أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 04/09/2022

أعمال مترجمة / الكاتبة: رشا حداد

أعمال مترجمة

إلى صفحة الكاتبة

لقراءة الأعمال المترجمة

 

 

الأعمال المترجمة

ثلاث ضربات في يوم واحد

حساء اللؤلؤ والزمرد والفيروز

الرحلة السعيدة

نزهة مسائية 

ولد في سنة الثور

 

 

نزهة مسائية

 

هنالك بضعة أشياء متوقّع وجودها دائماً عند ذهاب سوميترا إلى السرير في المساء. فقد احتفظت قرب مخدّتها ببيل كهربائي، ونظّارة للقراءة، وساعتها المعصمية، وعلبة أعواد ثقاب، ومنديل وكتاب. وإن حدث وفقدت إحدى هذه الحلي، فمن الثابت أنها ستعلم ذلك وغالباً بالغريزة، التي جعلتها تتفحص أغراضها كلها من جديد لتتأكد بنفسها. نعم، لقد وجدت أنها على حق بعد ذلك: فقد نسيت إحضار علبة الثقاب. وهي في هذه الحالة لا تزعج برابها عند وضع الناموسية، فإنها تذهب بنفسها إلى المطبخ لإحضارها.‏

 

كما احتفظت أيضاً باتجاه رأس السرير وتحت الفراش الثخين بسكين طويلة، أو موس لقص الورق إذا أحببت أن تدعوه بذلك. فتأخذها أحياناً لتقوم بشيء أشبه بتشريح يقطينة كاملة. وتقوم سدىً بعد استعمالها بفحص حدّتها ومسحها لتجفّ ثم إعادتها إلى مكانها. حتى أنها ذهبت مرّة إلى مكتب المناوب لتنظيم رخصة المسدس، كما أحضرت صورة طلب رسمي أيضاً، لكنها لم تملأه إلى الآن.‏

 

يوقظها أحياناً في الليل صوت ضجة غير اعتيادية. فتتحول أفكارها مباشرةً إلى موس قص الورق أو إلى الكتاب، وهذا يعتمد على نوع الصوت. إن كان صادراً عن العصافير الصغيرة المهتاجة في أقفاصها في الفجر الباكر، فهي لا تفكر بالسكين الحادة. لكنها عندما تستيقظ أحياناً بدون سبب معين، فإنها لا تهتم بالأشياء التي تحفظ رفقتها جانب السرير. لذلك فهي تسترجع في تلك اللحظات الأحداث الممتدة خلال إحدى وأربعين سنة خلت أو خلال حياتها المؤلفة من واحد وأربعين صيفاً.‏

 

وإن لم تستمتع ببعض الذكريات التي لا تزال ترفض مغادرتها، فإنها تتذكر كتابها. ثم تذهب الأصابع بشكل أوتوماتيكي إلى تحوّل مفاجئ لجانب السرير حتى تصل إلى الكتاب.‏

 

في ذلك الصباح، وفي وقت مبكر جداً منه دفعتها برفقٍ إثارة مكبوتة من نومها الخفيف. شعرت بما يشبه رجلاً عجوزاً مضطرباً وقلقاً بشأن اللحاق بحافلة الساعة السادسة، أو ما يشبه مراهقاً في الصف التاسع مُثقلاً بمسؤولية تدبير اليوم التالي في المدرسة لساراواتي بوجا.‏

 

 

صارت سوميترا ترهف السمع. هل من طائر يصيح في مكان ما؟ لا، لا يوجد شيء. نظرت إلى الزاوية حيث التقاء السقف بالحائط لترى إنْ تسرّب أي ضوء من كوة الإضاءة في السقف. لا يوجد شيء بعد. ولم تشعر بشيء يشبه إشعال الضوء.‏

 

ثم رأت بعد تركيز بؤرة ضوء البيل على ساعتها المعصمية أنها تشير إلى الساعة الثالثة وخمس عشرة دقيقة، أو سبع عشرة دقيقة بالتحديد. فعلمت أنها لن تستطيع النوم مجدداً.‏

 

كان من عادتها القيام بنزهة صباحية، فهي تسير حوالي كيلومترين كل يوم عل الأقل. وقد لاحظت لو أن الوقت متأخر وكان حوالي الرابعة والنصف فسيكون الضوء مقبولاً للخروج. آه، لو كانت الساعة الرابعة وسبع عشرة دقيقة بدلاً من الثالثة، لنهضت بشكل فوري. لكنها لن تستطيع الآن إلا سحب غطاء السرير حتى عنقها والاستلقاء منتظرة.‏

 

خطرت على بالها فكرة منزلها الجديد، لقد كان يوماً عظيماً، فقد بني العمود الأول في الصباح. وأشرف محيي الدين مساء أمس على عاملين مستأجرين لبناء هيكل غريب الهيئة ذي أربعة عواميد حديدية، سيستخدم في نصب الدعامة. لم تفهم سوميترا أياً من هذه التعقيدات. واتفاقها مع محيي الدين كان واضحاً. فسوف يقوم بكل ما هو ضروري لبناء المنزل وهي سوف تزوّد بالمال. وهو الوحيد الذي لم يخدعها مستفيداً من وحدتها. لقد كان محيي الذين في يومٍ ما بنّاءً، والآن أصبح مقاولاً، ولم يقم بأي عمل يدوي هذه الأيام. فقد ارتدى منامة بيضاء وكورتا وساعة معصمية ذات حجم كبير. وبانفعال ظاهر كان يهب لتقديم يد المساعدة مباشرة عندما يقوم وافد جديد عديم الخبرة بأخطاء متكررة. وخلافاً لذلك، كان يجلس في زاوية ظليلة يستمع لأغانٍ شعبيةٍ عبر المذياع.‏

 

كان مشغولاً منذ الشهر الأخير أو نحو ذلك بتحميل قضبان حديدية وآجر وحصى إلى زاوية أرض البناء. كما كان هناك أيضاً حظيرة صغيرة ذات سقف من القصدير لتؤوي الحارس الليلي ومئة من الأشياء الصغيرة اللازمة خلال البناء. كما انتهى أيضاً من تصميم حصان خشبي سيستخدم في ثني القضبان الحديدية. وكانت سوميترا تزور الموقع خلال الأسابيع القليلة الأخيرة لتشهد الاستعداد كل يومين خلال فترة بعد الظهر، ويناولها محيي الدين بشكل دائم في تلك المناسبات قطع ورقٍ صغيرة ذات أشكال وألوان غريبة، من المفترض أنها إيصالات. كان يوجد بينها قطع بحجم نصف ورقة اللعب. كان يمكن أن يكتب عليها شيء غريب مثل (روبيات جونا الإحدى عشر). وقد أخذت سوميترا النقود، متظاهرةً باستيعاب كل شيء، وتساءلت بطريقة العارف: (ماذا سنفعل غداً؟).‏

 

كان محيي الدين قد أحضر آنذاك مجموعة من المخطوطات الزرقاء للمنزل. لاحظت سوميترا في اليوم الأول أنه كان يتفحص المشروع المرسوم على الورق الشفاف من الجهة الخاطئة. ربما لم يعلم ذلك. صححت له سوميترا (لماذا تنظر إليها من الجهة المعاكسة؟ عليك أن تديرها للجهة الأخرى). لكن محيي الدين لم يبد أيّ إشارةٍ واضحةٍ عن ارتباكه. وقد قال متجاهلاً الاقتراح (إنها نفس الفكرة يا سيدتي! تبدو فقط غرف الجهة الشرقية كأنّها واقعة في الغرب. وخلافاً لذلك، ما الاختلاف الذي سيحصل؟).‏

 

تساءلت سوميترا (لكنك إن لم تنظر من الجهة الصحيحة. فكيف يكون باستطاعتك قراءة الرسائل؟)‏

 

قال (آه، لا مجال للكلمات كثيراً في نوعية عملنا. كنت أتساءل فقط لماذا يظهر المهندس هنا عشرين عموداً. فكما أرى، لو كانت أقل بعمودين سيكون العمل جيداً). وقد ناقشت سوميترا هذه النقطة مع المهندس المعماري الذي أعدّ المشروع. وبعد الإطلاع على التصميم من جديد، وافقها رغم كل شيء على إلغاء عمودين.‏

 

في ذلك اليوم بالتحديد، قرّرت سوميترا بأن محيي الدين إنسان خبير في عمله. وهو من جهته قد رمى على الفور المخطط الذي كان آنذاك مُنجزاً تقريباً. في ذلك الصباح وفي الساعة الثامنة على وجه التحديد، حُفرت حفرة العمود الأول. وقد اتفق محيي الدين سابقاً مع كاهن يعرفه وقدم له سبعين روبية سُلفة، ليرعى إنجاز الطقوس الدينية وتمييز المناسبة المبشرة بالنجاح، وكذلك كل شيء ابتداءً من وضع قطعة صغيرةٍ من الذهب عند قاعدة العمود إلى لفّ قمته بقطعة قماش من اللون الأحمر.‏

 

وأمعنت سوميترا بالتفكير (هل عليها إيقاف العمل؟) إنها ولسبب ما لم تشعر بسعادةٍ كبيرة. فاحتمال بناء منزلٍ خاصٍ بها لم يبد محمّساً لها. هل عليها تغيير رأيها ولو الآن؟ وإن رغبت بذلك، عليها البقاء في البيت القديم لأربعين أو خمسين سنة أخرى. وبعد ذلك، لابد من ترتيب شيءٍ ما. ولم تكن قلقةً بشأنه الآن.‏

 

لفت سمعها صوت رقيق لعصفور. استدارت برأسها لتنظر إلى الزاوية العليا مُجدداً. نعم، لقد بزغ الفجر. ونهضت.‏

 

نادت برابها بعد حوالي خمس دقائق. كانت تلك الفتاة يقظة فعلاً، فقد كان نداء واحد كافياً لإيقاظها. وقد أوصتها سوميترا قبل مغامرتها، (أنا ذاهبة في نزهة. تعالي وأغلقي الباب أولاً).‏

 

كان الضوء كافياً في الخارج لرسم ظلال ما يحيط بك. وفكرت سوميترا ربما لم يكن أحد مستيقظاً في تلك الساعة إلا برابها، وهي نفسها والعصافير والصباح. كان الجو بارداً نوعاً ما فسحبت طرف الساري لتلفّه حولها. من بعيد كان الضباب والضوء الخافت يخلقان عالماً غامضاً. وحالما أسرعت سوميترا في سيرها أحست بوجود الندى على العشب الطويل من تبلل قدميها رغم ارتدائها صندلاً.‏

 

عند وقوفها على الطريق، نظرت أولاً إلى قطعة الأرض. كانت التلال الصغيرة من الرمال والحصى قد تجمعت مع القضبان الحديدية وهيكل الأعمدة، والصفوف المتلاحقة من القرميد قد استلقت باردةً في ضباب الصباح الباكر. لابد أن الرجل الذي أحضره محيي الدين يغط في نوم عميق داخل الحظيرة. لقد قدم لها في اليوم الماضي هذا الشخص (لونجي) بزي ملوّن وزوج من الأحذية ذات اللون الوردي، وقد أعلن بشكل فظّ (من اليوم، سيبقى هنا).‏

 

تردّدت سوميترا حول بقائها وقتاً أطول ليصبح الضوء كافياً؟ وعند عجزها عن اتخاذ قرار، صارت تمشي جيئة وذهاباً على طول الطريق.‏

 

لابد أن الشرفة العالية ذات الدرابزون تقع هناك في تلك الزاوية. ويؤدي باب الشرفة إلى غرفة الاستقبال المميزة الخاصة بها. وقد وضعت في الجهة الشرقية من النافذة طاولتها الدراسية. وكذلك وضعت رفوف الكتب هناك. وكانت برابها تنام في الغرفة الصغيرة الملحقة. وبتلك الطريقة، ستكون كل منهما على مسافة مسموعة من الأخرى. أما الغرفة الوسطى في الطرف الآخر فتصلح لغرفة النوم. ويوجد خلفها غرفة المخزن. فقط ذلك الجزء من المنزل يظهر من الخارج. إنه منزل صغير ومرتّب. وإن أحسّت بالتعب من الجلوس في الداخل، فباستطاعتها الخروج إلى الشرفة والاسترخاء على الكرسي ذي الذارعين. لا، ربما لا يمكنها ذلك. فليس من اللائق، كونها امرأة، التمدد بهذا الشكل في مكان مكشوف. حسناً، ستجلس على كرسي عادي، ربما عليها سحب الكرسي من جانب طاولة الدراسة. ولكن ماذا ستفعل بهذا المنزل؟ وكيف تتعامل معه؟ نظرت سوميترا إلى المنزل. لقد خرجت منذ دقائق فقط من ذلك المنزل.‏

 

لقد تذكرت ذلك اليوم منذ شهرين، عندما كانت في سياق مناقشة التفاصيل المبدئية للمنزل مع محيي الدين. كانت قطعة الأرض حينها ممتلئة بالنباتات الصغيرة والشجيرات. وقد توقفت أمام المنزل سيارة جيب عند استغراقهما بالحديث. بقي السائق جالساً، بينما ترجل شخص من الجيب واقترب من المنزل. قرع الجرس. لاحظت سوميترا أنه ينظر إليهما بطريقة غريبة عند خروجه من السيارة، وقد واصل التحديق إليهما، بينما كان ينتظر الباب أن يُفتح. لم يكن في المنزل أحد. وقد عاد أدراجه عند إدراكه ذلك. وقد بدا أنه غيّر رأيه، عندما كان على وشك دخول سيارة الجيب، ثم اتجه نحوهما.‏

 

وقدّم نفسه قائلاً: ناماسكار! أنا نيرانجان دوتا. هل يمكنني التعرّف عليكم؟)‏

 

ردّت، (أنا سوميترا تشاودهري).‏

 

ردّ الشخص على الفور تقريباً، (لكن، طبعاً، لقد خمّنت ذلك حالما رأيتك. لم أرك من قبل. لكنني سمعت عنك).‏

 

التصق السؤال في حلقها، (كيف؟ ماذا تعرف؟).‏

 

لكنها لم تسأل. فوضح لها نيرانجان دوتا بنفسه، (عندما اشتريت قطعة الأرض هذه. حاولت أن أكتشف مالك قطعة الأرض المجاورة، إنه ليس سوى فضول طبيعي قليلاً حول جيران المستقبل. فما رأيك؟).‏

 

ابتسم نيرانجان دوتا بأدب قبل أن يتابع، (في ذلك الوقت ذكر بعض الأشخاص اسم والدك، وعندما بدأت ببناء المنزل فيما بعد، علمتُ بأن هذه الأرض في الواقع تعود ملكيتها لك).‏

 

ردّت سوميترا باحترام بالغ، (نعم، لقد ورثتها عن والدي).‏

 

فتساءل، (هل تخططين لبناء منزل هنا؟).‏

 

حاولت سوميترا أن تكون مهذبة، (حسناً، أدرك هذا فالناس يقولون أن بناء منزلٍ يشكل إزعاجاً كبيراً وهو كافٍ لتحويل شعر الشخص إلى لون رمادي).‏

 

وفجأة، بدا أن مظهر شعر سوميترا الذي فقد بريقه قد أربك نيرانجان دوتا بشكل غير محدود. فتكلّم معها الآن، وكأنه التقى بها عدة مرات إلى حد ما.‏

 

وحاول أن يمنحها الثقة، (لا، عليك ألا تكوني قلقة بشأن هذا. فالناس يقولون دائماً مثل هذه الأمور. ولابد أنك رأيت المئات من البيوت في هذه البلدة، ولكن كم من مالكي هذه البيوت لديه شعر رمادي، أخبريني!).‏

 

صدرت من نيرانجان المزيد من الكلمات الداعمة. فلم تشعر بالقلق عند بدء العمل الذي تقدّم بشكل آلي ـ لأن المسؤولية كانت تقع على الشخص الرئيسي فقط الذي كان يُعتمد عليه. فهي على أي حال تسلم المسؤولية الأساسية للمقاول. ومن المفترض أن هذا الرجل، والمقصود هو محيي الدين، يجب أن يكون من المقاولين الكادحين.‏

 

نظر دوتا إلى محيي الدين ليخمن مقدرة الرجل، فلمس البناء القديم جبهته ملقياً التحية.‏

 

لقد صار دوتا الآن مسيطراً على الوضع كلياً. وقد عرض وبدون أيّ خجل تقديم المساعدة لسوميترا في أي شيء تحتاجه. عليها فقط أن لا تتردّد في طلبها. وأخرج بطاقة زيارة تحمل رقم هاتفه. لقد علمت بأنه مقاول ـ وبشكل رئيسي في إنشاء الجسور. ويطلق الناس عليه ممازحين رجل الجسور. ولذلك فهو يعلم ما يكفي عن صميم الموضوع في بناء البيوت. وقد وعد بأن يبقى على اتصال خلال تطور العمل. ولكن على سوميترا أن تتصل به عندما تحتاج إلى شيء ما. وقد أصبح سائقه بهارات إلى حدٍ ما ذا خبرةٍ في خدمة جميع من حوله. فباستطاعته الآن تقديم الكثير من المساعدة لها.‏

 

ثم تغيّر اتجاه الحديث حيث توقفت. فقد تخطّت المستعمرة بحوالي سبعة أميالٍ شمالاً. إن تردّد سوميترا اليومي إلى تلك المسافة للإشراف على العمل يشكل بالفعل إجهاداً لها. لكن ليس بالإمكان تجنبه. لقد كان دوتا يتحدّث معظم الوقت فقد استهواه الموضوع. ثم صرح بعد وقت قليل، (أتمنى لو كنا التقينا منذ بضع أيام خلت. فأنا مالك هذا المنزل. وعزمت على شراء كوخ بعيد قليلاً عن صخب المدينة. وقد أجرته عندما أصبح مهملاً هكذا. ومن المفترض أن يخليه المستأجر في نهاية هذا الشهر. في الحقيقة، لقد أتيت اليوم هنا لمقابلته. وإن استطعتِ البقاء بعد مغادرته، فسأجد سهولة أكبر لأتفقد لك عملهم. لكن صديقاً لي قدم الأسبوع الفائت ليستفسر عن المنزل ويطلبه مني، وقد وافقت أن أعطيه إياه. يا للخسارة!).‏

 

بعد حوالي أسبوع، ظهر نيرانجان دوتا فجأة في منزلها. لقد كان واضحاً أنه يخطط بشكل ما لإلغاء الاتفاق مع صديقه. وبهذا، إن رغبت سوميترا فهي تستطيع الانتقال إلى هناك ريثما تنتهي من منزلها الخاص. ولم يتحدث عن الأجرة بل قال فقط وبشكل غير مباشر، (كما ترغبين) وغادر بعد ذلك. كان بناء سوميترا يبعد حوالي أربعة أميال عن مستعمرتها وعن قطعة الأرض أيضاً، وقد كانت المسافة واحدة. لذلك، وتبعاً لهذه الفكرة، لم يشكّل انتقالها إلى منزل دوتا المستأجر أي مشكلة. بل كان لديها ميزة قربها من الموقع. وهكذا كان من السهل اتخاذ القرار. وقد انتقلت مع برابها منذ أسبوعين.‏

 

بقي نيرانجان دوتا على اتصال خلال ذلك. وقد كان محيي الدين في الأسبوع الماضي يجد بعض الصعوبة في الحصول على نوع جيد من الآجر من السوق. فكتب نيرانجان دوتا شيئاً ما على قصاصة ورق وأرسلها إلى أحد الأشخاص الذي يدعى السيد س. ك. ساين. وفي المساء وصلت أمام المنزل شاحنتان محمّلتان بالآجر. لم يكن بالإمكان تمييز لون الآجر في الليل. لكن صوت رنينها عند التفريغ يقنع شخصاً غير خبير مثل سوميترا بأنها من النخب الأول.‏

 

توقف نيرانجان منذ يومين وهو في طريقه إلى مكان عمله، وسأل محيي الدين عن مصدر حصوله على الإسمنت. ومن ثم حضر لمقابلة سوميترا ونصحها، (لا تدعيه يحضر الإسمنت من مصدر مجهول، لقد اشتريت لتوّك خمسة أكياس أو نحو ذلك لبدء العمل حالياً، وبعد ذلك، سوف نرى).‏

 

ثم تلقى تصريحاً من سوميترا بفحص المنزل من الخارج، واقتنع بعد فحصه للفناء الخلفي بأن المستأجر السابق قد حافظ على المنزل بشكل جيد.‏

 

جلس السائق بهارات في تلك الأثناء في الشرفة منتظراً كأساً من الماء كان قد طلبه من برابها. ثم وقف حال رؤيته رئيس العمال.‏

 

وجد نيرانجان دوتا وبنظرة خاطفة إلى ساعته المعصمية أن لديه بعض الوقت الضائع. ففكر بقضائه في غرفة استقبال سوميترا للثرثرة معها. حضرت برابها، دون أن تطلب منها ذلك، وهي تحمل فنجاناً من الشاي له، ولم تنسَ تقديم فنجان آخر لبهارات.‏

 

وفجأة، وكان نيرانجان دوتا قد انتهى لتوّه من الشاي، قفز وأخبرها، (لقد قرّرت عدم تأجير المنزل بعد مغادرتك إياه. سأبقيه خالياً، فلم القلق ما دمت في المنزل المجاور؟ لقد أصبح باستطاعتي المجيء إلى هنا من حين لآخر لقضاء بضعة أيام بهدوء، فما رأيك؟).‏

 

تطلّبت ردّة فعل سوميترا بعض الوقت، وكانت ابتسامتها غير واضحة.‏

 

لكن ابتسامة نيرانجان دوتا كانت مشرقةً عندما حيّاها مودّعاً. حضر نيرانجان دوتا ثانية البارحة، قافزاً من سيارة الجيب قاطعاً المسافة إلى المنزل بخطوات طويلة. ثم نادى من الشرفة متحمّساً (آنسة تشاودهري!) كانت برابها أول من خرج. وقد دعته للدخول إلى غرفة الاستقبال ولكن مع إلقاء نظرةٍ سريعة على سيارة الجيب الواقفة خارجاً. ظهرت سوميترا بعد قليل فتحدث نيرانجان دوتا بشكل مباشر، (يا لك من إنسانة غريبة. إن نيشي تشاودهري صديق حميم فعلاً بالنسبة لي. وقد كنا متلازمين نوعاً ما لمدة سنتين وكنت موجوداً في الحفل الذي أقامه السنة الماضية عندما حاز ابنه على ثلاث رسائل في فحص الماتريك. لماذا لم تخبريني أنك الأخت الصغرى لنيشي تشاودهري؟).‏

 

لم تجب سوميترا لبعض الوقت، ثم ابتسمت بأدب وصححت له: (إنني أخته الكبرى. وكيف لي أن أعرف أنك تعرف أخي؟).‏

 

كان دوتا في تلك الأثناء يستمر بالنظر إليها لبعض الوقت. ثم سألها بصوت ضعيف، (هل قلت أخته الكبرى؟ هل تمزحين؟).‏

 

فردّت عليه بتأكيد، (ولمَ أمزح؟).‏

 

استمر دوتا بالوقوف غير مصدق ثم تحدّث تقريباً مع نفسه، (غريب! لن يصدق أحد هذا).‏

 

ثم نظر مباشرة إلى عينيها وقال بصوت عال وكافٍ لأن تسمعه، (هذا صحيح، فمن الصعب أن يصدق. وأنا متأكد بأنني سأقتنع إذا أخبرتني أنك ما زلت تدرسين في الجامعة). وحالما أتمّ جملته اتّقد وجهه ببريق قرمزي.‏

 

قرّرت سوميترا الآن، بعد مسيرها جيئة وذهاباً لبعض الوقت، أن تذهب في نزهتها. كان الطريق مستقيماً لمسافة محددة، ثم ينعطف نحو اليمين، وكان انعطافه واضحاً منذ الآن. لاحظت سوميترا وجود قطعة من صفيحة حديد مطلية بالقصدير بحجم ورقة فولسكاب على مسافة قريبة ثُبتت بعمود كهربائي، وقد أظهر اسم الطريق (راتنابورباث). لاحظت سوميترا عند وقوفها على المفترق الثلاثي أنه حتى ذلك الممر ينعطف بعد مسافة نحو اليسار. فقرّرت من باب التغيير اكتشاف الممر.‏

 

لابد من وجود حقل كبير في هذا المكان على مسافة غير بعيدة. تستطيع تمييز ذلك بنظرة نحو البيوت ومن خلال الممرات. وكانت الأشجار في بعض الزوايا عاليةً بعلو السقف. وفي زوايا أخرى ظهرت على شجرة جوز الهند مجموعة من ثمارها، وقد توقّعت أن يعني ذلك تقدّم سكان المنزل في السن. لقد دفعتها البيوت الصامتة القابعة بلا شعور في الصباح المتألّق جزئياً فجأة للدخول والتأكد بنفسها عمّا يفعله هؤلاء الناس في الداخل.‏

 

ذلك المنزل هناك يدعى (روباك بهاوان). من يسكن هناك؟ ومن هو روباك؟ هل هو اسم لصبي ما؟ لابد أنه المكان الذي ينام فيه والداه. أين ينام روباك؟‏

 

إن ذلك المنزل في تلك الزاوية قيد إضافة غرفة للسكن الرئيسي. وقد كانت كومة من الرمال ملقاةً قرب السياج، وقمة بعض أزهار السيوالي مكسوة بالبذور.‏

 

بدأ كلب شرس من المنزل الواقع على الجهة اليمنى بالنباح عليها. نظرت سوميترا نحو البوابة ذات القضبان المتشابكة. لا لن يستطيع الكلب أن يُحشر من خلالها. كان هناك ضوء في الممر المؤدي إلى الساحة الخلفية. ربما نيرانجان دوتا يسكن في منزل مشابه لهذا المنزل.‏

 

آه، يا لـه من رجل! طويل ومرتّب ذو ذراعين قويتين ـ وتضفي بشرته الشقراء مسحة من اللون القرمزي. كم يبدو وسيماً ـ وثيابه مناسبة تماماً. عندما يبتسم يشرق وجهه بأكمله. وعندما يتحدث، فإنك تقف متسمّراً لأن الكلمات ترفض الخروج.‏

 

استمرت سوميترا بالمسير. كان هناك أمام منزل آخر ممر صغير يصعد بين السلالم. لابد أنه لدفع شيء ذي عجلتين. وما زالت تقف على الشرفة دراجة ذات دفع برجل واحدة. وتساءلت سوميترا من سيركب هذه الدراجة اليوم. هل هي لشاب؟ وهل تعانقه زوجته بذراعها؟ هل فكّر فيما مضى أن تلك المرأة سوف تجلس يوماً ما وراءه بهذا الشكل متشبّثةً به؟ أو هل تخيّل فتاةً أخرى تجلس هكذا قريبة منه؟‏

 

يا له من موقف مؤلم.‏

 

ولن لِمَ سيكون كذلك؟‏

 

تابعت سوميترا مسيرها. وتوقفت حال رؤيتها نبتةً مزهرةً أمام منزل آخر. وفكّرت لماذا تتخذ الأوراق نفسها بريقاً من اللون الأحمر. يا لروعتها! وقرّرت أنّها لابد أن تزرع واحدةً من هذا النوع عند اكتمال منزلها.‏

 

حاولت سوميترا نسيان الحزن. لكنه أتى زاحفاً. لقد صار مديداً منذ بدأت تفكّر بتلك المشاكل. عليها منذ الآن أن تكون خارج نطاق مثل ذلك النوع من الحزن أو السعادة. كانت أيام العاطفة الممتلئة بالبهجة والمؤثّرة بشكل عميق قد انتهت الآن. وأمنيتها الوحيدة أن تمنع الحزن من الاقتراب.‏

 

كان طائر الساليكا، ذو اللون البني القاتم والمنقار الأصفر قد هبط من السلك العلوي واستقرّ على السياج. وبحركة غير واعية مدّت سوميترا عنقها من ناحيةٍ لأخرى لترى إن كان يوجد طائر آخر من نفس النوع. كم كانت تلك الأشياء الصغيرة في البداية تهمّها في وقت من الأوقات. كانت تعلم عند رؤيتها طائرين بأنها ستنعم بيوم ممتع، وذلك لأنها ستمضي اليوم برفقة صديقها الحميم بيبول بالطريقة التي تتوق لها. إن ذكريات تلك الساعات كانت كفيلةً بجعلها هادئةً وسعيدة طوال الليل. لكنها كانت كلّها ترهات! من كان يعلمها كل هذا الهراء؟ لقد مضى العديد من الأيام والليالي بسعادةٍ تامة، وكأن الآلاف من تلك الطيور قد ملأت أيامهما. لا، هذا لم يكن صحيحاً. فلم تكن طيور البشرى تلك لتقوم بشيء من أيام وئامهما. لقد كانت تلك الأيام حيث كان بيبول يشغل كل لحظةٍ من حياتها ـ وكانت تمنحه كل لحظاتها.‏

 

ثم اقترح بيبول في يوم من الأيام، (لنذهب بعيداً لبضعة أيام ـ بعيداً عن أولئك الناس ونتمتّع برفقتنا معاً لبضعة أيام).‏

 

وفجأة، انجذبت أنظار سوميترا نحو امرأةٍ تقوم بشيء ما في الحديقة. لم تكن تتوقّع أي شخص مستيقظ في ذلك الوقت المبكّر. وقد رأت بعد اقترابها أكثر أن المرأة كانت تقتلع العشب البري النامي في قطعة الأرض المزروعة بالخضار. نظرت كل من المرأتين إلى الأخرى. لقد بدت المرأة بثيابها القطنية القديمة وقميصها الأصفر جميلةً ولطيفةً بصفاء كأنها أم.‏

 

تابعت سوميترا مسيرها أكثر. وتساءلت بهدوء: هل لتلك المرأة ابنة تكذب، وتقول إنها ذاهبة لقضاء بضعة أيام مع صديقها ثم تُخدع من رجل مثل بيبول؟ وهل وجدت ابنتها أيضاً أن الظلام يبتلعها بعد فراق دام ثلاثة أشهر أو ما يقارب ذلك؟ هل وصلت الفتاة إلى كره جسدها؟ وهل كان الألم الثقيل يطرق نهارها وليلها؟ وهل كانت تشعر بالاشمئزاز من العالم كله من تلك الأيام الجارحة؟‏

 

اتخذت سوميترا انعطافاً أيسراً فوصلت ثانيةً إلى الشارع الرئيسي. ورأت من بعيد رجلاً يعدو مرتديا بنطالاً قصيراً وقميصاً قصير الأكمام. وبعد وقت قليل كان على مسافة قريبة، فبدا لسوميترا فجأة أن من كان يركض بعيداً عنها هو بيبول.‏

 

واصلت سرعتها بالسير خلال مرورها بالبيوت النائمة. بعد أن هجرها بيبول، حبست نفسها في المنزل مدة سنة متعلّلة بالمرض. واستفادت من ذلك الوقت في تعليم نفسها درساً صارماً. حتى أصبحت بلا شخصية واضحة، وخالية من العواطف. وخرجت قوية بعد ذلك السجن الذاتي القسري.‏

 

بعد وقت طويل، وربما بعد سنتين من حصولها على العمل في الكلية، حضر والداها لزيارتها.‏

 

سألتها والدتها بنوع من القلق، (هل ستبقين على هذه الحال؟).‏

 

كانت سوميترا قويةً. وقد حذرت والدتها: (إن أردت التحدّث حول هذه المواضيع، فمن الأفضل لك عدم المجيء. فأنا لا أريد مناقشة الأمر).‏

 

لم يقترب والداها من موضوع وحدتها، بعد تلك التجربة. وقد ترك والدها قبل موته، بقعة الأرض وخمسة وسبعين ألف روبية باسمها. ولابد أن المبلغ تضاعف إلى حوالي مئتي ألف روبية الآن. ولم تزعج نفسها بالسؤال عنه لمدة طويلة. وكانت تتساءل دائماً إن كانت تحتاج إلى المال من أجل البناء.‏

 

اعتادت أختها الصغرى أن تأتي وتقيم معها من حين لآخر في البداية، برفقة زوجها وفيما بعد برفقة أولادها، الاثنين، ثم الثلاثة. لم ترغب سوميترا بتدخل أحد في خصوصيتها، أو بمقاطعتها خلال ساعات الدراسة للتحضير لصفوفها. وكان الصبيان الكبيران مولعين باقتلاع الزهور. لم يقوموا بزيارتها في هذه الأيام. وأخيراً فُهمت تلميحات سوميترا الماكرة.‏

 

وكان أخوها نيشي ينزل عندها في بعض الأوقات، فيجلس معظم الوقت بهدوء، سائلاً عن صحتها ويغادر بعد تناوله كوباً سريعاً من الشاي. حين كان في زيارتها منذ عدّة أشهر خلت، تحدّثت معه عن رغبتها ببناء منزل. فإن جو المستعمرة قد أثار أعصابها، فسألها نيشي، (هل أعد لك تصميماً في مكتبي؟).‏

 

رفضت سوميترا العرض. فإن العديد من الشركات حاضرة للقيام بمثل هذا النوع من الأشياء. إذا كان بإمكان المرء استئجار خدماتهم، فلمَ عليه توريط الآخرين؟ ولم ترضَ بمساعدة أي شخص لها من باب الشفقة.‏

 

وكأن هناك نقصاً فيما مضى بالمتطوعين لمساعدتها. فأحدهم أراد أن يُحضر لها كلباً من نوع بهوتيا من دارجيلينغ. وأحدهم أراد أن يأخذها في رحلة إلى كانياكوماري. كان يوجد في آخر سبع وعشرين سنة على الأقل ألف شخص مستعداً دائماً لمساعدتها.‏

 

ثم هناك طالب لها في السنة الرابعة ـ ديفانتا ـ هل كان ذلك اسمه؟ لقد رجاها أن تعطيه دروساً إضافية في البيت، وأقسم أن لا ينساها طوال حياته لمساعدتها السخية. لم تكن سوميترا قلقة كثيراً، حول وعد الحياة بأكملها. بل كانت تركّز بدلاً من ذلك على تدريسه. لكنه تحوّل إلى شيطان. ففي ذات ليلة كان يتذمر من أنها ليست رقيقة بشكل كافٍ، وجافةً مثل غصن وصارمة جداً.‏

 

فوبّخته سوميترا، (نعم، أنا صارمة وجافة وقاسية، والآن هل تسمح بأن تنصرف؟).‏

 

بعد هذا الحدث الهام، أُعيدت إحاطة السياج القصديري لبيتها بأكوام من الحجارة عند الأمسيات. وقد فكرت بالواقع بإحضار مسدس بعد هذه الحادثة.‏

 

كانت سوميترا ممتنة طوال حياتها لشخص واحد فقط، إنه المشرف في كليتها، وكان في عمر والدها. فقد أحضر لها برابها. كانت فتاةً يتيمة، تعيش مع خالها. أخبرته سوميترا في البداية: (اسمع، لقد طلبت راتباً لها بقيمة عشرين روبية. وأنا سأدفع خمساً وعشرين روبية. اسأل خالها أن يفتح حساباً باسمها في البنك المجاور. وكل شهر سيودع المبلغ هناك, فأنا لا أحبذ أن يأتي الناس كل شهر لجمع المال أو بحجة أخذها إلى البيت لبضعة أيام).‏

 

تمّ الاتفاق بسهولة. وقد مرّت الآن إحدى عشرة سنة منذ أن قدَِمت برابها للعيش معها. وكلاهما تعيش في شرنقتها الخاصة. والآن وصلت برابها إلى العمر الذي بدأت سوميترا فيه تعدّ طيور الساليكا ـ لترى إن كان الاثنان يجلبان السعادة والواحد يجلب الحزن.‏

 

رأت سوميترا بعد أن سارت مسافة ابعد أن الرجل الذي يلبس بنطالاً قصيراً قد عاد إلى هذا الطريق. وما هي إلا بضع دقائق ويعبر طريقها. حنت سوميترا رأسها بينما كانت تمشي على حافة الطريق. ورأت زوجاً من الأحذية القماشية وجورباً أبيض يتجاوزها وسمعت صوت ارتطام متقطّع. أقدام ضخمة. إن كان نيرانجان دوتا يقوم بالركض فربما سيصدر نفس النمط من الصوت.‏

 

وهكذا ظنّ نيرانجان دوتا أنها لا تزال شابة ويدل مظهرها على أنها طالبة جامعية! هل لديه عائلة؟ لا، إنّها لم تحاول أن تبحث في ذلك، قامته الرجولية وعيناه اللامعتان وضحكته العريضة حملت رسالةً خاصة لها.‏

 

لنفرض أنه أتى حقاً للعيش في بنائه الإضافي من وقت لآخر؟ هل سيخترق أحلام يقظتها بينما تكون جالسة بهدوء في شرفتها؟ وهل سيطرح سؤالاً من غرفة استقباله، (مساء الخير، آنسة تشاودهري! هل ستقدمين لي فنجاناً من الشاي؟).‏

 

تحوّل الفجر الآن إلى صباح مشرق. وفُتحت بعض النوافذ. عادت سوميترا مسرعةً في شوطها الأخير. وأحسّت بالدفء الوافر عندما مشت في شرفة منزلها والتي تخصّ في الواقع نيرانجان دوتا. وبينما كانت تنادي برابها، مسحت وجهها ورقبتها بطرف ساريها. وتناولت كرسياً إلى الشرفة، بعد أن فتحت برابها الباب، ثم جلست بشكل كئيب واستمرت بالجلوس لوقت طويل.‏

 

جاء محيي الدين مبكراً. وكانت سوميترا وبرابها تتناولان الشاي في ذلك الوقت. وتناول هو أيضاً الشاي الصباحي في الشرفة الخلفية. وحالما انتهى، اقتربت سوميترا منه مع رسم تخطيطي سريع للمنزل.‏

 

ولفتت انتباهه بقولها، (اسمع يا محيي الدين. انظر إلى التصميم من الجهة المعاكسة وابدأ البناء آخذاً بعين الاعتبار ذلك التصميم. وعندما تضع العمود اليوم لا تنسَ هذا).‏

 

بدا محيي الدين متردّداً بينما كان ينظر إليها.‏

 

اتخذت سوميترا لهجة المحاضِرة في الصف، (لقد قصدت هذه الشرفة، وغرفة دراستي التي ستوضع الآن من ناحية الغرب. وهذا الاتجاه، على طول الغرفة الصغيرة سيكون من ناحية الشرق).‏

 

سمعت برابها عن تغيير الخطة حالما أتت لأخذ فنجان محيي الدين الفارغ. ترددت ثم قالت بصوت ضعيف، (لكن يا سيدتي، هناك في هذه الجهة حائط عالٍ، وهذا سيمنع الرؤية).‏

 

قالت سوميترا لمحيي الدين، (نعم، فقطعة الأرض تبعد مسافة سبعة أقدام عن الحائط نحو الغرب، والآن باستطاعتك الذهاب والمباشرة بالعمل).‏

 

كان من المفترض أن يأتي نيرانجان دوتا لمشاهدة صب العمود الأول، لكن المهندس الرئيسي استدعاه، والآن هما في طريقهما نحو الموقع. لكنه أرسل بهارات مع صندوق حلوى كبير، وعاد بهارات عندما أصبح العمود في مكانه بشكل ثابت.‏

 

جلست سوميترا عند المساء وحيدة في الشرفة. استدعت برابها لمرةٍ واحدة وقالت لها، (هذه الجهة المواجهة للمنظر من هنا ستكون الغرفة الصغيرة. وباستطاعتك اعتبارها غرفة نوم لك).‏

نزهة مسائية ـــ بهابيندرا ناث سايكيا ـ ترجمة: رشا حداد

 

 

 

الرحلة السعيدة

 

مسرحية من فصل واحد (تجربة مسرحية) ـــ تأليف: ثورنتن وايلدر ترجمة: رشا حداد

ثورنتن وايلدر

ولد ثورنتن وايلدر (1897-1975) في مدينة ماديسون بولاية وسكونسن، ودرس هناك وكذلك في الصين وفي كاليفورنيا قبل دخول كلية أوبرلين عام 1915. بعد انتقال والديه إلى نيو هافن، بولاية كونكتيكت، أمضى وايلدر عامي دراسته الجامعية الأخيرين في ييل، التي تخرج فيها، بعد الخدمة العسكرية عام 1920. خلال عمله معلماً في أكاديمية لورنسفيل بفرنسة، أكمل روايته الأولى، الكابالا (1926). أما روايته الثانية، جسر سان لويس ري (1927)، فقد جلبت له تقديراً عالمياً وأولى جوائز بوليتزر الثلاث. كانت رواياته التالية هي امرأة أندروس (1930)، الجنة غايتي (1934)، الخامس عشر من آذار (1948)، واليوم الثامن (1967). يتميز وايلدر على نحو مواز بإسهاماته الفذة في تطوير المسرح المعاصر: بلدتنا (1938)، جلد أسناننا (1942)، صانع الثقاب (1954)، ومسرحية الرحلة السعيدة هي إحدى ست مسرحيات من فصل واحد صدرت طبعتها الأولى عام 1931 ضمن كتاب يحمل عنوان عشاء عيد الميلاد الطويل ومسرحيات أخرى من فصل واحد.‏

 

بالإضافة إلى ميزاتها الهامة جداً باعتبارها عملاً أدبياً درامياً، تعتبر الرحلة السعيدة من وجهة نظر حرفة الكتابة المسرحية أكثر مسرحية غير تقليدية في ذلك الكتاب. فقد كانت مسرحية الفصل الواحد محدودة دائماً تقريباً بمكان معين، على غرار ما كانت عليه المشاهد الفردية في مسرحية الطول الكامل: غابة آردن، أمام قصر أغاممنون، غرفة استقبال الليدي وندرمير، جزء متقدم من المتن الرئيسي لسفينة الشحن البخارية غلنكيرن، مقعدان في حديقة نيويورك المركزية. لكن وايلدر، الذي تأثر بالمسرح الصيني والسينما، أضاف بُعداً آخر للمسرحية، وهو الفراغ، والحركة في الفراغ، (بعد بضع سنوات، في بلدتنا، وهي مسرحية بقالب منظر طبيعي تستخدم ثانيةً خشبة مسرح جرداء، حاكى وايلدر الحياة في قرية كاملة فعلاً من قرى نيو إنغلند).‏

 

لكن وايلدر يظل أحياناً أكثر من حرفي ومبتكر بارع. فمسرحياته مثيرة للأفكار ومؤثرة بعمق حتى بدون أن تثير العاطفة أو المشاعر. إن القليلين منا يستطيعون مشاهدة الرحلة السعيدة أو قراءتها دون أن يتذكروا الأحداث والشخصيات والأوضاع، وحتى انعطاف الجمل من ماضينا الحميم الخاص. لا شيء غير عادي يحدث، ومن الواضح أن المسرحية دراماتيكية ومع ذلك فهي تثير الضحك والدموع معاً. وعلى الرغم من طابعها العرضي كلها، فهي تحتوي على ترقب ضمني، ومجابهة، وحل.‏

 

 

شخصيات المسرحية‏

 

-مدير منصة المسرح -ماما كيربي -آرثر (13 سنة)‏

 

-كارولين (15 سنة) -بابا (إلمر) كيربي -بيولا (22 سنة)‏

 

لا تتطلب هذه المسرحية أي مشاهد. والفكرة هي أنها لا تمثل أي مكان. يمكن تحقيق هذا بستارة رمادية خلفية بدون القطع الجانبية، أو الخلفية المحنية (سيكلوراما)، أو خشبة المسرح الخالية الجرداء.‏

 

(حالما ترتفع الستارة يكون مدير المنصة منحنياً بكسل قبالة عمود مقدمة المسرح على اليسار، وهو يدخن. آرثر يلعب بالكريات الرخامية في وسط مقدمة المسرح بحركات إيمائية. كارولين بعيدة على يسار مؤخرة المسرح تتحدث مع بعض الفتيات غير المرئيات لنا. ماما كيربي تضع قبتعها (الحقيقية) بقلق أمام مرآة وهمية على يمين مؤخرة المسرح).‏

 

ماما : أين أبوك؟ لماذا ليس هنا؟ أؤكد أننا لن نطلق.‏

 

آرثر : ماما، أين قبعتي؟ لا أعتقد أنني سأذهب إذا لم أستطع إيجادها.‏

 

(لا يزال يلعب بالكريات الرخامية)‏

 

ماما : اخرج إلى الردهة وابحث عنها هناك. إلى أين ذهبت كارولين الآن، تلك الطفلة اللعينة؟‏

 

آرثر : إنها خارجاً تنتظر في الشارع وتتحدث مع بنات جونز.. لقد بحثت لتوي في الردهة ألف مرة، يا ماما، وهي ليست هناك. (يبصق من أجل الحظ الطيب قبل رمية صعبة ويدمدم) هيا، يا عزيزتي.‏

 

ماما : قلت لك، اذهب وابحث ثانية. ابحث بعناية.‏

 

(ينهض آرثر على مضض، ويعبر نحو اليمين، ويلتفت حوله، ثم يعود بخفة إلى مركز لعبته، دافعاً نفسه على الأرض بصدمة رهيبة، ويبدأ رمي كرية رخامية)‏

 

آرثر : كلا، يا ماما، ليست هناك.‏

 

ماما : (بهدوء) حسن، إنك لن تغادر نيوارك بدون تلك القبعة، رتب أمورك على ذلك. إنني لا أقوم برحلات مع صبي مشاكس.‏

 

آرثر : أوه، ماما!‏

 

(تتجه ماما إلى المقدمة اليمنى نحو أضواء المسرح، وترفع نافذة وهمية وتتحدث باتجاه المشاهدين)‏

 

ماما : (تنادي) أوه، سيدة شوارتز!‏

 

مدير المنصة : (على يسار مقدمة المسرح. يراجع نصه) إنني هنا، يا سيدة كيربي. ألم تذهبوا بعد؟‏

 

ماما : أعتقد أننا سنذهب بعد دقيقة. كيف حال الطفلة؟‏

 

مدير المنصة : إنها بخير الآن. لقد ضربناها على ظهرها وبصقت ذلك.‏

 

ماما : أليس ذلك رائعاً!.. حسن، والآن، إذا تكرمت وقدمت للقطة صحن حليب في الصباح والمساء، يا سيدة شوارتز، سأكون ممتنة لك كثيراً.. أوه، مرحباً، سيدة هوبمير!‏

 

مدير المنصة : مرحباً، سيدة كيربي، سمعت أنك ذاهبة.‏

 

ماما : (بتواضع) أوه، لمدة ثلاثة أيام فقط، يا سيدة هوبمير، لأرى ابنتي المتزوجة، بيولا، في كامدن. لقد حصل إلمر على أسبوع إجازته من المصبغة في وقت مبكر هذه السنة، وهو أفضل سائق في العالم على الإطلاق.‏

 

(تقترب كارولين من يمين مقدمة المسرح وتقف بجانب أمها)‏

 

مدير المنصة : هل الأسرة بكاملها ذاهبة؟‏

 

ماما : نعم، نحن الأربعة هنا جميعاً. لا بد أن التغيير سيكون مناسباً للأولاد. كانت ابنتي المتزوجة مريضة جداً قبل فترة قصيرة..‏

 

مدير المنصة : مسكينة! نعم، أذكر أنك أخبرتنا بذلك.‏

 

ماما : (بحنان) وأريد الذهاب لرؤية الطفلة فقط. إنني لم أرها منذ ذلك الوقت. ولن يرتاح بالي بدون أن أراها. (إلى كارولين) ألا يمكنك أن ترحبي بالسيدة هوبمير؟‏

 

كارولين : (تخفض بصرها وتقول بجفاف) مرحباً، سيدة هوبمير.‏

 

مدير المنصة : مرحباً، يا عزيزتي.. حسن، سأنتظر لأطرق هذه السجادات بعد ذهابكم، لأنني لا أريد أن أسبب لكم الاختناق. أرجو أن تمضوا وقتاً طيباً وتجدوا كل شيء على ما يرام.‏

 

ماما : شكراً لك، يا سيدة هوبمير، أرجو ذلك... حسن، أعتقد أن حليب القطة هو كل شيء، يا سيدة شوارتز، إذا كنت متأكدة من أنك لا تمانعين. إذا حدث شيء ما، فإن مفتاح الباب الخلفي معلق عند الثلاجة.‏

 

كارولين : ماما! لا ترفعي صوتك هكذا.‏

 

آرثر : الجميع بإمكانهم أن يسمعوك.‏

 

ماما : كفا عن جذب ثوبي، يا أولاد. (بهمس عالٍ) سأترك مفتاح الباب الخلفي معلقاً عند الثلاجة وسأترك باب الشبك غير مقفل.‏

 

مدير المنصة : والآن أتمنى لكم رحلة سعيدة، يا عزيزتي، وبلغي بيولا حبي.‏

 

ماما : سأفعل، وشكراً لك ألف مرة. (تخفض النافذة، وتستدير نحو مؤخرة المسرح، وتتلفت حولها. تتجه كارولين نحو اليسار وتفرك خديها بحيوية. تنشغل ماما بلمسات التوضيب الأخيرة) ماذا يمكن أن يكون قد أخر أباك؟‏

 

آرثر : (الذي لم يترك اللعب بالكريات الرخامية) لا أستطيع العثور على قبعتي، يا ماما.‏

 

(يدخل إلمر وهو يمسك قبعة، من يمين مؤخرة المسرح)‏

 

إلمر : ها هي قبعة آرثر. لا بد أنه تركها في السيارة يوم الأحد.‏

 

ماما : الحمد لله. الآن يمكننا أن ننطلق.. كارولين كيربي، ماذا فعلت بخديك؟‏

 

كارولين : (مرتبكة، بتحدّ) لا شيء.‏

 

ماما : إذا كنت قد وضعت أي شيء عليهما، فسوف أصفعك.‏

 

كارولين : كلا، يا ماما، لم أضع شيئاً طبعاً. (تنكس رأسها) لقد فركتهما فقط لأجعلهما محمرين. جميع الفتيات يفعلن ذلك في المدرسة عندما يكن ذاهبات إلى مكان ما.‏

 

ماما : لم أر مثل هذه الحماقة. إلمر، ما الذي أخرك؟‏

 

إلمر : (بصوت هادئ دائماً، وينظر دائماً بقلق عبر نظارتيه) لقد ذهبت فقط إلى المرآب وجعلت تشارلي يلقي نظرة أخيرة عليها، يا كيت.‏

 

ماما : يسرني أنك فعلت ذلك. (تجمع قطعتين من الأمتعة الوهمية وتتجه نحو الباب) لا أحب أن نتعطل على بعد أميال من أي مكان. والآن يمكننا الانطلاق. آرثر، دع هذه الكريات الرخامية. إن من ينظر إليك سيظن أنك لا تريد القيام بالرحلة.‏

 

(يخرجون عبر "الردهة" . تفتح ماما باباً وهمياً على يمين مقدمة المسرح. يخرج بابا وآرثر وكارولين عبره. تلحق ماما بهم، متأخرة كي تقفل الباب وتعلق المفتاح عند "الثلاجة". يستديرون بزاوية حادة، ويتجهون نحو مؤخرة المسرح. حالما يصلون إلى درجات الشرفة الخلفية، يبدأ كل منهم، عند نقطة محددة، بخفض ركبتيه أكثر فأكثر للدلالة على هبوط الدرج، ويصلون إلى الشارع. يحرك مدير المنصة السيارة من اليمين. إنها على يمين منتصف المسرح، وتشاهَد إلى حد ما من زاويتها، ومقدمتها باتجاه وسط مقدمة المسرح)‏

 

إلمر : (يتقدم) أنتم، أيها الأولاد، ابتعدوا عن تلك السيارة.‏

 

ماما : إن أولاد سوليفان هؤلاء يدسون رؤوسهم في كل شيء.‏

 

(يدخلون السيارة. تمسك يدا إلمر بمقود وهمي ويبدل باستمرار جهاز نقل الحركة، وتجلس ماما بجانبه. آرثر وراءه وكارولين وراء ماما)‏

 

كارولين : (تقف في المقعد الخلفي، وهي تلوح بيديها، بخجل) وداعاً، ملدريد، وداعاً، هيلين.‏

 

مدير المنصة : (بعد عودته إلى موضعه على يسار مقدمة المسرح) وداعاً، كارولين. وداعاً سيدة كيربي. أرجو أن تمضوا وقتاً طيباً.‏

 

ماما : وداعاً، يا بنات.‏

 

مدير المنصة : وداعاً، يا كيت. تبدو السيارة رائعة.‏

 

ماما : (تنظر نحو الأعلى باتجاه نافذة على اليمين) أوه، وداعاً، يا إيما! (بحياء) نعتقد أنها أفضل شفروليه صغيرة في العالم... (تنظر نحو الأعلى باتجاه اليسار) أوه، وداعاً، سيدة آدلر!‏

 

مدير المنصة : ماذا، هل أنت مسافرة، يا سيدة كيربي؟‏

 

ماما : لمدة ثلاثة أيام فقط، يا سيدة آدلر، لرؤية ابنتي المتزوجة في كامدن.‏

 

مدير المنصة : أتمنى لك وقتاً طيباً.‏

 

(تنطلق الآن ماما وكارولين ومدير المنصة في جوقة عبارات وداع هائلة. الشارع بكامله يردد الوداع. يُخرج آرثر مسدس إطلاق حبات البازلاء ويطلقه بسعادة في الهواء. يحدث تمايل أو اثنان ويكونون قد ابتعدوا)‏

 

آرثر : (يميل إلى الأمام بذعر مفاجئ) بابا! بابا! لا تمر بجانب المدرسة. فقد يرانا السيد بايدنباخ!‏

 

ماما : لا يهمني إذا رآنا. أعتقد أنني أستطيع إخراج أولادي من المدرسة ليوم واحد بدون أن أضطر إلى الاختباء في الشوارع الخلفية بسبب ذلك. (يومئ إلمر إلى عابر سبيل. بدون حدة) من هو ذاك الذي تحدثت معه، يا إلمر؟‏

 

إلمر : إنه الشخص الذي يرتب مأدبتنا في المنتجع، يا كيت.‏

 

ماما : هل هو الذي كان عليه شراء أربعمئة شريحة لحم؟ (يومئ بابا) يسعدني، بالتأكيد، ألا أكون مكانه.‏

 

إلمر : إن الهواء يتحسن الآن. تنشقا بعمق يا أولاد.‏

 

(يتنشقان بصوت عال)‏

 

آرثر : (يشير إلى لافتة بطريقة تدل على ابتعادها تدريجياً) يا إلهي، إنها مجالات مفتوحة تقريباً الآن. "ملابس ويبر وهايلبرونر للرجال الأنيقين" ماما، هل يمكنني الحصول على إحداها يوماً ما؟‏

 

ماما : إذا تخرجت بعلامات عالية سوف يسمح لك بابا بالحصول على واحدة من أجل التخرج.‏

 

(توقف. يحدق الجميع حولهم، ثم يترنحون فجأة)‏

 

كارولين : (تنتحب) أوه، بابا! هل علينا أن ننتظر حتى تمر الجنازة كلها؟‏

 

(يخلع إلمر قبعته. تمد ماما عنقها إلى الأمام بفضول كامل)‏

 

ماما : (بأمر غير حاد) اخلع قبعتك، يا آرثر. انظر إلى أبيك.. إذاً، يا إلمر، أعتقد أنه أحد زملائك. هل رأيت اللافتة؟ أظنه فرع إليزابيث. (يومئ إلمر، وتتنهد ماما متحسرة. ينحني الولدان إلى الأمام ويراقب الجميع الجنازة بصمت، وقد تزايد وقارهم للحظة. بعد توقف، تتابع ماما بشكل حالم تقريباً، ولكن غير عاطفي) حسن، إننا لم ننس الجنازة التي حضرناها، أليس كذلك؟ لم ننس عزيزنا هارولد. لقد ضحى بحياته من أجل بلاده، يجب ألا ننسى ذلك. (ثمة توقف آخر، ثم بإذعان مرح) حسن، جميعنا سوف نعرقل حركة المرور لبضع دقائق ذات يوم.‏

 

الولدان : (منزعجين جداً) ماما!‏

 

ماما : (بدون رثاء ذاتي) حسن، إنني "جاهزة" يا أولاد. وآمل أن يكون جميع الموجودين في هذه السيارة "جاهزين". وأدعو أن أكون الأولى، يا إلمر، نعم.‏

 

(يلمس إلمر يدها)‏

 

كارولين : ماما، الجميع ينظرون إليك.‏

 

آرثر : الجميع يضحكون عليك.‏

 

ماما : أوه، أمسكا لسانيكما! لا يهمني ما يظنه بي الكثير من الأشخاص الحمقى في إليزابيث ونيوجرسي.. والآن يمكننا المتابعة. تلك هي الأخيرة.‏

 

(يحدث تمايل آخر وتتابع السيارة)‏

 

كارولين : (تنظر إلى لافتة وتستدير وهي تمر بها) "حمالات سراويل ملايمة، خيار الرجل العامل" بابا، لماذا يكتبون كلمة "ملائمة" هكذا؟‏

 

إلمر : كي يدفعوك إلى التوقف والسؤال عنها، يا آنستي.‏

 

كارولين : بابا، إنك تعذبني.. ماما، لماذا يقولون "ثلاثمئة غرفة، ثلاثمئة حمام"؟‏

 

آرثر : "سباغيتي ميلر، طبق الأسرة المفضل" ماما، لماذا لا تشترين السباغيتي أبداً؟‏

 

ماما : هيا، إنك لن تأكلها مطلقاً.‏

 

آرثر : ماما، إنني أحبها الآن.‏

 

كارولين : (بإيماءة) يم يم. كانت تبدو رائعة عالياً هناك. ماما، هل تطبخينها لنا عندما نعود إلى البيت؟‏

 

ماما : (بجفاف) "يسر الإدارة أن تتلقى الاقتراحات دائماً. هدفنا إسعادكم"‏

 

(يصيح الولدان ضاحكين. حتى إلمر يبتسم. تظل ماما وقورة)‏

 

إلمر : حسن، لا أعتقد أن أحداً يتذمر، يا كيت. الجميع يعرفون أنك طباخة ماهرة.‏

 

ماما : لا أعرف إن كنت طباخة ماهرة أم لا، لكنني أعرف أن لدي خبرة. لقد طبخت على الأقل ثلاث وجبات يومياً طوال خمس وعشرين سنة.‏

 

آرثر : أوه، ماما، لقد كنت تخرجين لتناول الطعام أحياناً.‏

 

ماما : نعم. كان ذلك يجعلها سنة كبيسة.‏

 

(يضحك الولدان ثانية)‏

 

كارولين : (تضع ذراعها حول أمها بنشوة السعادة) ماما، إنني أحب الخروج إلى الريف على هذا الشكل. لنقم بذلك دائماً، يا ماما.‏

 

ماما : يا إلهي، تنشقوا ذلك الهواء! إنه يحمل المحيط كله.. إلمر، انتبه لقيادتك جيداً فوق ذلك الجسر. لا بد أن هذه نيوبرونسويك التي نقترب منها.‏

 

آرثر : (بعد توقف قصير) ماما، أين محطة الاستراحة القادمة؟‏

 

ماما : (بهدوء) إنك لا تحبها. لقد قلت قبل قليل إنها كريهة.‏

 

كارولين : (بحدة) نعم، قال ذلك، يا ماما. إنه رهيب. إنه يقول أشياء كهذه في المدرسة وأود لو تنشق الأرض وتبتلعني، يا ماما. إنه رهيب.‏

 

ماما : أوه، لا تثوري هكذا لأشياء تافهة، يا آنسة لائقة! أعتقد أننا كلنا بشر في هذه السيارة، على الأقل بقدر معرفتي. وأنت، يا آرثر، حاول أن تكون مهذباً... إلمر، لا تدهس ذلك الكلب. (تتابع الكلب بعينيها) لقد بدا لي وكأنه شاحب. إنه بحاجة إلى طبق حقيقي من الفضلات. إنه كلب جميل، أيضاً. (تقع عيناها على لوحة إعلانات إلى اليمين) تلك دعاية جميلة للسكائر، أليست كذلك؟ إنها تشبه بيولا، قليلاً.‏

 

آرثر : ماما.‏

 

ماما : نعم.‏

 

آرثر : ألا أستطيع أن أوزع صحيفة الديلي بوست في نيوارك؟‏

 

ماما : كلا، لا تستطيع. كلا، يا سيدي. سمعت أنهم يجعلون الأولاد الموزعين يستيقظون في الرابعة والنصف صباحاً. لن يستيقظ ولد لي في الرابعة والنصف كل صباح، حتى ولو مقابل مليون دولار. إن توزيع صحيفتك ساتردي إفننغ بوست صباح الخميس يكفي.‏

 

آرثر : أوه، ماما.‏

 

ماما : كلا، يا سيدي. لن يستيقظ ولد لي في الرابعة والنصف ويضيع النوم الذي أراد الله له أن يناله.‏

 

آرثر : (متجهماً) همم! ماما تتحدث دائماً عن الله. أعتقد أنها تلقت رسالة منه هذا الصباح.‏

 

ماما : (غاضبة) إلمر، أوقف هذه السيارة حالاً. لن أتابع خطوة واحدة أخرى مع أي شخص يتفوه بأشياء كهذه. آرثر، انزل من هذه السيارة.‏

 

(يوقف إلمر السيارة) إلمر، أعطه دولاراً. يمكنه العودة إلى نيوارك وحده. إنني لا أريده.‏

 

آرثر : ماذا قلت؟ لم يكن في ذلك أي شيء رهيب.‏

 

إلمر : لم أسمع ما قاله، يا كيت.‏

 

ماما : لقد منحني الله الكثير من الأشياء ولا أريد أن يهزأ به أي شخص، انزل من هذه السيارة على الفور.‏

 

كارولين : أوه، ماما... لا تفسدي الرحلة.‏

 

ماما : كلا.‏

 

إلمر : يمكننا المتابعة، يا كيت، ما دمنا قد بدأنا. سأتحدث مع الصبي الليلة.‏

 

ماما : (تذعن ببطء) لا بأس، إذا أردت ذلك، يا إلمر.‏

 

(ينطلق إلمر بالسيارة)‏

 

آرثر : (مذعوراً) أوه، ماما، لم يكن ذلك رهيباً جداً.‏

 

ماما : لا أريد التحدث في الأمر. آمل أن يطهر والدك فمك بالماء والصابون... أين سنكون جميعاً إذا بدأت التحدث عن الله هكذا، أريد أن أعرف! سنكون في الحانات والملاهي الليلية وأماكن مشابهة، تلك هي الأماكن التي سنكون فيها.‏

 

كارولين : (بعد توقف قصير جداً) ماذا قال، يا ماما؟ لم أسمع ما قاله.‏

 

ماما : لا أريد التحدث في الأمر.‏

 

(يتابعون بصمت للحظة، الصمت المروع بعد فضيحة)‏

 

إلمر : أعتقد أنني سأتوقف وأمنح السيارة بعض الماء.‏

 

ماما : لا بأس، يا إلمر. أنت تعرف أفضل.‏

 

إلمر : (يدير عجلة القيادة ويتوقف وكأنما بجانب مرآب) هل يمكنني الحصول على بعض الماء في المشع.. للتأكد؟‏

 

مدير المنصة : (في هذا المشهد فقط يبعد نصه ويقوم بالدور فعلاً) يمكنك طبعاً. (يجس الإطار الأيسر الأمامي) الهواء جيد؟ هل تريد أي زيت أو وقود؟‏

 

(يدور حول السيارة)‏

 

إلمر : كلا، لا أعتقد. لقد قمت بالترتيبات اللازمة في نيوارك.‏

 

(يصب مدير المنصة بعناية بعض الماء داخل الغطاء)‏

 

ماما : إننا على الطريق الصحيح إلى كامدن، أليس كذلك؟‏

 

مدير المنصة : (يقترب من الجانب الأيمن للسيارة) نعم، تابعوا إلى الأمام مباشرة. لا يمكن أن تتوهوا عنها. سوف تصلون إلى ترنتون خلال بضع دقائق. كامدن بلدة عظيمة، يا سيدتي، صدقيني.‏

 

ماما : إن ابنتي تحبها كثيراً... ابنتي المتزوجة.‏

 

مدير المنصة : صحيح؟ إنها مدينة عظيمة فعلاً. أعتقد أنني أعتبرها هكذا لأنني ولدت قربها.‏

 

ماما : حسن، حسن. ألا يزال أهلك يقيمون هناك؟‏

 

مدير المنصة : (يقف وإحدى قدميه على درجة مقعد ماما. يبدو أن كلاً منهما قد أعجب كثيراً بالآخر) كلا، لقد باع والدي المزرعة وبنوا مصنعاً عليها. لذلك انتقل الأهل إلى فيلادلفيا.‏

 

ماما : إن ابنتي المتزوجة بيولا تقيم هناك لأن زوجها يعمل في شركة الهاتف... كفي عن نخسي، يا كارولين!... إننا ذاهبون جميعاً في زيارة لها لبضعة أيام.‏

 

مدير المنصة : صحيح؟‏

 

ماما : لقد كانت مريضة، في الحقيقة، وشعرت بأنني يجب أن أذهب لرؤيتها. زوجي وابني سيقيمان في جميعة الشبان المسيحيين. سمعت أن لديهم مهجعاً في الطابق العلوي وهو نظيف ومريح فعلاً. هل ذهبت إلى هناك من قبل؟‏

 

مدير المنصة : كلا. إنني من فرسان كولمبس.‏

 

ماما : أوه.‏

 

مدير المنصة : لكنني مع ذلك اعتدت أن ألعب كرة السلة في الجمعية. يبدو الأمر جيداً لي. (يبتعد على مضض ويتظاهر بفحص السيارة مجدداً) حسن، أعتقد أنكم جاهزون تماماً الآن، يا سيدتي. أرجو لكم رحلة طيبة، لا يمكن أن تتوهوا عنها.‏

 

الجميع : شكراً.. شكراً جزيلاً. نتمنى لك حظاً طيباً.‏

 

(حركات ارتجاج وتمايل)‏

 

ماما : (متنهدة) العالم ممتلئ بالأشخاص الصالحين... هذا ما أدعوه بالشاب الصالح.‏

 

كارولين : (بجد) ماما، لا داعي لأن تخبري الجميع بكل شيء عنك.‏

 

ماما : حسن، يا كارولين، تصرفي أنت على طريقتك وسأتصرف أنا على طريقتي... لقد بدا لي شاحباً قليلاً. أتمنى لو أغذيه لبضعة أيام. أمه تقيم في فيلادلفيا وأعتقد أنه يأكل في تلك الأماكن اليونانية الرهيبة.‏

 

كارولين : إنني جائعة. يا بابا، هنالك منصة لبيع شطائر النقانق. ألا أستطيع الحصول على واحدة؟‏

 

إلمر : سيحصل كل منا على واحدة، ما رأيك يا كيت؟ لقد تناولنا غداء مبكراً.‏

 

ماما : افعل ما تراه أفضل، يا إلمر.‏

 

(يوقف إلمر السيارة)‏

 

إلمر : آرثر، هذا نصف دولار... اركض إلى هناك وانظر ما لديهم. لا تكثر من الخردل.‏

 

(ينزل آرثر من السيارة ويذهب خارج المسرح من اليمين. تخرج ماما وكارولين وتتمشيان قليلاً، باتجاه مؤخرة المسرح إلى اليسار. تظل كارولين على يمين أمها)‏

 

ماما : ما هذه الزهرة هناك؟... سآخذ بعضاً منها إلى بيولا.‏

 

كارولين : إنها مجرد أعشاب ضارة، يا ماما.‏

 

ماما : إنني أحبها... يا إلهي، انظري إلى السماء، هيا! إنني سعيدة لأنني ولدت في نيوجرسي. كنت أقول دائماً إنها أفضل ولاية في الاتحاد. في كل ولاية شيء ما غير موجود في أي ولاية أخرى.‏

 

(يعود الآن آرثر ويداه تمتلئان بشطائر وهمية من النقانق يقوم بتوزيعها. أولاً إلى أبيه، ثم إلى كارولين، التي تتقدم لملاقاته، وأخيراً إلى أمه. إنه لا يزال مكتئباً جداً من الفضيحة الجديدة، وبينما يقترب من أمه يقول متردداً)‏

 

آرثر : ماما، إنني آسف على ما قلت.‏

 

(ينفجر باكياً)‏

 

ماما : هيا. هيا. إننا جميعاً نتفوه بأشياء شريرة أحياناً. أعرف أنك لم تكن تعني ذلك بالشكل الذي بدا عليه. (يبكي بعنف أكثر أيضاً من السابق) حسن، هيا، هيا! إنني أسامحك، يا آرثر، والليلة قبل ذهابك إلى النوم سوف... (تهمس) إنك ولد صالح القلب، يا آرثر، ونحن جميعاً نعرف ذلك. (تبدأ كارولين بالبكاء أيضاً. تمتلئ ماما فجأة بالحيوية والسعادة) هذا ينبض بالحياة، إنه يوم رائع لنا جميعاً كي نبكي. هيا الآن، لندخل. (تعبر من وراء السيارة إلى الجانب الأيمن، يتبعها الولدان) كارولين، اصعدي إلى الأمام مع أبيك. تريد ماما أن تجلس مع حبيبها. (تجلس كارولين في الأمام مع أبيها. تفسح ماما لآرثر كي يصعد إلى السيارة قبلها، ثم تغلق الباب) لم أر أولاداً هكذا من قبل. لقد تبللت شطائركم جميعها. والآن امضغوها جيداً، كلكم... حسن، يا إلمر، انطلق. (تنطلق السيارة. تبصق كارولين) كارولين، ماذا تفعلين؟‏

 

كارولين : إنني أبصق الجلدة، يا ماما.‏

 

ماما : إذاً قولي، لا تؤاخذوني.‏

 

كارولين : لا تؤاخذوني، من فضلكم.‏

 

(تبصق ثانية)‏

 

ماما : ما هذا المكان؟ آرثر، هل رأيت مكتب البريد؟‏

 

آرثر : مكتوب عليه لورنسفيل.‏

 

ماما : ههه. كأنه مدرسة. جيد. أتساءل ماذا كان ذلك المنزل الأصفر الذي عبرناه... والآن بدأت ترنتون.‏

 

كارولين : بابا، لقد كان قريباً من هنا حيث عبر جورج واشنطن نهر ديلاوير. كان ذلك قرب ترنتون يا ماما. كان الأول في الحرب والأول في السلم، والأول في قلوب مواطنيه.‏

 

ماما : (تعاين العالم الماضي، بشكل هادئ وتعليمي) كان أكثر ما أحببت فيه أنه لم يكذب أبداً. (الولدان مكتئبان تماماً. يحدث توقف. ينهض آرثر وينظر إلى أمام السيارة) ثمة غروب لك. لا شيء يشبه الغروب الجميل.‏

 

آرثر : علينا الحصول على إذن إلى أوهايو يا ماما. هل سبق أن ذهبت إلى أوهايو؟‏

 

ماما : كلا.‏

 

(يغمرهم صمت حالم، تجلس كارولين مقتربة من أبيها، باتجاه اليسار، ويقترب آرثر من أمه على اليمين، فتضع ذراعها حوله، بطريقة غير عاطفية)‏

 

آرثر : ماما، ما أكثر الناس في العالم، يا ماما. لا بد أن هنالك آلافاً وآلافاً في الولايات المتحدة. ماما، كم عددهم؟‏

 

ماما : لا أعرف. اسأل أباك.‏

 

آرثر : بابا، كم عددهم؟‏

 

إلمر : هنالك مئة وستة وعشرون مليوناً، يا كيت.‏

 

ماما : (تضغط حول كتف آرثر) وجميعهم يحبون أن يخرجوا بسياراتهم مساءً وأولادهم بجانبهم. لماذا لا يغني أحد شيئاً؟ آرثر، أنت تغني دائماً شيئاً ما، ماذا أصابك؟‏

 

آرثر : حسن. ماذا سنغني؟‏

 

(ينطلق في محاولة)‏

 

في سلسلة جبال فرجينيا الزرقاء،‏

 

على الـ....‏

 

كلا، لا أحب هذه. لنغنّ:‏

 

كنت أعمل على الخط الحديدي‏

 

(تنضم إليه كارولين)‏

 

طوال النهار.‏

 

(تغني ماما)‏

 

كنت أعمل على الخط الحديدي‏

 

(ينضم إلمر إليهم)‏

 

لأمضي الوقت فقط.‏

 

ألا تسمعون صوت الصفارة،...‏

 

(تقفز ماما فجأة مع صيحة هائلة وحركة دائرية كبيرة)‏

 

ماما : إلمر، تلك اللافتة عليها اسم كامدن. لقد رأيتها.‏

 

إلمر : حسن، يا كيت، إذا كنت متأكدة.‏

 

(يحدث تبديل كثير في جهاز نقل الحركة إلى الوراء، مع ارتجاج)‏

 

ماما : نعم، ها هي. كامدن... خمسة أميال. يا عزيزتي الغالية بيولا. (تستمر الرحلة) والآن، يا أولاد، كونا صالحين وهادئين خلال العشاء. لقد استعادت عافيتها قبل فترة قليلة بعد عملية كيرة، وعلينا جميعاً أن نتحرك بهدوء. أنزلني مع كارولين أولاً عند الباب وسلم فقط، ثم اذهبا أيها الرجلان إلى جمعية الشبان المسيحيين وعودا إلى العشاء بعد ساعة تقريباً.‏

 

كارولين : (تغلق عينيها وتضغط قبضتها بشكل عاطفي على أنفها) إنني أرى النجمة الأولى. ليذكر كل منا أمنية.‏

 

نجمة مضيئة، نجمة لامعة،‏

 

أول نجمة رأيتها الليلة.‏

 

آمل لو أستطيع، آمل لو استطعت‏

 

أن أنال ما تمنيته الليلة.‏

 

(ثم بوقار) دبابيس. يا ماما، لقد قلت "إبراً"‏

 

(تتشابك أصابعها الصغيرة مع أصابع أمها خلف المقعد)‏

 

ماما : إبر.‏

 

كارولين : شكسبير. يا ماما، لقد قلت "الشخص الطويل"‏

 

ماما : الشخص الطويل.‏

 

كارولين : والان إنه سر ولا يمكنني قوله لأي شخص. ماما، اذكري أمنية.‏

 

ماما : (بمرح متجهم تقريباً) كلا، يمكنني أن أذكر أمنيات بدون انتظار نجمة. ويمكنني أن أقول أمنياتي بصوت عال أيضاً. هل تريدين سماعها؟‏

 

كارولين : (متراجعة) كلا، يا ماما، إننا نعرفها. لقد سمعناها. (تخفض رأسها بحنان على كتف أمها الأيسر وتقول بمحاكاة غير خبيثة) تريدينني أن أكون فتاة صالحة وتريدين أن يكون آرثر صادقاً في حياته وأعماله.‏

 

ماما : (بوقار) نعم. لذلك انتبهي لنفسك.‏

 

إلمر : كارولين، أخرجي رسالة بيولا تلك من جيب سترتي بجانبك واقرأي بصوت عال المواضع التي علّمتها بالقلم الأحمر.‏

 

كارولين : (تحاول تمييزها بصعوبة) "بعد عبورك خزاني الزيت الضخمين ببضع بنايات على يسارك..."‏

 

الجميع : (مشيرين إلى الوراء) هذه هي هناك!‏

 

كارولين : "تصل إلى زاوية حيث يوجد محل للدعاية والترويج على اليسار وعلى الزاوية المقابلة له مركز إطفاء..." (يحدد الجميع متهللين هذه العلامات) "... استدر إلى اليمين، وسر مسافة بنائين ومنزلنا هو في شارع ويرهاوزر، رقم 471"‏

 

ماما : إنه حتى شارع أجمل من الذي اعتادوا على السكن فيه. وقريب جداً من محل الدعاية والترويج.‏

 

كارولين : (هامسة) ماما، إنه أفضل من شارعنا. إنه أغنى من شارعنا. ماما، أليست بيولا أغنى منا؟‏

 

ماما : (تنظر نحوها نظرة صارمة كامدة) انتبهي لنفسك، يا آنستي. لا أريد سماع أحد يتحدث عن الغنى أو عدم الغنى في حضوري. إذا لم يكن الناس صالحين لا يعنيني مدى غناهم. إنني أسكن أفضل شارع في العالم لأن زوجي وأولادي يقيمون فيه. (تحدق بشكل مؤثر نحو كارولين للحظة كي ترسخ هذا الدرس، ثم ترفع نظرها، وترى بيولا بعيداً إلى اليسار، وتلوح بيدها) ها هي بيولا تقف على الدرج وهي تبحث عنا.‏

 

(تدخل بيولا من اليسار، وهي تلوح بيدها أيضاً. يصيح الجميع: "مرحباً، بيولا.... مرحباً". يكون الجميع الآن قد خرجوا من السيارة، ما عدا إلمر المشغول بالكابح)‏

 

بيولا : مرحباً، يا ماما. حسن، انظري كم كبر آرثر وكارولين.‏

 

ماما : إنهما يفجران ثيابهما كلها.‏

 

بيولا : (تعبر من أمامهم وتقبل والدها طويلاً وبشكل عاطفي) مرحباً، يا بابا. يا بابا العجوز الطيب. تبدو متعباً، يا بابا.‏

 

ماما : نعم، أبوك بحاجة إلى الراحة. الحمد لله أن إجازته جاءت الآن. سوف نغذيه وندعه ينام حتى وقت متأخر. (يخرج إلمر من السيارة ويقف أمامها) بابا معه هدية لك، يا لولي. لقد ذهب واشتراها.‏

 

بيولا : لماذا، يا بابا. إنك رهيب في ذهابك وشرائك أشياء لي. أليس رهيباً؟‏

 

(يزيل مدير المنصة السيارة)‏

 

ماما : حسن، إنها سر. يمكنك أن تفتحيها على العشاء.‏

 

بيولا : (تضع ذراعها حول عنقه وتحك أنفها بصدغه) يا أبي العجوز المهووس، أنت تذهب وتشتري لي! أنا التي يجب أن أشتري لك، يا بابا.‏

 

إلمر : أوه، كلا! هنالك لولي واحدة فقط في العالم.‏

 

بيولا : (تهمس، بينما تمتلئ عيناها بالدموع) هل أنت سعيد لأنني ما زلت على قيد الحياة، يا بابا؟‏

 

(تقبله على نحو مفاجئ وتعود إلى درج المنزل)‏

 

إلمر : أين هوراس، يا لولي؟‏

 

بيولا : لقد تأخر قليلاً في المكتب. سيأتي حالاً. إنه متلهف لرؤيتكم جميعاً.‏

 

ماما : حسن. اذهبا أنتما إلى الجمعية وعودا بعد حوالي ساعة.‏

 

بيولا : اذهب بشكل مستقيم، يا بابا، لا يمكن أن تتوه عنها. إنها أمامك تماماً. (يخرج إلمر وآرثر من يمين مقدمة المسرح) حسن، تعالي واصعدي، يا ماما، وأحضري أمتعتك... كارولين، هنالك مفاجأة لك في الساحة الخلفية.‏

 

كارولين : أرانب؟‏

 

بيولا : كلا.‏

 

كارولين : دجاج؟‏

 

بيولا : كلا. اذهبي وانظري. (تركض كارولين خارج المسرح من يسار مقدمة المسرح) هنالك كلبان صغيران جديدان. كنت تفكرين إن كان بإمكانك الاحتفاظ بواحد في نيوارك.‏

 

ماما : أعتقد أن بإمكاننا ذلك. (تستدير ماما وبيولا وتصعدان من يمين مؤخرة المسرح. يدفع مدير المنصة سريراً نقالاً من اليسار، ويضعه على يسار مقدمة المسرح بشكل مائل بحيث يكون أدناه باتجاه اليسار. تقترب بيولا وماما من وسط مقدمة المسرح إلى اليسار) إنه منزل جميل، يا بيولا. لديك بيت رائع تماماً.‏

 

بيولا: عندما عدت من المشفى، كان هوراس قد نقل كل شيء داخله، ولم يبق لي ما أقوم به.‏

 

ماما : هذا رائع.‏

 

(تجلس بيولا على السرير النقال، وهي تتفحص النوابض)‏

 

بيولا : أعتقد أنك ستجدين هذا مريحاً، يا ماما. (تجلس بيولا على طرفه من جهة مقدمة المسرح)‏

 

ماما : (تخلع قبعتها) أوه، يمكنني أن أنام على كومة أحذية، يا لولي! لا مشاكل لدي بخصوص النوم. (تجلس بجانبها من جهة مؤخرة المسرح) والآن دعيني أنظر إلى فتاتي. حسن، حسن، عندما رأيتك آخر مرة، لم تعرفيني. كنت تقولين باستمرار: "متى تأتي ماما؟ متى تأتي ماما؟" لكن الطبيب أبعدني.‏

 

بيولا : (تضع رأسها على كتف أمها وتبكي) كان ذلك رهيباً، يا ماما. كان رهيباً. إنها لم تعش حتى بضع دقائق، يا ماما. كان ذلك رهيباً.‏

 

ماما : (بصوت خفيض، سريع، لطيف، ملح) إن الله قدّر بشكل افضل، يا عزيزتي. إن الله قدّر بشكل افضل. إننا لا نفهم لماذا. إننا نواصل فقط، يا حبيبتي، ونقوم بأعمالنا. (ثم فجأة تقريباً) حسن، الآن (تنهض) ماذا سنقدم إلى الرجال على العشاء؟‏

 

بيولا : توجد دجاجة في الفرن.‏

 

ماما : متى وضعتها فيه؟‏

 

بيولا : (توقفها) أوه، ماما، لا تذهبي بعد. (تمسك بيد أمها وتسحبها بجانبها) أحب أن أجلس هنا معك هكذا. إنك دائماً تتململين عندما نحاول معانقتك، يا ماما.‏

 

ماما : (تضحك بحزن) نعم، إنها حماقة إلى حد ما. إنني مجرد كيس عظام عتيق من نيوارك.‏

 

(تنظر بسرعة إلى مؤخرة يديها)‏

 

بيولا : (بسخط) هيا، يا ماما، إنك جميلة! كنا دائماً نقول إنك جميلة... وكذلك، أنت أفضل أم يمكننا الحصول عليها.‏

 

ماما : (بقلق) حسن، آمل أنكم تحبونني. لا شيء يعادل أن يكون المرء محبوباً من أسرته... (تنهض) والآن سأنزل لأراقب الدجاجة. تمددي أنت هنا قليلاً وأغلقي عينيك. (تساعد بيولا على اتخاذ وضع الاستلقاء) هل أعددت كل شيء من أجل الفطور قبل أن تغلق المحلات؟‏

 

بيولا : أوه، أنت تعرفين! فخذ خنزير وبيض.‏

 

(تضحكان معاً، تضع ماما غطاء وهمياً فوق بيولا)‏

 

ماما : أؤكد أنني لم أعرف أبداً لماذا يحب الرجال فخذ الخنزير والبيض... إنهما كريهان. متى وضعت الدجاجة في الفرن؟‏

 

بيولا : في الساعة الخامسة.‏

 

ماما : حسن، الآن، أغلقي عينيك لمدة عشر دقائق.‏

 

(تستدير ماما، وتسير مباشرة باتجاه مؤخرة المسرح، ثم على امتداد الجدار نحو اليمين وهي تغني ذاهلة وبصورة غير واضحة)‏

 

كان هناك تسعة وتسعون يستلقون بأمان‏

 

في حماية الحظيرة...‏

 

وتنزل الستارة‏

 

 

حساء اللؤلؤ والزمرد والفيروز

 

عندما حشد جو هونغوو الجنود لإسقاط سلالة يان الحاكمة، هاجم هو وضابطاه تشانغ يوتشان وهو داهاي أرض التدريب العسكرية في بكين. لكن الحاكم التتري كان قد زرع ألغاماً هناك، واضطر المتمردون أن يفروا من المدينة وينتشروا. وانطلق جو على حصانه وحيداً، ولجأ إلى القفار، وهو يكابد البرد والجوع، حتّى استنفد قواه هو وحصانه. وأخيراً ترجل بجانب معبد متداعٍ، حيث فقد الوعي وسقط على الأرض.‏

 

بعد قليل جاء شحاذان، يحمل أحدهما قفصاً بالياً من أغصان مجدولة فيه أنواع تافهة المذاق من الكعك، ويحمل الآخر قدراً فخارياً متكسراً فيه حساء الخضار. وعند مدخل الهيكل شاهدا رجلاً مستلقياً هناك مثل خنزير ميت. وحين اكتشفا أنه لا يزال يتنفس، حملاه داخل المعبد. ثمَّ أحضرا أغصاناً وقشاً ليشعلا ناراً ووضعا جو بجانبها، بوضعية القرفصاء، ليعيداه إلى وعيه.‏

 

أعاده الدخان إلى وعيه، ولكنه كان مصاباً بدوار واعتقد أن رجاله لا يزالون معه.‏

 

ونادى تشانغ يوتشان:‏

 

ـ أخ تشانغ!‏

 

وفكر أحد الشحاذين:‏

 

ـ هذا غريب! إنني لا أعرفه، لكنه يناديني باسمي.‏

 

ثمَّ نادى جو هونغوو:‏

 

ـ هنا!(2)‏

 

وفكر الشحاذ الآخر:‏

 

ـ هذا غير طبيعي! إنه يعرف اسمي أيضاً.‏

 

كان ذلك مجرّد صدفة.‏

 

وأشار جو إلى فمه:‏

 

ـ إنني جائع!‏

 

اتّضح للشحاذين أنه ليس مريضاً، بل جائع فقط. وكانا يعرفان من خبرتهما تعاسة الإحساس بالجوع. حسن، إنهما قد يحرمان نفسيهما ويعطيانه ما يأكله. وهكذا سخنا حساء الخضار على النار وقدماه إلى جو هونغوو، الذي كان بالغ الجوع والتهمه فوراً. وبعد ابتلاع ذلك الحساء، بدأ يعرق. رائع! لقد شعر بأنه أفضل بكثير.‏

 

وسأل الشحاذين عن اسميهما.‏

 

ـ ألم تعرف أن اسمي هو تشانغ زياندي.(3)‏

 

ـ أوه، إذاً أنت الأخ تشانغ.‏

 

وقبل أن يسألهما إذا كانا قد جُرحا، أدرك خطأه. لذلك قال:‏

 

ـ ما اسم ذلك الحساء الذي قدمتماه لي الآن؟‏

 

وفكرا:‏

 

ـ كان مجرد فضلات. إذا أرادنا أن نطلق عليه اسماً، فلنسمه حساء اللؤلؤ والزمرد والفيروز. كيف ذلك؟ حسن، إن الملفوف وأوراق السبانخ مثل الزمرد، والتوفو(4) الزنخ مثل حجر الفيروز، وقطع قشر الأرز مثل اللآلئ. صحيح!‏

 

ـ إنه حساء اللؤلؤ والزمرد والفيروز.‏

 

أومأ جو هونغوو برأسه:‏

 

ـ شكراً لكما.‏

 

ثمَّ ركب حصانه وانطلق مبتعداً.‏

 

وفيما بعد تمكّن جو هونغوو من قلب سلالة يان الحاكمة وأصبح إمبراطوراً في نانجينغ. وعاش من خيرات الأرض، وارتدى الحرائر والأقمشة المطرزة في قصر رائع، وأصبح حاكماً مطلقاً كلمته هي القانون. وإذا قال إن الفحم أبيض، من يجرؤ على مناقضته؟ وإذا قال "إن الحمقى صالحون"، فعلى الحمقى أن يرتقوا ثلاث مراتب. وإذا أعطى وزيراً قطعة من ورق المراحيض، فيجب تركيبها على حرير أصفر وعرضها في القاعة على أنها كنز.‏

 

عندما أمضى جو هونغوو بضع سنوات وهو إمبراطور، أحس بالضجر من حياة الرفاهية تلك. وفي ملله شَعَرَ بضعف مثل ما شعر به قبل سنوات في ذلك المعبد المتداعي. وأصدر أمراً:‏

 

ـ هنا! أخبر الطباخين بأن يصنعوا لي سلطانية من حساء اللؤلؤ والزمرد والفيروز.‏

 

عندما نقل أحد الخدم هذا الأمر سيطر الذعر على الطباخين.‏

 

وسأل السيد جانغ السيد لي:‏

 

ـ هل تعرف كيف تصنع هذا الحساء؟‏

 

ـ كلا، لا أعرف.‏

 

ـ سيد وانغ؟‏

 

ـ إنني لم أسمع عنه مطلقاً أيضاً. أعرف أنك تستطيع تليين اللآلئ بتبخيرها؛ ولكن كيف تقطع الزمرد والفيروز؟‏

 

ـ إذا لم نصنعه وعصينا أوامر الإمبراطور، فقد انتهى أمرنا!‏

 

ولإنقاذ أرواحهم حاولوا عمل شيء ما. وأخذوا عدداً من اللآلئ كبيرة وبخروها لمدة بضع ساعات، ثمَّ وجدوا بعض الشظايا من الزمرد والفيروز، وأضافوا إليها بعض المرق والكزبرة. وطلبوا من خادم صغير أن يقدم هذا، وتوسلوا إليه:‏

 

ـ تحدّث بالخير عنا أمام الإمبراطور!‏

 

أدخل الخادم سلطانية الحساء هذه. كان منظرها رائعاً، بلونها الأبيض والأخضر، وحين حركها جو هونغوو بملعقته سمع صوت رنين. لكن مذاقها لم يكن طيباً. وشعر بالغضب.‏

 

ـ ما هذا؟‏

 

ـ حساء اللؤلؤ والزمرد والفيروز.‏

 

ـ هراء! لقد تناولت حساء اللؤلؤ والزمرد والفيروز من قبل.‏

 

أسرع الخادم الصغير عائداً برعب إلى المطبخ الإمبراطوري.‏

 

ـ انتبهوا!‏

 

فسأله الطباخون:‏

 

ـ ما الأمر؟‏

 

ـ يقول الإمبراطور إنه تناول حساء اللؤلؤ والزمرد والفيروز من قبل. وحساؤكم هذا ليس الحساء الصحيح.‏

 

وصاح الطباخون:‏

 

ـ الآن سنتعرض للعقاب! هذا ليس مجرد فشل في تنفيذ الأوامر الإمبراطورية، إننا نرتكب الخيانة العظمى.‏

 

ولأنهم لم يأملوا أن يبقوا على قيد الحياة، فقد قرروا الاعتراف بأنهم لم يعرفوا كيف يصنعون هذا الحساء وأن يتوسلوا إلى الإمبراطور كي يجد شخصاً يعرف ذلك. ونقل الخادم الصغير هذا الرجاء. وفكر جو هونغوو:‏

 

ـ نعم، إن الطباخين عندي متعودون على طبخ الطيّبات، لذلك لا يمكن أن ألومهم إذا لم يستطيعوا صنع هذا. ولكن يجب أن أحصل على ذلك الحساء! ليس لنفسي فقط، فأنا سأقدمه إلى كل شخص في القصر وإلى وزرائي جميعهم.‏

 

ثمَّ أصدر مرسوماً، جرى إلصاقه في كل مكان، من أجل العثور على الرجلين اللذين تمكنا من صنع حساء اللؤلؤ والزمرد والفيروز. كان اسم أحدهما تشانغ زياندي، بينما نسي اسم الآخر.‏

 

تمَّ تعليق هذا المرسوم الإمبراطوري في كل مكان، بما في ذلك البلدة الريفية حيث كادت أن تحل الكارثة بجو هونغوو. وذات يوم كان الشحاذان يستجديان من باب إلى باب هناك عندما شاهدا حشداً من الناس يقرأون إعلاناً على الجدار خارج مقر الحكومة. وذهبا كي يسألا عن الأمر. كان الإمبراطور يبحث عن تشانغ زياندي ورجل آخر لا يعرف اسمه، كي يصنعا له حساء اللؤلؤ والزمرد والفيروز. وصاحا:‏

 

ـ حسن! إذاً فذلك الشخص الذي شرب فضلات حسائنا النباتي هو الإمبراطور! يجب أن نذهب ونراه.‏

 

مزقا المرسوم الإمبراطوري، وعندما رأى ذلك اثنان من سعاة مقر الحكومة قاما باعتقالهما.‏

 

فسأل الشحاذان:‏

 

ـ ما الأمر؟ تريدان أن تأخذانا مكبّلين بالسلاسل لنصنع حساءً للإمبراطور؟‏

 

اعتذر الساعيان:‏

 

ـ نحن آسفان، أيها السيدان! لم نكن نعرف. أعذرانا!‏

 

قال الشحاذان:‏

 

ـ لابأس.‏

 

ـ اذهبا من فضلكما إلى مقر الحكومة أيها السيدان.‏

 

ـ أين العربة؟‏

 

ـ إنه قريب من هنا، مقر الحكومة. سنحملكما على ظهرنا.‏

 

كان الناس الواقفون يتساءلون. لماذا يحملان الشحاذين داخل مقر الحكومة؟‏

 

وحملهما الساعيان داخل مكان الحجز.‏

 

ـ استريحا أولاً هنا، أيها السيدان، بينما نُعلم القاضي بهذا.‏

 

وأسرع الساعيان داخلاً لنقل هذا الخبر. وفكّر القاضي:‏

 

ـ يجب أن تتم ترقيتي لعثوري على هذين الرجلين.‏

 

وبسرعة غيّر ثيابه وارتدى ثياباً رسمية جديدة، وخرج بكامل أناقته، وبشكل وقور إلى القاعة كي يستلمهما.‏

 

اندفع الساعيان خارجاً كي يعلنا:‏

 

ـ أيها السيدان، إن قاضينا ينتظركما في القاعة.‏

 

ـ حسن، رافقانا إليه.‏

 

ـ حاضر.‏

 

وراح الشحاذان يتمتمان:‏

 

ـ ذلك صحيح، يجب أن نحافظ على كرامتنا.‏

 

عندما رآهما القاضي لم يستطع أن يفهم سبب إحضار هذين الشحاذين.‏

 

وقال الساعيان:‏

 

ـ يا صاحب السعادة، هذان هما السيدان.‏

 

استغرب القاضي أن يُظهرا مثل هذا الاحترام لشحاذين حافيين بوجهين قذرين، وبأسمال بالية.‏

 

وسأل:‏

 

ـ هل هذان هما الرجلان اللذان مزقا المرسوم الإمبراطوري؟‏

 

ـ نعم، هذان هما السيدان.‏

 

وسأل الشحاذان:‏

 

ـ متى يمكن أن نذهب إلى العاصمة؟‏

 

اعتقد القاضي أنهما يخدعانه. وشعر بالغضب. كيف يمكن لمثل هذين الرجلين أن يصنعا حساء اللؤلؤ والزمرد والفيروز؟ لم يكن يصدق ذلك! ولكن إذا اعتُبر مذنباً بخداع الإمبراطور لأنَّه لم يأخذهما إلى هناك، واكتشف الإمبراطور الأمر، فقد يدفع حياته ثمناً لذلك. كم سيكون ظلماً إذا فقد منصبه بسبب هذين الشحاذين. لم يستطع أن يجازف بهذا.‏

 

وأصدر أوامره:‏

 

ـ هيا! قيدوهما وسوف نرافقهما إلى العاصمة.‏

 

عندما سمع الإمبراطور عن وصولهما فكر:‏

 

ـ إذاً فقد عثرت عليهما فعلاً.‏

 

استدعاهما للمثول أمامه. وأحضرهما القاضي إلى البلاط مقيدين بالسلاسل، وركع عند أسفل المنصة ليعلن ولاءه. لم يكن قد وقف في مثل هذا المكان من قبل وكان يرتعد من الخوف مثل منخل ينخل قشور الحنطة. لكنه رأى من زاوية عينيه أن الشحاذين كانا يبتسمان ويومئان نحو الإمبراطور. لماذا كان ذلك؟ لقد عرف الإمبراطور الرجلين اللذين أنقذا حياته. وفكر:‏

 

ـ كم هو غبي هذا القاضي، إنه لم يعدّهما بشكل لائق لمقابلتي! ماذا سيظن الموظفون لدي إذا قلت إني أعرف هذين الشحاذين؟‏

 

وسأل:‏

 

ـ لماذا حضرتما على هذا الشكل، يا صديقي الطيّبين؟‏

 

فأجابا:‏

 

ـ هذا هو مظهرنا المعتاد. لكننا الآن مقيدين بهذه السلاسل أيضاً.‏

 

وعلى الفور شتم جو هونغوو القاضي:‏

 

ـ أيها الأبله، كيف تجرؤ على تقييد الرجلين اللذين دعوتهما ليصنعا لي حساء اللؤلؤ والزمرد والفيروز؟ إنك تبحث فقط عن المشاكل! أخرجوه، واقطعوا رأسه!‏

 

اعتبر الشحاذان أن هذا سيكون تخلياً بالغ السهولة عنه! وقالا للإمبراطور:‏

 

ـ سامحه، يا صاحب الجلالة، ودعه يساعدنا في شراء مكوّنات حساء اللؤلؤ والزمرد والفيروز.‏

 

وافق جو هونغوو على هذا. وأعطاهما ثلاثمئة تيل كي يقيما مطبخاً جديداً، وأمرهما أن يصنعا مئتي وجبة من حساء اللؤلؤ والزمرد والفيروز. وبعد ثلاثة أيام سيقيم مأدبة لوزرائه.‏

 

انسحب ثلاثتهم إلى المطبخ الجديد. وعلى الفور ركع القاضي وقال:‏

 

ـ شكراً لكما، أيها السيدان، لإنقاذ حياتي.‏

 

ـ العفو. اذهب واشتر لنا موادنا.‏

 

ـ نعم، أخبراني فقط بما تريدان. يجب أن ننفذ أوامر الإمبراطور. إنكما صاحبا أيد بارعة، ورغم أنني غبي فإنني أستطيع شراء أفضل طيّبات تحتاجان إليها. حين أحقق هذا، وبفضل الإمبراطور ومساعدتكما أيها السيدان آمل أن أرتقي أربع مراتب أو خمس.‏

 

فكّر الشحاذان: "رائع. لقد نجوت الآن من الإعدام وتحلم بالترقية وجمع ثروة طائلة"، وقالا له:‏

 

ـ كف عن قول الهراء، واذهب للتسوّق.‏

 

ـ نعم، نعم.‏

 

ـ هيا. اشتر أربعمئة رطل من التوفو، وخمسمئة من السبانخ مع الجذور، وخمسمئة من أوراق الملفوف الخارجية، وثلاثمئة من الأرز الخشن، وعشرة من الملح الخام، وخمسة من الرمل، ونصف رطل من السخام، وأربعين سطلاً من مياه غسل الصحون. ذلك سوف يكفينا.‏

 

ـ لماذا تريدان تلك الزبالة؟‏

 

ـ لا تثرثر كثيراً، افعل فقط ما نطلبه. إذا أهملت أي شيء ولم يكن ملائماً لذوق الإمبراطور فستكون مسؤولاً عن ذلك. لذلك انطلق.‏

 

ـ حاضر.‏

 

وسرعان ما تمَّ شراء كل شيء ما عدا أوراق الملفوف الخارجية ومياه غسل الصحون. وكي يحضر القاضي هذه كان عليه أن يذهب بسطلين وقفص إلى عدد من المطاعم.‏

 

خلال يومين كانت جميع المكونات جاهزة. وتفحصهما الشحاذان.‏

 

ـ هذا غير ملائم. إن السبانخ طازج جداً، والتوفو ليس فاسداً، وهذا لن يعجب الإمبراطور، وستكون أنت المُلام.‏

 

ركع القاضي المفزوع وسجد.‏

 

ـ أرجوكما فكّراً بمخرج لي، أيها السيدان!‏

 

ـ غداً سيقيم الإمبراطور المأدبة لجميع وزرائه. إنك لم تشتر المكوّنات الصحيحة، ونحن لدينا نقص في الأيدي العاملة، لذلك ماذا يجب أن يحدث؟‏

 

قال القاضي:‏

 

ـ لا يهم. أحضرا ثلاثة طباخين من المطبخ الإمبراطوري.‏

 

فرح الطباخون الثلاثة عندما طلبوا منهم المساعدة في إعداد حساء اللؤلؤ والزمرد والفيروز،‏

 

وقال أحدهم:‏

 

ـ إنها فرصة رائعة للتعلّم. لا نريد أن تضيع هذه المهارة.‏

 

وقال آخر:‏

 

ـ هذا صحيح تماماً. يجب أن نتعلّم جيداً منهم.‏

 

وقال الشحاذان:‏

 

ـ والآن سنصنع حساء اللؤلؤ والزمرد والفيروز.‏

 

وأمرا اثنين من الطباخين أن يغليا الأرز على نار خفيفة.‏

 

ـ انتبها! لا تغسلا الأرز. ولا نريد الأرز من الأعلى، بل القشرة فقط من قاع المقلاة.‏

 

وتساءل أحد الطباخين:‏

 

ـ لماذا يريدان ذلك؟‏

 

فقال الآخر:‏

 

ـ لا يهم. إننا هنا كي نتعلّم منهما، أليس كذلك؟‏

 

وقال الشحاذان للقاضي:‏

 

ـ لا تجلس كسولاً. انقع ذلك التوفو في مياه غسل الصحون وحركه، ثمَّ شمسه حتّى يتخمّر.‏

 

ـ حاضر.‏

 

كان لا يزال هناك طبَّاخ آخر.‏

 

ـ تعال وساعدنا في فرز هذا السبانخ. يجب رمي الأوراق الجيدة، وحفظ الجذور المتعفنة.‏

 

أذهلت هذه الأوامر القاضي والطباخين الثلاثة.‏

 

ـ ماذا يحاولان أن يفعلا؟‏

 

ظلّوا يعملون طوال الليل. وفي الصباح التالي جلس القاضي والطباخون الثلاثة ينظرون بحيرة نحو السبانخ المتعفّن، وقشر الأرز المحترق، وأوراق الملفوف الخارجية والتوفو الفاسد. وعندما أشرقت الشمس فاحت رائحة عفنة من مياه غسل الصحون.‏

 

وسأل الطباخون القاضي:‏

 

ـ يا صاحب السعادة، متى سنصنع حساء اللؤلؤ والزمرد والفيروز؟‏

 

فدمدم القاضي:‏

 

ـ لا تسألوني! اسألوا هذين السيدين.‏

 

عندما سمع الشحاذان هذا أشارا إلى الدلاء وقالا:‏

 

ـ أليس هذا حساء اللؤلؤ والزمرد والفيروز؟ لقد أنجزنا سبعة أعشار العمل. عندما يتناول الإمبراطور هذا الحساء سوف يكافئنا.‏

 

وفكر الآخرون:‏

 

ـ يكافئهم! يمكننا أن نأمل فقط ألا يطردنا. أي نوع من المآدب هذه التي يقيمها لوزرائه... خضار متعفنة، أرز محترق وحساء نتن؟ يجب أن ننتبه! سنكون محظوظين إذا لم تهاجَم بيوتنا.‏

 

وشاهدوا الشحاذين يغرفان بعض الحساء ليتذوقاه.‏

 

ـ ليس سيئاً، إنه شيء ما يشبه ذلك.‏

 

ورفع أحدهما لقمة توفو من قاع الدلو ودفعها في فمه.‏

 

ـ جيد! إن مذاقها رائع.‏

 

وضرب القاضي على كتفه.‏

 

ـ أنت من أعد التوفو. سنخبر الإمبراطور أخي وأنا، ويجب أن تفوز بالترقية وتصبح غنياً.‏

 

وفكّر القاضي:‏

 

ـ لتساعدني السماء!‏

 

سرعان ما اقترب موعد المأدبة. وطلب الشحاذان من الطباخين والقاضي أن يسخنوا الحساء، ويضيفوا الملح ويضعوا بضع حفنات من الرمل. وحين وجداه ليس كافياً أضافا المزيد من الرمل.‏

 

وقال أحدهما:‏

 

ـ إنه ليس قاتماً بشكل كاف.‏

 

فسأل الآخر:‏

 

ـ أين السخام؟‏

 

وعلى الفور، أفرغا كتلة كبيرة من السخام وتذوقا الحساء ثانية. وعندما بدأ يغلي، كادت الرائحة الفاسدة أن تخنق القاضي والطباخين.‏

 

وقال الشحاذان:‏

 

ـ جيد. صبّوه في الأطباق وقدّموه.‏

 

كان القصر في ذلك اليوم مزيناً ومضاءً بشكل ساطع. وكان أقرباء الإمبراطور والوزراء قد وصلوا جميعاً منذ بزوغ الفجر بانتظار هذه المتعة... حساء اللؤلؤ والزمرد والفيروز.‏

 

وقال أحدهم:‏

 

ـ إن حساء اللؤلؤ والزمرد والفيروز هذا شيء مميَّز حقاً. لقد تلطّف الإمبراطور مرّة وجعل أبي يتذوقه. وحين عاد إلى البيت راح يتغنى بمدحه. والآن سأنال هذا الشرف أيضاً، إنني محظوظ حقاً.‏

 

وقال آخر:‏

 

ـ سمعت أنه مصنوع من كبد التنين، ونخاع العنقاء، وكل أنواع الطيبات النادرة. إن إعداده يتطلّب عملاً طويلاً، لصنع حساء مميّز مثل هذا.‏

 

عندما بدأت المأدبة، اصطفّ الخدم الشباب وهم يحملون صناديق قرمزية مذهّبة بداخلها سلطانيات ذات تصميمات على شكل التنين من الأفران الإمبراطورية. وبداخل كل سلطانية كانت وجبه حساء اللؤلؤ والزمرد والفيروز. كان الضيوف جميعهم متأثرين بالطريقة الدقيقة التي أدار الخدم وجوههم بها بعيداً، دون أن يجرؤوا على النظر نحو الحساء. تمَّ تقديم السلطانية الأولى إلى الإمبراطور. وعندما شمّها شعر بنوع من التقزز، لكن الرائحة ذكرته بذلك الحساء الذي تناوله في المعبد المتداعي والذي جعله يسترد قوته! كان يحنّ إلى تذوقه ثانية... لماذا تفوح منه رائحة سيئة جداً اليوم؟ لا عجب أن يقول الناس: "إن القشور تبدو للجائع حلوة مثل العسل. والعسل لا يبدو حلواً كثيراً للشبعان".‏

 

وفكّر الإمبراطور بينه وبين نفسه:‏

 

ـ لقد كنت جائعاً آنذاك، بينما أعيش الآن في رفاهية. ومع ذلك لقد تناولت هذا مرّة ويجب أن أتناوله مرّة ثانية. ليس أنا فقط، بل يجب أن أجعل الجميع يتناولونه.‏

 

خفض جو هونغوو بصره من منصّته ورأى التجهم على وجوه ضيوفه كلّهم وهم يحدقون في الحساء. وأغضبه هذا. وفكّر:‏

 

ـ إنكم ستشاركونني هذه المتعة! ذلك صحيح! سوف نتناول هذا معاً.‏

 

وقال:‏

 

ـ يا وزرائي الأعزاء، هيا! اشربوا حساء اللؤلؤ والزمرد والفيروز هذا معي.‏

 

وابتلع حساءه، وكاد أن يختنق.‏

 

عند تقديم هذا الحساء الفاسد إلى الضيوف فكروا: "حتّى نحن لا يمكن أن نشرب هذا، فكيف بالإمبراطور. يجب تمزيق هذين الرجلين اللذين صنعاه". وأدهشهم الآن أن يروا الإمبراطور وقد لعقه حتّى آخر قطرة. لذلك ابتلعوا حساءهم على الفور. وأراد بعضهم أن يبصقه، فقد كان مذاقه كريهاً جداً، لكنهم لم يجرؤوا على ذلك بحضور الإمبراطور... فقد يُعتبر هذا خيانة عظمى. لذلك، حبسوا أنفاسهم وابتلعوه جرعة إثر جرعة. وتمكنوا من إنهاء سلطانياتهم بطريقة ما.‏

 

عندما رأى جو هونغوو أنهم قد انتهوا، سألهم وهو يبتسم:‏

 

ـ حسن، أيها الوزراء الأعزاء، ما رأيكم بحساء اللؤلؤ والزمرد والفيروز هذا الذي طلبت من الرجال أن يعدّوه؟‏

 

وقفز الجميع على أقدامهم كي يعبروا عن شكرهم المتواضع. وصاحوا:‏

 

ـ إنه لذيذ، لذيذ.‏

 

فقال الإمبراطور:‏

 

ـ في تلك الحالة، سوف نمنح لكل واحد سلطانيتين بعد.‏

 

كانت تلك القشة الأخيرة حقا!‏

 

 

 

ثلاث ضربات في يوم واحد‏

 

إن أصعب شيء يتعلّق بأدب "زيانغشنغ" هو عدم معرفة ما يريد الجمهور أن يسمع. فبعضهم يتذوق الأدب، وبعضهم يحب قصص القتال. وليست أذواقهم هي التي تختلف فقط، ولكن طبعهم أيضاً. فبعض الناس لديهم طبع حاد، وتراهم يحملقون نحوك ولا يمكن أن يتحدّثوا بشكل حضاري. وآخرون يتّسمون بالبلادة، ولا يمكن أن يثوروا. وإذا قابل رجل حاد الطبع شخصاً بليداً فهذا أمر سيئ جداً. لأنَّه قد يموت من الغيظ.‏

 

سأل شخص بليد ذات مرّة على سبيل المحادثة:‏

 

ـ هل أتيت الآن؟‏

 

فأجاب صاحب الطبع الحاد بنزق:‏

 

ـ نعم، لقد أتيت الآن.‏

 

ـ لماذا طبعك هكذا؟‏

 

ـ إن رؤيتك تدفعني إلى الجنون.‏

 

ـ لست بحاجة إلى النظر نحوي إذاً.‏

 

ـ هل جئت إلى هنا لرؤيتك؟ إذا واصلت إزعاجي فسوف ألكمك.‏

 

ـ تلكمني؟ يجب أن أرى ذلك كي أصدقه.‏

 

ـ سوف ألكمك. هل تصدقني؟‏

 

ـ كلا. هذا مكان مسطح هنا، انظر. لماذا لا تجرب.‏

 

دفع هذا صاحب الطبع الحاد إلى الجنون، وضربه بقوة. وكان أي شخص آخر سيرد قبل أن يتعرّض للضرب ثانية: لكن البليد ابتسم فقط.‏

 

ـ إنني لم أصدقهم حين قالوا إنك تضرب الناس. الآن رأيت ذلك بعيني. لماذا لا تلكمني على هذا الجانب أيضاً كي تتوازن الأمور.‏

 

هزَّ صاحب الطبع الحاد قبضة يده.‏

 

ـ أف! إنك لا تُطاق!‏

 

وخرج وهو يستشيط غضباً.‏

 

وهناك نوع آخر من الأشخاص يحب المساومة ويبحث دائماً عن منفعته الشخصية. وإذا لم يستطع أن يشتري بأسعار مخفّضة فإنه يمرض. أخذ رجل من هذا النوع قطعة نقدية نحاسية إلى البقال. كان الناس الآخرون قادرين على شراء شيء واحد فقط بهذه القطعة، لكنه حصل على ستة. دخل المحل وابتسم في وجه البقال.‏

 

ـ هل تناولت فطورك؟‏

 

كانت رؤيته تُغضب صاحب أي دكان، لكن البقال كان يجب أن يخدمه.‏

 

ـ ماذا يمكن أن أحضر لك؟‏

 

ـ إنني آكل المعكرونة المسطحة اليوم.‏

 

ـ لا يهم ماذا تأكل. ماذا يمكن أن أحضر لك؟‏

 

ـ بنصف قطعة نحاسية صلصة فول الصويا، وبنصف قطعة نحاسية خل.‏

 

أحضر البقال هذين له.‏

 

ـ وقطرة زيت السمسم من ذلك الوعاء، لإضفاء نكهة.‏

 

حصل على قطرة زيت السمسم تلك... ثلاثة أشياء.‏

 

ـ ضع بضع أوراق من الكراث، هل تسمح؟‏

 

ممَّا جعلها أربعة.‏

 

ـ وقليلاً من الكزبرة.‏

 

جعلتها هذه خمسة. وعندما استدار البقال ليحضر الكزبرة، سرق رأسين من الثوم ممَّا جعلها ستة. شخص مثل هذا يسبب ألماً في الرقبة.‏

 

يذكرني هذا بقصة. مرّة كان قاض معيّن حديثاً. عندما ذهب لتسلّم منصبه وجلس على مقعده في المحكمة، اصطف سعاته وحجابه باحترام على كلا الجانبين. واستدعى حاجبين ليسأل:‏

 

ـ ما هي الحالة هنا؟‏

 

ـ منظّمة جداً، يا صاحب الفضيلة. لا يوجد لصوص أو قطّاع طرق هنا.‏

 

ـ حسن، أريدكما أن تقوما بتوقيف ثلاثة أشخاص: رجل صاحب طبع حاد، وشخص بليد وواحد مساوم يبحث عن منفعته الشخصية. وأعطيكما مهلة سبعة أيام. إذا نجحتما سأكافئكما؛ وإذا فشلتما فسأعاقبكما بقسوة. هيا اذهبا!‏

 

وكلما راح الحاجبان يفكران في الموضوع أكثر، تدنى حبهما لهذه المهمة. كان من السهل التعامل مع السرقات، ولكن أين يمكن أن يجدا رجلاً صاحب طبع حاد؟ لم يكن باستطاعتهما أن يوقفا الناس في الشارع ويسألا:‏

 

-هل أنت صاحب طبع حاد؟‏

 

-ما الذي أوحى لك بتلك الفكرة؟‏

 

-هل أنت بليد؟‏

 

-أنت هو البليد.‏

 

-هل أنت مساوم تبحث عن منفعتك الشخصية؟‏

 

-كلا، بل أنت.‏

 

لم يعرفا ماذا يفعلان، وبعد سبعة أيام تلقى كل منهما أربعين ضربة. ثم مُنحا سبعة أيام أخرى كي يقوما بتوقيف الأشخاص الثلاثة. ومن جديد فشلا وتلقيا أربعين ضربة. ثم أُعطيا سبعة أيام أخرى. عند ذلك الوقت كانا قد شعرا بالسخط تماماً.‏

 

عندما غادرا مقر الحكومة قال أحدهما:‏

 

-هذه مهمة مستحيلة، يا أخي. ولا يمكن أن نستأذن أو نتحرر منها.. فهو لن يتركنا. نحن يجب أن نتحملها فقط. هيا نذهب ونشرب حتى الثمالة.‏

 

كانا يشربان في إحدى الحانات عندما شاهدا حشداً من الناس في الشارع، والكل يتجه غرباً.‏

 

فسألا صاحب الحانة:‏

 

-ماذا حدث اليوم ليجذب مثل هذا الحشد؟‏

 

فأخبرهما:‏

 

-بينما كنتما أيها السيدان في مقر الحكومة كان هؤلاء الناس يسلمون التماساتهم. وهم الآن يخرجون من البوابة الغربية ليقدموا قرباناً إلى إله البراعم الخضراء، كما تُعرض أوبرا بدافع الامتنان للحصول على حصاد جيد. إنهم ينطلقون لمشاهدة الأوبرا.‏

 

واقترح أحد الحاجبين:‏

 

-يا أخي، هيا نذهب أيضاً.‏

 

فقال الآخر:‏

 

-كف عن هذا. بعد بضعة أيام سوف نضرب ثانية. لست راغباً في مشاهدة الأوبرا.‏

 

-لا فائدة من القلق. دعنا نستمتع ما دمنا نستطيع ذلك.‏

 

دفعا ثمن شرابهما وسارا خارج المدينة وهما يتحدثان.‏

 

في تلك الأيام لم تكن توضع مقاعد للأوبرات في الريف. وكان على المشاهدين أن يقفوا. وإذا أردت أن تجلس يمكنك أن تحضر كرسياً صغيراً من البيت، ولكن عليك عندئذ أن تسحبه وتعيده ثانية. انضم الحاجبان إلى حشد المشاهدين وفي تلك اللحظة كان جنرال يقاتل العدو في الأوبرا بينما بدأ شجار بين المشاهدين. وفي الصف الأمامي راح شخص بليد يهتف. كان منظره عجيباً، وقد وضع يديه على خصره، وراح يتأرجح من جانب إلى آخر ويهز رأسه، وهو يصيح:‏

 

-برافو، برافو!‏

 

وأطلق شخص حاد الطبع خلفه صرخة كادت أن تطرحه أرضاً:‏

 

-رائع!‏

 

التفت البليد، وقال له:‏

 

-هل تحاول أن تفجر رئتيك؟ صفق فقط واكتف بذلك. لماذا تصرخ هكذا؟‏

 

-ما أفعله ليس من شأنك.‏

 

-هل يجب أن أبتعد عنك؟‏

 

في تلك اللحظة اقترب صبي راكضاً من الخارج ليمسك بيد البليد.‏

 

-أبي! منزلنا يحترق، يا أبي!‏

 

-يحترق، إيه؟ اذهب إلى البيت أولاً، وسآتي عندما تنتهي هذه الأوبرا.‏

 

جعل هذا صاحب الطبع الحاد يتقد غضباً. واندفع فجأة ورمى البليد أرضاً.‏

 

-هل تعتبر نفسك رجلاً؟ منزلك يحترق. يجب أن تسرع إلى البيت. إذا انتظرت نهاية الأوبرا، فإن النار سوف تمتد إلى منازل الناس الآخرين.‏

 

فأجاب البليد وهو يستلقي على الأرض:‏

 

-إنه منزلي أنا، وليس من شأنك. إذا أردت سأذهب إلى البيت بعد انتهاء هذه الأوبرا. وإذا لم أرد، فسأذهب إلى البيت بعد أسبوعين.‏

 

-إنك تثير الجنون حقاً. سوف أقتلك!‏

 

-رائع، ذلك سيجنبني إزعاج النهوض.‏

 

واعترض شخص يقف بجانبهما:‏

 

-إنكما تتشاجران بصخب ولا نستطيع أن نسمع.‏

 

عندئذ لاحظ الحاجبين.‏

 

-أوه، أيها الضابطان، انظرا إلى هذين الرجلين اللذين يحدثان تلك الضجة.‏

 

اقترب الحاجبان وسألا:‏

 

-كيف بدأ هذا؟‏

 

فقال صاحب الطبع الحاد:‏

 

-اسأله؟‏

 

كان البليد لا يزال مستلقياً على الأرض. فقال الحاجبان:‏

 

-انهض، أنت!‏

 

-إنني لن أنهض.‏

 

-لماذا؟‏

 

-إذا نهضت فسوف يوقعني ثانية.‏

 

-ليس بوجودنا هنا، لن يجرؤ.‏

 

نهض البليد ونفض ملابسه.‏

 

وسأل الحاجبان ثانية:‏

 

-كيف بدأ هذا؟‏

 

-كنت أشاهد الأوبرا عندما أتى ابني ليخبرني بأن منزلنا يحترق. فقلت إنني سأذهب عندما تنتهي الأوبرا. ثم ضربني هذا الرجل بقسوة حتى كاد أن يقتلني.‏

 

-يا لك من شخص غريب! لماذا لا تذهب إلى البيت حالاً لتطفئ النار؟ إذا انتظرت حتى نهاية الأوبرا، فربما امتدت إلى منازل جيرانك؟‏

 

-حسن، في الحقيقة لقد ولدت بليداً هكذا.‏

 

فقال الحاجبان:‏

 

-جيد. بسببك حصلنا على ثمانين ضربة.‏

 

وأخرجا سلسلة مجلجلة وقيداه. ثم قالا لصاحب الطبع الحاد:‏

 

-أنت لا يحق لك أن تضربه.‏

 

-لقد دفعني إلى الجنون.‏

 

-ومع ذلك كان يجب ألا تضربه.‏

 

-هكذا أنا.. إنني حاد الطبع.‏

 

فقيده الحاجبان أيضاً.‏

 

-هيه! ماذا تفعلان؟ سأدعه وشأنه، اتفقنا؟‏

 

-لا نفعل شيئاً. تلك الضربات الثمانون كانت بسببك أيضاً.‏

 

عندما قاد الحاجبان سجينيهما بعيداً راحا يفكران:‏

 

-جيد، لقد استفدنا من هذه الرحلة، وأمسكنا برجلين. لكن ذلك لا يكفي: فلا يزال ينقصنا المساوم الباحث عن منفعته الشخصية.‏

 

وبعد قليل وصلا إلى كشك للبيع حيث كان رجلان يتشاجران. وسأل الزبون:‏

 

-هل بذور البطيخ هذه التي لديك مقلية؟‏

 

ودفع حبتين في فمه.‏

 

-وهل الفول السوداني هذا متبل؟ لا يزال نيئاً؟‏

 

وراح يتذوق كل شيء. فقال البائع:‏

 

-لا حاجة لأن تشتري أي شيء، فقد حشوت نفسك تماماً.‏

 

-من يقول إنني لا أشتري؟ ما ثمن هذه الحلويات؟‏

 

-كل قطعة بسنت.‏

 

-ما رأيك بسنت مقابل اثنتين؟‏

 

-كلا طبعاً.‏

 

-حسن، لماذا تحدق بي هكذا؟‏

 

دفع له سنتاً، ومد يده وأخذ قطعتي حلوى بين إصبعيه الثاني والثالث وإصبعيه الرابع والخامس.‏

 

انزعج البائع من أكل هذه وتلك والأخرى مما جعله يأخذ حذره ويمسك به من رسغه.‏

 

-لا تستطيع أن تحصل على اثنتين.‏

 

دفع الزبون قطعتي الحلوى في فمه.‏

 

-من يقول إنني لا أستطيع؟ لقد ابتلعتهما.‏

 

-إذاً يجب أن تدفع ثمنهما.‏

 

-يمكنك أخذ حياتي، لكنني لا أملك أي نقود لك. ماذا تستطيع أن تفعل حيال ذلك!‏

 

في تلك اللحظة رأى البائع الحاجبين مع سجينيهما. وناداهما:‏

 

-أيها الضابطان! تعالا إلى هنا من فضلكما.‏

 

اتجها نحو كشكه.‏

 

-ما الأمر؟‏

 

-انظرا إلى هذا الزبون؟ كان يتذوق بضائعي كلها، ولم يشتر أياً منها. وهذه الحلويات كل قطعة بسنت. لكنه دفع سنتاً وأكل اثنتين.‏

 

فقال الحاجبان:‏

 

-إن البائع لا يكسب الكثير. كيف يتحمل أن يتركك تأخذ قطعتين؟‏

 

-في الحقيقة، يجب أن أساوم وأشتري بسعر مخفض بغض النظر عن المكان الذي أتسوق فيه، وليس هنا فقط. وإلا فإنني أمرض.‏

 

-ما الذي يجعلك تفعل ذلك.‏

 

-لقد ولدت هكذا.‏

 

شعر الحاجبان بسعادة فائقة. وسحبا سلسلة أخرى وقيداه بها.‏

 

-اتركاني، أيها الضابطان، وسوف أغير طريقتي.‏

 

-هذا مستحيل. تعال معنا.‏

 

سحب الحاجبان سجناءهما إلى مقر الحكومة وتركوهما في الأصفاد وذهبا ليقدما تقريرهما. وعلى الفور جلس القاضي على مقعده في المحكمة، وتحلق سعاته على كلا الجانبين.‏

 

وأصدر أمره:‏

 

-أحضروا السجناء.‏

 

ثم جلب الرجال الثلاثة وركعوا أمامه.‏

 

أشار القاضي إلى البليد وسأله:‏

 

-ما هي قصتك؟‏

 

نظر البليد نحوه، وقال:‏

 

-يا صاحب الفضيلة، كنت أستمع إلى أوبرا خارج المدينة عندما جاء ابني وأخبرني بأن منزلنا يحترق. فقلت له إنني سأعود بعد انتهاء الأوبرا، ثم ضربني هذا الشخص بقسوة حتى كاد أن يقتلني.‏

 

-لماذا لم تسرع إلى البيت كي تطفئ النار؟‏

 

-إنني أبدد الوقت دائماً، يا صاحب الفضيلة.‏

 

أشار القاضي إلى صاحب الطبع الحاد.‏

 

-كيف يمكنك أن تتجول وتضرب الناس هكذا؟‏

 

-يا صاحب الفضيلة، إذا لم يسرع إلى البيت ويطفئ النار، ألن تحترق منازل أخرى أيضاً؟‏

 

-ومع ذلك كان يجب ألا تضربه.‏

 

-لم أستطع منع نفسي، فأنا حاد الطبع.‏

 

أشار القاضي إلى المساوم الباحث عن منفعته الشخصية.‏

 

-وأنت؟‏

 

هذا ضعفي، يا صاحب الفضيلة. إنني أمرض إذا لم أحصل على صفقة جيدة حين أتسوق.‏

 

فقال القاضي:‏

 

-رائع. هل تعرفون لماذا طلبت إحضاركم إلى هنا؟‏

 

فأجاب ثلاثتهم معاً:‏

 

-كلا، يا صاحب الفضيلة.‏

 

-هل تريدون أن تعملوا لدي؟‏

 

غضب الحاجبان حين سمعا هذا. فقد تلقيا ثمانين ضربة، وتعرضا للكثير من العناء كي يعثرا على هؤلاء الرجال، والآن سيعملون في مقر الحكومة!‏

 

وقال القاضي لصاحب الطبع الحاد:‏

 

-أنت ستكون مرافقي، وبهذا لن أتأخر أبداً. وأنت، أيها البليد، عليك أن تعتني بأولادي.‏

 

عندئذ لا يهم إذا أزعجوك، فأنت لن تغضب. وأنت، أيها المساوم، عليك أن تقوم بالتسوق والحصول على صفقات لي.‏

 

كان واضحاً للجميع أن هذا القاضي يبحث عن منفعته الشخصية.‏

 

لكن القاضي خسر في الحقيقة لأنه وظف هؤلاء الرجال الثلاثة. ففي أحد الأيام كان عليه أن يخرج ليقابل شخصاً عالي المنزلة، وأمر صاحب الطبع الحاد أن يعد حصانه، لكن الرجل لم يستطع أن يسرجه، فهو لم يكن سائسه كما أن الحصان لم يعرفه، وظل يتحرك إلى اليسار أو اليمين.‏

 

 

وصاح غاضباً:‏

 

-اللعنة! سوف أتغلب عليك!‏

 

وأحضر منشاراً من مخزن الحبوب وقطع رأس الحصان. وحين وقع ميتاً أسرجه بسهولة.‏

 

وقال متهللاً:‏

 

-حسن، لقد انتهى الأمر!‏

 

عندئذ وصل القاضي بكامل أناقته. وسأله:‏

 

-آه! لماذا قتلت الحصان؟‏

 

-تلك الطريقة الوحيدة كي أسرجه.‏

 

-حسن، لقد أسرجته، ولكن كيف يمكن أن أركبه؟ إذا جعلتني أتأخر، أيها الغبي، فسأتعرض للعقاب بسبب ذلك. إنك تريد أن تدمرني، أليس كذلك؟‏

 

-حسن، لقد ولدت هكذا. إذا كنت لا تريدني أن أعمل لديك فسوف أغادر.‏

 

-لا بأس، إنه خطئي لأنني وظفتك. أحضر لي عربة.‏

 

ركب القاضي العربة وقادها صاحب الطبع الحاد خارج البلدة باتجاه الجدول. لكن البغل خاف من الماء وحرن فجأة عند الضفة. وصرخ القاضي غاضباً:‏

 

-انظر كيف تؤخرني. ذلك الحصان كان سيعبر الجدول، وهذا البغل خائف من الماء. وإذا ذهبنا من الطريق الدائري الطويل فسيجعلني ذلك أتأخر على موعدي.‏

 

فقال صاحب الطبع الحاد:‏

 

-لا تلم البغل. إنه خائف من الماء، أما أنا فلست خائفاً. سأحملك لتذهب وتهتم بشؤونك.‏

 

وبعد ذلك أقود العربة من الطريق الدائري الطويل كي أنتظرك؟‏

 

قال القاضي:‏

 

-جيد.‏

 

انحنى صاحب الطبع الحاد ورفع القاضي على ظهره ليعبر الجدول. كان قد وصل إلى المنتصف عندما فكر القاضي.‏

 

-إنه لطف منه أن يحملني هكذا عبر هذا الماء العميق.‏

 

ثم قال له:‏

 

-إنني لن أعاقبك على قتل الحصان. وبدلاً من ذلك سأعطيك عشرين قطعة من الفضة لأنك حملتني عبر هذا الجدول.‏

 

-شكراً لك، يا صاحب الفضيلة.‏

 

وتركه، فسقط القاضي في الجدول، وكاد أن يغرق!‏

 

وراح القاضي يشتمه قائلاً:‏

 

-لماذا أوقعتني في الجدول؟‏

 

-لقد شبكت يدي كي أشكرك.‏

 

-ولماذا لم تنتظر حتى نعبر الجدول كي تشكرني؟‏

 

-أنت لم تنتظر حتى نعبر الجدول كي تكافئني.‏

 

وفكر القاضي:‏

 

-حسن، لنواجه الأمر. لقد قمت بأداء واجباتي الرسمية، وأنا الآن مثل جرذ غارق.‏

 

ثم قال:‏

 

-هيا نرجع!‏

 

حين عاد القاضي إلى مقر الحكومة ذهب إلى بيته ليغير ملابسه. وشاهد البليد وهو يتشمس في الفناء فناداه إليه. نظر البليد إليه بدون أن ينطق بكلمة.‏

 

-ألم تسمعني وأنا أناديك؟‏

 

-نعم، لقد سمعت.‏

 

-لماذا لم تجبني؟‏

 

-لقد نظرت إليك، أليس هذا صحيحاً؟‏

 

-أف، هذه ليست طريقة للرد. أين السادة الصغار؟‏

 

-أي واحد تعني؟‏

 

-أين الأكبر؟‏

 

-إنه في المدرسة، أليس كذلك؟‏

 

-والأصغر؟‏

 

-سقط في البئر.‏

 

-ماذا! متى سقط؟‏

 

-أول شيء حدث في هذا الصباح.‏

 

-لماذا لم تخبرني؟‏

 

-لم العجلة؟ كنت سأخبرك بعد بضعة أيام.‏

 

-أنت ستكون سبب موتي! هيا أخرجه، بسرعة!‏

 

عندما أخرج الناس الطفل الميت، راح القاضي ينشج قائلاً:‏

 

-لقد كان صبياً صغيراً جميلاً جداً، والجميع كانوا يحبونه. آه! يجب أن نشتري تابوتاً.‏

 

وأرسل المساوم من بين جميع الناس ليشتري تابوتاً.‏

 

وفي محل بيع التوابيت راح المساوم يسأل عن ثمن كل تابوت هناك.‏

 

-كم ثمن هذا؟‏

 

قال صاحب المحل:‏

 

-بمئة وستين تيلاً.‏

 

-وذاك؟‏

 

-بمئتين وثمانين.‏

 

-وهذا؟‏

 

-بثمانين.‏

 

-وهذا؟‏

 

فسأله صاحب المحل:‏

 

-كم عدد الناس الذين ماتوا حتى تسأل عن ثمن جميع توابيتي؟‏

 

فأشار إلى تابوت:‏

 

-كم ثمن هذا؟‏

 

-بعشرين تيلاً.‏

 

-بعشرين تيلاً! كم رطلاً تزن قطع حطب الوقود؟‏

 

-إن التوابيت تختلف عن حطب الوقود. هل ستشتري أم لا؟‏

 

-طبعاً سأشتري. هل تبيعه بعشرة تيلات؟‏

 

-لا توجد مساومة في محلات التوابيت.‏

 

-ما رأيك باثني عشر؟‏

 

-اذهب إلى محلات أخرى.‏

 

-بثلاثة عشر.‏

 

-إنني لن أبيع لك.‏

 

-بأربعة عشر.‏

 

-كلا.‏

 

-بأربعة عشر ونصف.‏

 

-ألم أطلب منك أن تذهب إلى مكان آخر؟‏

 

-اجعلها خمسة عشر.. ما رأيك بذلك؟‏

 

شعر صاحب المحل بغضب شديد، وقال:‏

 

-حسن، بخمسة عشر.‏

 

قدم له المساوم عشرين تيلاً.‏

 

-أعطني بقية النقود.‏

 

بينما كان صاحب المحل يحضر بقية النقود وضع المساوم تابوتاً صغيراً داخل الكبير. ثم أخذ بقية نقوده وحمل التابوتين، واحد داخل الآخر، إلى مقر الحكومة.‏

 

كان القاضي يشتكي قائلاً:‏

 

-ما الذي أخره كثيراً؟‏

 

عندئذ دخل وأعلن عن حضوره:‏

 

-لقد عدت.‏

 

وأنزل التابوتين.‏

 

ثار غضب القاضي وقال:‏

 

-لماذا اشتريت تابوتاً كبيراً هكذا؟ فكر بكل الحشو الذي سنحتاج إليه لنمنع جلد الطفل من الاحتكاك.‏

 

-لا تقلق، يا صاحب الفضيلة. يوجد هنا تابوت آخر صغير.‏

 

غضب القاضي، وقال:‏

 

-لماذا اشتريت اثنين؟‏

 

-يمكن أن نترك الكبير هنا حتى وقت لزومه. وعندئذ لن نشتري تابوتاً آخر عندما يموت السيد الصغير الأكبر.‏

 

 

 

ولد في سنة الثور‏

 

تختلف الأمور كثيراً الآن عما كانت عليه في سالف الأيام، حين أراد الرجال أن يعيشوا مثل الطفيليات. لقد أصبح العمل شريفاً اليوم. والذين لا يريدون العمل لا يمكن أن يكسبوا رزقهم. ولا يستحسن في هذه الأيام أن تأمل في الوظيفة كي تجني الكثير من المال. وفي الأيام القديمة كان من يريد جمع ثروة طائلة يحاول التوظف. لماذا؟ لأنك ما أن تتولى وظيفتك حتى تصبح غنياً. وحين كان الآباء يعلمون أولادهم كانوا يسممون أفكارهم. كان الأب يربت على ظهر ابنه ويقول:‏

 

-يجب أن تحصل على وظيفة رسمية، يا بني، وتعيد ثروات العائلة.‏

 

فكروا فقط، كيف يمكن أن يفعل ذلك دون أن يجمع النقود بسرعة؟ كان هنالك قول قديم، "في ثلاث سنوات يجمع الحاكم الأمين مئة ألف تيل من الفضة". مئة ألف تيل في ثلاث سنوات، وبيد حاكم أمين! إذاً كم يمكن أن يجمع موظف غير أمين؟ وكيف حصل الموظفون الأمناء على هذا القدر من المال؟ بالاختلاس؟ ليس بالاختلاس. إن الحاكم كان من المرتبة الرابعة، لذلك فراتبه صغير.‏

 

حسن إذاً، من أين أتت المئة ألف تيل تلك؟ إن لديهم قنواتهم.‏

 

كان الحاكم مسؤولاً عن عدة قضاة. وكان لكل مقاطعة قاض، لكن المقاطعات نفسها تختلف، فبعضها تربتها فقيرة، وبعضها غنية. ولندع الكلام عن الأجزاء البعيدة حيث لم يكن هنالك أحد ولكن عن بعض المقاطعات القريبة منا هنا في تيانجين، والتي يعرفها الجميع. يقولون، "إن (باودي) الذهبية و(ووكينغ) الفضية لا تعادلان الساعة الخامسة في (نينغ)". اسألوا أي شخص تجاوز الأربعين ماذا يخبركم؟ لقد كانت باودي منجم ذهب، مقاطعة تضم أكثر من ألف ومئتي قرية، حيث جمع القاضي أكواماً من المال. وكانت ووكينغ منجم فضة، مقاطعة تتألف من ثمانمئة وثمان وثمانين قرية؛ لذلك كانت في سنوات الحصاد الجيد تعطي دخلاً ضخماً. ومع ذلك لم تكن أي من هذه المقاطعات تعادل نينغ. وعند الساعة الخامسة، مع بزوغ الفجر، في نينغ، كان القاضي هناك يجمع أكثر من عائدات ووكينغ وباودي. ما سبب ذلك؟ كانت نينغ تنتج الملح؛ وقد جعلها ذلك الملح مركزاً مربحاً. وكانت هذه المقاطعات كلها تقع تحت السلطة القضائية للحاكم في بكين.‏

 

كانت بكين تضم خمس ولايات وتسع عشرة مقاطعة. هل كلها متشابهة؟ كلا، بل مختلفة جداً. فمقاطعة باودنغ في الجنوب غيرت اسمها فيما بعد إلى شينجين. وكان دخل ثماني عشرة قرية هناك لا يكفي للنفقات اليومية الصغيرة، لذلك كان مصدر دخل الحاكم هناك صغيراً. ومع ذلك لم يكن عليه جمع المال بنفسه، بل كان يطلب من القاضي أن يجمع مبلغاً من المال ليرضيه. أما مقاطعة نينغ فكان دخلها كبيراً، ولكن كان على قاضيها أن يظل إلى جانب للحاكم؛ وإلا فإنه يُنقل. وكان بإمكان الحاكم نقل قضاة مقاطعة شينجين ونينغ. وكان الأمر ملائماً تماماً لقاضي شينجين، لحصوله على موقع مربح مثل هذا، ولكن كيف يمكن لقاضي نينغ أن يستمر؟ كي يحول دون نقله كان عليه تقديم الهدايا إلى الحاكم. لكنه لم يكن قادراً على إعطائه المال. فذلك يعتبر رشوة، وإذا عرف المراقب الإمبراطوري هذا فستكون نهاية كل منهما. ماذا يجب عمله؟ كان كل ما على الحاكم أن يفعله هو الاحتفال بعيدي ميلاد سنوياً، له ولزوجته. وعندما حل عيد ميلاده ذهب أتباعه إلى مكتبه ليسألوا:‏

 

-سوف يحل قريباً عيد ميلاد فضيلته، أليس كذلك؟‏

 

-صحيح.‏

 

كم..‏

 

-حسن..‏

 

ماذا يريد فضيلته أن أقدم له؟‏

 

-كيف أعرف؟ قدم له أي شيء تريده.‏

 

-كم عمر فضيلته؟‏

 

-ستة وخمسون.‏

 

ستة وخمسون، أي هدية ستكون ملائمة؟ لنفكر. إذا كان في السادسة والخمسين فهو مولود في سنة الجرذ. حسن، اذهب إلى الصائغ واطلب جرذاً مصنوعاً من سبيكة ذهبية ثخانتها بوصة واحدة، ووزنها ست عشرة أونصة.‏

 

كان طول هذا الجرذ قدماً وبوصتين، وتطلب ذيله وحده أكثر من سبيكة ذهبية، بينما كانت عيناه ماستين، كل واحدة بوزن خمسة قراريط. تم وضع هذا الجرذ الذهبي على الطاولة المخصصة لهدايا عيد الميلاد بينما وقف القاضي بجانبه محدقاً فيه، ليلفت انتباه الحاكم. ومن وقت إلى آخر كان الحاكم يتمشى، وهو يمسح على لحيته، ليتفقد هداياه. ولاحظ الجرذ على الفور! وبينما راح يمسح على لحيته أخذ يزنه بيده. ولو وجده خفيفاً جداً، ومطلياً بالذهب فقط، فإنه كان يضعه ثانية.‏

 

وعندما وزنه بيده عرف أنه على ما يرام. وحين قرأ اسم المانح، ربت على كتف القاضي.‏

 

-رائع، رائع. إنني أحب هذا فعلاً.‏

 

كان هذا يعني: لا تقلق، يمكنك أن تبقى في منصبك، فأنا لن أنقلك. وقال:‏

 

-إن هذه الصنعة رائعة حقاً.‏

 

ماذا كان يهمه في الصنعة؟ كان الوزن هو الذي يحبه!‏

 

-حسن الآن، كان ذلك حسن اهتمام منك، بعد معرفة أنني ولدت في سنة الجرذ وصنع هذا الجرذ الذهبي لي، آه! نعم، كان ذلك حسن اهتمام كبير. بالمناسبة، إن عيد ميلاد زوجتي في الشهر القادم.. وهي أصغر مني بسنة.‏

 

فكروا في الأمر! أصغر بسنة واحدة، أي في سنة الثور. كم يكلف ثور ذهبي! كيف كان يتوقع أن الناس العاديين يعيشون؟!‏

 

(1) إن تعبير "زيانغشنغ"، الذي يعني في اللغة الصينية الحوار المبني على تبادل الردود السريعة، هو الشكل التقليدي للحوار الكوميدي في الأدب الصيني. ويعتمد هذا الشكل الأدبي بصورة أساسية على استعمال التورية والمعاني المزدوجة للكلمات. (المترجمة).‏

(2) إن الرمز الصيني "لاي" الذي يعني "هنا" يُستخدم كنية أيضاً.‏

(3) يمكن أن تعني زياندي الأخ الأصغر الفاضل أيضاً.‏

(4) التوفو: طعام صيني غني بالبروتين يُستخلص من فول الصويا ويُستخدم في تحضير بعض أنواع السلطات والأطعمة.(المترجمة).‏

ثلاث قصص من أدب (زيانغشنغ) (1)"عن الإنكليزية" ـــ شيانغ شوتشين ـ ترجمة: رشا حداد مجلة الآداب الاجنبية - مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق - العدد 122 ربيع 2005

 

أضيفت في 14/06/2006/ خاص القصة السورية

 

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية