة فاجرة.
اقتربت الخيول أكثر. أحاطت بالعائلة المرتجفة.. تلفّت الأبُ المضطرب
حوله. أسقطه المنظر الرهيب في أتون الفزع القاتل. تصور المصير الأسود نظر إلى
أولاده.. استمدَّ منهم شجاعة. اقترب من الضابط التركي. مدَّ آغوب ذراعيه في
الهواء مانعاً أباه من التقدم أكثر.
ترى ماذا يريد منّا هذا الوحش الضاري؟؟... بماذا يفكّر؟؟
سأل آغوب نفسه،وراح ينتظر مُحدِّقاً عبر الظلام..
خلال لحظاتٍ داكنه معتمه. مرَّت بذاكرة آغوب والعائلة الحزينة كلُّ
مذابح الأرمن في جنوب أرمينيا، والأناضول وجنوب تركيا، وتخيلوا جداول الأنهار
تفيض بدماء الأبرياء العزّل. استمدَّ آغوب من الموقف ومن الذكريات شجاعة فائقة.
سأمنع ذلك الوحش من تحقيق مآربه. وتابع يحدّق في الظلام بعيني صقرٍ معذّب.
جاءَه صوت من جوف الظلام...
-..أنا جاويد بك .. بن أوثمان بك.. ألا تعرفونني..أنا سيد هذه الأرض
الواسعة. هيّا.. اقتربوا جميعاً.. ارفعوا أيديكم..
تبعثرت في جوف الظلمة أصوات تائهة خافتة. ازدادت ضراعة الأم
وصلواتُها حرارةً. بكت آزنيف وسونيا وهاسميك بأصوات مختنقة.
تنحنح الضابط التركي وراح يُصدر سعالاً فظّاً.
اقترب الأب منه حتى كاد يمسك بلجام حصانه، حاول آغوب منعه، فأصرَّ
بعنادٍ وقال:
-.. جاويد بك.. أنا ميساك بتروسيان، وهؤلاء زوجتي وأولادي، أتوسل
إليك، أن تتركنا وشأننا، فنحن نقصدحلب، ولا نبغي شيئاً سوى الحياة الكريمة.
قهقه جاويد بك بصوت فاجر. عرف آغوب بحدسه الفتيّ أن جاويد بك يُضمرُ
لهم مكيدة مُدمِّرة.. تقدّم بعنف إلى الأمام، وشدَّ والده إليه. تسمَّرَ في
مكانه كجذع شجرة راسخة، حائراً لا يدري ماذا يفعل.
قبل أن يبادر آغوب لفعل أي شيء، التفت جاويد بك إلى العساكر
المحدقين بالعائلة، وأصدر أوامرَهُ الصارمة:"أبيدو هذه الحشرات"..
أطبق الجند على العائلة. وضيّقوا الخناق عليهم. خرق آغوب الحصار من
حوله، وانقض على جاويد بك يريد أن يمزّقه بيديه. ولكن طعنة حادة أتته من خلفه،
اخترقت أضلاعه، فتدحرج قرب حوافر الحصان، متكوّراً على جسده، عيناه جاحظتان من
الألم، تتابعان العائلة الماضية إلىمصيرها الأسود. بينما راح جاويد بك يدوس
جسده النازف بحوافر حصانه الضخم.
الجند يسوقون العائلة نحو حفرةٍ إلى جانب الوادي.بكاءٌ. صراخٌ.
نحيبٌ. عراكٌ، طعنٌ بالحراب والخناجر والسيوف. دمٌ يتفجَّر أضلاع تتكسَّر أحشاء
تتمزّق.. تكوّمت الأجساد النازفة فوق بعضها في قاع الحفرة، جسداً تلو جسد..
هاسميك تذكر أنها وقعت في الحفرة على رأسها، ووقعت فوقها أشياء أخرى. ثم فقدت
وعيها. وعندما عادت إليها الحياة، وجدت نفسها في بيتٍ طينيٍّ لعائلة فلاحيّة
تتكلم العربية، من قرية صغيرة تبعد كثيراً عن تلك الحفرة التي غدت قبراً لعائلة
بكاملها، تركت فيها هاسميك أغلى وأعز مافي الحياة...
عندما استيقظت هاسميك من غيبوبتها، كانت مغلفةً بالدماء الدّبقة،
وآلام شديدة تمزق أعصابها، وعلى معصمها الأيمن جرحان كبيران أحدثتهما سكين
حادة. وفي قاع ذاكرتها آلامٌ مريرة ومشاهد مُدمِّرة، وأحزان لا تستطيع
احتمالها.
عاشت هاسميك بين أبناء تلك العائلة الفلاحيّة حوالي عشر سنوات، حتى
غدت صبية يانعة ناضجة، ثم ارتحلت بعد ذلك إلى مدينة حلب، وقد تطبّعت بطباع
الفلاحين العرب، واختلطت لهجتُها الأرمنية باللهجة العربية الريفية، بكل مافيها
من طيبة وسذاجة وقسوة. إلا أن الألم مازال يحفر في قاع قلبها ووجدانها وذاكرتها
أخاديد عميقة، وثلمات لا يمحوها الدهرُ.
في حلب كانت هاسميك تروي قصة ذلك اليوم الأسود تنطلقُ الكلماتُ من
أعماق قلبها، ويتحوّل صوتها الرقيقُ في وهج حقدها المتأجج إلى سياطٍ حادةٍ تلسع
ناصية الظلم والإرهاب.
أمّا ابتسامتها الفلاحيّة الخجلى فقد كانت ترتسمُ عليها دوماً ظلالٌ
قاتمةٌ مريرة.
***
أنهيتُ قراءَة صحف التاريخ, قراءَة قصة هاسميك وأهلها حانت منّي
التفاتة نحو النافذة. كان الفجرُ قد بدأ يتسرّب بخيوطه البيض عبر الليل.
استسلمتُ لارتخاء جسديٍّ شديد، وأنا في أحضان تلك الزاوية. أغمضتُ عينيَّ.سرحتُ
بعيداً عبرَ آلام الشعوب. طافت في خاطري ذكرياتٌ مرّة أليمة. توحدت مع تلك
الذكريات. قفزت إلى ذاكرتي فجأة قصة من قصص النزيف البشري، كان قد رواها لي أحد
الأصدقاء.
أنَّ وحشاً بشرياً يشبه جاويد بك، بشاربين معقوفين، وكرشٍ ضخم..
تمرّدت عليه امرأةٌ. لم تستجب لرغباته الذئبية، فما كان منه إلا أن بقر بطنها
بخنجره الطويل، وتركها تتخبط بدمائها.. ثم ابتعد قليلاً، ووضع خنجره المدمى
جانباً، ثم انفجر في ضحكات مجلجلة عاهرة.
عندما وصل بي شريط الذكريات إلى هذا الحد، شعرتُ بالضعف، والهزيمة،
والضيّاع. هربتُ من الزاوية. توجّهتُ إلى فراشي قبل أن تداعبَ الشمسُ نوافذَ
البيوت، كان الأرقُ يحرق عينيَّ بقسوة. وفي نفسي ثلاث صور تتناوب تمزيقي بعنف
لا حدود له..
المبعدون الفلسطينيون والجنوب اللبناني...
الحفرةُ التي ارتوت بدماء عائلة هاسميك...
وصوت التاريخ...
عندما
تغيم الأشياء
كان الغروب يوشح الكون بلونه الأغبر المائل إلى الحمرة. أدامَ النظر
عبر زجاج النافذة العريضة. سرحَ إلى الأفق البعيدالبعيد. أعاده عن ذهوله صوتُها
الدافئ المترقرق حناناً وعذوبة:
-.. أخذتْكَ الحياة منّي، أبعدتك عنّي إلى شواطئ غريبة لا أدركُ
مداها.
التفت ماجد سريعاً وقد استبدّت به رعشة لاسعة. تأمّلها وهي تلفُّ
جسدَها الممشوق بثوب حشيشي أنيق، تسير نحوه من طرف الغرفة الوسيعة بخطواتٍ
بطيئة، ترفعُ إليه سحراً يتدلّى من ملامحها الجذّابة، ترمقهُ من تحت أطراف
أهدابٍ طويلة فاحمة السّواد.. قالت له ثانية:
-.. لقد رحلتَ بعيداً عنّي. غبتَ في أمواج الزّمن المّر، وغيوم
السائل السحري...
ظلَّ ماجد على صمته. لم يتحرك قيد شعرة، بينما موجات الرعشة تتابع
توغلّها عبر جسده وأعصابه...
حدّقت فيه بنظرات متلهفةٍ افتقدها منذ زمان بعيد.. بدأ الليل يهبط
أكثر فأكثر على الكون من حولهما... اقترب منها فارداً ذراعيه. مزّقته تمتمات
شفتيها المكتنزتين. اقترب منها أكثر. ضغط بكلتا كفيّه القاسيتين على.......
كتفيها.... انتابته رغبةمسعورة في احتضانها. ضمّها إلى صدره فأسكرته أمواج
أنفاسها اللاهثة، وغاب في طراوة الجسد المتكسِّر.
كان الليل قد هبط أكثر. وأنوار البيوت القريبة قد بدأت تغزو الشوارع
المحيطة فتلوّن المساءَ بألوان شاحبة حزينة..
ظلَّ واجماً لا يدري مايقول.. ساد بينهما صمتٌ جليدي... تماوج البيت
في أشباح ظلمة السماء. تملّصت ناديا بهدوء من بين ذراعيه القاسيتين. ابتعدت
قليلاً واقتعدت جانب المقعد الوحيد في الغرفة الواسعة.
غمز زرَّ المصباح الكهربائي، غطست الغرفة في أمواج ضوءٍ برتقالي
شاحب، أرخى الستائرَ القماشيّة على مساحات النافذتين المتجاورتين، ليمنع العيون
الفضولية من اختراق أسرار الغرفة.. جلس على المقعد المعدني قريباً منها، اهتزّت
أضلاع المقعد وأصدرت أنيناً حزيناً. احتضن كفها الصغيرة بين راحيتيْ كفيّهِ
القويتين، داعبها برقّةٍ متناهية، غرس نظراته في عينيها المتسائلتين، وانداح
صوتُه بأمواج متقطّعة:
-.. ليس باليد حيلة، أيّتها الغالية... ثقي أنني لا أستطيع بعاداً
عنك.. ولكنه الفقرُ.. الزمنُ الرديء المرّ... أبعداني عنك.. أقاما بيني وبينك
سدوداً من الإعياء والإرهاق والذهول...
داعبَتْ كفّها اللّدنة في حرارة كفيّه... وبالكف الثانيةِ راحت تطرد
الأسى عن صفحة خدّيه وجبينه. قالت له وهي تلفح وجهه بحرارة همساتها المتلهفة:
-.. ليس الشقاءُ وحده من أخذك منّي. أنا أعلم كلَّ شيء. ما إن
تلفظكَ طواحين العمل المرهق، وتضمّك جدران البيت، حتى أراك؟َ تخاصرُ الكأس،
تحتضنه بحبٍّ، بلهفةٍ شبقة، تمتصُّ روحه رشفة إثر رشفة، وتذهب عنيّ بعيداً،
بعيداً، إلى عوالم أخرى.
تمتم بصوتٍ خافت أجشّ:
-.. لو أنكِ تدركين ياغاليتي، ما سرُّ ذلك السائل السحري الرائع
الذي يثير في النفس اللذة والرعشة والأماني.
رشقته ناديا بنظرات معاتبة، قرصت خدّه بباطن أناملها المتجوّلة:
-.. وتحتضن كأسَكَ، وتتركني اعتصر الوحدة... وأنا أنتظر عودتكَ
دقيقة بعد أخرى لأخفف عنك...
أشرق وجهه، وتدحرجت من بين شفتيه كلماتٌ مبعثرة:
-.. يالمتعة الكأس.. الكأس الأولى وتغيم الأشياء من حولي.. الكأس
الثانية وتتوثّب نفسي وتنمو أشتالَ المتعةَ في أعماقي... الكأسُ الثالثة وأمتطي
أمواج النسيان والأمل... الكأس الرابعة ويرحل الشقاء، ينزاح الهمُّ بعيداً
بعيداً، يحلّق في آفاق مجهولة، يغدو نوعاً من أحلام مرّة عَبَرَتْ في أزمان
سحيقة لا أتذكرَّها... الكأس الخامسة..
قاطعته بكلمات متوتِّرة:
-.. وبعدها تغطس في أمواج الصمت المؤلم، وتتوشّح عباءَة الذهول
المقيت. تذهب كل جهودي عبثاً في أن أجعلك تكلمني أو تبتسم لي، أو تداعبني..
التقت عيناهما عند حدود اللهفة. تسمّرت النظرات المشتاقة. شعرَ أن
لعابهَ قد تخثر في حلقه وعجز عن الكلام. مسح عن خدّيها دمعتين حملتا له أسراراً
دفينة... تابعت خواطرَها بكلمات تحبو على شفتيها:
-.. البارحة انتظرتك طويلاً. رسمتُ في داخلي خطوطاً هلامية رقيقة.
أعددتُ طعاماً شهيّاً... جئتَ أخيراً بعد أن يئستُ منك. دخلتَ البيت وفي عينيكَ
شحوب المساء الجليدي. ابتسمتُ لك. همستُ لك برقّة متناهية. تجمّدتَ أمامي
كتمثال من شمع. ضاعت من فمكَ كلُّ المفردات الرقيقة.نظرتَ إليَّ نظراتٍ محايدة،
وتكلمت بفظاظة وقسوة... تلاشت كلُّ أحلامي بسهرة متميزة واستمرَّ الليل يهبط
علينا بطيئاً وثقيلاً دونما رحمة.
تجهم وجههُ أكثر، وانداحت كلماته عبر زفير طويل:
-.. كيف لا يقسو القلب، وتخشوشن الكلمات، وكل حياتي قاسية ظالمة..
الرمل، والطين، والماء البارد... الأحجار الاسمنتيّة... الكفّان المتشققتان...
صوت رئيس الورشة... الظهر الذي ينحني وينوء بالأثقال.
منذ أن حطّت الوظيفة في بوابة الفقر والشقاء، دخلتُ معها دهاليزَ
القسوة والقهر والجفاف... آه ياغاليتي... الكأس الأولى وتغيم الأشياء من
حولي... الثانية... الثالثة... وأنسى كل مفردات الحياة وعناصرها المتجهمة لا
تظلميني أكثر...
تقوقعَ على أطراف المقعدوغاب في منعطفات ذهول مدمّر. بدت عليه ملامح
مخيفة، كأنّما حزنٌ بحجم الكون حوّم في مقلتيه وسحنته، فأفرغ في روحه ونبضه
كلَّ جزئيّات الفظاظة والألم والتلاشي. اتشح وجهه بنشيج صامت، وراح يغوص في
شرفات الذكريات البعيدة.. غاص في الذكريات أكثر فأضاء شموع الماضي البعيد:
"أحببتُ ناديا حبّاً أنساني كل شيء. كانت الحياة ناعمة رخيّة. ما
أجمل تلك الأيام.. عندما بُلغّت قرار قبولي طالباً في دار المعلمين الابتدائية،
زغردت أمّي. انهالت عليَّ مقبّلةً مداعبة... قالت لي: ثلاثٌ سنوات ياولدي وتصبح
معلماً، تملك راتباً محترماً، ينقلنا من مستنقع الفقر الذي خلّفه رحيل أبيك إلى
ضفّة الرخاء والرفاهية.. اختزنت عواطف أمّي في قلبي... آهٍ ما كان أروعها تلك
المرأة الطيبة. وتحقّقت لنا رؤيتها، أصبحتُ معلماً أقطف في مطلع كل شهر راتباً
سخيّاً. عرفتُ مع أمّي وأخوتي الصغار معنى الرفاهية وسعة الحياة... عندما
أحببتكِ يا ناديا كنتُ أقبض على الحياة من أطراف ضفائرها المزهرة الريانة".
شدّهُ عن متابعة التذكّر صوتُها. جاءَه هذه المرّة خافتاً يائساً
كأنّما يخرج من أعماق بئر مهجورة:
-.. بتُّ لاأحتمل صمتَكَ وذهولَكَ، وخمرتَكَ التي تحاصر وجودي كلَّ
ليلة.. ابنتاك الصغيرتان تشتاقان إليك. تمزّقني أسئلتهما. تبحثان عن حضنك
الدافئ. تريدان باباً... وأسئلة كثيرة مؤلمة...
-.. لا تحتملين.. لا تحتملين... ماذا أقول؟؟ لستُ أدري.. من أين
أجلبُ لكِ السعادة المفقودة في داخلي!!.. كانت لنا فيما مضى أيام جميلة... ترى
هل كانت جميلة حقاً؟؟!! أم أنّها وهم من أوهام الحياة... يجب أن تغيم الأشياء
من حولي لأشعركِ بالسعادة. بل لأنسى. أليس النسيان سعادة؟؟؟
من أين لي ياغاليتي. وروحي أنضبتها شراسة الأيام... حاولتُ مراراً
أن أستلَّكِ من دوّامة الشراسة فأخفقت. نعم أخفقت... اللعنة كيف تحولتِ الأيام
هكذا.. لا تذكّريني... لننسَ معاً. فالنسيان سعادة...
غرس عينيه في محيّاها من جديد. سحرته العيون الحزينة الجائعة واللون
القمحيّ الجذّاب، والشفتان المنطويتان على أسرار هاجعة:"نريد طفلاً صبيّاً
يترعرع بين أختيه، يملأ حياتهما. بهجة ودعابة".
ظلَّ متماهياً مع صمته. كبّلهُ الاسترخاء فأسرج من جديد صهوة
الأحلام والذكريات:"أنا المقهور السائر خلف سعادة بائدة، وأمنيات مضنية...
رحمةُ الله عليكِ يا أمّي سامحكِ الله يا أمّي. لماذا تمنيتِ لي أن أغدو
معلماً. لقد انطوى علمُ الوظيفة. أعذرُكِ فما كنتِ تتصورين أن الحياة ستنقلب
رأساً على عقب، وأن الوظيفة ستغدو جزءاً من محطّات القهر والفقر والحاجة.
وأنّني سأضطّر إلى أن أعمل بعد دوام المدرسة في ورشات البناء والعمران.. رئيس
الورشة يسبُّ ويشتمُ.
وأنا أحرقُ أعصابي وجسدي في أتونَ الشقاء. أنتظرُ الراتب والأجور
الهزيلة التي تخلصني من ذهول الحياة وقسوتها. من شبح لوائح الأسعار
الجهنميّة.من مخاوف توسّع العائلة وازدياد عدد الأفواه الجائعة.. أين الملاذ
من هذا اليمِّ الذي لا شواطئَ له والذي يعجّ بالحيتان المفترسة.. أعذريني يا
ناديا، إنك تحكمين عليَّ بقسوة. تصفينني بالفظاظة والخشونة والبعد عنكِ... ما
أزال أحبّكِ يا ناديا. يجري حبُّكِ عبرَ شراييني المتضيقة ونبضاتي الرهيفة.
ولكن، ما فائدة كل هذه الأشياء.. مافائدة الحب والجسد، عندما يستبدُّ القهر
والخيية... آهِ... كيف أجعلكِ تدركين ذلك.. أجل ياناديا... يجب أن تغيم
الأشياء... الكأس الأولى وتغيم الأشياء.... الكأس الخامسة
ويمضي القهر إلى الجحيم...
***
بعد الظهيرة غادر المدرسة. التحق بالورشة، وعند المساء عاد إلى
البيت شجرة يابسة محنيّة الأغصان. استقبلته ناديا بابتسامة تملأ الوجه، أنستهُ
كثيراً من آلام اليباس في روحه وجسده. ركنَ إلى الصمت كعادته.
اقتربت منه بتوجّسٍ واضح، مدّت أصابعها الناعمة بهدوء وداعبت خصلات
شعره المبعثرة. أحسَّ بدفءِ الأصابع فاسترخى متكوراً داخل ذاته كعصفور متعب
الجناحين. انزلقت الأصابع الدافئة الحنونة إلى أذنيه وعنقه، حطّت على صدره،
أحسَّ بارتباك الأصابع وهي تغوص في كثافة شعر صدره.
أمعن في جلسته المتراخية، تابع التحديق الذّاهل في العينين
الواسعتين والشفتين العذبتين... همست بنداوةٍ آسرة:"أريد طفلاً أخاً
لطفلتينا...".
داعبَ شعرها بعصبيّة مثيرة. تأمّلها طويلاً. الملامح الدقيقة
التكوين وسمرةُ الوجه التي أضاءَت عتمة الغرفة... الكأس الأولى وغامت كل
الأشياء.. الكأس الثانية وتلاوحت أشتال الحب والأمل... استعادت الشجرة اليابسة
طراوة أغصانها. تبخّرت كل الخواطر الشرسة وتلاشت في الضوء المتساقط من نور
عينيها... تحوّل الشقاء إلى حلم قديم، غبار منسيّ، غرق في مياه الماضي الجميلة
الدافئة... تذكّر تلك الأيام. استعاد طعم شفتيها في تلك الأيام البعيدة، وخاضَ
في شلال مياهها العذبة، فيما كانت الأنفاس اللاهثة تعطّر وجهيهما بأريج خَدَرٍ
ممتع.. لم يكن يدري أهو في حلم أم حقيقة. حلّقت تصوراته على متن أبخرة
بنفسجيّة، كفٌّ تعتصر الكأس وأخرى على الخاصرة، وهواجس ترسم على صدره لوحاتٍ
سريالية غامضة.
قبل انبثاق الفجر، استفاق ليجد نفسه ممدَّداً إلى جانبها وهي تغطُّ
في نومٍ هادئ عميق. وألقٌ نورانيٌّ يشعُّ من وجهها، يضيءُ ملامحَ الرضاء
والبهجة المتألّقة.. أدام النظر إليها طويلاً.. تمتم بكلمات مبهمة،... وطوّقها
بذراعيه مستسلماً لدفءٍ سرمديّ أصيل...
عندما أغمض عينيه لتغيم الأشياء من حوله، استبدّت به صورة آسرة،
ملوّنة الأطياف... المدرسة، والورشة، وأسرة مؤلّفة من خمسة أشخاص.
لوحاتٌ دامية
*الحب والفقر
... كان يسير وحيداً ذاهلاً. العيون لم تترك شبراً في جسده، إلا
وثقبته بسهامها الحادّة. خطواته تتعثّر، يحاول أن يصلحَ من مشيته، تمتدُّ
نظراتُه باحثاً عن شيءٍ ما، تخترقُ الأفق... الساعة تشير إلى الصفر... النهرُ
يتدفقُ بقوّة جرّاء ذوبان الثلوج.
أنعشته نسيمات الهواء الباردة القادمة من أعماق الجبل القريب. خفّفت
بعض إحساسه بالفقر المدقع.. الغيوم تغطّي بقعاً كبيرة من صفحة السماء اللا
نهائية. نجوم تبعثرت في كل مكان فيها. عقارب الساعة تبتعد عن الصفر... سحبٌ من
دخان متداخل، تشكّل لوحة تشكيلية مبهمة في الفضاء... ينتظرها بصبر يكاد ينفذ،
ينظرُ في كل الاتجاهات، وخزَهُ الفقر بلا رحمة.
بكى داخلُه.. لاحَ شبحُها من بعيد.. كانت نظراتها تلوبُ باحثة عنه..
اقتربت. شعرها الذهبيّ تداعبه نسمات الهواء المنعشة.. اقتربت أكثر. زغردت
نبضاتهُ لها.. نظرةُ حزن تسكن عينيها. وقفا وجهاً لوجه.. دمعتان ساخنتان تحملان
أسراراً كثيرة. كفكفهما بأصابعه. دون أن تتفوّه بكلمة واحدة، رفعت يدها اليمنى
أمام عينيه. لمع شيءٌ مافي إصبعها حَنَتْ رأسَها نحو الأرض، رفعتهُ الدموع
تتساقط من عينيها. تسمَّرَ في مكانه، بدأ يغوص في دهاليز معتمة باردة، حتى أصبح
ظلاًّ في اللّوحة التشكيليّة المبهمة.
*.. الفرح..
في درس التعبير. سأل التلميذ أستاذه قائلاً:
-..حدّثنا عن الحريّة يا أستاذ.
ابتسم الأستاذ ملء عينيه، عبَّ نفساً عميقاً، حدّث تلاميذه بإسهاب
عن الحرية. حملقت عيون التلاميذ، وقد التمع فيها نورٌ وضياء وأسئلة كثيرة...
وقف أحدهم وقال:
- ألا تحدثنا عن الفرح يا أستاذ.
ابتسم الأستاذ ثانية، نظر إلى ساعته، قال:
- سأحدثكم عن الفرح في درس الغد.
في الغد، انتظر التلاميذ كثيراً، فلم يأتِ الأستاذ. انتهى اليومُ
المدرسي ولمّا يأتِ الأستاذ... أيقن التلاميذ بحسِّهم المتوثِّب، أن الفرح أصبح
أيضاً في قائمة الممنوعات...
*... الدّرس..
استيقظَ من نومه باكراً كالمعتاد، ارتدى قميصه الصوفيَّ، وحزم خصره
وساقيه ببانطلون الجينز العتيق. هرول بسرعة إلى الفرن القريب. أحضر حُزمةً من
الخبز الطازج. جثا إلى جوار أمّه على البساط العتيق. ازدرد كأس الشاي الساخن
وبضع لقيمات من الخبز والزيتون الشهيّ. كان يمضغ طعامه ببطءٍ شديد. نظرت إليه
أمّه. نبّهتهُ بحرصٍ ولهفة:"ستتأخر عن المدرسة"... نظر إليها بودٍّ وتصميم:
"لن أذهب اليوم إلى المدرسة. بل لن أذهب بعد الآن".
صُعقت الأمّ. فغرّت فاها... لماذا؟؟!!.
لن أذهب.. لن أذهب.. هزّته بعنف من كتفيه. صاحت به: ماهر.. ماهر..
ماذا أصابكَ!! قبل أن يُقتل والدك أوصاني، وكأنه كان يعرف أنه سيموت... أوصاني
بحزم شديد:"إيّاك أن يترك ماهر المدرسة، علِّميهِ إلى أعلى المراتب...".
"لن أذهب يا أمّي. البارحة طردني المعلم لأنني لم أحفظ درس "اللغة
العبريّة". ولم يكتفِ بذلك. أحالني إلى مدير المنطقة حيث صفعني بحقدٍ وشراسة".
تجمّدت الأم في مكانها كجذع شجرة عتيقة. امتلأت عيناها بالدموع.
استدار ماهر، نظر إلى صورة أبيه المعلّقة على الجدار، هزَّ رأسه وكأنه ينطوي في
داخله على نوايا كثيرة. لم ينبس بكلمة واحدة. كأشعّة الشمس تسلّل من البيت دون
أن يشعر به أحد.
*.. قِفْ.. قِف..
تمدَّدَ في أرض البستان في ظل شجرة وارفة، احتضن بين كفيّه شيئاً
ما. الربيع في قريته الجولانية يبعث نسيماً عليلاً يدغدغ الأعصاب. أسدل جفنيه
لنوم عميق، راح يرجع الماضي البعيد والقريب، وقف ينتظر قطار الأحلام القادم من
الماضي.. القطار محمّل بأحلام الطفولة والشباب...
دخلَ الغرفة بعد أن رجع من المدرسة على غير عادته، رمى كتبه على
الطاولة، بنزق أخذ يبعثر الأشياءَ بيدٍ ويرميها باليد الأخرى، تناهى إلى سمعه
صوتُ أمّه القادم من قاع المنزل منادياً:
-.. ماذا تفعل يا حسان؟...
- ..............
يتابع نبشهُ عن شيءٍ ما داخل الصندوق. كلُّ مافي الصندوق من مخلّفات
والده.. وقعُ قدميْ أمّه يقترب من الغرفة، يقترب أكثر، تمسكه من يده وقد هالها
مايفعله، تشدُّه بقوّة، يلتفت إليها والدموع تغسل خدّيه... تخفض الأم رأسَها
ببطءٍ، يخرج صوتُها من حنجرتها دافئاً خافتاً:
-.. لماذا تبكي!! عن أيٍّ شيءٍ تبحث؟؟
-... أبحث عن مسدّس أبي.. لقد طردوني من المدرسة لأنني رفضتُ أداء
التحيّة "للعلم الإسرائيلي". ليست المرة الأولى.. لن أحييّهِ أبداً.. أمسك
بالمسدّس وراح يجري على طول الشارع المبلّل بالمطر المتساقط خفيفاً، يركض
باتجاه بيت مدير المدرسة اليهودي. أصوات خفيفة تصله من الخلف: قف.. قف.. لم
يأبه بالأصوات. طلقاتُ رصاصٍ تتبعه. ينعطف بسرعة جنونيّة نحو المنزلٍ.. يطلق
الرصاص على المدير اليهودي.. يسقط يقتله... ثم يخرج مبتهجاً إلى مكان مجهول..
زيارة
« أنت حرٌّ في أن تصدّق أو لاتصدّق... لكن ثق تماماً أنَّ الأمانة
وتحمُّلَ المسؤولية هما مبدآيَ الأولُ والأخيرُ في هذه الحياة... مبدأٌ درْجتُ
عليه مذْ خطوتُ خطوتي الأولى نحو هذه الوظيفة...
....عندما وضعتُ قدمي على الخشبةِ الأولى من السلّم وحتى بلغتُ ما
قبلَ الأخيرة بقليل.. ولولا أنكَ صديقي منذ أيام المدرسة، ولولا أنك مثلي
تُقدِّرُ معنى المسؤولية وجسامتها، لما أفضيتُ إليك بأسرار قلبي وتطلّعاتي ».
كان السيد المدير يبسط مواهبه ويشرح مبادئه لزائره بطلاقة عجيبة
تدعو للدهشة، لاسيما أنهما بعد ولوج الزائر مكتب السيد المدير غرقا في بحرٍ
عميقٍ من الصمت لفترةٍ ليست قصيرة... وعندما تمادى السيد المدير بمحاضرته
القيّمة عن المبادئ والمسوؤلية والأمانة، رسم الزائر على صفحة وجهه عينين
زائغتين، وفماً مفتوحاً بعفويّةٍ ساذجة...
غرق الزائر في متاهة من الذهول، وطارت به أحلامٌ غريبة، وراح يستعيد
سلوكه وأحاسيسه عندما كان يقتربُ من مدخل المؤسسة الرئيس.. استعاد شريط
الذكريات الصباحي مغمض العينين.. تردّد كثيراً قبل أن يقرّر التوجه إلى مكتب
السيد المدير... ترى هل يجد لديه مايحقق أمنيته؟؟... هل سيستقبله السيد المدير
في مكتبه الكبير!؟... هل سيتجاهله معرضاً أم سيتعرف عليه؟؟... ولمَ لا.. ألم
يكونا معاً في مدرسة واحدة، وصف واحداً؟!... صحيحٌ أنهما كانا على طرفي نقيض،
ولكنّ ذلك قد أصبح في طيّ النسيان، فقد عفا عليه الزمن... حاجاتٌ كثيرةٌ ملحّة،
ودوافع شتّى ساقته مُرغماً في الطريق المؤدّية إلى مكتب السيد المدير....
في أبهاء المؤسسة الكبيرة تجوّل كالضائع، كان الحذرُ يحدّد خطواته
المتريثة... وقف أخيراً أمام بابٍ كتب عليه "مديرية العقود والمبايعات". أسلمه
الباب إلى آخر، والآخر إلى الذي يليه.. أمام الباب الأخير تسمّر بأدب... قرأ
كلمة "المدير" أكثر من مرة.. أصلح هندامه.. سوّى ياقته.. هذّب شعره المتناثر
بأصابعه المتوترة، وعلى سطح الباب الصقيل وقّع طرقاتٍ مهذّبةً قليلة.. كرر
الطرقات مراراً.. أتاه من الداخل صوتٌ عميق... فتح الباب محاذراً، ودلف كأنه
يغوص في عالم مجهول...
شدّه عن متابعة التذكّر صوت السيد المدير متابعاً حديثه:
-نعم.. هذا هو مبدئي في الحياة.. وبسبب ذلك وصلت إلى ما أريد...
ليست القيمة بالشهادات.. وليس الوصول إلى الكرسي والمنصب الخطير يتم بوساطاتٍ
شخصيّة.. لا... إنه الأمانة وتحمّل المسؤولية والإخلاص.. وهنالك مواهب أخرى
لابد من توافرها...
تلجلجت كلمات السيد المدير الأخيرة، وقد تنبّه إلى صمت زائره
المطبق... أخافه هذا الصمت... تنازعته هواجس عدّة، سرحت به إلى محطات بعيدة:
"لعلّله!!.... أيعقلُ ذلك؟!.. آهٍ... أيترتب عليّ دائماً أن أثبت للناس
مايقلقني...".
ازدرد لعاباً جافاً.. تابع ببطء:
-كما قلت لك... المنصب الكبير يقتضي الأمانة والإخلاص.
خرج الزائر الحائر عن صمته:
-نعم.. صحيحٌ قولك.. لكنّ بعض مانقوله ونراه يكذّبه الواقع
ويرفضه... كالنابض قفزت الكلمات من بين شفتي السيد المدير:
-هذا هو صلب المشكلة.. نحن نتفانى وغيرنا يضعنا موضع الشك.. لو أنّ
أحداً يكتب موضوعاً في الإخلاص والمسؤولية.. لو كانت المدارس...
ازداد الزائر إغراقاً في صمته وذهوله.. بدا كأنه آلةٌ سريّة
مجهولة... تضايق السيد المدير ثانية من صمت زائره.. ضبط أعصابه... شتمه في
داخله... "الملعون.. إنه يريد أن يستدرجني... تافه.. لن أفسح له المجال.. آهٍ
لتلك الذاكرة... ليس من اللائق أن أسأله عن اسمه، بعد أن استقبلته بالترحاب
والعناق لحظة دخوله... إنني أذكره جيداً... كان يقود الاضرابات المدرسيّة،
والمظاهرات السياسية، وكنت لا أجرؤ على الإفصاح عن كرهي له آنذاك... لو يخرج عن
صمته فأطمئنّ قليلاً. "
رنّ جرس الهاتف.. أيقظه.. ردّه عن تداعياته... أصلح جلسته وراء
الطاولة.. وبحركات يأكلها التوتر مدّ كفه المتشنجّة إلى سمّاعة الهاتف:
-... نعم سيدي... حاضر... أمركم... نعم نعم... كما أمرتم تماماً....
كل شيءٍ على مايرام... أرجو ذلك... حفظكم الله من كل سوء... الأمر
لكم سيد...ي.
بفتورٍ كبير أعاد السماعة إلى مكانها، وظلّت شفتاه مفتوحتين كأنما
في حلقه طعمٌ مرٌّ لزج.
غرقت الغرفةُ في صمت قريب.. اخترق الزائر جدار الصمت:
-أستاذ... يبدو أنني قد زرتكم في وقت غير مناسب، وأنك مشغولٌ جداً..
ترافقت كلمات الزائر الأخيرة بمحاولة للنهوض عن مقعده...
-لا... لا... أرجوك... الأمور سهلة جداً... باستطاعتي إدارة كل شيءٍ
وأنا قابعٌ في مكاني هنا... أنسيت ماقلت لك... المسؤولية والأمانة يجعلان كل
شيءٍ سهلاً... الأمور هنا مضبوطة كالساعة تماماً...
ضغط السيد المدير بإصبعه زراً على طرف الطاولة، للتوِّ انفتح باب
جانبي وأطلّ منه رجلٌ شاحبٌ طحنته الأيام.. دون أن يلتفت إليه السيد المدير قال
كأنه يهمس: "قهوة... قهوة للأستاذ"... ارتد الرجل وأغلق الباب بهدوء جمٌ....
نظر السيد المدير إلى زائره... "لو أعرف أيها الوغد الغاية من
زيارتك... لو تخرج عن صمتك، فتريحني... آهٍ كلهم هكذا... يتظاهرون بالوطنية
والنضال السياسي، ويفرضون آراءهم على الآخرين ويزعجونهم".
تجهمت عضلات وجه السيد المدير، وفي اللحظة ذاتها انسابت من ناظريه
ابتسامةٌ صخريّة جامدة لاروح فيها... من الباب الذي دخل منه الزائر صدرت عدة
طرقاتٍ ناعمة... تلاشت الابتسامة من عيني السيد المدير، وازداد تجهم عضلات
وجهه.. انفتح الباب بهدوء، ومن فرجةٍ ضيّقة تسلّل موظف كهل، يحمل بين يديه
أوراقاً مكدّسة... انتصب بقامته المكتنزة إلى جانب مكتب السيد المدير، وبلباقة
فائقة فتح إضبارةً وأخذ يقلب أوراقها أمام عينيه، في حين كان قلم السيد المدير
يتحرّك في الزاوية اليسرى من كل ورقة... وبين كل ورقتين كان الموظف اللبق يهمس
شيئاً ما في أذن معلمه... طوى الموظف الإضبارة وانسل من حيث أتى.
عادت الابتسامة إلى وجه السيد المدير، ونفث من سيجارته نفساً
عميقاً... تابع ثرثرته:
-أرأيت... يجب أن تتأكد بنفسك أنّ تحمّل المسؤولية والشعور بالأمانة
يحوّلان كل عسير إلى شيءٍ سهل لايتصوّره أحد.
ازدرد الزائر آخر رشفة من فنجان القهوة. تحرك في مكانه على الكرسي.
قال:
-اسمح لي أن أتوجه إليك بسؤال يهمني كثيراً.......
قاطعه السيد المدير بنبرة سريعة، وقد بدا له أن ساعة الصفر قد دقّت:
-أنا أعرف ماذا تريد أن تسأل. اسمع ياصديقي. كل شيءٍ يتعلق بمبادئ
الإنسان المتأصلة في نفسه... وأنا مهما قيل عني... ومهما حاول الآخرون تشويه
مواقفي واتهامي، فإني لن أتزحزح عن تعلقي بالمبادئ الإنسانية والأمانة
والإخلاص.
كاد الزائر ينفجر تحت وطأة المزيد من ثرثرة السيد المدير. لم يعد
يتمكن من متابعته. أطرق... تذكّر بمرارة أنه قضى سنة ونيفاً وهو يلوب باحثاً عن
عمل، وقد جاء يطرق باب السيد المدير هذا، زميل الأمس البعيد، علّه يجد عنده
مخرجاً... لاح له أنه قد أخفق في محاولته. حاصره واقعه المر. أغمض عينيه،
استسلم لأحلام هلامية، وقد امتلأ فضاء الغرفة بصمتٍ جليدي. وخز الصمت روح السيد
المدير، أخافه من جديد، فتساقطت الكلمات في داخله... "الوغد ابن الوغد... إنه
يجيد فن الصمت، وقد ملأ فراغ عقله الولع بالنظريات والجدل السياسي.. إنه
لايتكلم ولا يعلّق إلا متأخراً بكلمات قليلة... هكذا كان مذ كنّا طلاباً... آهٍ
لو أتذكر اسمه.".
استدرك السيد المدير نفسه، وتابع حديثه قائلاً:
-عمّ كنا نتحدث؟! نعم. نعم. تصور أنهم اتهموني بأنني عميل لهم. أشار
بيده إلى بعيد. أكتب التقارير عن زملائي من مدراء وموظفي المؤسسة. بل تشدقوا
بماهو أكثر. قالوا عني إنني أتقاضى الرشوة عن تيسير الأعمال. لعنهم الله. جهلة.
حمقى....
هبت في خبيئة السيد المدير خواطر زائفة متزاحمة: "وأنت أيها الزائر
الفظّ، ألست مثلهم... تكيل لي التهم في نفسك وعليّ مهمة إقناعك... ما أصعبها من
مهمة!!..". ولكنني يا صديقي لا آبه للاتهامات المثارة حولي، لأنها باطلة، فأنا
لاأتصرف برعونة. ولولا ذلك لكنت قد أبعدت عن منصبي ليأتي بدلاً عني إنسانٌ آخر
لايعرف كيف يتحمّل المسؤولية، ولاينفع الوطن والمجتمع بشيء.
رنّ جرس الهاتف فأسكت السيد المدير عن متابعة حديثه. قرّب السماعة
من أذنه. امتعض. مطّ شفتيه. كبت في نفسه احتقاراً واضحاً. أبعد السماعة وألقى
بها على المكتب تاركاً الكلمات المرّة تتساقط من فوّهتها...
قال في نفسه: "ينبغي أن أحيط زائري بالحفاوة." ضغط الزرّ الجانبي،
والتفت إلى زائره وقال:
-يجب أن تشرب القهوة ثانية، فالحديث بيننا طويل. غمر زائره بابتسامة
مصنوعة، بينما تقافزت في نبضاته خواطر محيّرة: "لا أظنّ أن هذا يشكّ في
نزاهتي... صحيحٌ أنني أعهده منذ الشباب الأول صلباً عنيداً، مؤمناً بأفكارٍ
جادّة... ولكن الزمن يغيّر كلّ شيء. وأنا واثقٌ أنّ ماقلته مقنعٌ حقاً... آهٍ
ماأصعب أن يكون المرء مضطراً أبداً لتبرئة ساحته أمام بعض الناس... لا... لا...
الناس كلهم يتغيرون... غباءٌ أن يفكر هذا الزائر بما كان يفكر فيه أيام
المراهقة... كل الناس يفكرون الآن تفكيراً مغايراً... المسكن الجميل... السيارة
الحديثة... القطع النادر... كيف يستطيع المرء أن يتطور إن لم يتغير... عجيب أمر
هؤلاء، الأوغاد... كلٌّ يريد دولةً على مزاجه... يريدون من الموظف أن يتفانى في
خدمتهم وهو فقير معدم، كي يحظى منهم بكلمات الشكر والإطراء... تفاهة."
تخلّص السيد المدير من تداعياته المرّة. كان الزائر يحرّك يده دون
قصد منه. رسم السيد المدير ابتسامةً بلهاء، ملأت صفحة وجهه. قال لزائره
مداعباً:
-... لماذا لم تشرب القهوة!؟
قال الزائر متضايقاً:
-شكراً... أعصابي لاتحتمل المنبهات كثيراً، إنني أرجوك أن.
-ماذا؟؟ أعصابك. لا. لا. لاتفكر كثيراً، فالتفكير علّة الأعصاب. من
ناحيتي فإنّني أحاول ألاّ أفكر. أنسى كلّ شيء، فأضمن السلامة والأمان لنفسي.
قاطعه الزائر محاولاً استدراجه إلى موضوعه بأناة:
-... وكيف أنسى؟! ... أينسى الإنسان حاضره. أينسلخ عن ماضيه. ألا
تذكر ياسيدي تلك الأيام؟!.
سقطت في نفس السيد المدير مخاوف حادّة جلدته بعنفٍ. أغضبه أن يتذكر
الماضي. "آه... لماذا تلازمنا الذاكرة... إنه يدعوني للتذكّر... وماذا
سأتذكّر؟! ... إنه شيءٌ فظيع... لا... لا... لاحاجة للارتباك، مهما يكن من أمر،
فأحدٌ لايعرف مطلقاً أنني وقتئذٍ وشيت به هو ورفاقه وحصل ماحصل".
تابع الزائر قائلاً:
-يبدو لي أنك تذكرت الآن شيئاً مهماً. أليس كذلك؟
-لا... إن ذاكرتي لاتسعفني، فأنا أهتم بالحاضر فقط. أهتم بتحقيق
المسؤولية الملقاة على عاتقي. واهتمامي هذا كما رأيت لايتعارض مع إيماني بالله
وبالشعارات الرائعة التي يجب أن يتمسك بها الإنسان المخلص دائماً.
وخزه مجدداً شعور داخلي: "مايبغي هذا الرجل؟؟ ... ماذا يريد؟؟. متى
سيبدو عليه أنه يصدّقني؟. منذ دخل الغرفة ووجهه لاينمّ عن ذلك. لو أعرف أيّ
حديث يستهويه!!."...
تابع السيد المدير:
-إن القيام بأعباء المسؤولية لابدّ أن يطرح جوّ الاتهام. لقد شككوا
بأمانتي في لجنة المبايعات. اتهموني باستغلال النفوذ لأغراض شخصية. داسوا على
ضمائرهم، وكالوا كلّ التهم الفارغة.
إلا أنني تمسكّت برباطة جأشي، بأصالتي. فذهبت تهمهم في مهب الرياح.
كان الزائر يتمزّق. رنّ جرس الهاتف فأنقذ الموقف الصعب. تلقّف السيد
المدير السماعة، وضعها على أذنه، نهض مندفعاً بقوّة. حنى ظهره. تأدب كثيراً:
-نعم... نعم سيدي... عفواً... كما تشاؤون... كما أمرتم... كل شيء
جاهز... عفواً عفواً... سيدي.
تراخى السيد المدير في معقده وقد استحال وجهه إلى لوحة حجرية غاض
منها الدم والحياة. تنحنح الزائر وهو لايدري كيف ينقذ الموقف. كان يجمع شتات
نفسه المبعثرة. تنبّه السيد المدير إلى وجوده، وبسرعةٍ رسم على ملامح وجهه
ابتسامة مترهلة وببطء أخذ يتابع حديثه:
-... أحد أسباب تأخرنا الجمود والحماس الأجوف... زاغت عيناه "آهٍ لو
أعرف لماذا أنت هنا أيها التافه... أأطرده وأستريح... لا... لا"
أمّا أنا فأعامل الموظفين بالحلم والموضوعية. نجتمع كل أسبوع.
نتبادل الابتسامات. أستمع لمطاليبهم. أطمئنهم، ونتصرف بمحبة وثقةٍ كاملة. أليس
ذلك تصرفاً لائقاً، إعلم ياصديقي أنّ المرونة أساس النجاح. ماذا يمكن أن يحصل
لو أن الناس جميعاً تخلّوا عن المرونة؟!.
فتح الباب الجانبي على مهل... تسلّل منه الرجل الكهل يجمع أكواب
القهوة الفارغة. سار على رؤوس أصابعه. حدّق بالزائر طويلاً. وكأنه يقول له عليك
إنهاء زيارتك. عليك أن تنصرف. اقترب من مكتب السيد المدير. وقف وراء ظهره
مجانباً. همس في أذنه اليسرى بضع كلمات، وانسل كما دخل دون ضجيج.
تناثرت من بين شفتي السيد المدير قهقهةٌ فجّة، بينما كانت عيناه
تلوبان بحثاً عن شيء مجهول. قال دون أن يلتفت إلى زائره:
-هذا هو الآذن الرابع عندي. استبدلتهم جميعاً، أتدري لماذا؟. ليس
لأنه يجيد صنع القهوة فحسب، لأنه لايرى، ولايسمع، ولايتدخل فيما لا يعنيه. إنه
إنسان رائع... و...
رن جرس الهاتف. صعق الزائر، غطس في مستنقع خيبته: "تباً لهذا الهاتف
ماأكثر رنينه". نظر السيد المدير إلى معصمه. تلمظ وابتسم. كأنّما كان ينتظر هذه
المكالمة. رفع السماعة بأناقة. حدج زائره الغامض بنظرة طويلة مستجدية. جمدت
الكلمات في حلقه. إلا أن عينيه أخطرتا الزائر الفظ. قالتا له:
"أرجوك... هو... إنه هو... المرونة... أسرار العمل... عذراً سنلتقي
دائماً... أليس كذلك."
وسريعاً كالظل. كان الزائر يتسلّل عبر الباب الذي دلف منه في ساعات
الصباح.
أضيفت في30/03/2005/ خاص
القصة السورية / من كتابه شواطئ الأحلام الصادر عن اتحاد الكتاب العرب
حالةُ خوف
" لا يمكن للكاتب أن يكتب أدباً عظيماً إذا كان خائفاً...".
مكسيم غوركي.
ظلّ يقفز على ساق واحدة. خال الفترة زمناً طويلاً، يوماً
بأكمله. أنهكه التعب، لسعته كرات العرق اللزج وهي تتدحرج على ظهره وخدّيه
وعينيه. ساعة من القفز المتواصل وهو يسند ساقه اليسرى بإحدى كفيّه. كان يخشى
ارتطامها بالأرض. الألم المضني ينهش جوفه وأعصابه، وصل أخيراً... بوّابة كبيرة
زينتها لافتة أنيقة: مشفى المدينة الكبير.
عبر البوابة، وجد نفسه في بداية الممّر الطويل للمشفى
الكبير...داخلَهُ شيءٌ من الاطمئنان، تابع القفز على ساقه اليمنى داخل الممر.
ومنه دلف إلىردهاتٍ فسيحة. كان يلعق كلَّ ماحوله وأمامه بنظرات عقابية حادّة.
يريد أن يصل، أن يضع حدّاً لآلامه التي تفترسه من الداخل. نظراته تزداد عمقاً،
وآلامه تشتدّ حدّة...
سيطر عليه يقين قاطع بأن، الحالة الذئبيّة تفترش المدينة
بكاملها، موجودة في كل مكان... ترى...هل أن شعوره هذا هذيان أم حالة
خوف؟؟!!...
امتصّت هذه الحالة شيئاً من آلامه. لم يعد يحسُّ بوطأة الألم
المتصاعد من ساقه اليسرى. ألحَّ عليه إحساسه بالحالة. وجد ذئاباً منتشرة في
جنبات المستشفى، تمتطي متن مقاعد الانتظار، وأخرى تتجوّل في الأروقة بكبرياء
وتعالٍ... في زاوية مكشوفة كانت بعض الذئاب تلعق شفاهها بألسنة مخيفة، وتنشر في
الجو نظرات حمراء... في زاوية غير مرئية تماماً شاهد الجريحُ ذئبين يُشبعان
غريزتهما متمهّلين، غير آبهين بشيء.
تصاعدت حالة الخوف أكثر. غلت مراجلُه. سلقته من الداخل، ففجّرت
فيه آلاماً جديدة... شعر أن ساقه اليسرى تنفصل عن جسده وتشعل في قلبه إحساساً
بالانزياح. ضغط عليها بكفه اليمنى بشدة علَّ آلامها تفتر قليلاً. وجد أن الدمَ
النازف قد شكّل خطوطاً جافة، والجرحَ قد فغر فاه وتهدلت حوافيه إلى الجانبين،
بينما بدأ الورم يزحف باتجاه الأعلى. افترسه الخوف بقسوة، وراح يلوب بعينين
حادتين. تابع القفز على ساقه اليمنى، اقترب من باب مفتوح بعض الشيء، استند إلى
الجدار، دفع الباب الخشبيّ بيده الطليقة، وهو غاطس في أمواج الحالة الذئبية
الماثلة... جاءَه صوت أجشّ كأنه يصدر عن قاع بئر عميقة، تلفّت حوله، لم يجد
أحداً، فتح الباب بأكمله ودلف إلى الداخل، كان المكان خالياً إلا من رجل هزيل
غائر العينين، يرتدي صدّارة بيضاء، تتدلّى من عنقه سمّاعة طبيّة... أيقن أنه
الطبيب، وأنه صاحب الصوت الأجش. أخذ يقفز نحوه وهو يمسح المكان بنظرات مضطربة،
لاحظ آثار الدّماء تعتلي صفحات المناضد والكراسي المبعثرة...
بعد صمت مريب، اقترب الرجل المتواري في مريلته البيضاء، أبعد
اليد اليمنى عن الساق الجريحة، طوّحت الساق في الهواء. تهدلت حوافي الجرح أكثر،
وانكشفت عن بؤرة بشعة المظهر.. جسَّ الطبيب الساق بقرف، تأفف بعنف، هزَّ رأسه،
نظر إلى الجريح، أجرى له الإسعاف الأولي اللازم.
