أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 15/08/2024

مجموعات قصصية / الكاتبة: د. ناديا خوست

مملكة الصمت

إلى صفحة الكاتبة

لقراءة المجموعة القصصية

 

 

المجموعة القصصية

امرأتان

جلطة

ليلة المسرحية

ثورة 

الانفجار

الغيبوبة

المنفى

عودة

القرنفلة

الزمان

أوسع السجون

الراعي

المتأخر

 

مملكة الصمت

 

ثورة في مملكة الصمت

 

 

تنقل المنادي في المقبرة : انهضوا ايها الموتى،  انهضوا ! فجمعوا أطراف أكفانهم، ونهضوا في أول الليل، والقمر يسري في السماء. ومعهم نهضت فتاة لم تكن استراحت بعد من أصوات المقرئين وحزن الوداع.

نهضت في خفة كأنها الهواء. التفتت فرأت أردية تتحرك في الليل، أمواجاً بيضاء، رفعت رأسها فصادفت: مرة أخرى هذه النجوم وتلك السماء؟!

ظل صوت المنادي يردد متنقلاً : " لا يمكن بعد الصمت! انهضوا أيها الموتى، انهضوا!" ورأت الفتاة امرأة تتقدم، فسألتها: عم لا يمكن بعد الصمت؟ أجابتها المرأة : جديدة؟ اصبري إذن..سنتنحدث عن ذلك في الاجتماع . وقادتها إليه. وفي الطريق روت لها ما يحدث في مملكة الصمت. هي هنا منذ عشر سنوات. قطعت خلالها أيام الحزن على الحياة، والقلق على الباقين من الأحياء. وتجاوزت الشوق إلى الأخبار. وصلت إلى زمن تستمتع فيه بسماء الليل، حرة الخطوة تتجه حيث تشاء. غير مربوطة بانتظار الزوج والإبن وبمواعيد الطعام وملعقة الدواء. تجمع رداءها وتتجول، تجري كضوء القمر والماء. لا يزعجها هنا غير الزحمة . فالقبور متقاربة كأنها أبنية الأحياء . لم يصل بعد إلى قبرها المشردون، ولم يستلق بعد فوقه شخص ثقيل، ولم ينشر أحد بعد ثيابه عليها، ولم يهزها بعد شخص يرتعد من برد الليل. لم يعلق أحد بعد فوق شاهدتها سلة أو بنطالاً ، ولم تفح بعد حولها رائحة الحشيش!

كثيراً ما مشت وحيدة، ومن التأمل وصلت إلى مجردات لخصت بها الأوضاع . وكانت قادرة على ذلك بعد أن عبرت السنوات الأولى التي تعتبرها الآن متصلة بالحياة. بل تكاد تضحك، فهي الآن فقط تشترك أحياناً في استقبال القادمات . يوم وصلت هذه الجارة  الجديدة، كانت مشغولة في الطرف الآخر، بامرأة أحرقت نفسها بالكاز. اجتمعت حولها النساء. وقلن لها: أحرقت نفسك.. مجنونة ! منذ عشرين سنة لم نعد نستعمل هذه الطريقة للخلاص! ماذا دفعك إلى هذا العذاب؟ ظلم الزوج؟ اف، ما زال ذلك يحدث حتى اليوم! ما نراه من أعمدة التلفزيون التي تشوه السطوح، لا يعلّم الأحياء الحياة!

عندما تستقبل النساء امرأة جديدة لا ينبشن قصتها من الفضول، كما يفعل الأحياء. بل يعاتبنها ويصنحنها ليصلن إلى قرار، كي تختصر فرصة الشفاء من الحياة. فإذا بكت أو تقلبت في القبر فأقلقت الجارات، دعونها إلى اجتماع ليجففن ما بقي لديها من دموع الحياة، وليفهمنها أنها انتقلت إلى مكان فيه قوانين وعادات، وإمكانيات وآفاق.

نعم، الأيام الأولى هنا كالامتحانات في الجامعات! لكن الناس يساعدون الناس، والكبار يساعدون الصغار، والأقوياء الضعفاء. وليس الصمت المطلوب في مملكة الصمت من الخوف، بل من الرغبة في الراحة والهدوء. فالموتى نجوا مما يهدد به انسان: الضرب، والعذاب، والمنع من السفر والعمل، ومصادرة الأموال والأملاك. هذه القطعة الصغيرة من الأرض هي مملكة الحكمة . يتأمل الناس فيها ما فاتهم أن يتأملوه، ويكتسب فيها حتى المجانين العقل، بالشفاء من الشوق إلى الحياة خارج الأسوار.

حكت المرأة للفتاة عن جمال الظلال أيام القمر. وعن وحدة المجموعة التي لا تفرقها أحقاد أو أملاك. هنا كثيراً ما يجتمع الرجال والنساء من عدة أجيال، ويلتقي من عاش قبل خمسمئة عام بمن عاش قبل خمسين سنة. وتجمع من ذكرياتهم أمسيات تمتع المتنزهين والمستمعين . ويحكي الرواة في رشاقة وسلاسة، كأنهم يروون حكاية حدثت لآخرين وليسوا هم أبطالها. ويصفون البلاد والأشجار التي كانت موجودة، والطرقات والخانات. وبعد تلك الأمسيات لم يكن أحد من الحاضرين يتمنى العودة إلى المدينة الموجودة الآن خارج الأسوار.

كانت المعلومات تصلهم فيعرفون مصير الأبنية التي شيدوها، والمكتبات التي اشتروها وجمعوها، والبلاد التي حرروها، والأنهار التي اجتازوها، والأشجار التي زرعوها، والأسوار الشاهقة التي رفعوها، والأسواق التي غطوها. ولو لم يجتازوا العتب والحزن، لتردد من المقبرة نواح يوقظ الأحياء!

في تلك الأمسيات كان الموتى يزدادن ثقافة ومعرفة ، ويقدرون حظهم الذي جمع في مكان واحد الأمراء الشجعان الذين جابوا البلاد، والعلماء الذين حفظوا آلاف الصفحات، والشعراء والمعماريين. كان حتى السياسيون الخائبون الذين يحكون عن تجربتهم حتى إعدامهم أو سقوطهم، يستنتجون في تلك الأمسيات ما كان يجب أن يستنتجوه في الحياة.

ولم توجد هناك حواجز بين النساء والرجال. ففي اللقاء يتجاورون لا فرق في السن والجنس , تنفرد النساء فقط عندما يستقبلن امرأة لم تألف بعد العادات في مملكة الصمت، ولم تقطع بعد علاقتها بعالم الأحياء. وتحتاج الحنان الذي ينتزع الانسان من الأحزان. انعقدت تجمعات صغيرة لبحث أمور تفصيلية، كلما دفع حارس المقبرة بقدمه قبراً ما عاد يزار، خاصة في الأعياد. ثم نبشه وجعله مأوى لقادم جديد. كان حارس المقبرة يعجز عن فهم الحقيقة التي يعرفها الموتى: أن الذين هاجروا أو تغيروا هم الأحياء. أما الميت فما يزال في مكانه، يزداد حكمة وهو يستمتع بالخلود!

لكن ما كان صدفة قبل عشر سنوات، أصبح وضعاً يومياً الآن. فالحارس يبيع القبور ويحشر في الواحد منها ما لا يتسع له بيت عربي قديم. ذلك هو سبب الاجتماع الكبير الذي دعا المنادي إليه!

لم يبق رجل أو امرأة أو ولد، قديم أو حديث، إلا نهض. وكان المشهد جميلاً فالقمر بدر، وظلال السرو القليلة مرسومة على الأرض، ومثلها ظلال الشواهد، وبين ذلك تتحرك في هدوء ثياب بيضاء فضية، وضحت ثنياتها الظلال. ظهر ضيوف قدموا من الصالحية والباب الصغير ومن مقابر خاصة، وأتى المشردون الذين سرقت قبورهم فصاروا يمضون الأيام في الحدائق وتحت الجسور.

في الصدر وقف نور الدين الشهيد، وصلاح الدين، وست الشام، والصاحبة خاتون، أختا صلاح الدين، وسودون الذي هدمت مئذنته في سوق ساروجا وأجرت مخزناً . وينال الذي هدم ضريحه مقابل الشامية . ومعين الدين أنُر الذي هدمت قبته وضريحه في سوق ساروجا. والمزدقاني، المقتول، في القلعة الذي هدم مسجده فلجأ إلى بيت الجيران . وست ستيتة زوجة تنكز التي أجر ضريحها لبائع قماش. وابن أبي عصرون، والكندي، وزوجة نور الدين، بنت معين الدين أنُر، والزهراوي والعسلي.. وبدا أن بعض الضيوف لم يلتق ببعضهم الآخر منذ زمن طويل . كيف حدث ذلك ؟ الموت وهو حرية ؟ الحزن والعتب وهو ممنوع؟ لكن كان منهم من يزور ويزار ويلتقي بمن تمنى أن يراه يوم كانت تبعده عنه مئات السنوات.

انساب الكلام في هدوء. كان الاجتماع يليق بأولئك الرجال والنساء. رصينا دون تصفيق، دون مقدمات، دون رغبة في رضا من يتحدثون إليه. فبدت اللغة نقية كأنها الماء النظيف. وسمعت كل كلمة تقال من أقصى المقبرة إلى أطرافها المقابلة. وبدا أن كلمة الاجتماع:" لا يمكن بعد الصمت " تعني ترتيب الأمور لا الغضب الأهوج، معالجة المشكلة لا إضافة مشكلة إلى ما هو موجود.

قدم الضيوف إلى الصف الأول حيث يقف العقلاء والحكماء. لكن الجميع كانوا متساوين في الكلام. بينوا في دقة واختصار ما تعاني منه مملكة الصمت. ووصلوا مشكلة الفرد بالجمع، فظهرت جمهورية عظيمة أهلها حكماء. ومع أن الانفعال محرم، منسي، بدا التأثر لمحة خاطفة على نور الدين فأمسك بيد صلاح الدين. وبدا كل منهما كما كان في القمة . ولم تكن في المقبرة أعلام أو شعارات. ولم تعلق أقمشة وخروق . فكان الاجتماع مذهل الجمال.

رسموا حارس المقبرة كاملاً، في عدل. يعالج بنته المريضة، في الغرب، لذلك يسرق القبور. ويوزع المال ليبقى حارساً . لكن هذه المسروقات ليست من أرض سائبة. بل من أشخاص موجودين. يدفع الميسورون للحارس ألوفا ليفتح القبر القديم، ويضع فيه القادم الجديد. حتى أصبحت القبور كالقواويش لا تتسع ولو وقوفاً للقدماء والمحدثين.

ابتسم شرف الدين بن أبي عصرون. ماذا يقول؟ باسمه سميت المدرسة العصرونية في الأيام الذهبية. فمن يعرف مكانه اليوم؟! من يستطيع أن يراه وقد سد المنفذ إليه؟ نعم، تباع الأوقاف، ومنها وقفك يانور الدين!

بدا لنور الدين أن المشاكل التي حلها في حياته، ومنها تحرير دمشق، وتوحيد الامارات، والانتصار على الفرنجة، أهون من حل المشاكل التي ينظر فيها الآن. لكنه ابتسم هو أيضاً : ماذا أقول لك يا ابن أبي عصرون، وأنت على بعد خطوات مني، وكم رأيتك أمامي في أول الليل! ألم تر السراويل معلقة على جداري، ألم تر علب المسكة ودهان الأظافر، وزينة الشعر، مصفوفة على نافذتي؟ من يعرف من الناس أني هنا، وكنت محرر دمشق، وبنيت هنا المدرسة النورية ، وعلى بعد خطوات البيمرستان، مدرسة الطب، الذي تفتنني حتى اليوم قبابه الجميلة !

كان الكندي يبتسم." لماذا؟ لم يسرق قبري وتلك مكافأة عظيمة! لكن الغبار يخنقني. حولي مستودع لما فاض عن السوق والموممين. وفي نافذتي يغسل الباعة الخروق. أتذكر أني مشيت في ذلك السوق، وفي آخره انعطفت . وإلى هناك وصل المعظم عيسى، قريبك يا صلاح الدين. وانتظرني حتى أكملت درس الشعر الذي كنت ألقيه. انتظرني في أدب حتى حان دوره! زرت الأموي وبحثت عن المكتبة التي استقدمتها وانتقيتها من مخطوطات مصر. فماذا وجدت؟!"

كان صلاح الدين يقف مهيباً ويستمع إليه . ماذا يقول هو، ماذا يقول؟" يوم دخل الملك فيصل إلى دمشق مع الجيش، زارني . ودخل خلفه لورنس، فسرق الإكليل البرونز الذي أهداه الامبراطور غليوم لضريحي! ولو استطاع لسرق الضريح."

ما تزال الفسحة جميلة، هادئة، أمامه. يتنزه فيها في الليل. لكن من يتذكر المدرسة المهدومة التي كانت في تلك الفسحة! وماذا يحكي صلاح الدين، أعن المصاحف النادرة المهداة التي سرقت، أم عن الكازات الجميلة المنهوبة، أم عن القيشاني الذي انتزع من جدار الأموي وبيع! رأى ذلك وهو يتجول كحاكم يحرس بلده. وهمس: " يا نور الدين، هل  عرفت أن حطين نفسها مسروقة؟!".

هز نور الدين رأسه. كان يطل على مئات السنين، ويعرف أن المسروقات الصغيرة كالمجوهرات والقبور ولوحات الخط والسجاد والمخطوطات تتناثر وتضيع. لكن البلاد التي تسرق تعود مهما طال الزمان، يوم يفيق الناس من البؤس ومن النعيم.

لم تهمس ست الشام . فعادتها أن تتحدث بصوت واضح. مقابلها سرق ضريح ينال، وسرق جزء من باحة مدرستها. عمر التجار أبنية أعلى من مئذنتها، وسدت الطريق التي ظلت سالكة منذ القرن الثاني عشر الميلادي. قالت ست الشام ما سكت عنه معين الدين انر: " هدموا قبره وقبته في سوق ساروجا،  هو الذي دافع عن دمشق ! هو أبو خاتون زوجة نور الدين، صار يأوي إلى مدرستي أو يتشرد تحت الجسر!"

عادت إلى مسمع خاتون، الصاحبة، زوجة الكوكبوري، ضجة التلميذات والمعلمة.هل تطمئن الجمع عن حالها؟ يزورها كل سنة مئات الغرباء من أنحاء الأرض، ويتفرجون على مدرستها التي لم تكملها فبقيت أقواسها معلقة بالسماء. لا تعرف من سرق ضريحها المزخرف الجميل، ووضع صندوقاً من الخشب في مكانه، جلست عليه التلميذات زمناً، ثم جعلته المعلمة طاولة لها. ضحكت ضحكة لطيفة. لا! لن تتحدث عن ذلك . فأين هي من أمة اللطيف، أستاذتها وصاجبتها! انتزع قبر أمة اللطيف وصارت تربتها مكتباً. وكثيراً ما لجأت أمة اللطيف إلى زوجة نور الدين في الصالحية!

هزت خاتون، زوجة نور الدين، رأسها موافقة على ما فكرت فيه الصاحبة. ما أقل ما نزل بها، هي! عزلتها في عمق الجامع الجديد، وجفاف نهر يزيد الذي كان يطرب الليل، وتجتمع عنده مع زوجة المعظم عيسى بانية المدرسة في الصالحية!

ارتفع صوت من الحاضرين:" حررنا البلاد، ركبنا الخيل سنوات، وقتلنا لأجل هذا الزمان؟" رد صوت آخر ليقرر حقيقة أخرى:" لا. ليس لهذا الزمان فقط . بل لزمن قادم بعده!" سأل صوت ثالث: " وهل سيبقي اللصوص شيئاً منا للزمن القادم؟!" رد صوت هادىء: " لهذا نجتمع اليوم. نجتمع لنبحث ما يمس مئات السنوات الماضية، ومئات السنوات التالية ."

تذكر عبد الرحمن الزهراوي الضربات التي كسرت شاهدته ، فبقي منها ما نقش أنه تحدى الموت الزؤام. نقش ضريحه من الرخام في أحلى صورة. وكان الإتقان فيه إعلاناً عن التمرد على قاتليه. وكانت تسمع في انحناءات النقوش دموع أشخاص لم يعرفهم، أحبوه. تجول الزهراوي مرات مع الذين أعدموا في ساحة المرجة، وتساءل: أضاع ما كتبناه، وتبددت كالغيوم والأيام، الغصة والخطأ والصواب، ونداؤنا المدينة في غبش الفجر؟

وكان إلى جانبه شيخ مهيب، نضر الوجه، ابيضت لحيته في القمر. هل يعرفه ؟ نعم!

  " يسمونني عثمان. لم يبق من أهل التربة الأيوبية سواي! كنت أميراً محارباً حتى مرت السنوات ونسي الناس أصل المجد الذي غمروني به، فجعلوني ولياً من الأولياء. ووضعوا الشموع في نافذتي، ورجوني وشكوا لي.. ففهمت أن الأقوياء لا ينجدون الضعفاء. ثم أغلقت نافذتي وسمعت الحفر والبناء في الجوار . وفهمت لماذا كومت فوقي الأنقاض. أتاني اللاجئون من التربة الكركية حتى ضاق المكان. وفي الليل رأيت عظام الأبطال القدماء ترمى كالأنقاض."

وروى للزهراوي حكاية أمير طرد مع ضريحه إلى القلعة. وحكى له أن النوافذ التي يطل منها أمراء وعلماء ومحاربون محررون أغلقت في الصالحية، وصارت تربهم بيوتاً شخصية.وسمعت خلال ذلك الحديث ضحكات لأن المستمعين والرواة كانوا كمن يراقب أمراً يتعلق بغرباء، يريد كالباحث أن يصل إلى قرار، لكنه لا يكاد يصدق ما يراه.

أعاد الموت الرؤوس التي علقت على أسوار دمشق وعلى أبواب دمشق، إلى الأجسام التي دفنت وحيدة. وحرر المصلوبين. ترك الموتى الأحقاد في الدنيا، تركوا الأملاك والبيوت والأثاث، وكل ما سفكوا فيه الحياة، وما قتلوا لأجله الأعزاء، واغتالوا لأجله الإخوة، وغدروا لأجله بالمستجير. في مملكة الصمت لا مالك ولا سيد ولا عبد. المكانة فقط لمن سجلهم الحب كالكنز. لذلك لم يرد قرار المجتمعين خوف أو تردد، وقبلوا ما اقترحه العقلاء: الخروج إلى المدينة في هدوء وحزم . ستتجمع أصوات النساء والرجال والأولاد في نداء واحد:" أفيقوا أيها النيام! الذاكرة التي تضيعونها ليست لكم، بل للزمان. أنتم فجوة الحاضر، ونحن حق الغد. انظروا! لديكم صحاري وقفار تضيفون إليها كل يوم قفاراً. هناك اتركوا بصماتكم، إذا كنتم تتحملون مسؤولية صورتكم أمام الزمان!"

أدهش الفتاة، القادمة الجديدة إلى مملكة الصمت، ذلك الإجتماع وتدفق فيها ما لم تشف بعد منه من السخرية والغضب والأفراح، من عواطف الأحياء . أخطأت إذن بالحزن وقت الوداع على الحياة التي تومض كالبرق هناك. فهنا يمتد الزمان، وهنا يجتمع الأحياء. قالت للمرأة :" مخظوظة لأني وصلت إلى هنا في الأوان!"

لم تر بوابة المقبرة ، ولم يعرف الشارع الواسع مثل ذلك الحشد قبل ثورة مملكة الصمت. رجال مهيبون، نساء جميلات ، رشاقة وأناقة ، والأكفان البيضاء متموجة في القمر! انحنى حتى السرو كأنه يريد المشاركة في مظاهرة الموتى . وسار علىعرض الشارع في هدوء، فنانون لم تبق لوحاتهم في البلاد. ورجال علماء كتبوا عشرات المجلدات في ضوء الشموع والسراج. وصناع نقشوا الخانات والقصور والبيوت والبحرات منحنين عليها عشرات السنوات. قادة معارك بين الشرق والغرب. نساء درسن الرجال في المدارس قبل خمسمئة سنة . شاعرات عاشقات بعثر الزمان أشعارهن في الهواء.

سمع حارس المقبرة حفيف الأكفان، فأيقظ شرطة البلدية التي ستتهيأ في الفجر للنزول إلى الأسواق، لتقلب سحارات الخضار وتصادر الفواكه والموازين والعربات، وتركل باقات النعناع، وتدعس البندورة والخيار. واستدعى الذي يصادرون الدراجات ويكومونها في سيارات ثم يرمونها في فناء. وسمع في المدينة صوت الأقفال والخزائن والكراسي التي تحصن الأبواب. وأنزلت الستائر وأخفي الأطفال. وصفت طاسات الرعبة، وصواني النحاس قرب الجدران ثم.. انطلق الرصاص. رصاص لم يهطل حتى المطر في مثل غزارته في أيام الخيرات. فتطايرت العظام، وتمزقت الأكفان، واستدارت شجرات السرو القليلة إلى الجدران. وضاعت المرأة والفتاة. وبعد قليل، لم يبق على الأرض سوى حطام، وخليط من أكفان وعظام، وقمر لم يشأ أن يغيب رغم رغبته في الغياب، وانهمر فوق الأكفان والعظام في رنين كأنه ينوح ، بعد أن سكت الرصاص.

دمشق 1991

 

 

ليلة المسرحية

 

لايذكر الموتى أنهم رأوا  مثل هذه الليلة. لا ! تبدو كأنها نهاية الأيام! لارغبة لي في الفرجة على هذا الهوان، لكني تفرجت بملء عيني كيلا تفوتني لمحة مما أراه. جددت  مااؤمن به، وجلوت الحب والحكمة والغضب! ورأيت مرة  أخرى  صلة الرحم بين الأرض والناس!

تجدد  ماتؤمن به؟ وأنت ممن لاتشيخ قلوبهم! وأنت ممن تمر الحياة أمامه وتبقى  موازينه  مناسبة لها. ولأعترف لك: أخشاك أحيانا يانور الدين، وأنت تستشف مالايرى! لست متسرعا، حاشاك، لكنك تسبق بحكمك مالايحيط به النظر. وأعرفك إذا صمت! فذلك لأنك تتحاشى أن تفاجئ من حولك  بما لايتوقعه! أنت وقتئذ تتريث حتى يتهيأ من حولك لما لم يتضح  بعد.

حدثت ضجة، في تلك الليلة، في مملكة الصمت. توافد أهلها  إلى الساحة  ليطلوا على الدنيا التي تركوها من زمان . ففي وسطها نصب مسرح. وفي القاعة أمامه صف الشهود والمتفرجون.

هؤلاء هم  رجال العالم اليوم، ياصلاح الدين؟!

لم تخف السخرية على صلاح الدين. فنور الدين  يلمح  الضعف والغرور حتى في الملابس، ويخترق الصوت  ليقدر الصدق  والكذب. فيرتبك أمامه أكبر الناس ارتباكه أمام المتصوفين.

في حطين محا صلاح الدين ماكان بينه وبين معلمه نور الدين من فتور. ولعله محا أكثر من ذلك وهما يتابعان، من مملكة الصمت، البلاد التي تركاها، ويتبينان أن أفكارهما تسلك طرقات متشابهة. ولكن لماذا يخيل إلى صلاح الدين هذه الليلة، أنه أقدر من نور الدين على تحمل المسرحية التي  تعرض في الدنيا؟ وهل كان يستطيع إبعاده عنها، وأصغر  سكان مملكة الصمت سار إلى الساحة للفرجة!

في طريقهما إليها صادفا حشدا متنوعا، فيه أهل دمشق الذين وقفوا على الأسوار يوم وصل الفرنجة إلى الربوة. والشباب الذين هرعوا لينقذوا صفد. وإحسان كم ألماظ الذي اغتيل في سمخ. ومطران اللد الذي رافق عسكر صلاح الدين وبقي في حطين. وطيار شاب اسمه عمر صفر أسقطت طائرته. وفتيان كان  في ظنهم أنهم سيصلون إلى طبرية. شباب في عمر واحد تقريبا. ماالذي جعلهم يخلعون ثيابهم البيضاء، ويأتون كما كانوا  في آخر أيامهم هناك؟ هل خيل إليهم أنهم يستطيعون العودة إلى هناك ليدفعوا ماحاولوا أن يدفعوه حتى الرمق الأخير؟ لماذا تنظر إليهم يانور الدين؟ لماذا؟ تتبين أنهم فقراء! أنهم كانوا أحيانا معيلي أسرهم، وكانوا أحيانا عشاقا تركوا حبيبات شابات، فلاحين دون أرض، توهموا أن بلادهم هي أرضهم. شباب، متصوفون تبعوا حلمهم الخفاق. لولاهم ماذا كان يمكن أن يفعل سعيد العاص، والشيخ القسام، وفوزي القاوقجي، ذلك الفقير الذي نهشوه بالكلام.  وفرحان السعدي الذي لم يرحم عمره السبعيني الحكم بالإعدام!

لم ينظر صلاح الدين إلى نور الدين! لماذا ياصلاح الدين؟ هل نخجل نحن عن الضحايا، أم عن الإسم والبلاد؟ فكر كل منهما  في السلطة التي  تحيي أو تميت. تسهر على العدل أو تمتص رمق البيوت، وتكبل المدن بالخوف. وتذكر نور الدين الشدة التي أخذ بها نفسه وقاوم بها في نفسه مايهبه السلطان. وفكر صلاح الدين بما اضطر إليه من السياسة كي يقيم الملك الممتد، ويعبر الزمن حتى حطين. اضطر في حياته إلى اللين حيث لم يشأه، لكنه لم ينشر رحمته على من يجب ألا تنشر عليه. قدم لأعدائه الماء بعد حطين، لكنه منعه عمن هاجم الأبرياء.

خلفهما على بعد وقف معين الدين أنر. لعله كان معنيا أكثر من الآخرين بما يراه! شغل معين الدين التفكير في الملك مرات. أمسك العصا من الوسط. وعد وراوغ. وحاول أن يخيف أهله بأعدائهم! هو، يعرف معنى أن يقف عدو في عاصمة البلد! لعنه الناس يومذاك، وسعوا إلى نور الدين. لكن هل ينسى أهل مدينته أنه خرج إلى لقاء الفرنجة؟ فما بال هؤلاء  يحتفلون بالهزيمة كأنها انتصار؟

انتفض معين الدين. نعم، ارتكب الإثم! وحاسبه على ذلك أهل مدينته. لكنه، خرج بنفسه إلى الفرنجة يوم وصلوا إلى الربوة. وصادف في طريقه شيخين حاول أن يثنيهما فقاطعاه: بعنا واشترى! لايزال يذكر تلك الأيام، والناس على الأسوار، والحرب في بساتين دمشق قائمة، وهو يطلب في سواد الليل النجدة من المدن، ينتظرها ولايستسلم، فتأتي راكبة وراجلة، وتطرد  الفرنجة وتلاحقهم.

رأى معين الدين فتيات يلبسن جاكيتات حمراء ويحركن أعلاما من الورق. تحية لمن يابنات؟ وابتساماتكن لمن؟ ولماذا؟ هل تحتفلن بانتصار؟ أليس لكن أقرباء من النائمين في الرمال؟ كيف استنبتم؟ هل ألفتم في المدارس حفظ جواب محدد على كل سؤال، فسهل أن تنفذوا  أوامر الحكام ولو كانت استقبال الأعداء؟ 

تساءل صلاح الدين هل تعبر نظرة نور الدين عن الاحتقار أم عما هو أكثر من ذلك مما لايستطيع أن يسميه؟ هز رأسه وقال لنفسه: نور الدين متصوف من المتصوفين في حب البلاد! أشد مايؤلمه أن يبتسم  المهزومون، وتبدو الخيانة سياسة، والمتخاذلون سياسيين!

- ياصلاح الدين كيف أصبح هؤلاء حكاما، لهم أن يتدخلوا في شؤون كبرى كشؤون الحرب والسلام؟ ماذا جرى للبلاد حتى ارتفع هؤلاء إلى هناك!

آه يامعلمي، هل تسألني عما تعرفه وأعرفه؟ دهاء الحاكم، وخوف الرعية! صفق الناس للحاكم. شكروه على الهواء الذي تنفسوه والخبز الذي أكلوه. شكروه على الشمس وعلى السماء والقمر والنجوم. نسوا أنهم هم الذين يزرعون ويخبزون. من الخوف نسوا العصيان. نسوا حتى الأفراح والأعياد. قدر لهم  الفرح  والحزن في أوقات. وعندما وصل موكب الأعداء  كانوا مايزالون يصفقون. فقيل للأذكياء منهم: قدر لامفر منه! وقيل للباقين: انتصار! والبسوا ملابس الفرح الحمراء، وصفوا في المسرح ووضعت في أيديهم الأعلام. فكانوا كما رأيت، زينة في القاعة، مثل رسوم  القدماء.

سمع نور الدين حركة فالتفت. رأى الشباب خلفه وحوله وأمامه، في ملابسهم التي وصلوا بها إلى مملكة الصمت في قديم الزمان.

- هؤلاء الشباب عرفوا تلك البلاد! وماتوا هناك! قل لي ياصلاح الدين، ماعلاقة هؤلاء الواجمين باولئك المبتسمين السعداء؟ أهكذا يبتكر  الحكام  قطع  الأجيال عن الأجيال؟

- يقال هناك: "زمن جديد "،  "عصر جديد". يجب إذن أن ينقطع اولئك عن هؤلاء!

كان القسام آخر من وصل. هل في متابعة هذه المسرحية الصغيرة من فائدة؟ لايزال الصراع بين الشرق والغرب كما تركناه!  تغيرت   فقط  البيارق والأعلام! وكان القسام يتابع الأوهام التي تصور  للأحياء  أن المدن  الباقية تنجو إذا هجروا حيفا ويافا وعكا وطبرية... وأدهشه أن ينسى اولئك الأحياء أن في المدن التي يسامحون بها العدو قبورا، منها قبره، ومزارات، وذكريات. وأن منها حطين نفسها، مقابر شهدائها وقادتها، والبحيرة التي أوى إليها المتنبي، شيخ الشعراء! قال: آه، من يفرّط ببلد  يخسر جميع البلاد! وهل يملك واحد أو مجموعة ذلك القرار؟ كان يعرف حيفا أكثر من بلده. ويقول لنفسه بلدي حيث الخطر على العرب! وكان الخطر حيث  تدفقت الهجرة وحماها الانتداب. فهل تغير الزمان؟ سيبوح  بأمر! الخطر حيث يفسد المال الذمة والأخلاق! قال: وطن الأغنياء رحالة، متنقل، لذلك بدأت من الفقراء.

