أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 15/08/2024

الكاتب: عبد الله تايه-فلسطين

       
       
       
       
       

 

التين الشوكي-رواية

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

قاص وروائي فلسطيني "الأمين العام المساعد للاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين"

ـ نائب رئيس منظمة كتاب أفريقيا وآسيا في فلسطين

ـ  نائب رئيس اتحاد الكتاب الفلسطينيين 1995ـ 2003 .

ـ القائم بأعمال رئيس اتحاد الكتاب  منذ  2003 .

ـ عضو مؤسس لاتحاد الكتاب الفلسطينيين .

ـ يشارك في عدد من التجمعات الإعلامية والثقافية .

ـ ينشر مقالاته السياسية وأعماله الإبداعية في الصحافة الفلسطينية والعربية .

ـ عضو هيئة تحرير مجلة الزاوية الأدبية .

ـ عضو هيئة تحرير مجلة دفاتر ثقافية .

ـ عمل محرراً أدبياً في أكثر من مجلة وصحيفة .

ـ شارك في عدد من المؤتمرات والاجتماعات الثقافية والإعلامية في : الرباط ، داكار ، القاهرة ، هانوي ، بغداد ، الجزائر ، دمشق , بكين.

 

صدر له:

المجموعات القصصية

1-من يدق الباب  قصص 1977 منشورات وكالة أبو عرفة للطباعة والنشر

2الدوائر برتقالية قصص 1991 اتحاد الكتاب الفلسطينيين

3-البحث إيقاع مستمر     قصص 1997 منشورات اتحاد الكتاب الفلسطينيين

4-انفلات الموج   قصص 2001 منشورات مركز أوغاريت الثقافي للنشر والترجمة

5جنود لا يحبون الفراشات قصص 2003 منشورات المؤسسة الفلسطينية للإرشاد القومي

 

الروايات

1-الذين يبحثون عن الشمس رواية 1979 وكالة أبو عرفة للصحافة والنشر ـ القدس .

2-العربة والليل   رواية 1982 وكالة أبو عرفة للصحافة والنشر ـ القدس

3-التين الشوكي ينضج قريباً رواية  1983 منشورات البيادر

4-وجوه في الماء الساخن رواية 1996 اتحاد الكتاب الفلسطينيين ـ القدس

5-قمر في بيت دراس  رواية  2001 اتحاد الكتاب الفلسطينيين ـ القدس

 

كتب سياسية

1-زهير الريس السياسي والمفكر مقالات 2000 دار الأمل للطباعة والنشر

 

كتب أدبية وصحافية

1-ليلة السابع من ديسمبر نصوص 2003 منشورات مركز أوغاريت للنشر والترجمة

 

الإعلام

1-الإعلام الثقافي في الإذاعة والتليفزيون 2006 دار الماجد للطباعة والنشر

 

مجموعات مشتركة باللغة العربية

1 ـ 27 قصة قصيرة من القصص الفلسطيني في المناطق المحتلة   (قصص مشتركة ) 1977 .

2 ـ قصص قصيرة من الوطن المحتل  ( قصص مشتركة ) 1981.

3ـ طيور جريحة (مجموعة قصص صحفية ) شباط 2003 .منشورات وزارة الإعلام تحرير : بسام الكعبي .

4ـ قصص فلسطينية ـ قصص قصيرة يوليو 2003 منشورات سلسلة إبداعات فلسطينية .

 

مجموعات مشتركة باللغة الإنجليزية

1ـ   MODERN PALESTINIAN SHORT STORIES IN TRANSLATION 1998

Edited by : Izzat  Ghazzawi ~ Claire Peak

Stories from Palestine منشورات اتحاد الكتاب الفلسطينيين 2003 .

Translated by said I. Abdelwahed, PHD 2003 .

3-  Wounded Birds Feature Stories the Palestinian Ministry of Culture and Information A Group of Palestinian journalists and  writers – Translated By : Izzat Ghazzawi 2003

 

مجموعة مشتركة باللغة الأسبانية

1ـ  قصص فلسطينية تحت الاحتلال ـ مجموعة مشتركة بالإسبانية 2003 .

صدر حول أدب الكاتب

1.  كتاب "مقاربات نقدية حول أدب عبدالله تايه في القصة والرواية "،

 جمع وإعداد عثمان خالد أبو جحجوح ، مراجعة أ .د. نبيل أبو علي ،  منشورات دار الزاهرة   260ص ـ 2002 .

2.  "علاقة الأنا مع الآخر في روايتين من غزة " ، د. علي عودة ،

 بحث قدمه لمؤتمر  اللغة العربية الذي عقد في الجامعة الإسلامية في غزة بعنوان

" قضايا الأدب واللغة والتحديات المعاصرة " ونشر في الجزء الثاني من كتاب أبحاث المؤتمر وهو في ثلاثة أجزاء ص 613.

3.  "عبد الله تايه بين الفن والأيديولوجيا " د. محمد البوجي

بحث قدمه لمؤتمر اللغة العربية الذي عقد في الجامعة الإسلامية في غزة بعنوان "

 قضايا الأدب واللغة والتحديات المعاصرة " ونشر في الجزء في الجزء الأول من كتاب المؤتمر ص 105.

4.    "وقفة مع الخفاش" أ.د. نبيل أبو علي ، بحث نشر في كتابه " في نقد الأدب الفلسطيني " ص305.

5.  تناولت بعض الرسائل الجامعية للدراسات العليا أعمال الكاتب القصصية والروائية منهم :

 د. محمد حسونة ـ د. محمد أيوب ـ د. عادل الأسطة ـ الأستاذ زكي العيلة.

6.  كما تناول عدد من الأكاديميين ودارسي الأدب بعض أعمال الكاتب الأدبية في مقالاتهم وأبحاثهم وكتبهم منهم :

 أ.د. نبيل أبو علي ـ د. رشدي الأشهب ـ د. علي عودة ـ د. محمد البوجي ـ د. عادل الأسطة ـ الأستاذ عزت الغزاوي.

7.  تناول عدد كبير من الكتاب والمثقفين في مقالات نقدية أعمال الكاتب أو بعضها ونشرت في الصحافة العربية والفلسطينية مثل :

1.البحث إيقاع مستمر " عزت الغزاوي " .

2.البحث إيقاع مستمر "حسين اللهواني " .

3.من المفردة إلى الحالة "رجب أبو سرية " .

4.وجوه في الماء الساخن "فتحي درويش" .

5.الذين يبحثون عن الشمس "عزت الغزاوي ".

6.وجوه في الماء الساخن "سليم النجار" .

7.وجوه في الماء الساخن "ندوة " .

8.البحث إيقاع مستمر "خليل حسونة " .

9.اليهود العرب ضحايا للصهيونية "د. عادل الأسطة " .

10.الدوائر برتقالية "أحمد جبر شعت "

11.قراءة في قصتين " د. علي عودة  ".

12.الخفاش " أ.د. نبيل أبو علي " .

13.التين الشوكي ينضج قريباً "فتحي درويش" .

14.الجملة التصويرية "د. رشدي الأشهب " .

15.أعمال عبد الله تايه "د. محمد البوجي " .

16.الآخر في رواية العربة والليل "د. علي عودة "

17.من يدق الباب " شعبان عبد الفتاح " .

18.قمر في بيت دراس "رمزي عكاشة " .

19.من يدق الباب " زكي العيلة "

20.انفلات الموج " رمزي عكاشة " .

21.القص والنص " مروان برزق " .

22.  القناص الإسرائيلي يحقد على الحكايات "علي الخليلي" 

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتب

انفلات الموج

الحجرة رقم3

البحث إيقاع مستمر

أرنب عند المنطار 

 

أرنب عند المنطار

 

الضباب واصل التكاثف على السطوح ، والأجسام المعدنية للعربات الواقفة والمستعدة للانطلاق ، مؤذنو الأحياء المجاورة استيقظوا للتو ، بدأوا الوضوء قبل الفجر استعداداً للتسبيح والصلاة ، غاب نصف القمر الجميل وراء غمامة تستعجل الانتقال فيبطّؤها الهواء الرّطب ، أما نصفه الآخر فلم يولد بعد ، الشارع يمتد من تلة المنطار حتى بقايا شارع السكة الحديد في حي الشجاعية، لم تعد القضبان التي يمر عليها القطار القادم من القاهرة موجودة ؛ آثار حرب حزيران امتدت إليها وإلى المحطة الرئيسة في الشجاعيّة ، وإلى المساحات الواسعة على طولها حتى الحدود في رفح . سوق الجمعة الممتد من المنطار شرقًا حتى نهاية الشارع في طرف الشجاعيّة غربًا ، يقام مرة واحدة في الأسبوع ، منذ الفجر حتى قبل صلاة الجمعة ، في هذا الشارع ينتشر الباعة كالجراد ، يتسابقون إلى رصّ وترتيب بضائعهم ، عربات تطلق أبواقها تحث على إفساح الطريق ، كارات تنطلق في عجلة تكاد تصدم أعمدة العُرش ، تخشخش أصوات ، ترتفع نداءات ، ينتشر زعاق، في المكان ليس سوى الباعة، يتسارعون إلى عرباتهم ، بضائعهم ، بسطاتهم ؛ يرتّبون ، يفردون ، يسطّرون ، يُعلّقون ، يتمتمون . أضواء الشارع باهتة ، تنطفئ بعض المصابيح على الأعمدة وتعود لتومض بشدة من جديد، مصابيح تتوهج وأخرى تخفت حتى تكاد تتلاشى ، الباعة لاهون عن المصابيح بعرض بضائعهم ، كل منهم يعرف مكانه ، بسطتـه ، بضاعته ، جاره عن اليمين ، عن الشمال ، والذي في مواجهته ، تنفتح الدكاكين على الجانبين ، تنتشر البسطات أمامها، يزدحم السوق بالمعروضات فلا يبقى إلا ممر ضيق بين البسطات ؛ أقمشة ، أدوات منزلية ، ملابس جاهزة ، أدوات تجميل ، بطيخ ، فراخ ، عصافير ، سمّان ، زغاليل ، خردوات ، أدوات نجارة ، لحوم ، أسماك مثلجة ، روائح ، عطور . هبطت في السوق بضائع من كل أسواق الدنيا ، الصين ، تايوان ، تركيا ، مصر ، الأردن ، سوريا ، في هذا الشارع الطويل بحي الشجاعية تأتي دول وقارات تجلس على الأرصفة ، ترتص على البسطات ، تزكم رائحتها الأنوف ، ينادي عليها باعة أتوا رغم كل الحواجز التي نصبها الاحتلال على شارع صلاح الدين ، من رفح لسوق الجمعة يأتون ، مرّ معظمهم عن جنود الدبابات عند حاجز المطاحن ، فاستعرض الجنود أعدادهم ، عرباتهم ، بطـاقاتهم ، بضائعهم ، سحناتهم ، طوابيرهم الراكبة التي يجبرونها على الترجل للفحص ، يمر مَن يمر ، يملص من يملص ، يرجع من يرجع ، ويُعتقل مَن يُعتقل .. يعبرون من حاجز القهر إلى حاجز الموت إلى حواجز كثيرة منصوبة بينهم وبين رزق العيال ..

    دفع باب الدار فارتفع الصرير ، رمى حقيبة المدرسة عن كتفه جانبًا أسرع إلى الصنبور ، وضع رأسه الصغير المعفر تحت خيط الماء، ابتلّ رأس رامي ، شرب قميصه المدرسي الأخضر بعض ماء الصنبور، نهرته الأم ، لم يكترث . واصل الصنبور دلق الماء على رقبته، أغلقه بيدين مبتلتين وهرول إلى حجرة في ركن الفناء ، فتح حقيبة المدرسة ، أخرج أعوادًا خضراء قصفها من سياج الشارع ، الأرانب الصغيرة تنط داخل القفص الحديدي ، تمد بوزها بين الفتحات عندما رأت الأغصان الخضراء ، صار يداعبها ، يمد الأوراق  ويسحبها ثانية ، تنجح الصغار في قضم بعض الأوراق الخضراء ، يعاود الكرّة ، تنجح الأرانب مرة وتفشل مرات ، الأرنب الكبير يزوم ، يُحوّم في القفص ولا يستطيع إخراج بوزه ، الفتحات أكبر من أن تتسع له ، يعاكسه الصبي ، يمد الغصن قليلاً داخل القفص ثم يسحب يده للخـلف ، دق الأرنب الكبير قدميه على أسلاك القفص محتجًّا ، يحزن الصبي عليه، يمد له الغصن الأخضر أكثر ، يلاحظ سرعة القضم .. فرق بين قضم الصغير وقضم الكبيـر .. كل أرنب يقضم حسب أسنانه واتساع فمه.. يجري إلى الإبريق ، يصب ماءً في الوعاء المثبت على طرف القفص .. كيف يشرب الأرنب ؟ إنه يلحس الماء كالقطة ، في يوم الجمعة عندما قصفت الطائرات غزة اختبأت في حجرة الأرانب ، رأيت الأرانب مذعورة من الصوت ، تلتف حول الأرنب الكبير ، ازداد القصف، تعالت الانفجارات فاختبأت الأرانب الصغيرة في ركن القفص جهة الجدار ، تمدد الأرنب الكبير في الواجهة يخفي وراءه الصغار المذعورة .. أنا الآخر اختبأت بعض الوقت ولما توقف القصف وقف الأرنب الكبير ، وبدأت الصغار تلفّ من أول القفص إلى آخره ، جريت إلى الشارع ، رفعت العلم على عصا صغيرة وسرت في المظاهرة .

ـ إيش بتعمل عندك ؟

   نظر الأب من الباب مُدخلاً رأسه إلى حجرة الأرانب، في حين ظل جسمه في الخارج .

ـ بألاعب الأرانب ، وبأطعمها .

ـ وليش مروّح بدري من المدرسة ؟.

ـ مظاهرات .

ـ أنا عارفك مشاغب .

ـ لا والله .

ـ بالله ما رحت على معبر المنطار اليوم ؟.

ـ الصحيح رحت .

ـ كيف الوضع ؟! .

ـ مواجهات .. الجنود بيطخوا الرايح والجاي .

ـ طيب اطلع غيِّر أواعيك عشان تتغدى .

ـ الغدا أرانب ؟! .

ـ نعم !! من وين ؟! .

ـ ………

نظر رامي إلى القفص .

ـ لسه صغار ما بينذبحوش .

أشار الصبي إلى الأرنب الكبير .

ـ لما يكبروا الصغار شوية بنذبح منهم .

ارتفع صوت بائع في الشارع ينادي :

ـ على السكين يا بطيخ .

ـ يابا اشتريلنا بطيخ .

ـ طيب .. طيب .

ـ كل يوم بتقول طيب عالفاضي .

ـ امشِ ..

     ينهر الوالد الصبي .. خرج مسرعًا من حجرة الأرانب إلى داخل المنزل .. هذا الولد عفريت .. صرت خايـف عليه ، كل يوم يرجع إخوته من المدرسة قبله وهوّ يتأخر عن الرجوع إلى الدار .. يأتي معفّرًا ، يديه وشكله يفضحه، أحياناً يكذب عليّ بحجة جمع أوراق الشجر للأرانب ، وأحيانًا يجيب بصدق أنه خرج من المدرسة مع أصحابه إلى المواجهات مع جنود الاحتلال في موقع المنطار..

ـ يابا طخوا زميلنا في المدرسة وبدك نسكت !!  

  رصاص الجنود في موقع المنطار لا يفرق بين صغار وأشجـار ، شباب ودور ، شيوخ وحيطان .. كل من يتحرك ومن لا يتحرك هدف لرصاصهم.. الله يمضّي هالأيام على خير .. الملعون يريد بطيخ وعينـه على الأرنب الكـبير .. من شهور وأنا عاطل عن العمل، بحثت عن أي عمل بلا فائدة ، البطالة تعمّ الجميع ، وما ادّخرته ينفد بسرعة ، الناس لا يعملون ، الأسعار مرتفعة ، الأفواه لا ترحم ، الآن المهم الخبز.. بلا بطيخ بلا أرانب بلا غيره ..

 

    

 

     اقتربت عودة الأولاد من المدرسة ظهرًا ..

 أم رامي تدور في البيت على غير هدى ، لم يعد مناص من البحث عن أيّ طعام ، اقتصر الأكل من أسابيع على البقوليات الجافة ، يرتفع أزيز طائرة في الشرق .. نسمع صوتها في النهار ولا نراها .. ويرتفع الأزيز في الليل ولا نرى أنوارها .. وحين تنصرف يأتي بعدها الغضب..  الله أعلم متى وأين ستضرب اليوم ، وأين يقف الشهيد القادم ، والجريح القادم ، أيّ المواقع سَتُقصَف ، وأيها سَيسلَم .. أزيزها صوت شؤم يثير القلق واضطراب المعدة ، والخوف على الأولاد والبيوت والمواقع .. تظل تئز ، يرتفع صوتها فيما يشبه جعار حيوان خرافي يلولح الريح بصوته علوًا وانخفاضًا ، تُصوّر ، تستكشف ، تُراقب ، تُحدد الأهداف ، ثم تغيب ليبدأ القصف . يستمر الأزيز الغريب للطائرة ، طائرة استطلاع ، ترقب وتحدد العصافير بين الأشجار ، والنمل في الجحور ، وبقايا السمك في سوق الشجاعية ، الناس ينتظرون الآتي بصبر ، ورباطة جأش ، وبسخرية أحيانًا .. ما العمل ؟! الله هو الحامي.

   أذّن الظهر .. الشمس تميل إلى غروبها ، الظل ينزاح عن الرءوس والسطوح ونهايات الشجر ، يمتد رويدًا رويـدًا .. يحمل معه نسمات المتوسط الرطبة ، ورياح الحرب والموت والانفجارات . الأزيز يستمر،  تدخل إلى ركن الأرانب ، رأت ابنها رامي يلاعب الأرانب كالعادة ، يحمل في يده أعواد الملوخية الخضراء وأغصان نبات الحمص "الحاملة " في كل عودة له بعد خروجه من المدرسـة ، أو من مواجهات معبر المنطار ، يحرص على أن يلتقط في طريقه ما يجده من الأغصان الخضراء ، يذهب مُحملاً بالحجارة، ويعود بأغصان الحمص وحباته الفارغة ..

يفتشها غصنًا غصنًا ، يفحصها بتؤدة ، يعثر فيها أحيانًا على حبة أو حبتين تاهت من بين أصابع الآكلين ، يتذوقها بإمعان ، يلوكها في تلذذ.. تحب الأرانب أوراق الحمص ، كلما رأتني قادمًا إلى ركنها تـسرع إلى واجهــة القفص، آه .. إنها ترى الورق الأخضر ، لا يحركها من كسلها إلا اللون الأخضر ، تدق أقدامهـا على أرض القفص ، تمدّ أبوازها ، تزمزم فمها ، تُرعّش أنفها ، تحاول اختراق سياج القفص ..

ـ خذي ..

 يمد يده فتقضم الأرنب .

ـ لا .. لا ..

 يشد يده بعيدًا . تدور الأرانب ثانية ، الأرنب الكبير يقف إلى السياج الحديدي للقفص ، يرفع يده لإمساك الغصن ..

ـ خذ ..

  يمد رامي يده ثانية ، يمسك الأرنب طرف الغصن بأسنانـه ، يشده إلى الداخل قبل أن يتمكن الصبي من سحبه ثانية إلى الخارج ، يروح الأرنب إلى ركن القفص ، تهجم معه الأرانب الصغيرة ، يحاول رامي أن يمد يده مرّة أخرى ، تنهره الأم ..

ـ بس لعب .. حط مية للأرانب ..

  يهرول إلى إبريق الماء ، يملأ الآنية المثبتة على القفص.. ينظر إلى أمه :

ـ يمه .. بدي حاملة .

ـ  ………

ـ سامعة والا لأ ؟!

ـ ما انت شايف أبوك من غير شغل .

ـ يعني لا أرانب ولا بطيخ ولا حاملة .. الله أكبر .

ـ لما أبوك يشتغل بيشتري لك .

ـ طيب وليش ما يشتغل .. مين اللي مانعه ..

ـ هوه ملاقي شغل ومش مشتغل ..

ـ الشغل كثير ..

ـ وين ؟!

ـ عند المنطار .

 

    

 

    في الفجر يعمر سوق الجمعة في حي الشجاعية ، ناس من كل مكان ، سيارات ، عربات ، كارات تنتشر بفـوضى ، تعلو أصوات الباعة، تختلط بأغاني حماسية من إذاعة فلسطين البرنامج الثاني .. موسيقى حامية .. وين الملاييـن .. يعلو صوت : 

ـ يازلمة وطي صوت الراديو .. الملايين لسه نايمين.. 

رد آخر :

ـ نوم الطرشان .

  ترتفع النداءات ، تنتفخ عروق رقابهم من الصراخ،  الناس يمرون، يتفرجون ، يُقلّبون ، يسألون عن الأسعار ، يجادلون :

ـ صناعة أيّ دولة ؟

ـ صناعة كوريا .

ـ الشمالية ؟

ـ نعم !! وايش عرّفني .

ـ طويلة ؟.

ـ قصيرة .

ـ قطن ؟ .

ـ لأ . قطن مع بوليستر .

ـ بتشرب في الغسيل ؟  .

ـ لأ . اغسل والبس من غير كوي .

ـ ياسلام على العِلم .

يرتفع نداء أجش لأحد باعة الفراخ :

ـ كيلو الفراخ بسبعة ، يااللا خلّصت الفراخ من البلد ، راحت المزارع.. جنود الاحتلال دمروها .

ـ كرتونة البيض بعشرة يااللا ، بعد اليوم ما في فراخ ولا بيض ، المزارع راحت .

ـ الطرق والمعابر مغلقة .

ـ أيام الحرب فول وعدس وجنازات .

  الفلاحات يجلسنَ على الأرصفة ، يبعن بقايا خضر وفواكه من حقولهن ، الأسعار مرتفعة ، لا أحد يستطيع الوصول إلى أرضه إلا بصعوبة ومخاطرة ، الجرّافات انتقمت من الأشجـار ..

ـ الله ينتقم منهم .

قالت إحداهن :

ـ في أيّ دين هدم الشجر والحجر ..

  أبو رامي يرتدي جلبابًا فضفاضًا ، انحشر جسده الممتلئ في الجلباب،  رأسه حاسرة ، مشّط شعره الذي خطه الشيب على عجل، دخل أول السوق بعد أن ربط كارته التي يجرها حمار واهن في عامود الكهرباء ، أمسك بيديه سلة قبع داخلها الأرنب الكبير بهدوء واستكانة ، فروته البيضاء تتلقى غبار الطريق  يهتز الأرنب في السلة إلى أعلى وإلى أسفل في يد أبو رامي الذي يتمايل يمينًا وشمالاً من لحم زائد تحت إبطيه ، يغمض الأرنب عينيه ، تنعسه الهدهدة ، يتفحص أبو رامي الناس ، يتطلّع في عيون النسوة والرجال ولا يستطيع أن يتفوه بكلمة ، لا أحد يسألـه عن ثمن الأرنب ، يتذكر كلمات زوجته ليلة الأمس عندما انصرف الأولاد إلى النوم :

ـ يا راجل ربك متكفل بالرزق .. اتوكّل على الله ..

ـ يا ولية إيش يقولوا الناس .. رايح أبيع أرنب ؟!

ـ طيب وإيش فيها .

ـ كل هالطول وهالعرض ورايح أبيع أرنب !!

ـ ما هو من الحاجة والقلة .

ـ وإذا شافني واحد من أصحابي ؟!

ـ إذا شافوك راح يحسدوك لأنه ما عندهم زيك أرنب يبيـعوه .

ـ آه والله صحيح ..

  انطلق داخل السوق بين البسطات والمعروضات حاملاً الأرنب الأبيض الناعس في السلة .. منذ دخولي السوق لم يسألني أحد عن ثمن الأرنب، ولا عن سعر الكيلو من لحم الأرانب ، توقعت أن يسألني كثيرون ممن يحبون لحم الأرانب ، يتطلع إليّ البعض ويمضون بين البسطات ، ترى هل أنادي بعشرة كيلو الأرنب حتى ألفت انتباه المارة؟!  أريد أن أبيع الأرنب ، لا أستطيع أن أنادي .. الكلمات لا تريد أن تخرج من فمي ، كأن الناس كلهم ينظرون ، يتفحصونني ، لا يكترثون بالأرنب ، يتطلعون إليّ ويستمرون في طريقهم ، كيف ألفت الانتباه إلى الأرنب ، ليتني أحضرت رامي معي ، لكان كالعفريت ينادي .. بعشرة كيلو الأرنب .. بعشرة كيلو الأرنب . أو ينادي .. أرنب للبيع .. أرنب للبيع . لكنّ رامي لا يريـد بيع الأرنب ، رامي وإخوته أرادوا أكل لحم الأرنب، لذا تركته في البيت نائمًا وخرجت قبل أن يصحو ، سيتفاجأ رامي وإخوته عندما لا يرون الأرنب في القفص .. لا حول ولا قوة إلا بالله .. سأُمنّيهم بأكل أرنب من الأرانب الصغيـرة .. سأشتري لهم البطيخ والحاملة .. عندما يرون البطيخ والحاملة سينسون الأرنب .

  الشمس حارقة ، قطرات العرق تنز على جبهته ، رفع كمه يمسح وجهه ، رأى دكانًا يبيع الفراخ ، جلـس في ظلها ، تخير مكانًا على الرصيف قرب أقفاص الفراخ الفارغة ، جلس على عتبتها المرتفعة،  أخرج الأرنب من السلة ، قبض بيديه على أذنيه ، رفعه فتدلى الأرنب في حجره سمينًا.. كبيراً ، ممتلئًا،  جعل ثقل الأرنب على حجره .. إذا كان الناس لا يُقبلون على شراء كيلو الفراخ بسبعة فكيف سأبيع كيلو الأرنب بعشرة ؟! قلة من الزبائن أمام دكان الفراخ ، قبل أن أخرج قلت لأم رامي:  اطبخي اليوم عدس . صمتت ولم تجبني . خرجت إلى السوق ، لا أحد يتطلع إلى الأرنب ، إذن لأرفعه قليلاً ، تمدّد الأرنب فبان طوله وحجمه، مسحتُ على فروته ، ظل هادئًا ، الشمس تزحف إلى قدميّ ، إذا لم أبعه بعد قليل ستكون مصيبة لأن الشمس ستلحقني وتقترب الصلاة ، عندها يبدأ السوق في الانتهاء ، عليّ أن أتحرك ، أتكلم ، أنادي ، لكن من أين يخرج الصوت ..  

   ساومت النسوة وبعض الرجال على الأرنب ، سألن وسألوا إن كان أرنب أو أرنبة .. تطلّعت إليهم في استغـراب ، وماذا يعني أرنب أو أرنبة !! كله للذبح ، ولحم الأرانب بارد وخفيف .. أما الذي يريده للتربية.. ها هو .. ليفحص ، فحص الأرنب رجال ونساء ، إحداهن أعجبها الأرنب ، أمسكته من أذنيه تستطلع وزنه، ساومتني كثيرًا ، خجلت من كثرة المساومة ، لم تكن عجوزًا ماهرة في الشراء ، إنما في الثلاثين ، طويلة ، واسعة العينين ، جميلـة ، قلّبت الأرنب ، وزنته بين يديها من أذنيه ، ثم طلبت وزنه على ميزان الفراخ ، وضعه صاحب الدكان على الميزان ..

ـ اللهم صلي على النبي ..

   قالها وهو يزن . وضعته في سلتها ودفعت ثمنه بعد أن خصمت الفكة ، ومضت مع الأرنب الذي انكمش في سلتها .

  القراءات والدروس الدينية التي تسبق الصلاة أتت من مكبرات الصوت في المساجد القريبة ؛ إيذانًا باقتراب النداء لصلاة الجمعة .. الناس يخرجون من السوق ، أصحاب البضائع يلملمون بضائعهم ، الشمس طردت الظل وملأت شارع سوق الجمعة على جانبيه وفي زواياه ، لم يعد على الرصيف من ظلال ، وضعتُ النقود في جيبي ومضيتُ إلى حيث ربطت الكارة ، حللت الرباط وصعدت عليها ، مررت ببائع الحاملة ، توقفت ، أكوام الحاملة لا تزال مرصوصة ، الكساد واضح ، فرصة .. اشتري رطلاً .. يأكل رامي والأولاد الحمص الأخضر وتأكل الأرانب الصغيرة الأغصان والأوراق ، مضيت حتى خرجت من السوق ، عند المنعطف رأيت بائع بطيخ إلى جانب الشـارع ، سطّر بطيخه بنظام .. الفاضي بعمل قاضي .. من قلة البيع يتفنن في عرض بطيخه .. اقتربت ..

ـ الخمستاعشر كيلو بعشرة يا بطيخ ..

ينادي البائع .

  إذن ليأكل الأولاد لبّ البطيخ وتأكل الأرانب الصغيرة قشر البطيخ .. أما بذوره فليتسلى بها الصغار بعد تحميصهـا . وضعت البطيخ وأغصان الحمص على الكارة ومضيت عائـدًا .. صوت طائرة لعينة يئز في الشرق ،  يعـلو ، ينخفض ، والناس يغادرون السوق على استعجـال .. 

   دخل شارع الحارة بسرعة عائدًا إلى بيته ليتوضأ لصلاة الجمعة ، رأى تجمعًا غير عادي من الجيران قرب باب داره، قفز من مكانه إلى الأرض ، بطيخة تدحرجت عن الكارة فوقعت وتفجّمت على الأسفلت ، هرول جسده داخل جلبابه الضيق إلى التجمع يستطلع الأمر ، تسابق إليه صغاره :

ـ طخوه يابا .

ـ مين ؟! .

ـ رامي .

   أخبره الجيران أن رامي في المستشفى بخير ، لم يصدقهم وهم يحاولون طمأنته ، يحلفون له أنه لم يستشهد، أصابه الجنود عند المنطار ، تبرع أحد الواقفين بنقل أبو رامي في سيارته إلى المستشفى ليطمئن على ابنه ، وجد رامي راقدًا موصولاً بأنابيب ولفائف ، عيونه مفتوحة ، يتنفس في هـدوء ، ويتطلع إلى وجه والده ، ابتسـم ، لا يستطيع الكلام إلا بصعوبة ، اقترب منه :

ـ ليش ما استنيتش لما أرجع من السوق ؟!

ـ ………

ـ اشتريتلك بطيخ وحاملة .

ـ ………

ابتسم رامي وهمس بصوت ضعيف .

ـ والأرنب ؟!

من مجموعة جنود لا يحبون الفراشات

 

 

 

البحث إيقاع مستمر

 

         فتح الفجر فمه بعمق وبدأ يلتهم الظلام .  لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تلــــــدغ نداءات الباعة ، وأبواق العربات أسماعي ، فأصحو . أفتح فمي وأتثاءب ، أسحب نفسًا عميقًا رطبًا ،  فأذان الفجر انتهى للتو .  تقلبت في فراشي تقلُب البذور في المحمص السّاخن، فرقعت  أفكاري.    وثبتُ من فراشي كمن تذكر موعداً تأخر عنه ، وتهيأت للنزول إلى الشارع، ظللت أبحث عن حذائي ، ارتديت ثيابي  وأنا مستمر بالبحث، لم يكن الأمر بالسهولة التي تصورتها للوهلة الأولى .

النافذة تُدخل إليّ نسمات رطبة ، وفيما يبدو تذكرت أني نسيت أن أغلقها قبل أن أنام ، قضم الظلام جزءاً منها، في حين بدأ  الفجر يقضم الجزء الآخر.  تلوّت أساريري في غير رضى ، وأنظاري لا زالت تتابع عن كثب البحث عن الحذاء.

-  بكم الحذاء أيها الرجل ؟

-  أيُّ حذاء تقصد  ؟!

      المرة الأولى التي أشتري فيها حذاءً وأساوم البائع على ثمنه حتى استشاط غضباً مني ، ورأى أن ما أفعله مشين ، قرأت ذلك في عينيه، لكنه لم يجرؤ على  التفوه  بحرف ، حاجته للبيع أقوى من رغبته بطردي، والحذاء الذي أشرت إليه خلف زجاج العرض يُخرج لسانه استهزاءً بي .  لم أر في حياتي مثل هذا الحذاء السافل.

        تناولته من يد البائع الذي دعك بكمه بوز الحذاء .  لمع وتدلى لسانه أكثر .   ترُى أيسخر مني هذا اللسان ؟!  أقصد هذا الحذاء ؟!  بعد قليل عندما أضعه في قدميّ سأدوسه على الأسفلت، وأعلمه أنَّ الاستهزاء لا يكون  في كل وقت .   المهم الفكرة ، لكن من يجد الفكرة الآن؟  في هذا الضباب الذي يلفع الأشياء ويتمرجح فوق رؤوس العباد، ويبلل صلعاتهم وأصول شعرهم كيف ستـنطلق الفكرة؟!   كيف ستـتوقد وتـنبلج ؟

 اللسان المتدلي المستهزئ خاطبني ، أصرّ عليّ  أن أصطحبه معي مهما كلفني الثمن .  قلت أخاطبه:

-  كيف احتالوا عليك فوضعوا في رقبتك الرّباط ؟!

    قال ساخراً:

-  أُُخرج من رأسي .  ولا تكترث.

-  الشيطان يطلب منا أن نكترث بل ويضخّم لنا أحلامنا.

-  أنا لست شيطاناً .. انظر.

   تدلى لسانه أكثر وأنا أعابثه بيديّ و أُقلبه.

-  لا تقلّب أحشائي أيها المغفل  ، ولا يغرك ما تشاهد، فاللسان لسان والحذاء حذاء.

-  وما علاقة الإثـنـين ؟! أقصد ما علاقتك بالحذاء؟

-  تقصد ما علاقتي باللسان.

-  سيان .. الأمر عندي سيان ..حذاء بلسان.

-  لا .. لسان بحذاء.

-  لا تغظني أكثر.

-  ادفع .. وبعدها أُحدثك.

        دفعت الثمن .  نصف النافذة قرضها الليل ، ونصفها الآخر بدأ يقرضها فجر يفتح فمه عميقاً  فلا تظهر به أضراس.. وله أنيابٌ يدميها القضم فتصبحُ  أشدّ مضاء، فتنفذ في اللحم والحديد، يزحف الفجر على الناس ، يرتدون ملابسهم وأحذيتهم، يمشون وتـتدلى ألسنتهم .بحثي عن حذائي مستمر ، تعبت من البحث ، فكرة البحث مضنية .

أكملت ارتداء ملابسي إلا الحذاء ، رحت أزأر ، أعوي، أنبح، أموء ، وبعض الأحيان أتكلم.  لكني مع ذلك فشلت ، قديما قالوا " المثابرة تغلب الذكاء" وأنا أقول  " الحذاء يغلب كل شيء".    من منا يذهب للقبر بحذائه ؟!   يقيناً لا أحد.  من يدهمه الموت أو القتل يفارقه حذاؤه .. أيها الحذاء اللعين ، لا أحد يضع ميتا بحذائه في القبر ، قد يكون الأولى أن مسكينا آخر ينتفع بالحذاء.    نقدت البائع الثمن ، فوضع الحذاء داخل علبة ، والعلبة داخل لفافة ، قلت ما إن أصل البيت حتى أجده مختـنقا ويكون لسانه قد تدلى أكثر .  ليتأدب .  فالأدب في عصر القضم والأنياب  هو  السوط الذي يجلد  صاحبه.

        الحذاء يصرّ  على إهدار كرامتي المرة تلو المرة ، وأنا أنحني بين الحين و الحين أهندم اللسان ، وأفتل الرّباط، أخنق أكثر حول العنق فيتدلى اللسان أكثر ، وفي كلّ مرّة يتملّص الحذاء مني ، فما أن أجده حتى أصل موعدي متأخراً ... ترى ما الفرق بين اللسان  والحذاء ؟  لا أدري فبين اللسان والحذاء  ربّاط .  في هذا الفجر الذي لم يعد فجراً ، وفي هذا الوقت الذي  لم يعد باكراً، وقفت الشمس بشكل عابس  لا تغادر مكانها .    أكملت ارتداء ملابسي وتعبت من البحث عن الحذاء، من جوف النافذة أطلت الشمس الشموص الحرون  وتوقفت .   طيف اللسان والرّباط والحذاء ينضم إلى القافلة ، وفي كل مرة أعثر عليه أضربه في الجدار مؤنبا ، فيهتف بي ساخطاً:

-  لا تضرب الأفكار ببعضها .

-  لماذا تقول ذلك  ؟!

-  أستحيي من الشارع .  وأستحيي من نفسي .

-  أنت ؟!  وما شأنك بالشارع ؟!

-  هل رأيت يداً دون حذاء ، رأساً دون حذاء ، كرشاً دون حذاء؟!

-   ماذا تعني ؟

-  عندما تدخل في الحذاء ما الفرق بينك وبين غيرك ؟ بينك وبين أي شيء ؟

-  أنا أعرف كيف يمكن أن تسترد أدبك .

-  أنت لا تعرف شيئاً.

-  بل أعرف .   سآخذك إلى الصرماتي  ليخيط  لسانك أو يحزه بسكين الجلود ويرمي به إلى القمامة.

        حين تعلقت الشمس في جوف النافذة ، وتدلى اللسان والرباط والحذاء ، تذكرت جمجمة الإنسان قبل أن ينخرها الدود، وهي معبأة بطابور الأفكار فعرفت أين يقع اللسان والرّباط   وعلاقتهما  بالحذاء .

     استمرّ بحثي عن الحذاء دون جدوى ،  قلت هذا يوم نحس  وشؤم ، يوشك الحذاء أن يصبح شمساً والشمس حذاء، لكنّ  النور  يفضح الأشياء .  ترى كم دفعت ثمناً  فيه؟   لا أتذكر .. سلقـتـني الشمس التي ضربت وجهي من النافذة ، زجاج صندوق العرض كان لامعاً .. كل الأشياء تبدو للوهلة الأولى لامعة .. ويصرّ الحذاء أن يفلقني ، وأصرّ أن ألقنه درساً .. لن أربطه هذه المرة ، سأدعه يتدلى كما يشاء  ..ويهزأ كما يشاء.. فالطريق الطويل سيقطع نَفَسه ويخرسه..

-  أيها السيد .. أيها السيد.

   التفتُ:

-  ماذا تريد أيها الفتى ؟

-  الحذاء يا سيدي .

-  الحذاء !!

-  دفعت ثمنه ولم تحمله .

-   آ ...

-  نعم يا سيدي .. هاك ..

   امتدت يده باللفافة .

-  آه .. شكراً .. شكراً أيها الفتى الطيب .

-  يبدو أنك مهموم لدرجة أنك نسيته .

-  آ .. شكرا يا ولدي .

-  شكراً و لا  شيء غير ذلك ؟!

-  بلى .  خذ .  اقضم هذه الورقة المالية .

-  لك قلبٌ كبير وفكر مشغول .

        -  ربما .  ربما يا ولدي .

         قبض على الورقة المالية بفرح .  استدار، وعلى عجل حاول عبور الشارع فضربته عربة مسرعة..  فصرعته على الفور.  قلـــــت :

-  كان ولداً طيبًا حقاً .  لماذا لم ينتبه ؟!

        تعلقت عيناي بقدميه . كان لسان حذائه يتدلى ساخراً ، وقد انفلت الربًاط  .   وعندما وجدت حذائي بعد طول بحث كان الوقت قد تأخر كالعادة ،  ولم  يكن حاجة لمزيد من الكلام فهبطت درجات السّلم على عجل .

من مجموعة البحث إيقاع مستمر

 

 

الحجرة رقم 3

 

كنت تحدثني دائماً عن طفولتك التي قضيتها في قريتكم قبل الرحيل ، وكنت تحدثني عن والدك الذي واجه الدبابة أيام الانتداب فصرعته الطلقات ، وتطهر الحديد بالدم القاني ..

      حكاية مشوقة حكيتها كثيراً ، لم أكن أمل منها ، كبرنا معاً في المخيم ، وأنهينا دراستنا معاً ، وجاء الحرب فانهزمنا معاً . دخت أنا بين الكتب ، والإذاعات ، والشوارع ، والصحف ، أبحث عن أسباب هزيمتنا .. وأنت أدمنت الهروب ، حدثتني عن أمنيتك بأن تصبح جلاداً لتقطع يد السارق ، قلت لك يومها عندما تقطع يد السارق لا تكون جلاداً فأسأت فهمي ، قلت لك إني لا أحبذ صداقة الجلادين ، كدت تقطع علاقتك بي .. ثم ندمت أنت . وشغلك جمع المال ففضلت

    أن تغادرنا إلى الكويت ، في رسائلك الكثيرة لا تنفك تكتب لي عن اللون الأحمر ، اللون الأحمر الذي تتحدث عنه ليس هو اللون المسكوب من جسد والدك ، لم يكن لون الطماطم شبه الفائتة التي نأكلها أيام الطوق . اللون الأحمر الذي تتحدث عنه يختلف تماماً . ألم تقل أنك تصيّف على شواطئ بيروت والإسكندرية ؟! ترى ما أحوال الصيف على شواطئ بيروت الآن؟

          لا شك أنّه صيف بارود ودخان وموت .. دعني أحكي لك هذه الحكاية عن اللون الأحمر ، فأنا أعمل ممرضاً في مستشفى " الشفاء " في غزة ، وكنت أود لو قدمت لزيارتنا هذا الصيف لتشاهد بعينيك كيف نعيش .. إني أحترمك منذ اليوم الذي تعرضت أنا وأنت فيه للاعتقال والضرب قبل حزيران ، لأننا تظاهرنا أمام رئاسة مركز الإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين ، يومها حرقنا علم الأمم المتحدة واستبدلناه بعلمنا . اشتعل المتظاهرون حماساً فصاروا يهتفون بحدة وآذانهم صارت حمراء .. والآذان الحمراء ذكرتني بالحكاية ..

"             انفجار . بوق سيارة إسعاف يلعلع في شؤم .. انتفض مركز الاستقبال . هرع الممرضون ينزلون المصاب . رأيت بسرعة الوجه الذي يسحّ فوقه الدم وقد اختفت ملامحه . عربة عسكرية توقفت بجوار عربة الإسعاف . اضطرني أحد الجنود للانتقال معه إلى حجرة الأطباء ؟ مرّ وقت حتى عدنا . تركته واتجهت إلى الحجرة رقم (3) حيث نقل الجريح فوجدتها محاصرة ، وحين دخلتها لاحظت أنها أخليت من المرضى ، ثمة سرير واحد استلقى عليه المصاب النحيف الذي لا يكاد يشغل حيزاً عليه ، وقد تحول وجهه المدمي إلى كرة من القطن ، ثقبت اللفائف أمام طاقتي الأنف والفم ، مجموعة من الأنابيب تنقل الدم والسوائل .. الجنود ينتشرون في أنحاء الحجرة ، شاهرين بنادقهم الآلية .. لم ينبس أحد بحرف ، أنظارهم نحو المدخل . ساد هرج بين نزلاء المستشفى ، تساءلوا .. ماذا حدث في الحجرة رقم (3) ؟! ازدحام غير عادي . جنود . ممرضات . أطباء . رجال تحقيق في الحجرة اهتموا بالمصاب فوق الحدود ، كانوا يتحدثون بعصبية ، أنبوب آخر للبول استقرّ تحت السرير ، بدأت قطرات البول تتجمع ، والدم يسحل عبر خرطوم في الشريان .. صدره يعلو ويهبط . المصاب متكوم يكاد يكون نصف إنسان . بعض الأوراق في يد أحدهم . شاهدت بطاقة هويته .  كتبوا محمود خير الدين من مخيم …

   ـ ادفع العربة بعيداً .

         أمرّ الطبيب . دفعت العربة وخرجت ، رائحة الأدوية امتزجت بالدم ، بالبول ، بالجلوكوز ، بالقرف ، بكل الموبقات . المرضى يتهامسون عن خرق حرمة المستشفى ، وعن المصاب ورحلة العذاب عبر الفوهات المبحلقة في المداخل والنوافذ . وحين عدت كان عليّ أن أعتني بالجريح ، بدأ البعض بالخروج ما عدا الفوهات المنصوبة ، وخطوات الحراس تتثاقل .

          رأسه كرة قطن تنفش وتنكمش ، تضغط على عنقي كحد الخنجر ، تدور في أنفي كل الروائح ، تطالعني كل أعمدة الصحف ونشرات الأخبار ، أبحثُ عن محمود خير الدين .. وظلت الكرة الثلجية تتشقق وتنفجر في ذاكرتي ، أصحو وأفيق ، أفيق وأصحو ، يبدو أن هذا رجل خطير . بل يكفي أن يكون رجلاً . تطلعت إلى أعلى خرطوم الدم ، قطرة دم تسحل ، اصطدمت عيناي في ذات اللحظة بقطرة بول تنحدر .. البول . الدم . النتن . العفن . الدود . الفناء . التلاشي . كل الأشياء امتزجت بالدم العطر الحياة .

        لا بدّ أن محمود خير الدين غادر غزة إلى القاهرة إلى ميناء السويس ، إلى ميناء جدة ثم الدمام ، بحث عن اللقمة . وجدها في عين الشمس . حاول أن يصعد إليها مرات . فشل كثيراً . فامتهن الحلاقة . صار يجوب الشوارع ويصيد لقمته عنوة . احتجزته الشرطة ذات مساء بعد أن شاهدته ولم يكمل حلاقة رأس بين يديه في حارة شعبية فقيرة ، تم ترحيله إلى جدة ، فالسويس ، فالقاهرة ، فالقنطرة ، حتى المخيم ، بطاقة الإعاشة هي المورد ، تضخم في داخله الحقد على الأسلاك ، والحدود ، والتصاريح ، وجوازات السفر ، والثكنات المملوءة بالكلام ، والزعامات الورقية ، فجلس يحثو على رأسه الأحزان حتى ضُربت المطارات ، والقطارات ، والمدن ، وتوقفت السفن عن الإبحار في قناة السويس .

            كان حزيران . وكبر الأولاد ممزوجين بالألم والجوع والمهانة ، رجموا حجارة ذات مرّة على عربة عسكريّة ، تصاعدت أصوات رشقات ، وقع الولد سابحاً في بركة من الدم . مات . والفرح في قلب محمود خير الدين اجتثّ . واستلقت الكائنات على رءوسها .. ثم اهتزت انفجارات . دم . حرائق . ليل . رجال . معدات . موت . جراح . طوق . حب . وظل ينتظر الإعاشة كل شهر وبيده البطاقة . مرات كثيرة تسلّمها تحت وقع الخوف والنيران . نام شوال الطحين فوقه ذات مرة وهو يسرع خوفاً فتحطمت ساقه ، شهور مرت حتى التأم الكسر ، وتدفق العمال إلى الداخل تحت فشل صناديق الدعم في مؤتمرات الطعام والولائم . وتحرك محمود خير الدين يبحث عن اللقمة في الداخل . مرّت عليه سنوات . لا يمرّ شهر بلا عراك حتى كان يوم تسلّم فيه ورقة الفصل ، توجّع . تفجّمت الآمال في صدره ، انخذل ، انسحق ، كبر الحقد ، ودم ابنه مسفوح على الطرقات ، وساقه المحطمة ، نقاط العبور ، هويتك ، التفتيش ، أنت ممنوع من العبور ، كل من هم أمثالك ممنوعون ، ارفع يديك ، أدر ظهرك ، اركض ،  اركض ، اركض .

          في سوق فِراس في غزة يغني الباعة . وتمتزج روائح السمك ، القماش ، الحديد الصدئ ، الطماطم العفنة ، الفئران المسحوقة ، عرق السوس ، الليمون ، وتحتك النساء بالرجال بالعربات بالروائح بالضجة ، وتتمزق كل الأغلفة الفوقية .. رشح العرق . ارتفعت يده تجفف الرشح بكم قميصه . دفع عربة الخضروات إلى جوار طابور العربات والبسطات . باع قليلاً ، وعرق كثيراً ، لعن الجوع ، وحشى جيوبه بقذارة يديه . نظراته تمشط الشارع الممتد شرقاً وغرباً ، عيون متحفزة ، ضغط ضغط ضغط ، صدره لا يحتمل فوران الأشياء . يضيّق . يضيّق . عربة الخضروات صارت مخزناً متنقلاً . في الدّرج السّفلي كان الموت . يكفي بحركة أن تتمزق الموجودات . كركعة عربة عسكرية قادمة . حرك أصابعه .  عرق .  لهث . اصفرّ . احمرّ . تحفزّ . الترحيل . شرطة الحدود . البطاقة ، الليل ، القرميد ، أوراق الفصل ، أنت ممنوع من العبور ، اركض . اركض  . اركض . انفجار هزّ أركان عربات الخضروات والبسطات وعربات الكارو . إطلاق كثيف ثم توقفت كركعة العربة . محمود خير الدين ملقى على الأرض ينزف منه الدم بغزارة . انحشر الخلق في الأزقة والحارات .  محمود خير الدين يرى العالم هياكل ودوائر ، واللون الأحمر يسحّ ، وبوق سيارة إسعاف يلعلع في شؤم ".

           لماذا هزأت من رسالتي السابقة التي حدثتك فيها عن إصابة محمود خير الدين ؟ لا تنسى أنه احتضن الانفجار . أما أنت فربما كنت في تلك اللحظة تحتضن لفافة الفواكه واللحم عائداً إلى بيتك . وتقول إنّ الموت أيضاً عندكم !! أهو بحجم الموت عندنا ؟! كيف يموت الناس عندكم !! لا بدّ أنها حوادث العربات الفارهة من الموديلات الأمريكية باهظة الثمن ؟! أو الأغنياء الذين يموتون من التخمة ، بينما الفقراء يموتون على طرقات وأرصفة العاصمة جوعاً وفقراً وحزناً .. لا عليك من كل هذا ، سأحدثك بما سيجعلك تندم أشدّ الندم على أنك هزأت من موت محمود خير الدين ، والتي قلت عنها حادثة عادية ، فقد اكتشفتُ أنّ تفاصيلاً كثيرة من تلك التي حدثتك عنها لم تدر إلا في خيالي فقط ؛ لأنني أحببت محمود خير الدين الرجل الذي صنعه خيالي . ليس في الأمر لغز . فحينما أُزيح القطن عن الوجه الذي أخذ بعد أيام يصارع الموت في لحظاته الأخيرة صُعقت ، لم أشاهد أمامي عذابات رجل في الأربعين من عمره كما صوره خيالي قبل إزاحة القطن ، إذ أني شاهدت وجه صبي لا يزيد على الخامسة عشرة .

"            ممنوع التجول . تصاعد الأمر العسكري في مكبر الصوت . الذين يمتلكون بطاقات هويّة بدأوا في الخروج . ساحة المدرسة اكتظت بالرجال . الصبي كان يجلس على عتبة باب الدار وهو يتفحّص ورقة نجاحه ، تفاجأ بانفجار وطلقات قريبة . اختبأ الناس في بيوتهم . لم يستطع الصبي تحديد حجم ما يدور ، صوت الطلقات متنوع وكثيف وهو لا يزال يراقب الشارع بحذر ، وظل واقفاً حتى تحوّل الشارع إلى قطعة من الصمت . توقف الإطلاق . سمع أصوات عربات تـقترب فأغلق الباب ، داروا في الحارة ، فتشوا كل شئ حتى أوعية الزيت والزيتون وصناديق القمامة . اصطدمت أنظار الصبي وهو يقف في باحة الدار بمن يقفز إلى الداخل ، الملثم بدأ يبحث عن مكان ليختبئ . اختبأ . دخلوا البيت ، لم يكتشفوه . وفي المساء عاد الرجال من ساحة المدرسة فخرج من مخبئه ، وسار خلف الصبي . عبر به الشوارع والأزقة وعاد بعد أن عرف مكان الرجال . صار ينقل إليهم الطعام والأخبار وأشياء أخرى تحت الطعام .

          في يوم وهو ذاهب للمخبأ توقف . شم رائحة غريب ، احتمى بجدار قريب وبدأ يتلصص في حذر . شاهد أبو عبده . تحسّب الصبي . استنشق هواءً نقياً . عبّأ صدره ، وتريّث . مرت لحظات خانقة اختفى بعدها أبو عبده . سرى الشّك في نفس الصبي فتحرك من مكمنه ، انفلت كالبرق يتخطى الأزقة الباقية ، في المظاهرة الأخيرة رفع أبو عبده صوته على بعض المتظاهرين ليبتعدوا عن باب مقهاه . يومها ثار الناس في وجهه ، ولولا أن صمت لحطموا رأسه " هل شاهدني وأنا أذهب إليهم ؟ هل خمّن ما أحمله ؟ " ..                                 التصقت الكلمات في حلق الصبي .. لزجة كريهة .. العرق بدأ ينز من مسام جلده . عبقت الأجواء برائحة فاسدة . حاول الصبي أن يأخذ نفساً عميقاً نقياً فلم يستطع . تحفز وغاب وراء أول جدار . انطلق يعدو ، انقطع نفسه . لهث . عرق . تعثر " هل يبلغهم أبو عبده بأنه اكتشف مخبأ وأنّ به .. " ازداد في العدو وبريق يلمع في عينيه ، نزلت دموعه وهو يسابق اللحظات ، الطريق امتدت آلاف الأميال .. عليه أن يصل قبل العجلات المطاطية .. قبل انقضاض الرصاص والموت .. هل بدأوا يتحركون ؟ والشباب هل انتهوا من تناول الطعام ؟ أبو علي هو الذين ينتهي أولاً .. إنه يأكل كل شئ حتى الموت " . يزفر من أعماقه ، المسافات تتراجع ، الليل يدبّ بتثاقل ، حراب الظلمة سدت منافذ الرؤيا .. ارتمى على باب المخبأ وهتف بصوت متحشرج " اخرجوا .. اخرجوا بسرعة " وما كادوا يخرجون إليه حتى رأوه مستلقياً ينز عرقاً ولهاثاً من كل بدنه ، تنطق ملامحه سعادة لأنه وصل مبكراً . حذرهم . تقافزوا بين أركان المخبأ . لملموا ما استطاعوا من الأشياء ، ساعدوه على الوقوف ..

   ـ لا عليكم . اتركوني واذهبوا .

   ـ وأنت ؟!

   ـ لا تهتموا .. سأتجه شرقاً .

         أبو علي كان آخر من غادر المكان . نظر في الظلمة مرات بعمق . ارتاح ، ذهبوا جميعاً . بفرح هتف " غدا سأبصق في وجه أبو عبده أو سأكتفي بابتسامة هازئة .. سأغيظه ، وأمشي أمام المقهى مرات .. سيقول انصرف من هنا .. سأقول له لن أنصرف ، ثم أبصق في وجهه . لا . لا يضربني لو فعلتها .. سأكتفي بالبصق أمامه "  .

         بدأ التحرك بعيداً . سمع ضجيجاً .. " أتوا  " .. همّ بالانطلاق شرقاً فلم يجد منفذاً ، صوت صادر من الشرق ، من الغرب ، من هنا ، من هناك .. ماذا أفعل ؟! سأنطلق .. لا سأعود للمخبأ " . رصاص ، مفرقعات بين الجدران تصم الآذان . تراجع الصبي وحراب مسمومة تخزه ، هبط إلى المخبأ . ضوء الفانوس لا زال يشع ، الدوّي لا ينقطع ، المظروف الذي أتى به عند الظهيرة لا يزال على الأرض ، بقايا طعام ، صعد حاملاً المظروف .. أخرج ما فيه وبدأ يحاول اختراق الحصار .. " الطلقات اقتربت .. هدأت ، مكبر الصوت يدعو للاستسلام . هذا لن يحدث .. ترحم عليّ يا أبو علي " الإطلاق يزداد . انفجار شديد قرب المدخل .. انتتر من مكانه بشدة .. تصدّع المخبأ . انهار بعضه . قفز إلى الأمام وبدأ يقذف " محاصر أنا .. ماذا سيقولون عندما يكتشفوني " الأضواء المنبعثة من الطلقات والانفجارات لونت الوجه الصبياني . صوت حاد . انفجر جسده ، ارتطمت إحدى ساقيه بجدار قريب . تدفق الدم . امتدت يده تتحسس قدمه الثانية . لم يجدها . لم يدرِ شيئاً . انفلت الدم ضاعت الأصوات . أطلت ملامح الأشياء من ثقوب ذاكرته .. ضاع في غيبوبة .. أبو علي يركض نحوه .. يركض . يركض .. يركض . صمت . دم . دخلوا المخبأ . الأنوار الكاشفة سطعت فوق النزف . ما عثروا على غيره . نقلوه .. بوق سيارة إسعاف يلعلع في شؤم ."

        الجسد فوق  السرير . الرأس مغطاة بالقطن . خرطوم دقيق يمرّ في إحدى طاقتي الأنف ، الإبرة المدببة لا زالت تقطر الدم في الشريان ، فتح أحدهم أوراقا في يده . سأل كثيرًا ، لم يتلق إجابة . اغتاظ بسرعة لأنه لا يرى حتى عينين ينظر إليهما . كان أمامه نصف جسد مغطى . وخراطيم بول ودم وجلوكوز . حمل أوراقه وخرج ساخطاً . آخر مرة حضر فيها كان الأطباء حول السرير . تشنّج الفم ، انفتح مرات وانغلق ، تدفق من فمه سائل كريه فوق الغطاء الأبيض ، ثم  تدفق الدم ورديّا من طاقتي أنفه وفمه بشدة ، تقلصت أصابعه وانضغطت ، ثم فتح فمه لآخر مرة ، شهق ، ومات.

        قطرات البول ظلت تسحل في الوعاء البلاستيكي الشفاف ، زقزقة عصافير تعالت قرب النافذة المطلة على الحديقة . دفعتُ العربة بالجثة المصرورة بثياب بيضاء عبر الممر ، بقعة دم كانت تفشي في الثوب الأبيض .. وكنت أتصورك وأنت تحاول دفع العربة معي عبر الممر الطويل .

من مجموعة الدوائر برتقالية

 

 

انفلات الموج

 

يتدفق القمر من وراء الرابية البعيدة ويدخل عبّ الشجر ، يتسلق سيقان النخيل والمدى العالي ، يتسلل في نغم الحروف الطالعة من نسيج الحناجر ، يمتد من رءوس الناس إلى أقدامهم فتتضح معالمهم ، يظنون أنهم وحوش كاسرة ، أسود مفترسة ، كلاب لها نباح يخرج بقسوة من بين الأنياب ، يكتشفون أنهم مجرد نمل يسير في طابور نحو ثقب في الأرض هنا أو هناك ، فلا يلتفت إليهم أحد ، ولا تثير طوابيرهم أدنى اكتراث .

   تصبح الجمادات تحت ومضة الضوء بناطيلاً وقمصانًا ، فساتينًا وقبعات ، أجسادًا من قلق تهتز في اللمعان بشجن فاضح ، تشارك في الفعل .

ـ ترى ، هل يحدث هذا بقرار عقلي من جماد ؟

 فاه آخر يكاد يغفو عند الحديث :

ـ النور للجهات العالية ، يلامس أعالي السنابل والسطوح والأشياء .

ـ إنه لا يتسرّب إلى الداخل المغلق .

ـ من منا يراقب ما يجري ؟ ازدحمت المساحات والشخوص والجمادات.

ـ وهل تملك مراقبة الأشياء بحيادية ؟ إذن اعزلها أو انفخ نارًا في الوجدان .

ـ تتشابك جدران الزينة ، يستمرّ الاشتباك الدائم بين مطالع النور ومغارب الظلام .

ـ والاشتباك الدائم بين آدم والجنة ؟

ـ وبين الأبعاد الستة تصطدم حواجز الظلال ، ولا تطمس ألوان الجمال مهما استبدت .

ـ لكن بنايات التوهج تطمس الألوان القاتمة .. تعمي البصيرة .

ـ البحر في الغرب اتساع يعوضنا ضيق الجهات ويمد حبال المدى فلا   نلتقي مع الأفق ..

ـ والشمال امتداد لا بأس به .. لكنه امتداد في الذاكرة وحسب .

ـ امتداد يبعث في النفس الانقباض .

ـ بل امتداد مستدير يبدأ ولا ينتهي .

ـ لأنهم سيّجوه بالأرقام والأوراق والمواعيد .

ـ حشروه ..

ـ إذا كان هذا حشر الجمادات فكيف حشر الأحياء ؟!

ـ يطلع الله الجميل عليهم بطلعته النورانية ويقول : " أين الملوك .. أنا الملك اليوم ".

    يتملص ملح البحر من مائه ، يصبح البحر ماء فراتًا ، والملح أكوام يحفظ فيها فضاءات الأحلام حتى تحين لحظتها ، لو كل متأمل صارع تأمله لوقف الوقت على رءوس الجميع ، ولكان اتساع الحلم باتساع البحر ، وتفلت الروح بهيجان الموج .. لكنّ هذا آوان سقوط الظل ، ووحشة الصمت ، واستدارة القلق ..

   يتطلّع حوله ، يتأمل مذاق الملح ، وأكوام الماء العذب ، يشاهد القمر يأتي حاسرًا من وراء الرابية ، لا يستطيع تغيير المذاق ، الناس يزدحمون في تراص عجيب ، يغرفون الماء العذب بأيديهم ، وحين يصل أفواههم ، يقطر ملحًا .

يعود إلى مُتأمّله :

ـ هل سقط الظل حقيقة ؟!

ـ كلا .. الذي سقط نور القمر ، فأصبحت الظلال بيضاء ووجه القمر صار أسودًا ..

ـ يا لطيف .

ـ ووحشة الانقباض تتقلص وتغدو مساحة من الهدوء الثقيل .

ـ ولماذا في هذا الوقت بالذات جئت تُذَكّر ؟!

ـ لأن الصراع والقمر مستديران .

ـ والأحلام والأرغفة أيضًا مستديرة .

ـ ونحن نأتي من استدارة الأماكن ونغيب .

ـ ومساحة الفرح .

ـ من الشمال إلى الجنوب .. المنطقة ضيّقة والحلم يتّسع .

ـ ومسرح المقبرة ؟

ـ مكان متكرر للتأبين .

ـ تستدير الحدقة وتبكي .

ـ بل الدائرة الزمنية تهذي .

ـ والقلب غرفة من ورق النشاف يمتص الجرح ويمضي .

ـ يمضي إلى بحر بلا موج .. ويسكن أجسادًا بلا شهوة .

ـ القلب جماد والبحر جماد .

ـ جمادان وفيهما ساكن ومتحرك .

   يتطلّع إلى متأمله ، يفتش عنه بعينين ثاقبتين ، يتحسس الأركان بيديه، لا يلامس حرارة يد ، ولا صلابة كتف ، ولا ليونة فخذ ، يصمت قليلاً ، ينهض في استرخاء بالغ ، يدفع قدميه إلى ركن المكان ، يتمتم بكلام لا يسمعه أحد ، ولا يثير رضا أحد ، ولا سخط أحد ، كلام ، كأيّ كلام ، لا يُوقف الزمن ، ولا يبعث الروح في المكان ، يسير قليلاً يتأمل ساقيه ، يقذف الهواء بقدمه ، يصطدم الهواء بالباب ، يهتز القفل ، يسقط المفتاح ، ينفتح الباب .. تهجم عواصف شتى تعيد ترتيب الأشياء في أماكنها . يهتف :

ـ لماذا يكون المستحيل سيد المكان والزمان ؟

الفاه الآخر يطلع ثانية :

ـ إذا كان الأمر كذلك اشتم رائحة السكون .

 ردّ عليه بغضب :

ـ بل حركة .. لهاث .. عدوٌ .. وانفلات موج .

ـ وتسمع تداخل الأصوات !!

ـ وانثناء النخل ، واحديداب القمر ، واصفرار ما بعد العصر ..

ـ احديداب القمر !! هذا شئ من قدرات الإله .

صمتت الأصوات ، خشعت في سكينة ووقار ، ثمّ لم تستطع كل الجدران أن تمنع وصول صخب البحر وانفلات الموج ممزوجان بزامور طويل عبر الشارع .

من مجموعة انفلات الموج 

 

أضيفت في 01/01/2008/ خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية