جنازة لقلب فقد الأمان
تعلقت
بأطراف ثوبه الوارف كتلك الخيمة العنبية المعانقة سطح بيتهم الكبير..
في عينيه طمأنينة
تأسرك، في لمسة كفيه و ضمة ذراعيه الناعمتين ما يجعلك تستكين وتهدأ مهما حوصرت
بالضجيج والصخب..في جبهته رقة، وأنفه ذو إباء بعيد هو عن الكثيرين.. كل ما فيه
يغرقك بحنان وعطاء لا مثيل لهما..
-ماذا
ينتظرنا هذا المساء؟ أما زلت تذكرين أم نسيت؟
لم تكن تتخيل أن
تكون تلك الكلمات آخر ما سينطقه في حياته
..
أجابته بفرح وشقاوة
طفولية:
-
طبعا
أليس هو موعدنا لكل خميس " غدا تشرق الشمس" ؟أمن الممكن أن أتوه عنه، إنه
مسلسلنا الذي ننتظره ونراه معا في مثل هذا اليوم من كل أسبوع
..
-لن
تريه فقد حرمتك منه اليوم..
بضحكة خفية
أجابها.. يريد أن يعابثها كما اعتاد دوماً..ابنته المحببة إلى قلبه
كانت
.. فرحه بها كما لم يفرح أب بأنثى..كان يردد أن الإنسان المحظوظ هو من يرزق
ببنت تكون بكر أولاده
..
ابتسامته المخبوءة
تلك أضاءت بدعابة لطيفة على وجهه ..ألقت ظلالها على وجهها ونفسها وقلبها ..سبحت
روحها بين السحب.. في سماء لا تعرف لها بدايات أو نهايات .. كان موعدا ً للقاء
عودها عليه ، وعداً مفرحاً ألفته كل ليلة خميس..
لم
تكن تدري أنه الموعد الذي لن يأتي..
حملت حقيبتها
الطفولية ، وإلى مدرستها انطلقت خفيفة الخطا، ورفائف من الحمام تتبعها ، تحط
على كتفيها، وغيمة سارحة في الأفق ترمقها بصمت ينذر بالأسى..
مساؤها أقبل يغصّ
بشمسه التي ألف رحيلها الهادئ في توالي الأيام .. لكنها
لا تريد الرحيل هذه
الليلة، وسفرها تصحبه قوافل من الحزن دامسة ..فلا القمر راغب في عناق الأفق،
ولا النجوم تناثرت عقد جمان أضاء الوجود..
عادت تنتعل حقيبتها
ثقيلة، ولا حمام يتبعها .. وحدها تلك الغيمة السارحة في الأفق ترمقها بصمت..
فوق
سطح بيتهم الكبير خيمة العنب.. صعدت تشكو إليها.. استغربت عناقيدها قلقها، وكأن
عدوى أصابتها :
لم طالت غيبته ؟ هل
تراه نسي لقاءهما الذي ينتظرانه معا في هذه الساعات؟
..
سمعت
قرعا ً ملحا ً على باب بيتهم.. طالعها شاب في عينيه شحوب، وارتعاش، وصدمة
مكبوتة، وشفتاه تطلبان شيئا ًبعبارات متلعثمة .. لم تتبين هويته ولم تفهم ما
يطلب.. لكنها في قرارة نفسها أحست أن أمرا ً عظيما ًقد حدث..
شعرت أنها تفقد
إحساساً جميلاً.. ينسحب يغادرها لا يستأذنها.. في غفلة ما..يسرق منها الأشياء
.. أجملها..
أيمكن لإنسان أن
يقتلع هكذا دون رحمة من طمأنينته .. من ألفته .. من عبثه الطفولي.. من حضن أب
دافئ .. ولمسة تطوف بك إلى حيث لا شيء يوصف أو يقال..
انهال الحزن كثيفا
ً وجارحا ً..هي والسماء تعانقتا، وبخطوات سريعة ..مجنونة ولاهبة..أخذت تدور
تحتها.. تحت خيمة العنب التي عاشرتها عمراً.. حين تدرس.. حين تلهو.. حين يحلو
لها تأمل الأفق، ومجموعة الدب الأكبر والأصغر.. إلى أن فقدت السيطرة على كل شيء
حين رأت خيمة العنب تتمدد لتتحول إلى قطعة خشب مسطحة يحملها شخصان واجمان
يمددان فوقها جسدا ًمسجى ً ارتسم على شفتيه وعد مخبأ
..
عادت لتتعلق من
جديد لا بأطراف الثوب الوارف، بل بتلك الخيمة العنبية التي استطالت في طريقها
إلى السماء حاملة معها جنازة لقلب صغير فارقه الأمان..
أضيفت
في 15/06/2007/ خاص القصة السورية /
المصدر الكاتبة
وريقات العطر
لست أدري ما الذي
جذبني إلى هناك.. إلى وريقات العطر التي استلقت باستكانة داخل إناء زجاجي شفاف
أودعته أسرار أحاسيسي.. أحسست أنك تناديني وقد استشعرت مللي وضجري ورتابة ما
حولي تريد أن تشغلني بأنفاسك ، وتخفف وحشة انتظارك ..... وريقات حملتها إلي
من سفرتك الأخيرة حين كان الحب دليلك السياحي في تلك المدينة التي قصصت لي عنها
قصصا ً قاربت الأحلام في
غرابتها .. ذاك
الحب الذي جعلك متلهفاً محتارا ً ماذا ستحمل إلي ّ من الهدايا لتشعرني بحضوري
في كل حين ؟؟..
طافت برأسي أطياف ،
وناجيت نفسي بأحاديث لا تنتهي لكنني في أعماقي أحسست أنني دافئة حتى الوله ،
وأنا أضيف وريقاتك العطرية إلى كأس من شاي ساخن بات مؤنسي صباح إجازات ٍ
أسبوعية ٍ أفرغ فيها لذكرياتي ..
لم
إذا شعوري بالوحشة إلى هذا الحد .. لم شعوري بضيق ما حولي رغم أن عبق أنفاسك
قد استلقى عليها محباً.. عاشقا ً.. راغباً بإبعاد كل ضيق عني ورغم أنني أستطيع
أن أفتح الباب ، وأنطلق إلى حيث أسلو وحشتي فلا شيء يمنعني ، لا أبواب موصدة في
وجهي ، ولا طرقات تضيق بها قدماي
..
حانت مني التفاتة
إلى صورة لك جعلتها تؤنس خطواتي أنّى اتجهت في بيتي فرأيتك تعاتبني ، وفي عينيك
شلالات هي أشد احتياجاتي في هذه اللحظات..
-"
لم القلق حبيبتي ، أنت
معي في كل ثانية ، في أفكاري.. في حروفي.. فوق سطوري التي أكتبها..لا تشغليني
أرجوك..أحتاج إلى هدوئك لأتابع عملي
أحبك .."
تذكرت لقاءنا الأول
في المطار .. كان قلبي يخفق بشدة حتى غيّب عني كل دعاء تمتمتُ به لأتماسك ..
دفعني إلى لقائك صوت لست أدري من أين جاءني..من سواق ٍ قادمة ٍ من محيطات ٍ
غريبة ٍ أنفاسها ولهٌ ، وعنبر..ٌ عنبرك ذاك ، الذي عرفته بمجيئك قبل أن تهديه
إليّ لتتنسمه أنفاسي ، ويتعشقه جلدي .. أتيتني به من تلك المدينة الغامضة التي
امتزجت بأحلامي وذاكرتي نقشا ً خبأته بحرص ٍ .. بحنوٍّ كبير، اعتدته لهداياك
خوف أن تراه عطوري فتغار منه
..
أستحضر الآن تفاصيل
ذاك اللقاء ، حين راحت عيناي تتفحصان كل قادم يحمل شيئاً من ملامح اختزنتها
مخيلتي عنك.. ملامح حفظت منها ما لا يمكن أن أتوه عنه يوماً ملامح لعينين
صافيتين ، ورسما ً لكفين.. كانتا أول عناقنا
..
مرت ساعات ، وأنا
أنتقل بين أطراف القسم المخصص لاستقبال القادمين ورجلاي تئنان من الوقوف تطلبان
راحة بخلت بها عليهما خوف أن أتيه عنك..
والتقينا..... لا
أنكر أنه كان لقاءً باردا ً مترددا ً،حين رأيتك تتجه إلى أخرى فيها رأيتَ
شيئاً مني ، ورددتُ اسمكَ وأنا أتحاشى أن أنظر في عينيك .. لا أذكر إن كنا قد
تصافحنا .. كل ما أذكره أن ارتباكي وصل إليك شيء منه.. ارتباك أنساني أين
أوقفت سيارتي حين قدتك إليها .. لا أخفيك أنني تحاشيت النظر إليك قصدا ً؛ فشيء
ما كان هناك أخافني ، وكنت أود أن أهرب ..
- "
أتراك لاحظت اضطرابي
وقتها، أم أنني كنت أكثر مهارة حين أخفيته عنك ؟؟ " أنقذتني بكلماتك
:
-"
ما رأيك أن نجلس في
مكان هادئ .. أود أن نتحادث ؟..
"
كطفلة صغيرة جررتني
من يدي إلى ذاك المكان الذي وصل ضجيجه إلى الشارع وكاد أن يعانق السماء.. ما
الذي حولني إلى طفلة صغيرة تنسى اضطرابها كله في يدك ؟؟
الآن عرفت .. عرفت ما
جعل رجلي ّ تحتملان الوقوف المؤلم في المطار.. ما جعلني لساعات أصغي إليك رغم
عنائي في التقاط كلماتك وسط الضجيج حولنا
..
كنت تحكي، وتحكي ،
وأنا أهيم في تفاصيلك أتجرأ على الاقتراب منها خطوة خطوة ، وتلك الصفحات التي
حملتها إلي ّ لأعرفك من خلالها ، ومن خلال ما تكتبه عنك الجرائد من تعليقاتٍ ،
لم أكن أراها وهي ملقاة أمامي رغم يقيني أنك حرصت على حملها إلي ، وفي داخلك
آمال كثيرة ...
"
أتراك أنت أيضا خشيت
أن لا تجد طريقا ً إلي ّ إلا من خلالها ؟.."
ناجيتك في نفسي
وأنا أنظر في صورتك :
"
أتعلم ؟ ليتك تحملني
الآن إلى ذاك المكان الذي يعانق بضجيجه السماء .. ليتك تعود وتجرجرني كطفلة
صغيرة منقادة إليك بأمان
.."
رددت
علي ّ بابتسامة رقيقة وصلت إلي ّ من عينيك الهادئتين
:
- "
تأكدي حبيبتي أنني أشد
شوقا ً منك إلى ذاك المكان الذي جمعنا لأول مرة ، وإلى أن تستكيني كطفلة صغيرة
في أصابع كفّي
.."
كنت تتحدث عن نفسك
كثيرا ً ، عن أعمالك .. عن نجاحاتك .. ولم أكن أستغرب حديثك؛ فأنت وأنا
غريبان رغم انتمائنا إلى بلد ٍ واحدٍ جمعتنا ظروف معيشية متشابهة ، فتجرعنا
حلاوة غربةٍ ، لو كنا صادقين مع أنفسنا لاعترفنا أنها لم تكن إلا علقما ً ..
لم
أكن معك فيما تقول ...كنت معهما ... أناجيهما كمن لا يرى غيرهما .. كلّما
رفعتهما تساند بهما حديثك طرتَ بي أكثر...لم أكن أراك أبدا... أو لربما كنت
أراك من خلالهما وأسأل نفسي:
"
أيمكن لقصة عشق ٍ أن
تبدأ منهما ، من مجرد كفين ؟؟
"
هما في خيالي
تنتقيان لي الوريقات العطرية ، وتلمسان المفرش الجميل والقناع الخشبي ،
والعنبر، والعديد من أشياء تمنيتها لي..
أسمع همسهما
للهدايا بحكايتنا .. تغريانها بالسفر معهما ..أتخيلهما تحرضّان السحب على ريّ
الأراضي العطاش حروفا ً من أبجديات العشق والوله .. أتخيلهما تنكفئان كريشتين
حالمتين اشتاقتا للسفر.. لعناقي ..ولاحتضاني ..
وها
أنت تعود... لكنك اليوم بدوت لي غريبا ً رغم كل محاولاتك في الاقتراب
مني
..
بادرتني :
"
لم تفارقيني لحظة ..
عشت ِ معي في كل شيء .. في أنفاسي وأحلامي.. حتى مع أصدقائي
.. "
تبسمت حينها وأنا
أجيبك :" حقاً ؟؟ ووراءها ألف إشارة استفهام ؟؟؟
كنت كعادتك تسرد لي
حكاياك وأخبارك الشائقة ، وكانت عيناي تبحثان عنهما، عمّن منهما بدأ كل شيء ..
لم رأيتهما هناك مصدومتين مصابتين بالخيبة ؟ .. توسعت حدقتاي إلى أبعد مدى
تبحثان عن امتلاء كان يسحرني .. رأيت كل شيء في ذاك الوقت خاويا ً هشا ً، مجرد
وهم ِ امتلاء .. جلدا ً منتفخا ً لا يمكن أن يكون أبدا ً وسادة طرية لراحة
أنشدها.. ووصلني للتوّ أنين وحطام لجدار شفاف أودعته أطياف الأحاسيس،
والأسرار.. تلفتُّ فإذا بها وريقاتك العطرية تحولت إلى إبر ٍ تلاحقها وتدميني
..
أيقنت في تلك اللحظة
أننا نختلق وهما ً نعيشه بتفاصيله ، ورغم أننا متأكدون من زيفه نستمرئ العيش
فيه ، ونجترّ أيامنا مستسلمين له يقف ساخرا ً من بلاهتنا وغبائنا ..
أسلمتك يدي هذه المرة
لتعود وتجرجرها ، لا كطفلة تنشد الأمان بل كنعجةٍ مسكينة ٍ تسوقها إلى أقرب
مسلخ...
أضيفت
في 08/05/2007/ خاص القصة السورية /
المصدر الكاتبة
أمومة متبادلة
أغمضت عينيها باسترخاء لذيذ تحت نظارتها الطبية ، وقد فرشت فوق
صدرها كتاباً كانت تقرؤه ...
ماذا دار في بالها وهي تقرأ هذه القصة الطافحة بالجرأة ..
بالانفلات ..
" لم كل هذه التسميات تطلقها؟؟ " لم لا تتجرأ أن تقول " إنها الواقع
الذي نخجل منه
ونداريه بتكتم رغم أن الواقع يفضحه ؟؟ ! "
" كيف استطاعت أن تتقبل أن تهديها ابنتها الشابة الفتية مثل هذا
الكتاب ؟
أو كيف أمكنها أن تتخيل عينيها و حواسها تتصفحان هذا الكتاب
المليئة سطوره بالرغبة .. بالشبق .. بالتمرد .. بمشاعر امرأة انفلتت من قيود
العادات ورقابة العيون ؟ وبما لم تكن هي لتتجرأ أن تصرح بمثلها وإن كان الكثير
منها قد لفح حياتها بنيرانه وما زال يلفحها .. أهي أمومتها التي تأبى إلا أن
تكون المثال والقدوة لابنتها؟ أم هو خوفها عليها من أن يمسها أو يلفحها لهيب
نار كواها ذات يوم ؟؟
تذكرت أنها هي التي سقت تلك النبتة حتى أفرع عودها وماس وأينع
ربيعاً حسدتها عليه العيون فدأبت على إحاطته بالأدعية والتعويذات ..
تساءلت: كيف يمكنها أن تستهجن منها ثمرا ً سقته بدمع عينها وجراح
قلبها فصمد في وجه رياح عاصفة أحنت هي لها رأسها فيما مضى من العمر حين كانت في
مثل سنها ..
طافت على شفتيها ابتسامة حينما تذكرت تلك الرسالة الشفوية التي
أبلغها لها من حملته الكتاب هدية إليها وهو في طريقه إلى البلد الذي كانت تسكن
فيه .. تخيلت ضحكة عينيها، وشقاوة ملامحها ، والبراءة التي لفت الوجه
الجميل المتناغم في أدق ملامحه :
" قل لماما إنني كبرت .. لم أعد صغيرة على مثل هذه القراءات فلا
تزعل مني.."
كعادتها تلك الحلوة الشقية .. التي أنفاسها ، وضحكات عينيها ،
وخطواتها الفرسية في سباق لا ينتهي .. عرفت أن أمها حين تصل إلى صفحات هذه
القصة بالذات ستتخيلها ، وسيرتعش قلبها ، وتتزايد نبضاته ، حين تتصورها وهي تمر
بعينيها الحلوتين عبر سطورها وستشك أنها توقفت عند بعض من المشاهد التي فجرتها
كاتبة القصة ، بمشاعر أنثى باتت تفهم أكثر مما لو قدر لها أن تفهمه حين ما زالت
في أحضان أمها ..
عرفت أن أمها ستسارع إلى رمي ذاك الكتاب بخوف ، بغضب ، وستمسك
بالهاتف ، وبأصابع مرتجفة تجمع رقمها لتصيح بها :
" ماما .. من أين وصلك هذا الكتاب ؟ و كيف يمكنك أن تقرئي مثل هذه
الموضوعات ؟؟
توسعت الابتسامة أكثر فوق شفتيها وغمرتها حالة من الدفء والنشوة
والفخر ، فتعبها مع العمر ، معاناتها مع الوحدة والألم وانعدام مسؤولية الأب ،
وقبلها شبح زوج لم تعرف منه إلا أنها أصبحت امرأة والدة ..
كيف؟ لا تذكر؟ إلا حين كانت تضطر لسجل رسمي تحتاجه لابنتها ، فترى
فيه اسمه باهتا ً من أي بريق .. ذاك الاسم الذي كثيراً ما غفرت لصاحبه
إساءاته المريرة لهدية ما علم أنها غمرت وجودها غدران لؤلؤٍ ومرجان ٍ
وكهرمان ... وأطلقت فيه روائح عطور برية ، و غجرية ، وزنبقية تتباهى بقوارير
متناهية في الرقة
والعذوبة ..
ازداد ذاك الشعور عبقا ً في مساماتها .. أحست براحة شديدة حين شعرت
أن شفتيها تغرقان بابتسامة منبعها قلب حارب طويلا إلى أن حاز الأمان الذي أطال
الطريق ..
رفعت رأسها إلى صورها ابنتها المنبثة في كل زوايا البيت ..
وفي تلك اللحظة بالذات .. أهدت إليه بسمة حب ضنت بها عليه عمرا ً..
وهي تلهج بالدعاء لغاليتها البعيدة...
أضيفت
في 10/02/2007/ * خاص القصة السورية /
المصدر الكاتبة
كيس نايلون
ما إن لامست أصابعها كيس النايلون الذي يرتمي بجانبها منهكاً مخرجة منه بضعة
أصابع من الكعك ، ترطب بها معدة باتت تنادي بصوت موجع ، حتى سرح بها الخيال
إلى الوراء بعيداً…
أهو الكعك ما حملها إلى ذاك المكان ، أو أنه كيس النايلون أيقظ أشياء حبستها في
زوايا النسيان..
تسع سنوات من الغربة من الانسلاخ عن أرض طيبة وإياها ائتلفتا عمراً فباتت لا
تدري من منهما ولدت أولاً ..
هي بنفسها اختارت رحيلها عنها بل سعت إليه جاهدة ، ولطالما حلمت بتلك الغريبة
المتأنقة بتيه الحضارة والعمران وكنوز التراب….لطالما دعت ربها أن تكون لها
المأوى والمثوى…
لا زالت تذكر كيف كانت لسنوات تنقب بين إعلانات السفارات ، وتغز الأرض برفقتها
صديقتها الطيبة الودود ، والتي لم تكن لترفض مرافقتها مهما كان المشوار صعباً
، ولربما كان أمل الاغتراب يراودها رغم اقتناعها بتواضع إمكاناتها ..
وها هو الحلم يتحقق ، وتطأ بقدميها تلك الأرض الغريبة في كل شيء ، والتي ما
زالت حتى اليوم لا تستطيع أن تحدد لها هوية رغم تزاحمها بالوجوه والأصوات ..
ماذا يمكن أن تذكر عن تلك الخطوات الأولى .. فكثيراً ما حظّها القدر حين أراها
عوالم جديدة لا يحلم بها الكثيرون ..لعلّه أراد إشباع ولهها بالجمال بأن
متعها بمفاتن الخالق وإبداعاته ..
لمَ ؟ لم َيخطر في بالها كيس النايلون بالذات في هذه اللحظات ؟ ..
مازال ذاك المكان الهادئ الذي نسقته يد البشر ضمن صحراء لا يخطر لك ببال أن
ترسم فيها لوحة بمثل ذاك الجمال والاتساق ماثلاً في ذاكرتها..
لم تكن في ذاك الوقت لتستطيع أن تحدد المكان الذي قضت فيه ليلتها الأولى ؛ فقد
كانت تحوم في عالم غريب من السحر احتاجت وقتا طويلاً لتفك رموزه ..
كل ما تذكره حافلة صغيرة أقلتها مع مثيلاتها في طريق يتلوى شوقاً لرمال
متداخلة الألوان ، والأشكال لا تمل العين رؤيتها ..عندها أسرت في نفسها:
"من قال إن الجمال يتسلق الجبال الخضر والترب الليلكية مستنكراً المدى والكثبان
الذهبية "!!..
كانت الحافلة الصغيرة تقف بعد أن تقطع مسافات طويلة لتلفظ بعضا ً من راكباتها
مع حقائب اختلفت حجما ًوشكلا ً كلّ تنطق بصاحبتها .. ائتلاف غريب بين بشر
جمعتهم أحلام العيش ومرارة الكدح ..
كان المساء قد ألقى بظلاله المعتمة على ذاك السكون ، فزاده بها وجلالاً
وانتشاءً حين ضمتها جدران بيت متنافر بكل ما فيه ، تناهت إلى سمعها أصوات تعلو
تارة وتخفت أخرى .. متنافرة هي الأخرى غير أنها لم تعجز أبداً أن تجد لها زاوية
ألفة بينها .. ..
أطلق الصبح زفرته الأولى بعد ليل من التعب والضجيج .. لا تذكر إلا أنها أشرعت
لنافذة جانبية أزرار قميصها ، فإذا هي تتكشف عن مدىً ناهد بالخضرة التي ترى
ألوانها قد انتقيت لوناً لوناً ، لتصطف في تناغم هرموني مغرق في الروعة..
تذكر أنها أطلقت صرخة انبهار مصحوبة بدعاء فطري " رباه ليتني أعيش في هذا
المكان " ..
ما أروع السماء حين تلبي دعوات عفوية بسيطة ! ..لم يكن في بالها أن تعود إلى
هذا المكان حيث ما كان إلا استراحة صغيرة في الطريق إلى دار الإقامة المقررة
لها ..
قدر لها أن تكون لها غرفتها الخاصة التي ضمتها ، وابنتها التي لم تتجاوز
الثالثة عشرة من عمرها ..أهو الحظ أيضا أن تكون لها تلك الابنة الرائعة التي
أغنتها عن أن تشاركها الغرفة واحدة ممن عج بهن السكن المدرسي، واللواتي كن
يسابقن الصبح في الذهاب إلى العمل ، وما إن تضمهن جدران السكن حتى تقفل الأبواب
على نفسها، وكأنها خائفة من أن يسترق شقّ من الضوء النظر إلى أجساد صاحباتها..
وفي كل حين ، وبعد فترة من الزمن لم تكن لتطول كان يسمع صوت عجلات لسيارة ،
وزعيق جرس يرافقه طرق قاس على الباب يعكر صفو هذا الدار المسكينة، ويتعالى صوت
أجش بليد يسبقه حذاء مدبب الطرف لامع ترى صاحبه يصر أن يثير به الانتباه ، وقد
ظن أنه فاق به دور الأزياء والموضة .. وما إن يتعالى صوته الأجش الذي تطل منه
ضحكة صفراء استمدت شحوبها من جرح النفوس وقضّ مضاجع المعلمات الساكنات ، حتى
ترى الأبواب كلها مشرعة بتوقيت واحد ، وكأنها تلقت أمراً عسكرياً لا مفر لها من
تنفيذه ، تسبقها رعشات قلوب، ونظرات خوف وترقب !!
من تراها القادمة الجديدة التي ستحشر بين هذه الجدران ، وتزيد خناقه
وأنينه ؟! ومن تراها تلك البائسة التي سقط عليها الرهان بأن تحزم حقائبها
المتنافرة، لتحملها الحافلة ، وتلقيها إلى رصيف آخر !!..
تهادى وجه غادة الرقيقة الناعمة أمام ذاكرتها.. غادة التي إذا تحدثت همست، سلخت
قلبها عن طفلة صغيرة بعد زواج لم يدم لشهور مكتفية برؤيتها مرتين كل عام وراحت
تغزّ الخطوَ ..تصارع لقم العيش في هذه الأرض المريرة..
كانت تشعر أنها تشبهها كثيرا سوى أنها أصرّت أن تحمل معها ابنتها لتشجعها
أنفاسها ، وأطياف الورود في عينيها على مواصلة الطريق، ومواجهة الأقدار .. غادة
التي كثيرا ما التقتها في القسم السفلي من السكن تهبط سلّم الدار نسمة هادئة
يسافر عبقها إلى غرفتها المقابلة للمطبخ فيجذبها ذاك العبق إلى حديث تتناقلان
معه أخبار العمل وأسرار الألم ..هي واحدة من ساكنات هذه الدار اللواتي أقفلن
على القلوب الأسرار ، والمشاعر التي فضحتها صور صغيرة لأبناء أو أزواج سلخوا
عنهن قهراً ملقاة في جوانب الغرف المبعثرة بالكتب ، بالأوراق ، وبأوان ٍ بسيطة
للطعام ، غفلت كل منهن عن أنوثتها أو أغلقت عليها درج خزانة أودعت مفاتحها غبار
الزمن ...
وهاهو وجه غادة الرقيق الناعم ، يزيحه وجه كانت تكثر من استراق النظر إليه في
محاولة لتحديد خطوط له .. هو بتنافره قريب من هذه الأرض ؛ فقد تربع جسداً
نحيلاً ، متصدراً رأساً تتدلى منه ضفيرة بدائية لا يقدر لك أن تراها حرة ، أو
متباهية بلونها الذهبي مرةً، مبللة بالماء هي أبدا دونما إشفاق ..
عينان سارحتان دون توقف .. وجه قاس ما تعرف له عمراً رغم رشاقة صاحبته ،
وحركتها الدائبة ما بين الصحون ، والحمام ، وغسيل الأكياس...!
من باب غرفتها الشفاف المطل على حوش بسيط أجرد لا تؤنس وحشته إلا شجيرة
تناساها الزمان تتدلى أوراقها بذل إلى الأرض الجافة من كل شيء ، حتى من نبتة
شائكة تلقي في أوصاله رعشة، أو دفقة دفء.. ترقبها تعلق أكياساً من النايلون ..
عدداً هائلا ً من الأكياس كأنها هربت من دكان بقال ، أو مخزن كبير .. وكثيرا ما
استغربت لم َ تجمع تلك الأكياس ؟ ولمَ تغسلها ؟ وكيف تنشرها بألفة الأم على ذاك
الحبل العجوز المتسمر منتظراً أجله !! ..
ساعات تقضيها وهي تمسّد الأكياس .. تنفضها تارة ، فيتساقط رذاذ الماء منها ثم
تعود لتنيمها بحنو كبير فوق ذاك الحبل ، ويداها، وعيناها تسرحان في نقطة واحدة
تشك أنها حادت عنها مرة .. وإن استفاقت فلأنها تذكرت أن لها في الغرفة ابناً
لم يتجاوز سنواته السبع غفلت عنه وقد أبكمت صوته وفرحه الطفولي ، وأنست ساقيه
الريح ، وصداقة الطرقات لا تراها إلا وهي تفرك جسده المرتعش بالماء ، وببقايا
صابون تكرر استعمالهما تخفيهما في غرفة صغيرة تحت سلم البيت خصصت لتلقي بها
الساكنات ما فاض عنهن ، أو ما تركنه ليصطحبنه معهن حين يحين السفر، غير آبهة
باضطراب الجو ما بين بردٍ وحّرٍ .. تلك الساكنة كانت تثير حيرتها سيما حينما
ترفع صوتها القاسي الذي حسبته للوهلة الأولى صوت رجل دخل الدار بطريق الخطأ ..
ذاك الصوت الذي كان يثير تغامز ، وسخرية طالباتها المراهقات في
المدرسة ..
هي تركيبة غريبة ،من القهر والسخط والتلاشي .. تراها العين فتحسبها خيالاً يطوف
دون حاجة إلى أن يستقر في مكان ..لا تشعر بوجوده إلاّ إذا سمعت ذاك الصوت
الغريب الذي يصدر من قاع مالها حدود ، وهو يرتفع في وجه ساكنة ممن يقمن في
الدار ، معلناً عصيانه على إهمال في تنظيف فرن الغاز في المطبخ المجاور، أو
تقصير في تنظيف الفسحة المشتركة الموزعة لغرف الدار .. حتى هي لم تسلم من صوتها
في الأيام الأولى لمجيئها الدار ؛ فقد كانت هي الأخرى تستلذّ في نشر مشاعر
الرعب ، والخوف في قلوب القادمات الجديدات .. لكنها استطاعت أن تضع لها حداً
منذ الوهلة الأولى ، رغم أنها استغرقت جهداً، وهي تواجهها في رسم تعبيرات
قاسية على ملامح وجهها الحنون الذي لا يخفى حنوه على أصغر كائن ..
تلاحقت الصور أمام عينيها شريطاً لا ينتهي ، في حين كانت أصابعها تتحسس الكيس
الملقى إلى جانبها ..... شعرت أنها تحتاج لأزمان لتوقظ تلك السنوات التسع.. ..
أزمان من الوجوه ، والملامح .. أزمان من حبال الغسيل وأكياس النايلون.. ..
أهي الغربة جعلت كل شيء جافاً حتى الملامح !.. أهي الغربة جعلتنا نسكت أصوات
القلب ، ونأسر سيقان الأطفال! ..أهي الغربة جعلتنا نحشر رؤوسنا في أكياس من
النايلون باحثين عن جذوة من الدفء ؟؟......
(الشارقة) من ذكرياتي في سكن المدرسات-في المنطقة الغربية – أبو ظبي-
أضيفت
في 24/12/2006/ خاص القصة السورية /
المصدر الكاتبة
أبواب الحنين
يا جار .. يا جار...
أسرع,, فثعبان يزرع خطاه في أرضك..
تعالى صوت الجار الذي قارب على الستين من عمره منادياً جاره الشاب
الرزين..
ذكريات تقرع أبواب الحنين .. تأبى إلا أن تشرعها كلها للريح
للأحاسيس .. للرماد الذي يأبى أن يخمد..
أسرعت تبحث عن قلم وورقة .. مجرد ورقة رأتها في حجرة أمها التي
استلقت فارشة السرير فاتحة الذراعين ملقية بكل حملها فوق سريرها الأبيض الذي
تفوح منه رائحة أشبه بالورد .. بالياسمين.. بعبق وتلألؤ لم تعهدهما في ثياب أو
ملاءات أحد أبدا...
عادت تسرح بصرها فيما تبقى من الأخضر الذي يحاصر تلك الجدران
الأسمنتية منتصراً على عوامل الزمن والتخريب ضدّ ما دعي بالتطور .. كلما جلست
في ذلك المكان ، وسرحت البصر حولها عادت تلك العبارة القديمة تدق أبواب الحنين
...
ها هو يسرع وراء ذلك الثعبان .. لم تكن ثعابين حديقتهم لتخيفها ،
فهي أليفة ألفة تربة ذلك البيت العريق ، وذاك الشجر الذي يلتف معانقاً أسرة
صغيرة تتعايش مع الحياة عبر رحلة من الأحلام ظنتها ستتحقق يوماً...
ها هي النسيمات الصيفية ذاتها..
ها هو جدار الجيران نفسه يحتضن شجيرات رفض أهلها
التطور أو التحضر ، وكأنها بقيت لأجلها .. لأجل عينيها وروحها ..
ما اختلف هو الامتداد فقط ..
كان الامتداد فوق شجرة المشمش تارة والرمان تارة أخرى .. كان الحصار
بعربشات الياسمين الأبيض وزهر الليل حينا .. تنوع غريب لا يمكن أن يتماوج إلا
في عالمها هي..
وها هو الامتداد قد تحول إلى علب أسمنتية جميلة أنيقة ..
الشعور ذاته أو لنقل شبيهه عبر أمواج من الغصص والحنين الذي يأبى
إلا أن يواصل في أعماقها إبحاره الأبدي ...
تهالكت على المقعد الذي اختارته لنفسها دون تفكير، وكأن شيئا ما
يجذبها إليه...
ازداد الارتباط بالمكان .. بالزمان أكثر .. فأكثر .. ودّت لو تستطيع
تحطيم الأسمنت الكريه لتتنشق عبير التربة المسجونة تحته.. هي أكيدة أنه لو قدّر
لها تحطيمه لفاح العطر القديم معانقاً كل ما حوله .. لعاد صوت الجار القديم
يحذر جاره الرزين .. لعادت الأسرة الصغيرة تعانق أحلامها في ظل أشجار البرتقال
وعباد الشمس والعصفر .. لغابت الألوان والظلال في عناق الهوى .. لتناثر المدى..
تشكل بآلاف آلاف الأصداء والذكريات ... لعاود الدفء غمره أبواب الحنين...
أضيفت
في 14/12/2006/ خاص القصة السورية /
المصدر الكاتبة
أليفة الجدران......
تلقفها المسند ببرود...
إذ اعتاد كثيرا أن تلقي الرؤوس بحملها الثقيل عليه..
آلاف الرؤوس باختلاف الأشكال، والأجناس، والعروق، والدماء...
كم كان في بداياته حانيًا.. عطوفاً.. رفيقا... إذ هكذا تكون الأشياء
دائما قبل أن يعاد إيلامها ثم اجتياحها ...
شردت بفكرها بعيداً قبل أن تستقر في مكان أو حتى زاوية صغيرة..
لطالما كانت بفطرتها تتحسس حينما ترود مكاناً لتختار ركناً للجلوس ، لا يمكن أن
يكون في كل مرة إلا زاوية .... ولطالما سألت نفسها ، وهي خجلى من سماع الرد ،
أو لربما خائفة: " لم الزاوية أبدا ؟؟ لم لا يكون الجلوس في المنتصف، أو في
الطرف، أو حتى على قارعة الطريق ؟؟ "
جاءها الجواب بعد سنين طوال... " غريب لم بعض الأسئلة لا يأتينا
الجواب عنه إلا بعد أن يأكل العمر منا سنوات وسنوات ؟؟ "
كان الجواب من الفطرة، من الإحساس .. فلكي تكون محميا ً لا بد أن
تشرف على العيون... المقبل منها والمدبر، الذي يأتيك متقنعاً والذي يأتيك سافرا ً ضاحكا ً، ولربما يخفي نصلا ً حادا ً يجتاحك
حتى الأعماق .....
ترددت كثيرا ً أمام لفظة "نصلاً"... في قرارة نفسها كانت
تريد أن تستبدلها بلفظة "سيفا ً" لكن موقفا ً ما فرض ذاته عليها في تلك
اللحظة ....
كان في بالها بيت من الشعر احتضنته الذاكرة زمانا ً من يوم أن
احتضنتها مقاعد الدراسة في سني العمر الأولى: "ينضو من مقلته سيفا ًوكأن نعاســا ً يخمـده" ما أبعدها في هذه اللحظات عن تلك الذكريات الرقيقة التي توسدتها تلك
الذاكرة طويلا ً وما ناءت بها يوما ً..
ما أمرّ تلون النفس حين تجترع مع الزمن أشكالاً شتى من كؤوس مترعة
بما يهب على الروح من أنسام ٍ وأعاصير، ولربما رياح شمالية وبراكين ...
عاد مسند المقعد يتململ وراءها ... أسرّ في نفسه : " إلى أين تراها
تريد الوصول ؟؟ تلك الملقية بكل هذا العبء عليّ ؟؟ ويبدو أنها استشعرت تململه
وراءها فجاءت بوسادة صغيرة أراحت بها ظهرها المتعب، ولعلها أرادت أن تخفف عنه
قليلا ً بأن تجعله هو الآخر يلقي بجزء ولو صغير من حمله الثقيل، ليرتاح .....
عادت إلى ارتشاف قهوتها الصباحية قليلا ً قليلا ً... لم تكن في
حياتها أبدا تحب الوصول إلى الأشياء بسرعة... كان إحساسها بالمتعة مع الأشياء
غريباً قليلا ً. .. ففنجان وحيد من القهوة لربما أغناها عن كثير من الفناجين
يتجرعها الآخرون خلال يوم واحد.. لها مع الأشياء حكايات... ما أهون نقطة
البدء عندها وما أصعب أن تصل إلى النهايات..
لم تكن يوماً تلقي بالأحاسيس، أو بالذكريات وراءها كما يفعل
الكثيرون... فهناك تحت تلك البناية الفارهة ما زالت "أبواب الحنين"
تناديها، وهنا من الشرفة التي استظلت زاوية منها، تلوح أعمدة لبيتٍ عتيق ٍ
يقرع بشرفاته المغبرة حيطان الذاكرة ليمد جسرا ً من الأريج الغامر به.. ..
حتى هذه الشرفة التي أظلتها اليوم والتي منها ترنو إلى المدى الذي لا يعرف له
نهاية، بات لها جسر إلى القلب..... تشعبت الجسور وتعانقت في ذاك القلب
الصغير ...
لم تفاجأ حين قال لها في مشوار طريق حلمت أن يكون مشوار عمر،
دون أن تدري بما كان يحلم أو يفكر بينه وبين نفسه : "ستكون كلماتك أكثر دفئا ً
ولهيبا ً بعد اليوم .. أنا واثق ..."
تبسمت في سرها وصافحت عيناها الطريق المتسامح أمامها مع السماء
والريح والبحر ورمال الصحراء التي لا يمكن لعين أو نبض إلا أن يستشعر
الطمأنينة الربانية معها .."أهو عناد الرجل الأبدي يظن أنه لا بدّ امتلك
الأنثى حينما أوحت إليه ذات يوم أنها الحمامة التي ألفت شباكه وأسلمت لها
القياد ؟؟"
أغمضت عينيها وسرحت بفكرها " .. ليتك تدري لتنشر دفء قلبها كم
عليك أن توقد من الشموع .. وعلب الثقاب ... وأضواء الأقمار ... وظلال النجوم ..
؟ ! "
كم تمنت بعد ذاك الشوق الذي توسد الأحلام، وحلق في جنبات روح ظمأى،
تاقت عمرا ً إلى أن تتوسد ولو ركنا ً قصيا ًمن زوايا الدفء التي ما زالت تعطي
طعما ً لوجود بارد... عاشته حلما ًوردياً رغم أنها قد أيقنت أن الأحلام
هجرتها في مسيرة حياة قضتها ترفأ أخاديد حفرها القدر في رحلة شابة فتية
تفيض أنوثة.. تفتح قلبها لكل ما هو جميل في هذا الوجود... إن كان في
مرج أخضر لاعب الندى، أ و برعم فتح ذراعيه لأنسام يخفيها معطف نيساني يفوح
عبقا وشذى... قلبها كان غراً.. شفافاً.. ندياّ ً.. ساذجا ً لربما
.. ظنّ أنّ الجمال لا يكون إلاّ صافيا صادقا ً سافر الوجه....
عاد المسند يتململ ...."إلى أين تراها تريد الوصول هذه المسافرة أبدا ً، وكأنها ظنت أنه ملزم باستيعاب أحلامها ، وذكرياتها..."
لم تكن تدري بكل ما حولها، ولا يوقظها من شرودها إلا المسافر
الراكب بجانبها يستأذنها لتخلي له طريقا ً، ربما ليقضي حاجة أو ليحرك رجليه
في ممر الطائرة .... "كلها ثلاث ساعات" أسرها مسند المقعد في باله،
وأرتاح....
كان لقاؤها به لقاء غريبا ً، لربما إذا قص على مسامع أناس كثيرين
لا يصدق ، ولبرما يستهجن ! ولكنه زمن عجيب حمل من المتناقضات الكثير... ولربما
هي جزء منه في غرابته وواقعيته ...
عمر طويل قضته تلملم أعباء الزمن والوحدة القاتلة مع طفلة صغيرة
كانت نتاج تلك الأنوثة الرقيقة وزيف الأحلام ومرارة الواقع... صار بينها
وبين الجدران حولها وبين أعماق ذاتها ألفة متينة ، أهي ألفة الغرباء حين
يجتمعون في طريق غريب؟!
لا تدري ما الذي أثاره فيها ذات مرة ذلك الجهاز الصامت الذي هو
نتاج حضارة جديدة عاشتها مرغمة عبر زمن ينفر من الجمود ، ويرفع شعارات
الحداثة والتطور ، والذي رافقها غريبا ً يرقبها في صمت يغص بالكثير من الأسرار
، والذي لم تكن لتعيره اهتماما ً إلى حين سمعت من صديقة لها أن وراء تلك
الآلة عالما ً غريبا ً لو قدر لها أن تتواصل معه لخرجت من عزلتها ..
كانت حذرة في تقبلها للجديد رغم قدرتها على التأقلم معه سريعا
ً..فقد ألفت عزلتها وانفرادها مع نفسها ، لذلك لم يكن ذلك الجهاز الصامت
ليتعدى أن يكون تسلية أو نافذة لابنتها الشابة التي ورثت عنها طموحها ، وإن
بجرأة أكبر كانت تدفعها إليها حين كانت تدربها على تخطي ما رفضته في ذاته....
وما هي إلا دفقة ... كعادتها حين تنوء بالعزلة وتثور على ذاتها ..
لم لا تجرب أن تقيم علاقة ود مع الغريب الناظر إليها بصمت وفي عينيه طوفان من
الكلمات ؟! لم لا تشرع نوافذ إلى العالم الواسع دون أن تعكر ملكوتها العزيز ؟!
وكان لها ما أرادت.. .. لم يتعد الأمر طويلا ً، وغدت تلك النوافذ
مشرعة لعالم لم تجرؤ يوما أن تحياه ... أن ترى عالما أن تتواصل معه وأنت
متحكم بمفاتيح صغيرة ، ترفض ما لا تريد وتغلقه حاميا ً نفسك من انفعال لربما
قضّ مضجعك أياماً وليال ...شيء جميل ، بل رائع !..
صارت تعود إلى بيتها لهفى ..إلى الضجيج الجديد الذي اخترق سكون
منزلها ونفسها يوما إثر يوم ... غاصت في ذلك العالم الغريب كما غاص به
الكثيرون ممن حاولوا أن يقتحموه.. .. تعايشت معه لكنها في قرارة نفسها لم
تكن ، ولا خطر لها في بال أنها ستسند رأسها يوما ًإلى مقعد في طائرة مسافرة
إلى مجهول لم تعرف عنه غير صورة أو صوت وبضع حكايات حكاها عن نفسه ..!
طريقة حياتها علمتها الجرأة قليلاً وإن كان الخوف ما زال كعادته
القديمة تعشق جدرانها ، ومارس استعباده الرهيب لأحاسيسها ..
هي امرأة حملت كهذا الزمن من المتناقضات ما تراه ملقى ً في كل ركن
أو جانب طريق ..
شيء ما في صوته .. عبق ما وصلها من أنفاسه نشر أصداء من الدفء في
جدران بيتها، انعكست في بريق عينيها وألق وجهها وأحاسيسها إشعاعات من
السحر حتى كأنك في معبد فرعوني قديم، أو كأن أحد ملوك الفراعنة أراد
مؤانستها فزفه إلى عالمها.. أشياء في داخلها كانت تبعدها، وتردها في
اللحظة ذاتها إليه.. أهو حلمها المنشود أم أنه كغيره من الربابنة، ممن
اعتادوا الإبحار كل مساء ليعودوا بعد سفر طويل إلى حيث تركوا ذاكرت ظنوا أنها
تنتظر وقد غدوا لها المرفأ ؟؟ ...
"لا بد من المخاطرة" .." اعتبريه مجرد حلم ترطبين به أيامك
الفارغة .." تلك هي الكلمات التي طمأنت بها مشاعر وتمردات غريبة انتابتها
لأيام ٍ وليال . ..
حين نزلت سلم الطائرة إليه لم تكن السلالم درجة، فدرجة، بل
مرتفعات من قيعان غريبة الشكل، واللون، والإحساس... تصافحا ببرود فرضه
الواجب عليهما .. رأت ملامح الخوف والترقب في ظلال عينين طيبتين، وبشرة أبى
الزمن إلا أن يسفر عن سنوات رغم محاولة صاحبها إخفاءها ببقايا شباب، لم يكن
صاحبه ليعترف أنه قد أدار له ظهره في أواخر الطريق ..
ظهر الدرب غريبا ً شاحبا ً مصفر الوجنات، رغم محاولة رفيقها أن
يكون فارس الأنس والضيافة والشهامة والجاه ...
في داخلها شيء ما كان يستصرخها.. ما الذي أقدمت عليه.. من أين
أتتك كل تلك الجرأة...
كيف فارقت من أنست إليها عمرك.. إنها لخيانة كبيرة..
" لا مفر لا بد من متابعة المشوار .."
هذا ما هدأت به نبضات قلبها، وقد جمدت اللهفة البكر التي طارت
بها، حين فكرت يوما ً أن تخرج من جدرانها... ويبدو أن رفيقها كانت تعتمل في
نفسه أمواج، تمتد حينا، وتتقلص أخرى.. مسترقا ً النظر تارة، ومجاهراً
أخرى، وفي عينيه خوف أو ترقب لردة فعل متحفزة لم لم تشعر بدفئه؟! لم ازداد
ركام الجليد انتصابا ً ؟!
أتراه يريد اختراق عنان السماء لسد أية ثغرة للدفء يمكنها أن
تتأوه في حياتها ؟؟ " ...
جيوش من الانفعالات ، أدوات الرفض، وبراكين الحنين لم تستطع
أبداً أن توقفها .. أبرمت إضرابــاً على شلالا ت الدفء اشتاقـت للخوف ..
لجدران المنزل الصغير.. لكل أزمانها .. لغربتها.. لأنوثتها الشقية .. .
لريحانة القلب التي بعدت عن العين فتربعت الشرايين.. لحدسها .. الذي أومأ
إليها من بعيد بنظرة لوم ٍ وعتابٍ.. وهاهي تلقي بكل تمردها عند قدميه
معلنة توبتها.... اشتياقها.... صرخة ارتياح... أطلقها المسند الغريب لكنه
لم يستطع إلا أن يعلن استسلامه لخدر لذيذ عانقته به شلالات من الدفء لم يعرف
لها نهاية........
أمان السيد / صيف 2006- مابين اللاذقية والعودة إلى الشارقة
أضيفت
في 12/12/2006/ خاص القصة السورية /
المصدر الكاتبة
خطوات....
التفتت وراءها تصيخ السمع.. ثمة خطوات عجلى تقرع إسفلت الشارع..
قطرات المطر ترشح من مظلتها.. من ثيابها.. حتى من أنفاسها.. كل ما
حولها بارد ثلجي.. إلا دقات قلبها..
تزايد قرع الدقات على جدران القلب الهادئة مع تزايد الخطوات
اقتراباً..
الظلام شديد الوطء على كل ما حوله.. لكنها لم تكن لتشعر بالخوف قبل
تلك اللحظات.. كانت سعيدة كعادتها حين تمشي تحت المطر..في مشيتها تلك تشعر أنها
امتلكت العالم.. تربعت سيدة متفردة على عرشه ..
في كل حين تمنت لو تمطّى الليل وركب ألف حصانٍ وحصانٍ تطاولت العتمة
. . تثاءبت .. أن يفيض المطر أنهاراً تغمرها ..
شتاء مدينتها في كل عام كان يزداد جمالاً.. ألقاً .. كثيراً ما
تنبأت به قبل أن يزورهم ضيفاً لطيفًا كل عام.. ترقبه من نافذة صغيرة في باب
بيتهم الكبير.. يحمر الأفق يختلط بتموجاتٍ وردية، ناريةٍ.. يحزن ، يعبس،
يكفهر ثم يعربد كسكيرٍ سلب منه شرابه ..
آه كم كانت عربدته جميلة، حين يعانق الأرض تعبق رائحة غريبة.. هي
مزيج من العطر ، النشوة، السموّ، العطاء.. تسير في شرايينها لتنبثق منها حياة
جديدة في كل عام..
ما بها الخطوات تتزايد.. تحتدّ بشكل غريب ؟؟ لماذا تريد أن تعكر
عليها ملكوتها العزيز ؟؟ لماذا تريد أن تقف لها في الطرقات تحت المزاريب؟؟..
لماذا تريد مشاركتها مظلتها الغالية .. قطرات المطر ، والعطر..
انبثقت الحياة فجأة في أوصالها.. وعبر لحظة لا يمكن أن تقاس إلا
بإصرار العالم كله ..بقوة عبق الأرض.. عطاء التربة.. كانت منها التفاتة..
وإذا بالخطوات تسابق الريح.. تاركة وراءها مجرد أصداء..
((هي لحظات حقيقية من الذاكرة من شتاء اللاذقية ..))
بطاقات صغيرة..
للاعتذار
يوم الأم هو اليوم..
ما ذنبها ابنتي الجميلة الرائعة أن أتيت بها إلى هذا العالم.. لمجرد
أن حلمت ؟! وعشت ذات يوم قصة من قصص ألف ليلة وليلة التي لطالما غرقت في
أحضانها منذ أن وعيت العالم حولي..
لم أكن أخرج يوما إلى حدود ما وراء الصفحات والأسطر إلا لأحلق بين
أحضان الشجر والسماء....
حرة طليقة لفظني، بطن أمي، ذات يوم بعد أن تأوّه رحمها متثاقلاً
" متى؟ إلى متى؟ يكفيك حناناً .."
سلّمني إلى عناق مع المجهول في أرض أبت علي إلا القسوة ..
تهت في هذا الكون الفسيح..كان عالمي صافياً .. قاسياً حمل في جنبيه
كل المتناقضات إلا ّ الحنان ..
قال لي ذات مرة " أتطمعين بحنان الأرض؟! يكفيك جشعاً !!" ..
تخطر في بالي عبارة مألوفة، كل ما أذكره أنها في ذاكرتي منذ أمد
بعيد
" أيها المعذبون في الأرض، دعونا نحمل بعضاً من عذاباتكم.."
كأنني منذ زمن قديم أحسست أن جزءاً من عذابات الأرض سأحمله عل كتفي
ّ!!
وامتد بي الزمن وتطاول وكأنه يعتذر مني وقد تثاءب الحنان في داخله قليلا ً...
رائعة أنت بنيتي الصغيرة !.. لن يلفظك رحمي أبداً.. يحتويك
يلملمك، يحتضنك.. يغذيك.. وإن كان يئن بعيدا عنك...
لشد ّ ما يؤلمني ولوج جدران الصمت في كل يوم ،
دون أن تفاجئني زغاريد عينيك سابقة حتى الصدى
في اختراق شقوق الباب لتصل إلى قلبي
تعيد إليه طمأنينة ما عهدها إلا في تلألؤ ثغرك
حين يمطرني بأفياء تلملمني تبعثرني
موجة حنين تحتضن صقيع الأرض
تغمر بالدفء
حتى أعنف قلوب أهل الأرض قسوة ...
|