ردد كلمته سعيد العاص. "نعم ياشيخ! وطن الأغنياء رحالة، متنقل! لم نلتق، وكم التقينا حيث مررت! لم نفكر يومذاك بما يسميه هؤلاء  الأحياء، التوازن الكوني". "لو فكرنا مثلهم، ياسعيد، لما كان لهذه البلاد تاريخ! فأيامنا كانت أسوأ من هذه الأيام. هؤلاء عرفوا زمنا كانوا فيه  أقوياء، مسلحين، بحارة في المسرات، لهم أصدقاء. نحن كنا نبحث عن الفشكة  والقميص وقطعة الخبز!

يا سعيد، أعرف أنك كنت في قميص ممزق! استحى منك  من أراد أن يهديك قميصا، لما يعرفه من عزة نفسك. لكن، انظر إلى  هؤلاء!  مزينون، خاط لهم عدوهم الياقات والأردان، ولعلهم معطرون  وعطرهم من هناك!"

صمت الجمع فجأة. كأنما حدث أمر جلل تحت، في الدنيا. وبدا لهم أنهم يسمعون لغة لايعرفونها. تناوب رجال على أوراق وقعواعليها. " آه، محوا الزمان والمدن والأحلام والقبور والأسماء!"  ودوى عندئذ  التصفيق. بعد زمن من الصمت استدار صلاح الدين عن ذلك المسرح.  اسمعهم  يانور الدين، اسمعهم! يقولون: "ظلت القضية خمسا وأربعين سنة دون حل". هكذا حلوها؟! استمر الاحتلال الفرنجي مئتي عام! جدعت الأنوف، دمرت المدن، سبيت النساء، ولكن لم يجرؤ أحد منا على التنازل  عن البلاد! قبلنا الهدنة في حرب طويلة، ولم نقبل إلغاء مقاومة الاحتلال. هل يتصورون أنهم  بضعفهم، سيأخذون "الأرض مقابل السلام"؟  كلام! إذا  تدفق  الغرباء، خسروا الأرض والأمان! 

حدث اضطراب في المسرح! خرائط مغشوشة! خلاف ! استمع نور الدين إلى الخبر وتبادل النظر مع القسام. وقال لناقل الخبر: يابني، الخطأ ليس  ذلك. الخطأ أنهم يستقبلون العدو في بلادهم، ويقبلون توطينه  بينهم. هل فاتهم أنهم قبلوا سيادته الكبرى في هذه اللحظة؟

قال القسام في كبرياء: يانور الدين، لسنا شهودا! في زمننا، لم نقبل  أقل من ذلك بكثير! وكان الإنتداب يدرب المستوطنين  ويجعلهم جيشا، ويغضي عن طائراتهم ومصفحاتهم، ويجهز مجموعات منهم لتلاحقنا. كانت بنادقنا من مخلفات الحرب، يحكم علينا بالإعدام إذا اكتشفت معنا. ومع ذلك، قاومنا  المستوطنين ودولة كبرى. ولم  نهب الإحتلال اسما آخر! 

تقدم من القسام رجاله الحكماء، وأحاط بسعيد العاص رجاله الأشداء، ثم تقدم شباب وفتيات، غطوا الساحة بالنضارة. كانوا في تلك البرهة بالثياب التي قتلوا فيها، في لون كاكي، وفي ألوان مزهرة. كانوا جنودا من الاحتياط تصوروا أنهم سينتصرون ثم يعودون إلى  قراهم. كانوا جنودا قطعوا الطريق وهم يرفعون الشحم عن أسلحتهم. كانوا جنودا  طردت أمهاتهم وآباؤهم من القرى وقت الإحتلال. كانوا أصدقاء قتلى ومهجرين.  كانوا يسكنون في غرف تحت السلالم، وفي أقبية معتمة، وفي غرف من الطين في البساتين. وكانوا أطباء وطيارين، وكانوا فدائيين لم يعرف أهلهم قرارهم إلا بعد أن نفذوه. رددوا فرادى كلمة القسام ونور الدين: لم نوقع! ثم تجمعت الأصوات وأصبحت صوتا واحدا! وتبين نور الدين عندئذ أن يوسف العظمة  في وسطهم بملابسه التي خرج بها إلى ميسلون. وسمعه يقول:  كنت أعرف أن الإحتلال مقرر، وأننا دون سلاح  ولاطيران. لكننا بميسلون حجبنا  الإعتراف بالعدو، وقاومناه.

في تلك البرهة وصلت أفواج من الأطفال والشباب والفتيات. لاتزال  جروحهم  ظاهرة في رؤوسهم وفي موضع القلب. كانت في وجوههم الصرخة الأخيرة التي صرخوها في الحارات. وماتزال تفوح منهم الغازات. كانت عظامهم ماتزال مكسورة. كان الشباب منهم يحملون أطفالا خنقوا في المهد. وصلوا كما وصلوا إلى دمشق سنة 1936 وفي سنة 1948. وأحاط بهم الجمع. وبدا الجمع ملونا، جميلاً ، مهيبا ورشيقا. حتى ذهل معين الدين أنر من الفرق بينهم وبين الجمهور الذي كان يحضر المسرحية في أسفل الدنيا، ويمثل الفرح والانتصار.

سمع نور الدين همسة فتاة: لهؤلاء مملكة الصمت فقط، ولاولئك  الدنيا! فتوقف، والتفت كما كان يلتفت إلى جريح: يابنتي، لاتخافي من المنتصرين!

في أسفل الدنيا استمر الاحتفال. قيل إن زمنا جديدا يبدأ، وطلب من الضحايا  أن يكونوا عقلاء وأن يبرهنوا على نية حسنة. طلب منهم ألا يخيبوا ظن  الشهود والمحتفلين. وروي أن المباحثات سترسم  سور  الحديقة  التي سيوضع فيها أهل البلاد، وستنظف اللغة من كلمات احتلال، مستوطنات، هجرة، عدوان، وستزين قاعات أخرى للاحتفال بالمساواة بين الأقوياء والضعفاء، وبين الغرباء وأهل البلاد.

من طرف كتفه لمح القسام آخر صور المسرحية وقال: انتفضنا سنة  1936 لنوقف الهجرة، ولم تكن كما هي اليوم! فجذبه سعيد العاص من يده إلى الأمام حيث الشباب. ياشيخ، لسنا اليوم في مسجد حيفا الكبير، فلاتبدأ درسك! قل لي، من بقي في ذاكرة جيلي وجيلك، عبد الرحمن اليوسف، أم  يوسف العظمة! لاتقلق على الأحياء إذا ظل إنسان منهم  يذكرنا هناك!  سيهربنا المخلصون من جيل إلى آخر، ومن حلم إلى حلم! قلقي على الأحياء فقط، ياسعيد؟ قلقي على هؤلاء الشباب الذين يقتلون اليوم مرة أخرى!

كان نور الدين كعادته قد حزر مايجب أن ينجزه. وعندما التفت سعيد رأى رايات مرفوعة، ورجالا على جياد، ومشاة، وآليات حديثة، حشودا متنوعة الأسلحة والملابس والألوان، وملامح تركمانية وشركسية وكردية وعربية. وتبين جمالا نادرا لم يصادف مثله في حياته. جمع نور الدين كل من دافع عن هذه البلاد، وأعاد القادة المنتصرين كي يكرروا  نجاحهم، والقادة المهزومين كي يحاولوا الانتصار، وتناسى الأخطاء الصغرى  التي فرقت الأصحاب والأقرباء. جمع من الأزمنة الطويلة  كل من استطاع. نادى حتى أسراب الطيارين وطواقم الدبابات. ولم يتخلف أحد  من شيوخ القسام حتى الجنود الصغار والفدائيين الشباب. وبينهم كانت فتيات بالبنطال ونساء بملابس مطرزة وأغطية بيضاء. وجميع المحكومين بالإعدام. مشى الحشد مهيبا، جميلا. فاستعجل القسام سعيدا، وهو يمسح  من عينيه الدموع. " يالحزن من يفكر في كل هؤلاء، ويالقوة من يفكر في كل هؤلاء !" 

 

 

 جلطة

 

انعقد يومذاك بيني وبينه الحوار . ولم أفهم أني بذلك كنت أعبر البوابة إلى هنا من هناك.

وجدت يومذاك على طاولتي بطاقة باسمي من المدير، تدعوني إلى اجتماع . وقبل ذلك اليوم، كانت حتى رسائلي الشخصية تضيع في غرفة البواب. قرأت اسمي على البطاقة وتساءلت دهشاً : ماذا جرى؟ وسمعت الجواب! يقيم المدير احتفالاً مصوراً يجب ألا يغيب عنه أحد.

مشيت إلى الإحتفال. ورأيت لأول مرة صالون المدير الذي كان محجوزاً للضيوف الكرام . أدهشني أن المدير كان واقفاً عند الباب يستقبل كل واحد منا، يصافحه ويستوقفه ليسأله عن صحته وأسرته وحاله. جلست مع الجالسين في حلقة كبيرة ، وجلس هو في الصدر. قدمت لنا القهوة المرة، وسلال السكاكر . ثم بدأ مديرنا الكلام فقال:

اغفروا لي ما مضى! لنقل معاً: طواه العالم القديم! كان لابد لي ، كرؤساء المؤسسات، من حاجب يمنع وصولكم إلي. كان لابد لي من  سكرتير ينقل لي صورة الواقع كيلا تشوشها الآراء. ولابد من سائق يفتح لي باب السيارة وباب المصعد وينحني فتنحنوا لي مثله. كنت في سياق ذلك الزمان!

من حظنا جميعاً أن ذلك العالم البيروقراطي انهار، كما انهار سور برلين، وأشرق عصر الديمقراطية ، وأصبحنا مجتمعين معاً فيه.

ألتقي بكم اليوم، لأطلب أولاً اعتراف كل شخص به، ولأعلن ثانياً أن مكتبي سيكون كالبيت الأبيض، تستطيعون أن تجتمعوا أمامه رافعين ما تشاؤون من يافطات. بل تستطيعون أن تدوروا أمامه دورات كما يدور المواطنون في تلك البلاد. الحرية شعار هذا الزمن! فلا تخافوا أحداً، ولا تخافوا من شيء! سندخل بجرأة العصر الجديد، وسنبرهن للعالم على مستوانا الحضاري ! فلنقتلع العداوة والكره من القلوب ! أعلن لكم على مسؤوليتي: لا يوجد عدو!

 كان مديري الذي ألقى علينا تلك الخطبة بصوت عميق حنون، واقفاً أمامنا ثم أمر لنا بالمشروبات ، قد سجن مرة أحد الموظفين في الحمام، وحسم رواتب كثير من الموظفين ، وفرض أن تكون جدران مكاتبنا من الزجاج ليرانا ولا نراه . كان يرفض اللقاء بنا، لكنه يفتح بواباته للرجال المهمين أكانوا تجاراً أم سياسيين . وقد صادفه سكرتيره مرة ينحني للتلفون كأنه ينحني لمن كلمه به. كان ذا أعاصير. وقد عانيت شخصياً منه يوم قصف حلمي كما يقصف الورد. كنت مرشحاً للسفر بمنحة لم تتوفر شروطها إلا لدي: لست متزوجاً، وعمري هو المطلوب، اللغة التي أعرفها هي المرغوبة، والخبرة  نفسها تماماً. لكنه رشح مكاني ابن أخته من فوق السطوح دبر له المنحة وأبعدني. قبل أن أتذمر أرسل حاجبه فقال لي: لا نريد كلاماً لا طعم له!  تذكر أن مصير الإنسان في لسانه! ما حدث هو القانون في المؤسسات والأحزاب والمنظمات والهيئات، وهو سنة في الشرق أكثر مما هو في الغرب، وفي الجنوب أكثر مما هو في الشمال. أيمكن ألا يفضل الواحد قريباً يعرفه على الغرباء الذين لا يعرفهم ولو كانوا أبناء حزبه ومؤسسته وبلده؟! فافهم أنه لا يوجد أحد تشكو ما حدث إليه!

بعد تلك الحادثة لم أرشح نفسي لأمر أبداً، ولو كان السفر إلى الواق الواق. فهمت أن السفر والمنح والوفود والرحلات ليست كما تصورتها، بل لجني المال والفائدة الشخصية. ويوم أدركت ذلك كنت قد فهمت قوانين الحياة.

قلت لنفسي وأنا أسمع كلام مديرنا، انقلب العالم عاليه أسفله إذن، فلم لا ينقلب مديرنا مثله! مع أن ما رأيته حتى الآن هو التحول من الأحسن إلى الأسوأ! لعل صاحبنا جمعنا ليستنجد بنا كي نحميه من الإعصار!

كان زملائي حذرين فأظهروا أنهم يتلقون كلماته كما يتلقون السكاكر. لكنهم من الحذر اكتفوا بتعبير الوجه وتفادوا التعليق. أنا تهورت! قد يكون سبب اندفاعي فوضى العالم التي أكلت صبري. وكنت كثيراً ما أردد في تلك الأيام مهزوز القلب: فليكن! أكثر من القرد ما مسخ الله! فسألته: نحن أحرار إذن كالعصافير، في هذا العالم الجديد؟ ضحك: طبعاً، أعني ما أقول! وهل تظنني دون شغل كي أبعثر وقتي وأوافق علي هدر وقتكم!

كدت أضحك، فقد خطر لي أن قوات الأمم المتحدة وممثلي الدولتين سيؤكدون بالضمانات كلماته. وكثيراً ما كان يخطر لي كلما وقع خلاف بين الجيران أني سأرى قوات الطوارىء تنزل بمروحياتها بينهم، وأن المفاوضين سيتدخلون ويجعلون الخلافات الصغيرة مسائل عظيمة. وقد تشترك في ذلك شركات السلاح! لكني كبحت ضحكتي وقلت في جد: اذن سأجهر بما في النفوس. أعلن في هذه المناسبة التاريخية: لا يستهيويني هذا  العالم المولود! افتتح بالكذب والتدجيل. ولأنقل لك ما يقوله الناس: حروب جديدة، فيها ما في القديمة من قتل واحتلال. العالم أسوأ مما كان. عالم وحشي، تقصف فيه المدن وتغتصب فيها لنساء. فيه قتل على الهوية، على الفكر، أو العنصر، أو الدين، أو الضمير. يحاسب الانسان حتى على ماضيه. ويفرض عليه أن يخلع جلده ويرميه. والعرب في هذا العالم في أردأ حال، تقصف مدنهم، يقتلون، يحاصرون بالنار والجوع والبرد، ويحكم عليهم بأن يعلنوا أن القاصفين الغرباء أصدقاؤهم الحكماء. أمس كنت في التعزية بصديق، فتبينت أن الحاضرين نسوا الميت وجعلوا التعزية بما هو أعظم منه . حتى تصورت أنهم يهزون الأعلام السوداء. وأشد ما أغضبهم أن يبدو المهزومون كالمنتصرين وقالوا غاضبين: زمن لا جغرافية فيه ولا تاريخ! الجديد أن يطلب منا أعداؤنا وأصحابهم من أقربائنا، أن نعلن: العار شرف، والاحتلال تحرير، والوحشية حضارة، والعدو صديق . باختصار: أن نقول اللبن أسود! وهذا ما لن نفعله!

رويت ذلك لمديري أمام الجمع، وقبل أن ألاحظ أنه أصفر، قلت له:أنا مثل اولئك الرجال !ردد بعد أن فكر زمناً:  مستحيل!ذلك مستحيل! سألته: ما هو المستحيل؟ قال: تصور أننا على شاطىء والمركب الذي انتظرناه وصل. وأنا مدير رحلتكم، فهل أترك بعضكم يتخلف عنها؟ فيصبح جزء منا في البحر وجزء على البر؟ قلت له: كأننا لم نكن كذلك حتى اليوم!

جرى بيننا حوار متوتر، تابعه زملائي وهم يخفون ابتسامتهم مرة وينظرون إلي مرة نظرتهم إلى متهور أو مجنون، ويشجعونني مرة خفية كأني أعبر عن المخبأ في نفوسهم. ودفعني ذلك فقلت إن المركب الذي وصل ليس المركب الذي انتظرناه. المهم أن نعرف مسار الرحلة قبل أن نقفز إلى الزورق! والمهم أن نفحصه قبل أن نتراحم عليه ونندفع إليه! يحتمل أن يكون مثقوباً، وأن نحشد فيه كي نغرق! إذا صح أننا في زمن الحرية فلكل منا الحق في أن ينتظر رحلته التي رغب بها طول عمره، لا أن يربط على مركب الشيطان!

ارتبك مديري وقال لي: أنت أفهم من المؤسسات العالمية، والأحزاب العربية والكونية، ومن البارلمانات المحلية والغربية، ومن مجالس الوزراء الدنيوية، وشخصيات العالم القديم التي هرولت إلى بوابات العالم الجديد راجية الدخول إليه؟ أنت أفهم من المنظّرين الذين كتبوا مئات الصفحات في مدح الاصلاحات، وبحثوا في أسسها الفلسفية والاقتصادية، في ثمارها الإنسانية والفنية وبينوا آفاقها الملونة، وتسابقوا في سبل استدانتها واستلهامها في أنحاء الأرض؟  لن ترغمني أن أكون خارج الإجماع العظيم الذي لم يسبقه مثيل في التاريخ!

قلت له: تسمه إجماعاً ويسميه الناس مثلي "هوبرة" لكنه لم يسمعني، بل قال: لن أسمح لك بأن تشوه سمعتنا! لن أربط قدميك وساقيك كيلا تستخدم صورتك وثيقة ضدنا! لكنك ستسير إلى المركب كما نسير إليه. فلو عرف العالم المتحضر أني أسمح لك بمعارضة قضية الحرية والسلام لقصف بيتك الذي يقع على بعد خطوتين من بيتي أو لكلفني بأن أقصفك بيدي. ولا أظن أنك ترغب لي بمثل هذا الموقف بعد حياتنا  المشتركة في مؤسسة واحدة!

انقلب الموقف فأصبحت أنا الذي يجب أن أشفق عليه، وأنقذه من ورطته! قال: كي يمتنع التشويش، ستوقعون مجتمعين على هذا الدفتر فنكون معاً متعاونين متعاضدين. ولم يترك برهة الحوار.

نشر سكرتيره دفتراً مزيناً بشرائط مذهبة، مغلقاً بجلد أزرق، دفتراً ثخيناً لكل منا فيه خانة تعرف به، فيها صورته وفيها مكان بارز لتوقيعه. استل السكرتير القلم، فارتعشنا. قال في حزم ووقار ومهابة: سيتقدم من أعلن اسمه ليوقع بخط واضح أمام اسمه وصفته. قلت: هذا إذن احصاء!  أو إلزام! أجابني: هذا من تحديات الحضارة والحوار والسلام! وستوقع عندما يحين دورك! غضبت: أين حرية الرأي إذن؟ متى باليتم بتوقيعي إلا في لائحة الدوام؟! رماني بنظرة سامة: توقيعك كان ضرورياً في الانتخابات والاستفتاءات! نسيت؟ هذا أيضاً استفتاء! أعلنت في تهور: لن أوقع إلا على ما أختار! لم أختر هذا العالم ولم أسع إليه بل سجل أني ضده! وأني لا أوافق على هذا السلام فإلى جهنم وبئس المصير! هذا ليس تحدي الحضارة بل تحدي الضمير!

قال مديري في هدوء: أعرف أنكم تحتاجون زمناً كي تألفوا الحرية وتتربوا على استعمالها دون أن تضيعوا صوابكم! أعرف ذلك من تجربتي الشخصية! كان عندي مرة طير جميل خطر لي أن أطلقه في الغرفة، فضاع صوابه. كسر الأكواب الثمينة والثريا الجميلة، ووسخ الأرائك المخملية. جن! ولم يعد عقله إليه إلا عندما أعدته إلى القفص. لا أقفاص في العالم الجديد! لكننا يجب أن نتدرب على استعمال الحرية فلا نشمت بنا العدو.

انسحب في مهابة بعد ذلك الكلام . أسرع موظف ففتح له الباب، وانحنى له آخر كما كان ينحني في الزمن القديم. انسحب لأنه يخشى أن ينقل أنه سمع ما أقول! بعد خروجه استقام السكرتير وأعلن في قسوة باردة: تحسب أنك ستسجل اسمك في حلم بعيد؟! لا، لن نسمح بأن يقال أنا تهاونا أو زللنا أو خفنا من الغوغاء! لن نسمح بذلك لمن هو أكبر منك ولا لمن هو أصغر منك! مشكلتك أنك تفكر بعقل العالم القديم. لم تفهم حتى الآن أنه اندثر!

قرر السكرتير أن يقدمني على الآخرين في التوقيع. التفت إلى رجاله المخلصين فدفعوني إلى الدفتر الأزرق ذي الشرائط المذهبة. وعندئذ وقعت. سمعت زملائي يرددون: جلطة! وخلال جنازتي سمعتهم يحصون من سكت قبله في ذلك اليوم. تحدثوا هامسين أحاديث فيها حزن علي وعلى الراحلين. لكن المكبرات كانت تعلن أن قلبي لم يتحمل أفراح الاحتفال بنهاية أكبر صراع في هذا القرن، وبالانتقال من عالم التوحش إلى عالم الحضارة والسلام. حاولت أن أدفع غطاء التابوت كي أعلن الحقيقة للسائرين في الموكب، فوجدته مغلقاً بالمسامير والأقفال. وتذكرت القول الذي كانت أمي تردده: الكذب على الموتى وليس على الأحياء! وقررت أن أصحح لها مثلها عندما نلتقي.

ولهذا وجدت نفسي أفتش الشواهد باحثاً عن اسمها. لم أجده! فطرقت القبور متسائلاً هل سرق مأواها؟ ثم سمعت همس جارتها: أمس طلب من الموتى التوقيع في دفتر ذي شرائط مذهبة يعلن نهاية أطول صراع في القرن! حاولت أمك الانتحار. لكنها لم تستطع الموت مرة ثانية فهربت. وما زالوا يبحثون عنها بالأنوار الكشافة والكلاب. أنصحك يا ابني، لا تذكر اسمها!

 

 

عودة

 

يا لتلك السنوات الشفافة التي عبرها في مملكة الصمت! قبل أن تتبدد تلك المملكة ويفقد آخر أصدقائه.

في نهاية المساء كان يخرج مع صديقه إلى الليل فيتجولان تحت النجوم . ويلاحظان معا أن مملكة الصمت لم تعد تشفي القادمين إليها. ألم يسمعا مرات بكاء رجال ونساء على البيوت التي تركوها، والأموال التي خبأوها؟ ألم ير أنهم حتى بعد أن اجتازوا العتبة إلى مملكة الصمت لم يأسوا على الحياة التي ضيعوها، بل على الأشياء التي جمعوها، والمتع التي قطفوها، والأحقاد التي لم يطلقوها؟

عجز مجلس مملكة الصمت عن حماية مايميز المملكة التي كانت في أيامها الماضية هادئة، يحترم فيها ماتجرفه الحياة خارجها. كأن ريحا استقدمت إلى المملكة نمطا جديدا من الموتى. فماعاد يصدق المثل: لايموت إلا الجيد! باولئك الجدد اختل كل شيء. كانوا يتدافعون إلى الصفوف الاولى، يرفعون أصواتهم ويحركون أذرعهم في خشونة، يجهرون بالرغبة في أن يجعلوا مملكة الصمت الشفافة كالدنيا المعتمة خارجها. بل بدأ بعضهم يستخدم آخرين في كنس طرقات لاتمسها الأقدام، وغسل أكفان بيضاء لاتتسخ. وفي إحدى الليالي أخبره صديقه الأخير أنه سمع مجموعة تفكر بالعودة إلى ملابس الدنيا المزينة المتغيرة، وتخطط لطلبها من بلاد أخرى. بل أحصت تلك المجموعة المعارضين والموافقين المحتملين في التصويت.

في الليالي التالية لم يخرج سكان مملكة الصمت إلى القمر ليتجولوا في أشعته الفضية. بل تفرقوا مجموعات تتآمر إحداها على الأخرى. في البداية نظرت إحداها إلى الثانية مستنكرة. ثم صارت تهز قبضتها متوعدة. ثم جلجلت العظام في أنحاء المملكة. ونسي الموتى أنهم اتفقوا على كتمان مابينهم عن حارس المقبرة، فلم يبالوا بأن يسمع ضجتهم ويعرف سرهم، ويميز تجمعاتهم ويهرع إلى سلاحه!

استعاد مع صديقه الأخير أزمنة مملكة الصمت القديمة، أيام كان السابقون يحيطون بالقادم الجديد ويساعدونه على عبور العتبة، حتى يخلع ماحمله من الغيرة والشره والكيد، أو من البؤس والحزن والغبن! أيام كان الجار يفيق على بكاء جاره ويسهر معه حتى يجفف آخر دموع الوداع! أيام كان الرجال والنساء يخرجون إلى الليل منذ تبدأ العتمة ويستمتعون بما فاتهم في الحياة، بقراءة الشعر الذي لم ينتبهوا إليه، وانتشال الكلام المنسي، والتقاط النجوم التي وقعت على الأرض! كانت تلك الأيام لاكتشاف الخير الضائع من القلب، الخير الذي مرت حياة كاملة دون أن يكشفوه، والعذوبة التي تجعل الروح كضوء القمر. لحماية مارمته المدينة، كي يبقى حتى تتذكره ذات يوم فتستعيده من مملكة الصمت! في الأيام القديمة كان يستطيع أن يتدخل إذا تبين خرقا، فرأى قادما جديدا متكبرا يتوهم أنه يستطيع أن يستمر في مساره الذي تعوده في الدنيا. متى بدأ عجزه وعجز الكثرة عن القلة إذن؟ متى بدأ الفساد ينتشر كالوباء؟

بحث ذلك مع صديقه الأخير وخمن أسبابا متنوعة. خطر له أن السبب الأول هو الخوف الذي استقدم إلى مملكة الصمت التي تجاوز سكانها كل مايهددون بأن يسلب منهم. لكن صاحبه قال له: المال! أجابه: لا! فالمال أيضا دون سلطة هنا!

بعد اختفاء صديقه الأخير أعلن لنفسه السبب القاتل: الضعف الذي استحدثه الخوف والمال في الناجين منهما، وأمور إنسانية لاأحيط بها الآن!

لم يكن أهل مملكة الصمت يخرجون من أسوارها. ولم يعرفوا الشوق إلى حياتهم الاولى إلا في بداية أيامهم فيها، وهم بعد يعانون من أثر الوداع والعواطف الجامحة. وهم لم يتأملوا بعد حياتهم الماضية في هدوء ويتعودوا أنهم خرجوا منها. وكانت مهمة السابقين أن يساعدوهم في عبور تلك العتبة. لو استعملت مصطلحات الأحياء لقيل إن الجنسية الجديدة ماكانت تمنح لهم بالموت فقط والعبور من مملكة إلى أخرى، بل بالعبور الآخر من عالم الصغائر المنهكة إلى عالم الحكمة. عندئذ كانوا يمرون هادئين عقلاء، دون أمجاد ودون ذل. دون غطرسة المناصب أو الجشع إليها أو الخوف عليها، ودون الطاعة الذليلة التي توهم المطيع بعظمة اولئك.

لكن الأيام الجديدة استقدمت الأشواق القديمة. عرفت مملكة الصمت الصراع الأول يوم انقسم سكانها إلى راغبين في الخروج منها وإلى من ينبه إلى قوانينها الرصينة. هل حدث التصويت يوم استكمل ترتيب التوازن الجديد في السر؟ ذهل هو وصاحبه عندما ارتفعت الأذرع كثيرة، جريئة. وكان أول من أظهر الرغبة في الخروج وحرض عليه مجلس المملكة! نعم! ذهل. وقال يالبراءتنا! وردد صاحبه: بل يالغفلتنا!

بعد ذلك اليوم المشهود تدفق سكان مملكة الصمت كل ليلة خارج أسوارها. لم تعد المملكة التي رتبوها بلادهم. أصبحت بلادهم المدينة التي لايحكمونها! في كل يوم كانت مملكة الصمت تضيع بعض سكانها. وكان المفقودون كالمهاجرين الذين لامكان لهم في البلاد الغريبة، يقبلون البقاء على عتباتهم القديمة، تحت مداخل بيوتهم، وفي برد الحدائق العامة، مسحورين بالفرجة على مافقدوه من مجد أو من أمتعة. وكان أعقلهم يكتفي بمراقبة أولاده المحبوبين، بعيون دامعة.

بدلت تلك الأحداث حتى موضوع أحاديثه مع صديقه الأخير. فأصبح يستعرض معه أسماء المفقودين، ويحاول أن يتبين معه القوة التي جردتهم من سنوات الحكمة. ويتساءلان عما يغري الإنسان باستعادة ضعفه بعد أن ينجو من سطوة الخوف والمال؟ فهل كان يتصور أن صديقه القديم، العارف تلك المتاهات، يمكن أن يتوه فيها؟

ذات ليلة لم يخرج من قبره. وفي الليلة التالية لم يبتعد عنه خوفا على روحه مما اجتاح المملكة. لايريد أن يسمع حديث العائدين وهم يصفون ماخيل إليهم أنهم يستعيدونه ولو كانوا على العتبات مع الكلاب والقطط! لايريد أن يرى زهو اولئك الذين عرفهم عقلاء، وهم يصورون عودتهم كأنها نصر. مايزال الرصاص يلعلع هناك! يسمعه في الليل، يطارد المشردين من الأحياء والكلاب. ألم ينتبه إليه هؤلاء العائدون؟

يوم ربط سكان مملكة الصمت أكفانهم، واستعدوا للرحيل مجموعات، دون خجل، خيل إليه في برهة خاطفة أنه هو المخطئ. سمع حفيف الأكفان على الأرض، والموكب يتدافع عند البوابة. واستعاد الشعور الإنساني بالألم. وفهم أنهم استقدموا إليه ذلك الشعور الذي نجا منه سنوات. وعرف أنه لايمكن أن يبقى معزولا عن الخراب الشامل. وعندئذ خف إليه صاحبه، وتجولا معا زمنا يتحدثان عن الأيام القديمة في المملكة التي رتبوها حتى أصبح حلم الأحياء أن يجعلوا مدنهم مثلها. قدموا فيها القتلى الشباب والصغار والمظلومين، زينوا قبورهم بصورهم، ونقلوا إلى المنسي منها أغصان النخل والآس من القبور الأخرى. بل نقلوا إلى جوارها حتى الشجيرات التي زرعها الزوار الأغنياء للمدللين.

تصور أنه مع صديقه يمكن أن يبدأ تأسيس المملكة المهجورة. قال: لنبدأ القصة من أولها! نعرف القوانين التي كانت مألوفة هنا قبل خراب البصرة! ذهب الراغبون في المدينة الصاخبة. فلتزدحم بهم الطرقات والعتبات، وليرضوا على قتلهم مرات! تركوا لنا هذه المساحة الشفافة فلنرتبها كما كانت أيام أتينا إليها! بحثا معا حتى التفاصيل، كيلا تفشل مملكة الصمت مرة أخرى. فهل كان يتوقع تلك المفاجأة العاصفة؟!

يوم خلت المملكة من سكانها، أتاه صاحبه وقال له: سأخرج إلى هناك! فسأله: أنت أيضا؟ رد: ماذا بقي؟!

حقا! تبدد سكان مملكة الصمت، ولم يعد يصادف البياض الفاتن الذي يتجول رشيقا هادئا على أشعة القمر. أقفرت مملكة الصمت من جلساتها وثقافتها. وسمع عويل القادمين مرغمين إليها، وحفيف هربهم في اليوم التالي منها. وحدث مرات أن أعاد الأحياء اولئك الموتى بالقوة ورموهم خلف البوابة. وجرت مشاهد مؤلمة ليس فيها كبرياء. قال له صاحبه: سأخرج لأتبين لماذا وكيف؟ رد ساخرا: ماالفائدة؟ أتبحث أنت أيضا عن الطرقات التي لاعودة منها؟ أتستعيد أنت أيضا مايذل ويوهن؟ وهل كان يستطيع أن يقول أكثر من ذلك؟ ابتعد صديقه الأخير وحيدا، ولم يعد في الأيام التالية. يوم كانت في مدن الأحياء قواعد وأصول، كان يقال: خان الخبز والملح! هو لايستطيع أن يقول ذلك! ولن يقول خان! لابد أن عصرا همجيا قد وصل فانساق حتى سكان مملكة الصمت كالمضبوعين ومدوا رقابهم لمن يضع الرسن فيها.

تذكر يوم تعارفهما. باح يومئذ كل منهما بسبب موته للآخر. وتقاربا من تلك البداية. قال:

- دفعت أربعين ألفا، جمعتها في شق النفس. سمّها خوّة أو إجازة مرور أو ثمن الحرية! لكن السيد الذي قبضها نقل من مكانه في اليوم التالي، فطلب من استلم وظيفته المبلغ نفسه. لم أقدر على الدفع مرة أخرى، فخصوني بأشق الأعمال. مت من القهر!

- ينظر الواحد منا إلى سبب موته في هدوء الآن. يبدو لي أني كنت أستطيع أن أعيش بعض سنوات إضافية. لكني أتساءل الآن لماذا؟ قد يضحكك سبب موتي كما يضحكني الآن. كنت أمشي في الطريق فصادفت رجلا يفتح باب سيارة فخمة، ويظل منحنيا، ورجل قميء ينزل منها ويمشي متغطرسا إلى البوابة. عرفته! تذكرته! كان طالبا كسولا في صفي، يسخر من غبائه الأساتذة والطلاب. بدا لي أني ضيعت عمري هباء. ماالفائدة من الجد والدراسة، من الاندفاع في القلق على الوطن؟ كنت أسقي أشجار الطريق. أطعم القطط الجائعة، أغلق صنابير المياه المفتوحة، أساعد من لاأعرفه، وفي عملي أشتغل كالثور. يوم رأيت ذلك الفاشل وانتبهت أنه يمسك القدر، شعرت بأن ريحا عاصفة تجرفني. عدت إلى البيت، ومت.

في تلك الأيام مات عشرات من أصدقائي. كانت الأيام مضطربة، فتساقطنا بالجلطة واحدا إثر آخر. كأن الدنيا تتخلص من جيل وتطويه لتفرغ مكانه لآخر يناسب الزمان. خيل إلي أن ذلك كان سبب موتي، لكني فهمت فيما بعد أن الموت لايأتي لسبب واحد. في تلك الأيام المضطربة كان الموت يتسرب إلينا مع الهواء.

فقد صديقه الأخير! لمن يبوح بما يخطر له؟ مع من سيحلم باستعادة مملكة الصمت العادلة؟ في تلك الليلة تجول وحده في العتمة. لم يتساءل عن صلاح الدين ونور الدين وست الشام الذين كانوا يحضرون اجتماعات الشعر وينشرون مهابتهم على الحاضرين. فقد اختفوا منذ بدأ تبديل الملابس والإغراء بالمال والتهديد بالخوف. اختفوا مجتمعين مع الشعراء القدماء والعلماء، كأنهم ماتوا موتا لاعودة منه، أو هاجروا إلى بلاد النسيان. لم يتساءل حتى عن الغوغاء التي تبينها خلال الأحداث الأخيرة صاخبة، مشاغبة، متكبرة، ترفع رايات متنوعة تنزل إحداها وتقدم أخرى بما يتفق ومجرى الأحداث وحركة الرياح.

مشى وحيدا، ورددت الجدران وأشجار السرو حفيف أكفانه البيضاء. اكتمل الطوق إذن، فلاراحة هنا أو هناك. ولامأوى من الجنون العاصف بأرض الأحياء والأموات. ولكن أيمكن أن يكون هو العاقل الوحيد في مملكة الصمت؟ خطر له أن يخرج هو أيضا ليتفقد مايسحر الناس. ارتعش. هو؟ هو أيضا يبحث عما يبرر خروجه من مملكة الصمت؟ لا، هو، لن يهجر مملكته! سيعود!

تجول في هدوء. ولم يصادف إلا الأحياء الباحثين عن مكان يبيتون فيه مستندين إلى شجرة أو مستلقين على بلاط القبور. وكاد يضحك من حركة الخروج والدخول! فهؤلاء يتسللون داخلين ويأوون الليل هنا كالسارقين، وأصحاب هذه المملكة يتسللون منها في الليل ويأوون تحت النوافذ والأشجار في السر!

اقترب من البوابة. فليخرج! فليمتحن نفسه وليكشف الحقائق! نعم، فليخرج! لن ينسى أن عودته ضرورة. إذا لم يعد أغلقت مملكة الصمت وطويت من الذاكرة كما تطوى مدن الشرق!

عند الباب تعثر بالقمامة، تجاوزها ومشى إلى المدينة. ودهش. من النوافذ تدفقت ضحكات كالبكاء، وبكاء كالضحك. ولم يدر أذلك من الخوف أم من الجنون. ولم يتبين هل في المدينة احتفال أم مأتم عظيم. واستنتج أن المدينة ضيعت بهجة الأفراح كما ضيعت جلال المآتم. فاختلط فيها البكاء بالنجيب. مشى. لم يعرف في أي من عمريه مشاهد كالتي رآها! ولم يتعرف إلى مكان ألفه! قلب أهل المدينة كل شيء إذن. أحرقوا ذاكرتهم كلها. نبشوا الأرض، هدموا البيوت، بدلوا الطرقات، نزعوا كل ماكان جميلا ووضعوا في مكانه كل ماهو قبيح. كيف استطاعوا أن يوفقوا في ذلك؟!  ياللمهارة؟ تعثر بأحواض وبحرات لم ير مثلها في عمره. كاد يسقط في حفر. لم يتحمل مارآه، فأسرع إلى شارع كان يحب المشي فيه، كانت البساتين على جانبيه، وأشجار الجوز الباسقة تظلل رصيفيه، فيه كان يلتقط حبات الجوز الساقطة من الأشجار فيملأ بها جيبيه.

ليته لم يقصد ذلك المكان! ليته ظن أن الجمال يمكن أن يتخفى أو يهرب في ثنية من ثنيات الزمان. رأى رصيفا عاريا، وسورا عظيما من الحجر، ومدى فارغا. لم يصادف أية شجرة من أشجار الجوز. لو كان حيا لانتحر!

ركض إلى مملكة الصمت. أفلحت المدينة إذن في إعادة الغضب والقرف والخيبة إلى قلبه الذي شفي منها في السنوات الشفافة الطويلة. توقف لاهثا. لمح أشباحا بيضاء تحت العتبات، وقرب مداخل البيوت. وخيل إليه أن الشارع نفسه يمتلئ بحركة المتشردين. هل يسألهم: لماذا بقيتم هنا، فخسرتم مملكة الصمت ولم تربحوا الدنيا؟ هل يسألهم أيمكن أن يصبح الذل عادة؟ أيمكن أن يفسد الإنسان في الدنيا وفي الآخرة؟

لعله لم يشعر من قبل بمثل ذلك الألم. فقد حتى الحلم والذكرى! ويكاد لايدري هل عاش حقا قبل مملكة الصمت أم لا، لأنه لم يجد أية من الإشارات التي كانت مسجلة في دفتر عمره! لم يجد أي مكان كان يتذكره!

مشى إلى مملكة الصمت حزينا، مسرعا، متعبا. خلف بوابتها وقف الحارس يتأمله ساخرا وهو يقترب، حتى أصبحت بينهما البوابة المغلقة.

-  أنت؟! لن تعبر العتبة أبدا! لن أقبلك أبدا في مملكة الصمت! لن أسمح أبدا بذلك التجمع ! أمكنتكم محفوظة! سيزورها الأحياء. وليسكبوا عليها ماء الورد! سيريحكم ويريحنا أن تبقوا أفرادا موتى!       

 

 

المنفي

 

أغمض عينيه. لو أنه لم ير مارآه! كان يعيش وحيدا. وحيدا؟ ماأكثر الشباب حوله! يدرسهم في الجامعة، ويتابع من يسافر منهم ليختص. ومن بعيد تأتي رسائل شباب آخرين إليه. هو نفسه مايزال شابا كالطلاب. يزور الجامعة التي تخرج منها، وتظل غرف الأساتذة حية في ذاكرته. يتفقدها كل صيف. يلتقي هناك بأساتذته المحبوبين. يدعونه إلى العشاء، فيتذوق الطعام والشراب الذي اشتاق إليه، ويلاحظ استقرار الغرف التي يستقبلونه فيها. يقف أمام مكتبات أساتذته ويتفقد ماأضافوه إليها، ويتابع أفراحهم بالحفيد. وهاهو يفكر اليوم معهم بالأيام الجديدة العاصفة. ويستمع إلى نصائحهم: لاتتجول وحيدا! قد تطارد عصابة لونك الأسمر، أو قد يتذكرك شخص كان لايستسيغك! نعم، نحن أنفسنا لانخرج من البيت بعد الغروب! نعم، لانستطيع أن نتجول في هذه المدينة التي كنت تسرح فيها من أول الليل إلى آخره، وكنت فيها بعد منتصف الليل تختصر الطريق فتعبر الغابة المدثرة بالضباب!

يسألونه هل تتذكر الصف الطويل أمام بائع الزهر؟ هل تتذكر الحلوى ذات الرقائق والجوز التي كنت تحبها؟ والفوانيس المعلقة على الحارات؟ والساعة التي كنت تتأمل أشخاصها وهم يخرجون مع دقاتها؟ كنت تقف في طرف الساحة مستمتعا بها. هل تتذكر المقاهي في ثنيات الجبال، ومقاعدها الخشبية، وكؤوس البيرة الكبيرة، والنهر الذي يخترق المدينة، والطريق هناك؟

كان يقصد براغ، بلد جامعته، في كل صيف. لأنه كان محروما من العودة إلى مدينته. فهل كان يتصور أنه يسكت حاجته إلى الوطن، وهو يستعيد هناك كل سنة، الحارات والمقاهي والبيوت والجامعة وأثاث الغرف والأصدقاء؟ تنقل بينها وبين الجزائر عشر سنوات. شغل نفسه بالناس والأمكنة، لكنه فشل في أن يستعيض عن بلده بحب امرأة أو بأسرة! لعل قلبه لاينفتح إلا في سياق سعادة كبرى. تحكمه صور لايستطيع أن يبعدها ليقدم أخرى أصغر منها!

في زيارته الأخيرة، خيل إليه أنه أصبح يشبه أحد أساتذته. أستاذا لم يتزوج، ملأ غرف بيته بمكتبة كبيرة. كان يستقبله في الصباح الباكر. "أستيقظ ياابني مبكرا، أعمل في ضوء النهار، وأنام مبكرا. أنت لست مثلي. أنت شاب. اسهر! براغ حلوة في الليل!"  لكن ذلك كان في الأيام القديمة. فالعاصفة اقتلعت حتى هذا البلد المستقر الحكيم. قال له أستاذه: عندنا لن يستمر ذلك! يفضلون أن يحدث الانقلاب دون فوضى. لكن حياة وأجيالا ستطوى. حتى يستكمل ذلك لاتتجول ليلا، ولاتتحدث بلغتك!

مع ذلك كان هناك أكثر أمانا مما هو في الجزائر. في الجزائر كان الخطر همجيا. لاتستطيع أن تحاور قاتلك أو أن تسأله عن سبب الموت الذي يرفعه عليك. لم يبلّغه أحد الحكم عليه بالإعدام. لكنه كان يشعر بذلك الحكم. وكأنه كان في سنوات حياته يتحرك أمام قضاة سريين، وهو يدرس طلابه، ويدافع عن الإصلاح الزراعي، ويؤكد أن العدل الاجتماعي أساس الملك. ويتحدث عن حرية الرأي التي ترسخ وحدة الوطن. ويرسم آفاقا فيها كثير من الحلم المسنود بالوقائع. ستكون يوم توزع الثروة العربية الكبرى بالعدل بين العرب، ويستطيع المواطن أن يبحر ويمشي ويطير ويسري، ويصعد جبال اليمن السعيد ويقطف منه القهوة، ويجمع التمر من نخل الصحراء، والصنوبر من الغابات، والتفاح والعنب والموز من البساتين والكروم والبيارات. يهبط تحت مستوى البحر، ويرتفع إلى الجبال المكللة بالثلج. ويتنقل بين آثار الحضارة العربية من الصحراء إلى البحر والنهر. يوم نكون هكذا هل يعاملنا الغرب أو الشمال كما يعاملنا اليوم؟ هل يستطيع أن يرسل طائراته فتقصف مدينة تاريخية وتدك فيها الملاجئ والجسور ومصانع الأدوية؟ هل يستطيع أن يمنع العرب من العلم والدواء، ويرعى القوة النووية الإسرائيلية؟ هل تستطيع إسرائيل أن تقصف لبنان وأن تعلن أن القدس عاصمتها الأبدية؟ هل يجرؤ رئيس شمالي أن يعلن أنه علّق ملف القدس، كأنه يملكها؟

اندفع جهاد إلى ذلك الحديث أمام طلابه. نسي أمامهم الموت! فهل كان يقصد أن يستنهض فيهم مقاومة الشر؟ بل كرر ماتعود أن يقوله. أضاف صفحة إلى سجل العمر الذي يحاسب عليه. لاتلم نفسك ياجهاد! لاتستطيع أن تتقدم خطوة؟ لكنك لم تتراجع خطوة!

عاد من الجامعة متوهجا، يردد كلمة أبيه: لايصح في النهاية إلا الصحيح! كان طفلا يومذاك، ومضافة أبيه محطة الثوار إلى فلسطين ومعبر الجرحى والسلاح. ورأى أباه يجلس جريحا على دابة ويدثره بعباءته، ويودعه: لايصح في النهاية إلا الصحيح! وهاهو بعد عقود من السنين يسمع كلمات أبيه نضرة فواحة كياسمين الصباح!

كان يعبر الشارع بسيارة وقت قتلت فتاتان. التفت ذاهلا. رأى صبيتين تقعان على الأرض، إحداهما سافرة والأخرى محجبة. أدهشته السرعة والبساطة التي تطوى بها الحياة! ظل يلتفت. فقال رجل في السيارة: قتلت المحجبة لأنها تمشي مع سافرة كافرة! وضع كفه على فمه، ليمنع صرخة أم ليمنع الغثيان؟ فهم أنه لايستطيع أن يرد موتا عن أبرياء. لايستطيع أن يدافع عن امرأة. لاشهامة اليوم! نزل من السيارة وعبر الطريق، ثم عبر الممر إلى بيته دون أن يتلفت مستطلعا. لن يستطيع أن يفلت من الموت!

قال له زميله في اليوم التالي: كانت الجزائر على القائمة بعد العراق! ستفكك البلاد العربية بالقتال، وبالفقر، وباليأس، وبالأوهام! لاتعاد بالقصف فقط إلى العصور الحجرية. تعاد إلى هناك أيضا بالعصابات! نحن اليوم مناطق حيوية، مواقع آبار ومياه ومعادن وعمال. ولايفترض ذلك أن نكون أقوياء، بل أن تكون إسرائيل قوية لتدير ذلك المشروع! ثروتنا؟ لاتحلموا بها! أحرق العمق الجغرافي، ولن تبقى لنا حبة قمح أو نهر أو قطرة ماء!

في تلك الليلة تذكر مدينته. استحضر وجه أبيه الذي مات في غيابه، وصوت أمه التي ماتت في غيابه. خطر له أن يتصل بأخيه بالتلفون لكنه خشي عليه. استعاد بيته المبني من الحجر الأسود. جلس هناك مواجه الفلاة. غمره ضوء المساء، وبقي ساكنا حتى مشت إليه أمه في العتمة ووضعت يدها على كتفه. شعر برطوبة حبات التين وبدبقها. مسح يده مسرعا حيث أحرقها حليب التين. لم تنضج تلك الحبة. بل نضجت، ياابني، نضجت! ظهر القمر متوهجا، برتقاليا، كبيرا. راقبه وهو يرتفع ويصغر ويصبح فضيا. وأقبل البرد فارتعش. ثم وصل الناس فملأوا المضافة. استقبلهم أبوه. وكانت أباريق القهوة ساخنة على جمر المنقل.

وبدا له أن مايمنعه من العودة إلى بلده سخيف وظالم. ذنبه أنه لم يمسك لسانه، وجهر برأيه؟ كان مخلصا، مستقيما فلم يبحث عن الدروب الملتوية والأقنعة التي تقال بها الحقائق. آه، تبحث عن ذنوبك؟ فهل خطر لك يوما أن تقتل إنسانا؟ هل خطر لك أن تقطع رزق إنسان أو أن تسجن إنسانا؟ هل قبلت أن تعاون من يهاجم بلدك؟ لم تملك غير عقلك ولسانك وأحلامك. كنت أعزل في هذا العالم الذي ينظم فيه الشر والفساد وتحشد في الدفاع عنهما العصابات والسياسة والمؤسسات. بحثت عن سند الحلم في العالم، فانهار ذلك العالم فجأة. لم يبق فيه مأوى تلجأ إليه. الطيور المهاجرة في الشباك. ولافضاء! فهل تريد أن تشخص في هذه الليلة لماذا أنت وحيد وحزين؟ لأنهم هجموا عليك، كما يهجم الظلام على الضوء! أنت المدن المقصوفة، المساجد القديمة والجسور الرائعة التي صوبت إليها القنابل في سيراجيفو. الجامع الأزرق الذي هدم في كابول. الجسر القديم الذي دمر في بغداد. الحقول المحروقة في إقليم التفاح. أصابوك هناك، وهناك، وهناك! لكنك مازلت معافى. لأنك تتذكر مسار حياتك وتمشي فيه مرة أخرى..

كان كل ماحدث فيما بعد تفصيلات. ظل طوال اسبوعين ملقى في بيته على الأرض. لايعرف أحد سواه كيف دفعوه على العتبة بين الموت والحياة. ويحاول هو أن يتكلم، لكن همسه لايصل إلى سمع الأحياء. لم يقرأ أحد عليه الحكم بالإعدام، ولم يطلب منه قاتلوه أن يدافع عن نفسه. ضربة على رأسه، ثم ضربة أخرى على جبهته! سقط على الأرض ونزف دمه وماءه. انصرفوا عندما اطمأنوا إلى موته. وكان يردد في نفسه: آه، يابلد المليون والنصف شهيد! كنت أنشد نشيد الجزائر في المدرسة، قبل أن يصبح نشيدها الرسمي!

ظل يتأمل حياته وحيدا اسبوعين طويلين، طويلين. وزع ماجناه في عشر سنوات على المهاجرين الذين فقدوا عملهم ومأواهم. على الذين انهارت منظماتهم وفقدوا أمانهم. على الذين أصبحوا أفرادا دون مجموعات. على الحالمين بالرحيل إلى بلاد لاتقبلهم. وكان خلال ذلك يسمع طلقات الرصاص في الشارع، ويسمع نداء النساء المذبوحات. تليت عليه أسماء أصحابه المقتولين بعده. وكان ذلك يعلو على صوت الأخبار التي تذاع من راديو بقي مفتوحا قرب رأسه. الأخبار التي تهنئ بأعياد، وتصف احتفالات، وتزين بلادا في يوم هزيمتها، وترفع أقواس النصر في مدن مكسورة. في ثنيات الأخبار هجع القتلى في الشوارع، وتراكمت البيوت المقصوفة، وتطايرت قنابل الغاز والرصاص. حاول أن ينهض ليسند شابا أصيب في رأسه، وفي تلك البرهة فتح الباب ودخل رجال صوروه ورسموه وسجلوه بين القتلى. حاول أن يرتب نفسه، ويستعيد دمه وماءه. حاول أن ينهض، لكنه لم يستطع ، وعندئذ بكى..

أهكذا يعود هو الشاب محمولا إلى مدينته؟ ولأنه كذلك يعبر الحدود؟ لايستطيع أن يتجول في الأسواق المزدحمة والحارات الضيقة! لايستطيع أن يتناول كأسا من نبع بلده البارد! لن يجتمع أهله وأصحابه وجيرانه في المضافة حتى الصباح ليلة استقباله! ولن ترد بيته الصبايا اللواتي تركهن فتيات صغيرات وجئن ليتفرجن عليه! اجتمعت الدموع في حلقه وعينيه. هل كان يتمنى لو يستطيع أن يتجول في البلاد التي كان يرسمها لطلابه في الجامعة، ليختار منها مكانا يؤويه غير مدينته؟ أم كان يريد أن تعتذر له مدينته ليغفر لها منفاه؟ لاتعتذر المدن من أحد، ياجهاد! لايطلب منها مالا تملكه!

شعر بأن مكانه يضيق. ورغم كل مانزفه من مائه، وجد دموعا يذرفها طول الطريق، ووجهه مغمور بالسماء، وهو يهتز على ايقاع حامليه. حتى توقفوا به في مكان واسع لم يعرفه من قبل. على مد العين فاجأته قبور الشهداء. كان مكانه في آخر المقبرة، بين أمكنة كثيرة مجهزة للعائدين. قرأ الشواهد التي عبرها. كان أصحابها شبابا أصغر منه. قتلوا كلهم في غيابه، وحملوا مثله إلى هذه الغابة من بعيد. أطرق في أسى: رغم ذلك مازلتم تنتظرون المزيد من العائدين! لمست يد كتفه. لابأس! آه، نعم! هنا على تخوم المدينة يستطيعون أن يجتمعوا وأن يتحدثوا في حرية. أن يلوموا وأن يعتبوا على من ضيع الزمان. هنا يستطيعون أن يستمروا في عداوتهم عدوهم، ويستطيعون أن يكرروا مايمحى من الكتب والخطابات والجرائد والإذاعات. ويستطيعون أن يعلنوا أن العصابات التي تنزع عن المدن العربية حضارتها، تقتل من سجلهم العدو على قوائم الإعدام.

جفف جهاد دموعه مسرعا. وخرج من مكانه الضيق.. فهم أنهم كانوا ينتظرونه من زمان!

حزيران 1994

 

 

 الغيبوبة

 

تغفو الأشجار في الليل، تهجع العصافير، تتدثر الجبال بالعتمة. تنام. إلا هو! محرم عليه أن ينام! كيف ينام وهذه، كما يبدو، أسوأ الأيام! يقول: جن الناس! نعم، يقول: الناس! مع أن علاقته  بالفقراء تختلف عن علاقته بالأغنياء. يقول: الناس، لأن أبسط رجل في الرعية لم يعد كما كان. من الغضب، من الغبن، من اليأس صار كل منهم يهمس: ألايعيش القانون إلا اذا التزمت أنا به؟! فلان يخترق صدره وفلان يفتت كبده، وفلان يأكل قطعة من قلبه. ومع ذلك لايموت إلا اذا قصصت أنا قطعة قدر الكف من ذيل ثوبه؟!

طوال دهور ظل القانون ساهرا ليمسك بيد قاتل قبل أن ينزل سكينه، وبسارق قبل أن يسطو. كان يهدئ الفقراء قبل أن يندفعوا إلى جريمة. ويردع الأشرار قبل أن يستمتعوا بالإثم. كان يفلت منه كثيرون فيقتلون ويسرقون. فيجلس تحت قوسه، ويمسك بميزانه، ويضع الذنب في كفة، وفي الكفة الأخرى يضع الرحمة والعدل معا. ويقرأ ضمير المذنب وضمير البريء، معا. يعرف أنه غش وغرر به! رأى الضعفاء يقبلون بقروش أن يتحملوا جرائم المجرمين! ورأى الأبرياء يسترون السارقين كي يحفظوا وظائفهم ورواتبهم! رأى الخوف على الرضيع والطفل والبنت! ومع ذلك كان يحكم مضطرا حكما ظالما على بريء اعترف "بجرم"  لم يقترفه. آه، لو قدر له يوما أن يكتب مذكراته لروى كيف هرب مجرمون حكم عليهم قبل أن يصلوا إلى السجن! وكيف وضعت أمامه أوراق ملفقة لكنها موقعة ومدموغة لايستطيع إلا الاعتراف بها! وكيف تبين أن الحرائق افتعلت كي تمحو الأدلة على السارقين، فجعلت رمادا أطنانا من الخشب وقت كان الطالب يتمنى رفا يضع عليه كتبه، أو طاولة يدرس عليها. والفقير يتمنى "نملية"  يحمي بها خبزه وجبنه من القطط! احترقت أطنان من الرز والسكر والفقراء يراقبون في كمد حريقها!

رغم كل مارأى، قدر له ألا يشيب، وألا يهرم، وألا يضعف. قدر له أن يبقى مستقيم العود بثوبه الأسود العريض، وياقته المرتفعه، ووجهه الأبيض السمح الذي لاتمسه غضون، وشعره الفاحم. وقدر  له ألا يشعر بما يشعر به الأحياء من عطش وجوع ووهن ونعاس! فاتصلت حوله الدهور، وهو جالس تحت قوسه الذهبي، وبيده الميزان. تعبره نسمات الشتاء وحر الصيف، يبيضّ أمامه الأفق البعيد ببعض الثلوج أو ضوء الصباح، ولايلاحظ أن الناس عبروا حقبة أو قرنا من الزمان إلا عندما ينتبه إلى أنهم بدّلوا زيهم وغطاء رؤوسهم.

لكنه في هذه الأيام يتبين مالاحظه  في الناس على عتبات قرون الزمان. وقت كانوا يصابون بالذعر أو الجنون، فيندفعون إلى نهش الحياة كأن القيامة غدا! يبدل الأغنياء ملابسهم وبيوتهم وزوجاتهم وأصدقاءهم، ويندفع الفقراء في أحلام يرون أنفسهم فيها كالأغنياء!

كان القانون يفكر في أمور الناس، ويلمس القضايا التي تراكمت أمامه وفي كل منها مايخجل الإنسان من الاعتراف ببعضه. ومع ذلك أعلن أصحابها شهادات الزور، واعتدوا على الأخ والضعيف والمرأة والعجوز. سرقوا أهلهم وأصدقاءهم، خطفوا قوت الفقير والعاجز. في الملفات أمامه شهادات على رشوة القضاة، ورجال الحدود، وعلى سرقة أسئلة الامتحانات وشروط المناقصات وأسرار المسابقات. أكوام من الأموال أنفقت كي تفسد الضمائر والبلاد، أموال مهدورة اشترت مالايلزم، واستبعدت مايلزم البلاد. حسابات سرية في البنوك من أموال البلاد المسروقة. بيوت تديرها الشرطة، تؤجر فيها الفتيات وتقدم فيها المخدرات، والحراس واقفون على البوابات. لديه شكاوى تفرم القلب من الألم، وطلبات نجدة، ونداءات استغاثة! وماذا يعدّ مما تراكم في رفوف قاعته الواسعة؟! 

كان القانون يفكر في ذلك عندما شعر برغبة في النوم تشبه الغيبوبة. تلفت وفحص ماحوله لعله يتبين سبب ذلك الدوار. كان القوس الذهبي الذي جلس تحته دهورا مايزال في مكانه. لكن السماء خلفه بدت كأنها تتحرك. فهل هذا دوار أم رغبة في غفوة قصيرة؟  تذكر أنه فحص مرة  حالة فتاة سقطت في النوم كأنها تسقط في بئر. لم تكن راغبة فيه. ولم يسقها أحد مخدرا. لكنها ألقت فيه بنفسها كي تهرب من إثم تخاف أن تراه. خوفا من أن تشهد جريمة لاتستطيع أن تمنعها. خوفا من أن تكون شاهدة زور لاتستطيع أن تبوح بالحقيقة. فهل هو الآن ضعيف عاجز مثل تلك الفتاة؟ كان آخر ماوزنه بميزانه مقتل شابتين. واحدة قصد الفتى صاحب السيارة أن يغازلها فلحقها على الرصيف بسيارته فدعسها. وصديقتها. كانت القضية واضحة، والمعلومات تبين أن الفتاة كانت تهرب من ذلك الفتى وتستغلظه، لكنه كان مدللا لايفهم أن فتاة يمكن أن ترفضه! أدى الشهود شهاداتهم. فكيف يقبل هو، القانون المهيب، اعتراف سائق أتي به ليعترف بأنه كان، هو، يقود السيارة؟ قلب الأوراق بين يديه وقال: هذا الرجل هو سائق الأب فمن الذي دفعه الى الاعتراف بأنه قاتل الفتاتين؟! ارتكب الأب ذنبين: الأول أنه أفسد ابنه. والثاني أنه يعلمه الهرب من الحساب! هاتوا الأب الى التحقيق! أصدر القانون المهيب أمره إلى شرطيين واقفين أمامه. فنظر كل منهما إلى الآخر، وابتسما! أصدر القانون أمره مرة ثانية، لكن الشرطيين لم يتحركا. ولاحظ القانون أن أحدهما غمز بعينه الآخر. 

فهل شعر القانون عندئذ بالدوار؟ أرخى يده  وترك الميزان على الطاولة، وضع  رأسه على كفيه، وأغمض عينيه. لعله كان متوترا! لعله شعر بخفقان في قلبه! وبعد ذلك شعر برغبة في النوم! هل النعاس الذي اجتاحه رغبة في الهرب مما رآه؟  هل هو غيبوبة أم هرب من اليأس؟ كانت غفوته كحفرة سوداء عميقة، ليس فيها ومض أحلام، وليس فيها مذاق النوم اللذيذ.

في البرهة التي غفا فيها القانون تفتحت الأحلام في المدينة التي يطل عليها قوسه الذهبي. اجتاحتها حركة بناء، حركة سير، حركة إقلاع طائرات وهبوط طائرات. تدفق زوار ورحل رجال أعمال، حطت جميع الأحلام في مخططات. طرد القمر من البلاد، وطرد النسيم والحب والصداقة والإخلاص والوفاء. واكتشف الناس أمورا مهمة  تلمس وتأكل وتلبس وتمتطى. ورأوا في أنفسهم مالم يتوقعوه. وكان الأغنياء في مقدمة ذلك البحث، وخلفهم الفقراء يحاولون أن يتبعوهم، فيسقط بعضهم تحت أقدام المسرعين، لكن بعضهم يتقدم الجمع ويصبح في الطليعة. وحول المسرعين كان أشهر الشعراء وأشهر الكتاب ينشد للمتسابقين ويثير الحماسة فيهم ويصور لهم أيام الرخاء العظيم.  

استمرت غيبوبة القانون زمنا. لكن من زار تلك المدينة ماكان ليتصور أن مثل تلك الإصلاحات والتغيرات تحدث في مثل ذلك الوقت القصير. فكان مضطرا إلى خلع بعض نظرياته في الحياة واعتماد أخرى واقعية. منها أن القرار يمكن أن يخلق طبقة ذات ذوق ورغبات وقوة وأحلام. وأن الفكرة يمكن أن  تنبت الأرض المناسبة لها. ومنها أن الحياة إذا ضاقت بالأحلام الكبيرة، اتسعت لصغارها!

في سرعة كسرعة الضوء حفرت الأحلام مساراتها وتدفقت فيها. وأصبح كل مافي تلك المدينة يوحي بالعظمة. رفعت بوابات عالية تفنن الناس في ابتكار ارتفاعاتها وزخارفها. اقتلعت واجهات البيوت ورصفت بالمرمر. اقتلعت الأشجار وغرست مكانها أبنية عالية. حدث ذلك في سرعة لأن شيخ كل حارة جمع رجاله وقال لهم: افعلوا مايريحكم! فانشغل كل منهم بخطف الأرض القريبة منه، والحديقة التي تجاوره، والرصيف الذي يطل عليه. فأكل كل واحد من الناس بمقدار قوة أسنانه وذراعيه. وبنيت قصور وغرف بسيطة وشرفات وأكواخ. واختفت جبال وأنهار وغابات وحدائق وشواطئ، وصغرت حتى رقعة السماء. فحيث كان الرجل يعجز عن رد جاره الذي يأكل شمسه وهواءه، كان يبحث عن جهة يأكل هو فيها شمس وهواء الآخرين.

وفي تلك المدة القصيرة صنعت ملابس براقة من أقمشة تذوب اذا لامستها الشمس، ورصعت صدور ثياب الرجال والنساء بالخرز والحلي والزجاج البراق، وابتكرت أرائك ضخمة يصغر الجالس فيها، وأطعمة زاهية نصح صانعوها أهلهم بأن يتفادوها كيلا يصابوا بالأمراض، وأنواع من الشراب ملونة بالصباغات ذات أسماء رنانة، واستوردت مركبات عجيبة الأشكال، وأنشئت شرفات دوارة ومطاعم دوارة وأبراج دوارة تطل على أبراج. ولم تغضب تلك الألوان الصاخبة والأنوار المتوهجة الجياع في تلك المدينة، بل رتقوا ملابسهم ليظهروا في أحسن حال، وبحثوا عن قطعة من طريق توصلهم الى مشروع ما، ولو كان صبغ الخروق لتقدم كشرائط زاهية للاحتفالات. بل عرفت حتى حاويات القمامة مشروعا يمد منها الازدهار. فسمى الباحثون زمن غيبوبة القانون زمن الصحو والإعمار والرفاه. وأضافوا إلى تلك الصفات فيما بعد: الأمان.

في ذلك الزمن المليء بالحركة مشت فتاة تبحث عن طريق توصلها إلى بوابة تتسلل منها هاربة من البلاد والزمان. يامسكينة، إلى أين؟ الطرقات فقط لمن يسعى إلى مشروع ما! وبمثل مشيتك لايسعى أحد إلى منفعة! لا! يجب أن يكونوا حذرين! إلى أين يافتاة؟ ماذا تقصدين؟ آه، يخشون أن تكون  اكتشفت مشروعا سريا لايعرفونه بعد، اتفاقا مع شركة استثمارية خطفته! أو لعلها مكلفة بالبحث عن سمسار له! تخاف أن تعترف بالحقيقة! لحقوها، فركضت هاربة. التقطوها: قولي إلى أين؟ من أرسلك؟ مع من اتفقت؟ اعترفي، الصفقة كم؟ من وراء ظهورنا ولكل جهة مرجع في الإتفاقات؟! تلاعب وغدر! عندئذ صرخت الفتاة: النجدة أيها القانون!  نادت القانون الذي أنقذها ذات يوم من الشبهة ومن الدليل، والتقط في ضميرها الصدق وعرف الحقيقة! صرخت: النجدة أيها القانون! فذهل الرجال. هذه الفتاة من زمن مضى فكيف وصلت إلى هذا الزمن؟ في أي عصر ضلت الطريق؟ مسكينة، تنادي الميت  لينقذ الحي! أحاط بها الرجال وتفرجوا عليها كمن يتفرج على حيوان منقرض. ضحكوا، ثم قال أحدهم: اتركوها! هي الوحيدة في هذه البلاد، في هذا الزمان، التي لاتعرف أن القانون في غيبوبة! ذلك دليل غربتها أو جنونها أو غبائها! دعوها! وأنت يابنت، إلى أين ترحلين؟ آه، تخاف أن تقول أبحث عن بوابة لأهرب  من البلاد، من الزمان! قالت: أريد أن أخرج من المدينة! ضحك رجل: مسكينة! لاتعرفين أيضا أن البلاد كلها اليوم سواء؟! ولذلك لاتوجد طرقات إلا للساعين الى الأرزاق! أمامك بلاد وحيدة فقط تستقبل.. الأبرياء! ورفع رأسه إلى السماء. فأطرقت الفتاة. قالت راجية: دلوني إذن الى مأوى القانون، أريد أن أودعه قبل الرحيل! أشار الرجال إلى أرض مهجورة نبت حولها الشوك: هناك! مايزال تحت القوس الذهبي في غيبوبة منذ دهر طويل! لن يسمعك ولن يراك، ومع ذلك لن نمنعك من القيام بواجبك الأخير!

مشت الفتاة مسرعة إلى القوس الذهبي. فرأت مكانا كأسطورة ممزقة، ووجدت القانون غافيا والميزان على الطاولة. انحنت عليه في حنان، ولمست ميزانه المهمل. ياللعجب، في سرعة تراكم الغبار عليه؟! لمست شعره وانسكبت من عينيها دموع على وجنتيه الشاحبتين. وعندئذ فتح عينيه. رآها فتذكر الفتاة التي أنقذها. وفهم أنها تبكي عليه. وعرف أنه غفا زمنا، من اليأس أو من التعب أو من العجز. لمست الفتاة شعره، كما تلمس شعر طفل صغير. ففي تلك البرهة فهمت أنه هو المهيب الجليل الشاب أبدا أصبح مهملا، لاحاجة لأحد به، ولارغبة لأحد به. قالت له: انهض، انهض! لاقيمة له الآن، لكنها مع ذلك تخاف عليه. خلال غيبوبته فك أهل المدينة الزخارف من القوس الذهبي الذي جلس تحته دهورا! سيخطر لهم أن مهابته  من معالم المدينة التي يجمعون من السياح ثمن زيارتها. سينظمون لجانا وشركات لترميم قوسه الذهبي وتلميع ميزانه، ويرفعون الفنادق حوله، وينظمون الزيارات إليه! قالت له: أسرع! ونزعت عنه ثوبه الأسود، وألبسته بعض ثيابها، ولفت رأسه بمنديلها. وبدءآ يغوصان في غمامة شفافة. لم يسألها: لماذا؟ لأنه وهو يبتعد رأى الناس  يردمون البحر ويقصون الجبال ويدفنون الأنهار ويقطعون الأشجار، ينهشون الحياة قبل أن ينهش أحدهم الآخر. فأمسك بيد الفتاة، واستدارا إلى مملكة الصمت.    

 

 

الانفجار

 

هل تردد، هي أيضاً: يهرب النهار قبل أن أنجز ما أريده؟ ويكون العمر هو تلك الأجزاء الصغيرة كالفسيفساء تضع إحداها إلى جانب الأخرى مسرعة في نهاية كل يوم، ويضيع بعضها أو يتكسر بعضها الآخر؟

في الطريق إلى المدرسة، كانت وهي صبية، تلف كتبها بمحفظة خفيفة، وتحمل دواة حاضرة للرمي على من يغازلها. الحب؟ أكثر سعة من ذلك الغزل المسرع! والحب لا يأتي هكذا! كيف يأتي؟ لا تعرف بعد! لكنه سيجد أجنحته ويصل ذات يوم مستقلاً وحراً! تقول لها أمها: احملي القهوة وادخلي! فتجيب: ليبفرج علي أهل رجل لا أعرفه، ولم أوافق بعد عليه؟ ترد أمها: لن يأكلوا منك قطعة! وهل عندك سبل أخرى إلى الزواج؟ بماذا تجيب؟ تقول: الدراسة الآن تشغلني! عندك مانع يا أمي؟ من يستطيع أن ينكر ذلك السبب الوجيه! ليس أهلها، وليس زمنها من يزوج البنات صغيرات ويخرجهن من المدارس! لا تزال في الذاكرة كلمات قاسم أمين!

في الطريق إلى المدرسة، كانت تمشي خفيفة، سريعة، هاوية. تنتبه إلى أشجار الزنزلخت المزهرة، تمر تحتها، تمتص عبقها، تشرب لونها الناعم البنفسجي. سعيدة؟ نعم، سعيدة! أمس نزل المطر غزيراً، مجنوناً، بلّل ثيابها، وصل إلى قميصها، عبرت بحيراته وجداوله. آه، بلّل حذاءها الوحيد! غسلت جواربها، وجففتها على المدفأة. مررت شريط رأسها على بوري المدفأة فكوته. ولكن كيف يجف حذاؤها قبل الصباح؟ هل كان يجب أن تبكي يومذاك؟ لا دمعة! كأن الحياة وعدتها بأنها ستكون كما أصبحت فيما بعد. أتى الصباح مشرقاً، وعبق الزهر والعشب الجديد فوق أكوام تراب منسية في الطرقات. لايزال لونه حتى اليوم نضراً في ذاكرتها. فتح طريق واسع فوق الحديقة التي كانت تجمع صقيع الصباح الأبيض هناك، وتغير المنظر كله، لكنها ثبتته بألوانه وخطوطه نفسها في ذاكرتها وقالت، عندي لن يموت!

أين ذلك البستاني، وبيته الطين، وبقوله، أشتال البندورة والفليفلة والباذنجان التي كان يزرعها في بستانه على حافة طريق المدرسة؟ كانت تتفرج وهي تعبره على حبات الباذنجان اللماعة بين الأوراق، وتشم عبق ورق البندورة، وتلمح الساقية وعلى كتفها شجرة الجوز الكبيرة. وكانت الرطوبة تهب عليها من هناك. كأنها مشت في الحياة كما مشت يومذاك في طريق المدرسة، مستقيمة، تنظر إلى الأفق . يقول من يراها ثابتة، مثابرة، إنها تذهب إليه وقريباً، قريباً تصل!

في طريق المدرسة تعترض إحدى رفيقاتها على مشيتها: تسرعين! ولم العجلة؟ سنصل إلى البيت، وسنكتب الوظائف الثقيلة! حقاً لم العجلة! في طريق المدرسة فتيان يحلمون بفتيات، ورجال يبحثون عن زوجة مناسبة، ومغامرون يبحثون عن صيد، والفتيات يمشين في هدوء، ويستمتعن بذلك وهن يظهرن أنهن لا يلاحظنه، ويحلمن بحب عظيم أو زواج سعيد، وربما بمغامرة صغيرة يتفرجن فيها على لوعة المحب. حقاً، لم السرعة؟

تنظر هي إلى البساتين الباقية على طرف الطريق، وتجمع البرودة التي هبت من المزروعات هناك. ستحب مثلهن ذات يوم. لكن ذلك الحب سيكون واسعاً، أخضر مثل البساتين، يرافقها مثل هذا الطريق إلى الأفق. كيف سيأتي؟ من سيسعى إليه؟ لا تعرف بعد، لكنها مؤمنة بأنه سيكون في وقته لا قبل ذلك ولا بعد . سيأتي كما يأتي زمن المشمش، وستنتبه إليه من بدايته حتى نهايته. لا، ماذا تقول؟ لن ينتهي أبداً!

مشى مرة إلى جانبها في ذلك الطريق نفسه، الشاب الذي تعرفت إليه في الملعب. يبدو أنه أحبها. عبر عن ألمه لأنها تمشي دون أن تنظر إليه. يريد أن يكون هو مكان الأفق الذي يواجهها وهي تسير؟ لا! قالت له الوداع . وعبرت الطريق إلى المدرسة .خلف المدرسة رأت الأفق.

كيف تخلصت من دروس العروض ؟ اف! لم تحبها أبداً . جثمت على السنة كلها! سألت المعلمة: هل كان الشعراء العرب يعرفونه؟ يا للسؤال السخيف! بالسليقة أنشدوا الشعر. لم يعرفوا النحو . ندرسكم ذلك لأنكم دون سليقة!

ماذا تقول هي اليوم في طلابها وطالباتها الذي لا يكتبون بلغة سليمة؟ تقول لهم: تخطئون في اللغة فيجيبون: لكن معادلاتنا صحيحة. ما شأن العلوم باللغة! هل تلومهم أكثر مما تلوم بنتها التي كتبت لها مرة رسالة ركيكة؟ صغيرة؟ ليس ذلك عذراً! يا ربي، ما العمل؟ تناولت حملاً إضافياً، تناقضاً جديداً بينها وبين الجيل الجديد الذي لا يتذوق لغته لأنه لا يعرفها ولا يريد أن يعرفها.

هل قفز العمر بمثل تلك السرعة من الطريق المحفوف بالبساتين الذي مشت فيه إلى المدرسة، إلى هذا الطريق الذي تحف به البنايات وتقود فيه سيارتها الآن إلى الجامعة وهي تلبس طقماً متوهجاً، مرتبة الشعر، جميلة؟ كانت يومذاك تلبس ملابس المدرسة، وجوارب قصيرة. نادتها المديرة: جوارب قصيرة؟ في مدرستي لا أقبلها! " مدرستها؟" . ولكن من يجسر أن يقول للمديرة هذه ليست مدرستك بل مدرستنا؟!

لا تذكر اليوم كيف وجدت تلك الجوارب الطويلة ووضعتها في محفظتها، وصارت تلبسها عند باب المدرسة . تقول لها رفيقتها: عناد! لا يستحق الأمر هذا العناء! ترد: بل طريقة في الحياة، الدفاع عن الرأي يستحق العناء. لتكن للمديرة فقط باحة " مدرستها " حيث اضطر إلى المرور أمامها!

فيما بعد عرفت أن تلك المديرة خرجت في أول مظاهرة نسائية نزعت الحجاب علناً في ساحة المدينة وتحدّت ماء الفضة. تساءلت يوم عرفت ذلك: كيف أصبحت تلك الشابة الجميلة في الصورة بشعة وقاسية كما تبدو الآن وهي مديرة؟! فهل تستطيع أن تتساءل اليوم التساؤل نفسه وهي ترى الناس رجالاً ونساء ينقلبون أمامها من الجمال إلى البشاعة؟ كان يخيل إليها أن الانهيار قرار صعب أو قدر مستحيل. لكنها في هذه الأيام استنتجت حقيقة جديدة: أن الانهيار إغراء سهل، لا هزيمة فقط، وأن الانسان يجب أن يدافع حتى عن ظهره المستقيم . ودافعت عنه! ظلت تحضر دروسها في عناية ، ظلت تصحح أوراق طلابها في انتباه، ظل تراجع المستوى العلمي يقلقها، ظلت تناقش في حرارة المشاكل التي نوقشت مرات. وبقيت تهوى الزهر الذي يعبق في الصباح، وتلبس ألواناً مفرحة، وتوزع نباتاتها في الشرفة الصغيرة، وتزين جدرانها بصور لوحات، وتخيط للستائر حافة من الدانتيل. ظلت تحب البسط الملونة، وشغل الإبرة، وإطارات الصور القديمة.

" هل أمسك بكل تلك الأشياء، وأمسك حتى بأصوات العصافير في ساعة معينة من المساء والصباح، كي أثبت في الريح التي حملت أصحابي بعيداً عن المكان الذي التقيت بهم فيه؟ غير جيرانها وأصحابها ملابسهم. من كانت تصافحه أمس يسحب يده اليوم كيلا تلمسه . يخشى الدنس! هي دنس؟! من كانت تزوره لا يرحب بها اليوم. حاول هدايتها، وعندما نظرت إليه دهشة، ابتعد . عمل واجبه، يئس وانصرف! عمل واجبه في هدايتها، هي التي ابتعدت عن مدينتها وأهلها لتدرس، " اطلبوا العلم ولو في الصين"، ومشت هناك أيضاً ثابتة الخطوة في الريح والثلج، وعبرت الممر بين عصر وعصر، وانتزعت شهادة بالذكاء والتفوق لعالم أتت منه، هي تحتاج أن تهديها امرأة جاهلة؟ أين بقي طريقها الذي تمشي فيه مثابرة مسرعة؟ من جانب سراويل ضيقة، ومن جانب آخر ثياب قاتمة حتى الأرض وبراقع قاتمة. حروب وجرائم . انقلابات وتوبة. ماض يحترق وحاضر يرتجف. كأن ريحاً عاتية جرت الناس إلى الندم على حياتهم الماضية كلها، فنفضوها كما ينفض الغبار عن السجاد. لم يتركوا ثنية يخبئون فيها نزهة أو حباً أو ذكرى . كأن تلك الأفراح كانت إثماً .

عادت هي إلى طريق المدرسة، ومشته كله. خلعت مرة أخرى جواربها الطويلة عند باب المدرسة، ولبست القصيرة وهي تخرج من المدرسة. حمت رأيها! جففت مرة أخرى حذاءها الوحيد المبتل. ماذا تفعلن في الصيف يا بنات؟ لنتبادل الكتب! هكذا بدأ النادي الذي جمع بنات صفها . لنذهب ماشيات إلى الضواحي! لنتعلم كرة السلة! لنتعلم الرسم! لنتفرج على درس القمح! الدراجة؟ السباحة؟ كيف؟ أين؟ بكم؟ أنا التي كنت أسرع في طريق المدرسة، أم السريعة تلك السنوات السعيدة! متى المسابقة يا بنات وما هي الأسئلة المتوقعة؟ حضروا القهوة كي نستطيع السهر حتى الفجر! لكن هل سننجح ؟ تضحك: إذا الشعب يوماً أراد الحياة... قصيدة الشابي التي تعلمناها. نسيناها؟

ثم نادتها رفيقاتها: هنا اسمك على لوحة الإعلانات! الاختصاص؟ إذن كان بينها وبين الحياة حقاً وعد! اتفقنا معاً! بقي الحب؟ فيما بعد سيأتي . هل سيأتي بنفسه؟ ابحثي أنت أيضاً عنه! بين طيات الدراسة وجدته. ناعماً، رقيقاً، دون مواكب، ودون قصائد شعر، دون سهر تحت نافذة المحبوبة، أو ملاحقتها في الطريق. ولم يكن فيه رسل أو بحث عن الخواتم والأساور. استعارت من صديقتها ورداً أبيض للرأس، وكان عندها صدفة ثوب أبيض. وأي عرس جميل! تجولت في المدينة، في الليل كله يومذاك!

قالت لطلابها مرة: كان جيلنا محظوظاً! وتذكرت كيف وجدا بيتاً وكيف حملا إليه طاولة الطعام مع أصدقائهما في الطريق! نعم، في الطريق! وحمل بعضنا الكراسي. وكيف مشينا؟ لم الخجل؟ كان الطريق لنا، لازحمة فيه. وتذكرت كيف ناما في البداية على فراش على الأرض في بيت واسع أغلقا غرفه الفارغة كلها. وهناك استقبلا أصدقاءهما . تذكرت أنها نامت على ذراعه سنوات. تذكرت أن المدينة كانت صغيرة، وجميلة، وخضراء، والأرصفة تسع الناس. قال لها طالب: جيلكم حمل لنا هذه الأيام! حشدتم في أيامكم ما سميتموه نهضة وتحررا وحشدتم أقصى الوهم والعنف! ارتعشت . هل تلومه؟ شاب، والأفق في الطريق إلى الجامعة تحجبه بنايات مرتفعة. أشفقت عليه. أيمكن ألا تملك  إلا الشفقة عليه؟ وهل تستطيع أن تنجد حتى بنتها؟ في برهة شعرت أن الريح عصفت وحركتها من مكانها الذي ثبتت فيه حتى اليوم على طريق المدرسة وطرقات الغربة، وطريق العمل، وثبتت فيه حتى بين حرائق الحرب المجاورة . هل أراد الشاب أن يقول لها انهار كلامكم، انتهى زمنكم! في برهة شعرت بأنها تهرب راجعة لتحتمي ببيتها.

قالت لها زميلتها: المرأة التي تشتغل زادت همومها بيدها. أضفنا إلى هم البيت العمل خارجه! كلت يدي من تصحيح أوراق الامتحانات. ولا شيء يستحق التصحيح! هل كنا على حق يوم اخترنا العلم والشغل؟ وكيف توهمنا أننا أنداد لزملائنا وحالنا هكذا؟ هل تندم هي أيضاً على ما اختارته وتخبىء في صندوق مظلم سري الأمس الذي عاشته؟ سألت زميلتها: كنت إذن  عند الحلاق! كيف عرفت؟ عرفت أيضاً أنك صادفت عنده نساء يرتبن شعرهن خلف الستارة، لأنهن ذاهبات إلى حفلة. وفكرت أننا لا نستمتع بمثل تلك الحفلات ولا وقت لها لدينا؟ ورأيت هناك أيضاً بنات دون السادسة عشرة يرتبن ويصبغن لحفلة العرس، والعريس في الخمسين من العمر! كيف عرفت ؟ كيف؟

في ذلك الصباح كانت قد رتبت هي الفطور، وغسلت هي الفناجين والصحون بعد الطعام، وخرجت  مسرعة من البيت . لن تصل إلا في موعد المحاضرة لا قبله. منذ زمن طويل لم تعد تنام على زند المحب. ولم تعد عيناه معبأتين بالشوق. تخشى أن تعترف: هو أيضاً كالمهزومين، انطفأت فيه النضارة سيبقى ذلك السر بينها وبين الليل، حتى تخضر الدالية في الربيع.بنتها أيضاً    تعود إلى البيت مطفأة العينين. قالت لها:أنت التي تتعلمين وتقرئين، تسبّعين يديك بالتراب،  وتخافين أن تعلقي من شعرك في جهنم! ردت: ذلك أفضل من لبس البنطال أو التنورة القصيرة وقلة الدين.

تذكرت مديرتها القديمة. " في بيتي نفسه!" أسرعت في الطريق إلى المحاضرة . كانت تلبس طقماً متوهجاً، وكان شعرها مرتباً، وكان وجهها جميلاً، وما يزال قوامها رشيقاً. كانت يداها ثابتتين على عجلة القيادة، ثبات خطوتها في الطريق إلى المدرسة. وما تزال تحب النظر إلى الأفق. تساءلت: هل أردد أنا أيضاً أني عشت على غير ما أتمنى؟ وأن النهار ينتهي قبل أن ينجز ما قدرته له؟ ردت في هدوء على نفسها: أنا، لا!

مع أن الريح حملت الغبار والأكياس الوسخة إلى بيتها أمس، فاضطرت إلى تنظيفه، ورغم أنها ستحضر في الليل طعام الغد، ورغم أن دعوة أهل زوجها إلى الغداء ستكلفها نهاراً شاقاً، شعرت بنسيم الصباح المنعش، وبالرغبة في الحياة. وتمنت أن تعود صبية إلى طريق المدرسة، تحمل دواة الحبر، وتمشي مسرعة، مسرعة، وتتلقى نسيم البساتين على طرف الطريق، وتلحق ألوان الغروب المبكر في العودة.

عند الضوء الأحمر صادفت بستانياً يجر عربة خضار. التفتت إليه. نعم هو نفسه! هو ذلك البستاني الذي كان يزرع البندورة والباذنجان ويسقي البستان من الساقية وتهب من بستانه الرطوبة. نظر إليها . هل عرفها هو أيضاً؟ مكان بستانه القديم بناية اليوم. فهل ظل ثابتاً مثلها، فلحق بستاناً القديم بناية اليوم. فهل ظل ثابتاً مثلها، فلحق بستاناً آخر من البستاتين التي تبتعد عن المدينة، وهناك زرع خضاره، وسقاها، وتقف هناك الآن أيضاً شجرة جوز كبيرة على كتف الساقية ؟ لابد أنه عرفها!

كانت تنظر إليه. وفي تلك اللحظة حدث الانفجار. في لمحة خاطفة كالبرق شعرت بأنها كانت تتوقع ذلك. بل كأنها رأته من قبل. لكنها لم تعرف هل كان الانفجار لغما وضع في سيارة فجرت من بعد، أم كان قصفاً من بوارج غريبة، أم كان قنابل رمتها الطائرات . في لمحة كالبرق لم تعد موجودة، فلم تكمل تساؤلها: هل كان موتها نهاية جيل أم نهايتها هي، أم نهاية زمن واحد فقط هو زمنها؟ فعند ذلك الضوء الأحمر تجمعت في باقة أجزاء حياتها كلها، المدرسة، زميلاتها، الطرقات، البساتين، وحتى حذاؤها الوحيد المبتل ومدفأتها نفسها، سريرها، نباتاتها، طقمها المتوهج، ملامح صاحباتها، تجمعت في باقة واحدة ثم تناثرت شظايا.

دمشق 17/7/1993

 

 

 امرأتان في مملكة الصمت

جرّت صاحبتها:

لماذا لاتريدين العودة إلى الحياة؟

مرة أخرى؟ لا!

 وتأملتها هالة وهي تسحب  يدها وتنظر إلى سكان مملكة الصمت. أتفترقان بعد عشر سنوات من الجيرة؟ تركتها تنصرف إلى ماحولها ذاهلة. وخمنت ماتفكر فيه. نعم، انقلب الناس فجأة، كأنهم خبأوا رغبات سرية، دفنوها في أعماق بعيدة! 

نودي أمس في  مملكة الصمت: "من يرغب في العودة إلى الدنيا بشكل آخر، فليقف في الجهة اليمنى! ومن يرغب في انتظار الصراط والحساب فليقف في الجهة اليسرى! في السادسة صباحا تفتح نقاط العبور!"  نظرت هالة إلى يمينها، ففاجأتها جموع  الراغبين في العودة إلى الحياة. هرع إلى هذه الجهة حتى اولئك الذين عاشوا دهرا في مملكة الصمت وألفوا قوانينها، وشفيوا من الغيرة  وحب المال وزينة الدنيا. قالت لصاحبتها: ياأمل، هذه هي الحقيقة! فنظرت أمل إليها عاتبة: أمس لم تكن هذه هي الحقيقة!  وأنت أيضا لم تكوني هكذا! بماذا ترد؟ صمتت وتأملت صاحبتها، وتابعت مايشف من أفكارها.

عادت إلى أمل تلك العاطفة المنسية، الذهول. كانت القاعدة أن الامتحانات الصعبة في الدنيا. وأن امتحان مملكة  الصمت الصعب هو  الأيام  الأولى، وقت تكون الدنيا عالقة بعد بروح القادمين منها! "ما بال هؤلاء يتسابقون  على العودة إلى تلك المهجورة وقد نجونا من بريقها!" التفتت وفحصت الوجوه حولها. أبمثل هذه السرعة تغيرت ملامح الأشخاص الذين عرفتهم؟  تبدلت حتى قاماتهم وحركتهم، فبدت فيها الرغبة في الانتقام، والشهوة إلى المال، والعطش إلى المتعة. ورأت اولئك الذين كانوا يتنزهون أمس  منصرفين إلى  ضوء القمر في مملكة الصمت، يحاولون أن يتقدموا على أصدقاء الأمس  ليأخذوا دورهم. بل سمعت حارس المقبرة  يعلن لهم في ترفع: "لاتتزاحموا! الفرص كثيرة. لن يؤثر الدور على نوع مصيركم!" انتصر الحارس عليهم إذن! هم أنفسهم أعادوه حارسا، يأمر ويمنع!

نعم، عادت الرغبات! لذلك عاد التملق والنفاق والضعف والحسد! تذكرت أمل ماتركته في آخر أيامها في الدنيا، أيام قيل: "عصرنا يؤشر إلى انهيار القيم الأخلاقية والعواطف الإنسانية. يقتل الناس، تقصف المدن، ولايستنهض ذلك حتى الدفاع عن النفس!"

ياأمل، لماذا تستعيدين الآن كل ذلك؟ ألم نتركه عشر سنوات؟

تسألينني ياهالة، أنت العائدة إلى الدنيا!!

استدارت أمل! مسكينة! أعرف عم تبحثين! تبحث أمل عن الطرف الآخر المنسي، عن الذين اختاروا الصراط! لاتتبين أحدا منهم! فتقول لنفسها: لعلني لاأراهم.. تحجبهم عني كثافة الراغبين في العودة إلى الدنيا! لا، ياأمل! لاأحد هناك، لاأحد حيث تبحثين! يخجل حتى الراغب في تلك الجهة من الإعلان عن قصده! من يجرؤ على مقاومة هذا المد العظيم؟ من يجسر علىالايمان بأنه هو المصيب وهذا الجمع الكبير مخطئ؟!

تراجعت أمل خطوة إلى الوراء! قالت لنفسها: ياللهول! ووضعت كفها على عينيها! أيفسد الناس حتى هنا! أينهارون بنداء واحد فقط؟ أتفقد  ويفقدون  حتى هذا المكان الآمن الأخير؟ جرتها هالة. فسحبت أمل يدها: إلى هناك مرة أخرى؟ لا!

في آخر الأيام هناك سهرت أمل الليل كله تفكر في حياتها. قالت لها  بنتها: تركت الجامعة! لافائدة من الدراسة! لن أقبل بعض الآلاف من الليرات في الشهر! سأبحث عن شغل يعطيني ماأستحقه! تستحقينه؟ هل اشتغلت زمنا، وتعبت، وتفوقت فصرت تستحقين أكثر مما تأخذينه؟ تريدين القفز إلى فوق دون تعب؟ آه هذه الشابة، أيضا، تريد من أول العمر الوصول إلى آخر درجات السلم! هذه الشابة، أيضا، تبحث عن الجني السريع  وترمي الهوى  ولذة التعب! لم أكن أقوى من الدنيا لأغريها بغير ذلك! 

اأمل لاتستعيدي ذلك! في أول لقاء بيننا هنا حكيت لي عن خيبتك. ثم شفيت كما يشفى سكان مملكة الصمت! في تلك الليلة فوجئت أمل بعقل آخر لاعلاقة لها به. لم تعرفه ؟ بل لم تعترف به! خيل إليها أنها ستلجأ إلى ابنها. لكنه رجع في تلك الليلة متأخرا. ورأته يربط عصبة على رأسه. من أين استوردت ياابني هذه العصبة؟ وتضع قرطا في أذنك؟ فلتجعل شعرك ضفائر كالبدو القدماء، كي أشعر بأنك نبتة في أرضك!! أرضي؟ أنت ياأمي من زمن آخر! لاتشعرين بأننا في زمن بعده! همك العمل! هواك:  "بلادي"!  لاتوجد بلاد مغلقة اليوم! هذا زمن اللاحدود! قولي لي بماذا كافأك بلدك؟  وبماذا أفادك هواك؟ ركض الناس أمامك وسبقوك. بنوا البيوت وبدلوا السيارات على حساب بلادك! تجولوا في الدنيا على حساب بلادك! غيروا  "بلادك" وأنت تحملين صورها وتركضين! تركضين إلى الخلف!  بلادك  صورة في خيالك، لم تعد توجد في الواقع! آه، من رأى شابا لم ينبت شاربه بعد يكلم أمه هكذا؟ شابا يدين زمنا لايعرفه، وينتسب إلى زمن لايعترف به؟  ماذا قدمت من عمل كي تصبح ذا آراء، ياابني؟ مازلت تأكل على سفرة أمك ياحبيبي! نسيت ياأمي كلماتك؟ كنت تقولين: الرأي حق الإنسان؟ تحاربني إذن بكلماتي وفكري  ياابني؟ هذه موضة العالم اليوم! من فؤادي قتلوني ياحبيبي! لكني رفضت الموت! رفضت الهزيمة هناك. لم أعرف أنك طريق الهزيمة الآخر إلي! هربت منك الحياة ياأمي وأنت تبحثين في الهزيمة والانتصار!

سهرت أمل يومذاك حتى الصباح. كان يصعب  عليها أن تعترف بأنها مهزومة. لاتوجد هزيمة قبل المعركة الأخيرة! وقبل الموت لاتوجد معركة أخيرة! لكنها يجب أن تخرج من الحفرة! أشعلت الضوء، وتذكرت الدنيا التي بنتها قشة، قشة. تذكرت حتى الأيام التي كانت تشتهي فيها النوم  ورأسها يسقط فوق مكتبها، وهي تنهض على رؤوس أصابعها فتغسل وجهها بالماء البارد لتصحو، وزوجها وطفلاها نائمون. تذكرت اندفاعها وحماستها في البيت والشغل. كانت تردد وهي تلهث أن الحياة أكثر سعة من الولد والزوج. وأن الحياة الواسعة هي التي تغمر بيت المرأة بالحب.

خيل إلى أمل في تلك الأيام أن الدنيا الواسعة انفجرت. "في عمري لن تعود! ستعود فيما بعد!" ولكن لماذا ينفجر بيتها؟ لماذا تنهمر فوقها حجارته وتسقط فوقها أشجاره؟ قالت: الناس كالعالم، يتسابقون على  الانتحار. لايفخرون بما فيهم من جمال، بل بما فيهم من بشاعة. كأن الحياة تهرب منهم فيحاولون أن يصيدوا مالهم ومالغيرهم فيها! يدعس الواحد منهم على الآخر ليأخذ لقمة زائدة، وليرتفع مقدار إصبع!

ومع ذلك لم تترك الحياة إلا يوم شعرت بأنها أصبحت دون مكان. قالت: لاأحد يحتاجني، لافي البيت ولاخارجه! يجب ألا آخذ من الشمس والهواء حصة آخر! يومذاك، فقط، ماتت.

سحبت أمل يدها من يد صاحبتها:

لاأريد العودة! لافائدة من العودة في شكل آخر إذا كانت إلى تلك  الدنيا نفسها!

لاتبقي هنا ياأمل! أمامك فرصة لتختاري حياة جديدة! اختاري أن تكوني شجرة أو  طيرا، إذا مللت مصير البشر! انظري! يرحلون كلهم إلى الدنيا! فهل تبقين هنا وحيدة؟ 

سحبت أمل  يدها مرة أخرى:

 سأبقى هنا، وستعودون إلي! وأدارت إلى الجمع ظهرها.

تأملتها هالة. نظرت إلى ظهرها المستقيم. كانت أمل تمشي في الاتجاه المعاكس وحدها. تجري بكبرياء في مجرى مستقل، ضيق، بجانب مجرى هادر يتدفق عكسها. بدا ظهرها المستقيم وسط جمع  يحاول الواحد فيه أن يتقدم على الآخر. وشعرت بأن تلك المبتعدة أقرب إليها من هؤلاء المتسابقين على العودة إلى الدنيا. لكن  قرارها، هي أيضا، كان حاسما.

في الليلة الماضية بعد أن سمعت المنادي  يغري سكان مملكة الصمت بالعودة إلى الحياة، فكرت  بالدنيا القديمة التي تركتها. وتبينت أن عشر سنوات في مملكة الصمت قد انتهت في برهة. عاد إليها كل ماتركته. شعرت بالرغبات القديمة نفسها، بالخيبة القديمة نفسها، وبالأفراح القديمة نفسها!  مشت في الممرات التي هجرتها عشر سنوات. وأدهشها أن  تتبدد مملكة الصمت التي بدت لها مستقرا هادئا، حلما يصعب حتى على الأحياء أن يرسموا تفاصيله. نهضت، ومشت في ضوء القمر. جلست  تحت سروة طويلة. وتساءلت: أيمكن حقا أن أختار العودة إلى الدنيا؟ وأن تختار صاحبتي أمل مملكة الصمت؟! كان يفترض العكس! وعادت إليها التفاصيل.. 

كم كانت  جميلة هناك! قال شيخ مرة وهي تمر قربه: سبحان الخالق! فابتسمت.. لم يبق إلا أن يحبها شيخ! لم لا؟ ماأكثر الذين أحبوها!  في الليلة الماضية تذكرت ثلاثة رجال منهم. وانصرفت إلى استعادة التفاصيل. في البرهة الأخيرة كان يحدث مايباعد بينها وبين المحبوب. لكن قبل ذلك.. كم كان الحب جميلا، وكم كانت مرغوبة! استسلمت للصور، وغمرتها متعة ناعمة كالمخمل.

خففت من الضوء. وبدأت تكتشف أن يده تلتهب كلما صافحته. وعرفت أنه قال لأصدقائه: مربوط بشعرها، تجرني أينما شاءت وأتبعها مطيعا!  كان يبدو سعيدا، منتشيا، وهي تمشي إلى جانبه. وكان يظهر أنه فخور بها. تحدق الآن فيه، تتأمله، تفحصه. ثم تقول: كان حبه حقيقيا!  لكنها كانت صغيرة خلية البال، وكان هو مرهقا. عاش ضعف عمرها. يوم أعلنت عن فرحها لأن فرش البنفسج نزل إلى السوق، وتحدثت عن مواسم ستظل تنتظرها، قال مسرعا: مازال العمر لك جديدا. أنا، تكاثر علي!  لم يخطر لها أنه تساءل: يوم ينثني ظهري، ألن يغريها شاب في مثل عمرها؟ كان ذلك  يوم استوقفه صديقه في الطريق وهي معه، فقال له معرّفا: الخطيبة! فلمحت في عيني صديقه ذهولا وخيبة.

كان فراقهما كالصاعقة، مفاجئا، سريعا، ومحرقا. صادفا مرة  قريبتها. فعرّفته بها، لكنها لم تقل لقريبتها: الخطيب، بل قالت في احترام: الأستاذ! كيف التقى بقريبتها فيما بعد؟ كيف أرسل أهله إليها وخطبها؟ تجهل ذلك! أعلنت تلك الخطبة فجأة! يمر الآن موكب الألم أمامها. وترى نفسها وهي تكتم بكاءها. هل كانت حزينة على الحب؟ بل أكثر من ذلك!  كانت  مخدوعة، لاتستطيع أن تحتفظ حتى بذكرى المحبوب. كان يجب أن تمزق تلك القطعة من حياتها وترميها. بعد سنوات طويلة فهمت أن صفحات الحياة لاترمى. وتذكرت أنه جلس مرة أمامها وقال:هل ستحبينني بعد عشر سنوات؟ كانت صبية لاتعرف بعد  تغير الرغبات. ولم تر من قرب الموت والشيخوخة. ولم تجرب بعد  تحرر النظرة من المحبوب، وطيرانها إلى أفق ممتد بعده. أفهمها العمر فقط سطوة الرغبة، وقرار العقل. لكنها يوم فهمت ذلك رأت ذلك الرجل كما ترى حالة من الضعف. رجلا جرفه هواه، أحب  شابة  في عمر بنته، زين بها ياقته في زهو، ثم اختار بعقله زوجة لايمشي معها!

هل برأته، أو أبعدته، فيما بعد، كي تدافع عن ذلك الجزء من حياتها؟ بعد شهر من الفراق صادفته في الطريق، ورأته ينحني لها في احترام. كادت تضحك! وعبرته خفيفة الخطوة. وفهمت أنها طوته.

كان الرجل الثاني في مثل عمرها. طوله يناسب  طولها. كانت  تردد ضحكته ويردد ضحكتها. لم يظهر بالكلمات زهوه بأنها تحبه. سعادته بها كانت تظهر ذلك. لكنه كان ذاهلا أمام العالم. يوم أحبها كان كل منهما يعرف أنه مايزال يستند إلى أهله. ومازالت أمامهما سنوات من الانتظار. لابأس! فكل منهما موجود في أفق الآخر! ولكن لماذا كانت تبعد شعورها بأنه موثق وثقيل؟ كانت قدماها لاتمسان الأرض كأنها تطير. آه، من يجهل جمال الحب بين شابين في عمر واحد! 

يوم افترقا تذكرت أنه قال مرة كأنه باحث: لايستطيع الرجل أن يضبط نفسه. لذلك قد يقيم علاقة عابرة ولو كان عاشقا. سألته مازحة: والمرأة؟  رد: المرأة من طبيعة أخرى! لم تتوقف عند حوارهما الخاطف، لأنه لم يكن الرجل الذي تحدث عنه، ولأنها لم تكن المرأة التي يجب أن يتميز عنها الرجل.

 كانت واهمة! اعترف لها بأنه في غيابها خلال الصيف أقام علاقة  خاطفة  لم تمس حبه لها! سألته: من هي؟ اعترف.. صديقتها!  

ابتعدت عنه. لايزال يحبها؟  ياللحب الذي لايصمد  إذا غابت شهرا عنه! لكنها فكرت طويلا في تباين طبيعة الرجل وطبيعة المرأة!  طبيعة؟ قرر الرجال  ذلك كي تزيد حقوق الرجل، فيلهو وهو مطمئن إلى  "طهارة"  امرأته. ويكون له دائما مأوى مفتوح الذراعين! هكذا يصبح الحب سجنا تقبله المرأة  وينجو منه الرجل! لحقها. لكنها لم تلتفت إليه. وانشغلت بالتفكير: كان هذا الحب المكتوم الذي انثنى عليه شابان منسوجا إذن في العالم الذي ظنته منصرفا عنهما! تدخل العالم الغريب البشع إذن في حبهما! ولم يكن ذلك العالم هو ماحولها، بل جميع العوالم السابقة التي لم تعرفها هي وربما لم يعرفها أهلها! تبعها. لا! لاأريد قطعتين! أحكم أنا فؤاده، وتحكم الطبيعة  سلوكه! وقالت لنفسها: نجوت! وابتعدت عنه وهو مايزال يتبعها.  كفى!  قال: أيتها الهاجرة! آه، إذن أنا الهاجرة!

عندما  أتى الحب الأخير فحصته من بعد بكل مالديها من المقاييس. راقبت لهفته وخيبته وأساه. تركته يلوب حولها. لم تكن مستعجلة. وكم كان مجنونا وهو يعلن حبه! وقف مقابل بيتها والثلج يهطل. قال الجيران: مجنون.. أو مكلف بمراقبتنا! رأت فوق رأسه قبعة من الثلج، وقالت هي أيضا: مجنون!

 ثم عادت الأشواق تبدل مقاييس الأيام، وتمد الساعات، وتسمعها أصواتا في رعشة الغيمة على الشفق، وفي تنفس الأشجار، وفوح الزنبق، ورنين القمر. وعاشت سنة مع مواسم المضعف  والنرجس وزهر الليمون، مع المطر والزعتر والطرخون. وبدا لها الباذنجان رائعا، ونضارة الكوسا مدهشة. أصغت في متعة حتى إلى صوت الحنفية التي تقطر. وأصبح العمل ممتعا، ولكل من الساعات معنى. سألته مرة  مازحة: إلى متى ستحبني؟ قال: حتى ينتهي عمري! فابتسمت. من يحكم مغيبه! لكن جوابه ممتع!

لم يعترف لها. اعترفت لها صديقتها! باحت لها بأنه يحبها! روت لها: قال لي سأحبك حتى ينتهي عمري! وسألتها: مارأيك فيه؟ رأيها؟  ليست لديه كلمات جديدة يقولها لحبيبة جديدة! مسكين! تسألها رأيها فيه؟! رأيها فيه أمس أم اليوم؟

 لم تشعر بالحزن عليه. حزنها أكبر منه! فقدت الثقة.. بالمواطن! جرى حوار بينها وبين نفسها، قالت:

تقصف القنابل المدن، ويتفرج العالم كل مساء على حرائقها وهو يتناول عشاءه، كأنها موقد! فهل تسلم روح الإنسان وعواطفه؟ يتراكض الناس، وخلال الركض يدعسون فؤادهم..    

تبرئينه ؟

لا! أفسر لماذا ينهار الضعفاء. يتصورون أنهم إذا ركضوا يستطيعون أن يخطفوا قطعة من الحياة. يعجزون، فيتناولون امرأة إضافية.. لايعرفون أن الحصص مقدرة، ولن ينالوا إلا ماقرر لهم!

لكنها يومذاك تبينت أن المحبين لايبتعدون. يختارون صديقة حبيبتهم أو قريبتها. وتذكرت أن زميلتها في المدرسة أحبت  شابا أحبها ثم تزوج صاحبتها. وأن جارها أحب الأخت الكبرى لكنه تزوج الأخت الصغرى.لابد من سبب لذلك..

لم تجد الجواب على سؤالها في الكتب. طبعا يجب أن تبقى بعض جوانب الإنسان مجهولة! وإلا لما استمرت الدراسات. يجد أساتذة الجامعات صعوبة في اختيار موضوعات لطلابهم. فإذا لم يضطرب العالم وتنهار الروح كيف يجدون موضوعات للبحث العلمي!

وجدت الجواب صدفة، وهي تلمح فلاحا يستند إلى الحائط  وزوجته تفرش البرغل على السطح. قالت: ربما كانوا مثل هذا الفلاح! لاهمة للمحب، لذلك يتناول القريبة من يده! بذل الجهد في الحب السابق، ولايستطيع أن يكرر ذلك! عند المرأة التالية، يهمد، يستقر، وهو متوج بالمجد، مزين بوسام الحرب الذي يشهد على جنونه. لايستطيع أن يعيش  ولهان طول عمره! 

ــ  ربما، ربما. لكن يبدو لي أن في الرجل المعاصر أزمنة سابقة، قد يكون منها عصر العبودية، وقت كان يملك زوجته وأخواتها ويملك حتى بناته!

ــ لاأشعر بأن في روحي عصور العبودية! أشعر بأن فيها أزمنة لم تصل بعد !

خيل إليها يومذاك أنها على ذروة جبل تشاهد منه الناس من بعد وتفحص حياتها وحياتهم. لم تشعر بالغيرة، بل شعرت بالأسى لأن اولئك الرجال يتبددون. يمضون دون أن يتركوا ذكريات. وهم؟ هل يستطيعون أن يخرجوا من صناديقهم  صورا تؤكد أنهم عاشوا، يوم يصبح العمر وراءهم، ولاشيء يثبت أنهم عبروا الحياة غير مايتذكرونه ومن يتذكرهم؟ 

أدهشها أنها لاتستطيع أن تستحضر أي لقاء به. لم توفق  حتى في استحضار ملامح وجهه! لكنها من تلك الذروة وصلت يومذاك إلى مملكة الصمت.

فلماذا تترك هذه المملكة الهادئة، وتعود إلى هناك؟ لترى الشيب والقامات التي ضمرت حيث كان الشباب؟ لترى محبيها مع صديقاتها؟ لتنوس مرة أخرى بين الأشواق وبين المرارة، وتذوق الأرق وتنتظر أن ينتهي الليل؟ أتعود لتنحني على عملها مجدة تلهث، والمدللات يعبرنها إلى الصف الأول؟ أتعود إلى العالم الذي تركته متفرجا على الحروب وحرق المدن، وهو يكوم كل مساء القتلى والجرحى وضحايا الحوادث واللصوص؟ ويعلق على جدرانه صور الرجال المسؤولين عنه وهم يبتسمون للمصورين؟

لماذا تعود إلى هناك؟ ليعصف بها الوجد مرة أخرى، لتطير بالفرح وتسقط بالحزن، تغلق نوافذها مغبونة غاضبة، ثم تفتحها لتلتقط طرف شعاع القمر، وتستدعي شدو العصافير الدورية، وتغري بفتات الخبز بقايا الشحارير المهاجرة؟

تبينت هالة أن ظهر صاحبتها أمل يبتعد لأنها هي أيضا تمشي.. تمشي مع الجمع في الجهة المعاكسة. تمشي مع ناس  يركضون إلى انتقام منعهم الموت عنه، إلى مال لم يكن لديهم الوقت كي يخطفوه أو  يسرقوه. وهي؟ تمشي هادئة، خفيفة، إلى عملها الذي غابت عنه، إلى الغبن الذي ستشعر به، إلى الأرق وغدر المحبين..

تنتهي الآن عشر سنوات في  مملكة الصمت، حيث مشت في ضوء القمر بين السرو، ورف ثوبها الأبيض في نسيم الليل. لكن ذلك لم يكن قمر الشتاء الذي سعت إلى السطح لتلقاه، وأهلها حول المدفأة يشوون الكستناء. وقصدته في فناء البيت، ومدت جسمها إليه من الشرفة، وهي بقميص أبيض تجمع قبته العالية ضوءه الناصع، وارتعشت من البرد والوجد وهي تسمع رنين أجراسه! عاشت في مملكة الصمت عشر سنوات هادئة كسماء رائقة، دون رعشة في القلب، دون لهفة، دون أشواق. كان ذلك هو الموت!

مشى الجمع إلى نقاط العبور، مشغولا بالمشروع الذي سيضيع به حياته مرة أخرى. بما سينفق فيه أيامه، ويخسر به عمره  وهو  يتوهم أنه يكسبه. ومشت هي مفتونة بالعودة إلى شمس الشتاء في يوم صاح، لتكتشف أول بنفسج في الحوض، وتتفقد البراعم المبكرة في شجرة الخوخ، لترسم الغيوم على السماء، لتستبقي غروب الشمس، لتقف على الحدّ بين النهار والليل، والضوء يتقدم بكل مافيه من وهج، والليل في جانب من السماء مبهور به.

- أعود إلى هناك!

عند نقطة العبور بين مملكة الصمت والدنيا، أجابت حارس الحدود:

- أعود كما كنت، بالإسم نفسه! 

 

 

القرنفلة

 

كادت تضحك. أنت؟ ماأصغر الآخرة! وكاد هو أيضا يضحك: أنت؟! تركها وكل منهما في المدرسة بعد. اختفت يومذاك، ولم يعرف مكان بيتها الجديد. خطؤه أنه ظنها باقية في ذلك الحي! كان صغيرا، فلم ينتبه إلى تنقل الناس في مدينته، مع أنه سمع حوار أمه وأبيه. قالت أمه: لم يبق في الحارة أحد نعرفه. باع أهل الحارة بيوتهم، أو أخذوا "فروغها"، وانتقلوا إلى أحياء بعيدة. بالفرق بين ثمن البيت هنا وبين ثمنه هناك اشتروا بيتين أو بيتا ودكانا أو شاركوا في مشاريع. لماذا لانكون مثلهم؟

كان فتيا فلم يتصور أن  البنت الجميلة التي تمر كل يوم على رصيف بيته، يمكن أن تنتقل من ذلك الحي. لم يفهم أن المخازن الجديدة التي انتشرت في حارته تعني أن المنطقة غيرت صفتها "من سكنية إلى تجارية". لاحظ أن الستائر نزعت عن نوافذ الطابق الأول من البيوت، وأن  الأبواب أغلقت بأخشاب دقت بالمسامير. وأن تلك البيوت بقيت مهجورة زمنا، ثم حضرت الورشات وهدمت جدرانها. ثم رفعت بوابات ذات قناطر، وظهرت مخازن كسيت بالخشب والرخام. فأصبحت البيوت القديمة ذات الأخصاص والسطوح القريبة من الأرض، غريبة في حيها. صارت تبدو فقيرة ومسكينة كأنها تنتظر من يشتريها ويكسوها لتليق بما يجاورها.

ناولته أمه ذات يوم علبة من الكرتون وقالت له: اجمع أغراضك وضعها فيها. بعنا البيت! فهل كان يستطيع أن يعترض؟ وماأهمية أن يبقى في ذلك البيت بعد أن فقد أصحابه وأولاد جيرانه الذين انتقلوا إلى أحياء جديدة؟! أعطوه عناوينهم يوم رحلوا، وحاول أن يزورهم فركب باصات وسرفيسات إلى أحياء لم يرها من قبل. تاه، وسأل المارين وأصحاب الدكاكين، وصف شكل أصحابه وشكل آبائهم، لكنه لم يهتد في يسر إلى تلك البيوت. كان أصحابه سكانا مجهولين في تلك الأنحاء.

لذلك انقبض قلبه. سيكون هو أيضا مجهولا هناك، لايسلم على صاحب الدكان، ولايصادف أولاد الجيران في الطريق. كم مرة وقع  في هذا الحي على الأرض فهرع إليه الجيران ودهنوا جرحه باليود وضمدوه دون أن ينادوا أهله! كم مرة فتق قميصه وهو يلعب في الحارة، فخاطه أو رتقه الجيران دون أن يخبروا أهله! حدث أن كسر زجاج نافذة في أحد البيوت وهو يلعب بالطابة مع أصحابه! هرب مثلهم وابتعد عن البيت. فركّب أبوه زجاجا جديدا للنافذة المكسورة، وأرسله ليعتذر عما جنى. فسقاه الجيران شراب الورد، شرابا أطيب من الشراب الذي تحضره أمه! أيمكن أن يجد في الحي الجديد البعيد مثل اولئك الجيران؟

نظر إليها وهما يمشيان تحت السرو، وقال لنفسه: بريق عينيها لم يتغير! وتذكر أنه كان مسحورا به. وحكى لها كيف رتب أغراضه في العلبة التي  تناولها من أمه، وانتقل إلى حي بعيد جديد لاأصحاب له فيه. في ذلك العمر تطلب القدمان والعينان مساحات واسعة. يتسلق الفتى الأسوار والأشجار، يقصد الجبل البعيد ليكتشف الصخور والمغاور، يركب الدراجة مع أصحابه ويبتعد عن حارته إلى الربوة، يسبح في النهر سرا ويحاول أن يخفي وجهه الذي لوحته الشمس، ولايمنعه التأنيب من العودة إلى النهر. يكتشف البساتين والأنهار. فكيف يقيد ببيت صغير في بناء، يحتج الجيران فيه إذا جر كرسيا، أو رمى ورقة مشتعلة من النافذة!

هي؟ فقدت يومذاك السطح! كانت تصعد إلى السطح، وترى البلد من مرتفع. تجلس على سقف الدرج، وتنزلق  متزحلقة. تتسلق القرميد وتتفرج على حدائق الجيران من فوق. تغرف الماء من برميل الماء على السطح وتسكبه على نفسها وقت الحر، أمام المدينة والسطوح والحمام الذي يدور في السماء، والغسيل المنشور. السطح مملكتها. وقد فقدتها! السطح في البناء الجديد مشترك بين الجيران كلهم. قد يخطر لأحدهم أن  يتفقد  المدخنة، وقد يخطر لآخر أن ينشر الغسيل، وهي هناك. يراقب سكان الطابق الأخير كل حركة على السطح. تزعجهم الضجة! ممنوع النط على الحبل! بل يشعرون حتى بالخطوة المتسللة! على كل حال، هل تستطيع أن تتحرك في حرية على سطح فيه صواني المربى على الأرض، وفيه الغسيل منشور على الحبال؟

نظر إليها وابتسم: أنت داويتني يومذاك! لو كان في الدنيا، أكان يجرؤ على البوح كما يبوح هنا ببساطة ويسر؟! بحث عنها وقت خروج الطالبات من المدارس. كان يقصد في كل اسبوع مدرستين! يظل واقفا أمامهما حتى  تنصرف جميع الطالبات ويغلق الباب. مرة ناداه أبوه وسأله: ألا تظن أنك بكرت في  متابعة بنات المدارس؟! وصله إذن الخبر! 

  ماذا قلت له؟

- لم أستطع أن أعترف له بأني منذ سنوات أتابعك!!

ابتسمت:

- هل أخذت قائمة بأسماء المدارس من مديرية التربية؟!

- تسخرين مني؟ جردت من المدارس مااستطعت!!

لم يترك فرصة غاب فيها أستاذ أو أجّل درس، إلا أفاد منها! بعد إحدى المسيرات سألوه في المدرسة: لماذا هربت؟ ولم يوفق إلا بكذبة يتداولها الطلاب: دخت! لكن هل كنت أكذب؟

- دوختني ياليلى! جعلتني مثل قيس!

ضحكت ضحكتها نفسها ذات الرنين! الضحكة التي أطل على صوتها من النافذة، فرآها أول مرة وهي تعبر بيته مع زميلتها. يومذاك نظر إلى الساعة وحفظ الموعد، واليوم. كتبت ذلك على الجدار. أعلنت أسرارك على الجدران؟ لا، لايستطيع أن يفك تلك الشيفرة غيري! كنت أكتب ماأريد مقطّعا، كلمة فوق، وكلمة تحت، وأخرى مائلة حولاء! هل تركت شيفرتك في البيت القديم؟ تركتها كي يشقوا في حلها! مسكين! طار البيت! مررت به، فلم أعرف أنه كان هناك. لم يتركوا شيئا منه. لم يتركوا حتى شجرة الكينا أمامه! لولا المخزن المقابل له لما استطعت أن أحدد مكانه! إذن عدت إلى هناك؟ طبعا عدت! تصورت أنك سترمي علي قرنفلة أخرى!

تبوح هي أيضا في يسر! لو كانت في الدنيا لما جسرت على البوح! عادت باحثة عنه. لاتتصور أن ذلك كان سهلا! ركبت باصين! في المرة الأولى كان البيت موجودا، وستائر النافذة ماتزال هي نفسها تلك الستائر المطرزة. ولكن ماذا يمكن أن أفعل؟ هل أقف مقابل بيتك حتى تظهر؟  ضحك: كما وقفت أمام المدارس! قالت: لاأستطيع ذلك! لكني عبرت الطريق مرتين وأنا أحدق في الأرض كأني أبحث عن شيء ضاع مني! فنادتني امرأة من النافذة: يابنتي، ماذا ضيعت؟ قلت لها: قلم الحبر! فأرسلت ابنتها لتبحث معي عنه! عبرنا الطريق مرة ثالثة.. ولم نجد القلم!! ابتسم: كنت أبحث عنك في أمكنة بعيدة، وأنت تبحثين قرب بيتي عن القلم!!  عادت فيما بعد إلى هناك، لكن البيت نفسه كان قد طار، ولم تلمح في أية نافذة من البناء الجديد الستائر المطرزة، ففهمت أنه ضاع.

كان يمكن أن يصادفها أو أن تصادفه في مركز البلد، في الشعلان مثلا، في سوق الحميدية مثلا..  لكنهما لم يلتقيا أبدا. كان يقال: الدنيا صغيرة! لا، أقول: الآخرة صغيرة! تضحك ويضحك! قالت لي أمي: عيناك زائغتان! لو لم أكن أعرفك، لقلت إنك تبحثين عن شخص! سألني أبي وأنا أركض إلى النافذة: أيذهب بعقلك صوت امرأة؟! ركضت يومذاك إلى النافذة لأني سمعت صوت ضحكة خيل إلي أنها ضحكتك! كان ذلك بعد عشر سنوات على فراقنا. بعد عشر سنوات تتذكر ضحكتي التي سمعتها مرة واحدة؟ ستسخرين مني إذا اعترفت لك بأني رفعت غطاء التابوت وأطللت منه وقت سمعت صوتا يشبه صوتك!

ياللمبالغة! لكن اعترافه ممتع! مرت سنوات طويلة دون أن تسمع مثل هذا الحديث الشيق! جلست على حجر تحت شجرة سرو، وجلس قربها. وتذكرا ذلك اليوم الأول. كانت تمشي مع رفيقتها، راجعتين من المدرسة. كانت تلبس مريولا أزرق، وجوارب قصيرة بيضاء، وكانت على رأسها شريطة بيضاء، وحول رقبتها قبة بيضاء مطرزة. كانت تحمل دفاترها بيدها. كان ذلك آخر يوم من أيام السنة المدرسية، والصيف مايزال طويلا أمامها، وماتزال تتوهم أنه سيتسع لما تعجز عن استيعابه مئات السنوات. لم تكن تحتاج إلى قصة مضحكة كي تضحك. وقتئذ رنت ضحكتها، ضحكة سمعها من غرفته التي تطل على الطريق. كأن نافورة البيت فتحت فجأة! كأن أمه غنت فجأة! كأن جارته أمسكت بالعود فجأة! مدّ نصف جسمه خارج النافذة ليتابعها وهي تمشي مع زميلتها. وظل ينتظرها حتى انتهى الصيف وعادت إلى مدرستها.

صار يركض ليتجاوزها. يسرع ليعود ويعبرها وجها لوجه. لكنها لم تنتبه إليه! فانتظرها مرة في نافذته حتى مرت تحتها، وعندئذ رمى عليها قرنفلة حمراء. تدرب زمنا طويلا، واستعان بزميله كي تسقط القرنفلة تماما أمامها. تدرب حتى اتسخت القرنفلة! في البرهة المنتظرة قطف من الإصيص أجمل قرنفلة وجلس ينتظرها. ونجح! وقعت القرنفلة الحمراء أمامها تماما. رفعت رأسها، متلفتة تبحث عمن رماها. آه، لاتنتبه إليه، تبحث في اتجاه آخر! مدّ نفسه من النافذة وقال: أنا! أنا رميتها! فضحكت، ضحكت، ضحكت وهي تنظر إليه. ثم وضعت ذراعها في ذراع زميلتها ومشت مبتعدة!

لم ترفعي رأسك إلى النافذة فيما بعد أبدا! لم أرفعه، لكني كنت أنظر من بعيد إلى نافذتك! لم ترفعي رأسك أبدا حتى عندما كنت أمد نفسي منها! قالت: كنت أسمع أمك تحذرك: ستقع ياقيس!! ضحكت، ضحكت، ضحكت وهي تنظر إليه: هانحن التقينا أخيرا! يكاد يشعر بالحزن وهو يرد: هنا؟! ضيعنا هناك، لنكسب هنا؟! ابتسمت. الحزن ممنوع هنا، وكذلك الندم !

 

 

الزمان

 

ليس أهلها فقراء إلى هذا الحد! ومع ذلك تركوها دون شاهدة من حجر تربط إليها غصون الآس!  كأنها عاشت دون اسم، دون وجه! ينكرونها! من غرس إذن هذه العلبة من المعدن في الطين الهش لتوضع فيها أزهار لم يجرؤ أحد على وضعها؟ من؟ 

زين الأحياء المقبرة في صباح العيد بحزم الآس، وزهر الغريب. حمل بعضهم ورودا وقرنفلا من أحواض البيوت. أتى بعضهم بزنبق أبيض وأحمر تفتح مبكرا هذه السنة. ثم خرجوا من زيارة الموتى إلى زيارة الأحياء، إلى حلوى العيد وروائح الطعام وعبق السمن.

تفرج الموتى من خلف ستائرهم الشفافة على تلك الزيارات. وراقبوا الحزن الطري، والحزن الجاف، ولاحظوا غيرة الأحياء من راحة الموتى الذين تركوا الهمّ لمن بقي في الحياة. وتابعوا حوارا بين الأحياء وبين القبور، لايستطيع الموتى أن يجيبوا فيه على كلمة مما يقال. لو استطاعوا لقالوا لاولئك الأحياء: يوم كنتم تستمتعون بالسمن وتأملون بالعسل لم تغبطونا على الموت! ولقالوا: تتمنون عودتنا، فهل تركتم رقعة بقدر الكف لقدم، أو تركتم شجرة نستظل بها؟ ولقالوا: زورتم الحسابات فهل تقدرون الفوضى التي ستعصف بكم لو تحققت رغبتكم فعدنا إلى الحياة؟ ولقالوا: إياكم أن تغرونا بما تخلصنا منه من عواطف الأحياء! ولجرى كثير من العتاب، وكثير من الغضب والغم. لكن الكلام والصمت كانا موزعين بين جانبين يقول كل منهما لنفسه ماشاء ويتوهم ماأراد!

لم يكن الموتى يتجولون في مملكتهم في أيام الأعياد إلا بعد أن ينصرف الزوار، وتغلق البوابات. وكانوا يبكرون بجولتهم في المساء في تلك الأيام، كي يتأملوا مملكتهم المزينة بالآس والزهر والريحان. ويوزعوا في عدل ماأخطأ في توزيعه الأحياء.  فيفكون أغصان الآس المكتظة على شاهدة ليحملوا بعضها إلى شاهدة أخرى قلّ فيها. وينقلون الورد إلى قبور الشباب والفقراء، ويرشونها بالماء.

هي، لم تكن تعرف، بعد، تلك الواجبات. أحاط بها المساء، فانصرفت إلى ماكانت تحبه في الحياة. آه، المساء! بعد حر النهار، تفتح باب القاعة وتخرج إلى أرض الدار. تغرف الماء بالسطل من البركة وتسكبه على الحجارة البيضاء والسوداء. فتشعر بهواء ساخن يفور من الأرض. ثم تهب الرطوبة، ويصبح الهواء منعشا رخيا. ترفع ذراعها وتسفح الماء على النباتات المصفوفة في طرف أرض الدار. ترفع ذراعها وتنثر الماء على شجرة الليمون، على البنفسج في الأحواض، على الشكرية التي بدأت ترخي أزهارها البنفسجية، على العطرة، على حلق المحبوب، على الدادا والأرطاسيا. تفور النافورة في وسط البركة، وتدور هي حول نفسها وتسكب الماء على الهواء الناعم الذي يعرش على جانب من الجدار، على الهواء الخشن الذي بدأت حبيباته الحمراء تطرز خضرته المصفرة. "ماذا تفعلين يازهرة؟ ذهب بعقلك الحر؟" بل المساء والماء!  آه تفهم الآن لماذا تسمع في البيوت كلها صوت الماء يتدفق من البحرات على أرض الدار، ويسقي الأحواض ويغسل الأشجار، وينسكب في كرم على الحجارة البيضاء والوردية والسوداء. "الماء نعمة الشام!" تسمع كلمات أمها وهي ترش الأشجار بالماء. لاتغسل فقط أوراق شجرة الليمون وشجرة الكباد وشجرة النارنج التي ماتزال مزينة ببعض ثمارها البرتقالية! تغسل روحها من الغبار! تغسل بشرتها البيضاء! تغسل ذراعيها إلى المرفقين، وترش نفسها بالرذاذ! ترفع رأسها. ازرقت السماء! انكسر الحر فاستعادت الدنيا ألوانها! ياللمساء! يغسل المدينة ويعيد إليها الألوان! فلماذا أخرجوها من هناك في تلك الساعة المحبوبة، في المساء؟!

     لم تستطع أن تقول هناك بعض الكلمات. فليست البنت من تقول لأهلها: لاتقلقوا سيتبدل الزمان! لاأتزوج، لأن الشغل قلّ عند الخياط، وعند بائع القماش. لاتمتلئ السوق بالناس قبيل الأعياد! وبائع الحلو لايبيع عشية العيد من حلواه! وأصوات الصواني لاترتفع في بيوت الجيران في طريقها إلى الفران! لكن لاتقلقوا علي! مازلت في أول العمر. سيبرح الزمان هذه الأيام! وسأواكب الزمان!

تسمع أمها: يازهرة، هاتي القهوة! فتحمل الصينية، ويفوح الهيل والبن الذي طحنته قبيل لحظات بالمطحنة النحاس. وتدخل إلى الزوار. نساء على رؤوسهن غطاء، نساء دون غطاء، نساء شابات، نساء في منتصف العمر، عجائز مرتبات. يعانقنها ليعرفن رائحتها، وملمس بشرتها، كما يحدث ذلك تماما في الحكايا عن الزواج. أزمنة قديمة تستعاد! طبعا، حتى العروس عادت تسكن مع أهل زوجها. من يدبر بيتا في هذا الزمان؟! سمعت ياأمي: "في هذا الزمان"؟! العتب على الزمان! لذلك لاتتزوج إلا البنات الغنيات والشباب الأغنياء. من بقي يشتغل ليعيش، وخلال ذلك يضع رجل خبزته على جبنة فتاة.

يازهرة، هاتي القهوة! تحمل الصينية وتدخل إلى الضيوف. تعرف أن الزائرات يبحثن لابنهن عن كنز، آملات باكتشاف. لكن النتيجة واضحة للعميان. ألايقال ركود في الاقتصاد؟ فلنقل ركود مثله في الزواج! تقول الخياطة يتزوج فقط القادمون من الخليج في عطلة الصيف. من بقي  لايرانا ولانراه! ويردد ذلك الحلاق والسمان.

تحمل صينية القهوة وتدخل كي ترضي أمها. لم نكرر ذلك ياأمي؟ كنت تقولين ماعاد أحد يتزوج بهذه الطريقة. فماذا جرى لك؟ أنت معلمة! أستاذة! لكنك ترتجفين من الزمان. أطفأت التلفزيون. لاتتفرجي ياأمي على الحروب هناك! ستقولين لنفسك  ستصل النار إلى هنا من هناك. وتتذكرين ماروته أمك عن "السفر بر" وجوع الناس وبيع البنات! تهب علي رعشتك، لذلك أحمل صينية القهوة وأدخل إلى الزائرات.

لكني حتى اليوم لاأعرف كيف جرف أخي الجنون! أنا سبب  جنونه، أم السبب أنه لم يجد شغلا منذ تخرج من الجامعة؟ مرت سنوات وهو يستأجر، مرة ليقود سيارة تاكسي، ومرة يحاول أن يشتغل عامل تمديدات فيفشل هنا وهناك. لامكان له! مهندس زراعي والأشجار تقتلع والمدينة تندفع إلى المقاولات! يتبين  أن دراسته في الجامعة دون فائدة، وأنه غير مؤهل لما تنفتح له البوابات! يبدو لي ياأمي أن اضطرابه من فشله يدفعه إلى فشل آخر. الزمان ياأمي، الزمان!

وقت دخل مندفعا ومكسورا، أحمر العينين، فهمت أني لست وحدي سبب ذلك الجنون. ولكن كيف أستوقفه؟ أصرخ؟ وهل كانت تكفيك تلك البرهة كي تنزلي من "الفوقاني" إلى أرض الدار التي كنت أسفح عليها الماء؟ كيف أقوى وحدي على رد يده؟ كيف أقول له إني أشفقت عليه في البرهة التي تفصل الموت عن الحياة؟ أعرف أن ذلك ليس النصر الذي بحث عنه! لم يكن  من الإخوة الذين يستبدون بأخواتهم! كان يحملني، كان يدللني، كان يشتري لي قمعا من "النعومة" حتى قلت له: إياك، النعومة تخنق البنات! فحرّمها علي. كان يجلسني في أرجوحة العيد. ويشتري لي من "خرجيته" غزل البنات. ويفسر لي النحو الذي صعب علي، ويجلّد لي دفاتر المدرسة. وبخطه يكتب اسمي على المربعات البيضاء. أخذني معه وأنا صبية إلى السينما! أحرجته النظرات إلي، فصار منذ تلك الأيام يبتسم ويغضي كلما رآني ظاهرة الصبا والجمال.

وصلت زهرة إلى مملكة الصمت قبيل العيد. ماتزال تشعر بالألم. تلمس بكفها رقبتها وتحس بالجرح. مشت وحدها. لاتريد أن يكلمها أحد! لاتريد أن ترى أحدا! يازهرة العاتبة على الدنيا، هنا على من تعتبين؟ لاترد. وتتساءل مقهورة: من غرس تلك العلبة في الطين؟

كانت أحلامها بعيدة عن صينية القهوة وزيارات النساء. لذلك لم تسترسل في الضيق منها. فأدت مايطلب منها كما تؤدى مهمة. لعل بينها وبين أمها مالاينجد فيه الكلام! بينهما العمر. لن تلحق أمها بالزمان المرجو. أما زهرة ففي أول العمر. وعندما تسفح الماء في المساء على الأشجار، تشعر بأن الزمن سيصبح نضرا، ويستعيد الألوان. فهل تستطيع أن تسند رأس أمها إلى كتفها وتقول لها لاتقلقي؟! وهل تستطيع أن تقول لأخيها الذي يكبرها بعشر سنوات  اصبر سنوات أخرى، سيتغير الزمان؟ بم ستجيب  إذا سألوها: أين الإشارات إلى ذلك، يامنجمة الزمان، وفي كل يوم مشكلة أو  نكبة أو زلزال؟ من يتوقع الأمان من الزمان في هذه الأيام؟!

كانت تتجول وحيدة عندما اقترب منها شاب أكبر منها بعشر سنوات. جفلت وابتعدت عنه. لكنه قطع طريقها، فوقفا وجها لوجه. جمعت غضبها كله في عينيها. فقال: اغفري لي! تغفر له؟ هل تصلح المغفرة مافسد؟ هل تعيد إليها المساء في أرض الدار في آخر نهار حار، والماء يبلل ذراعيها وهي ترش به الأشجار؟ هل تداوي المغفرة جرحها المتوهج؟ اسكت، اسكت! آه، تنسين أني عوقبت مثلك! عوقبت؟ فلتعاقب على حمقك! لكن ماذنبي أنا؟ تركته غاضبة، فمشى خلفها. لو عرف جنون أخيها لتقدم وطلب يدها! ماذا تقول؟ وهل كنت أنا أقبلك؟ ماذا يقول؟! لينقذني من الفضيحة؟ أية فضيحة؟ لاأحبك! لست صديقي! أنت جار فقط.. جار من الجيران! جار بعيد عن قلبي! أنا جارة قريبة من قلبك؟ هذا شأنك. لكنك به قتلتني! تطلب يدي؟! تتذكر أنها كانت تهمس لنفسها كلما رأته: هذا آخر رجل يمكن أن أتزوجه! "تطلب يدي؟!"  تنسى أني درست في المدارس وأن هذه الكلمات بعيدة عن روحي! تقول، في المدرسة محجبات أيضا؟ لست منهن! ومن لاتحلم بالحب الذي يوصل هو إلى الزواج؟ في عمرها يبدو الحب حب رجل واحد، حبا يستمر طول الحياة، يزهر ويخضر وهو يعبر العمر.

التفتت. مازال يتبعها. ماذا يريد؟ أن يواسيها؟ وهل توجد في هذا مواساة؟ لكنها تساءلت فجأة: كيف وصل إلى هنا؟ ولماذا يلبس ملابس مملكة الصمت البيضاء؟ وانطفأ غضبها. كان في عمر أخيها. كان صاحبه. وأقرب الأصحاب إلى القلب ابن الجيران. يدق الباب فتفتحه له: نعم هنا! ترفع رأسها وتنادي من أرض الدار أخاها، فينزل الدرجات مسرعا إلى صاحبه، ويغيبان في الحارات. يعودان وهما يحملان كيسا فيه فلافل. يجلسان في أرض الدار، وتأتي هي لهما باللبن والخيار والبندورة وبأنواع من المخلل. ثم تطل عليهما من فوق وهما يأكلان ويتحادثان. من أين يأتيان بكل هذا الكلام، وماذا يضحكهما؟ بعد الدراسة افترقا. بحث أخوها عن عمل. هذا اشترى سوزوكي، وقت وصلت السوزوكي إلى البلد. ثم باعها واشترى سيارة نقل زراعية، وقت وصلت السيارات الزراعية إلى البلد. بعد أشهر غطاها وفتح فيها نوافذ خلفية فصارت سيارة محترمة. دبرها! ثم باعها واشترى ميكرو، عندما أدخلت الميكرويات إلى البلد. قيل عمل شركة مع آخرين. ربما! لأن ملابسه تغيرت، ووجهه صار أنضر. بينما كان أخوها يهرم. في تلك الأيام لم تلق عليه السلام عندما كانت تصادفه في الطريق. ويوم أوقف الميكرو  ودعاها ليوصلها، مستعدا لتغيير خط سيره ودفع المخالفة، مستعدا كالخاطفين لجر الناس الموجودين معه إلى جهة بعيدة عن مسارهم، التفتت إليه في ترفع: أفضل المشي! بأي حق إذن يكتب اسمها على سيارته؟! تسأله بأي حق؟ يوم سمى السوزوكي "الأميرة أمورة" لم يعترض أحد في الحارة! ويوم كتب بحروف كبيرة على سيارة النقل الزراعية "أميرتي ست الستات"  لم يقل أحد لماذا يكرر اسم أميرة. فلماذا جن أخوها، صاحبه من أيام الطفولة، عندما سمى الميكرو المحترم "زهرة ملكت قلبي"؟! تسألني لماذا؟ اسمع لايهمني ذلك كله! لكن سأجيبك لأنك سألتني. أولا، الميكرو ليس محترما! طقطوق، كلما جلست فيه خفت على حياتي! انظر إلى ماتوزعه من دخانه على الشوارع! ثانيا، لايوجد في الحارة من يسمى أميرة. الأميرة مركز، لقب. لكن لايوجد في الحارة زهرة غيري!

ماذا يقول؟ أحقا لم يقصد اسمها؟ هل تناوله في خفة فلم يقدر أنه سيسبب قتلها؟ هل كان يتصور أن صاحبه الدمث، صاحبه الذي مشى معه سنوات في الحارات والشوارع، وصعد معه إلى ذروة قاسيون، وسبح معه في نهر يزيد عند الربوة، وقطف معه المشمش من شجر الغوطة، وتسلق معه عرائش الدوالي، وقطف معه عناقيد العنب قبل أن تحلو، يمكن أن يقتل أخته كالمتوحشين؟ 

كالمتوحشين؟! تتذكر زهرة أن البلد كلها تحدثت عن شاب ذبح أخته في حديقة عامة. وأن أخاها كان من الغاضبين على ذلك الشاب. قال: "لو عاملنا القتل، مهما كان السبب، كما تعامل جريمة لما ذبح ذلك المجنون أخته!"  يومذاك رددت في المدرسة، في فخر، ماقاله أخوها!

ترفع كفها، تلمس عنقها وتطرق. ليس أخي متوحشا! الحياة هي المتوحشة! تلتفت إلى الرجل: أنت أيضا مذنب! كتبت على السيارة بعد شهر: "زهرة أخذت عقلي". في عمرك لايكتب رجل عاقل ذلك! مشت، وتبعها صامتا. تذكرت أنه في مملكة الصمت، مثلها، برداء أبيض، مثلها. هل تسأله لماذا؟ لا، لن تسأله! بل ستسأله! قالت: أنت غرست العلبة في الطين الهش؟ أطرق. يوم مقتلها شطب بالدهان الأسود ماكتبه على الميكرو. ورسم خطوطا سوداء عليه. وعلق شريطا أسود على أنتين بيته وعلى أنتين الميكرو. ثم قطف جميع القرنفل من أحواض بيته، وقصف الزنبق الأبيض، وحزمه باقة  ربطها بشرائط حمراء. وضع الباقة على مقدمة الميكرو، وسار إلى المقبرة. إذن هو الذي غرس العلبة في الطين! هو! لم يجد شاهدة من الحجر يربط إليها الآس، فتناول علبة وغرسها في الطين الهش! أنت، إذن! قال: ضبطني! كنت راكعا.. لم أجد الوقت لأضع فيها الزهور! مسحت عينيها وهي تستدير عنه: اسكت، اسكت..

 

 

أوسع السجون    

 

قال: لو تزوجنا، أكان كل منا هكذا؟ أنا وحيد وأنت وحيدة؟ وحيد، وكل اولئك الناس حوله؟ أعرف أن نساء متنوعات لحقنه. وهل يرد امرأة تقصده؟! الشهامة! وأنا هل كنت وحيدة، والأيام أقصر مما أريد؟ آه، تعلم التنجيم إذن فعرف أن الانسان قد يكون وحيدا وسط المجموعة!

نظرت إليه كما كانت تنظر إليه تماما. بملء عينيها! لم تر شعره الأبيض. بل رأته كما كان يوم عرفته. ابتسمت. مازال يتحدث في حماسة، مازال يظهر الوله ويطلق الهوى! كان هكذا يومذاك. لذلك لم يستطع أن يمشي على سكة القطار في عين الخضراء، ومشت هي عليها تحت ظلال الجوز! كانت النزهة مرتبة كي يكونا معا طوال النهار. وكان الربيع في أوله. وربيع دمشق يومذاك واضح الحدود. من جهة شمس دافئة وزهر وبراعم، ومن جهة برودة منعشة منذ تميل الشمس. والنسيم يحمل من الصباح إلى المساء عبق الزهر ولايملّ. على يسارهما صخور تعشش في كهوفها روح الإنسان القديم. صخور تشد الروح إلى السماء الزرقاء الصافية العميقة. وصخور ينساب عليها النبع. وصخور ملثمة بالأشجار على ضفتي النهر. وكانت الأغصان تمس صفحة الماء المندفع بمثل لهفته. أكانت تحرضه على البوح؟

توقفت على سكة القطار، متوازنة، ونظرت إليه برهة. كان  رشيقا، يزيد الحب من جماله. كان فاتنا بصدقه، بشعره الأسود، بنحافته. وكانت كلماته تنساب، تتدافع، تتألم، ترجو وتحلم. فتوهم أن في يدها فقط مفتاح البوابة إلى سعادته. قالت: رضوان؟ توقف دهشا؟ ماذا قلت؟ من رضوان؟ رجل تحبينه؟ ضحكت: لاأعرفه! رفع رأسه إلى رقعة السماء المطلة بين الصخور والأشجار: ياربي! أكان يشكوها الى رقعة السماء العميقة الزرقة؟ أم إلى إله قديم مختبئ في الكهوف؟ سارت على سكة القطار، وتكاثفت فوقها الأشجار. تبعها على الحصى المفروش على السكة، ثم واكبها. التفتت إليه مرة أخرى وتساءلت: هل سيبقى منه شيء حتى المساء إذا ظل يحترق باللهفة والشوق؟ ارتعش الليل في ذلك اليوم من الرطوبة لكنها لم تشعر ببرد الليل.

مشيا. من طرف بينهما وبين النهر مجمعات من أشجار الحور، ومن الطرف الآخر تظهر بوابات بيوت طينية مغمورة بالشجر ويثغو أحيانا خروف وتطل أحيانا فتاة. كانت تسبقه وهي تمشي على السكة. ثم التفتت إليه فواجهته وهو على بعد خطوات. وقفا ينظر كل منهما إلى الآخر. رأت في عينيه بريق دموع. وبدا في ذلك الخندق الأخضر إنسانا نزل من الجبل  ووقف أمامها وسيما طلق اللغة، نظيف الملابس، ناصع الأسنان. فكادت تقول له: مشيت مثل ذاك الذي سكن في كهوف هذا الجبل، لكن يومذاك لم تكن هناك حدود. وربما لم تكن كلمة "التسلل"  موجودة في اللغة!

هل سألها هناك أيضا، وهي تمشي على السكة وهو يواكبها على الحصى: تتزوجيني؟ وهل قالت له يومذاك: ليتنا نتبع طريق السكة إلى بيروت، كأنها تدعوه الى مدينة خارج الخرائط؟ يصعب عليها أن تربط الأمكنة إلا بالسعادة الواسعة التي كانت تنشرها صحبته. "كنت تلبسين يومذاك تنورة واسعة زرقاء، وقميصا أبيض! وكان شعرك يرف مع حركتك!"  قالت: "كان ذلك هو طراز الفتيات  في تلك الأيام!"

كانت الحياة سهلة يومذاك، لباس الناس بسيط، وفي البلد مقاه تكتنفها الأشجار والأزهار. كانت البيوت تناسب طول الإنسان. كانت الأنهار تعيش والأشجار تعانق المدينة. كانت الأحلام هي الكبيرة لاالبنايات. وكانت أحلامها هي تمتد، لاتحبسها حدود. كانت ايمانا بأن الغد كبستان من زهر المشمش. من يستعجل الزواج يومذاك! تحمي نفسها مم، ممن؟ ولم يكن في مشروعها، وقت يحين الزواج، أن تهاجر من البلاد. قالت: "هل تترك هذه الصخور مكانها؟" لم تكن ذاقت الوحدة، وضعف الإنسان وقت يلين فيقبل ماظن أنه لن يقبله، ويدفع بعد ذلك الثمن.

ماذا جمعهما فيما بعد، وكل منهما بعيد عن الآخر؟ أن الرجل الذي تركاه جالسا على كرسي من القش قرب النهر ليمشيا على السكة، مات مقتولا في  سجن؟ أنهما التقيا في التفكير به، وكل منهما في طرف من الأرض؟

كان يخرج من غرفته كلما سمع خطواتها وهي تعبر الممر إلى أرض الدار التي تظللها شجرة مشمش هندي. لا، ليس "كلما"! كان يتلكأ عندما يغضب منها! وكان أحيانا يفتح نافذته  ليعكس الزجاج صورتها فيراها من غرفته! عرفت ذلك يوم رأت بنت الجيران تراقبه بزجاج النافذة!

كانت تصادف أحيانا بعض الفتيات في أرض الدار، وتفهم أنهن بنات الجيران أتين ليستعرن، في الظاهر، شيئا من صاحبة البيت. وفي الحقيقة كي يجلسن قليلا ويتحدثن معه. لكن ذلك لايعنيها! لماذا يعنيها؟ مابينهما أعمق من أن يخترقه حب آخر. هل كانا يختلفان هنا؟ هل كان يريد أن يكون مابينهما حبا عاديا فيه غيرة وانتظار وغضب، وينتهي بزواج؟

للزمن قرار آخر! وصلتها منه رسالة، مرة. وجد شبيهتها! نسخة أخرى في الشكل واللون والحركة! أحبته تلك الغريبة، وقبل حبها زمنا. كتب في رسالته: "تركتها هائمة تمشي على الأرض!" فغضبت: لايحتاج الرجال نذلا آخر! تركها هائمة؟ غضبت عليه! لم تشعر بالغيرة، بل بالحزن على الفتاة!

يوم التقيا صدفة في مطار من المطارات، كان يودع رجلا، وكانت هي تعبر المطار إلى بلد آخر. نهض ملهوفا عندما رآها. وبرقت الدموع في عينيه. أهناك قال لها إنه ترك شبيهتها وهناك قالت له إنها لامته لأنه جرح فتاة تحبه؟ كانا يكتبان قصة بالعمر، بالأمكنة، كأنهما يصفّانها قطعة، قطعة. لم يتبيناها كاملة إلا هنا في مملكة الصمت. جلسا على حجر، وتناول يدها. قلّبها بين كفيه وقبلها. ركع أمامها. لم تكن أية قطعة منها أقل قداسة من الأخرى. فلماذا تشد قبضتيها وتبعد قدميها! كان هناك إنسانا  تجاوز مايستوقف الرجال أو يقيدهم. كان لايخجل بأن يبوح بحبه كله، ويكشف ليالي شوقه وحزنه. كانت هي أغنيته التي ينشدها أمام الغرباء. فهل أراد أن يحيي قيس ليلى؟ منذ تلك الأزمنة خجل الناس بالحب وأخفوه، وأهانوه كي يظهروا أنهم أكبر منه! فهل تحمل حبك على كتفك من بلد إلى بلد، كي يعيش قيس العرب في العصر؟

في مملكة الصمت عرفت أنصاف الحقائق الأخرى، أنصاف الصور الأخرى، ووضعت الجزء إلى جانب الجزء. لم تفرقهما إذن جروح الحرية، والحدود، والرياح التي عصفت بالبلاد! فرقتهما أيضا الخلافات بين أهل البيت! فهل كان ينشد حلما مبهجا، ويرسم صورة ملونة على أفق قاتم؟ ويبعث أمامها قيس وليلى في الزمن المعاصر؟ ويعلن أن أراغون وإلسا موجودان هنا أيضا؟ كان يعرض البطاقات البريدية إذا وصلته منها وقت يعرف أحدهما عنوان الآخر. ويعرض الرسائل التي تكتبها إليه وتبرأ بها من ثلج الغربة وسمائها المنخفضة. في ذلك المقطع من الحياة كانت تعرف عنوانه. لكنها وقت نزلت من القطار في المدينة التي يوجد فيها تفادته. كانت  وحيدة، ومريضة. نزلت في الفندق الذي كان يسهر فيه. اختارت طاولة في قاعة صغيرة لاترى من قاعة الطعام الكبيرة. لبست ثوبا في مثل لون قلب الموجة، وشعرت بأنه يجلس هناك صامتا معها. تناولت القليل من الطعام، شربت القليل من عصير البرتقال، ثم صعدت إلى غرفتها. وفي الصباح مشت أنيقة إلى السفارة المقصودة فجددت جواز سفرها. صمدت للأسئلة، فبدت مغتربة غنية، ليست من المشبوهين في زمن القلاقل، الذين لاتمدد لهم الجوازات. وعادت إلى الفندق. عبرت الردهة التي يعبرها، وجلست في القاعة الصغيرة وقلبها يرتعش. هل كانت تخاف من السعادة إذا رأته؟ هل كانت تتفادى ليالي الأرق التي ستتبعها؟ يوم صادفته في مدينة أخرى انزلق لسانها فعرف أنه كان قربها في الفندق نفسه. آه، ماذا فعلت! من ذلك الفندق، وهي جالسة في القاعة الصغيرة اتصل بها في تلك الليلة، إلى البلد الآخر ليطلب أن تزوره! ثم عاد فجلس خائبا في قاعة المطعم الكبيرة!  "كنت في الفندق نفسه وأنا أصغي إلى دقات هاتفك؟!"  تركها برهة وابتعد إلى المغاسل ليخفي انفعاله. ثم عاد إليها وأثر الألم في وجهه، والبريق في عينيه. عاتبها. تريدين أن تحمليني كما تحمل صورة في الجيب وكما يحمل تمثال صغير في الحقيبة! ترحلين بي في اتجاهاتك، لكنك لاتتوقفين لتكوني مع الأصل الحي! ماذا تقول له؟ كانت الحياة تندفع في اتجاه آخر. "يعلم الله متى تعودين إلى بلدك!"  ترد على نفسها: "ذات يوم سأعود إلى بلدي! لكنه لن يعود!"  سألها لماذا؟ لماذا؟ فلم ترد عليه! كانت على كل حال مريضة، لم تزر حتى النهر الذي تحبه، لم تصعد الطريق ذا الفوانيس، لم تقصد المقهى الصغير ذي المقاعد الخشب! لم تسع إلى شيئ تحبه يومذاك! تذكرت أنه قال لها مرة وهو يتبع خطوطها مبهورا: ألم تتأملي نفسك في المرآة؟  لكنها، لم تترك صورتها في المرآة! وكان هو وقتذاك جالسا في مطعم الفندق، كالمنفيين، يدخن ويتحدث  ويخرج من جيبه صورتها ويعرضها لأصدقائه القدماء. آه، لايعرف أن حبه دون أرض يعشش فيها! لم ترسم مجموعة من الرجال الغرباء الحدود قبل مولدهما كي تقسم البلاد، بل كي تمنعها من العبور إلى مدينته وتمنعه من العبور إلى مدينتها!

أخرج الصورة من جيبه يوم التقيا. ورأت نفسها شابة مضيئة العينين، ترفع رأسها، كما طلب المصور، لينهمر الضوء على وجهها، وليتألق شعرها. كانت أفراح الحياة هناك، في حركة الرأس وفي العينين. كانت في تلك الصورة كشحرور لاعمر له، لانهاية له. سألت نفسها وهي تنظر إلى الصورة: أنا؟ قال: أخذتها منك، وأوصلتك بالتكسي إلى البيت الذي ستلتقين فيه بأصدقائك لتسافروا منه في الفجر! كنت تلبسين ثوبا أخضر.. وكانت رائحة الصابون تفوح منك، وبشرتك مازالت دافئة من الماء. آه كيف تتذكر التفاصيل؟  عذابه أنه يحفظ التفاصيل! تحيط به الصور، يسمع الكلمات والأصوات، يحس بالمشاعر التي مضت! قال: أي شقاء!  تساءلت: شقاء أن تبقى  الأيام شابة، والأصوات نضرة؟! كان يقصد أمرا آخر! لكنه لم يحك لها عنه يومذاك. لم يقل لها إن الانتقام في العصور كلها يختار بقعة القلب النضرة! "اختلفت معه، وفي الاجتماع التالي كنت مقابله، وفي الثالث كنا نتحدث بلغتين. بعد ذلك أعلن لي: لن تتزوجها أبدا، طالما كنت حيا! لن تصل أبدا إلى مدينة  تكون هي فيها!"  كانت جميع مفاتيح تلك المدن في يديه! روى لها ذلك في مملكة الصمت! كانت إذن تنفذ أمرا لاتعرفه يوم مرت بإحدى مدنه وتفادت أن تراه!  لم يمت إذن أهل قيس وليلى أبدا! وصلوا أحياء إلى أبعد الأجيال عنهم، إلى أبعد الرجال عنهم! الحرمان من الحب عقاب في المنافسات السياسية على مدى الدهر!

ألذلك أنشد في تلك الأيام: "ياويل درب لايضيعني"، فغضبت عليه؟ ألذلك كان يبدو كأنه يريد أن ينتحر؟ نظرت إليه. كان يرفع رأسه كي يبتلع الدموع. وفهمت أنه شهد مقتل المثل  قبل  الاحتفال بمقتلها. عبر، هو ومنافسه، السجن. فأين بدأت العداوة بينهما؟ كان قبلها يؤمن بالأساطير التي تنسج عنه، وكان ينشرها. لكنه خلال الاجتماعات به تبين بعد الأسطورة عن الحقيقة! خطؤه، أو مجده، أنه أعلن ذلك مبكرا، فافتتح معركة يصعب أن يجد لنفسه فيها مؤيدين. وكان الحب جرحه المفتوح. ضعفه المعلن. بعد ألف سنة أوقف على منصة قيس نفسها ونفذ فيه الحكم! 

في مملكة الصمت عرفت الصفحات الضائعة! كانت تتلقى نظرات مريبة. فتتساءل لماذا؟ قال لها أصدقاء، كأنما من الغيرة عليها: يجب أن تتزوجي! صمتت من التهذيب. فهل يتفق مشروع تحرر الإنسان، مع إلغاء الحب من الزواج؟ حضرت في تلك الأيام عرضا واسعا: مر أمامها رجال طوال وقصار، سمر وشقر، سمان ونحاف. ذهلت: "كم كان أبي إذن راقيا! لم يلزمني بمثل ذلك العرض!"  كادت تعترف له وقت التقيا لقاء سريعا: وقت سمعت صوتك في التلفون تقول لي مرة أخرى: تتزوجيني؟ كبحت لساني في البرهة الأخيرة! لكنها صمتت. يجب أن يبقى مابينهما أعلى من الطوارئ. وماذا تقول له، ألا يعرف أن الخلاف مع مجموعة في الغربة مفزع، يحوك حول الخارج عليها الوحدة والشبهة؟ تصبح المدينة الكبيرة المليئة بالمتاحف والمسارح والكتب صغيرة كالسجن! نظر إليها زمنا. هل خمن مافكرت فيه؟ هو، كاد ينقل بالطائرة ويسلم لسجن بلده! "أصحابك حموني!"  تبتسم. كيف يقال الفرد غير مهم؟ الفرد يحمي، والفرد يجعلك تتجاوز همك، والفرد قد يحاصرك! كانت محظوظة بالنوعين! حولها من يجرح ومن يداوي الجرح! ترى هل شكت له بينها وبين نفسها خيبتها وهي في غرفتها باكية كالأطفال في الليل؟ هل قويت بالوهم وهي تقول لنفسها: سيشق الأرض ويصل إلي إذا ناديته، سيرسل  جنيا يطير بي إليه؟ هل كان الأمان، هو غير الآمن! تنظر إليه، فتقابل حبه فترخي عينيها. كم التقت به إذن في أرض مختلفة اللون عن الساحة التي نصب تمثالها فيها! 

تتذكر كم كانت ثمينة وهي بين يديه. كأنها تحفة قد تنكسر! كأنها إبداع استثنائي يحتاج المتعبدين! يقول لها: ألاتنظرين إلى نفسك في المرآة؟ تنظر إليه وتكاد تضحك من الصورة التي يراها. ثم تنسى ذلك وتندفع مبتعدة. فيتساءل: هل ستنتهي مما يشغلها ذات يوم؟ ومع ذلك يتابعها مبهورا وهي تخترع مشاريع ترسمها، يظنها خيالا حتى تنفذها. ثم يقول: والمشروع الموجود أمامك تجعلينه حلما بعيدا! تهربين كالسنجاب! فتهمس لنفسها: آه، حبه الثابت دون مدينة ثابتة تؤويه!

يومذاك لم يقبل أن يلف له البائع الهدية التي اختارها لها. مشى في الطريق يحمل سنجابا مزهوا بذيله! وضعه على طاولتها. فتذكرت أنها لم تر في دمشق إلا سنجابا واحدا كان معروضا في واجهة مخزن على كتف الصالحية، يعرض اسطوانات ولوحات وتحفا صغيرة.  والسنجاب ينظر من وراء الزجاج إلى المارين متأهبا للهرب. تعبره عندما تتناول من بائع زهر إلى جانبه حزمة مرغريت بربع ليرة. قال وهو يشير إلى السنجاب: أنت!  سألته: بلونه؟ رد: بخفته في الهرب! قالت: رأيت مثل هذا السنجاب، بلونه نفسه. لكنه كان قطة! القطة المدللة، بنت البيت العربي! وفتشت ذاكرتها: هل صادفت السنجاب؟ لم أصادفه! فعلى أية شجرة رآه؟ آه، ظننتك قادما من الصحراء!

يوم رأت السنجاب في غابة على طرف بحيرة دارت حول الشجرة وتابعته. وقصدت تلك الغابة لتقتفي  أثر السناجب. في المساء الذي صادفت فيه السنجاب خابرها. دهشت! كيف عرف مقرها؟! لكنها لم تبح له بأنها التقت بسنجابه في ذلك اليوم في الغابة. بعد ربع قرن وصلت منه رسالة يذكر فيها السنجاب؟ قال: "وماتزال الصنوبرة تحن للسنجاب"! فرفعت عينيها، كما رفعهما مرة في إحدى المطارات! 

لا، لم تصادف قبل ذلك السنجاب إلا في الكتب! صادفت البلابل والشحارير! يوم مشيا  في الغوطة كانت تلك أيام الزهر. والغوطة غابات متصلة تحتفل بزهر المشمش. كان حاجز البستان من الدكّ في مكان، ومن البيلسان في مكان. وكان شجر الجوز ينتصب عاريا معتدا بقامته. مشيا في درب، مواكبين الساقية. وعبرا معها البساتين. تركته مرات ووقفت على الحجر الذي يوزع الماء حصصا بين البساتين. وقتذاك غرد شحرور، فكادت توقف تنفسها كيلا يسمعه ويهرب. غرد الشحرور نشيدا ثم صمت برهة ثم غرد. هل قدر فترة صمت الشحرور ولذلك صفر  مغردا مثله؟ كبحت ضحكتها. استمع إليه الشحرور، وعاد إلى نشيده. لم يبال به! لكنهما معا ألّفا أغنية مستمرة للأشجار، للبساتين، لزهر المشمش. نظر إليها: لك! التفتت نحوه: أنت أم الشحرور؟ لا، لم تفه يومذاك بكلمة! استمرت في المشي وابتعد تغريد الشحرور. كانت سوق الحور رشيقة، ترسم في البعد مايشبه ضباب الصباح. وخلفها في عمق البستان كان أصحابها حول دخان يتجمع يتعرج ويصعد حرا في هدوء. وعبق الحطب يفوح حتى الدرب الذي تمشي فيه. آه! تسلقت مرة مثل تلك الشجرة، وجلست على فرعها لتلتقط لها زميلاتها صورة. كانت يومذاك في رحلة مدرسية. لاشك أن في كثير من مجموعات الصور تلميذات استندن إلى شجرة لتلتقط لهن هناك صورة! وحول تلك النار، أيضا، التقطت صور، يخترقها الدخان! ذلك الشعير الأخضر كان يصل إلى خصرها في صورة أخرى قديمة! كانت صغيرة يخيل إليها وهي تعبره  أنها تخترق غابة. أمام مجموعات الزهر الأصفر على طرف البستان المهملة التقطت صور  كانت فيها تركب حمارا صغيرا زينت جبهته بالخرز الأزرق، وكان رأسها مزينا بشقائق النعمان.

هي من هناك! كالجوز والحور. وهو؟ لماذا يتسرب إلى تلك الدروب، ويبحث عن تلك الأمكنة؟ أهو قادم من الصحراء؟ سائح؟ أم صاحب هوى؟ أم يقتفي أثرها هناك، كما تقتفي أثر السناجب في الغابات؟! لمس خطواتها. فهل يعرف أنه ترك إلى جانبها خطواته! لم تكن كتلك الورقة التي التقطها وخبأها في جيبه! كانت شفافة، وقد رأتها بعد ربع قرن هناك. مشت على حافة الساقية، بحثت عن الحجارة التي توزع حصص الماء على البساتين. وصادفت الجوز المعتد بجسمه الفارع، والحور الفضي، والدخان الذي يتعرج في هدوء. سمعت شحرورا يغرد، وملأت هي فترات صمته بالصفير. كانت الساقية فارغة من الماء، كان الجوز مريضا، اقتلعت أكثر البساتين، كان يصعب أن تجد دربا تمشي وحدها فيه. لكن لابأس! تناولت حبات العمر من الأرض، فحصتها في كفها، ثم نثرتها في الأرض المفلوحة. كم كانت تلك السنوات جميلة! كم كانت تلك البلاد جميلة! وكم كنا شبابا يومذاك!

لماذا إذن حكم علينا بأن نعبر الثلج والمطر والريح، منفيين لارحالة إلى الحضارات الغريبة؟ لماذا.. في ذلك العمر؟! نظرت إلى رسالته على طاولتها. وكان الثلج يملأ النافذة. وهي تتساءل كيف عرف عنوانها. سألتها رفيقتها التي قرأت أول سطر في الرسالة: سنجابي؟ من يسميك سنجابا؟! ردت: هس! الرسالة ليست لي! اكتشفت فائدة التسمية التي تموّه الاسم! موّهته؟ نظرت إليها رفيقتها: صرت تفتحين رسائل أصدقائك السناجب؟ أم تستعيرينها مصادر للبحث الجامعي؟! نظرت إلى رفيقتها. "آه لاتعرفين كيف يكون الإنسان مهملا وحيدا وهو محبوب، فقيرا معدما وهو غني!" تأملتها رفيقتها دهشة: صرت ماهرة في الهمهمة؟! أجابت: ماهرة في خنق الشوق!

لمس في جيبه الورقة. كان فمها مرسوما عليها. كانا يطلان على البحر. عشية فراق جديد يركب فيه كل منهما طائرة في اتجاه. بجواز سفر ملفق أو دون جواز سفر. هاهي بيروت التي كانت في نهاية السكة، بيروت التي بدت في عين الخضراء مدينة خارج الخرائط! تتكئ على بحر أزرق وهما يطلان معها على الروشة والبحر! في برهة كان يمكن أن يساقا  وتقفل عليهما جدران السجن. وتمر شهور لايعرفان فيها اليوم من الآخر والليل من النهار. ويعلن أن شخصين خطرين سقطا في الفخ، وتعلق أوسمة على الصياد. كان البحر مدهشا بزرقته في ذلك اليوم. كان نيليا في مكان، فيروزيا في مكان، وكانت هي تشهق كلما هرعت إلى الشاطئ موجة فستقية مكللة بالزبد الأبيض. بعد الطعام مسحت شفتيها بورقة ووضعتها في الصحن. تناول تلك الورقة وهي مشغولة بلون قلب الموجة! وبحث فيما بعد طويلا بين الأقمشة عن ذلك اللون. 

بعد عشرين سنة أم أكثر، قال لها إنه التقط تلك الورقة وخبأها في جيبه؟ أم تراه التقط ورقة مثلها، في لقاء آخر؟ تغديا في بيت أصحابهما في الجبل. وكانت فيروز تغني. لم يحمل معه إلا أغنياتها! كان رحالة يسافر في الليل، كلما هبت عاصفة على بلد يقيم فيه تمزقت خيمته! يستدعونه ويطلبون أن يجيب على "بعض"  الأسئلة. وكأنهم يكتشفونه يومذاك فقط! فيفهم أنه يجب أن يرحل. تصل إليه رسائل تحذره. ويتساءل وهو يعبر الحدود خلسة في الليل، ماشيا خلف الدليل: هل كانت هذه البلاد كلها حقا بلدا واحدا؟! وهل يعيش البدو فقط  في الخيام؟! في تلك المرة، في ذلك البلد، سألوه عنها. فارتعش. ينشد حبها أمام أصحابه، لكن هذا المكان ليس لذلك النشيد! قلّب الرجل الجالس خلف الطاولة كتابا بين يديه: هذا خطها، وهذا الكتاب مهدى إليك منها! كيف فكوا توقيعها، كيف عرفوا خطها؟ ارتعش من الخوف عليها.

يوم التقيا بعد أشهر كاد يلمسها متفقدا. نجت! اخترقا الكابوس إذن! لكن الدماء تسيل على أرض الشوارع. أضيف حنين جديد إلى بلد آخر غير فلسطين! حنينها! وهو المهاجر مرة ثالثة، في أية اتجاهات يوزع حنينه؟ سننتظر حتى يصحو العرب كي يعود كل منا إلى مدينته!  حتى ذلك اليوم، سأسأل عن الأيدي التي تتلف في السجون. سأسأل عن الليالي التي يبددها الأرق، عن الدم المسفوح  والدمع! نظرت إليه. نجونا نحن من امتحان الكرامة! لكن أصحابنا هناك! فلاتحدثني عن الحب! هل تذكرهم؟  كنا معا في أول الربيع، وفي أول الربيع نتساءل  في الصباح، هل نلبس الجاكيت أم نتركه. في الباص لم أنظر إلى الطريق. كنت من المشغولين بالأحاديث والألعاب. فلم أر المطر المنهمر إلا وقت وصلنا إلى الجبل. حمل كل منا زوادته وبحث مع مجموعته عن ثنية في الجبل تؤويه من المطر. فجأة رأيتك تتسلل إلينا. هل اتفقت  مع ذلك الذي اشتريت معه خمرا من الدير، خبأتماه بجريدة؟ زوّرت قصيدة قيس، ودفعتني إلى مكان ليلى! لكن قيسا لم يكن يعرف شعر ليلى الطويل، ولم يعتب لأنها قصته! بعد المطر وجدنا أول زنبق في الربيع. غنينا، ودبكنا. ضحكنا. تدفق الفرح. أعرف أنك كنت تنظر إلي وأنا أنظر إلى الجبل! بحثت معنا عن الزنبق، وقلت: لايحتاج إلى بحث! أصحابنا في تلك الرحلة بقوا هناك! فلاتحدثني عن الحب!

كنت خبيرا بالغربة والتهجير. أنا كنت أجربهما أول مرة في أول العمر. في تلك الغرفة على الجبل، بين أصحاب جدد، رأيت شابة تنظر إليك في وله. وكنت أحبها. أمسكت بيدها ومشيت معها خارج البيت، بين الصخور. جمعنا الزعتر البري. وتأملتها وهي تغسله في عناية وتضعه على الطاولة التي ستتناول عليها طعامك. تعرف أنك تحبه! رويت لي في إحدى المدن، فيما بعد، أنها تسللت إلى غرفتك في الليل. كانت صبية نضرة وجميلة، أحبتك. لم أبح لك بأنها كتبت لي: "غدا أتزوج! أحببته، وأحببتك! أتركه لك!"  كانت رسالتها مبقعة بالدمع. لكنها دموع شباب لاتهدده أحزان لايستطيع دفعها. شباب يستطيع أن يمشي في الطرقات التي مشى فيها أمس، ولايتلفت حذرا. وإذا اغترب يستطيع أن يرسل الرسائل إلى أهله وأصحابه مزهوا بالمدن التي يزورها. تتركك لي؟ ماأنضرها؟ طويت سرها. لم أبح  به!

بعد الزعتر البري وصل مساء واهن ساحر. تركنا ذلك البيت على الجبل والصبية وفيروز فيه. كان الشارع مغريا. لايعرف الرغبة في المشي إلا من يحرم منه! بدأت العتمة تطوي ألوان المساء وترتبها في صندوق الليل. بعد خطوات تبينت أن المشي معك مستحيل! وجهك نحوي طول الطريق! في بلاد أخرى تبعد الشبهة عن الفارين أن يمشوا متعانقين. لكن الحب في هذا البلد يجذب الشك! استدرت وقلت لك يعود كل منا الى مأواه! قال: تهربين؟ وبدا الحزن فيه. ففتشت يده الأولى ثم يده الثانية. وقالت: لايوجد مصباح! هدأ ولان! تذكره بليلة هربها منه! انزلقت من المجموعة وعادت الى البيت. في تلك الأيام كانت تنام ملء عينيها. لماذا ارتعشت؟ غمر ضوء ساطع وجهها! ثم تبينته واقفا خلف  النافذة  يوجه ضوء الكشاف عليها! حدقت فيه فيما بعد متسائلة: كيف يستطيع أن يجمع العقل إلى الجنون؟! كان غضبها كالعاصفة يهب كلما جن. لكنها وهي تواكب البحيرة ماشية، وحيدة، غريبة، اعترفت لنفسها بأنه كان مبهرا بجنونه. ورغم البرد خلعت قفازيها من الدفء. 

لم تتساءل مع من هو الآن؟ من التي تهواه اليوم؟ كانت في مساحة لايمكن أن يوجد فيها سواهما. وعندما كان العالم يبدو لها مقفرا وباردا وتبدو صغيرة ضائعة فيه، كانت تردد: هو في مكان ما! ولابد أن يظهر في البرهة الضرورية! 

كانت إسرائيل موجودة في جميع تلك الأزمنة بينهما. كانت تبني مدنا، وتعلّم صغارها أن العرب همجيون وخطرون ومتخلفون، أرضهم لها وقتلهم حلال. وكان العرب يظنون أنهم أباطرة البلاد، وأن المصير لايجسر على تكرار سنة 1948. كان يشغل الزعماء السياسيين الشعب المشاغب، الأحزاب المنافسة، قدرة مخافر الحدود على مراقبة المسافرين، شطب الأسماء من قوائم طالبي العمل أو الموظفين، تنظيف الجيش والتعليم من العناصر الخطرة. وإياك أن تهمس هذا خطأ أو هذا صواب! في إحدى تلك السنوات حدث احتلال إسرائيلي جديد، فسمح العرب للمنفيين بالعودة إلى المدن التي لم تحتل بعد.

عاد. هاهو  دون الأسرة التي اختارها ودون الأسرة التي ورثها! نفذ إذن ماكتبه لها في رسالة منذ عشر سنوات: "لن أموت قبل أن أرى الأعزاء علي!"  لم يقبل جنسية غريبة! هكذا نحن، تسلبنا بلادنا الجنسية الموروثة، ونرفض الجنسية المهداة! فنعيش دون أوراق ثبوتية في عالم يرتبنا بلون  المنشأ، ولون الاتجاه!

صحا الزعماء العرب بعد الهزائم؟ مرحبا! فقدوا من مزقوه، جميع المنفيين، والمبعدين، والمسجونين! فليحاربوا بالمدللين المنافقين! تطلب إسرائيل أن يسجدوا لها كما طلبوا منا أن نسجد لهم! كسبت الوقت الذي انشغلوا فيه عنها بنا! وكسبت ضعفنا وموتنا! مع ذلك لم يصحوا! ولن!

يوم عبرت البوابة إلى مملكة الصمت كانت الطرقات ماتزال مقطوعة بين مدينته ومدينتها. فجرّته إلى مطل على الشوارع التي كان يمكن أن يمشيا فيها، وقالت: لاتحزن! لن نستطيع أن نمشي هناك ولو سمح لنا بذلك! فالمدن التي عرفناها لم تعد موجودة! فقدنا مدينة المشاة! لن يهف الياسمين وزهر النارنج! لن تشعر بأنك  ملك الأرصفة! لن ترى أسراب العصافير الدورية! لايوجد غراب يسرق الجبن، ولاأحد اليوم يعرف "الشوحة"! وفوق نافذتك لن تعشش الستيتية! لكننا في مملكة الصمت. هنا، نستطيع أن نمشي كما نشاء! تعال!

مشى معها تحت السرو، وعبرا أشخاصا بملابس بيضاء ناصعة. ثم توقف. لاتوجد أمكنة في مملكة الصمت تجمعهما! لانهر يجلسان على ضفته، ولاسكة قطار تمشي أمامه عليها وهو يتبعها! ولاصخور يخيل إليها أنه نزل من كهوفها! آه، كانت الحياة التي تفرقهما هي التي تجمعهما! خسراها ولن يكسبا هذه! من يستطيع أن يكسب الموت! أغمض عينيه. لو تعود تلك الأيام .. لو  تعود المدن المفقودة! لو!

هل فقدناها؟ لا! بل فقدها من بعدنا! مساكين! في ذلك المساء عاد حاملا زجاجة عطر. صبها على يديها. فالتفتت عنه كيلا يرى بريق عينيها. أخرج صورتها القديمة من جيبه، وبكى! على أي شهيد أو قتيل تبكي؟ على المدن، على السنوات أم على نضارة الشباب المسفوك في الغربة! نظرت إليه: تركت  هناك السلسلة الذهبية التي علقت لي فيها حجرا صافيا شفافا كالدمعة! خرجت من البيت مسرعة! لم أتناولها! لو بقيت برهة أخرى لما نجوت! أحاطت بيتي عشرات السيارات العسكرية! تبتسم؟ لماذا؟ خطرة على أمن الدولة! تسخر؟ لكن ذلك حدث حقا! يتكرر ذلك مرة في هذا البلد العربي ومرة في ذاك! من الحدود تجر فتيات إلى هذا الجانب أو إلى ذاك. إذا أردن الخروج منعن منه، وإذا أردن الدخول منعن! في هذه البرهة لست كذلك، لكني كنت، وقد أكون! أمر، لكن شخصا  يحدق في أوراقي مرتابا: تمر؟! كيف تمر؟! لذلك تأملت في تأن جنة حواء، وخيل إلي أن مخافر الحدود بدأت  من هناك!

أنت، قل لي، كيف نجوت بقلبك ولهفتك من تلك الأعاصير؟ في العالم الذي شيع فيه الحب وكفّن، ودفن، كيف استطعت أن تحمي الحب؟ أكان ذلك حب امرأة، أم حب زمن مزين بريش الطاووس والأجراس والخرز الأزرق! تكاد تسأله عن ذلك لكنها تصمت! لذلك جلست على الأرض. هزت الودع في كفها ورمته وبدأت تقرأه وتفحصه. منذ متى ياسنجابي تقرئين الودع؟ هل تقرئين الكف أيضا؟ راقبها مسحورا. وقال لنفسه: كانت تمارس السحر إذن، لذلك جرتني وراءها ثلث قرن! قالت له: وقت كان الزمن الخاطف يبدو طويلا في الغربة، كانت رفيقاتي يشربن القهوة  لينقبن في خطوط الفنجان باحثات عن القدر. فكنت أفتح الباب وأخرج فتبدو الدنيا  واسعة حتى في الثلج والسماء عالية حتى في الشتاء. لكن تعال الآن لنتبع الصدف إلى البحر! ابتسم: فلنتبعه! وسارا على طرقات من ماء وهواء في مملكة الصمت.

ورأته طفلا يرفع يديه كأنهما تستطيعان حماية رأسه من القصف. قيل: الأمان في الملجأ فقط. فأين الملجأ!  والبلاد غفت في وهمها، والملوك يقتفون أثر المشاغبين! مرت الطائرات فوق رأسه، وهرب منها. اندفع مع الناس. ظن مثلهم أن العراء هو المكان الآمن. لكن الأمان كان هربا فقط  في اتجاه تقودهم إليه الطائرات!

"عندي كان غير ذلك! ظنت أمي أن أطباق النحاس تحمي من القنابل والرصاص، فوضعتها بيني وبين الجدار. قدرت أن الطائرات والمدافع من جهة ذلك الجدار! لكن القنبلة سقطت من أعلى فوق بيت الجيران!"

في أول نشيد كتبه أطلق الغضب المغلول خلال البحث عن ملجأ من الطائرات، والطفل يهرب من أرضه ومدينته ومن كل ماأحبه. كتب ذلك النشيد  لنفسه وهو يجرب اللغة التي تعلمها في المدرسة. لم يكن في المدرسة غير تلك القصيدة، فدفعوه ليقرأها عندما زار زعيم البلد المدرسة في عيد من الأعياد الوطنية. فاستمتع بيده الناعمة السمينة، المرصعة بخاتم، يد امتدت الى ذقنه ورفعت وجهه: شاطر! موهوب! سيكون شاعرا عظيما، فاعتنوا به!

كانت يومذاك بين صفوف تلاميذ المدرسة الذين وضعوا في استقبال ملك بلدها! أوقفت في الصف الأول لأنها بيضاء، على رأسها شريطة بيضاء، وفي قدميها جوربان أبيضان قصيران. مر الملك بين صفوف التلاميذ. يومذاك أيضا كان يقدم أصحاب الملابس المرتبة المكوية والوجوه الجميلة، أو الأولاد المحظوظون بأهل مهمين. توقف ملك البلد قربها ونظر إليها نظرة طويلة فالتفتت إليه المعلمة: سنعنى بها، ياملك الزمان!

هكذا رصدت لكل منهما عناية خاصة. بدأت بأوراق مزخرفة اسمها مرحى، وبسجل الشرف المذهب المعلق على الحائط، وانتهت بسجلات في المرافئ والحدود!

في أيام المرحى وسجل الشرف المذهّب كان زمن تلك المدن دون نهاية. شمس وماء! لاجوع ولابذخ. في الشوارع سيارات قليلة، أكثرها باصات. في الشوارع مشاة، والمقاهي رخيصة، ظليلة، والبساتين على بعد خطوات: في نهاية الطريق، على كتف المدرسة، خلف البيت، في سفح الجبل، حول بيت الأصحاب. والسواقي تقطع الطرقات، وحيث يتجمع الماء بط ووز، وفي السماء شحارير  وأسراب من الدوري والغربان.

هل قطعت كل ذلك دبابة وقفت على زاوية الطريق ذات فجر؟  "كنت ذاهبة إلى المدرسة. ففاجأتني دبابة. في التقاطع رأيت دبابة أخرى. المدرسة مغلقة. والمديرة مضطربة تقول للتلاميذ: عودوا إلى بيوتكم في هدوء! كنت صغيرة. فتفرجت على ذلك في فضول.  لي لم يكن ذلك يعني السجون وسجلات الحدود."

قال لها: "كانت الهجرات بحثا عن العشب، أو الدفء. أصبحت بحثا عن الحرية."  كم هجرة أو تهجيرا رأى في عمره؟ التهجير من اسكندرون. من فلسطين. من القدس. من الجنوب. من الجولان، من المدن المحتلة. من الأنظمة الظالمة. هربا من السجون. من التعذيب. إلى الخليج ومن الخليج! وإلى بلاد الأرض بحثا عن الملجأ والعمل!

يومذاك لم تنزل الدبابات إلى الشارع. نزل البصّاصون. الشارع خطر، والبيت خطر. لامأوى ولاأمان! مداهمات واعتقالات. موت "تحت التعذيب". نزع الجنسية. والصحف تعد الانتصارات والإنجازات والتقدم والرخاء. شوارع، أبنية، جسور، أنفاق، بوابات عالية، نفاق، تصفيق، شعارات، زينات، احتفالات، طبول، صفوف من الأطفال والتلاميذ والشباب والكهول على حافة الطرقات، في المداخل، على السلالم، في القاعات، لهز الأعلام  والورود والهتافات. 

"العدو على طول الحدود؟ فليكن! يجب أن أسوي مسألة الداخل أولا!" ممن؟ من المشاغبين! بعد سنوات طويلة، انطلقت العصابات في الطرقات. رددت هي أيضا: "يجب أن نصفي مسألة الداخل أولا!"  كيف اتفق النقيضان؟ كيف؟ أوقفوه: أنت مع من؟ لم يتذكروا أن  اسمه كان في سجل الشرف..

لماذا تصر على تعريف ذلك الزمان؟ دعه! فليكن زمن الصغائر! فليكن زمن جني ثمار الشوك! يجنيها من لم يزرعها؟ نحن؟ دع الزمن! سأدعه! وأنا أشكره! لأني أخذت ظلامه الواضح، ولم تلحقني فوضاه إلا في الهزيع الأخير! اسكت! لاهزيع أخير بعد!

تمسك بيده وتمشي في مدن الأمس، في شوارع الأمس، تعبر أنهار الأمس، ويجلسان على الضفة تحت الأشجار. شوشك يومذاك صوت الماء! كان هو الملك الثرثار. تركناه حيث يقفز على الجذوع ويلعب بالضفاف، ويتحدث بصوت عال، وقصدنا النبع. ماء صاف شفاف، فوق صخور مرقشة بالسواد، يرتعش دون صوت. وفوقنا صخرة كبيرة جميلة، ونحن فوق ذرى الشجر. وذرى الصخور تمسك بالأفق. عدنا إلى الطفولة التي كنا نرغب فيها التسلق لنرى ماحولنا من مرتفع. من فوق رأينا أصحابنا جالسين حول طاولة من الخشب على كراس من القش. وكان هو بينهم. يوم انطلق البصاصون إلى الشوارع، وهجعوا في الزوايا، فاجأوه وخطفوه. أعرف أنك بكيت عليه! أعرف أنك لم تنامي في تلك الليالي، لأني لم أنم. "في أيامنا يغبطون المحظوظ بالموت في فراشه!"  "وهل مات هو على صهوة الخيل؟ قتل مقيدا معذبا في السجن!"

قالت له يوم صادفها في إحدى المدن: صادفت صورة من صوري بين جمع. كانت مصائرهم كلهم محزنة! ماتوا شبابا. بعضهم قتل في السجن، بعضهم اغتيل، بعضهم استشهد، وبعضهم طقّ من الغم! لعلني الوحيدة التي  تعيش حتى اليوم!

أكانت تلك الصورة هي التي التقطت لنا في رحلة، في معرض الكتب، في اللقاء العربي، في الاستقبال؟ كنت فيها خلفك! تسللت في نهاية الاحتفال. هربت مني. عرفت أنك تعودين مشيا. فسبقتك. مازال ظهري يحمل أثر تلك الليلة! تكورت على نفسي خلف باب البناء وانتظرتك. سمعت جارك يقول، كأنه شعر بي: من هناك؟ فردت عليه جارتك: قد تكون قطة! كورت نفسي كي تسعني  زاوية تسع قطة! منذ تلك الليلة أشعر بألم في ظهري، وأحنو عليه لأنه يذكرني بك!

"ياللمجنون!" علق في إطار خلف مكتبه ورقة كتبتها مرة له!  كانت صارمة في توازنها. لذلك كان يرعبها جنونه! يكاد يسألها في أي عمر تعلمت أن تكبحي التعبير عن الحب وتخنقي الشوق؟ ألا تدركين حقا ماذا خسرت؟ تقول لنفسها: لاتعد الخسائر! ولكن هل منها عرض العواطف! يقول لها وهما يمشيان في مملكة الصمت: آه، ياسنجابي! لو تعرفين أن الإنسان يستمتع بحبه وهو يتحدث عنه وينشره على حبال الهواء والضوء وعلى باقات البنفسج! لذلك أنشد قيس هواه! تجيبه: هنا نختلف! يردد: نختلف؟! يضحك. نختلف وقد جرفتنا ريح عاصفة واحدة؟! ترد: ريح عاصفة لم توحد المدن ولم تجمع الناس! ومازلنا نحلم بأيام العثمانيين، أيام لم تكن بيننا  حدود!

مشيا تحت السرو حتى المنعطف فوقف وسألها: تتزوجيني؟ ياللمجنون! لايعرف بعد أن ماحرما منه في الحياة لايستعاد! لايستعاد شيء أبدا في مملكة الصمت! رفعت عينيها لتبتلعا الدموع، وعندئذ فهم أنه في سجن واسع، لامخرج منه.. وقرب شجرة السرو سقطت بعض     الدموع   . 

 

 

الراعي

 

تعود أهل المدينة المسحورة أن يملأوا الساحات إذا ناداهم راعي مدينتهم. حتى أدعى الغرباء، من الغيرة، أن أهل تلك المدينة خائفون من راعيها! لم يفهم الغرباء كيف يهرع رجال بإرادتهم على نداء، مسرعين ولو كاد أحدهم يدوس الآخر! وقالوا: اولئك مضبوعون، فالعاقل لا يركض ليرى طرف وجه المحبوب! واستمر ذلك زمناً طويلاً.

حتى نزل المنادون مرة إلى الأسواق، كالعادة، يتقدمهم الطبل والمزمار. ونادوا كالعادة: ياأهل المدينة المسحورة! ونشروا لفافة من جلد الغزال وقرأوا المكتوب فيها. فرددت الأسواق الصامتة نداءهم، ولكن لم يخرج إليهم أحد. ولم يلحقهم ولد. رددت الحارات والجدران نداءهم، ولكن لم تفتح نافذة ولم تتحرك ستارة. حتى سمعوا أصوات خطواتهم كأنها الطبول.

فرجعوا إلى راعي المدينة وأعلنوا له: الأسواق مفتوحة، والبيوت والأشجار والمياه موجودة. الرعية فقط متخلفة!

أيصدقهم؟ كيف يمكن أن يختفي سكان مدينة كاملة في ليلة؟ قال: يعرف زمننا تهجير شعوب وقوميات، واستقدام سكان، وتبديل هويات، لكن لذلك إشارات من قصف أو حرائق أو زلازل أو، على الأقل، مؤتمرات! لم أسمع ولم أر مثل تلك العلامات! أكد له حراسه ما قال: نعم لم نسمع حتى تنفس الطفل. فهل يهاجر أو يهرب سكان مدينة دون أن نسمع على الأقل صوت أقدام؟

وأعلن حراس الأبراج والبوابات أنهم لم يلمحوا في الليلة الماضية مسافراً أو هارباً أو مهاجراً. مر فقط قطيع من الذئاب كأنه قطعة واحدة. رأوه واضحاً، لكن ضبابة غطته بعد ذلك فلم يعرفوا اتجاهه، واجتاحتهم عندئذ رغبة مفاجئة بالنوم فناموا. فلا تسلوهم عن مساره. بوابات السور، على كل حال، مغلقة لن يعبرها الطير الطائر فهل يعبرها قطيع من الذئاب!

قال راعي المدينة: آه! لا يشعر حتى حراس السور بالمسؤولية مثلي! أنا الذي تابعت قطيع الذئاب من برجي الذي يعلو جميع الأبراج، ورأيته يحوم حول المدينة! كنت إذن أكتب النداء إلى رعيتي عندما كانت الرعية والحراس نائمين! ونزل باحثاً عن رعيته.

رأى مدينة غريبة . كانت الأبواب كلها تنفتح إذا دفعها. وكانت الأسواق كلها مفتوحة، كأن الناس سيقصدونها بعد برهة . فتذكر أنه كان يتمنى في بعض الأيام، وقت يضيق بثرثرة أهل مدينته، وطلباتهم، ورغباتهم، لو كانت المدينة دون سكانها. ها هي الآن كذلك! فلماذا يشعر بالوحشة؟ لاحظ أنه يمشي وحيداً. اختفى حراسه كما اختفت الرعية! أهربوا خوفاً من الذئاب، أم تسللوا هرباً منه؟ تركوه! ولا مجال الآن لأن يهدد أحداً. لا يستطيع الآن أن يشهر الخوف سلاحاً. لا يستطيع أن يكون ملكاً أو أميراً أو غنياً لأنه في مدينة دون ناس، أكان أولئك الناس راضين أم خائفين، أكانوا سعداء أم أشقياء.

اندفع باحثاً عن شعبه. دفع أول باب صادفه، فرأى بيتأ فقيراً، نظيفاً ساكناً. في المطبخ رأى مقعداً عليه طراحة مغطاة بقماش نظيف، لكن الرفوف فيه فارغة، فخرج مسرعاً. في الباحة رأى شجرة ليمون مثمرة .فقال لنفسه: لدى أصحاب البيت إذن ما يؤكل! ولاحظ على البلاط أثر الماء. كل شيء يشير إلى الأحياء، فأين هم؟ في البيت التالي، رأى وهو يقف على عتبة غرفة، أصحاب البيت جالسين. لكنهم لم يتحركوا وهو يتقدم إليهم. ولم يلتفتوا إليه. اقترب ولمسهم، فلم يرتعشوا. شعر ببرودة الحجر تحت أصابعه. فتراجع ذاهلاً، وخرج من البيت. في الطريق الساكن انتبه إلى قطة. اقترب منها ورفع قدمه كمن يهم بأن يرفسها. لم تتحرك. ضرب بقدمه الأرض أمامها فبقيت ساكنة. فاندفع إلى بيت آخر، وفتح الغرف واحدة إثرأخرى. فوجد في إحداها أسرة مجتمعة كأنها تنتظر أمراً. لم يتحرك أحد منها وهو يقترب منها. في البيت الثالث والرابع والخامس تكرر المشهد نفسه: أشخاص جالسون أو واقفون كأنهم يصغون إلى بلاغ مهم أو ينتظرون إعلاناً عن حدث. لكنهم جامدون، ساكنون، بشر من حجر.

اجتاحه الغضب. صاح: مؤامرة ! يا للماكرين! لم يجرؤوا على الخلاص منه فخلصوه من أنفسهم . لم يتركهم فتركوه. ثم خطر له أن أعداءه أرسلوا إلى مدينته، في السر، ساحراً أو شريراً انتقم منه فحول رعيته إلى تماثيل من حجر. تلفت. لا أنس ولا جن! آه، ليعترف لنفسه بأن أمنيته كانت أن يتحول سكان مدينته إلى تماثيل تسمع ولا تتكلم،  تشتغل ولا تطلب، تحضر ولا تناقش أو تفكر. لكن كيف تحقق ذلك؟! ولماذا تحقق ذلك الآن وهو في حاجة إلى رعية يحشدها لترد قطيع الذئاب!

سمع هدير الذئاب! اقتربت اذن! تسلقت الأسوار واندفعت إلى المدينة! لم يغنه حراسه ولم تسعفه أبراجه! صرخ: ياناس، انهضوا! ياناس هجمت الذئاب على مدينتكم! رددت الجبال صراخه. ولكن لم يهرع إليه أحد من سكان مدينته.وتذكر عندئذ أنه أعلن مرات قبل هذا اليوم أن الذئاب تهاجم المدينة. أعلن ذلك يوم انعقد الصراع بينه وبين أولاد عمه على الميراث. ويوم كاد منافسه يحتل قصره. ويوم..ويوم.. فكان الناس يتجمعون تحت برجه، وكل منهم يحمل ماتيسر له، عصاً أو سكيناً أو حجراً. فكان يكسب بهم معاركه ضد منافسيه، والناس يظنون أنه يكسبها ضد الذئاب. كانت المرة الأخيرة التي طلب فيها معونة الناس على الذئاب، يوم شيد مائدة من الأحجار الكريمة، حشد فوقها أنواعاً من الثمار النادرة والأطعمة التي نقلت من بلاد بعيدة، خلال مجاعة اجتاحت مدينته، فتنقل الرسل يروون الأخبار عن ذلك قائلين: أموالكم تهدر وأولادكم يموتون من الجوع! صرخ يومذاك: هجمت الذئاب، فنسي الناس ما قيل لهم، وركضوا لينقذوا المدينة من الذئاب!

وقف في وسط الطريق وصرخ: أقسم أن الذئاب تجتاح المدينة الآن! يا ناس، أقسم لكم..! لم تتحرك على ندائه ستارة، ولم يرتجف باب، لم يظهر ولد أو قطة على سطح. لم يخرج إليه أحد! صرخ: النجدة! النجدة، ياناس! فرددت الحارات والأسواق نداءه. في السكون سمع صوت الذئاب. ومع ذلك ظلت حتى الأشجار ساكنة . كان كل شيء في المدينة جامداً حتى الهواء.

وعندئذ انتبه إلى أنه الحي الوحيد الآن، وأن الذئاب التي أخاف بها رعيته، يمكن أن تمزقه، فاجتاحه الخوف، الخوف نفسه الذي كان سلاحه ودرعه في مدينته! فتلفت باحثاً عن الجهة التي يمكن ألا تهاجمه منها الذئاب. لكن الأصوات وصلت إليه من الجهات كلها، كأنها تقصده. ثم رآها.  وفي برهة خاطفة كالبرق فهم أن رعيته اجتمعت إلى ساحر وطلبت نصيحته كي يخلصها منه ومن الذئاب معاً.

كان الحل الذي وجده لها، إذن، أن يحولها إلى صخر بانتظار الزمن المأمول؟ وأن تتركه وحده للذئاب تنهشه؟ ألذلك رأى الناس في وضع من يبحث أمراً أو ينتظر حدثاً عظيماً؟

شعر بغضب هائل، وصرخ: أيتها الذئاب، تعالي! سأدلك إلى جميع المخابىء! وسأبحث لك عن الإكسير الذي خبأه الساحر ليوم الخلاص المنتظر! أيتها الذئاب اتبعيني، أنا الآن راعيك، ودليلك في المدينة المسحورة! سأنبش حتى حجارة الأرض باحثاً عن الأسرار، ولن أسمع بأن يكون الموت الظاهر اليوم موتاً مؤقتاً. بل سأجعله موتاً أبدياً. سأكسر الصخور، وأفرق المجتمعين ولو كانوا تماثيل. سأبدد هذه المدينة في الريح. هيا أيتها الذئاب، أنت وأنا عليها! سأربي هذه الرعية في مرعى ذي أسوار، أفلح ببعضها أرضي وأحصد زرعي، وتتناولين أنت منها لحمها وشحمها!

علىهذا النداء حضر حراسه الذي كانوا قد اختفوا كأن الريح بعثرتهم. حضروا كأنهم منتصرون. لم يسألهم الراعي أين كانوا، ولم يسألوه كيف صاحب الذئاب، ولم السؤال وكل منهم يشعر بالأمان. انتهى زمن الخشية من الذئاب، وهاهو ينتقل مع حراسه من جانب المهزومين إلى جانب المنتصرين!

لم يستطع أهل المدينة المسحورة أن يدهشوا لأن راعي المدينة دعا الذئاب ووعدهم بالبحث عن إكسير خلاصهم، هو الذي عاش عمره كله يهددهم باجتياح الذئاب، فيطعمونه ويسقونه ويخدمونه في انتظار المعركة المنتظرة التي ستخلص المدينة من الذئاب وتنشر فيها الأمان! لم يستطيعوا أن يدهشوا لأن حراسه الذين عاشوا في أبراجهم المرتفعة كي يكونوا قادرين على رصد قطيع الذئاب في الليل والنهار فيحذروا المدينة منه، ناموا في ليلة المصير، ثم اختفوا ولم يسمعوا إلا نداء الراعي الأخير! لم يدهش أهل المدينة .. لأنهم كانوا من حجر وصخر. وقد غربت الشمس في ذلك اليوم من الشرق، ولاحظت وهي تغرق في العتمة أن على الصخور ندى كالدموع، وقبل أن تتساءل: أيبكي الحجر؟ اجتاحتها العتمة، وسمعت صوت قطيع الذئاب ممزوجاً بهتافات المنتصرين .

 

 

المتأخر

 

لم يومن بالحظ في حياته، حتى يوم اشترى ورقة يانصيب . فهل يضطر إلى الإيمان به بعد موته؟ بم يفسر إذن ما حدث؟

ولد بعد خمس بنات. فكان يفترض أن يكون مولده فرحة عظيمة في الحي كله. لكن زغردة واحدة لم تسمع في بيت أهله أو في بيوت جيرانه. لم يحدث ذلك لأن ابن شيخ الحارة ولد في ذلك اليوم نفسه، في تلك الساعة نفسها. بل ولد ثلاثة صبيان في حارته يومذاك حتى سميت تلك السنة سنة الصبيان. لكن ابن شيخ الحارة خطف الانتباه إليه باحتفال مشهود. نقل السجاد من بيوت المولودين في ذلك اليوم، وقطعت أغصان الكينا حتى من الشجرة التي غرسها جد الصبي وعقدت قوساً على بوابة شيخ الحارة . وهناك كانت العراضة الكبيرة التي بدت كأنها تهنىء قادماً من الحج!

سمعت في البيوت سخرية من ذلك، لكن الساخرين أنفسهم مشوا إلى بيت شيخ الحارة وقدموا له التهنئة والهدايا، ورووا له أن منجماً أكد مولد نابغة يحمل أبوه صفات المختار نفسها تماماً. انشغلت الحارة كلها يومذاك بالمنجمين والتنجيم وأعلنت أن الخير سينتشر في البلاد كلها طوال حياة المولود السعيد، وأن الكوارث ستنزل بها إذا مرض. لذلك قررت الحارة أن تحرس صحته .

قدم أهل الصبي يومذاك الكراوية لأصحابهم، في السر. لكن هؤلاء الأصحاب ذاقوا مقدار ملعقة منها فقط، ولم يمنعهم الخجل أن يعلنوا: لم تترك كراوية المختار مكاناً لغيرها‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍! ووصفوا الكراوية التي قدمت في بيت المختار: زبادي كبيرة، ملأى بالفستق واللوز وجوز الهند!

يجب أن يعترف بأن حظه سيء! لولا ذلك لا نزلق كي يولد تحت نجم آخر! فرغم الأحداث التي واكبت مولده، كان في المدرسة متفوقاً.لكنه لم يذق مرة الاحتفال بتفوقه، حتى بين أهله. فالحارة كانت ترتب الاحتفالات بتفوق ابن المختار في دراسته في اليوم والساعة التي ينوي أهله فيها الاحتفال به. ويوم أحاط أهله احتفالهم بالسر خوفاً من العين ومن المصادفات، فوجئوا بما لم يتوقعوه: مات رجل وقور من أجداده. فتكتموا على موته كيلا يفسدوا الاحتفالات بتفوق ابن المختار، لكن هل يمكن أن يحتفلوا هم بابنهم!!

لحقته المصادفات حتى في ختانه. دعي الأهل والأصحاب إلى سيران في البستان. وحضّر أهله اللحم والرز . لكن ابن كبير التجار وصل يومذاك من غربته الطويلة فخرج أهل الحارة لاستقباله، ومعهم المدعوون إلى الختان من أقربائه . هل فضلوا الحفلة الكبرى للفرجة على الأجنبية الشقراء التي قيل إنه أتى بها، ووصل صيت جمالها بالبريد قبل أن تصل!

أصبح يتوقع الأحداث الكبيرة كلما فكر باحتفال أو دعوة يجمع فيها أصحابه . فكان يبتسم سائلاً أمه: هل تريدون عرساً أو مأتماً أو احتفالاً يهز الحارة؟ فيفهم من يسمعه مقصده . نعم، لم يعرف في عمره، أو يعرفوا، أن حارته لم تشاركه في حزنه وفرحه!

هل نسي ذلك كله يوم سحرته زميلته فأحبها، ولم يحترس فأظهر حبه! انتظرها ومشى معها ورأسه مستدير إليها كأن حفر الطريق لا توجد، ولا يوجد الرجال الغلاط الذين لا يفهمون أنه شريكهم في الأرصفة! دفعه أحدهم مرة حتى كادت كتفه تنكسر، وكاد يقع لو لم تمسك به حبيبته.

في ذلك اليوم اكتشف حبها العميق له! لو لم يرفض اقتراحها لأوصلته هي حتى موقف الباص، أو لأركبته تاكسي يوصله إلى باب بيته! بعد ذلك اليوم تجولا في طرقات المدينة حتى كاد يخيل إليه أنها انتهت . فهل يلومها بعد ذلك إذا تركته؟

رآها تركب سيارة فخمة إلى جانب رجل، وفهم لماذا اختفت من مجال رؤيته . تذكر أن ذلك التاجر الغني راقبها وهي تمشي معه . واكتشف رشاقة خطوتها وأناقة جسمها وحركة شعرها الذي يرف في ايقاع! ألم يلمح تلك السيارة مرات خلال سيرهما في الشوارع؟

عجز الحب عن الدفاع عن النفس أمام أموال التاجر وفخامته!

لذلك طلب من أمه أن تخطب له فتاة من حي بعيد، من أسرة متواضعة، وأن تبقي الخطبة في السر حتى ليلة العرس . فقالت أمه لأهل العروس أنها تخشى الحسد والعين، وأكدت أن العرس المطنطن سيعوض الخطبة السرية .

كان يتلفت كلما زار بيت خطيبته، ليتأكد أن شخصاً لم يتبعه .وكان كالسمن والعسل مع خطيبته وأهلها . كانوا يتركونه وحده مع خطيبته عندما يحضرون القهوة . فيسمحون بالحد الممكن من خلوة لا تمنع الشابين من التعارف، ولا تسمح به.

رتبت خطوات العرس، وعلقت بذلة العروس في غرفتها لتحفظ بهجة السر . وانشغل الأهل بشراء التفاصيل التي يعرفون أنها ستظل ناقصة حتى يستكملها الزوجان عندما يكتشفان أن الحب يأكل ويطبخ وينام وينشر الغسيل، ويغلي الثياب البيضاء في وعاء، ويبدل شراشف السرير، ويهتم بكبس المخلل في قطرميزات، وبحبك البامياء حبالاً  لتجف . ويمد الملوخية على ملاءات .

كيف وصل في تلك الزحمة ذلك الشاب مع أمواله التي كنزها في عشر سنوات في الخليج؟ قالت أم الفتاة لأمه الذاهلة: قدم ابنك خير! لم يخطبها قبله أحد! لم تخترها امرأة من نساء الحارة لابنها! منذ خطبها ابنك نستقبل كل يوم خطابين، فنفهمهم أنهم تأخروا لأن البنت مخطوبة . لكن النصيب يخرس اللسان . عندما زارنا أهل هذا الشاب أعجبوا بالعروس، ولم يثنهم ما أعلناه فعادوا مع ابنهم . رآها صدفة، صدفة . وكأن الله، جل اسمه، أغلق أفواهنا عندما طلبها بنفسه منا! نصيب.. نصيب..

قالت أمه: بل الأموال، الأموال! يلحقك الأغنياء أينما مشيت، ويتبعون خطاك يا ابني حتى أكاد أؤمن بالجن، أستغفر الله! يحلو في عيون الناس كل ما تمد يدك نحوه! ينتبهون إلى ما تنبه إليه! لم تقل له أمه: يسرقون اللقمة من فمك! لكنه فهم ما لم تقله .

ما العمل إذن؟ هل قرر في ذلك اليوم أن يترك الدنيا لأهلها القادرين على إنفاق الأموال على الفتيات وإغراء العرائس، وترتيب الاحتفالات بالولادة والختان ونجاح الأولاد في المدارس والجامعات والأعمال؟ هل أحب تلك الفتاة التي لم ينتبه إليها أحد قبله، ولذلك لم يطق بعدها الحياة؟

قالت أمه: بحثت تحت الملاءات وفي البيوت المظلمة حتى اكتفشتها. لولا ملابس الخطبة وصبغ الوجه بالحمرة لما انتبه إليها أحد . مع ذلك كبّرها ابني بموته في عين خطيبها! فوصل خطابون جدد إليها بعد مأتمه . أنا أعرف أنه لم يمت من الحب! ولكن من يفهم ذلك! لم يحزن الأم أن ابنها طق ومات، فقط. بل أن ابن شيخ الحارة الذي ولد معه في اليوم نفسه، مات بعده بدقائق . وفي ذلك اليوم نفسه وقع سقف مقهى فخم فوق مجموعة من الشباب كانوا يرقصون مع مجموعة من الشابات الجميلات. صاحت أمه: يا ويلي، لحقوه حتى إلى القبر!

لم يجد أهله آسا يتقدم جنازته ويزين قبره! وكم كان يحب الآس! لم يجد أصحابه حتى زهر الأكاليل الرخيص لجنازته، ولم يجدوا حتى شرائط سوداء يشيرون بها إلى موته.

انشغلت أمه عن الحزن بالتفكير في مصيره: لم يعطونا حتى الآن رخصة بدفنه! قال لها صاحبه: البلد كلها مشغولة بغيره! وكاد يقول لها " قدمه خير " لكنه صحح جملته فقال: قدمه جرّارة! وروى لها أنه رآه يدخل مطعماً يكاد يفلس، فإذا بالناس يتدفقون إليه!

بعد ذلك الكلام تسلل بعض الشباب خائفين على أنفسهم، وقالت النساء: فأل الله ولا فألك!

وصل الشاب إلى المقبرة في أول المساء، دون آس ودون أكاليل . لم يجد سيارة ينقل بها ويعلن منها اسمه ويقال: ترحموا عليه يرحمكم الله! لو لم يحمله أصحابه المخلصون الذين أتوا إليه بعد حضورهم مأتم ابن شيخ الحارة، لبقي في الحارة كأنه لم يقصد الخروج منها . رفعوه على أكتافهم مرة، ووضعوه على الأرض مرة . التفتوا فلم يجدوا أحداً غيرهم وراءه . فاضطر أولئك الأصحاب المخلصون إلى الاعتذار من صديقهم المحبوب، فالطريق طويل، والعزم قليل، والله نفسه لا يأمر إلا بما يستطاع! تركوه فكشف الغطاء ونهض، وأكمل طريقه الطويل ماشياً .

لم تعرف تلك التفاصيل أمه التي جلست وحيدة في البيت . لكنها قدرت وهو بعد أمام الباب أنه لن يصل إلى ملجئه الأخير إلا بشفقة الملائكة . فتركته هناك  وجلست في صدر الغرفة كمن ينتظر المعزين . يجب أن تقوم بذلك الطقس من طقوس المأتم على الأقل! فلا صوت بكاء يعلن للميت أن فراقه مؤلم للمحبين، ولا تلاوة تخفف عنه الوحدة وتشعره بأنه يودع في مهابة . ولا زهر ولو كان "الغريب"! فالمقرئون والأزهار والناس في اتجاه آخر، تستدعيه عواطف أخرى منها طلب الستر ومنها الطموح.

من غير الأم يستطيع أن يتخيل الغرفة الفارغة مزدحمة بالملائكة الطيبين، يلبسون ملابسهم البيضاء النظيفة ويجلسون صامتين! جلست الأم بينهم مستمعة إلى الحفيف حتى فتح الباب ودخلت امرأة عجوز فكادت تظنها من الجن . ثم تأملتها وفهمت أن الانسان إذا  تقدم في السن ضيع أنواعاً من العواطف، منها الشعور بالخوف . وبدا لها أن الإنسان إذا فقد من يخاف عليهم ويحبهم، فقد الرغبة في الحياة . لم تكن أم المتوفى قد شارفت على تلك السن . لكنها باحت للمعزية العجوز بشعورها بالراحة، لأن ابنها وصل إلى مكان وزمان لا سباق فيه . وقالت لها: يستمتع من يتحمل أثقال الحياة بمرة واحدة يحمل فيها على الأكتاف .

وكان ابنها وقتذاك يمشي في الطريق الطويل . ويرى الأكاليل معلقة على الجانبين، والآيات القرآنية والكلمات المأثورة على ورق كبير، في إطارات من خشب معلقة على شرفات البيوت .

رأى من الأزهار ما لم ير مثله في حياته كلها . واستمتع بذلك . لو يستطيع أن يواسي أمه ويقول لها: وفرت ذلك عليك وعلى أصحابي، فها هو الزهر يحف بطريقي من أوله إلى آخره!

توقف برهة عند البوابة . هل يودع الأمس الذي امتد على حياته؟ هل يودع المدينة التي لم تودعه؟ لا مجال للعتب أو الحزن! فالعالم الجديد، أيضاً، لم يرسل موفداً لاستقباله! دفع البوابة وكانت بوابة رائعة، واسعة، مزخرفة، مدهونة باللون الأبيض، خلفها أشجار كثيفة، حديقة عظيمة! لم يجد عند الباب حارساً يدله إلى مكانه، فهل يستطيع أن يصل إليه في هذه العتمة؟ من يتناول منه الورقة التي في يده؟ من يسجله؟ هنا أيضاً لا مكان له؟ أيتكرر هنا أيضاً ما حدث له يوم عبر المسافرون كلهم الحدود قبله مع أنهم وصلوا بعده؟ وما حدث يوم حمل أوراقه إلى المؤسسة ليطلب عملاً، فنودي كل من كان بعده؟ قال لنفسه: يا للحرية! وتجول حراً   كالهواء .

تجول حتى غيبت العتمة الأشجار والأرقام . وعندئذ سمع ترتيلاً شجياً فتبع الصوت . فرأى هناك ابن شيخ الحارة كالمحتفى به وسط شباب وكهول عرفهم في حياته . رأى وسط مرج من الشموع والأزهار، الأغنياء الذين خطفوا منه يومه الأخير، والفقراء المحتفين بهم! سحرته الشموع والأزهار والثياب الناصعة التي تتألق في ضوء الشموع . أينضم إليهم ويرتل معهم؟ أيترك مأتمه ليشترك في احتفالهم؟

استدار عن ذلك السحر . قرر أن يتجول في العتمة . لكنه وجد نفسه وسط حلقات من الناس، وراءها حلقات . كان اتجاه حركتها نحو المركز حيث ابن شيخ الحارة والأغنياء والفقراء والشموع . فاندفع عكسها . لكنه كان يقاد إلى المركز كلما خطا خطوة في الاتجاه المعاكس . كأن ريحاً تدفعه . وكان يبدو كأنه هو الذي اختار اتجاهه .

 

أضيفت في 15/06/2007/ خاص القصة السورية

 

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية