الخلد والفلاح الأصم
أخذ بحفر
نفقه في غياهب التراب بمخالبه التي شحذتها الفطرة لتمكينه من العيش تحت
الأرض ، كان حدسه هو قائده الوحيد بعد أن خلق اكمها لا يبصر ، وبدأ بقضم
جذر نبات البصل الذي صادفه أثناء الحفر دون أن يكتم انزعاجه من وقع خطوات
بني الإنسان فوق الأرض هامسا في نفسه :
-ألا يكفيهم
أنهم يسودون فوق الأرض ويقتاتون من ما تفتقت عنه أكمام الحياة من نبت
وصيد ليحفرون في الأرض أيضا هادمين علينا بيوتنا وإنفاقنا نحن بني الخلد
الذين نحيا تحت الأرض بعمانا المفروض علينا منذ الولادة؟
- الم يكفهم
ما شقته محاريثهم ومعاولهم في الشتاء السابق عندما حرثوا الحقول ليزرعوها
بالبصل ، ليأتوا اليوم بمعاولهم من جديد هادمين ما بنينا من أخاديد فيها
نحيا ونسير دون أن نزعجهم بمنظرنا الممسوخ ؟
أولا يشعرون
بخوفنا وانقباض قلوبنا مع كل ضربة معول ، قد تصيب الواحد منا في مقتل دون
أن يشعرون. أم تراهم يضنون علينا لقيمات بصل نمضغها أثناء الحفر لتقيم
أودنا.
كان الخلد
مشغولا بحديث نفسه تحت التراب وهو يقضم فلقة البصل ، أما على ظهر الأرض فقد
كان الفلاح الأصم يذرع الحقل جيئة وذهابا بحنق شديد شاتما بني الخلد جميعا
:- ذلك الكائن الممسوخ الذي اتلف حقل البصل الذي دأبت على رعايته طوال
الموسم ، حتى إذا نضجت الأبصال أتلفها بأنيابه المقززة.ولكن لا بأس ،
سأعلم هذا المخلوق الأعمى الهش القبيح درسا لن ينساه ، وسأستل روحه بمعولي
هذا قبل أن يتلف ما بقي من أبصال.
أمسك الفلاح
الأصم معوله بحزم وبدأ يرسم في ذهنه خطة الهجوم ، وخلص أخيرا إلى إتباع
المسار الافتراضي الذي يسلكه الخلد تحت الأرض بدءا من شق جحره ليستبقه
بخطوات وليبدأ بعزق التراب تاركا طبقة رقيقة منه لكي تهتز حبيبات التراب
فيها حين يمر الخلد من تحتها لحفر أخدوده فيبادره بضربة من معوله تستأصل
شره وتنقذ ما بقي من بصيلات الحقل . ثم بدأ بعزق التراب بالمجرفة تدفعه
الرغبة بالخلاص من ضرر الخلد إلى التمتع بمرأى كوم التراب الصغير المتراكم
تدريجيا رغم فقدانه للحاسة التي تمكنه من سماع صوت المجرفة وهي تغرف من وجه
التراب ما يرققه. ليجلس بعذاك منتظرا ويداه قابضة على المعول مشحوذ النصل
تأهبا لمرور الخلد من تحت التراب .
أما الخلد
فكان يواصل حفر أخدوده تحت الأرض سادا جوعه أحيانا بقضم فليقات من البصل
الطازج ، ثم سكن مليا في الوقت الذي عملت فيه مجرفة الفلاح حفرا في الأرض
خوفا من مكروه قد يناله وهو يتخبط في عماه حافرا أخدوده، ليواصل الحفر بعد
أن سكن صوت المجرفة مستشعرا الأمان المنبثق عن الصمت ..وفجأة :
---
أأأأأأأأأه ..أأأأأأأأأه
صرخ الخلد
صرخة مدوية وقد طعنه نصل معول الفلاح الأصم ، بعد أن قاده قدره من تحت
الطبقة الرقيقة من التراب حتى إذا اهتزت حبيباته بفعل اهتزاز جسده فطن إلى
وجوده الفلاح الأصم المتربص ليعالجه بضربة قاتلة من معوله مبتسما ابتسامة
ظافرة .
----أأأأأأأأأأأأه
..أأأأأأأأأأأأأه
كان صراخ
الألم مدويا مجلجلا رددت صداه الطبيعة من حوله حيث سمعه كل شيء إلا قاتله
الأصم ، والذي رأى فغر الخلد لفيه صارخا من الألم المميت ، فظنه يتجشأ
لتخمة أصابته من أكله لثمار البصل ، فابتسم بزهو ملقيا جثمان الخلد الدامي
جانبا وقد أخذ بثأر موسمه الذي اتلف الخلد جزءا منه مطمئنا على الجزء
المتبقي ، ثم بدأ بجمع متاعه عائدا إلى منزله تاركا جثمان الخلد الذي لم
يبصر قط قاتله ، طريحا تبكيه الطبيعة التي أشفقت من صرخة الموت المنبعثة من
حنجرته ، والتي لم تصل إلى سمع قاتله.
فرخ الشنار
كانت الشمس
ترسل بواكير أشعتها الذهبية لتنشر في حنايا الحياة دفأها ، لتنفتح شفاه
الزهور البرية عن ابتسامة ريانة بالحياة في يوم جديد من أيام القرية
الوادعة ، أعلنت العصافير عن ميلاده بزقزقتها التي بلغت عنان السماء مصحوبة
برفيف أجنحتها الغضة وهي تتطاير من شجرة إلى شجرة فرحة بالحياة المتدفقة
مع أولى خيوط الشمس .
كانت
المرأتان تجدان الخطى بهمة ونشاط نحو حقل القمح الأخضر في ذلك الصباح
النيساني ليبدأ مشوار الكدح متواصلا مع أيام سبقت ، وموعودا مع أيام
ستلحق في جدلية متواصلة منذ اشتد العود وتسرب الجبين بالعرق العطر بعبير
الحنون وشقائق النعمان. واتقد في الضمير الإدراك لفلسفة الحياة التي لا
تطعم دون عطاء ولا تكسو دون كد وشقاء.
كانت
أحداهما تمسك بأدوات العمل بيديها ، أما الأخرى فكانت تمسك الزاد بشمالها ،
وتمسك بكف طفل في ربيعه الخامس باليد الأخرى ، تقتاده نحو الحقل ليرتع
ويلعب إلى جوارها ريثما تأذن لهما الشمس بالعودة إلى البيت حيث الراحة من
يوم شاق.
وبدأت
المرأتان بالعمل ، وأخذت أيديهن اللواتي خشنت بفعل آلات الفلاحة عبر السنين
تتناوب على اقتلاع كل ما سوى القمح من أعشاب برية تتطفل على سويقاته الغضة
مقاسمة إياه عصارة الطين والماء دون وجه حق لتذره ضعيفا فيما هي تزداد قوة.
قبل أن تسارع أيدي الفلاحتين باجتثاثها من جذورها ليهنأ القمح بهبة الأرض
والسماء ، مانحا ذاته للفلاحين بعد أن تصفر السنابل في موسم الحصاد.
وعندما علت
الشمس في كبد السماء وازدادت حرارة أشعتها جلست الفلاحتان للراحة وتناول
الإفطار تحت زيتونة هرمة مفترشتين التراب الأحمر برفقة الطفل ليهنأ ثلاثتهم
بتناول الخبز الأسمر مغموسا بزيت الزيتون موشى بالزعتر ألأخضر ، يتخلله
حديث بين المرأتين حول مواضيع شتى لم يرتق وعي الطفل لفهمها فانشغل
بالطعام. وفجأة نهضت حداهما واقفة على قدميها وكانت أم الطفل وقد تهلل
وجهها بشرا ولمعت عيناها عزما وإصرارا لتركض نحو الحقل المجاور والمزروع
بنبات (الكر سنة) مطاردة لإحدى إناث طائر الشنار التي كانت تسير حاملة
أفراخها تحت جناحيها ولا تقوى لذلك على الطيران . كانت المرأة تهرول
بتثاقل بين سيقان الكرسنة الملتفة كشبكة صياد املآ في أن تلحق بالطائر
الأنثى وتنتزع احد أفراخها ليلهو به طفلها ، فيما ازدادت سرعة أنثى الشنار
يدفعها سعار الأمومة وظمأ الحياة لتقاوم التعثر بين سيقان الكر سنة في
محاولة محمومة للفرار من أنثى الإنسان وقد ملأ صوتها الفرار وكأنها تستغيث
بكل الطبيعة من حولها لتهب لنجدتها ونجدة أفراخها الجاثمين تحت جناحيها دون
أن تتمكن من فرد جناحيها إلى السماء الرحيبة حيث لا تطالها يد الإنسان.
كانت المرأة تهرول بتثاقل بين
سيقان الكرسنة الملتفة كشبكة صياد املآ في أن
تلحق بالطائر الأنثى وتنتزع احد
أفراخها ليلهو به طفلها ، فيما ازدادت سرعة أنثى
الشنار يدفعها سعار الأمومة وظمأ
الحياة لتقاوم التعثر بين سيقان الكر سنة في
محاولة محمومة للفرار من أنثى
الإنسان وقد ملأ صوتها الفضاء وكأنها تستغيث بكل
الطبيعة من حولها لتهب لنجدتها
ونجدة أفراخها الجاثمين تحت جناحيها دون أن تتمكن من
فرد جناحيها إلى السماء الرحيبة
حيث لا تطالها يد الإنسان.
وبعد هنيهات عادت
الأم جذلة ممسكة بفرخ الشنار
ككنز ثمين لتقدمه لطفلها بدل لعبة لم يقدر والده على
شرائها عله يجد ما يفاخر به
أقرانه ..كان فرخ الشنار جميلا موشحا بخطوط سوداء من
الزغب الناعم حول منقاره الوردي
وعينيه الفائضتين خوفا وحزنا تلقفه الطفل بفرح
طفولي يجهل فلسفة الأشياء ،
وسيكولوجية اليتم والفراق ليجري حاملا الفرخ بيديه لا
تكاد الأرض تسع فرحته
.
وعند الظهيرة يعود الطفل إلى
بيته برفقة أمه واضعا
فرخ الشنار في قفص صغير ، مقدما
له الحب والماء في محاولة منه لإطعامه واسقائه دون
جدوى ، إما لصغر سنه وإما لمرارة
الفراق التي سقته إياها أنثى الإنسان بانتزاعه من
تحت جناح أمه بغلظة
لتقدمه ملهاة لطفلها.
وفيما انشغلت الأم في تدبير شؤون
المنزل أخلد الطفل إلى نوم عميق
لتسرح روحه بين أطباق الأحلام فيرى أنثى الشنار وقد
تعملقت وامتد جناحاها بقوة
ليحيطا به وينتزعاه بصلف لتطير به بعيدا تاركة أمه بين
فكي الحزن والذعر لا تلوي على
شيء. أفاق الصغير من حلمه مذعورا ليثب إلى القفص رغبة
بإطلاق فرخ الشنار ، الذي وجده
مسجى على ارض القفص مفارقا للحياة
العابد
ضجت القرية
الوادعة لانقطاع الغيث الذي هدد محاصيلها بالتلف منذرا بمجاعة لا يسلم منها
لا الأطفال الرضع ولا البهائم الرتع ، والتي إذا نفقت عطشا وجوعا فستزيد
الفاجعة لانعدام مصدر آخر للغذاء بنفوقها إذا نفقت ، فاجتمع وجهاء القرية
في منزل (المختار) بحثا عن حلول أو بدائل ، وهناك جلس الجميع وكأن على
رؤوسهم الطير بغد أن شبعوا أخذا وردا بانتظار المختار ليدلي بالرأي الفصل.
مسح المختار
قطرات العرق التي تصببت على جبينه لجسامة المسؤولية الملقاة على عاتقه ،
وأدار نظره بين الجموع المنتظرة قوله ، فابتلع ريقه وقال :
-إننا أيها
الأخوة والأحباب نواجه عسرا لم نألفه من قبل ، ولا أبالغ إذا قلت أن بقاءنا
مرهون بزواله ، ولم نجلبه بتقاعس منا عن العمل ، أو إيثارا منا للدعة
والاسترخاء بقدر ما هو قدر من أقدار السماء التي لا نملك معها ردا ، والتي
ما كانت لتحل لولا خطايانا وتفريطنا في جنب الله . وعليه لا أكاد أجد لكم
مخرجا إلا أن نخرج جميعا إلى الطرقات رجالا ونساء وأطفالا لنجأر إلى الله
سائلينه الفرج والخلاص . ربما تقولون أننا فعلنا ذلك كثيرا ، وصلينا
الاستسقاء مرات ومرات دون أن يستجاب لنا ، غير أن الحق أقول لكم : أن رحمة
الله واسعة وهو بكاف عبيده.فلنكرر مرات ومرات حتى يرأف بنا سبحانه وهو
الرءوف الرحيم.
- على رسلكم
يا قوم.
التفت الجميع
لرؤية الهاتف الذي دخل الديوان بغتة يكسوه الغبار من رأسه إلى أخمص قدميه
ليتبينوا في ملامحه وجه الشيخ حكيم ،عابد القرية المشهور بزهده وتقواه ،
والذي عزف عن مخالطة الناس منذ عهد بعيد رغبة عن معايشة الفتن واقتراف
الصغائر من الآثام .فابتاع غنيمات يتبع بها مواضع القطر كما أوصى الرسول
من قبل في زمن الفتن. ولم يشاهد بعدها واعظا في الناس ، وإنما كادحا لكسب
رزقه أو متصفحا كتابا بصمت جليل.
-على رسلكم
يا قوم..نعم إن الله كاف عبده ، غير أن أهل العلم قالوا من قبل : إن الله
يلتزم بكفاية العبد بقدر ما يلتزم العبد بعبوديته لله ، والعبودية للرب لا
تتجسد في السجود لوجهه الكريم في الضراء فقط ، بل هي أشمل من ذلك بكثير لا
أقلها أداء حقوق الله ، وأداء حقوق عباده كذلك في السراء والضراء.
قال الشيخ
ذلك ولحيته الطويلة البيضاء تهتز لفرط الانفعال مع كل كلمة ينطق بها، وإذ
لمس اهتماما لدى الجمع بكلامه واصل حديثه بنفس التأثر والانفعال:
-إذا أردتم
أن يهطل الغيث من السماء من جديد فهيئوا له موضعا على الأرض ينزل عليه،
والا فلا جدوى من صلاتكم.
-ماذا؟؟؟؟..تساءل الجميع بصوت واحد تعتريهم الدهشة.. أو يهيأ للغيث مكانا
؟؟؟ إن هذا لأمر عجاب . تساءل رهط منهم.
-أجل يا قوم
، هيئوا مكان رضا للسماء على الأرض، واعلموا أنني لا أتحدث بالطلاسم ،
ولكنه الحق والحق أقول : ليعط المختار شقيقته حقها في الميراث أولا قبل أن
يقود الناس إلى صلاة الاستسقاء ، فدموع تظلمها على الأرض تحجب عنكم غيث
السماء ، ولينبذ إمام المسجد أخاه الذي شهد رهط من ثقات القرية على تلاعبه
بالمال العام ، فبشر ببراءته من على المنبر في يوم الجمعة ، وتوعد متهميه
بعقاب الله الأبدي واصفا إياهم بعصبة الإفك.. لان افتراءه على الله أنزل
أللعنة على قريتكم فأحيط بثمرها . وليذهب رهط من وجهاء قريتنا إلى القرية
الجارة استرضاء لمعلم الصبيان الذي نبذته القرية وأوكلت مهام التعليم
لشاب جاهل من أبناء القرية لصلة قربى تربطه بكبير وجهاء القرية ، لان
تجهيل الأجيال فناء لكم إذا نجوتم من فناء المجاعة ...
- لقد أثقلت
القول يا شيخ بما لا يليق بعابد مثلك . صرخ أحدهم مقاطعا ليسري هرج ومرج
كطنين النحل في المجلس ، وكأنهم كانوا بانتظار من يخرق جدار الصمت ليشوشوا
على إدانتهم. إلا أن الشيخ رفع يده بحزم وتابع حديثه:
- لقد أخذ
الله الميثاق على العلماء ليبينون الحق للناس ولا يكتمونه ، لذا فالحق
والحق أقول : إنكم لم تجهزوا بعد لاستقبال هبة السماء ، ثم شق طريقه بين
الناس ليخرج من حيث عاد ، ثم وقف على باب الديون واستدار مواجها الجمع
ليواصل الحديث قائلا :- إذا قررتم تحكيم الحق والصواب ، وتهيئة الأرض
لاستقبال ما ستغدق به السماء ، فلا تنسوا أن تأخذوا الدية من قاتل شقيقته
الذي يمشي آمنا مطمئنا بين ظهرانيكم ، وتعدونه مثالا للنخوة والحمية .
وقدموا الدية عونا للشباب الراغبين في الزواج دعما لعفتهم.
فصرخ به رجل
من الجمع: لقد تماديت في غيك يا هذا ، وتابع ثان : سبحان الله ، أو يدافع
عابد لله عن زانية ، وأردف ثالث : إذا كان الزهاد العابدون كذلك فلا حرج
علينا نحن العامة ، وابتسم ابتسامة ثعلبية ، وهنا انتهرهم الشيخ قائلا :
-إن الله
الذي حرم الزنا هو ذات الله الذي حرم القتل ، ولو أخذت كل نفس القانون
بيدها ، فما جدوى كتب الأنبياء ؟؟!
ثم خرج من
الباب الذي دخل منه دون أن يبادر أي من عقلاء القوم على استيقافه ناهيك عن
جهلائهم ، ليواصل طريقه نحو الجبل ساعيا بغنمه بحثا عن منبع ماء بثقة
يفتقدها من تركهم مجتمعين في الديوان ، ثقة جعلته يحس بشفاه الأرض المتشققة
ظمأ للمطر تبتسم رضا عما قال وفعل ، والشجر المتيبس عطشا بأغصانه التي
يداعبها النسيم تلوح له محيية إياه بغبطة وفخر.
الحرب والمحراب
1-
كانت شوارع
القدس العتيقة مكتظة بالناس على عادتها رغم شدة برد الشتاء القارس ، وكانت
البسطات المكتظة بخيرات الأرض تصطف على جانبي الطرقات بهجة للناظرين على
امتداد الطريق من باب العمود إلى أبواب الحرم القدسي ، تزخر بخيرات الأرض
الطيبة ، والتحف الخشبية والنحاسية ..تعلو أصوات باعتها وتختلط حينا ثم
تذوي عندما تقترب من مكتبة الصدقات حيث يعلو ترتيل شجي لقاريء حسن الصوت
منبعث من جهاز تسجيل في ركن المكتبة التي تغص بالكتب والمطويات و تعبق
أجواؤها بعبير المسك والورد والكافور المنبعث من قارورات زجاجية صغيرة
متعددة الألوان والأحجام : الأمر الذي يضفي بهاء فوق بهاء لشوارع البلدة
القديمة.
دلف الصديقان
إلى فناء المسجد الأقصى ليخفق قلباهما لرهبة الولوج إلى باحات أولى
القبلتين والسير على الأرصفة الواسعة المبلطة بأحجار بيضاء كبيرة ..ولم تكن
تلك زيارتهما الأولى ، بيد أنها تميزت بميزتين اثنين ، فهي الزيارة الأولى
التي يقومان بها معا من جهة، ومن جهة أخرى لكونها زيارة عفوية وليدة اللحظة
يقومان بها خوفا من أن لا يظفرا بمثلها بعد اليوم ، فقد نقل المذياع
الإنذار الأخير الذي وجهته قوات التحالف لصدام حسين محددة له موعدا أخيرا
للخروج من الكويت ، الأمر الذي دفع الجامعة لتعليق الدوام لإتاحة المجال
للطلبة للعودة إلى بيوتهم قبل اندلاع حرب قد تكون ضروسا تأتي على كل أخضر
ويابس بفعل الدمار المنتظر للأسلحة غير التقليدية التي كدسها الطرفان أهبة
للمعركة التي لم تعرف ساعتها بعد. اذذاك كانا يزمعان العودة إلى مدينتيهما
في الشمال ليكونا مع الأهل في انتظار قدر لا يدركان كنهه ، ومصير يكمن رعبه
في مجهوله.عنذاك التفت إلى صديقه قائلا:
-أتعلم أيها
الصديق أنني كنت قد قرأت في احد ى الكتب أن المسجد الأقصى سيهدم في آخر
الزمان
أجل، وأنا
قرأت أمرا مماثلا ذات يوم ، وربما تكون هذه الحرب المجنونة هي آخر العهد
بهذا المسجد. رد الصديق
-أو ترى
المسجد المبارك يعد أيامه الأخيرة أيضا .
- ربما..
ربما مع الأسف ، حاله حال ملايين البشر الذين ستحصدهم هذه الحرب الضروس إذا
اندلعت. طأطأ صديقه رأسه بأسف عابثا بطرف شاربه.
-فما تقول في
الذهاب لنصلي فيه صلاة مودع ، فقد ودعنا الزملاء والأتراب خوفا من أن لا
نلقاهم أو يلقونا بعد انقشاع غبار هذه الحرب التي خلعت قلوبنا خوفا قبل أن
تندلع ، وستسل أرواحنا إذا اندلعت. فلم لا نودع المكان كما ودعنا الإنسان
طالما أن الأمكنة كذلك باتت في عصر التكنولوجيا المدمرة مادة للفناء كما
الإنسان.
-لا بأس..لا
باس ، فلنذهب. أجاب صديقه وهو يفرك يديه معا جلبا للدفء.
كان المطر
يهطل غزيرا طوال الطريق ، ولم يتسنى لهما رؤية شيء من نوافذ سيارة الأجرة
المتجهة نحو القدس إذ كانت السماء كأفواه القرب في منتصف يناير.ولم يكن
للمسافرين من حديث إلا عن الحرب القادمة وما أعدا لها من خزن للطعام وتغطية
للنوافذ بطبقات (النايلون) خوفا من تسرب الكيماوي المزدوج إلى داخل البيوت
لخنق الكبار والصغار معا. وكانت المشاعر شتى ، والتكهنات مختلفة إلا أن جو
الخوف كان هو المسيطر على الحديث الدائر بين السائق والمسافرين ، خوفا بدده
للحظات مداخلة لامرأة عجوز تجلس إلى جانبهما في المقعد الخلفي ، إذ هزأت
(بالنايلون ) ومن يبتاعونه قائلة بلهجة الجنوب الفلسطيني :
-(ييجيكو
الموت ولو كنتو في بروج مشيدة) تقصد قوله تعالى : ( يأتيكم الموت ولو كنتم
في بروج مشيدة). فنظر كلاهما إلى الآخر مبتسمين ربما للمرة الأولى منذ أيام
طويلة.
كان المطر قد
توقف عن الهطول عندما دلفا إلى باحة الأقصى ، إلا من رذاذ خفيف تتسلل عبر
غلالته بعض خيوط الشمس لتزداد قبة الصخرة توهجا كلما داعبتها ، توهجا ضاعف
من جمالية تركيبتها المعمارية ، وإذ ذاك شعر كل منهما بغصة في حلقه ونظر
إلى صاحبه سائلا بصمت:
-أيعقل أن
يصبح هذا البناء المذهل بما يحمل من عبق التاريخ أثرا بعد عين؟!
وعندما هبطا
السلالم المؤدية للمسجد الأقصى أحسا بألفة غير طبيعية مع المكان ، وكأن
المسجد المبارك على موعد معهما ، يرمقهما باسما عرفانا وتقديرا لسعيهما
لوداعه، باشا مرحبا بهما ، وعندما دخلا صحن المسجد كانت الإنارة خافتة
واصمت مطبق لا يقطعه سوى خطى المصلين على السجاد الناعم متوجهة نحو المحراب
حيث أذن للصلاة ، واصطف المصلون صفوفا مكبرين الإحرام خلف الإمام الذي قطع
حبل الصمت مكبرا يجلجل صدى تكبيرته في إرجاء المسجد الواسع ترتعش لجلالها
أعمدته الرخامية العملاقة ، فيم اسر بصلاة العصر واقفا في الصف إلى جانب
صلاته ، يتساءل كلاهما في قرارة نفسه :
-أهي حقا
صلاتنا الأخيرة فيه؟؟
2-
دخل ممسكا
بكف عروسه إلى باحة الأقصى بعد أعوام تسع من زيارته الأخيرة مع صديق دراسته
. كانت عروسه الشابة من فلسطينيي الخليج لم تر القدس إلا على شاشات التلفاز
و صفحات المجلات ، وكانت تبدو في مخيلتها مدينة أسطورية على بقعة ما من
ربوع وطنها الذي جابت أرجاءه عدة مرات برفقة ذويها في اجازات الصيف دون أن
يمروا ولو لمرة بالقدس ، فبقيت المدينة المقدسة في مخيلتها صفحة من التاريخ
، وبقعة دائرية الشكل على الخريطة الجغرافية ورحلة مرتقبة ذات يوم . لذا
كانت ترسل النظر في كل ركن من أركان الساحات الرحيبة ، دون أن تخفي شعورا
غير مألوف لديها بالانتشاء برؤية ما حلمت برؤيته عيانا ، غير مصغية إلى
طويل شرح زوجها الذي أسهب في ذكر المراحل التاريخية المختلفة لهذا البنيان
العريق ، وأكنافه المقدسة من سائر الأديان.
ربت بيده على
كتفها أمام مدخل قبة الصخرة ليوقظها من إغراقها في تأمل الزخارف الجميلة
والقبة الذهبية المتوجهة بفعل الشمس ، مرشدا إياها إلى مصلى النساء ،
ومحددا موعدا للقاء بعد أن يفرغ هو من صلاته ، طفق يهبط السلالم من جديد
ليسجد خلف المحراب في بقعة سجد عليها ذات يوم إبان الحرب الضروس التي انتهت
وبقي المحراب في مكانه.
أصوات وصور
هو الذي منح الأشياء بهجتها فغني
بذكره يا بلادي) واصلت الطالبة
الحسناء قراءة مقاطع من ملحمة (جلجامش
) بصوتها الرخيم كترانيم الكنائس في غرفة
دراسية في كلية الآداب ، بينما
كان جالسا إلى جانبها يصغي السمع بإحساسه الأدبي
المرهف بأذني رأسه حينا ، وبآذان
روحه أحيانا ، وأختلط صوتها الرخيم بأصوات شتى
انبعثت من داخله ، تصدح بالنشيد
الروحي الأخاذ حينا ، و بترتيل الآيات حينا لتتداخل
الصور مع الأصوات في توليفة
روحية مذهلة أخذت بذاته عن الوجود بعيدا لتجول به في
أرجاء الفراديس حيث الصفاء
والنقاء المعصومين من دنس الأرض ، وحيث الجمال السرمدي
الذي لا يشوبه القبح ، ليعود
بعدذاك إلى عالم الأرض بوكزة من زميله منبها إياه إلى
انتهاء وقت المحاضرة.
وفي الخارج كانت ردهات الجامعة
تزدان بالصبايا الحسان
من ذوات القد الممشوق والقوام
المعتدل ، ناشرات عطر الأنوثة في كل اتجاه ، فيما
اصطفت الجدران باللافتات
المزدانة بالشعارات المختلفة، والتي اكتست إطاراتها
الورقية بألوان شتى بحسب التوقيع
الممهور على زواياها السفلية لهذا الإطار الطلابي
أو ذاك ، فأخذ يجيل نظره بينها
قارئا ومتفحصا فحواها ، مقارنا بين الخطوط التي كتبت
بها ومنسوب البلاغة والركاكة في
مضمون هذه أو تلك حتى أفضى به المسير إلى المخرج
ليجد نفسه وجها لوجه مع الشارع
المائج بالطلبة والطالبات مصطفين أسرابا عرضية
تغطيهم اللافتات والبيارق
واللافتات القماشية الضخمة منطلقين في مظاهرة ضخمة ،
وأصوات حناجرهم تشق الصمت في
هتافات مجلجلة منتظمة حدت الركب في سيره على طول
الشارع الرئيس وعرضه ليجد نفسه
في وسط الركب دون أن يلوي على شيء ، وبدت منه
التفاتة إلى الأعلى ليرى كيف
احتشدت النساء والأطفال على سطوح وشرفات المنازل
يرقبون المسيرة فيما أخذت إحدى
النساء برش الأرز والسكر مباركة الركب ومن فيه ،
فيما انفجر سعار أبواق السيارات
المصطفة على طرفي الشارع لتتيح المجال للمتظاهرين
بالمرور فيما دوت الأغاني
والأهازيج الوطنية من أجهزة التسجيل في بعض المركبات ،
أما بعض المارة فكانوا يجدون
الخطو غير عابئين لاعتيادهم على هذا المنظر اليومي،
وأخيرا وصل الركب إلى مشارف
المدينة لينفض تدريجيا ويتفرق الجميع قاصدا كل
غايته.
لف الظلام غرفته في السكن
الجامعي حيث يتلقى دراساته العليا في جامعة
(السور
بون ) بباريس إلا من تراقص أشعة التلفاز منبعثة من الشاشة الفضية بينما جلس
انتظارا لسماع ومشاهدة الأخبار
لمعرفة أحوال البلاد بعد أن غادرها منذ اشهر ليحضر
لشهادة الدكتوراة في الآداب.
بدأت المذيعة بتلاوة النشرة فيما ظهرت على خلفية
الشاشة صورة لمبعدي (مرج الزهور
) يرتدون الأكفان متجهين جنوبا نحو الأرض التي
اخرجوا منها بالقوة ، كانت
الصورة مهيبة وحزينة في آن وقد سار شيوخ وشبان من مختلف
الأعمار مجللين بالبياض نحو
المجهول : لا يدرون أيسمح لهم باجتياز الحدود بسلام أم
تتلاقهم النار ليدفنوا على أرض
حزينة دافنين معهم حلم عودتهم إلى الأهل والديار
.
وبعد انتهاء النشرة أطفأ التلفاز
وأشعل مصباح الغرفة تلاه بإشعال سيجارة نفث منها
نفثة عميقة فيما ترادف صمت
التلفاز بإيقاع الموسيقى الصاخبة المنبعث من ملاهي باريس
وحاناتها ، فتناول مجلة عن
المنضدة أمامه ليتصفح شيئا ليقع بصره أول ما وقع على
الغلاف الذي يحمل صورة لفتاتين
من بلاد البوسنة والهرسك تندبان عفافهما المغتصب
وأهليهما القتلى على أيدي الجنود
الصرب، فألقى بالمجلة من يده مطفئا سيجارته التي
لم يكمل تدخينها بعد في منفضة
السجاير
.
كان نهارا دافئا من أيام آذار ،
احتسى فيه القهوة المرة وجلس
محاولا التحضير لمحاضرة الغد في أدب الملاحم ،بيد أن
أصوات الرصاص الملعلع في الفضاء
دفعه للخروج من خلف مكتبه إلى شرفة المنزل المطلة
على الشارع الرئيس في نابلس ،
حيث كانت الشوارع تغص بما يناهز نصف المليون إنسان
تعلوهم الرايات والبيارق ذات
الألوان المختلفة ، تتقدمهم عربات الأمن الوطني وعربات
الإسعاف تحمل جثامين بضع عشرة
شهيدا سقطوا في حادثة قصف سجن نابلس المركزي . كاد لا
يرى إلا خضما بشريا متموجا بتموج
الرايات المتعدد فوق رأسه كأنها أشرعة مواكب تمخر
عباب بحر بشري متلاطم ، فيما
انبعثت الصرخات الغاضبة من الحناجر الثكلى وكأنها صوت
الموج المتكسر على صخور الشاطيء
العملاقة . وفيما كان يطيل النظر ، كان يمعن الفكر
مدركا أن الأصوات هي ذات الأصوات
، والصور هي عين الصور. وما من مختلف سوى اختلاف
الليل والنهار وتبدل الأمكنة
لقاء الشياطين
حفر بأظافره
المتسخة كوة صغيرة في جدار الكهف المظلم الرطب ليحفظ فيها صرة القطع
الفضية التي وهبه إياها الشيطان هذا المساء . كان يدمدم غضبا ويزفر غيظا لا
يستطيع له تنفيسا خوفا من أن يسمعه ولي نعمته الشيطان فيبطش به ، لقد توقع
منه مكافأة مجزية على ما أنجز ، كان الأولى أن يمنحه قطعا ذهبية على الأقل
..أجل : قطعا ذهبية ذات بريق لامع أخاذ يسر الناظرين لا قطعا فضية باهتة
بلون البرص ، فما أنجزه ليس بالقليل الم يتقن القنص هذا الصباح ، ويسدد
جيدا إلى رؤوس الأطفال لتخترق الرصاصات الجماجم الغضة ناثرة الدم في كل ما
حولهم .أو لا يشبع شهوة الشيطان مرأى أدمغتهم الرخوة وهي تسيل من مخرج
الجراح ممتزجة بالدم ؟ وأي شيء يرضي غرور هذا الشيطان إن لم يشبعه انطفاء
الزنابق في خدود الأطفال القتلى ، وشخوص أبصارهم نحو السماء استنجادا باله
كتب على نفسه الرحمة والعدل وقد أدركت أرواحهم البريئة وهي تزهق أن لا مغيث
في الأرض.
-(يبدو أن
الأخيار أشد ذكاء منا معشر الأشرار عندما يصفون مولانا الشيطان باللعين)
همس في قرارة نفسه . غير انه أدرك أن همسه للنفس لم يكن آمنا عندما اضطربت
جدران الكهف ومادت أرضه من تحت قدميه لينعقد دخان كثيف كريه الرائحة زاد
الكهف ظلمة فوق ظلمته ونتانة فوق نتانته ليتجسد أمامه الشيطان تهتز قرناه
غيظا ، ليمسك بتلابيبه صارخا فيه بأنكر الأصوات ناثرا لعابه الكريه في وجهه
:- ويح أمك !! أو تلعنني أنت أيضا وأنا ولي نعمتك ؟
-(معذرة يا
مولاي ، والذي جعلني لك تابعا لم تكن إلا زلة لسان ) أجاب وهو مرتعد
الفرائض رعبا : صدقني ، زلة لسان لا غير ، ربما هي أيضا وسوسة......) ثم
صمت بغتة وقد أدرك خطورة ما كاد ينطق به.
-(اخرس) صرخ
في وجهه الشيطان بأنفاسه النارية النتنة، ثم تابع قائلا : تريد أن تقول
وسوسة شيطان ، أنا أقرب إليك من نفسك أيها المأفون فأنا مقيم في دمائك،
فحذار من التلاعب معي.
-(المهم)..قال الشيطان وهو يذرع الكهف جيئة وذهابا ،- ( يجب أن تأتي الآن
معي ، فهنالك رهط منا ينتظرون سماع ما قمت به ، بعبارة أخرى : يريدون منك
تقريرا ، ليخططوا للمرحلة المقبلة من العمل الشيطاني . سأهبط الآن في الأرض
فاتبعني حيث ذهبت ولا تلتفت يمنة أو يسرة) . قال الشيطان ذلك ثم بدا يهوي
في أرض الكهف ليتبعه هو دون أن يملك اعتراضا.
سار وراء
الشيطان في أقبية الأرض المظلمة وأنفاقها النتنة الرطبة حتى وصلا إلى بهو
مهيب توسطته مائدة ضخمة اصطفت خولها عدة مقاعد ، فأراد أن يهوي بجسده
المنهك على أحدها لينال قسطا من الراحة ، بيد أن الشيطان انتهره صارخا :
-( ابق في
مكانك ، فلم تنل الحظوة بعد لتجلس ) قال ذلك رامقا إياه بازدراء .
وبعد هنيهات
انتظار ، مكثا خلالها واقفين على الأقدام فتح باب في صدر المجلس ليخرج منه
ثلة من الشياطين تتبعهم ثلة من الآدميين ببدلات فاخرة وربطات عنق غالية
الثمن، تمعنهم فاغرا فاه دهشة إذ عرف في ملامحهم وجهاء مجتمع كثيرا ما
تستضيفها الفضائيات لتطيل الردح ، مهاجمة بعضها بعضا ، وأكثر ما أثار
استغرابه وجودها معا هنا تحت الأرض بصحبة الشياطين ، ثم سرت في جسده رعدة
حسد وغيرة عندما رأى كبير الشياطين يشير بيديه إلى المقاعد الفخمة مرحبا ،
حيث اتخذوا لهم مجلسا لتدور عليهم كؤوس الضيافة الشيطانية ، وإذ ذاك تنحنح
كبير الشياطين وبدأ الاجتماع قائلا :
-( نجتمع
اليوم أيها الأعزاء ، لنحتفل بنجاحنا الذي لعنتنا لأجله رمال بحر غزة وماؤه
، ناهيك عن جموع الأخيار في الأكوان قاطبة ، واللعنة منهم هي بمثابة
المباركة في عرفنا الشيطاني. فقد تكللت جهود أحد عناصرنا الصغار في اقتناص
حياة مجموعة من الأطفال ستكون فاتحة شر على الخيرين جميعا ، وما كان هذا
لينجح لولا جهودكم الشيطانية المثمرة في إشاعة ثقافة الكراهية والترجيف في
حنايا المجتمع ، مما هيأ البيئة الصالحة لعنصرنا الجريء ليبدع بفعلته ) .
ابتلع كبير
الشياطين ريقه الكريه ثم واصل حديثه:-( إن معركتنا مع الوجود الخير فوق
الكوكب تكمن في إثارة الفرقة بين الأخيار ليسهل علينا السيطرة ، ولن نستطيع
ذلك إلا إذا دمرنا عامل الثقة بينهم ، وعندما تتم الشرذمة ..وقتذاك لن
تضرنا لعتاتهم)
مطاردة في قطار
كانت المحطة
تعج بالمودعين والمسافرين معا تختلط أحاديثهم فلا يفقه منها المرء شيئا ،
فيما سرت رائحة الفحم المحترق ليستحيل الدخان طبقة ثالثة في ظلمات ثلاث :
الليل ، والسحاب والدخان ، ليل تزينه المصابيح الكهربية الخافتة التي يعكس
الجليد أشعتها ، فترتسم على قضبان السكة الحديدية كلوحة تجريدية من لوحات
الطبيعة المتألقة والتي كانت ستسترعي انتباهه لولا ظلمات الهم واليأس
والإحباط التي أطبقت على فؤاده وهو يجر حقيبة سفره ذات العجلات المهترئة
محدثة ضجيجيا خفيفا لاصطكاكها بالأرض المغطاة بطبقة خفيفة من الجليد
المتجمد.
أشعل سيجارة
بأصابع مرتعشة لا يدري ارتعشت للبرد أم للهول القادم في هذا المساء الذي
تحتم عليه السفر من العاصمة إلى مدينة الميناء حيث يقيم ويتلقى علومه بعد
أن وصل بعد الظهر من البعيد على متن الطائرة ، فنفث دخان سيجارته لتتفرق
خيوط الدخان ثم تجتمع في ضوء مصابيح المحطة راسمة صورا شتى تجسد أحداث
رحلته الطويلة من المطار إلى محطة القطار . قال له صديق عمره انه سينتظره
في المطار ليزوده بالمال اللازم لابتياع تذكرة قطار ، ووجبتي طعام ، إلا
أنه لم يكن بانتظاره ، وعندما هاتفه في البيت أخبروه انه مسافر ، فاشترى
بدراهمه الأخيرة علبة سجاير وتذكرة باص أقلته إلى محطة القطار ، عسى الله
أن يهيئ له مخرجا يمكنه من الوصول إلى مدينة الميناء ، فلطالما امن
بالمعجزات في زمن بهتت فيه كل المعاني الإنسانية ، واصطبغت الحياة بصبغة
مادية داكنة اللون كئيبة المنظر..لم يتبق معه سوى علبة سجاير ، وحقيبة سفر
قديمة وخاتم زواج فضي وأمل بالوصول إلى مدينة الميناء.
دلف إلى إحدى
العربات واضعا حقيبته على الأرض إلى جانب النافذة ، ووقف متظاهرا بالتمتع
بالمشهد الخارجي حيث تلوح مئات الأكف بالوداع بعد أن أعطى القطار إشارته
الأخيرة للمغادرة فيما بدأ القطار بالترنح بعجلاته الثقيلة على سكة الحديد
ليخلط نسيم المساء البارد بدخان الفحم المحترق الدفيء تماما كما يختلط في
داخله الخوف بالرجاء .
-التذكرة
لطفا .. بادره صوت أجش ليثني وجهه عن النافذة متأملا مصدر الصوت ، ليجد
نفسه بإزاء رجل في الأربعين من العمر ، يرتدي زيا رسميا أزرق اللون ،
ونظارة سميكة العدسات تحول بينه وبين قراءة تعابير عينيه ، إلا أن ملامحه
كانت من الصرامة بحيث لا تمنحه أدنى توقع بخير.
تظاهر بالبحث
في جيب معطفه ، ثم الجيوب الداخلية فجيب القميص ، فالمحفظة دون أن يعثر على
شيء ، فأجاب بنبرة كاذبة :- (معذرة..يبدو أنني أضعت التذكرة)
-( إذن
فستهبط في المحطة القادمة على بعد 10 كيلومترات من هنا ) أجابه المراقب
بغلظة .
-(ولكني
متوجه إلى الميناء ، وأمامي ما لا يقل عن أربعمائة كيلومتر ، فماذا سأفعل
في المحطة القادمة.)؟
-(الأمر بسيط
..ستدفع قيمة التذكرة نقدا لأمنحك تذكرة جديدة).
-ولكن..لا
مال لدي .. لقد اشتريت تذكرة القطار بآخر ما لدي من مال )
-(إذن ستنزل
في المحطة القادمة )
-(ولكن).............
-( أو تدفع
ثمن التذكرة ).
-( اسمع يا
سيدي ..سأعطيك هويتي الشخصية ، وجواز سفري رهنا ريثما نصل الميناء ..وهناك
سأهاتف أصدقائي ليأتوا بالمال فورا .....)
-(هذا ما لن
يحدث )قاطعه المراقب بحزم ، وتابع وقد رفع نبرة صوته متوعدا :( إما التذكرة
، أو قيمتها نقدا ، أو ألقي بك خارج القطار في المحطة القادمة ، فهذا قطار
سفر وليس تكية ) قال ذلك وأدار ظهره بصلفة ليواصل جمع التذاكر من المسافرين
، فيما وقف هو حائرا لا يلوي على شيء .
سردت رعدة في
جسده وقد تخيل الليل والبرد والغربة في مدينة لا يعرف فيها أحدا إذا ما
القي به من القطار في المحطة القادمة . فبدأ يفكر بتوتر محصيا خياراته : قد
يتوجه إلى مركز للشرطة؟ ولكن ماذا سيفعل هناك ؟ سيقولون له : هذا مركز
للأمن وليس تكية ، ناهيك عن صعوبة الوصول حتى إلى مركز الشرطة دون أجرة
سيارة . قد يحاول الكرة ثانية مع المراقب ويقنعه بأخذ جواز سفره
كرهينة..ولكن ملامحه الغبية الصارمة لا تشعه على محاولة كهذه..أيلجأ لبقية
المسافرين؟؟..يا للعار !! انه يتحرج من حاجة الأقرباء ..فكيف بالغرباء ؟
ولكن : (من اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه) هكذا همس لنفسه مشجعا
لاتخاذ الخطوة الأولى من مبدأ اختيار أخف الضررين .
-(عفوا سيدي)
..توجه إلى رجل مسن توسم فيه مسحة من الطيبة والوقار . أنا طالب جامعي
متوجه إلى مدينة الميناء ، وقد أضعت تذكرتي ولا مال لدي ، أرجو أن تسلفني
سعر تذكرة وسأترك جواز سفري معك رهينة ريثما نصل الميناء).
-(وأنا لم
يتبق معي مالا يا ولدي ..اسأل غيري ) أجابه الرجل المسن ببرود متناولا
جريدة غطى بها ملامحه .
-(معذرة
آنستي ...) كرر نفس الرجاء أمام صبية حسناء من بنات سنه ، فواصلت حديثها مع
زميلتها وكأنها لم تسمعه . ابتلع ما بقي من ريق في فمه لم يجف بمرارة لم
يعهدها من قبل ، وعندما لمح المراقب من بعيد قرر المراوغة ، فجر حقيبته
وأخذ بالتنقل من عربة إلى عربة حتى وصل إلى عربة المقهى ، حيث تنتصب طاولة
في الوسط يقف إليها المسافرون ريثما يشربون شيئا أو يدخنون ، فألقى
بالحقيبة أرضا وجلس إلى جانبها مؤملا النفس بأن المراقب سيحتاج الكثير من
الوقت قبل الوصول إليه هنا في عربة المقهى ، وربما ينسى أمره ريثما يتجاوز
القطار المحطة القادمة ، وبعد ذاك قد يهيئ الله له مخرجا ، تأمل الوجوه
الواقفة عله يقرا في ملامح إحداها مسحة طيبة وعطاء ليكرر محاولة الاستلاف
إلا أنها كانت جميعا عابسة مكفهرة ، وبعضها كانت بلا ملامح تظهر حمرة
أعينها كم أسرفت في الشرب ، فأشعل سيجارة أخرى وأدار وجهه للنافذة حيث أطبق
الظلام حاجبا الرؤية إلا من فتات ثلج يتساقط على ضوء مصباح النافذة الباهت
فأحس بالبرد من جديد وقد تخيل كيف سيلقى به عند الوصول إلى المحطة القادمة
.
-( في وجهك
تقرأ الآلام جلية يا فتى ) هتف به رجل طويل القامة عريض المنكبين وقد انحنى
إلى جواره تسبق رائحة الكحول كلماته المنبعثة من فيه القبيح ، تأمله جيدا
ليرى رجلا غجريا باسم الوجه على قبحه.
-(أجل يا
سيدي..لقد أضعت تذكرة القطار وسيلقون بي على رصيف المحطة القادمة ويرفضون
أوراقي الثبوتية رهينة ريثما نصل مدينة الميناء ) قال بنبرة تحمل طابع
التوسل جليا وان أخفاه ، فهو يعلم أن الغجر هم أفقر الفقراء ، يستلون عيشهم
بالتبصير والتنجيم والحيل ، ولكنه أحس برغبة في مبادلة الحديث مع كائن من
كان ، فلربما يجد يدا عند مراقب التذاكر كي لا يقذف به على رصيف المحطة
القادمة حيث الليل والبرد والغربة وقطاع الطريق.
-(وماذا تحمل
في هذه الحقيبة) سأل الغجري برقة ودهاء في آن واحد
-(ثيابي
وكتبي )
-(أجديدة هي
الثياب)
-(نعم
اشتريتها لتوي ولم ألبسها إلا لأيام معدودات)
وفتح الحقيبة
مخرجا منها قمصانه وبناطيله ، كمن يدلل على سلعة غالية ، محاولا إغراء
الزبون بالشراء ، تفقدها الغجري قطعة قطعة بشيء من الرضا أتقن إخفاءه قائلا
:- -( إنها جميعا لا تكفي ثمنا لتذكرة السفر ).
فغر فاه دهشة
لبخس السلعة من قبل الغجري الماكر ، إلا أنه لاذ بالصمت كي لا يفسد الصفقة
عازما على المساومة ، فأردف الغجري قائلا ، ليقطع عليه أي طريق للمساومة :
( غير أني سأشتريها جميعا وسأنقدك ثمن التذكرة عملا للخير وأملا أن أجد ما
أنجو به في عر صات الآخرة حين يقوم الناس لرب العالمين ).
-(ولكن ثمنها
أغلى بكثير، بامكانك أخذ بعضها ) قال بضيق ، وقد لمح مراقب التذاكر يصل إلى
عربة المقهى..
-(على كل أنا
مضطر للمبلغ ..خذها كما تشاء ) قال قانطا.
ابتسم الغجري
بدهاء ومد يده مصافحا إعلانا عن إبرام الصفقة ناقدا إياه الدراهم الكافية
لشراء تذكرة القطار ، واضعا الملابس في كيس متسخ ، ملوحا بيده مودعا وسروره
بالصفقة الرابحة لا يخفى .
جلس على
الأريكة في عربة المسافرين بعد أن ابتاع التذكرة إلى جانب الفتاتين اللتين
عزفتا عن سماع شكواه بإزاء الرجل المسن الذي لا يزال مقنعا وجهه بالجريدة ،
وتنفس بارتياح بعد أن ضمن الوصول إلى مدينة الميناء حيث الجامعة والأصدقاء
، مغتبطا أن حقيبته أصبحت أخف وزنا مما يمكنها من جرها بسهولة بعد وصوله
دون الحاجة إلى سيارة أجرة أو حافلة ، فلم يعد فيها إلا بعض الكتب وملاءة
المختبر البيضاء .
سمات
هنا رقدت
(سمات) رقدتها الأخيرة ، وعلى هذا السرير شخصت ببصرها للمرة الأخيرة نحو
السماء في نظرة وداع للروح التي غادرت الجسد المنهك نحو عالم أبدي ريان
بالحياة موسوم بالخلود، ليبكيها كل من أحبها ، ولم يعرف سمات أحد إلا
وأحبها إلى درجة الشغف ، فهي امرأة تقمصت جسد طفلة، وطفلة زهت بسحر امرأة
مشت الهوينى على دروب الحياة لثلاثة عشر ربيعا لتنتقل روحها بعذاك إلى حيث
رياض الخلود الأبدي لتتدرج على دروب الفراديس التي لم يرها من الخلق أحد .
دخلت إلى
المشفى القديم ذي الأسوار التي تشبه قلاع المماليك، وارتقت السلالم الحجرية
بإرهاق باد تستقطعه لحظات للراحة عند كل درجة يضيق عليها النفس الذي أعاقه
المرض الخبيث من إنعاش الجسد الطفولي الذي كانا ناضرا إلى ما قبل زمن
وجيز.. كانت الدرجات القديمة تتعالى إلى حيث قسم الأطفال على اليمين ، وعلى
اليسار برز من تخوم الأرض ضريح رجل أسس المشفى قبل قرن من الزمان كما يذكر
الرواة في تناقض واضح بين رسالة الحياة التي يحملها المشفى ومعالم الموت
التي تطل متطفلة على ركب الحياة .
كانت جلسات
العلاج الكيماوي مضنية ، تتلوها سويعات من الألم والغثيان والتقيؤ ممعنة في
اذبال الزهرة التي تفتحت للحياة لتزيد بهاء البستان الأرضي ، وتنشر عبير
الجمال في حنايا العيش الدنيوي بابتسامة لم تكن تخبو إلا مع اشتداد الألم ،
وعذوبة أحاديث لم يكن يقطعها إلا هاجس الموت الذي كان يفرض نفسه عند موت
أحد النزلاء دون أن تتمكن أمها الحكيمة من إخفاء الخبر عنها ، وان اجتهدت
بعدذاك في تخفيف وطء الفاجعة عنها ، وطرد شبح الهواجس.
ربما كان
أسعد أيام إقامتها في المشفى المذكور هو ذلك اليوم الذي قدم فيه (رفعت )
،شريك قدرها في المكوث تحت قهر السرطان ، فقد كان نفس الهاجس يطارد روحيهما
، وذات الحقن تسكب في أوردتهما ، فكان أن ألف كلاهما لصاحبه ، وانعقدت عرى
الحب الطفولي بينهما في صورة زخرف الأهل جماليتها بأحاديث مرحة عن مصاهرة
مستقبلية في كذب صريح على الذات وهم يعلمون إن قدريهما بقدر ما يقتربان من
بعضهما بعضا فهما يبتعدان عن خضم الحياة إلى شواطيء غير مرئية ، لا تمكن
أحد منهم من الفرح بالعرس المتخيل ولا من تقديم هدية زواج.
-(لا ينبغي
التهاون في تركهما معا ، فهما على أعتاب سن حرجة) قالت إحدى الممرضات.
-(يا لله )
ابتسم الطبيب بمرارة محاولا كبت دمعة ألحت في الانسياب على خده المتغضن
فمسحها بكم ملاءته البيضاء وتابع : ( لا تخشي ضيرا يا أختاه ، فهما حقا على
أعتاب سن حرجة ، ولكنهما لن يتجاوزا الأعتاب )
-(الأعمار
بيد الله ، فلماذا كل هذا التشاؤم)
ازدادت
ابتسامة الطبيب مرارة وهم بالانصراف من غرفة التمريض إلا أن الممرضة
استوقفته كمن تذكرت أمرا ، وقالت: ( بالمناسبة ، سمات ترفض أخذ الحقنة إلا
في وجودك).
-(حسنا..أنا
متوجه إلى غرفتها الآن)
واستكانت
(سمات) للطبيب الذي أفرغ قارورة الدواء الثقيل في وريد يديها ، وقد طفح
وجهها الباهت بشرا لحنانه الأبوي ، فهو الذي شاطرها أحاديث شتى عن كراس
الرسم ، ويوميات المدرسة ، وأقتادها وأمها بعيدا عن مسرح الموت كلما أمر
القدر بمغادرة نزيل من نزلاء القسم إلى حيث لا يرجع أحد.
وعندما أفاقت
(سمات ) ذات صباح ، كان سرير (رفعت) فارغا ، وعندما سألت عنه كان الجواب
المفبرك جاهزا : (لقد سافر إلى الخارج لاستكمال العلاج)، كذبة اشترك في
صياغتها وإخراجها الأهل والطاقم الطبي معا بمهارة دفعت (سمات ) للقول عاتبة
: (كيف سافر ولم يودعني).
وبعد عامين
من رحيل (رفعت) قمت بزيارة (سمات) وجلست إلى جانب سريرها للحظات مبتهجا
أنها كافحت لصد الوجه الأسود للموت حولين كاملين في تشبث فطري بالحياة. ثم
وعدتها بزيارة قريبة ، وانصرفت هابطا السلم الحجري بخفة ليكون القسم عن
يساري وقبر المؤسس عن يميني وأمامي الشارع الغاص بالحياة والضجيج .
وبعد أسبوعين
يممت لزيارة( سمات) ، وابتعت في طريقي قرنفلة حمراء ، وعلى مدخل الطواريء
جالست صديقا من الأطباء حدثني في أمور شتى بعد أن أنهى مناوبته الطويلة ،
وإذ سرقنا الوقت أرجأت الزيارة إلى يوم آخر.
وفي اليوم
الذي تلاه حمل إلي هاتفي النقال صوت الطبيب الصديق عينه بتهدج أوجف القلب
وسرى الوجوم إلى نفسي قبل أن تنقل لي كلماته نعي (سمات) التي أسلمت الروح
على سريرها في المشفى القديم في صباح شباطي تلبدت فيه سحب الشتاء السوداء
مثقلة بالمطر وحبلى بحزن تمخض عن وفاة (سمات).
وماذا بعد
اضطجع على
سريره منهكا..لم يكن تعبه ناجما عن مشقة في العمل فقد تقاعد منذ أشهر خلت
قضاها محاولا البحث عن ما يقتل به نهاراته ولياليه: حاول في البداية أن
يمنح جل وقته للعب مع أحفاده وقص القصص عليهم ، غير أن برامج الرسوم
المتحركة وألعاب الكمبيوتر كانت أكثر جاذبية لهم من قصصه وحكاياته فأعرضوا
عنه غير مبالين. فانثنى يبحث عن رفاق الصبا والجامعة والزملاء القدامى ليجد
أن معظمهم إما فارق الحياة أو رحل بعيدا ليقضي ما بقي من العمر في كنف
الأبناء أو ألبنات طامحا لشيخوخة هادئة ، فنشد ضالته في القراءة التي سرعان
ما ضاق منها صدره إما لان الكتابات الحديثة لا تروق له ، ناهيك عن قراءته
السابقة النهمة لما حوته مكتبته الضخمة من أمهات الكتب ، فمكث أياما يجتر
الذكريات ممزوجة بمرارة الملل.
تعب من طول
الاضطجاع على السرير ، فنهض متثاقلا وأوصى ابنته بصنع فنجان قهوة بدون سكر
، ثم ارتدى ملابسه وهبط السلالم للجلوس على مقعد في حديقة المنزل متأملا
براعم القرنفل المتهيأة للتفتح استقبالا لشمس نيسان الدافئة فيما تقهقرت
الأعشاب اليابسة مدفوعة بالريح الخفيفة وكأنها أدركت أنه لا مكان لها في
الربيع المتدفق حياة ونضرة. تناول من جيبه سيجارا كوبيا أشعله متأففا وكأنه
يفرغ مع كل نفثة دخان دفعة ملل تراكم في داخله فكتم عنه النفس ، فيما وضعت
الخادمة صينية القهوة على الطاولة المصنوعة من القش وسكبت له كاس قهوة
تناولها شادها عما حوله وارتشف منها رشفة ثم وضعها ثانية على الطاولة ليعود
لنفث الدخان من سيجاره .
-(وماذا بعد
؟؟؟..هل تلفظني الحياة بعد أن رفدتها بالكثير؟) تساءل حانقا .
-(وبماذا
رفدت الحياة؟)...أجابه صوت من أعماقه
-( الم أضف
إلى ركب الحياة الماضي قدما أبناء وبنات وأحفادا كثرا وحفيدات؟؟)
-( وماذا في
ذلك؟؟) أجابته أعماقه من جديد ( إن نسلك –وان أعجبك- لا يقارن بالجنس
البشري إلا كشجرة واحدة في غابة لا متناهية في الضخامة ، واسمح لي أن
أنبئك كذلك أن أعدادا لا يعلم عددها إلا الله من البهائم بأنواعها وأصنافها
المختلفة ترفد الحياة بأضعاف أضعاف ما رفدتها أنت به ،..بل وبزمن قياسي لا
يقارن بما مكثت عليه أنت إذا كان فهمك للحياة بأنها أرحام تدفع ، ولا ينبغي
تذكيرك أن بعد الأرحام هنالك أرض تبلع)
-(كفى ) صرخ
بنفسه لتكف عن فلسفتها المقيتة ( لقد كرم الله الإنسان وميزه عن البهائم ،
بالعلم والرقي ، لقد قضيت معظم عمري في التعلم والتعليم ، كما وعلمت أبنائي
وبناتي جميعا ، وما زلت أراقب أحفادي وهم متوجهون إلى مدارسهم كل
صباح..و..)
-( ولكنك لا
تنكر أن علمك وعلمهم جميعا يكاد يذوي في زاوية النسيان مقارنة بالإشعاع
العلمي في أقطار العالم المتحضر، فأنت نفسك غير راض عن مناهج التدريس في
البلاد ، وقد رددت ذلك مرارا معتبرها خاطئة لا تنسجم و التسارع العلمي في
العصر الحاضر ، فكيف تفاخر بحصيلة علمية إطارها الخطأ بحسب إقرارك أنت؟؟)
جادلته ذاته بطريقة أثارت حنقه تدريجيا حتى كاد يبلغ الذروة فخفف من غيظه
بمجة من سيكاره تجرعها بغيظ .
-(هون عليك
..لم أقصد إثارتك ، وإنما أردت أن لا تبالغ في تقدير نفسك فوق قدرها فهذا
لن يطرد عنك السأم )
-( ولكنك
جانبت الحقيقة، بل و بخستني حقي ، ألم أرفد المسيرة العلمية بكتب ستظل
خالدة بعد موتي ؟)
وهنا جلجلت
في أعماقه قهقهة نفسه التي تابعت القول بعد أن جاهدت نفسها كثيرا للتوقف عن
الضحك :-
-(أو تسمي
أطروحة الماجستير التي استللتها بشق الأنفس ، وتبخر من ذهنك كل ما جمعته
فيها من حقائق وأنت تصحح وتنقح مزجورا من أساتذتك حينا ، ومن نفسك أحيانا
رفدا لمسيرة العلم ، ثم قل لي وبصدق : هل ترى قرأها من أحد غير زوجتك
مجاملة لك لأنك جعلت الإهداء لها ، ومع ذلك- وبدون غضب لو سمحت- ألم تستيقن
في نفسك عندما ناقشتها حول الأطروحة أنها لم تعرها من الاهتمام بأكثر من
مطالعة سطحية في إطار المجاملة الضحلة؟)
-( ولكن
الطلبة درسوها في الجامعة ) صرخ بنفسه زاجرا
وهنا تعالت
قهقهة النفس من جديد ..قهقهة هستيرية جعلته يشمئز من الغيظ ، بيد انه تمالك
نفسه وسألها بحنق باد:
-(وعلام
الضحك هذه المرة)
-(تعلم جيدا
لم درسها الطلبة.. درسوها مرغمين لأنهم تعلموا من أجيال سبقتهم أن محور
أسئلة امتحاناتك يدور حول رحى أطروحتك ، ولا أخالك نسيت أن زملاءك الآخرين
قد اختاروا لطلبتهم مراجع أخرى كثيرة لا تحصى )
(وديوان
أشعاري ؟؟..أنسيته أيتها النفس)
(لا أريد أن
أجرحك..تقصد الديوان الذي بيعت منه أربعين نسخة من أصل أربع آلاف نسخة،
واكتظ بالباقي منزلك قبل أن تجد لها مكانا في زاوية المخزن لتغدوا بعد أقل
من عام وجبة دسمة لديدان الأرض ؟!)
أطرق حزينا ،
وساد صمت رهيب ،إذ لم يفكر بهذه الطريقة مذ خلق وصارع الحياة وصارعته،
فأطرق ساهما فيما كانت نيران السيجار يأكل بعضها بعضا ويتآكل معها السيجار
المشتعل قبل أن يبلغ إصبعه فينتفض ألما ملقيا بعقب السيجار المشتعل على
الأرض ليدوسه بقدمه بغلظة ساحقا أحشاءه البنية تحت قدميه. ليتهالك من جديد
على مقعد القش .
-(هل آلمتك
النار أم كلمات حقيقتي) سألته نفسه بخبث.
-(اخرسي عليك أللعنة ) صرخ بنفسه
زاجرا، ثم تابع بألم
)
أخرجتني من الدنيا بلا دين ، انك لا تعلمين مدى غبطتي بجيش الأبناء
والأحفاد عند كل مناسبة يجتمعون فيها ، عند ذاك أرى نفسي ملكا غير متوج ..)
-(أنت كذلك
وقتذاك )
-( شكرا..لا
داعي لعبارات الشفقة ، لا تكوني كمن يحدث جرحا ثم يضمده)
-(أنا جادة
جدا ..نعم عندما تبارك أبناءك وأحفادك في الأعياد وغيرها ترفد الحياة وبحق)
-(ويحك أيتها
المتقلبة ، أو لم تقللي من شأن ذلك قبل قليل؟)
-(بالعكس
..لم أقلل من شأن مباركتك لهم وفرحك بهم ، فهذا هو الرفد الحقيقي للحياة ،
لقد قللت من شأن اعتبارك مجرد الإنجاب رفدا للحياة)
-(؟؟؟؟)
-(أعي جيدا
أنك لم تفهمني ..سأوضح لك : لم يكن مجرد إنجابك لطفل بالإنجاب الذي تستحق
عليه الثناء ، فهو حصيلة طبيعية للحظات لذة مادية قضيتها مع زوجك ، غير أن
الحب الذي قادكما إلى الفراش من قبل هو الإنجاز الحقيقي للحياة ، ورعشة
الحنان التي تدغدغ مشاعرك كلها عندما تناغي أطفالك وأطفالهم من بعد هو
الرفد الحقيقي عندما تواصل رفد الأجيال بالمشاعر الراقية التي تربطهم بك
ويستشعرون الأمان بها ومعك )
طأطأ رأسه
موافقا ، قبل أن تواصل النفس حديثها الهادي:
-( وكذلك لم
يكن ما كتبت بدافع العادة ، أو لهاثا وراء المجد بالشيء الذي يذكر إلى جانب
كلمات مؤثرة أسديتها لطلابك فغيرت مجرى حياتهم ورسمت لهم هدفا ساميا يغدون
السير نحوه بأناة وتصميم ، فلرب كلمة ألقيتها إلى شاب أو فتاة كانت بمثابة
النبراس الذي أضاء لهم طريقا لم يفطنوا له من قبل فساروا عليه إلى حيث
أثروا هم في الآخرين لجعل الحياة أفضل مما كانت عليه من قبلهم).
-( إيه أيتها
النفس اللوامة..ما أسرع تقلبك من حال إلى حال ) قال وابتسامة الرضا تفيض من
ثغره ليشع بريق طقم أسنانه الاصطناعية ..ليعاود السؤال من جديد: وماذا
بعد؟؟)
-( حفل
الشواء) أجابته النفس بهدوء
-(أي حفل؟؟)
سأل مندهشا
-(أنسيت؟؟
أولم تدع ابنتك الصغرى إلى العشاء مع عروسها الذي زففتها إليه قبل أسابيع ،
وكانت عيناك تقطر فرحا لرؤيتها في ثوبها الأبيض ، وهمست في إذن زوجتك
العجوز : كم هي جميلة ابنتنا؟!!في تلك اللحظة كان حريا بك حقا أن تشعر كم
أضفت إلى الحياة بإلقائك فيها مخلوقا يستقطب من حوله الفرح ويشعر به
الجميع)
-(صدقت يا
نفس وحق الله ) . ثم نهض بهمة ابن العشرين وهتف بالجميع أن يأتوا بالفحم
واللحم إلى بهو المنزل ريثما يوقد هو النار .
عاصفة دماغية
جلس من جديد
أمام شاشة الحاسوب الماثلة أمام بصره فيما كانت بصيرته تجوب الأطباق بحثا
عن مادة للكتابة ، لم يكن ملتزما مع أي هيئة نشر بقدر ما كانت الكتابة
سلواه في زمن استنسرت فيه البغاث التي لم تترك لرأيه مجالا للصدح به ،
ولغياب قمر العقل عن ليل الأمة والشعب ، فكان يجد في الكتابة متنفسا عما
يدور في خاطره ، ويستشعر في الشاشة الصغيرة الصماء نديم سمر يفضي إليها
بنجواه كلما نقر مفاتيح الكتابة الرقيقة ، فلربما الجماد غدا محاورا جيدا
لأن الجهل مستفحل في أنفس معظم المحاورين ، والمحاور الجاهل عدو للعقلاء
وان أصاب لان سلاحه (الهوبرة) التي لا تترك للأخذ والرد أي مساحة في حقل
الحوار ، وبذلك ينسحب العقل بعزة وكرامة تاركا (المهوبرين ) يحتفلون بالنصر
على المعارضين.
أشعل
السيكارة الأولى بعد العلبة الثانية غير عابيء لا بسرطان الرئة ولا
بالجلطة القلبية ، وارتشف جرعة من القهوة التي اصطكت قطراتها بردا لطول
الانتظار ، وحاول الكتابة من جديد مداعبا لوحة الكتابة بأطراف أنامله بحنان
كمن يداعب حبيبة استرخت في أحضانه ، غير أن القريحة ظلت عاقرا لا تجود رغم
تزاحم الأفكار وتجاذبها ،فأطرق برأسه يائسا يملؤه شعور بالعجز.
أحس بصداع شديد فهم بالقيام
لتناول حبة (أسبرين ) إلا أنه تراجع عن ذلك موقنا أن تزاحم الأفكار هو ما
يمسك بعنق دماغه ويضغط عليها إلى درجة الألم ..ألما لن تطرده حبة (أسبرين)
فقرر تفريغ رأسه من أفكارها فكرة فكرة عله يرتاح من الصداع الذي أفسد عليه
خلوته ، غير أن الصداع ازداد حدة وتركز حول العينين ، وكأن الأفكار أدركت
نيته فتزاحمت للخروج من محجري العينين تستأثر كل فكرة منها بالخروج أولا ،
الأمر الذي كاد يفقده صوابه لشدة الألم فضرب بقبضة يده على جبينه صارخا
بأفكاره : كفى، فتردد صدى الصوت في أرجاء رأسه ، ورددت جدران جمجمته :
كفى كفى كفى..
سكنت الأفكار
قليلا لهول الصرخة التي ترددت من حولها وابتعدت عن عينيه ليهدأ الصداع
قليلا فقرر محاورة أفكاره لعلها تخرج واحدة اثر أخرى بسلام من رأسه المثقل
بها ، فنادى أكبرهن التي لبت النداء بتثاقل وقالت: أنا (وفاق) يا سيدي
،المنادية بضرورة وقف اقتتال الأخوة وحقن الدم ، فهتف بها يائسا: ارجعي من
حيث أتيت ، فهيهات أن أستطيع إخراجك من رأسي وأنا أشهد حمام الدم المتزايد
يوما بعد يوم ، فلو أخرجتك لخرجت على إثرك كل معاني الإنسانية من روحي ،
واستحلت حيوانا لا هم له إلا إشباع نهم غرائزه، فسارت (وفاق) بخطاها
الثقيلة وجلست على متكأ من دماغه .
نادى الفكرة
التالية ، فتقدمت (حياة) تمشي الهوينى قبل أن تقف قائلة : أنا حياة يا سيدي
، التي تذكرك بساعات عملك ، و تجهز لك قائمة المشتريات كل يوم ، وتذهب بك
إلى المصرف لدفع فواتير الكهرباء والهاتف ، و.....) فقاطعها نزقا :( ولا
أنت تستطيعين خروجا فبدونك ينعدم النظام في حياتي ..هيهات أن أجد لك مخرجا
فارجعي ، فرجعت على آثارها تمشي الهوينى حتى وجدت لها مقعدا بين لفائف
دماغه.
ثم توالت
الأفكار تحاوره وتعود دون أمل بالخروج لتجد لها مقعدا في دماغه : فتوالت
(ولاء ) المنادية بضرورة إتقان العمل والتفاني فيه وان قلت المكافأة ،
تلتها (انتماء) و(وعود ) و..و.. ، حتى أتت أماني أخيرا يسبقها عطرها الفواح
لتقول: أنا (أماني ) يا سيدي التي تزين لك بريق الثروة التي قد تأتي يوما ،
وتمنيك باسترخاء على رمال شواطيء (المالديف) الحارة ، وبركب المركبات
الفارهة ، و...و.... وهنا هتف مقاطعا : وكأنما وجد ضالته : ( لا بأس عليك
يا (أماني ) بامكانك الخروج الآن فبخروجك حتما تصبح حياتي رمادية كلفائف
دماغي ، غير أني لن أفقد من إنسانيتي آنذاك ما يعيبني فقدانه، فاخرجي
بسلام . وعندما همت (أماني) بالخروج من رأسه تصايحت بقية الأفكار ووثبت
إلى المخرج لمنعها من الاستئثار بحظوة الخروج إلى الفضاء الرحيب ، وزعقت أن
من الظلم أن تخرج واحدة وتبقى الأخريات فتزاحمت الأفكار من جديد وأمسكت
بتلابيب بعضها بعضا ليبلغ الصداع الذروة ويضغط على رأسه كالملزمة ، فيضم
قبضتيه معا ضاربا على جبينه صارخا : كفى كفى كفى ...ليتردد في حنايا رأسه
صدى الكلمات التي تضاعف من ترددها ارتطامها بجدران الجمجمة : كفى كفى كفى.
العجوز والبيدر
-(يا للطف
الجبار..يا لرحمة القوي العزيز..أي يدين اقترفتا هذا الإثم ؟واجترحتا هذه
الخطيئة ؟..يا لحلم الله..يا لمغفرة المنتقم..)
أخذت العجوز
تولول ويداها الخشنتان المشققتان تداعب وجه الرماد الحار المتبقي من بيدر
القمح المحترق ، وتمرغ به وجهها المتغضن وتنثره على منديل رأسها الأبيض كما
تفعل الثكالى ، ويختلط الرماد بخطي الدموع فتسيل جداولا سوداء في أخاديد
وجهها الشائخ ، وليغدو منديلها الأبيض بفعل الرماد الأسود وشاح حداد.
-(من الذي
سولت له نفسه أن يقتل الخصب؟! أم من الذي حرم الأنام من قوت يومهم في قارص
الشتاء القادم ..وحرم البهائم العجماء من التبن والعلف ..وحرم المزارعين
من أكياس البذر في الربيع الآتي ؟! أي قلب قد من صوان هذا الذي أطلق
لشيطانه العنان ليعيث فسادا في بيدري الحبيب ؟!
وعلا نحيب
العجوز ، وأغرقت تنشج في بكاء مرير ، وطفق ظهرها المحدودب يهتز كعصفور بلله
القدر على إيقاع النحيب المنبعث من قلبها الكسير ..
-(آه يا
بيدري الحبيب ..من الذي أجهض سنابلك الحبلى بحبات القمح السمان ،وأحالها
هشيما تذروه الرياح ؟! ومن حطم سويقات القمح الذهبية اليابسة فجعلها هباء
منثورا ؟؟ أجبني يا بيدري الحبيب! ..من الذي أحال بهاءك هباءا..وكسا وجهك
الذهبي بالسواد؟..أجبني يا بيدري الأثير ..أشف غليل عجوزك الثكلى يا
حبيبي..
-(
إن..ها..أل..ن...نا...ر.. يا...أما...ه....
انسل أنين
خافت من شقوق البيدر المحترق ..أنين تفطر له قلب العجوز المسكينة ، فأدنت
أذنها من شق ملأه الرماد ، وفاح منه بقايا دخان أسود ، وناشدت أرض البيدر
المحروقة أن تنطق من جديد.
-( إنها
..النار..أحرقتني..) انبعث الصوت ثانية من الشق ضعيفا ، متقطعا ، كصوت جريح
يلفظ أنفاسه الأخيرة.
-(هكذا
إذن!!) همهمت العجوز الباكية ، ثم نهضت ومسحت دمعها الممزوج بالمخاط بكم
ثوبها ، ونظرت في الأفق المصطبغ ببواكير أشعة الشمس في ذلك الصباح ،وقالت
بنبرة ملؤها الغضب:
-(هكذا إذن،
سترى النار مني..سأبحث عنها الآن ، وستدفع غاليا ثمن ما اقترفت السنتها
الشريرة)
وانطلقت
العجوز تعدو بخطاها التي أثقلتها السنون بحثا عن النار تتكيء على عكازها
كلما أوشكت على السقوط ، وتعدل بين الحين والحين منديل رأسها المتسخ
بالرماد حتى أتت إلى موقد تتعالى منه ألسنة اللهب بين أثافي ثلاث أشعلها
أحد الفلاحين ليطهو قدر برغل لأطفاله الجائعين ..كانت ألسنة لهبها تتعالى
بنشوة وهي تمضغ عيدان الحطب الجافة.
-(إذن فهذه
أنت يا ناكرة الجميل ..أيتها اللئيمة المذمومة ، تمتدين بلذة في الهواء بعد
أن أحرقت البيدر ) صرخت العجوز ناثرة اللعاب من فمها الذي أفرغه الدهر من
أسنانه : ( هكذا إذن ! تحيط ألسنة لهيبك الشره بقوت سنة كاملة لتبتلعه ولا
تبقي منه إلا رمادا أسودا وخيوطا من دخان!!)
-(على رسلك
يا أماه) أجابت النار زافرة :( إنما استفزتني الريح ودفعت بي إلى هناك،
وعندما ظفرت بأكوام السنابل مددت إليها ألسنتي ، وأنت تعلمين طبيعتي
النارية التي لا تعف عن شيء ما لم يوقفها شيء آخر ، وقد ظننت بالماء خيرا
أن يسدي لي معروفا فيطفيء سعار لهيبي لكنه لم يحرك ساكنا وبقي مستلقيا
راكدا في الينبوع بجانب البيدر)
-( يا
لوقاحتك) هتفت العجوز بحنق : ( هل كان لك أن تكوني لولا سيقان القمح الجافة
التي كنت أشعلك بها ؟ وهل كان سيكون لك كل هذا البهاء والبريق واللون
الأرجواني الذي دفع ببعض سخيفي العقول أن يتخذوك إلها لولا سيقان القمح
الجافة المسكينة التي كان لها الفضل في إضرام أوارك؟ ولكن شرهك لم يكتف بها
بل امتد نحو البيدر بما زخر من سنابل و حبوب وأغمار)
وهنا جن جنون
النار ، فانتفض لهيبها واستطال نحو السحب ، وأخذت تزفر زفرة تلو أخرى
لينعقد الدخان الأسود الكثيف فوق رأسها ثم أخذت تصرخ:
-(ويحك أيتها
العجوز القاسية، تعيرينني ببعض سويقات جافة حقيرة ، وتنسين فضلي على القمح
الذي ينضج عجينه على أواري ، فيغدو خبزا ساخنا لذة للآكلين، وهل نسيتي كم
كنت وحدي فاكهة لكم في ليالي الشتاء القارس ..مسكينة أنا النار..تتهمينني
بالجحود ، وتلقين علي وزر هلاك البيدر ، ولا تمدين إصبع لوم واحدة نحو
الريح التي دفعت بي نحو أكوام السنابل ، ولا نحو الماء الذي تقاعس عن ردي
..أواه..يا لظلمك أيتها العجوز!)
وأخذت جمرات
النار تصطك لشدة الغيظ ، وعيدان الحطب المشتعل تفرز زبدا أبيضا على شفتي
النار فأحست العجوز بالرعب ..رعبا أقنعها بصدق قول النار ،فازدادت بكاء
وأخذت تربت بيدها على جمرات النار المتقدة قائلة بحرقة:
-(اهد أي يا
بنتي ..جعلت روحي فداك ..سأريه الماء الذي تقاعس عن ندائك ..أنت محقة يا
بنتي ، فلو هدأ الماء من ثورتك، وأطفأ لهيبك لقفلت راجعة دون أن تمسي
البيدر بسوء ).
تلفظت العجوز
بهذه الكلمات ، وهي تربت على جمرات النار المتقدة لتهديء من غضبها حتى
احترق لحم كفيها بالكامل دون أن تشعر بالألم ، ثم حاولت أن تمسك بالعكاز
لتقفل راجعة فلم تقو على ذلك راحتاها المحترقتان، فترنحت بجسدها المنهك
تعدو نحو الينبوع الواقع إلى جانب البيدر ، والتي ما إن وصلته حتى بصقت في
صفحته الصافية ،فاشمأز مرسلا دوائرا متتالية من مركزه إلى أطرافه.
-( ويحك :
ماذا دهاك ؟! ) همس الماء الراكد بحنق.
- ( أفعل
أيها الماء ما يجب علي فعله بحق التكاسل عن نجدة البيدر ، ولم يلق بالا
لسعار النار التي أحاطته بألسنة لهيبها .. بحق الله أيها الماء :- لو لم
تزين حقول القمح جانبيك ، هل كنت إلا أقرعا قبيحا يبول فيك الصبيان وتتجشأ
فيك البهائم؟! كيف طاوعك قلبك أن لا تطفي النار التي لم تستطع السيطرة على
شرهها حتى أحالت البيدر الجميل إلى رماد كئيب؟).
وهنا لاذ
الماء بالصمت واختلجت صفحته كأنه يقاوم دمعة تأبى إلا أن تخرج من أعماقه
رذاذا ، وقال :- ( سامحك الله أيتها العجوز الطيبة ..وماذا كان بوسعي أن
أفعل؟ لقد دفعت الريح بالماء نحو البيدر وتركتني كسيحا هنا ..لو استدارت
الريح قليلا ودفعت بأمواجي نحو النار لمرغتها بالأرض وأطفأت غرور ألسنتها ،
ولكن ماذا أفعل وقد أبت الريح أن تلتفت إلي واستمرت في دفع النار نحو أكوام
القمح حتى اشتعل وبخر جزءا من مائي..وبدلا من أن تلومي الريح أتيت للبصق في
وجهي. فليسامحك الله أيتها العجوز).
قال الماء
ذلك وانساب بين أتلام الحقول الحمراء المتشققة دون أن تنجح دموع العجوز في
ثنيه عن وجهته ، فظلت تصرخ وتولول : - ( لا بأس عليك أيها الماء
الحبيب..ربما أكون قد قسوت عليك دون وجه حق ..ابق هنا في ينبوعك بالله
عليك، أنا أعلم أنك أنت من تسقي القمح وتهبه الحياة حتى يشتد عوده . )
-( لا بقاء
لي في هذا الينبوع وقد بصقت في وجهي ، سأمضي جداولا في الأرض قبل أن آسن).
وهنا قفزت
العجوز الحزينة إلى قعر الينبوع لتمسك بذيل الماء قبل أن يرحل، فزلت قدمها
وسقطت في القعر الذي انحسر عنه الماء وتلطخ وجهها وثيابها بالوحل الأسود ذي
الرائحة الكريهة، وغشت شعرها الطحالب الخضراء النتنة ، فانطلقت تدمدم نحو
حافة الينبوع الذي أمسكته بما تبقى من عظم كفيها وتهالكت حتى صعدت إلى
حافته..ودمدمت ثانية :- ( إنها الريح الملعونة إذن ، ثم رفعت رأسها نحو
الريح فيما غرست قدميها الحافيتين المبتلتين في رماد البيدر المحترق ،
وصرخت بغضب :- ( هو أنت إذن سر البلاء أيتها الريح الملعونة !! والذي أحق
الحق وأبطل الباطل لألعنك في دبر كل صلاة ما فتئت لي قامة تركع لله وتسجد .
).
سمعت الريح
هذا القول فأخذت تصفر وتدور في كل اتجاه والعجوز تدور صارخة بها في دوامة
متواصلة ..
-( أنا ؟؟!
أنا أيتها العجوز المسكينة لا ذنب لي فيما جرى..فأنا لا أملك السير في
الاتجاه الذي أريد ولا حيث ينبغي ..صدقيني أن لا إرادة لي في ذلك ..انه
قدري ..أجل قدري، فهو الذي يصرفني حيث يشاء ). قالت الريح ذلك وأخذت تسرع
من دورتها والعجوز تشرئب بعنقها إليها محاولة أن تقابلها وجها لوجه حتى سقط
منديلها عن رأسها وانتشر شعرها الملطخ بالرماد والوحل الآسن ثم بدأت تشعر
بالدوار وهي تدور مع الريح حتى شعرت بكل ثابت أمام عينيها يدور حول نفسه ،
فرفعت وقت ذاك كفيها المحترقتين لتغطي بهما عينيها علها بذلك تتحرر من
الدوار ، إلا أنها لم تقو على شيء وأحست بقدميها يخوران من تحتها قبل أن
تسقط ميتة على رماد البيدر المحترق.
حجر وفاتورة هاتف
نظرت في
المرآة متأملة التجاعيد التي رسمها الزمن على وجهها الهرم بريشة المعاناة
المتواصلة ، والى الشيب الذي صبغ شعرها بالبياض كاسيا شبابها كما تكسو ثلوج
سيبيريا سمرة الأرض إلى الأبد ، فابتسمت بمرارة ناجمة عن اجترار مرارة
الذكريات في حبسها الأبدي الذي دخلته مرغمة منذ عشرون عاما لتودعه لأشهر
ثم تعود من جديد.
ساءلت رسم
المرأة الهرمة الماثل أمامها في المرآة بأسى: -( أيعقل أن يحظى تمثال (
لينين ) بحظوة تمكنه من استلال شباب البشر؟.
ابتسم الرسم
بمرارة وأشاح بوجهه عنها كمن يداري دمعة.
أحست بحرارة
الدمعة المنسابة رقراقة على وجنتيها فبحثت عن منديل دون أن تجده ، فمسحتها
براحة يدها لتنهض بتثاقل إلى النافذة وتجلس على حافة السرير متأملة نهر
الحياة المتدفق خارج المصحة منسابا في ربوع الأرض بما يحمل من آلام وأمال ،
وعذابات ومسرات.
كان المنظر
خلابا للغاية في إحدى نهارات نيسان الدافئة ..كانت الشوارع الإسفلتية
السوداء تمتد لتلتوي وتنعطف كجسد راقصة من الشرق تحيطها من الجانبين حدائق
غناء يختلط صدح العصافير على أغصانها بصراخ لهو الأطفال المنبعث من مدرسة
مجاورة. وعلى الناصية وقف عاشقان متماسكي الأكف في انتظار الحافلة على أرض
المحطة وعيناهما الشابة تفيض حبا وبشرا..تنهدت بأسى وهي ترقبهما بعين
الغبطة من نافذتها في مصحة الأمراض النفسية.
-(لقد كنت
ذات يوم في عمر هذه الفتاة وكنت أملك ذراع شاب أتأبطها كذلك وقتذاك تماما
كما تفعل هذه الفتاة الآن ، ولكنها نزوة الصبا التي أوحت لي أن أقذف تمثال
(لينين) المنتصب في وسط الساحة الحمراء بحجر ، والأدهى والأمر أن الحجر لم
يمس التمثال بل أصاب الإطار الزجاجي المحيط بالتمثال فهشم لوحا زجاجيا ،
لتحيط بي عناصر الأمن من كل حدب وصوب وتقتادني إلى مركز الأمن بفظاظة ).
مسحت دمعة أخرى ترقرقت عنوة جعلت المنظر الأخاذ خارج النافذة ضبابي
التفاصيل ، الأمر الذي قلل من جماليته في عينيها الدامعتين ، ثم أجهشت تبكي
بمرارة وتواصل حديث الذكريات للجدران الصماء التي ملتها وملتها هي كذلك:
-( كان
الضابط الشاب في مركز الأمن رقيق القلب ،حي الضمير لذا ارتأى وصمي بالجنون
لأنقل إلى هذه المصحة خشية أن أنقل إلى السجن بتهمة معاداة الثورة..فبعض
الشر أهون من بعض كما قال وقتذاك ، ولم يسجل في محضر التحقيق كلمة مما
ذكرت بل ابتسم مشفقا عندما بررت قذفي للحجر في وجه التمثال اعتقادا مني
بضرورة تجسيد الرفض لتقديس البشر وان علت مكانتهم وعمق تأثيرهم في النفوس ،
واستعان بطبيب مقنعا إياه بضرورة رفع تقرير يصمني بالجنون) .
أمسكت رأسها
بكلتا يديها وأدنته من ركبتيها مغرقة في بكاء مرير أملا أن يغسل الدمع ما
تراكم على جدران فؤادها من ران الأسى ، وواصلت الحديث بنبرة عالية: ( لقد
أذاقوني ألوان العذاب ..حقن تتلو حقنا حتى ضجت أوردتي كما ضج فمي من مرارة
الدواء ، وذبل شبابي الغض كما تذبل الأزاهير بعيد انقطاع المطر ، فيما
احتفظ التمثال الخشبي بصباه متمتعا بشمس الربيع ومغتسلا بمطر الكوانين ،
متعمما بثلوجها ، هانئا بالتقاط الصور مع المعجبين مرسلا نظراته الثابتة في
الوجوه التي تؤمه من أقطار الأرض بدافع الإعجاب حينا والفضول أحيانا) ثم
ومض في عينيها بريق فرح لم يلبث أن تلاشى كما تخرج شرارة من بين نصلي صوان
ولا تلبث أن تختفي لتواصل الحديث مع اللا أحد من حولها :
-( لقد هللت
فرحا عندما أطلقوا سراحي بعد أن انهار سد برلين ليغرق السيل العرم التماثيل
وسدنتها ، وبكيت فرحا عندما خرجت إلى ضوء النهار ظانة إنني ودعت الجدران
الصماء والحقن الوريدية وحبوب الدواء المرير التي تجرعتها رغم إرادتي إلى
الأبد ، لأقطن من جديد في منزل الوالدين اللذين قضيا حزنا على فراقي
مستنشقة هواء الحرية ملأ رئتي ، باحثة عن عمل أقتات منه حسب جهدي وكدي دون
منة أو تضييق من أحد ، وتمر الأيام سراعا ليأتي ساعي البريد حاملا مغلفا
طالبا التوقيع على استلامه ..) ابتلعت ريقها ،وعادت إلى النظر من
النافذة..كانت المحطة قد خلت من المنتظرين وسكنت مدرسة التلاميذ وتوقفت
العصافير عن الزقزقة على أغصان الحديقة وأطبق الصمت على الكائنات وكأن
الطبيعة بأسرها أصغت السمع لماساتها ، فتشجعت وواصلت الحديث بهمة من يجد
مستمعين جيدين لقصته :
-( كان
المغلف يحوي فاتورة للهاتف بآلاف الدولارات ..صعقت وقتذاك للرقم ذي
الخانات الأربع وتوجهت إلى مكتب البريد استيضاحا للأمر ، فأعلموني أن رقم
هاتفي لديهم قد أجريت منه مكالمات دولية إلى الهند وأمريكا بما بلغت قيمته
آلاف الدولارات...و...
-ولكني لم
أجر أي مكالمة دولية ..كثيرا ما أسمع عن بعض موظفي البريد الذين يخونون شرف
المهنة ويجرون مكالمات دولية ليلصقوا قيمة المكالمة بحساب إحدى الشركات
العملاقة التي لا يضيرها مبلغ مماثل ، ولم أتوقع أن يلصق مبلغ كهذا بحساب
هاتفي ..أريد تقديم شكوى.
-ادفعي أولا
ثم قدمي الشكوى . أجابتني موظفة البريد ذات القميص الضيق.
-أدفع ماذا؟
زعقت في وجهها ..إن عملي لسنة كاملة لن يسدد المبلغ ..أريد تحقيقا.
-أرجو أن
تكفي عن الزعيق، أنت في مكان محترم وفي بلد حر.
-بأي حرية
تتشدقين ..الحرية التي تسلب الناس قوتهم باحتيال حضاري أم تلك التي تسلبهم
شبابهم باسم الثورة ؟
وبدأت
بالصراخ وصب جام غضبي على كل ما في المكتب ، لتكرر المأساة المارة بمركز
الأمن وانتهاء بالمصحة العقلية، فالتاريخ معروف والملف شاهد .
دارت بعينيها
في فضاء الغرفة الصامتة ، وأطالت النظر في الجدران البلهاء ليقع أخيرا على
الباب الموصد ، وأحست بنوبة عارمة من الغضب تجتاح كل ذرة في كيانها ، وأخذت
تصرخ بسعار للحياة:
-بأي حرية
تتشدقون
رددت الجدران
صدى صرختها ، فواصلت تكرار السؤال بنفس الحدة:
-بأي حربة
تتشدقون
وواصلت
الجدران الترديد قبل أن يشق الباب بغتة وتطل منه ممرضتان بدينتان أمسكت
أحداهما بتلابيبها فيما أفرغت الأخرى حقنة مهدئة في وريد ذراعها لتتهاوى
دون مقاومة فيرفعاها إلى السرير ، وتعودان أدراجهما تاركتين إياها تغط في
سبات عميق.
ليس الأمر كما تظن
-( معذرة
سيدي الطبيب ) هتفت المرأة الواقفة إلى جانب الجثمان المسجى وهي تداعب وجهه
المغطى بالموت وخصلات شعره المتناثرة الكثة ، قبل أن تواصل بصوت رخيم
تتقطعه شهقات بكاء بين الحين والحين .
-( ربما تظن
إنني ارتحت من عبء ثقيل بموت هذا الشاب المعاق الذي لم يستطع قولا ولا عملا
طوال عشر سنين عجاف ، ظل فيها طلل إنسان ملقى في صحاري الحياة الجافة لا
تزينه نضرة ولا يجري في حناياه ماء الحياة..يحتاج الكثير الكثير دون أن
يتمكن من التعبير إلا بإيماءة من وجهه أو الصراخ بمقاطع صوتية لا تمت للغة
البشر بصلة أو ببكاء مرير تنفطر له الأفئدة.
مسحت الأم
دموعها المنسابة على وجنتيها اللتين حفرت فيهما السنون أخاديدها ، ثم نظرت
في وجه الطبيب المتجهم بعينين أغرقتهما الدموع ، ورسمت سنون المعاناة حول
جفنيهما هالات سوداء ثم تابعت : -
-(
وعليه..فلا ريب انك تظن أنني ارتحت الآن برحيله ..إذ لن أضطر لأعداد وجبات
إضافية خاصة له تتناسب ووضعه الخاص عدا تلك التي أعدها للأصحاء من أبناء
أسرتي ، ولن أوقت الساعة للالتزام بمواعيد الدواء ، أو أن أنظف البول
والغائط عن جسده الهامد ، أو أن أحمله من السرير إلى النافذة ومن ثم إلى
أريكة أسجي عليها جسده لعله يتشبع بشمس لا ينعم بدفئها أو يداعبه نسيم لا
يهنأ برقته..وحيث أني لم أعد مضطرة للبقاء إلى جانبه طوال ساعات النهار
فانك قد تغبطني أن بامكاني الآن أن أتنزه مع الصديقات أو أسامر الجارات دون
أن ينغص علي القلق ..أعلم أنك قد تفكر بهذه الطريقة أيها الطبيب ، وقد تكون
معذورا ..ربما تظن كذلك أنه لن يمنعني بعد موته شيء من الإغراق في نوم
هاديء مستمتعة بمداعبات زوج محب دون أن يقض مضجعي القيام لتفقده مرات ومرات
.).
صمتت المرأة
قليلا ريثما مسحت دموعها المنسكبة دون انقطاع ، وظن الطبيب أن استرسالها
في سكب أحزانها قد قلل منها ، فمد يده إلى الملاءة البيضاء ليغطي بها وجه
الجثمان، بيد أن يد المرأة الثكلى أمسكت بساعده وتوسلت :
-( أرجوك لا
تفعل .. سيغيب القبر وجهه إلى الأبد بعد ساعات معدودات ، وسيقف التراب
حاجزا أبديا بين عيني ووجهه..فلا تحرمني لحيظات أتأمله فيها وأداعب
شعره..أنظر إليه..أليس جميلا؟ أعلم أن الجميع يعتريهم النفور لرؤيته ، ولا
يمنعهم إلا الإشفاق من التعبير عن ذلك ..فهو شاب في حجم طفل ..توقف نموه في
ربيعه السابع إذ ضمرت عضلات جسده بعد أن ألقى أشرار تبخرت إنسانيتهم
بضرباتهم الشرسة على عظام رأسه الغضة فتوقف الدماغ مكرها عن أداء وظائفه.،
وأضحى حيا ميتا ، وها هو الآن يلفظ أنفاسه الأخيرة قبل أن يكمل ربيعه
السابع عشر وحجمه حجم طفل في السابعة ..أنني أرى الإشفاق في عينيك أيها
الطبيب ، وأقدر شعورك ، بيد أني أتوسل إليك إن أردت إحسان عزائي أن لا تظن
أنني سأرتاح بعد موته).
تناولت آخر
منديل في جيبها ومسحت به عينيها المحمرتين بلون الشفق لفرط البكاء، ثم فاض
وجهها بابتسامة ريانة بالمودة والحنان للفتى الميت ،وواصلت:-
-(كل امرأة
تحتضن رضيعا أيها الطبيب ترى في قسمات وجهه الصغيرة مرآة حلم تعكس صورة
شبابه الرائع ، أجل تراه يحبو ثم يخطو ثم يعدو ، ثم....، لهذا تحبه أكثر
وأكثر كلما رأت أكمام حلمها تتفتق عن شباب زاهر ريان بالحياة ، لهذا أحببت
هذا الفتى دون سائر أبنائي ضعفين ..أحببته لأني حلمت وطمحت لرؤيته يرفل
بأثواب الشباب النضير ، وأحببته لأنه لم يتمكن من الرفل بتلك الأثواب ..بل
لا أبالغ إذا قلت أنني أحببته ثلاث أضعاف لبقائه معي وتحت ناظري طوال الوقت
، ميزة أخرى..قد يبدو الأمر مختلفا بمفهومك ؟؟..حسنا ، دعني أوضح لك ..ألا
تراه قد لفظ أنفاسه في ربيعه السابع عشر بعد أن توقفت طفولته قسرا عند
عامه السابع ناهيك عن فقدانه بقية حواسه ؟ لذا فقد ظل طفلا ، وان دارت
الأكوان دورتها لعشرة أعوام لاحقة فقد ظل جاثما على عتبة الطفولة لم
يتعداها ، ونحن الأمهات تبتهج قلوبنا أيما ابتهاج عند قضاء حوائج هذه
الكائنات الطفولية الجميلة التي تعتمد كليا على حبنا وحناننا الفطريين
..لذا فقد أبهج هذا الفتى المشلول قلبي أكثر من غيره أعواما طويلة متتالية)
ثم دنت من
الجثمان المسجى وطبعت على الجبين البارد كالثلج قبلة الوداع الأخير ،
والتفتت نحو الطبيب الذاهل بعينين جف فيهما الدمع وقالت بلطف :
-(شكرا
لاستماعك إلي طوال الوقت..بامكانك الآن أن تغطي وجهه كما تشاء فقد ودعت
جسده..أما روحه فستظل معي مرفرفة حولي بكرة وأصيلا حتى يقضي الله أمرا كان
مفعولا)
ثم استدارت
مغادرة الغرفة بخطى ثابتة ، فيما كان الطبيب يسبل عيني الميت ويغطي وجهه.
مصائر شتى
شعرت بانقباض
في نفسي لم آلفه من قبل ، وبرغبة في البكاء تجتاح كياني كله ، إذ كنت أدرك
ما ينتظرني في تلك الحجرة القائمة في جناح الأمراض الباطنية من المشفى
المركزي ى..وقفت مترددا للحظات حاولت خلالها أن استجمع شجاعتي ، وأصطنع
ابتسامة مطمئنة علها تترك أثرا طيبا في نفوس أولئك الأشخاص ضحايا المرض
الفتاك في الداخل ، ثم طرقت الباب بلطف ودخلت.
كانوا رجالا
ثلاثة في خريف العمر ..تساقط شعر اثنين منهما تحت وطأة العلاج الكيماوي .
وان كان الثلاثة بدوا وكأنهم تقاسموا حصتهم من الاصفرار ، إلا أن ثالثهم
بدا أكثر حيوية من صاحبيه ، لا سيما أن صلعته الوقورة كانت بفعل السنين لا
بفعل العلاج الثقيل.
ألقيت تحية
الصباح مبتسما ، ثم قدمت نفسي أليهم كطبيب مناوب لذلك اليوم قبل أن أشرع
في فحصهم كلا على حدة.
كان صاحب
السرير الأول في الخمسين من العمر، شارد الذهن ، مذعور النظرات ، منتفخ
الأطراف والبطن ، لم يبد حماسة لأحاديثي ومواساتي الحذرة بل استسلم بصمت
تام لإجراءات الفحص ،واستمع بشرود لإرشاداتي دون أن يعلق ولو بإيماءة من
رأسه.
واقتربت
بعدئذ من صاحب السرير الثاني الذي بدا في الأربعين ، فألقى بصحيفته جانبا
وتمدد على السرير باستسلام تام والابتسامة لا تفارق محياه الشاحب ..تسود
روح الدعابة حركاته وسكناته طوال دقائق الفحص كمن لا يبالي بالمرض بل
ويتحداه..كان بريق عينيه الغائرتين في محجريهما يعكس رغبة حميمة لديه أن لا
تمر ثانية من ثواني الحياة دون أن يمتص منها عصارة البهجة والمرح، الأمر
الذي أزاح عن كاهلي شخصيا عبئا ثقيلا كطبيب يخوض معركة شاقة مع مرض عضال
يعجز الطب عن شفائه.
ثم اقتربت من
السرير الثالث حيث رقد أكبرهم سنا ،علمت منه أنه أستاذ في الآداب يحاضر في
إحدى الجامعات، فتولد الانسجام سريعا بيني وبينه ، انسجاما تجسد في متعة
تجاذب أطراف الحديث حول الشعر والقصة والنقد الأدبي ، أما هو فقد غمره
إحساس بالسرور أناح تسلل قليل من اللون الوردي إلى وجنتيه الباهتتين عندما
رأى في طبيبه الشاب ميلا للأدب واحاطة ببعض جوانبه ، فاسترسل في حديثه
الذي قطعته بأدب معتذرا بانشغالي وضرورة معاينتي لبقية المرضى في الحجرات
الأخرى واعدا إياه بزيارة أخرى .
كان ذلك
اليوم الذي يسبق نهاية الأسبوع حيث ودعت زملائي ومرضاي ، وانطلقت إلى البيت
مستبشرا بيوم إجازة مريح لا يطاردني فيه شبح معاناة الآخرين، لأقضي يومين
أعود بعدهما إلى عملي في المشفى .
بدأ يوم عملي
بنشاط بعد انقضاء الإجازة واتجهت نحو الحجرة إياها وبي شوق للمرضى الثلاثة
.
كان صاحب
السرير الثاني مستلقيا تغطي جريدته وجهه ، وجهاز المذياع الصغير يبث أنغاما
مرحة تنعش الروح ، فيما خلا السريران الآخران.
-(طاب يومك
يا صاحبي)..ألقيت عليه التحية واضعا ما كنت أحمل تحت إبطي من ملفات على
منضدة صغيرة بجانب السرير .
-(ويومك أيها
الطبيب. كيف كانت إجازتك) سألني ووجهه يطفح بالابتسام.
-(كباقي
الأيام) أجبت واجما، قبل أن أتابع :( وأين صاحباك؟؟) سألت بتردد وقد
اعتراني انقباض في النفس وخلجة في الفؤاد كمن ينتظر سماع خبر محزن .
فطوى الجريدة
ووضعها على المنضدة المجاورة لسريره ، ثم ابتسم بأسى وقال:-
-( أما صاحب السرير الأول فقد
رحل إلى هناك) وأشار بيده نحو السماء ، ثم تابع :
)
وإما صاحبك أستاذ الآداب فقد تعافى وعاد إلى بيته). ثم غمز بعينه ممازحا
وأشار بيده إلى صدره قائلا:-
-(أما أني
–فكما تراني – أنتظر).
رأس في زجاجة
كنت أقود
سيارتي في ذلك الصباح الجميل من أيام آب الدافئة ، ممتعا النفس التي أرهقها
روتين العمل بتنسم رائحة البحر التي تسللت عبر نافذة السيارة ،فيما انبعثت
من آلة التسجيل ألحان عذبة بثت قدرا من النشوة في كياني كله ..كنت قد عقدت
العزم على البحث عن مكان أقضي فيه أياما في ذلك المنتجع الصيفي الخلاب عل
ذلك يجدد نشاطي الذي تآكل بفعل العمل المضني .
كانت الطرقات
تغص بالبشر المتجهين صوب الشاطيء ..أرتال من الناس تضم كافة الأعمار
والألوان والأجناس ، يرطنون بلغات شتى ويغدون الخطى نحو هدف واحد : البحر
الأزرق الجميل، برماله الذهبية الملتهبة.
أدرت المقود
عند أحد المنعطفات عندما تراءى لي شبح إنسان يترنح في محاولة يائسة للحفاظ
على توازنه على إحدى السلالم الحجرية قبل أن يسقط ويتدحرج على عدة درجات ،
حاولت تجاهل الموقف بيد أن حس الطبيب في داخلي أجبرني على التوقف والنزول
من السيارة لاستطلاع حقيقة الأمر وتقديم المساعدة إن استطعت إلى ذلك سبيلا.
كان كهلا على
عتبة الأربعينات أشعث الشعر نغبر الهندام يتأوه من شدة الألم اثر السقطة ،
وجف قلبي بغتة عندما رفع رأسه بتثاقل مستطلعا القادم صوبه ، وما أن راني
حتى ارتسمت ابتسامة على وجهه الفياض بالألم مما أضفى قليلا من الحيوية على
ملامحه البائسة-( آه..أهذا أنت يا دكتور؟)
-( أجل
أنا..ما بك يا صاح؟) سألته وقد جثوت على ركبتي إلى جانبه متمعنا في وجهه
الذي رأيت فيه وجها مألوفا لأحد مرضاي البائسين.
-( يا لله..)
هتف بحرقة ثم تابع :-( انك آخر شخص تمنيت أن يراني على هذا الحال ) هتف
بحسرة وقد ارتسمت هالة من الخجل على قسمات وجهه المنهك.
كانت أنفاسه
المتلاحقة تفوح برائحة الكحول النفاذة.أمسكت بذراعه وساعدته على الوقوف ثم
سرت معه صوب السيارة وكانت خطاه المترنحة تجبرني على التوقف لمساعدته في
الحفاظ على توازنه بين الحين والحين حتى وصلنا السارة حيث فتحت الباب
وساعدته على الولوج فيها للجلوس على المقعد الأمامي إلى جواري .
-( كم توسلت
إلي أمي من قبل أن اقلع عن شرب الكحول) قال ذلك ثم انفجر باكيا كطفل
يساوره الندم على عثرة من عثرات الصبا .
-( لا عليك
يا صاح ) ربت على كتفه مشجعا ثم قلت ك-( فلنذهب إلى الوحدة الصحية التابعة
للمنتجع ونطمئن على ساقك أولا ، وبعد ذلك سنذهب إلى حيث تنال قسطا من
الراحة).
كان وجهه
لوحة تداخلت فيها خطوط المشاعر ، وتمازجت ألوان التعابير ما بين حمرة الخجل
و صفرة الإعياء ، واسوداد الكآبة عندما دخل متكأ على ذراعي إلى ردهة
الوحدة الصحية ، حيث عاينه زملائي هناك ، ولفوا ساقه بضمادة بعد أن تأكدوا
من خلوها من الكسور ، ثم اصطحبته إلى الفندق الذي يقيم فيه وتركته ليرتاح
واعدا إياه بالمرور لرؤيته في المساء .
كان ذلك
المساء جميلا هادئا لا يعكر صفوه إلا الألحان الصاخبة المنبعثة من بعض
المراقص والملاهي معلنة حلول ليل المنتجعات ،..وكان واقفا بانتظاري في بهو
الفندق ، وما أن راني حتى هب لملاقاتي ببشاشة وود ظاهرين ليقتادني بعدذاك
إلى غرفته حيث دعاني للجلوس .
-( أرجو أن
لا تقسو علي سيدي الطبيب) قالها بذهن شارد ونظرة سارحة في البعيد الذي لا
يدركه غيره.
-( ما جئت
لهذا ) أجبت مبتسما.
-( أعلم ذلك)
طأطأ رأسه لتغزو هالة الحزن وجهه من جديد ثم تابع قائلا :
-( لم تمنعني
غيابة السكر هذا الصباح من سماع كلماتك وتذكرها عندما قلت لي : أن دورك
ينحصر في علاجي ومساعدتي لا في إقامة الحد علي)
أشاح بوجهه
هنيهة لإخفاء دمعة ترقرقت حرى على وجهه ثم توجه إلي ثانية وقال:
-(لقد عكفت
على رسم لوحة خلال الأيام التي قضيتها في هذا الفندق ..أتود رؤيتها ؟)
-( بكل سرور
..ولكنك لم تخبرني من قبل أنك تجيد الرسم )
-(أنها مجرد
رتوش ) قال ذلك ثم مد إلي قطعة من الورق المقوى تناولتها ممعنا فيها النظر
.
-(ياه) لم
أتمكن من إخفاء دهشتي لروعة التصوير وجماليته في تلك اللوحة التي صورت
رجلا أدخل رأسه في زجاجة ، يحاول جاهدا إخراجه دون جدوى إذ أطبق عنق
الزجاجة على عنقه.
-( هذا أنا
يا سيدي الطبيب ..غدوت حبيس الزجاجة التي أمتص رحيقها لمتص أيا مي ، أطالع
وجهي في مرايا جدرانها لتظهر لي وجها يسر الناظرين رغم علمي وعلم من حولي
أنه أشعث أغبر..أجاهد للفكاك من سحرها ولا فكاك وقد استأثرت بدمي الذي
يجري في عروقي).
-( إنها لوحة
رائعة حقا، لو كنت مكانك لاحترفت الرسم ، ولتركت ريشتي تجسد الألم المخزون
في ذاتي بدلا من الارتماء في أحضان زجاجة مخادعة تلقي بي فيما بعد تحت
أقدام العابثين..ومن يدري ، فلربما تهديني ذات يوم رسما جديدا لنفس الرجل
يقف مبتسما ظافرا إلى جانب شظايا الزجاجة بعد أن افلح في إخراج رأسه منها
وتهشيمها بعدذاك.)
-( من يدري)
هز رأسه بأسى ثم مد إلي كأس العصير قائلا :
-(تفضل..هاك
كوبا من العصير)
-( لقد سعدت
بزيارتك أيها الصديق، سيكون من دواعي سروري أن تشرفني في عيادتي في بحر
الأسبوع القادم)
شددت على يده
مودعا بعدما استللت منه وعدا بالمجيء إلى عيادتي بعد أسبوع.
مر أسبوع
تلاه آخر دون أن يأتي أو يهاتفني ، كنت كمن افتقد صديقا مقربا من نفسه رغم
أن علاقتنا لم تتعد علاقة طبيب بأحد مرضاه ، ثم حاولت جاهدا البحث عنه في
الأماكن التي اعتقدت انه يرتادها دون جدوى ..ثم جرفني تيار العمل فنسيت
أمره إلى أن هزني مرأى صورته ذات صباح أثناء تصفح الجريدة اليومية كعادتي
قبل الانطلاق إلى العمل ، كانت ملامح وجهه البائس الحزين تطل من ثنايا صفحة
الحوادث إلى جانب عنوان باهت نصه : (انتحار مدمن كحول).
حياة بالألوان
خرج مع صديقه
إلى شاطئ البحر في يوم مشمس هروبا من رتابة الحياة أحادية اللون بحثا عن
متعة الألوان الأخرى للحياة..كان الشارع المعبد الطويل زاخرا بالمركبات
الفارهة التي ينعطف بعضها ليفضي إلى مبنى قائم على يمين الشارع حيث تباع
الخمور ، ويقف على المدخل شاب رث الهيئة يبيع الفول السوداني في لفافات من
الورق يعرضها على ركاب السيارات الفارهة الذين خرجوا لتوهم من المتجر الفخم
متزودين بالخمور استعدادا لأمسيات صاخبة.. أشفق صديقه على العامل الشاب
فابتاع منه لفافتين من الفول السوداني ونقده ثمنهما مبتسما فيما أخذ هو
يرسل النظر إلى الجهة المقابلة من الشارع حيث انتصب مسجد ذو مئذنة قصيرة
بدأ المصلون يخرجون من بابه بعد انقضاء الصلاة تبدو النشوة على وجوه البعض
منهم وكأنهم نهلوا من خمور الأرواح أثناء سجودهم للرب.
كان الشاطئ
هادئا يكاد يخلو إلا من عدد قليل من المتنزهين وقف اثنان منهم على صخرة
يمسكان بصنارتين ألقماهما بالطعم وينتظران أن يعلق بهما السمك ، فجلس مع
صديقه على الصخرة المجاورة بصمت يراقبان الصيادين الهاويين كيف يهللان إذا
اهتز خيط أحدهما برقة ليسحبه من الماء مخرجا سمكة علقت بالنصل المعقوف
فاضطربت لهنيهة بين يدي الصياد في صحوة أخيرة للموت يتلوها سكون مطبق لتلقى
في كيس شفاف إلى جانب سمكات أخرى تم اصطيادها من قبل.
أرسل نظرة في
المدى الأزرق اللامنتهي فيما أخذ صديقه بقضم حبات الفول السوداني بصمت وذهن
شارد..كان المدى المتداخل بين زرقة السماء وزرقة البحر ينشق من حين لحين عن
طائر من طيور النورس يحلق على علو ذراع من وجه البحر قبل أن ينقض بخفة
وسرعة مذهلتين إلى عمق الماء ويخرج ثانية في أقل من الثانية حاملا سمكة
بطرف منقاره تضطرب كتلك التي علقت في يد الإنسان قبل هنيهات ثم تسكن إلى
الأبد بين فكي منقاره فيبتلعها بنهم.
-قم
بنا..قال صديقه وقد عادت به الذاكرة إلى تأملات جبران على البحر..، ثم تابع
قائلا:- (خرجنا هروبا من رمادية الحياة ، فلم نجد سوى لون الموت في منظر
الأسماك المضطربة ظمأ للحياة قبل أن تسلم الروح )
-ولكنه
موت يهب الحياة للآخرين) رد مبتسما .
-(الموت
هو الموت يا صاح) أجاب صديقه. ثم واصلا السير بصمت على الشاطئ الطويل فيما
الأمواج تنساب رقراقة لتغسل رمال الشاطئ تحت أقدامهما.
-(أنظر
هناك) قال لصديقه الذي التفت حيث أشار بإصبعه نحو جانب من الشاطئ ..(ألا
توافقني أن هنالك من يهب الحياة دون مقابل ؟)
ابتسم صديقه
وقد رأى عجوزا ذا لحية بيضاء وثياب بسيطة يحمل رزمة كبيرة من الأرغفة
يلقيها في البحر تباعا ويقف بعد ذاك يراقب السمك بنشوة وهي تتجمع حول كل
رغيف . اقتربا معا ليمتعا الأعين بالمشهد المبهج ، فما أن رآهما العجوز حتى
برقت عيناه بشرا ورطن بلغة لم يفهماها بيد أن هالة السرور التي أحاطت بوجهه
وبريق ثغره الباسم وتراقص لحيته البيضاء الطويلة أوحت لهما بفيض السعادة
الغامر في داخله وهو يهب الحياة للحياة مجانا دون ثمن.
حتى لو أردت
-(في هذه
الليلة الجميلة..أنت الأجمل..)
قرأت بعينين
جذلتين العبارة المكتوبة بخط جميل على بطاقة التهنئة التي أرسلها لها
(علاء) ليلة رأس السنة الميلادية ،واحتارت للبريق الذي شع من عينيها عند
قراءة الكلمات الجميلة التي كانت آخر ما قرأت عشية اليوم الأخير من العام
الذي يوشك أن يطويه القدر في سفره العظيم آذنا بميلاد عام جديد. أهو بريق
فخر بإطرائه البليغ ؟ أم بريق جذوة الألم التي تخبو حينا وتتقد أحيانا في
فؤادها بعد أن صارحها بحقيقة خطبته لابنة عمه التي تعيش في بلاده البعيدة
برا بالوعد الذي قطعه لأبويه قبل سفره لتلقي العلم في بلادها؟
انه القدر
الذي لا نملك له ردا ، هو عين القدر الذي دفعها وصديقتها للعيش في شقة
مجاورة لشقة يستأجرها طالبان عربيان يتلقيان علومهما الطبية ، وكانت
المصادفة هي التي دفعتها للخروج إلى الشرفة في ذلك النهار الخريفي الجميل
لاحتساء قهوتها ، حيث كان (علاء) جالسا على الشرفة المجاورة ساهم الفكر ،
مرسلا نظراته التائهة في الفضاء يتبعها بنفثات من دخان سيجارته وكأنه
يحادث أشباحا تقف إزاءه في الفضاء الرحيب ، ولم يكن يفصل شرفتها عن شرفته
سوى قضبان من الحديد تصطف بشكل طولي على ارتفاع متر واحد من أرضية الشرفة.
-(طاب نهارك)
حيته بدافع من حسن الأدب مع الجار.
-(ونهارك أنت
أيضا) أجابها (علاء) بلكنة كشفت هوية غربته.
-(يبدو أنك
لست من هذه البلاد) سألته بابتسامة عذبة.
-(كلا..أنا
طالب عربي أتلقى علومي الطبية هنا)
كان هذا
اللقاء ألتعارفي المقتضب فاتحة لفاءات متكررة على الشرفات ، اكتسب خلالها
(علاء) ثقتها بأدبه الجم ، فكان أن لبت وزميلة سكنها دعوة لشرب القهوة في
شقة الغريبين ، تلاها ذهاب معه إلى المسرح ، ومن ثم خروج للنزهة في الحديقة
المجاورة للبحر ليتمخض ذلك عن وقوع كل منهما في حب صاحبه حيث غزا (علاء)
قلبها بحيائه الفطري المتناغم مع قوة شخصيته ، إضافة إلى حسن هندامه
وأناقة مظهره ..ناهيك عن كونه قليل الكلام وبليغه في آن واحد ، طموحا واضح
الهدف الذي يسعى نحوه بإصرار ورباطة جاش ،محبوبا من أصدقائه وأبناء جلدته
جميعا. أما هي فقد غزت قلبه بجمالها البسيط الذي يضاعف منه لطف محياها
ودوام تبسمها ، وجدية نادرة لا تنقص من سحر أنوثتها شيئا .
ومع ذلك فقد
كان لكليهما ما يخفيه عن الآخر من هواجس وهموم كانت ظلالها ترافق كل جلسة
يجلسانها على المقاعد الصخرية أو الخشبية التي تعج بها الحديقة المجاورة
للبحر ، أو كل خطى ينقلاها على رمال الشاطئ في نزهاتهما الطويلة..وبدا
وكأنهما اتفقا بصمت على أن لا يخوضا في أي أمر من شأنه أن يفسد لحظات
البهاء الذي صبغ حياتهما مذ تعارفا إذا ما أفضيا بمكنونات قلبيهما ، وكأن
نفسيهما قد امتلأتا حرصا أن لا يفسد انسهما ببعضهما شيء ، ولا سيما هي التي
كلما رنا إليها بنظرة أحست بعينيه تتملقان روحها لا جسدها اليافع ، الأمر
الذي ميزه عن أبناء جيله الذين لا يتوانوا عن إرسال نظراتهم المسعورة
الشبقة لتنهش كل فتاة تمر من هنا أو هناك، بل إن هداياه وباقات الزهور التي
دأب على تقديمها لها كانت جميعا رسائل حب عبر بريد الأرواح لم يكن لرغبة
الجسد فيها نصيب.
لقد توطدت
عرى المودة بينهما مع اشراقة كل نهار ينشق عنه رحم الزمان الخصب ، بيد أن
المودة في أمتن صورها لم تكن كفيلة بمنعها من أن تقرأ في عينيه ما يشعرها
انه يخفي عنها شأنا جللا برغم دأبه على مصارحتها بكل صغيرة وكبيرة من أمور
حياته ، حتى في دقائق أمور دراسته التي لا تفقه منها شيئا ، بيد أن ذلك
السر الكامن في عينيه كان دوما يثير لديها فضولا يمنعها من الإحساس بالأمان
التام مع الشاب الذي ألفه جميع من عرفوه بمن فيهم زميلة سكنها البدينة التي
لا تطيق حتى ذكر الرجال . فكان إحساسها المتشكك دافعا قويا لها للتوقف عند
حد ثابت لا تتعداه في العلاقة المتوطدة يوما بعد يوم.
-(ترى أي شيء
تخفيه عني أيها العزيز؟) سألته بما يشبه الهمس وهي ترفع إلى شفتيها كوب
الكابوتشينو الساخن وهما جالسان متقابلين في المقهى الفخم في وسط المدينة
بمحاذاة الجدران الزجاجية التي تمتعا من خلالها بمرأى الثلج المتساقط
بغزارة في الخارج مغطيا هامات الأشجار بغلائل بيضاء .
-(أتدرين..؟.) بدأ (علاء ) حديثه مترددا ، ثم لمع بريق من الإصرار في عينيه
يواكبه ألم غطى قسمات وجهه فتابع: (ترى ماذا ينبغي على المرء عمله إذا خطب
فتاة فائقة الجمال ، واسعة الثراء ، حبيبة إلى قلب والديه ، مغرمة به، فيما
فؤاده منجذب إلى فتاة أخرى ؟)
هكذا سألها
وكأنه أحس بالإلحاح المعتمل في داخلها لمعرفة السر المدفون وراء أهداب
عينيه كلما نظر إليها ، فكان سؤاله كجواب ..بل كأجوبة على تساؤلات متكررة
همست بها مرارا في أذن نفسها بلسان الحال لا بلسان ألقال.
-(لا شك أنه
والحال هكذا واقع بين أمرين أحلاهما مر )
أجابت وقد
أدركت بذكائها الوقاد أنه يعني نفسه بسؤاله، ولم تنبس بعد ذاك ببنت شفة بل
تركت له دفة الحديث يديرها كيف يشاء ، فاسترسل يحدثها عن خطوبته غير
المعلنة لابنة عمه في الوطن البعيد تلميذة المدرسة الحسناء و المتيمة به
من خلال صوره وأحاديث الأهل عنه ، وعن رغبة والديه المحمومة للاقتران بها
دون سواها ..وعن....
كانت كلماته
سياط عذاب تلسع روحها كسياط جلاد ألف الجلد دون رحمة أو هوادة ، فهمت أن
تصرخ في وجهه (كفى..) ، بيد أن كبرياءها الأنثوي كتم كل ألم في داخلها ،
فاستجمعت فلول الشجاعة في نفسها لتحافظ على رصانتها وتمسكها للظهور بمظهر
صديق يستمع باهتمام لشكوى صديقه.
-(وما الذي
يدفعه للانجذاب إلى فتاة أخرى أيضا طالما هو موعود بخطيبة تمتلك كل الصفات
التي تجعل منها محطا لآمال الرجال ؟) سألته بغتة ولكن بذهن شارد، كمن يلقي
بالقول ليشارك جليسه الحوار لا غير.
-(ربما لأن
القلب لا يخفق لها خفقانه المعهودة لدى العاشقين ، بينما يخفق الخفقات
ذاتها كلما رأى الأخرى أو حتى ذكرت أمامه. أما كونها محط آمال الرجال فهذا
ما يشعل الغيرة في قلبه كلما سمع أن رجلا ما قد تقدم طالبا ليد خطيبته
التلميذة )
-(ها
ها..الآن فهمت: إن حال هذا الرجل كحال كلب شبعان ، لا يريد أكل العظمة وفي
الوقت ذاته يضن بها على الآخرين بل وينبح كل من اقترب منها) أفلتت من بين
شفتيها الكلمات بدافع لم تستطع له إيقافا فيما ضحك هو إعجابا بالمقارنة وان
كان مهينا له أن يضرب له مثلا بالكلب ، ولكنها الحقيقة التي لا يضيرها بأي
شيء يضرب لها مثلا.
كان الثلج قد
توقف في طريق العودة حيث سارا بصمت لا يقطعه سوى خشخشة الثلج تحت أقدامهما.
أدركت الآن ما لها وما عليها إدراكا أشعل نيرانا عدة في فؤادها الغض أنساها
برودة الثلج المتراكم حول درب العودة ، أما هو ..صاحب القلب الواقف على
مفترق طريقين لا يدري أيختار الأول فيحظى ببهجة قلبه ومرام روحه ويغضب
الوالدين ويحطم فؤاد ذات القربى ، أم يسير على الآخر المفضي إلى زواج سعيد
و عروس مثالية ورضا والدين هرمين محطما قلب فتاة لا ذنب لها سوى أنها أحبته
..فكانت أطياف الأسى تعتريه وهو ينظر إلى وجهها المقنع بالهدوء ويتذكر كيف
احتاج إليها أنيسة في غربته بادي ذي بدء ثم اكتشف بعد أن تسلل حبه إلى
فلبها أن لا فكاك للقلب من حب لا مستقبل له ولا خلاص منه في آن.
أما هي فكانت
تجدف في خضم من التساؤلات : -( ترى ما الذي علي فعله الآن..أأمثل دور
الصديقة التي تمده و تمتد منه بالأنس ، أم أبحث عمن يملأ قلبي وأملأ قلبه
كما هي الأعراف في مجتمعي ؟ وهل ترى القلب سيفرغ منه بعد أن امتلأ بحبه؟ ثم
كيف يمكن للنفس أن تمحو هذا الكم الهائل من الذكريات الجميلة التي تملأ
الزمان والمكان؟)
وأما الزمن
..فكان يطوي صفحات قصتهما بمرور الأيام كطي السجل للكتب، فيعود (علاء) ذات
صيف إلى وطنه ليعود بعد شهرين حاملا خاتم الخطوبة في إصبعه ، لتتباعد
لفاءاتهما ، ويغيران من بعدذاك أماكن السكنى رغبة في النسيان بتغيير المكان
، فإذا ما تقابلا صدفة حيا أحدهما الآخر وسأل عنه بلسانه فيما يحمل كل
منهما في قلبه من حب صاحبه ما يحمل.
********
أفاقت على
سريرها في المشفى الجراحي منهكة مثقلة الرأس بفعل البنج بعد أن خضعت
للجراحة رغبة من الأطباء في كشف مصدر الآلام التي تطبق على الجزء الأسفل من
بطنها بشكل متكرر ، كان أخوها الأصغر يقف إلى جانب السرير دامع العين
فاستدار بغتة عندما رآها تفيق من البنج في محاولة لإخفاء دمعته
-(رباه..ما
عساهم وجدوا في بطني) سألت بذعر أمها الجالسة على مقعد بجانب السرير ،
فأجهشت الأم بالبكاء وأمسكت يدها بحنان غذي بحرقة الدموع المنسابة بغزارة
على خديها غير قادرة على النطق بشيء .
-(أخبروني
بحق الله) كررت السؤال بتوسل وذعر.
اقترب أخوها
من سريرها باكيا لينبئها أن الأطباء اكتشفوا ورما في الرحم دفعهم لاستئصال
الرحم بأكمله تفاديا لانتشاره في جسمها ، وإنقاذا لحياتها.
-(يا لله)
أنشجت برعب وبأسى..(هل معنى ذلك أنني لن أحظى قط بحمل جنيني كما تفعل
الأمهات ؟؟ ولن أحظى يوما بمتعة إلقامه ثديي ليرضع ؟ لا أكاد أصدق
هذا..انه لقدر قاس..قاس جدا)
وأغرقت تنشج
في بكاء مرير تتقطعه زفرات الألم والحسرة على أمومة وأدها القدر قبل أن
تولد ..ومن خلال الدمع المنساب لمحت (علاء) واقفا لدى الباب يبكي لبكائها
وقد كست وجهه غمامة من الحزن والألم لا يقلان صدقا وعمقا عن ألمها وحزنها ،
فنظرت إليه في غمرة الألم ..وكادت أن تنشق شفتاها عن ابتسامة خرساء ،
فتمتمت قائلة له بصوت ضعيف لا يكاد يسمع:
-(حتى لو
أردت حقا..ما كنت لتستطيع).
سفر وإياب
-1-
عندما وطأت
قدما (حنا) أرض المدينة الغريبة مشحوذا بالأمل في مستقبل علمي باهر ، رحل
بحثا عنه إلى بلاد الجليد ، كان أول ما صادفه صخب الحياة الغربية التي
طالما سمع عنها من قبل ليراها الآن عيانا فيتسرب الخوف إلى نفسه ،وترتعد
أوصاله هلعا على فقدان أغلى ما يملك، فتحسس قلبه لا محفظة نقوده متلمسا
إيمانه وقيمه التي تربى عليها في الشرق الأصيل خوفا من أن تمتد إليها أيدي
لصوص الانفتاح والإباحية .
وضع حقائبه
في السكن العام للطلبة ،ثم اغتسل وارتدى ملابسه ميمما مركز المدينة باحثا
عن هدف وحيد سرعان ما وجده قائما بين زحمة المباني بقبابه المميزة فدلف عبر
الباب الكبير إلى داخل الكنيسة التي خلت من المصلين ، ورفع يديه في هيئة
صلاة وبدأ يتمتم مصليا سائلا الرب أن يحميه من الشرير المتمثل في إغواء
النساء ورفاق السوء ليخرج بعدذاك وروحه تترنم بترانيم المجد الأخروي
المختلفة تماما عن نشاز الحياة الأرضية الملوثة.
كانت
الشوارع مع حلول المساء مكتظة بالناس الذين يرطنون بلغة لا يفهمها ،فسار
وحيدا مستكشفا المدينة التي سيقضي فيها أعواما خمسا ريثما ينال شهادة في
الهندسة يكافيء من خلالها أبا أرهقته السنون والشتات والعمل المتواصل ،
ويساهم بها في بناء حياة كريمة لأسرة رعته صغيرا ليرعاها كبيرا.
توقف فجأة
أمام مبنى كبير على ناصية الشارع مباشرة خطت على يافطة في واجهته عبارة(
بريد) بأحرف زرقاء ،فهاجت بلبابه ذكرى الأهل الذين فارقهم للتو ممتطيا
الطائرة التي ألقت به بعيدا عنهم آلاف الأميال في ساعات معدودة لتنقله إلى
عالم لم تطأه قدماه من قبل، ففاضت عيناه ودخل إلى المبنى مبتاعا بطاقة
بريدية خط عليها عنوان الأهل وعبارة مقتضبة:((وصلت بحمد الله، أنا بخير،
صلوا من أجلي.حنا)) ليودعها صندوق البريد بعد ذلك بيد ترتجف حنينا للأهل
والأصحاب.
مضى اليوم
الدراسي الأول شيقا ..حيث بدأ دروسه الأولى في لغة أجنبية سيتحتم عليه
إتقانها أولا ليتمكن من دراسة الهندسة ، وعلى مقاعد الدراسة تعرف على
مواطنه الشيخ (عثمان) الذي جمعه به الرغبة الكبيرة في النجاح وتحقيق الطموح
أولا ثم الرغبة في الحفاظ على قيم الشرق الأصيل ، وضرورة التحوصل حولها كي
لا يجرفها تيار الحياة الإباحية التي تسير في سائر بقاع الغرب تقودها
الغرائز والقيم المادية ، فأنس كل منهما بصاحبه وقررا العيش معا تحت سقف
غرفة واحدة في السكن العام للطلبة.
كان الشيخ
(عثمان) دمث الخلق، طويل الصمت ، مجدّاً مجتهداً ، يرى في دراسة الهندسة
وسيلةً للتقرب إلى الله وزيادةً في رصيد الأعمال الصالحة التي يدخرها
لفراديس الحياة الآخرة، يشحذه الطموح لرقي الأمة ورفعتها عبر مضاعفة
الكفاءات بين أبنائها ، ويتقطع قلبه أسى لرؤية الشباب العربي غارقاً بين
أطياف الملذات في حياة الغرب ، متناسياً ما تربوا عليه من قيم أصيلة ،
فاعتزل في مسكنه لا يخرج منه إلا إلى الجامعة أو للتنزه وحيداً على شواطيء
البحر محملاً نورسه السلام إلى الأهل في الوطن البعيد المنتظرين عودته
بشهادة الهندسة .. حتى تعرف إلى (حنا) الشاب المسيحي ذا الخلق الدمث ،
والتربية المحا فظة فأنس إليه ودعاه للإقامة معاً في سكن واحد.
كانت الأيام
تمر تباعا والصديقان على حالهما، تتوطد َ عَرى الصداقة بينهما ، هذا يولي
وجهه شطر الجنوب مصليا ً خَمسه ، ويسترق الخطى أيام الجمع نحو مسجد
المدينة خائفا ً يترقب ، ويلتمس أماناً في محرابه بين يدي ربه..وذاك يتوجه
نحو كنيسته موليا ً وجهه الشرق في أيام الآحاد مصلياً لربّ يؤمن به طالبا
عونه ومدده ، وما عدا ذلك لا يفرقهما شيء..فمائدة الطعام العربي واحدة ،
ومواد الدراسة واحدة ، ناهيك عن الهدف الواحد.
-2-
كانت السيارة
تسير بسرعة متوسطة ، فالمطار ليس ببعيد ، وأمام المسافر متسعٌ من الوقت
لحين إقلاع طائرته ، مما مكن السائق من التمتع بجمال صفوف الأشجار الحرجية
التي تزدان بها ناصيتا الطريق بعد أن غسلها المطر في ذلك الصباح من صبيحات
تشرين ما ترك على جذوعها ألقا ينبثق كلما داعبته أشعة الشمس المتسللة خلسة
ً من بين الغيوم .
أما (حنا)
الجالس في المقعد الخلفي بين فتاتين شابتين فكان موزع الأفكار شارد الذهن ،
لا يكاد يلحظ الطبيعة من حوله ، لا ولا الفتاتين اللتين أمسكت إحداها بيده
اليمنى والأخرى بيده اليسرى ...لأن خضم المشاعر المتناقضة كان أكثر هيجانا
من قدرة المرء على ترتيب أفكاره ، ناهيك عن قدرته على الاسترخاء والتمتع
بجمال الطبيعة ، أو بحسن إحدى جارتيه أو كليهما...فهو ذاهب ٌ إلى بلاد
الدفءِ من جديد ...إلى أرض الوطن الدافئة بشمسها وبأهلها مودعاً بلد الجليد
إلى غير رجعة حاملا حقيبة ملابسه وبعض الهدايا ، وشهادة في الهندسة ،
ورفيقتي سفرٍ ٍ سينتهي العهد ُ بهما بعد قليل ٍ على أرض المطار ، ولن يحظيا
بأكثر من كفٍ لوداعيهما ووداع بلدٍ عاش فيه ردحا من شبابه ..صارعته فيه
نفسه وصارعها ، صرعها مرّةً وصرعته مرات .
نظر إلى
(ماريا) الجالسة على يمناه تبكي بمرارة ...وتساءل : ( أوَ يغفر الرب خطيئة
فؤادٍ متحطمٍ غدا هشيماً بعد أن أينع عشقاً ) ؟؟...لم يكلف نفسه عبء البحث
عن جوابٍ لم يجده...أجل لقد أحب (ماريا) وأحبته .. ولم يعِ في غمرة انجذابه
دوافع حبه: أهي الحاجة إلى رفيق في الغربة...رفيق تختلف رفاقيته عن تلك
التي عايشها مع (الشيخ عثمان) وغيره من الزملاء والأصدقاء العرب؟؟، أم هي
الرغبة الغريزية التي تستعر في أعماق كل إنسان ..لا تنطفيء ذبالتها إلا
بتفريغها بشكل أو بآخر؟ حتى إذا بهتت في عينيه بعد أن نال كل شيء أخبرها أن
لا مستقبل لحبهما ، لتعالج هي بعد ذاك جرحاً بجرحٍ ، فتتزوج ُ رجلاً لا
تحبه ، ممنية نفسها باستخلاص ترياق ٍ للحب من ثمرة النسيان ، حتى إذ أدركت
استحالة النسيان هبت لوداع ِ (حنا) حبيب الأمسِ وقضاء سويعة أخيرة إلى
جانبه في رحلة المطار الأخيرة غير مبالية بوجود عشيقته الجديدة معه.
تقطع فؤاد
(حنا) من جديد وهي يرقب دموع (ماريا ) تغسل وجنتيها، ثم نظر إلى يسراه
لتلتقي عيناه بعيني (لودميلا) اللعوب ، التي قضت معه ما تبقى من سنين
غربته بعد أن ذهبت (ماريا ) في حال سبيلها ..كانت مسحة خفيفة من الاستياء
الذي لا يرتقي لمستوى الحزن تغطي وجهها وهي تهم لفراق عشيق ، لا يلبث أن
يسد فراغه عشيق جديد ، ولكنه كان عشيقا كريما ، يمتلك غيرة العربي الذي
يشعرها بقيمة أنوثتها ، شعوراً تهونُ معه بعض القيود .
أشاح (حنا)
بوجهه ناظرا في الأفق الممتد أمامه ، مستعيداً ذكريات سنين مضت من
شبابه...أخذت منه الكثير وأعطته الكثير..محاولاً عقد مفاضلة بين ما فقد وما
اكتسب دون جدوى ، فالمقارنات لا مكان لها لكثرة التعقيدات: أيقارن الإيمان
المفقود بشهادة الهندسة؟ طالما همس لنفسه :( أنه إنسان...وللنفس الإنسانية
احتياجاتها، والإنسان مدني بطبعه يتفاعل مع الآخر وإن خالفه، والأقوى هو
الذي يصهر الآخر بقالبه؟) ولكن: ( ألم يصمد (عثمان) لفترة أطول ويتحوصل
حول قيم الشرق الأصيل ؟...بلى : ولكن ما جدوى ذلك وقد تفاعل هو الآخر فيما
بعد وانصهر في بوتقة القيم الغربية ، ولم يتوقف عند حد تلبية الغرائز ، بل
تجاوز القيان إلى الكأس ... أهي احتياجات الجسد فقط ، أم احتياجات الروح
للأنس بالآخر، أم أن ذلك كله تبرير للخطيئة؟)
-(وصلنا سيدي
، أتمنى لك سفرة سعيدة)
أيقظه السائق
من غيابة التأمل التي ودَّ لها أن لا تطول لثقل وطأتها على نفسه .. لمح وجه
السائق من خلال المرآة ، كان ينظر شزراً إلى الفتاتين وكأنه يدين خروجهما
لوداع عربي...نقده أجرته وهبط متجها نحو مبنى المطار بخطى وئيدة كمن يستعجل
أمرا، بذلت (ماريا) جهداً للتماسك في اللحظة الأخيرة ، فيما ابتعدت (
لودميلا) خطوات غير قليلة عنهما ربما لجلال الحزن الذي لف كيان (ماريا)
فأثر في نفس (حنا) الذي لم يفلح في كبح جماح دمعه الذي سال على وجنتيه
المحمرتين بفعل برد تشرين
ابتسامة عصية على الانطفاء
-لي أنا؟
-نعم لك وحدك
حبيبتي
-ألله...أنت
تعلم كم أعشق الورد حبيبي
-يليق بالورد
أن يُهدى لربته حبيبتي
استيقظ من
ذكرياته على وقع أقدام الأطباء والممرضات الذين ولجوا الغرفة في جولة
المساء لتفقد المرضى ، ابتعد قليلا ليتيح لهم المجال لفحص زوجته الغارقة في
غيبوبتها منذ أسابيع ، ووقف في الركن متابعا وجهها الخالي من التعابير ،
فيما طفق كبيرهم يكتب في ملفها موصيا بفحوص جديدة ، ومعدلا في جرعات
الأدوية مضيفا أخرى ، قبل أن يخرج ورهطه الطبي دون تعليق ، إلا من وصايا
متكررة له بأن يخلد إلى الراحة ولو قليلا ، لينطق بجوابه المعتاد مرفقا
بابتسامته الواثقة:
- شكرا لكم
..راحتي في البقاء معها..صدقوني
جلس من جديد
على المقعد المجاور لها ، وأمسك بيدها ليطيل النظر في الوجه المكفن بالصمت
باثَّا إياه ما فاض به الفؤاد من حب لا محدود ، حب لم تطفئ الغيبوبة
القسرية وهجه ولو لساعات ،فهو لم يمل البقاء إلى جانب زوجته الحية الميتة
يراقبها ويستشعر قرب روحها المحلقة في آفاقٍ يجهلها بعيدا عن العالم الأرضي
، ممنيا النفس َ بحتمية إفاقتها ذات يوم ٍ وإن بعُد... رافضا لليأس أن
يتسلل إلى نفسه ، ممنيا النفس بحدوث معجزة يجترحها القدر...
كانت بين
الحين والحين تفتح عينيها وتشخص في اللامرئي، ورغم علمه أنها قد لا تراه ،
فإنه يطيل النظر في نظرتها الخرساء ، ذاكرا لحيظات العشق في بدايته عندما
كان يقرأ في تلك العينين الجميلتين كلمات لا يتقن النطق بها إلا العيون ،
كما لا يتقن قراءتها إلا العيون كذلك.
حاولت شقيقته
إقناعه بعدم مجيء ابنه ذي العامين إلى المشفى إلا أنه كان يصر أن تأتي به ،
ويقضي معه الساعات قبل أن تعود به عمته إلى بيتها ...كان المرضى والمراجعون
والأطباء على حد سواء يدهشون للمرح الظاهر على وجهه ، وهو يرفع صغيره في
الهواء مناغيا وملاعبا .. ويترك لصغيره العنان لينثر شعر والده ضاحكا
وقائلا : ( حَمَّم..حَمَّم ) في تقليد لفعل الاستحمام ، وبعد أن ينهي تقليد
الاستحمام يقول برضا ( ميح هيك) أي ( هكذا مليح) .. فيما يضمه بحب ويواصل
ملاعبته بصخب يدهش كل من يعلم بمأساة زوجته، وبعد أن يودع صغيره يعود ليقضي
الليل إلى جانبها معتكفا على نفس المقعد يصحبه مذياع الجيب الصغير صادحا
معظم الوقت بأنغام عذبة .
كان حديث
المشفى بأسره بتفانيه النادر وعدم قدرته على فراقها أسابيعا طوالا لا في
ليل ولا في نهار دون أن تفارق الابتسامة الودودة محياه كذلك ، وكأنه كان
يستمد من حبها بريقا سرمديا لروحه يترجم على هيئة ابتسامة كلما ذكرت أمامه
أو تلقى من الأطباء شرحا عن حالها.. تلك الابتسامة التي أثارت دهشة الجميع
وحيرتهم معا واستنفرت محاولاتهم المتباينة للتأويل.
إلى أن لف
الظلام المشفى ونزلائه ذات ليلة ، وساد الصمت في الأروقة ، فأمسك بيدها
ناقلا النظر بين وجهها الضارب في الشحوب وبين نجمة يتيمة قهر بريقها الخافت
الظلام يراها من نافذة الغرفة ..كان بريق النجمة يزداد خفوتا مع ازدياد وجه
زوجته شحوبا ، فيما أخذ دفء يدها يحتضر ، أما ابتسامته فكانت تزداد اتساعا
...أخذ بريق النجم يغيب في الظلام الدامس حتى اختفى، وإذ ذاك شهقت الحبيبة
شهقة الموت فيما غفت يدها كقطعة الثلج بين يديه ، وازداد بريق ابتسامته
التي صبغ نورها وجهه ، لينهض عن مقعده ذاهبا إلى ممرضة القسم التي ردت على
ابتسامته بمثلها ..ليقول :
-أوصِ من
يعتني بالجسد حتى الصباح في ثلاجة الموتى ..أما الروح فهي معي ترافق كل ذرة
في كياني
|