وقال له بلغة الآمر:
-... نريد ضبط الشرطة.
-... ماذا؟!!
-.. ألا تسمع. أريد ضبط الشرطة عن الحادثة.
فوجئ الرجل بشيء لم يكن يتوقّعه. تجذّرت مخاوفه وتورّمت أكثر،
سقط في بئر سحيقة مظلمة. ندّت عنه صرخة...
-.. أية حادثة تعني.. إنها نهشة ذئب شرس!!
-.. لا يهم.. أنت أمامي جريح فحسب.
تراجعت آلام ساقه، أحسَّ أن جرحه بدأ يضمر، وأخذ جسده ينزف
ألماً آخرَ أشدَّ قساوة وبشاعة.. لم يدر حقيقة هذا الألم، أهو خوف من الذئاب،
أم من الشرطة، أم من الموت جرّاء جرحٍ زرعَ في جسده الدّاءَ والتلوّث
والتسمّم.. راح يهلوس: "لاشكَّ أن الذئب مريض، بل كلُّ الذئاب مريضة.. مرضُ
الذئبيّة معد وخطير على الإنسان والحياة... يكفي أن يضغط الذئب بأنيابه الحادة
حتى يزرع بذور داءِ الذئبيّة في الجسد المدمى... من سمات الذئاب السرعةُ والغدر
والجرثومية... كنتُ ساعتئذٍ أسير هادئاً مطمئناً على ضفّة نهر ظليل، أسرح مع
الحياة والنسيم الرقيق والأغصان المورقة ووشاح بدء الليل، أشمُّ عبير الأرض
والأصالة بعيداً عن كوابيس المدينة وصخب الإنسان وتجهّمه، عندما تناهت إلى
مسامعي أصواتٌ مبهمة فيها كثير من اللهاث والفحيح.. انتشلتُ روحي من الصمت
النوراني، والتفتُّ كردِّ فعلٍ نزق، فإذا بي أمام كتلة لم أتبينّها بادئ ذي
بدء، ونار حامية مدبّبة تخترق عضلة ساقي اليسرى.. عندما أدركتُ الموقف، ولَّى
الذئب هارباً، وظلَّ الألم الساخن ينزف دماً، يغسل ساقي ويبلّل جوربي وحذائي...
الغدر والاعتداء سمة الذئاب. والخوف من الذئاب وتقارير الشرطة سمتي الخاصة...
وأنا أتقلّب بين الغدر والخوف والمشفى".
زجره الطبيب، فردّه عن هلوسته التائهة.. استفاق وسدَّدَ نظراتِه
إلى الطبيب... أصرَّ الطبيب على موقفه منه. صاح به: "أنت جريح.. أريد ضبط
الشرطة.".
لفظه المشفى من بابه الخارجي، راح يقفز على ساق واحدة، ويحمل
الساق الثانية بكفٍّ متعبة.. مزّقته الهواجس. تلاعب به الخوف. طارت به تداعيات
مبعثرة: "ترى.. أيَّ شرٍّ اختار.. أأذهب إلى الشرطة وأتعرُّضُ لورطة غير
مأمونة، أم أقصد البيت؟؟". دارت به الأرض وقد ابتعد عن باب المشفى قليلاً:
"الشرطة.. الشرطة. ترى، هل أضمن عودتي، أم سأنزلق في متاهات أخرى.. لا.. سأقصدُ
البيت.سأحمل ساقي وأذهب إلى حنان زوجتي الطيبة، وأولادي الصغار،وأشدُّ على
الجرح خرقاً بالية. وليكن مايكون... ولكن، ماذا سأفعل بداء الذئبية الذي تسلل
عبر الجرح إلى دمي وجسدي. إنه داءٌ مميت، وإن لم يكن مآله الموت فلابدَّ أن
يسيطرَ عليَّ الداءُ ويمنحني سِماته. الغدر. والعدوان. والشراسة.
قد أحتمل المرض أسابيع بل أشهراً، إلاّ أنه لا بدَّ سيخمد
أنفاسي ويزهق روحي.. لا هذا أمر فظيع جداً ونتائجه وخيمة.. سأذهب إلى الشرطة
علَّ الأمور تمر بسلام وأحصل على ذلك التقرير.. تباُ لك أيها الطبيب. لو أنك
عالجتني لأنقذتني من شباكٍ كثيرة".
توقف عن القفز على ساقٍ واحدة، حمل ساقه الجريحة بكفّه وأسند
ظهره إلى الجدار. سقط عليه التعب دفعة واحدة. استسلم للجدار وأغمض عينيه جرفه
سيل من التصورات والتداعيات الباهتة: "ولج باب قسم الشرطة أيقظهم ضجيجٌ وصخب
القفز على ساق واحدة. قابلوه بأفواه متسائلة ونظرات بلهاء.. "أريد تقريراً
بالحادثة".
-.. اسمك؟
- .. محمود عبد القادر.
- سكنك؟
-.. الحي الشرقي، خلف الجامع الكبير.
-..عمرك؟
- ثلاثون عاماً.
- عملك؟
-.. بائع متجول.
- .. من ضربك على ساقك هذه؟
-... لم يضربني أحد.. لقد هاجمني ذئب مريض.
-.. وما أدراك أنه مريض؟
-.. كل الذئاب مريضة بداء الغدر والوحشية.
- هل لديك مايثبت ذلك؟
-.. لا ياسيدي، ولكن هذا أمرٌ معروف.
-.. وكيف سنتأكّد نحن من صحة ماتقول؟
-.. لا أدري.
-.. لنفترض أنه مريض!!
-.. نعم.
-.. من أية جهة هاجمك الذئب المزعوم؟
-.. لستُ أدري. كان الوقت في بدء الليل، فلم أتبيّن وجهته.
-.. هل تبين لنا صفات الذئب الجسدية، وكيف حصلت الواقعة؟
-.. سيدي.. الذئاب متشابهة في كل زمان ومكان، وقد كان الوقت
-كما قلتُ لك- ليلاً.. فقط شعرتُ بنار حامية تخترق ساقي اليسرى، وبذئب ضخم
يولّي هارباً...
نظر أفراد الشرطة إلى بعضهم وانفجروا بضحكات هستيرية
مستهزئة"...
أفاق من تداعياته. كان مايزال مستنداً بظهره إلى الجدار، وكفُّه
اليمنى تحتضن ساقه اليسرى وتضغط على الجرح المفتوح، الناسُ يروحون أمامه
ويجيئون، يُلقون إليه نظرات حيادية أحياناً، متسائلةً أحياناً أخرى. توحّد مع
آلامه. نسيَ النار التي تنهش أعصابه وجلده. اتّخذ في داخله قراراً سريعاً، وراح
يقفز على ساق واحدة عبر طرقات متعرّجة.. المسافةُ التي تفصله عن منزله بعيدة..
سأل نفسه:
-.. وماذا عليكَ أن تفعل؟؟
-.. سأضغط الساق الجريحة بكفيَّ المعروقتين. سأضغط وأضغط حتى
تتفجَّر العروق وتتفصَّد الدماء وتسيل في كل الاتجاهات.. عندئذٍ أطمئن أنني قد
طردتُ من دمي وجسدي كلَّ بقايا داء الذئبية قبل أن تتأصَّل وتحوِّلني إلى مخلوق
له كل سمات الذئبيّة.
|