أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 03/09/2022

الكاتب: محمد صباح الحواصلي-أميركا

       
       
       
       
       

 

 

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

•سوري من أهالي مدينة دمشق, مواليد 1949

•دبلوم في اللغة الإنجليزية من معهد "انترناشيونال هاوس", لندن 1971 – 72

•ليسانس في اللغة الإنجليزية وآدابها من جامعة دمشق عام 1976

•عملت في حقلي الترجمة والتدريس 1973 – 1976

•ثم خبيرا في الترجمة في المؤسسة العامة للكهرباء, دمشق, عام 1980

•عملت مترجما ثم مديرا إداريا في شركة أوشكو بي آيه أي, الرياض 81-86

•عملت مساعدا للمدير الإقليمي في شركة وستنجاوس, الرياض, 86-88

•ثم مديرا إداريا لشركة الجريسي لخدمات الكمبيوتر, الرياض, 1988

•عضو جمعية أصدقاء مدينة دمشق.

 

•أكتب القصة القصيرة منذ عام 1982 في الصحف السورية والعربية.

•صدرت مجموعتي القصصية الأولى "منمنمات على جدران دمشق القديمة" في دمشق عام 1990

•وفي ملف (قضايا أدبية.. العدد الخاص بكتب عام 1991) من جريدة "الأسبوع الأدبي" السورية أختار الدكتور بديع حقي كتابي "المنمنمات.." (مع كتاب آخر للقاص فواز حداد) ليكونا من كتب ذلك العام.

•شاركت في أمسيات قصصية في المركز الثقافي في دمشق.

•أعد للنشر مجموعتي الثانية "غرق السندباد", وأعمل على ترجمة مجموعتي "المنمنمات...", Miniatures on the Walls of Ancient Damascus, إلى اللغة الإنجليزية.

 

•لي ثلاث مجموعات قصصية لم تنشر بعد. وهي:

"غرق السندباد", و"تكوين", "حكايات مخزن شارع 44".

وقصص هذه المجموعات نشرت في الصحافة الورقية والإلكترونية.

•ومجموعتي الأخيرة "طفولتي تسرب حكاياها" قيد المراجعة.

 

•مقيم مع اسرتي في سياتل, الولايات المتحدة, منذ عام 1992.

•أعمل حاليا في بنك لاينز للعيون, Lions Eye Bank.

 

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتب

خبيزه

تجليد ازرق

بطاقة عزاء

بحجم الكف 

خيبة

انه الدولار

النقيضان

السديم

السقوط

إحساس

كانت الشمس مشرقة

غرق السندباد

عش الغراب

شجرة الزيتون

رهان

لمسات المساء الأخيرة

منمنمات

بعد فوات الأوان

وستكون الأيام جميلة

ويمضي الخوف

 

 

السديم الدافيء

 

بخارُ الماء حجبَ الرؤية, موَّهَهَا, غيَّبَها حيناً وأظهَرَهَا حيناً آخرَ من خلفِ السديم المخضب بصابون الغار وعطور الزنجبيل والياسمين. كنَّ جالسات لا يستر عُريهنَّ إلاَّ الآزر البيضاء, المقلمة بدروب خضراء فاهية. الصبايا منهنَّ كنَّ عارياتٍ, يتخطرن بين سحب البخار الدافيء على الرغم من أنَّ أوامر نائب دمشق, سيف الدين منجك, تقضي بإلزام الناس, نساء ورجال, بالتستر بالمآزر في الحمامات.

 

من بين سحب البخار الحليبي كانت عيون النساء الواسعة كعيون البقر تتفحص تخطرهنَّ بدقة ودربه. تتسسلط على النهود, على امتلاء الأفخاذ, على البطون والمؤخرات. عينُ رضى من هنا, وعينُ سخط من هناك.

 

لم يخلُ المكان من أنفاس تشهق بتأوه مكتوم, وعيونٌ مجربة تستحلب النشوة, كما لم يخلو من نسوة يبحثن عن الكمال. ولأن الصبايا مللن التخطر فقد بدأن يتراشقن بطاسات المياه, وعيونهنَّ من خلف السديم الدافيء تسترق نظرات السماح إلى النسوة الكبيرات.

قالت منيرة "البلانة": " بس يا بنات لعب."

ففتر لعبهن, ولم يعد البخار الكثيف يعانق المياه العابثة.

همست أم نادر بأذنها: "يا ليت خليتيهم عم يلعبوا.."

فهمَتْ الأخرى. فهمَتْ جيدا: "هيك قولك؟"

فنادت "البلانة": "العبن يا صبايا.."

عادت البنات للعبهن بفرح غامر, وعادت نظرات الكبيرات تنغرز في لحمهن, تستلهم تلويهن, تستأنس تخطرهن, تغوص في ثنايا وانحناءآت اجسادهن فاحصة. معان جديدة للجمال كانت تنسال كالسديم. وكانت أصوات الصبايا, وصراخهن, وضحكهن ينجدل ضفيرة واحدة مع نظرات فاحصة حاسمة لا تعرف المهاودة.

قالت منيرة "البلانة": "شو قلت أم نادر؟"

أجابت أم نادر: "الثانية التي أمام الجرن."

"هذه اسمها سميرة.. والله مزوقة يا أم نادر. البنت حلوة وأكابر. جمال ومال واخلاق وبنت عائلة. (وأشارت إلى المقصورة الثانية وتابعت) هذه أمها.. أم تيسير زوجة الفاكهاني بتم سوق الهال"

قالت أم نادر:

"باين عليها بنت ناس.  ألم تلاحظي أنها لم تلعب بالماء كثيرا."

"نقول على بركة الله.. ونحكي مع أمها؟"

"أعطني كم يوم يا منيرة."

 

**

 

وقت العصاري, في "الفرنكة" المطلة على أرض ديار البيت, والشمس حلوة الملمس من وراء الزجاج المعشق, المفروش بألوانه الحمراء والصفراء والخضراء والزرقاء على فسحة المكان... كانت أم نادر جالسة على الكنبة تقول لإبنها نادر.. "لا يجوز يا أبني أن أصف لك أكثر من ذلك. البنت كاملة مكملة.. أنت بتعرف ذوق أمك."

 

وقبل أن تغيب الشمس, التمس نادر خلوته المنفتحة على السماء ونجومها.. قضى وقتا يستحلب تصوراته على سطح الدار, تحت عريشة عنب بلدي, فيما شرعت الشمس تلملم ضوء النهار, وتنشر كتل العتمة فوق المدينة القديمة وهي تغوص من خلف صفائح التوتياء المسورة لحدود السطح. لذَّهُ الهدوء النسبي وهو يداعب خيالاته الغفلة محاولا أن ينسج صورة لتلك الأنوثة السديمية.

 

هي بضع كلمات جادت بها أمه. بضع كلمات فقط استطاعت أن تتمطى في خياله راسمة في فضاء ذهنه صورة واحدة لأنثى لم ترها عين ولم تسمع بها أذن. وسرعان ما احتوته الصورة وذهبت به إلى قرار عميق من اللهفة والوله, وشملته سكرة الرؤى, وتمنى الا يفيق من غيابه الفردوسي. ومع انغماس الليل في العتمة, وانتشار الصمت وفوح الياسمين في فضاء المكان, غاب نادر في رؤية بيضاء فارعة الطول, ممشوقة القد, نهداها يتبرعمان كزري ورد, وشعرها الأسود مخضب بالدفء, مسترسل على الكتفين كأبجدية عصية على الفهم, غائرة في السرية.

سياتل 26 كانون الأول 2005

 

 

 

إحساس

 

انتزعت بطل قصتي من جلسته الهادئة, وسط عالم يغلي, فيما كان يتابع برامجه المختارة عبر الفضائيات العربية وغير العربية, ومسخته بارادة حانقة جاعلا منه صرصارا حقيرا ليس بالضرورةِ أن يكون شبيها بصرصار "كافكا". وأردتُ أيضاً أن يكون مقرفا, فجعلتُ وجه المرأة التي صادفته على أرض مطبخها, مشمئزا يعتصرُه القرف فيما هي تلتقطه بملقط وتلقي به في كيس نايلون أسود يُغلفُ سلة القمامة. ناداني بطل قصتي:

"هيه يا أستاذ؟ ماذا دهاك! أي قدر مقرف وضعتني به! ارجعني إلى ما كنت عليه.. أرجوك.."

وأردف قائلا: 

"ثم ماذا تريد أن تقول لقرائك؟ ماهذه الفكرة العظيمة التي جعلتك تمسخُ إنسانا مثلك وتلقي به في غياهب المجهول؟ أنتَ تتحمل مسؤولية استحالتي إلى حشرة؟"

اسقطتُ بطلي فوق طبقة كثيفة من الزبالة, وبما أن الصباح كان قد استفاق لتوه فقد تعين عليه أن ينتظر طويلا حتى تمتلئ سلة المهملات.

"أرحمني يا أستاذ..هل تسمعني؟"

ثم مرَّتْ  فترة صمت عصيبة كاد خلالها أن يختنق وسط الفضلات. كان واضحا أن المساء قد أقبل, أدركَ ذلك من السكون الذي خيم على المطبخ, وهاهي ذي يد تلوي عنق كيس القمامة الأسود فينضغط بطل قصتي مع الفضلات, وبدأ يشعر بالتلويح والهبوط.. ثم أخيرا بصدمة عنيفة ركن بعدها مع الفضلات داخل الكيس الأسود قرب جذع شجرة كينا على الرصيف.

حركة السيارات التي أخذت تفتر بدت له آتية من عالم افتقده ولن يعود إليه, وأحاديث السابلة ينصت إليها بشوق واهتمام وكأنها آتية من دنيا لن يعود اليها. تمكنتْ منه غصة فبكى. تعجَّبَ بطلي كيف أن حشرة مقرفة تحس وتبكي.. تساقطت دموعه الدافئة على القمامة التي طوقته من كل جانب والتي بدت تتفسخ وتنحل. بعد قليل, أحس بشيء يعبث بالكيس فتملكه خوف طغى على أي إحساس آخر. لا بد أنه قط!

"يا أستاذ.. يستر حريمك اخرجني.. إن لم تكن تريد أن تعيدني إلى حالي السابق إنسانا مثلك فعلى الأقل انقذني من هذا الوحش الهائل الذي يهم لإلتهامي."

الكيس يتمايل ويهتز. فعلا.. لا بد أن القط يدسُّ أنفه في المواضع التي يمزقها بمخالبه, في المواضع الشهية. ولابد من أن يكون بطلي هو المُشْتهى لدى القط. لا يدري إن كان يصلح له طعاما لذيذا ما دام قد استحال إلى حشرة حقيرة, بل ربما مقرفة أيضا. ولكن هذا لم يمنع من تعاظم خوفه, ولا سيما بعدما شعر أن أنفَ القطِ قد استقرَّ عند الجانب القريب منه. يهمسُ بطلي خشية أن يسمعه القط:

"يا أستاذ؟ يا كاتب؟ يا مثقف؟  يا بني آدم؟ يا بطيخ.. أخرجني لعنة الله عليك.."

النبش أخذ حركة أسرع.. تمزيق متلاحق وقد خفَّ ضغط القمامة على أثر اندلاقها عبر الثغرة التي أحدثتها مخالب القط. تأهب بطل قصتي للدفاع عن نفسه التي استحالت إلى شيء حقير مقرف.. إمَّا هو أو القط.. ولن يدعه يلتهمه رخيصا. خاف – وإنه ليعجب لِمَ خاف- تساءل حتى الحشرات المقرفة تشعر بالخوف وتسعى للحفاظ على بقائها. بإمكانه الآن أن يلمح مخالب القط الوحشية وهي تنبش باحثة عنه فأدرك أن موته قادم لا محالة. ويحدثني وقد تملكه الرعب:

"إذا لم تكن تريد أن تنقذني, فقل لي بصفتك الكاتب العارف لمصيري.. هل سيلتهمني هذا القط؟ أنا أعرف أنك لا تستطيع أن تبوحَ بذلك أمام القراء فتفسد القصة.. لذا بإمكانك أن تهمس في أذني.. ماذا قلت؟" 

كان هذا الإحساس مصاحبا لهبشة مخلب القط على وجْهِ حشرتي, ومصاحبا أيضا لصوت وقوف سيارة كبيرة ثقيلة, تبعه صوت آدمي, ثم خطو ثقيل, ثم يد تلم القمامة الساقطة من ثقب الكيس, ثم شعر بطلي أن الكيس قد حُمِلَ بعنف وأُلقي به داخل السيارة, ثم سمع صوتا يستحثُ السائقَ بمتابعة السير:

"يا اله روح.."

لو تتصوروا كم كانت سعادة بطل قصتي الجريح عظيمة بخلاصة من مخالب القط الذي كان على وشك أن يلتهمه. بامكانه, وهو يعتلي الآن كومة القمامة في شاحنة الزبالة, أن يرى القطَّ الخائب. لم يستطعْ أن يكتم شماتته من القطِ  وقد تمكن من الفرار من مخالبه, فانفجر ضاحكا على خيبة القط وسوء حظه, ولعن أبا المؤلف مئة مرة, حتى غابت السيارة ببطلي بعيدا عن خطر القط, إلى قدره المجهول,  إلى أن بدا القط والمدينة نقطة سوداء مشوهة الشكلِ تحت مصباح الشارع الباهت.

 

أضعُ قلمي بعدما انتهيتُ من قصتي التي اسميتها "إحساس", ودخلتُ إلى الحمامِ ونظرتُ إلى وجهي في المرآة فيما كنتُ أمسحُ بمعقم خدشا في خدي.

سياتل, سيتمبر 2004

 

 

السقوط

 

 

إذاًً لم يكنْ عابراً غريباً الرجلُ الذي وصلَ في وقتِهِ إلى ساحَةِ الملعَبِ, بل هو نفسُهُ مدرسُ التاريخِ, والطلبةُ الذين يرتدونَ القمصانَ الزرقاءَ ويلعبونَ بمهارةٍ وحِنكةٍ هم تلامذتُهُ.

المشهدُ كامل الحضورِ, وكأنَّ كلَّ شيءٍ من حولِهِ مقدرٌ له أن يصيرَ لكي يُلقي بالعبرةِ لذوي الألباب من الصبية والمتفرجين, ويثيرَ الدهشةَ في نفوسهم.

الوقتُ هو ظهيرةُ عطلة الجمعة أو السبت أو الأحد, وفسحَةُ الملعَبِ الخضراءِ الواسعَةِ تحمَّسَتْ للعبهم, والشمسُ - سُلطانُ السماءِ - بَدَتْ وكأنَّها قد استأنَسَتْ لعبَهُم فنسيَتْ نفسَهَا, وحسبَتْ أنَّ الزمانَ قد توقفَ, وأنَّهَا لن تبْرَحَ رُكْنَهَا في قبةِ السماءِ.. وكأنَّ هذا الزمانَ هو نهايَةُ الزمنِ..

الصِبْيَةُ يلعبونَ بمهارةٍ منقطعةِ النظير. أقدامُهُم تركلُ الكرةَ من واحدٍ لآخرَ بدُرْبَةٍ وهِمَّةٍ عالية.

الجزءُ الأهمُّ من مشهدِ تلك الظهيرَةِ هو أنْ تُركلَ الكرةُ خطأ في غير اتجاهها المرجو فتتدحرج بسرعةٍ ولهفةٍ صوبَ أستاذ التاريخ الذي كان يسيرُ عند حافةِ الملعبِ وكأنَّهُ على موعدٍ معها فاستوقفها بقدمِهِ, وقد توقفَ الجميعُ عن اللعِبِ وانشدّتْ عيونهم نحوه, والعَرَقُ يسيلُ من جباههم وعبر انحناءات أبدانهم الفتية المتماسكة.

 

تبوحُ الثواني الأولى عن مكنونِها: فمدرسُ التاريخ على ما يبدو غيرُ راغبٍ أنْ يعيدَ الكرةَ إلى الصِبيةِ ليستأنفوا لعبَهم.. بل مقدرٌ له أنْ يفعلَ شيئاً آخرَ: أنْ يدنو من الأرضِ, وفعلا دنى, وأن يُمسكَ بالكرةِ الجَسِئَةِ التي طالما رُكِلَتْ عاليا مراتٍ ومراتٍ عبرَ تاريخِ الكرةِ المديد, وعادَتْ إلى الأرضِ وهمدت عَقِبَ كل مرة..

وأن يريحها قليلا على راحة يده, يهيؤها لركلة جديدة ليست هي الأولى ولن تكون الأخيرة.. وفعلا أراحها على راحة يده.

وأن يرفع بصره نحوهم كأنه يناشدهم ألاَّ تغيب أنظارهم, كما لم تغبْ أنظار الكثيرين من قبلهم, عن مشهدٍ رائع مثير للتفكُّرِ والدهشةِ. 

وما هي إلا ثوانٍ حتى رَكَلَ الكرةَ برأسِ قدمِةِ المدربة الواثقة ركلة دفعت بها إلى أعلى بقوة هائلة مزقت حُجُبَ الهواء..

شهد الجميع كيف تغيبُ الكرةُ في الارتفاع ورؤوسهم ترتفعُ معها درجة درجة وقد اعتمرتهم النشوة, وتمكَّنَ منهم الذهولُ.. تلك النشوةُ التي كثيرا ما تخدع فريقا منهم الذين يحسبون أن نشوتهم ستبقى تصعد الى أعلى دون هبوط وكأن الكرة ستبقى معلقة, ثمة, في قبة السماء لا عودة لها إلى الأرض.

أما الباقون من الصبية والمتفرجين فيدركون أن الكرة التي اندفعت منذ البداية بسرعة هائلة تتناسب مع شدة الركلة ستبقى ترتفع بقوة وثبات إلى أن تبلغ ارتفاعا من المستحيل أن تتجاوزه, وأن سرعتها ستتناقص إلى أن تفتر, فتضعف, إلى أن تبلغ نقطة من المستحيل أن تعلو بعدها ولو قيد أنملة.

هاهي الكرة تتوقف في السماء لجزء من الثانية يكاد لا يبين, بل يكاد لا يكون توقفا بالمعنى الرياضي الصحيح, بل امتثالا لخيار وحيد هو السقوط الحتمي الذي لن تملكَ الكرةُ خلال ذلك الزمن المتناهي في الصغر حتى القدرة على التطلع إلى نقطة أعلى, ولن يكن أمامها الا أن تستسلمَ لسقوطٍ غير إرادي.

 

هي الآن في قبَّةِ السماء وقد استنفذَتْ قوَّتها الدافعة إلى أعلى, واستسلمَتْ صاغرة مطيعة لقانونِ السقوطِ الذي لا محيد عنه, والذي سيضاعِفُ من قوَّةِ نفسهِ مع تعاظُمِ وزن الكرة الساقطة.

 

استدارَ أستاذُ التاريخِ تاركا رؤوس تلاميذه مرفوعة إلى أعلى وقد غطى بعضهم عيونهم براحاتهم درءَ أشعة الشمس, وغاب خارج الملعب, إذْ لم يجد ضرورة بأن يبقى ليشهدَ سقوطاً مؤكداً للكرةِ الذي سيأخذ زمنا مساويا لزمن اندفاعها إلى أعلى مع فارق كبير أن سقوطها سيلاقي الأرض وليس السماء..

سياتل 17 نسيان 2004

 

 

النقيضان

 

كانا يسيران معا على الطريق الزراعي كعهدهما دائما على الرغم من اختلافهما في العقيدة والرأي. وكان الوقت ضحى, والدرب يغري بالمسير والإفضاء بالمكنون, وهاهي ذي الأنسام التي كانت منذ أيام عذبة رقيقة تنسلخ عن عذوبتها مع حلول أول الخريف فيستعر فيها جنون التغيير, وتتوغل في ذؤابات الأشجار المظللة للطريق وكأنها عازمة على أن تسعِّرَ نار الفرقة في أغصانها المتواشجة.

كانا ينظران إلى الأقواسِ الخضراءَ فوقهما, والى خيوط شمس الخريف الواهية وهي تسعى جاهدة أن تتسلل إلى الطريق من خلال الثلمات التي أخذ اليباس يدب في نُسُغِها.

تنهد الأول وقال للثاني:

- ما أخصب ذكريات هذا الطريق!

هبت نسمة باردة مترعة بعبق خلائط أوراق شجر الجوز والصفصاف, وحملتهما إلى زمن يتباهى ببراءته. قال أحدهما:

- ليت أيام الطفولة تعود.

- كيف تعود وقد شقينا بعقولنا.

تنبهت نزعة الجدل في رأسيهما, واستفاقا من هدأةِ الوفاق التي تنتابهما من حين لآخر وكأنهما تذكرا حتمية صراعهما الطويل الذي لن يرأب صدعه. إلا أنهما سرعان ما استسلما لابتسامة راضية راغبة بالسلام, واستكانا للين بعد جماح. فقال الأول بصراحة غير معهودة:

- أتدري أنني عاجز عن أن أهجر صحبتك. ولا أخفيك أنني بدأت أستعذب نمط حياتك التي كنت أنعتها بالإلحاد الفجور.

فقال الثاني بصراحة مماثلة:

- وأنا أيضا لا أخفيك أنني الفت السكن إليك. حتى محرماتك التي قيدت بها حريتي بدأت أتغاضى عنها.

حينها قال الأول:

- لولاك لسقطت في هاوية التطرف.

فقال الثاني:

- وأنت مريح يا صاحبي. لو تدري كم أغبطك على ما تنعم به من يقين.

انقشعت الغيوم غير البادية فوق تلاحم الأشجار فانطلقت أشعة الشمس من أسرها ملتمسة منافذ لها من خلال ثلمات الأغصان. كان واضحا أن هذا الصباح الخريفي المتبدل الألوان حمل ما هو جديد في علاقتهما. حمل صراحة غير مألوفة تسللت من مكامنها في غياهب النفس المجهولة دون إرادة أحدهما لتفصح عن مكنونها.. لتصبح اعترافا مدمرا, صدقا يملك قوة الإلغاء.

 

كانت البداية إحساسا ملحا بالتصريح اعترى الثاني فعجز عن دفنه في سره حيا, فقال وهو ينظر إلى صاحبه بعينين ممتلئتين بخشوع غير مألوف.

- تصور أنني كدت أرى الله في أحلامي.

بهت الأول, فما تناهى إلى سمعه لم يكن في حيز توقعه. غمر صاحبه بنظرة ملؤها الدهشة والرضا وقال له بصوت رخيم:

- طوبى لك.. هذه رؤية صادقة قد اصطفاك الله بها.. انك على طريق العودة يا صاحبي.

قال الثاني وقد وضع يده على صدغه:

- الله.. الحقيقة.. الأزل.. الأبد.. السماء التي لا نهاية لها.. كلها تساؤلات كبيرة حرت في البحث عن أجوبة شافية لها. عقلي لا يحتمل أن يكون هذا الكون قد وجد بالصدفة, كما أنه لا يقبل أن يكون له...

فقاطعه الأول جزعا:

- لا تكمل.. ابقِ دائما مساحة للصلح والعودة.

سكن الأول لحظات ثم تابع حائرا:

- انه حال الإنسان, محكوم عليه بأن يشقى بعقله.

ثم استغرق في صمت حائر. شعر هو الآخر أنه راغب بأن يفيض. بأن يكاشف صاحبه بما يجيش في نفسه من خواطر خطيرة.

- أنا أيضا يا أخي لم أسلم من هواجس الحيرة والشك. فكم من مرة ألفيت فكري يجمح دون قيد, ويسرح بعيدا عن يقيني كنعجة تائهة في البراري.

***

 

ما يزال الطريق بعد طويلا. بل لعله لن ينتهي. إذ أنهما لم يصدف مرة أن قصدا مكانا بعينه يجعلان منه هدفا لسيرهما الطويل. كانا يسيران للحوار, للوصول إلى الحقيقة من خلال اختلافهما في العقيدة والرأي. كل منهما يجزم أنه على صواب, ويرى أن وجوده قائما على صواب معتقده, وأن الحقيقة تثوي بالقرب منه وادعة كقطة أليفة. إلا أن أمرهما في هذا الصباح الخريفي قد اختلف اختلافا يكاد أن ينسفهما من جذورهما. اختلافا جعلهما ينطقان بما لم يكن في الحسبان, ويخرجان من دائرتي معتقدهما. صحيح أنه سرعان ما عاد كل منهما إلى دائرته ولكن بعدما حطم بوابتها المغلقة المقدسة. لذا لم يكن مصادفة أن حمل كل منهما في نفسه أمنية مماثلة لأمنية الآخر وهي لو أن العالم كان شيئا لا يقين فيه ولاشك. لو كانت الحقيقة أشد عيانا وبساطة من عصفور يغرد على شجرة.

 

فكر الأول قليلا فوجد أن مثل هذا التفكير يسلم الإنسان إلى التهلكة, ويسدل على اليقين حجابا, ويند عنه الصواب. ثم قال:

- لقد أراد الله لنا هذا الشقاء.

وأردف الثاني قائلا:

- لنكف عن هذا الحوار.

أقره الأول:

- فعلا ليتنا نكف عنه.

يمسك أحدهما يد الآخر. كلتاهما حارتان يسري في عروقهما دف الحياة. الحياة بشكها ويقينها, بخيرها وشرها, بظلامها ونورها, بجمالها وقبحها, بضعفها وقوتها. كانت كلتا اليدين تنبضان نبضات متوحدة تدب الحياة في نقيضين جابا آفاق اليقين بقوة وثبات, وتاها في بيداء الشك بضعف وحيرة.

 

الدرب ما يزال يغري بالمسير, والأنسام الخريفية يشتد توغلها في ذؤابات الأشجار المتعانقة. كانا قد غابا في سيرهما حتى أصبحا شبحين, وكان صوتهما يضعف مع البعد حتى أمسى همهمة لا تختلف عن أصوات الطبيعة من حولهما.

كان الرائع أنهما كلما غابا في البعد كلما أقترب شبحاهما من بعضهما, حتى تطابق الشبحان وبات من العسير أن تفرق بينهما..

وذابا معا في طيف إنسان واحد من نور وتراب.

جريدة الأسبوع الأدبي السورية دمشق – سورية19 آب 1993 عدد رقم 325

 

 

إنه الدولار أيها العربي الطيب..

 

(1)

 

وتدخل معهم رائحة التشرد, نتنه لزجة, يدفعها هواء المدن الآثم القادم مع أجسادهم, وتعجِّلُ مكيفات هواء السوبرماركت بإيصال الرائحة للأنوف. هي خليط من عرق الأجساد التي هجرت الماء وامتزجت مع التراب والرطوبة وعبق السجائر الرخيصة وقيء الخمرة.. حتى عشب ضفاف النهر الأخضر الذي يفترشونه تحت جسور مدينة سياتل وضواحيها له حصة من رائحتهم.

إنهم هؤلاء المشردون الذين آنسوا ارتياد مخزن "شارع 44" فأصبحوا يأتون في كل وقت ليبتاعوا السجائر والبيرة الرخيصة, أو يسرقوها إن امكنهم ذلك, ويثرثروا مع طلال قدري الذي يصغي إليهم دائما باهتمام كما يراقبهم بحذر. لم يكونوا غافلين أبدا عن رأي الآخرين بهم.. ولم يكونوا يوما آبهين بما يقال عنهم, لكن الأمر مع هذا الكهل, الذي ينادونه (تلال), القادم من بلاد العرب المشبعة بالشمس والرمال الذهبية والبخور والعقيق والياسمين كان مختلفا..

في اذهانهم صورة عن وطنه البعيد: "أصحيح يا تلال أنكم تعيشون في قصور نيفة فيها حريم وولدان, وشواء  وارز مجبول بالخمر والزعفران؟ وأنكم ترتحلون على ظهور بعيركم, مخلفين قصوركم وبقايا شواء, إلى ما وراء الصحراء حيث ينبت ليل آخر في حضن شمس أكثر إغراء.. أصحيح.. أنكم لا تعرفون الجوع, ولا تميزون بين أبعاد الزمن الثلاثة.. وتخافون الله وتهابون السلطان وتحبون النساء؟"

صرخ طلال ضاحكا مندهشا من جملته المولفة: "رويدك.. رويدك.. من أين أتيتَ بهذا الكلام المضغوط المركزعن العرب.. يا برنس؟ هذا كلامٌ متعوبٌ عليه, كلامٌ جاهزٌ في ذاكرتكم. أهذه قناعتكم عن العرب؟"

"ألا تعتقد أنها الحقيقة يا تلال؟"

"الحقيقة هي أن الذي رسخ هذه القناعة في أذهانكم عن العرب هو نفسه الذي جعل منكم مشردين.."

"اسْمَحْ لي يا تلال أن أخالفك في هذه, لأن الذي جعلني مشردا هو صاحب أمي."  وفرقع ضحكة مجلجلة وضحك معه الجميع, أقصد, البدين الذي يرمي نفسه كل صباح عند بوابات المزارع منتظرا قبوله كعامل قطف "مياومه" في حقول "أبرن" والذي ما يزال يعامل الآخرين باحترام وخجل. والمرأة الفيتنامية التي لا تكلُّ من سرد قصتها وهي تركض باستماتة وراء آخر طائرة تغادر مطار هانوي , وكيف تعلقت بها بأعجوبة وسحبها المهاجرون إلى داخلها, في رحلتها إلى الفردوس المنتظر: أمريكا. أما الثالث, "سافج", وهو شاب عيناه لا توحيان بالثقة, كالثعلب يغتنم غفلة طلال لتمتد يده إلى أي         شيء قريب منه ويدسه في بنطاله, وإن رآه طلال تظاهر بأنه يحك عانته. ثم أخيرا تشارلز, الملقب بالأمير تشارلز , لشبهه الكبير بالأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا. مشردٌ في الستين قصير القامة, انحناءة ظهره مشبعة بالانكسار والإرهاق, أما مكان إقامته هو ورفاقه فحسب الفصول.

ففي الخريف, الفصل الذي  تغضب فيه أمنا الطبيعة بجنون, يلتصقون ببوابات الكنائس والجمعيات الخيرية أو مشافي "هاربر فيو" و "السودش" و "فرجينيا ميسن" هربا من الأمطار والرياح, والتماسا للدفء.

وفي الشتاء يدلفون إلى داخل الكنائس والجمعيات حذر البرد القارس والأمطار التي لا تكف عن الهطول, أما مَنْ لم يعدْ جسده قادرا على غضب شتاء منطقة "بيوجت ساوند" فتراه ينعم بأيام في غرفة دافئة في مشفى "هاربرفيو".

أما فصلا الربيع والصيف فلهما شأن آخر لأنَّ المشردين يعودون مع عودة الدفء إلى أماكنهم المفضلة تحت جسر اوتوستراد "آي فايف" عند تقاطع شارع جيمس مع الجادة التاسعة فهناك ينامون ويبولون ويتغوطون ويشربون قهوة "ستاربكس". وعندما تغفو المدينة وتغيبُ بعيدا آخر سيارة شرطة في سيرها الوئيد كثعلب شبعان, يشعلون لفافاتهم, ويخرجون زجاجات البيرة التي سرقوها أو شحذوها من معاطفهم يكرعونها ثم يفرغون مثاناتهم فيها ويدحرجونها إلى نهاية المنحدر المنتهي بالشبك الذي يفصلهم عن الشارع, وعندما تعربد البيرة في رؤوسهم ويطيش حس الزمان فيها يغيبون داخل أغطيتهم وتندس أيديهم في أبدان بعضهم وتنزلق إلى أسفل, إلى بؤر النشوة والغياب,  يمارسون الاستنماء, وغناء (البلوز) الحزين تحت الاغطية النتنة.

 

 

(2)

 

يدخل "البرنس" السوبرماركت بعد غياب طويل.. يصرخ طلال:

"أين أنت يا رجل؟ حسبتك مت."

"ولماذا أموت إذا كانت شوارع أمريكا ترعاني.."

"أين كنت إذن؟"

"في الدنيا الواسعة.. أضيُّعُ الأيامَ.. لعنة الله عليها لا تريد أن تنتهي."

"وأين الباقون يا برنس؟"

بحركة  من البرنس  فهم طلال أنه بحاجة إلى سيجارة لكي يجود في الحديث. أعطاه طلال بدلا من سيجارة علبة (بولمول) دون فلتر, فرقص البرنس فرحا.

"أوه.. أيها العربي الطيب.. لقد أفتقدت كرمك, وكان من الحمق أن أغيب عنك لزمن طويل."

"لم تجبني يا برنس أين الباقون؟"

"تسألني عن الباقيين؟ الفيتنامية انفجرت الزائدة الدودية في بطنها وماتت تحت جسر أوتستراد (أي فايف) القريب  من مستشفى هاربرفيو. والمؤدب تزوج عاهرة وأصبح قوادا, وهو الآن أكثرنا سعادة, ينكح كل يوم ويأكل طعاما طاذجا وينام في سرير وثير. أما "سافج" الأشقر, الذي وصفتَ عينيه بأنهما لا توحيان بالثقة, فقد سيق إلى العراق مع الكثير من شباب عشائر التشرد.

"جندوا ليحاربو في العراق!؟"

"جاء رقيبان باللباس العسكري الأنيق, والحلاقة القصيرة, والابتسامة الجذابة واختاروا بعضا من رفاقنا الشباب الأصحاء, وتحدثوا معهم في قارعة الطريق.. واقنعوهم بأن يلتحقوا بالجيش الأمريكي بعدما اغدقوهم بالوعود."

"والآن هم في العراق؟ أليس كذلك؟"

"نعم, هم في العراق.." ثم أضاف البرنس ضاحكا:

"لقد خاس كل واحد منهم بضعة باوندات بعد أن غسَّلوهم ونظَّفوهم وحلقوا شعورهم وركَّضوهم ليذيبوا شحوم التشرد عن ابدانهم.. وأنتَ إن رأيتَ "سافج" الآن لما عرفته لقد أقسم عندما دس دولاراتهم في جيبه على أن ينفذ أوامرهم هناك بكل طاعة وأخلاص.. إنه الدولار أيها العربي الطيب.."

صمت طلال وتشاغل عن البرنس بمسح الطاولة قرب الآله الحاسبة وتلقى بقية كلام البرنس في صمت مشغول مشحون بالأسى. أخرج البرنس سيجارة بولمول, ولعَّب حاجبيه مفتخرا بالسجارة بين شفتيه, وسار يجر رائحته وخطاه المتعبه إلى خارج المخزن ليدخن سيجارته.. وفيما هو يخرج التفت إلى طلال وأشار بيده نحوه وهو يقول:

"إنه الدولار أيها العربي الطيب."

رآه طلال من خلف الزجاج وهو يقدح بقداحته الرخيصة محاولا اشعال سيجارته, ثم وهو يدخنها بنهم وقد بدا سعيدا فيما هو يسير ويحدث نفسه.

6 أيلول 2004

نشرت في العدد الأول من صدى المهجر , ربيع 2006

 

 

بحجم الكف

 

 

أول قصة نشرت لي في جريدة* جعلتني عصفورا يطير في سماء تتنفس فرحا. يومها شعرت حقا أن ثمة ما هو أروع من أن أمتلك العالم بأسره.

ياه.. أذكر كم كانت بهجتها ساحرة. كانت قصيرة, بل قصيرة جدا, بحجم الكف, ليس أكثر من مئة كلمة. قصة شفافة, رمزها خفيف مستساغ.

المهم, أنني هرعت إلى صاحبي.. هرعت إلى منزلة البعيد لأزف إليه انتصاري. وصاحبي, مثلي, متعلم ويدرس في الجامعة.. في كلية الآداب أيضا.

فرح صاحبي لفرحي, وقال لي ألف مبروك, وعقبال ما يصبح لك مؤلفات تغزو العالم العربي كله مثل يوسف إدريس.

قلت لصاحبي: "اقرأها."

قال: "سأقرؤها."

خرج من الغرفة وجلب صينية القهوة ثم حدثني عن أمور كثيرة دون أن يمسك بقصتي التي بحجم الكف ويقرأها! أصغيت إلى حديثة وقد افتعلت الاهتمام بما يحدثني وكأن أمر قصتي التي أتيت إليه من أجلها لا يعنيني.

عندما خرجت من داره أوصيته أن يقرأها. قلت له إنني حريص على سماع رأيه فيها. قال: "أكيد."

مر يوم ويومان وثلاثة. عند ضحى اليوم الرابع اتصلت به.

- "هيه.. قل لي كيف رأيتها؟ هل أعجبنك؟"

قال:

- "ما هي؟"

قلت له:

- "قصتي التي بحجم الكف!"

قال:

- "قرأت مطلعها, وكدت أصل إلى منتصفها لولا أنني شغلت. أعدك أنني سأقرؤها في القريب العاجل وأطلعك على رأي فيها."

انتهت حكاية قصتي التي بحجم الكف.

خريف 1991

* أول مادة نشرت لي كانت في جريدة الثورة السورية عام 1971.

 

 

بطاقة عزاء

 

 

حزينة أنتِ إذن يا "تاميلا".

حزن يعتصر عينيكِ اللوزيتين ويغرقهما بهالة حمراء من لون دم الغروب.

ها أنتِ تشيحين بوجهك عنهم, اشاحة لا تريد الاساءة بقدر ما تريد أن تعلن طقس الحزن, وكان حزنك باديا للجميع, فانخفضت همهماتهم فيما دخلتِ عليهم وهم جالسون في كافيتريا الشركة. لقد كفوا, ولو إلى حين, عن تبادل الحديث بعفوية وارتياح.. كفوا حتى عن اظهار ابتهاجهم, لأن من حقكِ عليهم أن يلتزموا بآداب الحزن, فليس ثمة أروع من مشاركة الآخرين أحزانهم ومصائبهم.. كلمة طيبة صادقة تطفيء بعضا من لوعة الحزن.  وها أنت تخرجين من الكافتريا بعدما ملأت كوبا بلاستيكيا من مياه جهاز التبريد واحتسيته على دفعات بوقار يتناسب مع مصابك. ولم تطلبي, بمرحك المعهود, من عاملة الكافتريا السمراء قهوتك "الكابتشينو" ككل صباح.

همسَتْ أحداهنَّ لصاحبتها التي لم تكنْ تعرف:

"دهسته سيارة أمس.. مات في المستشفى.."

وفور خروجكِ يا تاميلا من الكافتريا وقفتْ "ايمي", موظفة الاستقبال, وسطهم وقالتْ بصوت خفيض:

"أقترح أن نشترى بطاقة تعزية لتاميلا ونوقعها جميعنا.." 

كانت روح المشاركة والتضامن عالية بين الجميع الا من "طلال" الذي رفض مستنكرا توقيع البطاقة. استهجنتُ ذلك يا تاميلا ولم احدثكِ عن ردة فعله تلك كي لا تتخذي منه موقفا. وأنا إلى الآن يا تاميلا استهجن تصرف طلال, فهو كما عهدناه متحضرا عارفا بالأصول. البعض قال بحرص شديد إن موقفه ربما يكون نابعا من عاداته العربية والإسلامية. قال "أندريه" إن المسلمين, ربما, لا يعزون على طريقتنا, كما أنهم لا يحتفلون بأعياد ميلادهم.. والغريب أن طلال لم يرفض فقط كتابة كلمة لكِ على البطاقة بل بدا منزعجا من الفكرة نفسها, رافضا لها.. بدا ذلك في ملامح وجهه التي لم تستطع اخفاءَ قدر كبير من الأسى الذي ارتسم في أديم وجهه العربي الذي لا تراه الا مستنكرا مندهشا. 

وكان بإمكان طلال, من مكتبه, أن يراكِ ويواسيكِ يا تاميلا. أن يرى ما فعلته الدموع بعينيك الخضراوين الجميلتين اللتين خلف البكاء حولهما تجاعيد دقيقة. والأفظع من هذا أنه لم يحاول حتى أن  يلفت انتباهك وكأنه غير راغب في الحديث عن مصابك. فعلا هو غير راغب يا تاميلا.. بل هو  متألم ومندهش من فكرة بطاقة التعزية نفسها.. متألم من الفكرة وليس منكِ وكأنه يرى أن الفكرة لا مبررَ لها, لهذا تشاغلَ منكبا على مكتبه. كان منشغلا بالتفكير وكأنه يعاين شئيا لا يُصدق.. دائما ترينه حزينا مهموما منكبا على قراءة الصحف, وقد بدا في الآونة الأخيرة يسخر من مواقف كتابها وتحاملهم على ما يحدث في البلاد الكثيرة التي أتى من إحداها.. بالمناسبة, أنا لا أذكر يا تاميلا إن كان طلال فلسطينيا, أم عراقيا, أم افغانستانيا, أم سوريا.. فكل هذه البلاد تبدو لي وكأنها نسخة واحدة عن بعضها. أوتسأليني أين هذه البلاد؟ أنا أيضا لم أكنْ اسمع عنها ولا أعرف موقعها على الخريطة.. ولكننا الآن أصبحنا نعرفها ونجهل موقعها الجغرافي.. وعرفنا أنها كلها قريبة من بعضها, نائية عنا, هناك في البلاد البعيدة ما وراء البحار.

 

لأعودَ إليكِ يا تاميلا.. أعود إليك والبطاقة في يدي قد امتلأت بالكلمات المواسية, التي جهدت ما بوسعها أن تبل أوار حزنك الذي داهمك منذ أمس.. وهل ثمة أروع من المشاركة ولاسيما في مواقف الحزن عندما يفقد الانسان عزيزا عليه.. تصوري لو أن الإنسان يشعر بغياب الآخرين من حوله ويعيش حزنه وحدة دون مشاركة الآخرين! تصوري لو كان الإنسان بهذه القسوة والغياب والتجاهل! لكنَّ ذلك لا يمكن أن يحصل بيننا, وأقل ما يمكن أن نقدمه هو تلك البطاقة المتواضعة التي سنقدمها لك بعد ظهر اليوم - قبل الإنصراف. لعلَّ نفسك حينها تكون قد هدأت وتتيح لنا فرصة نخفف خلالها عن مصابك. أما طلال.. وها أنا أعود إليه لأنني أعرف أن قلبه طيب وأنكِ تقدرينه كصديق فإنني سأحاول اقناعه أن يكتب كلمة على المساحة المتبقية في البطاقة على الرغم من يقيني أن اقناعه ليس بالأمر اليسير. وإن استطعت فسأكون بذلك قد فعلت خيرا.. وكما يقولون إفعل خيرا وارمه في البحر.

 

أقترِبُ من طلال.. يشعرُ من اقترابي إليه, وكأنه عرف سبب قدومي فبقي في مكانه يتصفح أوراقا ولم يلتفت. 

ناديته بصوت خفيض: "طلال.."

فأجابني بصوت مماثل, لكنه منهك:

"ماذا تريدين؟"

"سنقدم البطاقة اليوم بعد الظهر لتاميلا, ولم يبقَ الا أنتَ لم تكتب كلمة عزاء"

وما أن انتهيت من كلامي حتى التفت إليَّ لأرى في عينيه شعلة من نار. اخافتني عيناه يا تاميلا, وتمنيت لو أنني لم آته وما يضيرنا أن تكون البطاقة دون كلماته.. وها أنا ازداد يقينا أنني سأقدم البطاقة لك دون كلماته عندما قال في حدة:

"وهل من الضروري أن أكتب!"

ولا اخفيك يا تاميلا أنني على الرغم من حدة كلامه تلمست أملا من أن طلال سيلين. لا أدري من أين جاءني هذا اليقين.. ربما حسن معرفتي به خلال الفترة الطويلة التي قضيناها معا في الشركة. فأجبته وكلي أمل الا يخيب أملي:

"إنه عزاء.. وهل ثمة أروع من نفس تعزي نفسا مصابة.."

"يا للعجب.. وهل منكم من عزاني بمصابي في وطني خلال السنوات الثلاثة التي عملت بها في الشركة؟.. كل يوم يموت العشرات من الاطفال والنساء وتهدم البيوت وتقلع الاشجار.. وها هي "جنين" لم تبتردْ بعد دماء موتاها.. هل منكم من قال لي كلمة عزاء؟ هل منكم من نظر إليَّ نظرة تشاركني حزني وتستنكر المجازر الجماعية والإبادة المتعمدة؟ الا تقرأون يا ناس الصحف كل يوم.. الا تتسمرون أمام شاشات التلفزيون, ألم ترون إذن ما يحصل في بلادي؟ صحيح أن أعلامكم لايقدم الحقيقة كلها, ولكن يبقى دائما مساحة يظهرُ من خلالها بعضا من الحقيقة. اليوم بالذات لم تستطع الصحف أن تخفي جلل ما حصل.. اقرأي صحف الصباح.. إنها هناك في الكافيتريا. وتريديني أن اعزي تاميلا!"

ولكن بغتة, وبحركة يائسة ساخرة غير متوقعة خطف البطاقة من يدي. خشيت أن يمزقها, ولكن يا لعجبي, أمسك بالقلم بقرف واستياء واضح وقال لي:

"تريديني أن أكتب.. سأكتب.. أهذا ما يرضيكم.."

وضع طلال رأس القلم عند مستهل الفراغ الضيق المتبقي أمام سيل الكلمات المعزِّية المنهاله حول الفراغ بخطوط مختلفة, وبدأ يكتب:

(تاميلا.. لقد اسفت لمصابك..) ثم توقف عن الكتابة وسألني: "ما اسم كلبها؟

"تشارلي.."

ثم تابع:

(وحزنت كل الحزن لفقدان كلبك تشارلي.. منكِ الصبر يا تاميلا.. ومنا السلوان.. مع حبي... طلال)

سياتل  سبتمبر 2004

 

 

تجليد أزرق

 

عادة أشتري ربع متر مربع من ورق التجليد الأزرق لأجلد كتاب أو دفتر المدرسة. ربع متر يكفي وزيادة, فما حاجتنا إلى هذه الكميات الهائلة من التجليد إذن يا أبي؟

يا إللهي! تصوروا أنه يريدنا أن نجلد بها كتبا!

أسأله بفضولي:

"ماذا سنفعل بكل هذا التجليد يا أبي؟"

أعلمنا أننا سنلصقه على زجاج النوافذ, على كل بقعة يمكن أنْ تسرِّبَ الضوء إلى الخارج خلال الليل.

"لماذا؟"

"لكي لا ترى طائراتُ العدو الضوءَ خلال الغارة."

"وماذا ستفعل إنْ رأت الضوء؟"

"ستلقي بقنابلها فوق المكان الذي يخرج منه الضوء."

"تلقي بقنابلها!"

أسرعنا إلى لصق التجليد الأزرق, بدقة شديدة. أذكر أنني لم أترك سنتمترا واحدا من زجاج النوافذ دون أن أغطيه بالتجليد, وكل بقعة أغفل عن تغطيتها يلوح لي من ورائها عين طيار العدو وهي تتوعدني. كنت أنظر إلى أبي كيف يلصقها, فأفعل مثله. قضينا وقتا طويلا حتى جعلنا البيت غارقا في قتامة تعكس اللون الأزرق خلال النهار. وعندما يأتي الليل حرصنا الا نشعل النور. أما عندما نسمع زمور الإنذار وهو يدوي في أرجاء المدينة, بووب.. بووب.. بووب.., كنا نطفيء الأنوار ونركن ملتحمين مع بعضنا, عيوننا مترقبة لا ترمش, نصغي للصمت الذي كان يزحم بالاحتمالات. كنا نسأل عبر الظلام, بصوت خفيض كنا نسأل, وكنا نطمئن لأنَّ اجابة أبي كانت تأتي من مكان قريب منا.

"بابا.. من هو العدو؟"

يجيبني:

"إسرائيل وفرنسا وانجلترا."

أسأله:

"كلهم أعداؤنا؟"

بنبرة واثقة, تلمست فيها صرامة, يجيبني:

"من يريد أن يلقي علينا القنابل فهو عدونا."

وعندما يخرج صوت الانذار ثانية معلناً عن انتهاء الغارة لم نكن نسرع إلى زر النور; فقد آنسنا العتمة والسكينة والترقب, وبعضنا لم يكن هناك, بل كانوا غارقين في نوم أحلامه غير كل الاحلام التي خبرناها.

نُحمل إلى اسرتنا, المصفوفة إلى جانب بعضها, بيضاء اللون, نظيفة, كل سرير منها له جانبان كي لا نقع ونحن نائمون. حملني أبي, فشققت عيني للحظات وأنا ما أزال غارقا في نعيم النوم, شعرت بساعديه الدافئين وهما يحملاني, وبأنفاسه ذات الشهيق العميق, وكنت اشم رقبته التي غطت وجهي, إنها الرائحة نفسها التي كانت تزودني دائما بإحساس الأمان الذي لا يقهر, وبأن العدو وطائراته أمام أمان أبي مجرد خرافة.

سياتل 9 أيلول 2005

 

 

خبيزة

 

 

لقد تغير الأستاذ عايش العنبتاوي كثيراً عن آخر مرة رأيته فيها بعد حرب حزيران 67. كنت أتأمل وجهه المتعب وقد عبثت في غضونه تباريح الوحدة فجعلت منه أديماً هملاً اعتصره الضمور. عجبتُ كيف قضى هذه السنين الطويلة كلها عزباً دون زوجة تملاْ عليه وحدته. نقلتُ عيني في أرجاء بيته الصغير الذي عاثتْ به يد الإهمال وحنَّتْ جوانبه إلى الأنفاس الدافئة. وجدتُ نفسي أعاتبه بدعابة.

"إلى متى يا أستاذ ستبقى وحيداً دون زوجة تملاْ عليك البيت وتأكل معها لقمة شهية؟"

أجابني بيأس ظاهر:

"أية امرأة ستتزوج من عجوز يبس عوده؟ سأقضي مع كتبي ما تبقى لي من سنوات العمر."

"صحيحٌ أن الكتابَ خير جليس, ولكن يا استاذ أنتَ بحاجة إلى زوجة."

أخذ نفساً عميقاً وقال بصوت ينم على إحساس بالنهاية:

"لقد فات الأوان. أنا الآن أعيش مع الذكريات. الذكريات التي لا يدانيها شيء. بعد النزوح كنتُ أمني نفسي بالعودة إلى فلسطين فأرجأتُ الزواج إلى حين أعود. وعندما وضحتْ الحقيقة المرة مع مضي السنين أخذتُ على نفسي عهداً ألا أتزوج ما دمتُ نازحاً. وكما ترى أصبحتُ شيخاً هماً لم يجن إلا الندم."

صمت برهة بدا خلالها وكأنه يداري ذكرى أثيرة.

"منذ عام 48 لم أذق طعاماً مثل ذاك الذي كانت تطهوه أمي. لن أنسى ما حييت ذلك الصباح الجميل وأنا ألعب في باحة الدار حين طلبت مني أمي أن أقطف لها أوراق الخبيزة من البرية. هرعت إلى حواف الطرق الزراعية وتجمعات المياه حيث تنبت الخبيزة. قطفت أينعها حتى ملاْت ذيل ثوبي وعدت إلى البيت."

نظر إليَّ فرأيته بعيداً.. هناك في مواطن الطفولة والأم ينعم بثراء الذكريات ثم أودعني نظرة بدت لي وكأنه يستنجدني بها أن أعيد إليه الذي لا يعود.

لقد أثار في أعطافي شفقة لم أرضها لأستاذي عندما قال:

"ومن يومها – منذ خمسين سنة – لم أذق الخبيزة.     

قلت لزوجتي:

"ما أروع أن نحيي الذكريات العزيزة ونطلقها من أسر الماضي."

وفي صباح اليوم التالي قصدت وزوجي (وادي لبن) غرب مدينة الرياض. هناك تتجمع المياه اثر الأمطار التي تهطل في مستهل الربيع فتشكل تجمعات مائية تنبت على حوافها الأعشاب والنعناع البري والخبيزة. جعلنا نقطف أوراق الخبيزة, ننتقي أينعها وأصغرها حجماً. كنت أرى على أديم كل ورقة أقطفها عيني أستاذي الملتمعتين وقد تهدج صوته وهو يقول: "ومن يومها – منذ خمسين سنة – لم أذق الخبيزة."

عندما شرعت زوجي بغسل أوراق الخبيزة وطهوها كنت قربها لا أبرحها وكأن من تمام المفاجأة أن أشهد طهوها لحظة بلحظة. ثم سكبتها في طبق ولفته بورق (السولوفان), وزودتني بالخبز والليمون. لم أتصل بالأستاذ بل قصدت أن أفاجئه.

قرعت باب مكتبه في شارع التميري ودخلت عليه.

"سنتناول طعام العداء معاً اليوم."

كان الأستاذ يستمع من مذياعه الترانزستور الصغير إلى أغنية قديمة عندما طالعت في وجهه سروراً صادقاً لقدومي. وضعت الطبق على طربيزة زجاجية تتوسط غرفته وعليها إناء زهور اصطناعية. وعندما نزعت ورق السولوفان من على الطبق فاحت رائحة الخبيزة المزينة بالبصل المقلي وحبات الرمان والجوز. كنت أرقب وجهه كي لا يفوتني وقع المفاجأة. غاب الأستاذ في لحظات صمت عبرت عن كل ما يجول في أعماقه من أحاسيس.

كان كل ما أتمناه أن أعيد لأستاذي ذكرى الخبيزة التي أكلها من يد أمه منذ خمسين سنة, وأن أقضي معه وقتاً طيبا بعيدً عن تباريح الوحدة, وأن يمتلك الأستاذ – وأنا معه – شعوراً بأن الدنيا ما تزال بخير. رفع الأستاذ نظره إليَّ وربت على خدي براحته الهزيلة وقال:

"أنت حساس إلى أبعد الحدود.. أنا غني بك."

فأردفت على الفور:

"بل أنت ثراؤنا وبركتنا يا أستاذ. (وقدمت له الخبز) سمِّ الله."

تركته يأكل بصمت وكنت مسروراً لأنني استطعت أن أخلق لحظة سعادة بأزهد الأثمان.. من خير الأرض الطيبة.. أن أعيده إلى بلدته عنبتا.. إلى دروبها الخضراء.. إلى حضور أمه المفعم بالبركة والحنان.

انتهينا من الطعام, وكانت السعادة واضحة على أديم وجهه المتغضن.

"شكراً على دعوتك التي لن أنساها."

وجدت نفسي أسأله طمعاً مني بأن أتبين مبلغ وصولي إلى ذاك اليوم الذي لن ينساه الأستاذ.

"قل لي يا استاذ هل خبيزتي شهية مثل خبيزة أمك؟"

ابتسم في هدوء فيما كان يمسح فمه بالمنديل وقد تبينت من عينيه أنه غير راغب في إجابتي, بيد أنه قال دون تردد وبما عهدته من صراحة:

"كان طبقك شهياً إلى أبعد الحدود, ولكن اسمح لي أن أقول لك إنني لن أذوق أشهى من طبق أمي."

كان الأستاذ محقاً, وكان عليَّ أن أتذكر كلماته التي كان يرددها علينا دائما ونحن تلاميذ منذ أكثر من ثلاثين عاماً.

"صحيح أن الزهور جميلة, ولكن ما فائدتها إنْ كان أريجها هناك.. في أعماق الماضي السليب."

الرياض 8 حزيران 1989

القصة من مجموعته الأولى "منمنمات على جدران دمشق القديمة"

 

 

خيبة

 

 

غرفتها غارقة بالضوء، بلا ظلال. وغرفتهُ المقابلة لغرفتِها في المبنى الثاني، على الناصية، غارقة بالظل ونورها باهت.‏‏‏

لمَحَتهُ يدخل غرفته، أو هكذا خُيلَ لها، فواربتْ، وانسلتْ من بقعة الرؤية إلى الطرفِ المستور من الغرفة. فكرتْ، لو أنها سارتْ من مكانها غير المنكشف إلى وسط الغرفة لبانتْ له من خلفها، على طولها، ولحسبَ أنها لم تره، وأن مشهدها سيبدو عفويا.. وهي تدرك كم هو رائع لعيني رجل مشهد انثى تخطو بعفوية وتكاسل في مكانها الخاص. خلفها، ما يزال المشهد الغارق بالنور بلا ظلال، وكان بإمكانها أن تتخيله يراها، وهذا ما كان يغمرها بإحساس بهيج رفد جسدها بارتجاف هين. لابد أنه التمس مكانا يحجب جسده دون عينيه. هكذا تخيلتْ، وهكذا امسكتْ بطرفي قميصها السماوي المونس بكلتا يديها ونزعته عن جسدها برفق. بسطت صدرها فأحستْ بنفرة سطحه الأسيل. مالتْ قليلا نحو النافذة لتبدي طرفَ نهدها. عرفتْ أنَّ بعضا منه تتخطفه عيونٌ سوداء مذهولة.. عرفتْ كيف تجلبُ ذهوله الذي تقصده وتنتظره. ودَّتْ لو تستدير وتهب انوثتها المتبرعمة للعيون المتخفية. لكنَّ لحظات النهاية قد حانت، فقد انقضى زمن المشهد الذي مِنْ طبيعته أنه يسكنُ الثواني واللحظات. تناولتْ من درج خزانتها قميصَ نومها الأسود الشفيف ودسته في رأسها وجعلته ينزلق، ببرودته، كالموجة ليسدل حجابا على جسدها الحنطي. وهرعتْ لتوها نحو ركن الغرفة المستور وغرزتْ أصابع يديها في شعرها بإنتشاء وتركته يتدرج نازلا كالموج مع زفيرها الهانيء. القتْ نفسها على الكنبة قرب النافذة، ودسَّتْ عينيها من خلف شق الستارة النحيل فلم ترَ الصورة التي رسمتها في خيالها، ووهبتها جسدها الأسمر الأسيل، بل رأت فراغا باردا يطوقه ظل المكان. رأتْ خرابا، وزمانا تصدأتْ السنون على أديمه وأطرافه. وعندما كان لابد من أن تفيقَ من نشوةِ الماضي البعيد زفرت بإنكسار، ومضت لتصادفَ مرآتها فتلمَّسَتْ غضونَ وجهها الذي عجنتة أصابع الزمن.‏‏‏

الجمعة 15 تموز 2005‏‏‏

 

 

رهان*

 

 

تمطت الظهيرة حارة ساكنة إلا من توجس حاد أصبح من معالم  المكان. وحام البعوض العنيد, وذباب الرمل ذو الذيل الطويل الذي وزعت القيادة الأمريكية على جنودها منشورا عن أوصافه وخطورته لكي يتفادوا قرصته المهلكة التي تسبب داء الليشمانية (Leishmaniasis). كانوا عند مفترق الطريق بكامل أسلحتهم وعتادهم. جاءوا مع الفجر وأغلقوا منافذ الطرق ومسحوا المكان حتى واحة نخيل صغيرة كانت تلتمع عند المدى الذي غشاه غبش البعد.  انتهى اثنان منهم – "راد" و "جاك" - من طعام الغداء.. سندويش (هام) مع الخردل والمايونيز وشرائح المخلل والبندورة, وكانت الكولا الباردة متوفرة.. والسجائر والمضغة أيضا.

تجشأ العريف "راد" بصوت عال "بببببباع.." وقال "ييييوب هذه قوية.." وضرب على صدره براحة يده الضخمة الخشنة نافضا بقايا العفونة من جوفه. وعندما شبع كرع نصف ليتر "بيبسي" بارد حتى امتلأت مثانته, فاقتضى ذلك أن يجر جسده المثقل بالعتاد والعدة إلى خلف أكياس الرمل وبال فوق عشبة يابسة. اسند ظهره على أكياس الرمل ثم دنى وأمسك بالرشاش الأتوماتيكي الثقيل المنصوب على سيبه وقد طلت فوهته من فجوة وسط أكياس الرمل. وضع مقبض الرشاش على صدره وضعية إطلاق, واغمض عينه اليسرى وأطلق نظر العين اليمنى عبر المنظار المثبت فوق اسطوانة الرشاش.

-هية.. جاك.. أرى عراقيا بين النخيل.

أجاب جاك:

-هذه المجموعة هناك منذ الفجر.. إننا نراقبها

قال "راد":

-أراه يأكل.. ربما يأكل (هام) مثلنا.

-هؤلاء لا يأكلون "هام".. لا يحبون لحم الخنزير

-ماذا يحبون جاك؟

-يحبون لحم النساء..

عاد "راد" يمرر الرشاش على المشهد نفسه وتابع:

-أراه يشرب.. ربما يشرب الكولا..

-لا أظن ذلك.. لأن العولمة لم تصلهم بعد.

-اذن سيشربون الكولا في القريب..

وخطر ببال "راد" فكرة:

-عندي فكرة جهنمية يا جاك..

-ما هي؟

-أن نراهن..

-نراهن على ماذا؟ وهل نحن نلعب؟

-وماذا يمنعنا أن نلعب..

-نلعب ماذا؟

-أريد أن ألعب دور الله..

-إذن دعني أتمم خطابي "لمادلين".. ثم نلعب معا دور الله.

ببطء مسح العريف "راد" المكان ثانية بالرشاش, بدأ من يمين المشهد, مرورا بواحة صغيرة تتخللها بضع بيوت طينية, حيث ما يزال العراقي مستندا على شجرة نخيل. 

-آووه كم الوقت مناسب أن ألعب دور الله .. هل انتهيت من خطاب الحب؟

-أصيغ الكلمات الأخيرة..

انتهى "جاك" من خطابه وقال للعريف "راد" انه وضع فيه عصارة قلبه وان

البعد يجعل من الجندي شاعرا رهيفا مثل ورق الورد.

-إذن أصغِ لفكرتي يا ورق الورد.. أتراهن أن انسف رأس هذا العراقي بطلقة

واحدة من هذا الرشاش. خمس دولارات.. ما رأيك؟

-أرني..

ابتعد "راد" من خلف الرشاش وأفسح مكانا لجاك الذي امسك به وضعية

التصويب وراح ينظر من خلال المنظار.

-انه بعيد.. بحاجة إلى رام ماهر..

-أنا هو.. أتراهن؟

جاك ما يزال يعاين المكان. الجندي العراقي انتهى من سندويشته. أسند ظهره

على نخلة وأشعل سيجارة وأطلق فكره. من يدري بماذا كان يفكر.. ربما بالبعد عن الأهل, أو ربما بزوجته إن كان له زوجة, أو جارته أو ربما بالصبايا اللواتي لم يدخل دنياهم بعد؟ أم تراه يفكر بالخطر الذي يحيق به؟ أو ربما باللحظة التالية التي لو يعلم الانسان ما تضمر له لتغير وجه الكون. أخذ نفسا من سيجارته.. وأتبعه بآخر.. ثم غب النفس الاخير ملء رئتيه, وربما تنهد تنهيدة عمرها آلاف السنين, وطبعا لا أحد يدري بماذا كان يفكر هذا الجندي في تلك اللحظات الساكنة سكونا مريبا.

-انه يدخن سيجارة الآن يا "راد". على الرغم من بعده يبدو أنه شاب.. هل

سيكتب رسالة لحبيبته..

-انهم لا يعرفون الكتابة يا جاك.. الحضارة لم تمر من ديارهم..

-صحيح كيف غاب عني ذلك.. ألا تعجب معي كيف أن أناس مثلهم لا

يعرفون الكتابة والشعر..

-لهذا نريد أن نعولمهم..

ابتعد "جاك" من خلف الرشاش وعاد "راد" ليمسك به بوضعية تصويب.. وركز عينه على المنظار واصبعه على الزناد.

-ماذا قلت هل تقبل الرهان؟.. خمس دولارات.

-كثير..

-يا رجل لا تكن بخيلا..

-قبلت.

ظل "راد" مركزا للحظات وقد بدا واثقا من أنه سيفلق رأس الجندي إلى نصفين

ويربح الرهان.. الهدوء من حولهم ساعد على التركيز, ولبرهات أحس "جاك" انه سيخسر الرهان. وفي اللحظة التي كان "راد" فيها متهيأ واثقا من هدفه انكسر الصمت وغمر المكان دوي خاطف لطائرة  فأرتج المكان ورفع "راد" رأسه إلى أعلى ثم انخفض رأسه مع انقضاض الطائرة التي دنت من الهدف نفسه, وما هي الا ثوان حتى اعتلى المكان دخان كثيف صاحَبَهُ دوي انفجار. وعندما انكشف مكان الهدف وسط كتلة الغبار المتطاير قال "راد":

-لقد قامت الطائرة بالمهمة عني.. لقد أنمسح المكان وضاع الرهان.

وأضاف "جاك":

-  ولم نستطع أن نلعب دور الله.

سياتل 24 نيسان 2004

*فكرة القصة واقعية تلقتها مسامعي فيما كان الذي اسميته "راد" يلقيها خلال فترة الغداء بقصد الترفيه.

 

 

شجرة الزيتون

 

في بستاننا شجرة زيتون ضاربة جذورها في أعماق الأرض. كان جدي يقولُ إنَّ عمرَهَا مئات السنين وأنها أطعمته من ثمرها وزيتها كما أطعمَتْ أجدادَهُ, وأسبغتْ عليهم من فضلها. كان جدي يترددُ عليها كثيراً, يسرُّه جمالها, ويتفيأ ظلالها. عاش حياته يدافع عنها ويدعو الناس إلى ما في ثمرها وزيتها من فائدة لا ترجى في غيرها من الأشجار. وقبل أن يموت جدي أوصى بها أولاده, حفرَ على جذعها العريق كلمات لا تزال ظاهرة حتى هذه الساعة على تقادم السنين.

 

(بسم الله الرحمن الرحيم. أوصيكم يا أولادي بتقوى الله والحفاظ على شجرة الزيتون لتكون لكم ولأولادكم من بعدكم خير مورد وزاد. حافظوا عليها يحفظكم الله. أما إذا لم يعد في ذريتي من يصون هذه الشجرة المباركة فإنني أوصي بريعها وقفاً لمسجد البلد.)

 

وجاء أبي من بعده ليستلم الأمانة. كان – رحمه الله – مثل جدي شديد الحرص على شجرة الزيتون, وكان كلما جلسنا إليه يحدثنا عنها وعن خيراتها وفوائدها التي لا تحصى. إلا أنَّ أبي كان لا يجد غضاضة في أن نأكل من غير ثمرها, وأن نقتني زيوتاً مستوردة إن دعت الحاجة إلى ذلك, وكنت أنا من دون أخوتي جميعا الذي وجدت في أفكار أبي هوى في نفسي. أما اخوتي فكان بعضهم شديد التعصب لها حريصاً ألا تشرب أبداننا من غير زيتها, وكان بعض آخر يرى أن قطع الشجرة من دابرها وبناء مصنع في المكان الذي تشغله هي وأخواتها من أشجار الزيتون خير لنا, ومن واجبنا أن نريحها من مهمة لم تعد قادرة على مواصلتها.

 

وفي ساعة من ساعات الفلك الدائرة مات أبي. مات الرجل الذي كان قادراً قولا وعملاً على حماية شجرة الزيتون من دون أن يحرم نفسه ويحرمنا من التمتع بأطايب غيرها من الثمار في حدود كان يدركها بأصالته واعتزازه بهذه الشجرة المباركة. وكيف لي أن أنسى وصيته التي حفرها في ذاكرتي.

 

(احرصوا يا أولادي على هذه الشجرة العظيمة واجعلوها أبداً الزاد الأول, ولا يفوتنكم – وهنا نقر أبي بسبابته على صدغه – أن فكركم لن يستقيم إنْ لم تشرب أبدانكم خير زيوت الدنيا. انتقوا بحذر واحذروا أن تنسوا شجرة الزيتون.)

 

مات أبي ليخلف وراءه أبناء متصارعين, اشتد بينهم الجدل وانفرجت مسافة الخلف. بعضهم يريد أن يضرب حول الشجرة سياجاً من أسلاك شائكة خوفاً من أن يصيبها مكروه, والآخرون أعدوا فؤوسهم المجلوة ليشبعوا جذعها ضرباً حتى تهوي إلى الأرض. أما أنا فقد وقفت بينهم أذكرهم بوصية أبيهم وأثنيهم عن إيذاء هذه الشجرة المعطاء, بيد أن كلماتي لم تصل قرارة أنفسهم, ولما وجدتهم مع الأيام قد ازدادوا عتواً عزمت بحزم على حماية الشجرة وصرخت في وجوههم:

"لن تنالوا من شجرتنا المباركة التي ما غرست إلا لتبقى."

كنت مدركا, على ما أوتيت من جرأة وحماسة وأنا أصدهم عن عزمهم, أنني دونهم قوة وأنهم قادرون على إيذائي.

قال لي أكبرنا سناً:

"إن كنت حريصا حقاً على ما جاء في وصية جدك فعليك أن تكون عضداً لنا وتساعدنا على تسوير هذه الشجرة العريقة اجلالا لها ومنعا لإيذائها."

فرد آخر تملؤه الخفة:

"عذرا يا أخي الكبير.. لن تسور الشجرة ولن نأكل بعد اليوم من ثمرها وزيتها, لأن العقل يقول إن الشجرة يجب أن تبتر والمصنع يجب أن يشاد في مكانها, فلقد شبعنا من ثمرها. ثم إن زيتها لم يعد يلائم معدة هذا الزمن, وإنني أرى أن الزيوت المستوردة أكثر جودة وصفاء."

وقال آخر:

"أرى أن تنشئوا مصنعكم في مكان آخر وتبقوا شجرة الزيتون فربما تضطركم الأيام أن تعودوا إلى ثمرها وزيتها."

وقال آخر:

"فكروا بالبديل قبل أن تقطعوها."

"السوق فيه ما هب ودب من أصناف الزيوت."

"الزيوت المستوردة هي الأفضل دائما."

"بل العودة إلى وصية جدكم هي الحل الأمثل."

 

وتنقضي الأيامُ والخلافُ ما يزالُ على أشده. أما أنا فلمْ أجدْ لنفسي مكانة عند اخوتي جميعا. فهاهم قد انقسموا إلى فريقين متخاصمين وأصبحت وحدي خصماً للفريقين.

 

وذات ليلة تعالى صراخهم ودوت في فضاء البستان طلقات نارية, فهرعت قلقاً إلى البستان لأرى العراك ناشباً بين اخوتي وقد ملأت شتائمهم أرجاء البلدة. أسرعت إلى الشجرة التي انهالت الفؤوس على جذعها ودنوت من شرخ بليغ أصابها. لمسته بيدي فأدركت بحزن شديد أن أسرتي تقود نفسها إلى الهلاك. قلت في سري إن هذه الشجرة يجب أن تبقى, وعزمت على ألا أبرحها, وأصبحت أحرسها ليل نهار.

 

وذات صبح داعبتْ النسائم الرقيقة وجهي فيما كان راسي مستنداً إلى جذع شجرة الزيتون. كانت الأطيار تغرد, والماء في جداوله القريبة يجري عذبا سلسالا. التفت إلى الشرخ في جذع الشجرة فإذا بي أرى برعما أخضر قد تفتق من صلب الشجرة. امتلأت نفسي فرحاً وقرَّت عيني لرؤية هذا البرعم وهو يتمائل اثر مداعبة النسمات الهينة لعوده الأخضر.

 

ومن يومها أصبحتُ مطمئناً على شجرة الزيتون, وعندما وقفت أنظر إلى صرحها الشامخ أدركت كم هي عظيمة ومعطاء هذه الشجرة المباركة.

القصة من مجموعة "منمنمات على جدران دمشق القديمة"

 

 

عش الغراب

  

تعلب سلمى الصغيرة مع أخيها أحمد في منتزه أخضر فسيح.

يجلس أبوهما على مقعد غير بعيد عنهما يقرأ جريدة. الشمس الدافئة تنشر نورها المنعش, والنهار الجميل يتضوع بالفرح, مفعم بعبق الحياة, بالطمأنينة. كل شيء من حولهما ينبض بالحياة كوجه الشمس, كحمرة المغيب على سفوح الجبال الخضراء.

تدنو سلمى من وردة برية صفراء. الوردة فرجة, تهتز هونا بين زهور شقائق النعمان مع النسيم الخفيف. سلمى لم تقطف الوردة, فقد أدركت بحدسها الطفولي أن الوردة جميلة بين الزهور الحمر وأنها يجب أن تبقى.

يناديها أخوها:

"سلمى.. تعالي نركض.."

يركضان.. يتصايحان.. يتنفسان فرحا ورديا.

"أمسكني إن استطعت."

"سأمسكك.."

يرفع الأب بصره عن الجريدة, يتفقد ولديه بنظرة حانية.

"لا تبتعدا."

يصرخان بصوت واحد:

"حاضر يا بابا."

يشمل الأب المكان بنظرة بهيجة, وتنبض روعة الحياة في كل ما حوله: الشمس, الدفء, الزهور, زرقة السماء, واشجار السرو الممتدة التي تحجب الأفق البعيد.

يقلب الأب صفحة من جريدته.. يقرأ:

(إن ألف مليون شخص يموتون فورا في حالة وقوع حرب نووية وذلك بفعل السحابة النووية الهائلة التي تتصاعد على شكل عش الغراب. وإن ألف مليون شخص آخرين سيموتون بعد ذلك موتا بطئيا بعد مقاساة حروق وآلام بالغة.)

تتراقص أسراب السنونو في السماء ثم تدنو مغردة. الناس يتجولون في المنتزه بأمان, ويغفو عجوز على مقعد تطاولت من حوله الحشائش الخضراء. ينتشي الفرح في عيني صبية لأن الشاب الذي يسير معها وعدها بمستقبل رغيد تصبح فيه الأحلام أطفالا وبيتا دافئا ولقمة هنيئة.. تتشابك زقزقات العصافير المتوارية في بطن أشجار السرو.

ينظر أحمد إلى الهوام كيف تسعى. تنادي سلمى أباها:

"بابا.. أريد أن أبقى هنا, فالأزهار جميلة وأنا أحب العصافير والشمس."

(وسوف تؤدي الإنفجارات إلى ارتفاع سحابة من السناج تقدر بمائتي مليون طن إلى ارتفاع ثلاثة أميال فوق سطح الأرض, وهذه سوف تمتص 95% من أشعة الشمس فتغرق الأرض بالتالي في ظلام دامس وتتوقف عميلية التمثيل الضوئي اللازمة لنمو النبات والمحاصيل.)

الطفلان فرحان مثل الوردة البرية الصفراء, يلعبان بإطمئنان.. فأبوهما هناك.. يكفي أن يكون بالقرب منهما حتى ينهزم خوف الدنيا كله والليل الذي يخبيء في حلكته الجنيات.. وها هي الشمس الدافئة, والدنيا الجميلة من حولهما تضج بالحياة.

تبصر سلمى على الحشائش الخضراء عصفورا ميتا:

"أحمد.. انظر!"

"يا الله! عصفور ميت!"

"مسكين. ترى من قتله؟"

"الصياد."

تقول سلمى بنبرة مشحونة بكثير من الحزن:

"كيف يجرؤون على قتل عصفور!"

يطرح الأب الجريدة جانبا, ويثبت بصره على ولديه. يمور الخوف في داخله, لا يريد أن يصدق أن هذا الرعب ممكن! يحس أن كل شيء يضيق عليه الخناق حتى النسيم العليل. يهزه أن هذا العالم الجميل لا يريدونه أن يبقى. ينادي ولديه:

"تعاليا.. سنرحل."

"نريد أن نبقى.."

"المنتزه جميل يا أبي."

"لا أريد أن أترك العصافير.."

"الشمس دافئة يا أبي.."

لكن الأب يمسك بيديهما الصغيرتين ليجتاز معهما العشب الأخضر.

وعندما أذنت الشمس بالمغيب كان الطفلان ينعمان بلذة الدفء والأمان في فراشيهما, وكان كل شيء خالدا كحمرة الغروب على سفوح الجبال الخضراء.

الرياض 1 شباط 1985

القصة من مجموعة "منمنمات على جدران دمشق القديمة"

 

 

غرق السندباد 

 

- تعال نركض كي ندفأ.

صباحات لندن الخريفية شديدة البرودة. تضحك لأن

أسناني تصطك بشدة دون

أن أستطيع السيطرة عليها. وصلنا إلى المنتزه الذي

ينتهي امتداده الرحب عند مدخل محطة هايبري.

وطئت أقدامنا العشب الندي الممتد حتى تخوم الحلم.

رفعنا ياقتي معطفينا الداكنين وجعلنا نركض بتثاقل.

تمنيت لو كان بإمكاني أن أتحرر من معطفي السميك

وأصبح خفيفا مثل أوراق الشجر اليابسة المتدافعة

 

بخفة فوق العشب اليانع. دفعتك فوق الحشائش الخضراء فتدحرجت من أعماقك ضحكة مثقلة بالسعال.

- تدفعني لأنك تعبت من الركض أيها العجوز.

لو تدري كم أخشى عليك أن تذبل مثل أوراق الخريف يا صاحبي. تمددت فوق

الحشائش الباردة. شعرت بدفء لم أكن أتوقعه في بلاد الضباب الباردة. دفء أحال ذلك الصباح الخريفي البارد إلى وقت فيه من الحلم الكثير بيد أنه لا يخلو من قلق. حلق بصري في السماء الرمادية, فاستقرت في أعماقي غيمة حزينة. يعود إلي صوت أمك: الله يرضى عليك يا طلال خل بالك من ثائر.. أنتما اخوة والغربة ملعونة. الواحد منا عندما يصاب بأذى يقول (أخ).

سألتك ومازلنا نلهث:

- ما الأخبار؟

- نكسون في الصين..

- دعني من نكسون والصين.. أقصد ما أخبار (أيرس)؟

مضت لحظات ريثما أجبت. شعرت خلالها أننا لسنا وحدنا. وكأنها مستلقية

بجانبك على الحشائش الطرية تداعب شلال شعرها الأشقر, وتغرق في غيابها.

- أيرس دائما هناك.. بعيدا.. في أعماق قلبي.

- أريدك أن تبتعد عنها.

تنظر إلي بانطفاء وتقول:

- أنت غبي.

آه يا صاحبي لو تدري كم كان صوت أمك مشحونا بالقلق والرجاء. انه في

أعماقي نداء طفل غريق. كان آخر لقاء بيني وبينها قبل سفري إلى لندن بساعات في غرفتك الصغيرة التي تغص بالكتب والأحلام والجنون. قالت لي يومها: أنا خائفة على ثائر.

لا داعي للخوف يا خالة, ثائر واع وناضج.

لا يا ابني. ثائر – يا حبة عيني – طفل صغير لكن أحلامه كبيرة. تصور كان

يقول لي أنا مسافر إلى لندن كي أغير العالم. قل له, الله يرضى عليك, لا تغير شيئا. خله يرجع إلى والى بلاده سالما والدنيا بألف خير.

ثائر, يا خالة, راح يدرس وسيعود بشهادة عالية من معهد كبير.

قالت باستفسار لا يخلو من ريبة: يدرس أيش؟ والله ما قال لي!

يدرس الإخراج السينمائي.

ونحن تنقصنا سينما! ثم من أين المصاري! ؟

كنت أعلم أنك راحل لكي تخوض تجربتك الكبرى. كانت السينما بالنسبة لك

بديلا عن واقع فاسد مزيف. كنت تقول لي: طالما عجزنا أن نتغير فلنتغير, على الأقل, على شريط سينمائي. حلمي يا طلال أن أرى إنسان الغد المتحرر من الخوف, المعافى من أدران الجبن والنفاق ولو على شريط سينمائي.

اطمئني يا خالة سأحثه دائما على الكتابة إليك.

 

ينسحب الدفء رويدا رويدا من أطرافي ويسودها برد نسبي. أجلس وأغرس بصري في عينيك السوداوين اللتين غرقت فيها آمال عراض. أعاتبك:

- لماذا لا تكتب لأمك يا ناكر الجميل؟

يستفيق في عينيك المنطفئتين بريق كان غائبا, وتلوح لي من خلف ذاك البريق

ملامح الخيبة والشعور بالذنب, وأرى في عينيك بحرا ثائرا لا شطآن له, سماؤه سحب داكنة تتمزق بحركة هائجة. غابت البسمة الخضراء عن وجهك الذي أمسى شاحبا, ويأتيني صوتك خافتا:

- ما معنى أن أكتب لأمي؟ وتدمع عيناك.

- معناه أنك جاحد وعاق.

 

أنا أعلم أن كلماتي لن تترك أثرا في نفسك. فلقد أحرقت يا صاحبي حقول

الكلمات ولم تبق منها إلا ما حسبت أنه سيوصلك إلى رؤية جديدة للوجود.

كنت, عندما ألمح وجهك القديم يطل من وراء غضون وجهك المرهق, أشعر أنني مشتاق بجنون إلى صاحبي الذي مضى. مشتاق لطلعة العافية التي كنت أراها تمخر البحار العميقة في عينيك المشبعتين بالكبرياء. مشتاق لدمشق والصحاب, مشتاق أن أسمعها منك ثانية: الإنسان موقف. مشتاق إلى معالم الأمس, للحوار, للصدق, للعالم الذي كنا نحسب أنه سينتهي من بعد رؤانا. مشتاق لقراءاتنا في النقد الذاتي بعد الهزيمة.. للأصوات المتميزة التي شغلتنا حتى تخوم الهوس.. لخليل حاوي, وأمل دنقل, وزكريا تامر, والطيب صالح..

أماسي لندن الخريفية أشد برودة. قاسية كالسقوط, كالخيبة. عتمتها مضاءة باصفرار ينسجم وصمت هذه المدينة المريب. أخرج من محطة هولند بارك. الأشجار والطرقات في هذا الحي تأخذني بعيدا إلى مدينة منتظرة في حلم جميل حرون يأبى أن يفيق. هنا أيضا, في الطرقات النموذجية الهادئة, صعقتني المفاجأة عندما رأيت بقعا زرقاء على ساعديك.. عند الوريد!

لقد ضللت الطريق يا صاحبي.. ضللت الطريق.

أين أمنيات الأمس الجميل؟ أين إنسان الغد المحرر من أدران الخوف؟ أين النبرة الرصينة الواثقة وأنت تلفظها في جزم: الإنسان موقف.

 

أنا أذكر كيف كانت البداية.. كيف تقلصت في أديم وجهك تلك الضحكة الشاردة من مشارف البراءة. وبريق العين كيف أخمدته بخدرك, وشلال الكبرياء الذي كان يهدر في حضورك كيف جف في متاهات الغياب..

أنا أذكر من البداية أشياء. أذكر منزلا من زجاج كان يستقبل كثيرا من الشمس عندما تسطع في سماء لندن.

- هناك يا طلال عثرت على امرأة من نور. تأخذها الشمس عند المغيب

وتعود بها إلى القلب الزجاجي عند الصباح. (أيرس), يا صاحبي, لو تنعم برؤيتها حلم في حلم.

 

لا أخفيك أنها كانت جميلة. رقيقة في نحولها, جذابة حتى في شحوبها, وفي

حضورها انكماش أنثوي يثير مكامن غريزية محرضة. وعندما حذرتك أن في نظرات (أيرس) دعوة للخيانة والغياب, عجبت كيف كنت منطفئا في رد فعلك. لقد بدوت لي في إجابتك وكأنك لست من شرقنا الجميل البعيد.

- إن كنت تريد أن تنام معها فأيرس لا تمانع.. وأنا أيضا!

وكم أذهلني أن أخبرتني لحظتها أن (أيرس) حامل! منك.. من آخرين.. من

الجميع.. من لا أحد.. أنت لا تدري!

- والجنين.. ما مصيره؟

وتفلت منك ضحكة شاحبة مجنونة:

- سيكون بيننا.. واحدا منا.

- أوتحسب أن رعايته بين مدمنين أمر سهل.

- سنحاول.

- لكنه ليس ابنك!

- وما أدراك؟ ربما يكون ابني. ثم إن مجرد الإقلاع عن التفكير بهذه التوافه

يجعل من هذا الطفل ابني, ويجعل الحياة أكثر روعة.. أكثر نشوة ومسرة.

- أكاد لا أصدق يا ثائر!

- في مكان ما من هذا العالم يستطيع الإنسان أن يلغي القيم. تصور كم هو

رائع أن تذوب القيم وتتداخل فيما بينها كألوان الشفق. لو استطعت مثلي أن تهدم جدران القيم القاسية فانك حينها ستبلغ بوابة المطلق حيث تتربع الحقيقة بكل سطوعها. هناك, أنت ملاق ذلك الصفاء الذي لا يمكن أن تلقاه في عالمكم الزائف.

 

ولكن يا صاحبي عندما دارت الأيام, والصقيع لا يرحم في بلاد الشمال كان من المستحيل أن تهدم جدار الحنين. الحنين إلى ذلك الوطن الذي لا يمكن أن تهدم جدرانه التليدة. وكم سرني أن سمعت شفتيك تهمسان بشعرنا العظيم فكدت أصرخ: صاحبي ما يزال حافظا للشعر العظيم!

كانت في عينيك دمعات خبيئات وأنت تردد مقطعا للسياب:

هو لن يعود,

أوما علمت بأنه أسرته آلهة البحار

في قلعة سوداء في جزر من الدم والمحار.

- قل لأمي يا طلال ألا تنتظر عودة السندباد من السفر. قل لها لقد غرق

السندباد.. ابتلعته البحار.

 

المساء الأخير.. والليل بارد كما عهدناه في بلاد الشمال. وقفت خلف زجاج نافذتي أرقب النجوم. مسحت البخار براحتي. قلت في سري: لعلي أعثر على نجمة تائهة من بلادي. وعندما لقيت نجمة منطفئة الوميض تبحث عن نكهة الوطن البعيد, تحت مصباح أصفر عند منعطف بارد, ناديت بكل ما في عطفي من حزن وحب:

- ثائر..

فاصطدم ندائي بالزجاج. فتحت النافذة.. لوحت.. ناديت:

- ثائر..

الطرقات صامتة متجمدة كالموت. خشيت أن يتجمد ندائي فناديت مرارا:

- ثائر.. ثائر..

في بلاد الشمال ثمة مكان صغير مغمور بالدفء والإلفة والحنين, فتحته لك..

فتحت بيتي الصغير.

 

في الأوقات الأخيرة من المساء الأخير, وجدت في عينيك المتعبتين رغبة من

نكهة الأيام القديمة, فألقيت بصدري على صدرك, وغبنا في عناق. كنت تبكي يا ثائر, وكنت أسمع نحيبا خافتا على الرغم من كبريائك. وكانت ذراعاك وهما تضغطان بقوة تبوحان لي بانهيارهما: إنني خائف.. خائف..

- لقد تعبت يا صاحبي. ولكن لا تخف.. نحن معا.. وسنبقى معا.

وكأنني كنت أرى عناقنا يذوب في نقطة بيضاء وسط هذه المدينة الداكنة الغارقة

في الإثم والضباب. كنت أنا أيضا خائفا, ولكن تعين على في تلك اللحظات أن أمدك بالقوة.

 

في ذلك المساء احتسينا الشاي بالكؤوس الصغيرة, وتحدثنا عن دمشق الجميلة, عن الأم والعودة والصحاب. قلت لك لقد ماتت آلهة البحار.. وولت متاهة الخدر, وتحطم البيت الزجاجي ولم يعد يستقبل شمس الصباح المزعومة. ليلتها ظللنا نقرأ الشعر حتى غفت الظلمة بين أهدابنا.

 

ولكن عندما أفقت عند الضحى لم أجدك! بل وجدت بقايا أمسية أخيرة.

وصار يا صاحبي أن رحلت.. ولن تعود.. 

 

 

كانت الشمس مشرقة يا بني 

 

إلى زهرة الايدل فايس النفيسة التي

لا تنبت إلا في أعالي جبال الألب..

إلى أنليزة.. أمي صباح

 

"الشمس رائعة.."

تنظرين من خلال نافذة السيارة إلى شقرة النور المسترخي بسلام فوق الأعشاب. تفكرين بالرحيل عندما يصبح أبديا, وبذكريات الماضي المثقل بالدمار, وبتلك الجدائل الشقراء الملقية بتأن على الخضرة الممتدة.

- "ما أعجب الدنيا.. بالأمس كان بيننا.."

 

وكانت الطفولة والحكايات, وكانت ضفائرك مجدولة بالصبا, أذكرها تلك الأيام جيدا. كنا نتحلق حولك ونبحر معا وراء المدى إلى بلاد (الراين), وقمم الجبال, وزهور (الايدل فايس). أتصدقين يا أمي أنني كنت اقرأ منذ ذلك الزمن الباكر حزنا رطيبا في عينيك. يا الهي كم تمنيت أن إلا يكون ثمة حزن في العالم.

ويمضي الزمن, ونعرف أن هناك موت ورحيل وحرب. في تلك الأيام أيضا كنا نركن إليك وأنت تعزفين على البيانو. ثمة عالم من الأفراح والأحزان يكمن وراء الإيقاع. تعلمنا كيف نصغي ونتوق إلى حديث الذكريات المختفية وراء اهتياج أناملك البديع فوق السنة البيانو. ننتظر بشوق تعاظم الضريات لترقى بتلك النشوة البكر في أعطافنا إلى مكامن المسرة. وعندما تنتهين كنا لا نتواني عن اقتحام الذكريات, "حدثينا يا آمي عن بلدك." ونلمح من جديد ذلك الحزن الرطيب في عينيك.

- "أين هو بلدي الآن يا أولاد.. أين مراتع الطفولة والأهل والمدينة.. رحلوا كلهم.. لقد كانت حربا مقيتة.. حربا مسعورة. لم يكن خالكم قد تجاوز العشرين عندما رأيته آخر مرة. مات.. ولم نعد نقطف معا التوت البري من حقول الصباح."

 

تتنهدين يا أمي, وكانت نسائم الصبح ما تزال منعشة نقية. ليس عسيرا علي أن أتبين استسلامك للحدث البعيد.. لذلك الزمن الفظيع الذي دمر جيلا بأكمله.. انه الوطن الذي يقتحم الذاكرة, تيار الذكريات الذي ينجدل مع حنين اليوم إلى دروب الماضي ورائحة الحقول الطازجة. وكأنني بك تصرخين, "أوقفوا هذه الحرب وليعد كل شيء على ما كان عليه من جمال وبهاء."

 

ولجنا بوابة مقبرة الدحداح. كانت أغصان الآس الندية غافية على ثوبك الأسود. سرنا معا بين الممرات الضيقة. كنا نتحاشى الطحالب والأعشاب الجافة إلى أن تثبتت أقدامنا أمام قبر أبي. وضعنا أغصان الآس على شاهدته.

- "ها قد رحل هو الآخر. ياه, كم هو مذهل ذاك التاريخ الذي قضيناه معا‍‍‍‍‍. إيقاع دقائقه في أعماقي ونكهته في حواسي كلها."

كنت أدري أنها كانت أيام, في فظاعتها وروعتها, من جنس المستحيل. لذا فقد آثرت الصمت. تمنيت في تلك اللحظات أن أضمك الى صدري.. فثمة يا أمي مرفؤك الأبدي.

خرجنا من المقبرة وكان الصباح ما يزال نديا. قلت لي:

- "عد بي يا ولدي إلى الحقول."

عدت إلى الحقول. عدت إليها لأراها خلاف كل مرة أكثر روعة وبهاء. التفت إليك فآلمني ما في عينيك من حزن وانكسار.

- "أمي.. أنت تحبين الحقول كثيرا."

- "إنها نقطة البداية بعد كل حزن كبير. يجب أن نتعلم كيف نبدأ الحياة من جديد.. كيف نتجدد, مثل الحقول, مهما عظمت أحزاننا."

وتشيرين إلى البساتين الخضراء.

- "انظر ما أروع الشمس السخية وهي تلقي بأشعتها الذهبية على الأرض الخضراء.."

ألمح دموعا تنسل من بين أهدابك.

- "كفى يا أمي.."

- "لا عليك يا ولدي.. انها دموع من الماضي عندما يقتحمك في الوقت الذي تعجز فيه على مقاومة الذكريات."

نعود إلى السيارة معا, مع الصمت. وفيما برد الصباح يداعب وجهينا في حب وسلام تتابعين:

- "وكيف لي أن أقاوم وأنسى ذلك اليوم الذي بدأ بشروق الشمس وتلألؤ الحقول الذهبية, وانتهي بدمار الوطن برمته." أخذت نفسا عميقا ثم استأنفت كلامها: "كنا نركض نساء وأطفالا على غير هدى, وكانت الطائرات الأمريكية تقذف برلين وضواحيها بعد سقوط النازيين. كنت أركض مذعورة.. فلقد خدرني الرعب ولم أعد أعي أين أتجه. كان والدي العجوز يبحث عني, وكان أبوك يبحث عني, وكنت أبحث عنهما. جرفني قطيع بشري, وجعلت أرتطم به طوال ركضي. توزع هذا القطيع وانتثر في مساحة أوسع, وفجأة, اغبرت الدنيا من حولي, وأختلط الصراخ وأصوات بالدماء وأشلاء الأجساد وأصوات القنابل. ارتميت مسافة بضعة أمتار وهرعت من جديد.. احتميت خلف شجرة باسقة, وعندما فتحت عيني رأيت عجبا.. كانت الأرض ما تزال خضراء وعدد من الأبقار تركض وتمور هائجة من ألم أثدائها كأنها تبحث عمن يفرغ حليبها من أثدائها ويخلصها من ألمها. استطعت أن أقف على قدمي, وجعلت أنظر إلى سرب الأبقار وهي تركض عبر السهول الخضراء. كانت الشمس مشرقة يا بني.. وكانت الأرض على الرغم من كل إساءاتنا إليها خضراء, وعلى الرغم من كل شيء لم يستطع أحد أن يطفئ الشمس."

بطأت من سرعة السيارة. عبر قطيع من الخرفان الطريق. نبح كلب قرب السيارة, وتبعها لأمتار, ثم أنصرف خلف القطيع.

دمشق 1983

 

 

لمسات المساء الأخيرة

 

المساء يتنفس بصعوبة, والسابلة مشغولة غير مشغولة ترسم على طرقات المدينة خطوات زمن عقيم. شوارع دمشق اكتظاظ غير مجد, والليل وردة ذابلة تغفو في إناء بحانة قديمة. سيارات الأجرة الصفراء ثعالب تسعى لاهثة في شعاب الليل.

المساء مصدور ويتعين عليَّ الا أنسى أن أشتري دوائي. وها هي المحلات تغلق.

"لا وقت اليوم يا سيدتي فقد أشرفت الساعة على التاسعة."

استنفذ المساء طاقته وها هو يشرف على الإنتهاء. يوم رتيب بلا ظلال.. ممتد بلا انتهاء.

اشتريت جرائدي, وعندما شعرت بجوع اشتريت بضع فطائر بالجبنة. كانت مالحة بيد أنني أكلتها بشهية فيما كنت اسير مشغولا عن السابلة الراحلة أبداً داخل حلقة مفرغة. مشغولا بالشعر حيناً وبالمدينة الممكنة حيناً آخر.

آه يا بلدي.. متى تصيرين كما أريد؟ شعراً وفرحاً وهواءً نظيفاً وعشباً ينضح نضارة.

مشغول أنا بأحزان قاسيون* وناس قاسيون. هموم مدينتي غصة في حلقي تكتم أنفاسي.

رويدك.. حسبك ما فيك من سقم.

والناس وأحزانها؟ ومدينتي وهمومها؟

لقد نسيت الدواء.

كيف أنسى أن أشتري دوائي وقد نزلت السوق من أجله؟

أسير في ليل الهموم والمصابيح الباهتة. في المنعطفات أصبح الليل صمتاً مريباً. أكره هذه العيون التي تتقفاني باشتباه. أتراني أكسر من حدتها القاتلة لو صرخت فيها: "أنا أحب بلدي.. أحبها كما أحب أمي وزوجي وولدي. أحبها كما أحب الشعر والطفولة السماء."

سرت كثيراً أبحث عن صيدلية مناوبة. ودقت أنفاسي وقع الخطر. نعم.. أدري ما سيأتي. عثرت على صيدلية عند نهاية طريق مترب.

"من فضلك أريد حبوب (ديماكورت)"

"لا يوجد.."

"لكنها من صنع الوطن!"

"قلت لك لا يوجد.. ولا تسأل كثيرا."

"لكنني بحاجة ماسة إليها الآن قبل الغد."

"لا تكن لجوجاً. قلت لك لا يوجد."

لجوج!

لو يدري كم أصبحت مولعاً بالصمت. حتى بركاني خمد. وحقول الرؤى والأحلام في داخلي قضمها القهر. وتدق ساعة خربة في ساحة المدينة أثنتي عشر دقة يدوي صداها في جوفي, ويضع المساء لمساته الأخيرة على صدري.

وينتهي النهار.. أبداً بلا انتهاء.

رتيباً بلا ظلال

اختناق..

دمشق 12 أيلول 1988

نشرت القصة في جريدة (الاسبوع الأدبي) السورية تحت عنوان قصتان, العدد 160, الخميس 30 آذار 1989

القصة من مجموعته "منمنمات على جدران دمشق القديمة" 1990

 

 

 

منمنمات على جدران دمشق القديمة 

 

الفراشة والدالية

 

حطت فراشة متعبة على دالية عنب بلدي في بيت عربي قديم.

قالت الدالية للفراشة:

-لماذا تركت البساتين الخضراء في الغوطة وأتيت إلى هنا؟!

أجابت الفراشة:

-رأيتهم يقطعون الأشجار, ويلوون عنق كل غصن أخضر, ويلقون الحجارة

الصماء فوق التراب الرطب ويمهدون فوقه طرقا اسفلتيه سوداء فخفت وأتيت إلى هنا.

فقالت لها الدالية:

-أمجنونة أنت حتى تأتي إلى هنا! إنهم يهدمون الحي. المعاول تعمل ليل

نهار.. الجرافات تلتهم أصص الزهور والجدران المزركشة والبحرات العامرة بالمياه, وسوف تلتهمك أنت أيضا.

خافت الفراشة فطارت. ولكن سرعان ما حطت ثانية على الدالية وبكت. هبت ريح تحمل معها غبار الهدم. أدركتْ الفراشة أنها لا بد هالكة. غطتها الدالية بورقة من أوراقها الخضر وقالت لها:

-لا عليك أيتها الفراشة القادمة. بإمكانك أن تهاجري إلى حي آخر.. إلى

مدينة أخرى.

نشرت الطمأنينة سكونها في أعطاف الفراشة وطارت فرحة. بيد أنها سرعان ما عادت إلى الدالية وسألتها بحزن:

-وأنتِ أيتها الصديقة الحنونة ماذا ستفعلين؟

أجابَتْ الدالية:

-أنا جذوري هنا.. مغروسة في تربة هذه الدار ومن الصعب اقتلاعها.

 

 

الياسمينة والجدار

 

قال جدار في حارة قديمة لجدار مقابل له:

-لم أعد أقوى على البقاء.

فقال الجدار الآخر:

-وأنا أيضا لم أعد أطيق الإهمال. لقد تشققتُ وتساقطتْ جوانبي وقرفتُ

حياتي.

ولما سمعتْ عريشة الياسمين المتدلية على الجدار بأوراقها الخضر وأزهارها البيض كلامَ الجدار تألمتْ وقالتْ له معاتبة:

-أتقول قرفت حياتك وأنا أحنو عليك وأغطي شقوقك, وأعانقك كلما هبت

نسمة حلوة!

فقال لها الجدار معتذرا وقد بلت كلمات الياسمينة عروقه الجافة:

-أنا آسف يا عزيزتي. حقا لولاك لكان وجودي لا يطاق.

وفي أرض الديار, تحت عريشة الياسمين, قال صاحب البيت لزوجه يزف لها

بشرى عظيمة:

-سيكون استلام بيتنا الجديد في غضون أيام.

زغردت المرأة من شدة فرحها وتابع زوجها كلامه:

-كلمتُ الدلال بخصوص بيتنا هذا. قال إنه من الصعب أن نجد راغبا يسكن

بيتا عربيا في حي قديم.

فسألت المرأة زوجها:

-وماذا ستفعل به؟

-سنتركه خاليا إلى أن يأتي زبون راغب فيه.

-وكم سيبقى خاليا؟

-الله أعلم.. ربما سنة.. أو سنتان.. أو ربما إلى الأبد.

طأطأت الياسمينة رأسها وبكت أزهارها بصمت. ربَتَ الجدار على كتفها وقال

لها:

-لا تحزني يا ابنتي.. لن ينسانا الله.

ومسح الجدار دموع الياسمينة الساخنة براحته الجافة.. ونام النهار.

 

 

الرضيع

 

بكى الرضيع طويلا. هزته أمه فلم يكف عن البكاء. ربتت على كتفه ولكن دون جدوى. أضجعته على ظهره ونظرت إلى عينيه اللتين من لون البحار وقالت له:

-ما يبكيك يا حبيب قلبي؟

أجابتها عيناه:

-أنتِ لا تحبينني يا أمي, وأنا لست حبيبك.. لو كنتُ حبيبك حقا لأرضعتني

من ثديك وليس من هذه الرضاعة الكريهة.

فقالت أمه:

-لكنني فطمتك منذ شهر.

-وأنا لا أحب هذا الحليب الجاف.

نظر الرضيع إلى ثدي أمه. استعاد أجمل ذكرياته وهو يتلقفه مغمض العينين

بكل ما في الدنيا من هناء واطمئنان وأديم وجهه الغض مثل أوراق زهر التفاح مختبيء في دفء الثدي. في تلك الأيام كان وجهه يلعب في حقول خضراء كلها نشوة, ويطير مع العصافير ويركض خلف الفراشات. هناك لم تكن إلا البهجة والعافية.. لم تكن ثمة بداية ونهاية.

أشاح الرضيع بوجهه عن أمه وسقطت دمعة حارة من عينه. إلا أن أمه لم ترها لأن رضيعها كان يبكي بحرقة وهي تغني له:

(نم يا حبيبي نم.. لأذبح لك طير الحمام.. روح يا حمام لا تصدق, عمبكذب على ابني حتى ينام..)

 

 

الباب الشرقي

 

كان الرجل يسير متعبا في طريق مغمور بشمس ملتهبة ويحمل بيده بطيخة. وفيما كان يعبر الباب الشرقي لمدينة دمشق القديمة ربت الباب على كتفه. التفت الرجل إليه وقال:

-نعم.. ماذا تريد؟

فقال له الباب الشرقي:

-هل تعرف من أنا يا بني؟

ابتسم الرجل لطرافة الموقف, وأخذ نفسا عميقا من لفافته وقال:

-كل ما أعرفه عنك أنك باب من حجر تعبره باصات ودواب المدينة,

ويلصقون على جدرانك الإعلانات (ونعوات) الموتى, ويبول سكارى آخر الليل على جدرانك.

قال الباب في سره متألما: "اخس.. أخزاك الله."

ثم قال للرجل:

-أهذا كل ما تعرفه عني يا بني؟

-هذا كل ما أعرفه.

وجعل الباب الشرقي يبسِّط الأمر للرجل:

-أنا باب قديم.. قديم جدا.

هز الرجل راسه مؤكدا عدم معرفته. فقال الباب:

-كان لي باب خشبي هائل ذو مصراعين لم تستطع اقتحامه جحافل الجيوش.

-آسف ذكرني أكثر.

-أغلقوني في وجه جيش عظيم.

-ذكرني أكثر.

-اقتحمني فاتح أسمر خالد الذكر لم يرَ التاريخ مثل شجاعته واقدامه.

-ذكرني أكثر.

-اسمه سيف الله المسلول.

ولكن سرعان ما نفذ صبر الرجل وقال للباب الشرقي:

-أهي أحجية؟! لا أريد أن أضيع وقتي معك.

وتابع الرجل سيره متعبا في الطريق المغمور بشمس ملتهبة. أما الباب الشرقي

فقد زأر زأرة كادت أن تقوض المدينة القديمة فيما كانت المارة تسير بسلام تحت وهج الظهيرة.

 

 

 

البنت والطريق

 

كانت البنت تنظر بشرود إلى طريق الحارة من خلال خصاص النافذة الخشبي كعادتها عصر كل يوم.

قال لها الطريق:

-أوتنتظرين أحدا يا صبية؟

أجابت البنت:

-ليس لي أحد أنتظره أيها الطريق.

فقال لها:

-لكنني أنتظرك أيتها الصبية الجميلة, ولا أريد شبابك أن يضيع هدراً وراء

الخصاص.

فقالت الصبية وهي تكتم رغبة جامحة:

-كم أتمنى أن أجوبك أيها الطريق.. أن أجوب الطرقات كلها.. أن أرى

الناس والدنيا.

فقال لها الطريق:

-الأمر في غاية السهولة.. ما عليكِ إلا أن تخرجي وسوف نسير معا..

سأعرفك على جميع أصدقائي الطرقات والحواري, وسترين الناس وتنطلقين كحمامة في سماء لا قيود فيها.

ارتدَّت البنت إلى الوراء بذعر وقالت للطريق مستنكرة:

-أخرج معك! كيف تجرؤ على هذا الكلام! ألا تعلم ما سيكون مصيري لو

رآني أبي أو أخي أسير معك؟ سيذبحانني مثل النعجة.

ضحك الطريق وقال لها:

-أيتها الساذجة أوتحسبين أنني غافل عن هذا؟ ستكونين محجوبة عن الناس

ولن يراك أحد.. سنسير معاً, وستركضين وستغنين كما تشائين.. ستكونين وحدك بين جموع الناس ترينهم ولا يرونك.

ذهلت الصبية من كلام الطريق, واعتمر قلبها فرح لا حدود له. أحست أن كل شيء فيها يتوثب للطيران فصرخت بسعادة مجنونة:

-هيا بنا إذن أيها الطريق.

-هيا بنا أيتها الصبية الجميلة.

دفعت الباب حاسرة الرأس وركضت مثل ظبية جذلى في براري وحشية.

غنتْ بانتشاء وخصلات شعرها الأسود تسبح بين أمواج الهواء الدافيء, في حين كانت الطرقات صامتة كالموت, والسابلة أذهلتها الدهشة.

قال رجل كان يعبر طريقه لآخر يسير معه:

-انظر! أليست هذه ابنة أبي مصطفى, اللبان؟! أتراها جنت؟!

ضرب الآخر كفاً بكف وقال باستنكار ممزوج بحسرة:

-إنها هي! لا حول ولا قوة الا بالله.

 

 

أمية

 

فيما كانت الصبية تهبط سلم البيت إلى أرض الديار نادتها الياسمينة المتدلية على باب (الليوان) برقة:

-أمية.. أمية..

التفتت أمية إلى الياسمينة:

-هيه يا ياسمينة ماذا تريدين؟

قالت الياسمينة مبتسمة:

-هزي جذعي قليلا فتعرفي ما أريد.

تقدمت أمية منها وهزت جذعها فتساقطت فوق أمية زهور الياسمين ثلجا

ربيعيا. انتشت الياسمينة وهي ترى زهورها تهطل غيثا من الفرح.

لملمت أمية الزهور البيض ووضعتها في طاسة مكاوية من نحاس وأطرقت تناجي حنينا تضوع من ذاكرة الياسمين.

ابتسمت الياسمينة وسألت أمية:

-بماذا تفكرين؟

احمر وجه أمية خجلا ولاذت بالصمت.. فقالت لها الياسمينة من أعماق قلبها:

-الله يبعث لك الذي ببالك.

 

 

وهل يحكي القمر

 

قال القمر لرجل وحيد يسير في الطرقات الباردة:

-"لم يعد غيرك في الطريق, ألا تريد أن تأوي إلى بيتك؟"

نظر الرجل الوحيد إلى القمر بعينين متعبتين وأجابه:

-"أين هو بيتي حتى آوي إليه؟ أنا منذ أن دبَّ الدم في عروقي شريد

الطرقات."

تابع الرجل سيره وقد بدا عليه الإعياء. وعندما وجد مكانا يحمي فيه بدنه من

لسعات البرد تمدد وقبل أن يغمض عينيه المجهدتين باغته صراخ الحارس:

-"ماذا تفعل هنا؟"

ارتعد الرجل وانتصب واقفاً وأجابه بنظرة كسيرة:

-"أريد أن أنام يا سيدي.. لم أنم منذ أيام."

قال الحارس للرجل:

-"أنت لص."

-"أقسم لك يا سيدي أنني شريف."

هنا تدخل القمر وقال للحارس:

-"أنا أشهد أنه بريء أيها الحارس.. لقد كان معي وهو رجل متعب لا مأوى

له.. فدعه ينم ولك ثواب من الله."

رفع الحارس رأسه إلى القمر باستغراب وقال له:

-"ما الذي حشرك أنت؟! أنا أعرف هذا الصنف من الناس. إنه لص ويجب

سوقه إلى المخفر."

فقال القمر متوسلا:

-"أرجوك دعه.. إنه بريء ومتعب."

قال الحارس بحنق:

-"إذن أنتما الإثنان لصان."

ذهل القمر من كلام الحارس وقال له مستنكرا:

-"أنا لص أيها الحارس؟! أنا القمر الذي أضيء ليل الخلق تقول عني لص!"

ساق الحارس الرجل المتعب من كتفه إلى المخفر وقال للقمر بقرف:

-"اغرب عن وجهي."

تألم القمر ألما شديدا وغاب عن وجه البسيطة وعندما طلع ضوء الصباح كان

الرجل المتعب ما يزال يستجوب في المخفر ويقول بما تبقى فيه من أنفاس:

-"أنا بريء.. اسألوا القمر.", فيما كان المحقق يكيل له الصفعات ويقول له

ساخرا:

-"يا أحمق.. وهل يحكي المقمر!"

 

 

أنا وإياك على الدهر

 

في ليله مقمرة, في غرفة عالية تطاولها ذؤابات أشجار الكباد والليمون, جلست العروس على طرف السرير خفيضة الرأس بخمارها الأبيض..

دنت من العروس أنفاس فحلة, ثمَّ قبضت على يدها راحة خشنة حارة.. انتفضت رعشة فرح في أعطافها تشبه الألم, وامتدت اليد إلى الخمار.

سمراء يده.. رأتها العروس أول ما رأت, وأطبقت جفنيها على حلم مبهم واشتعلت وجنتاها بحمرة الخفر.أطل عصفور من خلف زجاج النافذة.. زقزق ثمَّ طار, وعاد مع عصافير.. زقزقت وتخابثت.. تناهى إليها من بعيد بقايا زغاريد.. ففزعت العصافير وطارت.

أمسك ذقنها بأطراف أصابعه. ورفع رأسها إليه. الآن ستراه وسيراها لأول مرة.

رأت العروس وجهه.. وجه فارس أسمر, له شاربان ثخينان, وعينان حادتان, وملامح قاسية, وفرحت كثيرا لأنه كان يبتسم.

ورأى العريس وجهها.. حلما بلون الياسمين. وتضوع في فؤاده طيف أنوثة يعبق بطيب المدن القديمة وعنبرها.

قال لها:

-"قولي.. أنا وإياك على الدهر."

قالت بعذوبة وأجفانها مسبلة:

-"أنا وإياك على الدهر."

وطوى الزمن أول ليلة من ليالي ألف ليلة وليلة."

 

 

ماوية والعصفور

 

خرجت ماوية من البيت لتلعب في الحارة. رأت عصفورا فقالت له:

-"أريد أن أطير مثلك."

فقال لها العصفور:

-"إن طرت مثلي تضلي طريقك ويصبح من الصعب أن تعودي إلى البيت."

فقالت له ماوية:

-"ولِمَ لمْ تضل أنتَ بيتك؟"

فضحك العصفور وقال لها:

-"أنا ليس لي بيت كي أضله. أنا حُرٌ طليق.. كل الأشجار والأسطح بيوتي."

اشتدت رغبة ماوية بأن تصبح عصفورة وتطير, وقالت للعصفور متوسلة:

-"أرجوك أيها العصفور ساعدني على أن أصبح عصفورة وأطير."

أجابها العصفور:

-"إذن ما عليك إلا أن تحركي يديك مثلي."

حركت ماوية يديها فصارتا جناحين, وحلقت مع العصفور في سماء الأزقة

وحطا فوق الأشجار ونقرا حبات العنب من دوالي الأسطح, وزقزقا مع العصافير وفرحت ماوية لأنها أصبحت عصفورة وصارت تطير.

ولكن فجأة دوت طلقة من بندقية صدعت هدأة الفرح وأصابت العصفور.

صرخت ماوية عندما رأته يسقط ميتا. ركضت بين الأزقة باكية تبحث عن بيتها ومن يومها لم تعد ماوية تفكر بأن تصبح عصفورة وتطير.

 

 

فزع الياسمين

 

ذات صباح, فيما كنتُ خارجا إلى المدرسة, رأيت الياسمين مستريحا بسلام تحت العريشة على أرض الديار. أحسست وكأن روحي قد ردت من عبيره النفاذ.

دنوت منه وجعلت أجمع زهوره براحتي الصغيرتين. ولأنني كنت أكتشف, للمرة الأولى, غبطة في الياسمين فقد نسلت من الزمن, ولم يعد يشغلني إلاّ أن أجمع زهوره البيضاء وأضمها في طوق أهديه لمعلمي.

وأفاجأ بصوت أمي يأتيني من نهاية السلم:

-"أما تزال هنا؟! لقد تأخرت عن المدرسة."

ينتفض الياسمين من راحتي فزعا, وأهرع إلى المدرسة. كنت أسمع لهاثي وأنا

أسرع الخطا. لم يكن يشغلني حينها إلا عصا معلمي التي ستنهال على راحتي فور وصولي إلى المدرسة.

 

 

بكره العيد

 

بكره العيد.. أثبتوها.. ضربت المدافع, وغنت الطرقات.. الليله عيد على الدنيا سعيد.

صاح الفرح في الأولاد.

صاخبة أصبحت حركة الحواري والأزقة. صواني الحلوى حُملتْ إلى الأفران.. وازدانت المدينة وسهر الليل والقمر مع باعة الآس على الأرصفة قرب المقابر.

استيقظ الفجر مع فرح الأولاد.. اليوم عيد..

-"كل سنة وأنتم سالمون يا أولاد." قالت أم.

-"وأنت سالمة يا ماما."

وجعلت الأم ترقب البهجة كيف تمرح في محيا أولادها. كيف تلبي نداء الحنين

إلى النشوة. والعصافير تغرد بسخاء في بطون أشجار النارنج.

ألبست الأم أولادها ثيابهم الجديدة, والتكبيرات تنبثق من أعطاف الأحياء

والأزقة. الله أكبر.. الله أكبر كبيرا.. والحمد لله كثيرا..

انطلق الأولاد إلى الفرح مهورا تسرح في الفلاة.

ارتدت الأم ملاءتها وسارت عبر الزقاق القديم بخطوات منكسرة, اشترت رزمة

آس واتجهت صوب المقبرة.

 

 

أبو فارس

 

كان أبو فارس ينظر إلى صورته المعلقة على جدار غرفة نومه, ويتذكر أيام الفتوة والزكرتية. كان حينها في عز شبابه, كلمته لها وقع الصخر عندما يحط من أعالي الجبال, وكان شارباه زينة شوارب الحي.

أسند أبو فارس رأسه إلى كرسي وأغمض عينين هدتهما الشيخوخة. أخذ نفساً عميقا وتناهى إليه صوته آتياً من صلب الشباب مثل هزيم الرعد:

"ها قد مضت السنون يا أبا فارس, راح العز, وراحت الصحة والهيبة, والآن ماذا بقي منك؟ أنت لا تكاد تستطيع أن تحرك قدميك وتسير, وإن استلقيت على كرسي وأغمضت عينيك لتغفو قليلاً فربما لا تقوم ثانية وتغفو إلى الأبد."

ودوت في بيته صرخة امرأة ملتاعة:

-"أبو فارس!"

وتقادم الزمن على الصورة فشاخت هي الأخرى واصبح لها إطار أسود.

 

 

بدرية

 

كانت بدرية جالسة على كرسي من القش أمام الراديو المثبت في كوة داخل الجدار تستمع إلى أغنية, (طول عمري عايش لوحدي), وكان الحطب يستعر في المدفأة الواطئة, والمطر ينهمر بعنف ويضرب زجاج النافذة المطلة على أرض الديار. مسحت بدرية دمعات حارة انثالت على خديها اللذين لم يعودا رائقين كعهدهما أيام الصبا. قامت وأعدت لنفسها فنجاناً من القهوة وعادت إلى كرسيها.

أسندت رأسها وراحت تنصت إلى ضربات المطر على الزجاج. كانت بدرية تفكر. تفكر كيف أن الزمن لم يبق منها إلاّ حطام أنثى مدفونة في الصمت والوحدة.. أنثى يسمونها بدرية العانس.

بكت بدرية. كانت دموعها تنثال على أديم وجهها بغزارة, وكان المطر ينهمر بعنف. ناداها المطر:

"بدرية.. إرحمي نفسك.."

لكن بدرية كانت قد استسلمت لنوم عميق, وتعب المطر فنام هو الآخر.

حلم المطر أن وجه بدرية بستان خصب فيه كل الثمار, وحلمت بدرية أن المطر يغسل أحزان وجهها, وأن فارساً يمتطي صهوة جواد أبيض ينقر على الزجاج.

انتفضت بدرية من نومها. التفتت بشوق إلى النافذة. كان الفجر يتسلل من خلف الأفق البعيد, ورائحة المطر تعبث بالهواء البارد.

ألصقت وجهها بالزجاج وجعلت ترقب قدوم الصباح.

 

 

اليمامة

 

كان الطفل ينظر إلى حافة السطح ويبكي بمرارة. تناديه أمه من أرض الديار:

"اصطبر قليلا يا حبيبي.. سأنتهي بعد قليل وأصعد إليك."

وتتابع الأم شطف الأرض. لم يكف الطفل عن البكاء بل استمر أكثر حدَّة وهو ينظر إلى حافة السطح. وعندما استحال بكاؤه إلى استغاثة صرخت أمه حانقة:

"قلت لك اصطبر قليلا وسأصعد إليك."

وتابعت الأم شطف الأرض. ثم أخذت تسقي أصص الورد, وترش أسياخ الزنبق البلدي المحاطة بالبحرة وعينا طفلها لم تبرحا حافة السطح وهو يبكي بحرقة.

وعندما أدرك الطفل أن أمه لن تستجيب لبكائه, حمل رضاعة الحليب الزجاجية وألقى بها إلى أرض الديار فانكسرت وتناثرت أجزاؤها. عندها انتفضت أمه غاضبة وصعدت إليه مسرعة وهي تتوعد بحنق. أمسكت بولدها وجعلت تضربه فيما هو يشير إلى حافة السطح ويبكي. ثم أخذته إلى سريره وألزمته أن ينام.

عادت الأم إلى أرض الديار لتزيل نثار الزجاج. وفيما هي تكنس سقطت قربها بقايا يمامة.. شهقت الأم جزعاً ورفعت راسها صارخة:

"العش.."

في تلك الأثناء قفزت قطة من حافة السطح ولاذت بالفرار. وكان الطفل قد جف بكاؤه في مقلتيه واستسلم لنوم عميق.

 

 

الدنيا بخير

 

رفع الشيخ رسلان رأسه من قبره وأطل على مدينته دمشق فرأى عجباً. فالمدينه أصبحت عجولة مزدحمة, وهواؤها ملوث, وأشجارها اقتلعت وأنشيء فوق ارضها الطيبة الأبنية الإسمنتية, ودخان السيارات قد شكل هالة رمادية فوق المدينة.

ظن الشيخ رسلان أنه قد أخطأ مدينته فسأل رجلا يسير مسرعا:

"يا بني.. هل لي أن أسألك سؤالا؟"

قال الرجل:

"تفضل.. ولكن بسرعة فأنا على عجل من أمري."

"هل هذه مدينة دمشق؟"

نظر إليه الرجل مستغربا وقال:

"طبعا هي. ألا ترى القلعة على يمينك والجامع الأموي على شمالك."

قال الشيخ للرجل:

"هذا صحيح جزاك الله خيرا. ولكن قل لي ماذا دهى المدينة الطيبة؟ لقد أصبحت مقبضة للنفس."

هزَّ الرجل رأسه أسفا وقال للشيخ:

"أنت لم ترَ شيئا بعد. عُد إلى قبرك وارتح فوالله لقد قرفنا حياتنا."

تألم الشيخ رسلان لما آلت إليه مدينته الجميلة الطيبة وود ألا يفيق من رقدته ثانية. وفيما كان الشيخ على وشك أن يرقد في قبره رأى عجوزا يركب حمارا في زقاق قديم وقد أصابه الإعياء فسقط من على حماره مغميا عليه. هرعت الناس إلى العجوز وقد أختلج في صدرها احساس مبهم عبق بطيب هذه المدينة القديمة. فراح أحدهم يرش الماء على وجه العجوز, وهمَّ آخر بحمله إلى المستشفى, وأمسك ثالث بحماره كيلا يسرح.

حينها ابتسم الشيخ رسلان راضيا وقال في سره:

"الحمد لله ما تزال الدنيا بخير."

 

 

بعد فوات الأوان

 

        كان الشاب يهم بالرحيل عن مدينته عندما استوقفته شجرة الزيتون وقالت له:

        "إلى أين أنت راحل يا بني؟"

        قال الشاب بنفاذ صبر:

        "إنني مهاجر.. فلم أعد أطيق البقاء في مدينتي."

        تألمت شجرة الزيتون من كلامه وقالت:

        "ولكنك ستكون غريبا أينما حللت."

        "أن أكون غريبا في بلاد غريبة أهون عندي من العيش في وطن لم أعد أطيقه."

        هنا أطرقت شجرة الزيتون قليلا ثم قالت:

        "يا بني.. هل لك أن تسمع حكايتي قبل أن ترحل؟"

        هز الشاب رأسه على مضض وجلس على حقيبته مصغيا إلى الشجرة.

        "منذ زمن بعيد بُذرتُ في هذه الأرض ومن ذلك الحين إلى يومنا هذا مرت علينا – أنا واخواتي الأشجار – أيام عصيبة تضني الرجال. فقد قاومنا غزوات الغزاة وحاربنا مع المجاهدين وتحملنا مشقة الجفاف والعطش, وكاد الجراد يبيدنا, بيد أننا على الرغم من ذلك كله, بقينا صامدات. أتدري لماذا يا بني, لأن الأشجار جذورها عميقة في أوطانها."

        قال الشاب للشجرة باستخفاف:

        "هل أنتهيت من حكايتك؟"

        أطرقت الزيتونة بإنكسار وقالت:

        "نعم لقد انتهيت."

        همَّ الشاب بالرحيل. رفعت الزيتونة رأسها ونادته:

        "يا بني.."

        التفت الشاب إليها.

        فقالت شجرة الزيتون:

        "إذا عُدتَّ يا بني تذكرني."

        ورحل الشاب, وانطفأت نجمة أخرى في سماء الوطن.

مضت السنون, وإذا الشاب عائد إلى وطنه. عائد ليبقى, ليعانق شجرة الزيتون الطيبة, ليقول لها لم أنسك في غربتي, وها قد عدت لأتعلم منك الصمود.

ولكن عندما بلغ الشاب مشارف المدينة لم يجد أثرا لشجرة الزيتون ولا لأخواتها الأشجار. بل رأى على مد البصر طريقا اسفلتيا يلتمع ببريق الشمس الوهاجة.

الرياض 1985 - 1986

حاشية:

نشرت "بدرية" و "أبو فارس" وبكره العيد" في مجلة (إبداع) المصرية, العدد الثالث, السنة الرابعة, آذار (مارس) 1986, تحت عنوان "منمنمات على جدران المدينة القديمة". وأختيرت "بدرية" لتكون بين القصص المرشحة لجائزة أحسن قصة قصيرة جدا في مجلة (التضامن) الأسبوعية, العدد 156, 5 نيسان 1985. ونشرت "الفراشة والدالية", و"الياسمينة الجدار", و"الرضيع", و"الباب الشرقي", و"البنت والطريق" في جريدة (عكاظ) السعودية, العدد 6842, الخميس 7 آذار 1985, تحت عنوان "حكايات". ونشرت "فزع الياسمين" و"أبو فارس" و"بكرة العيد" و"شجرة الزيتون" و"اليمامة" في جريدة (البلاد) السعودية, في 17 شباط 1987. ونشرت "أمية" و"وهل يحكي القمر" و"أنا واياك على الدهر", و"ماوية والعصفور" في جريدة (الرياض) السعودية. وفي عام 1990 جمعت هذه القصص مع غيرها في مجموعة تحمل العنوان نفسه, "منمنمات على جدران دمشق القديمة"

 

 

 

وستكون الأيام جميلة

 

 

نبضَتْ في مقلتيها دفقة حنان سخية كالشمس, "أوتحسبُ أنه خافٍ عليَّ ما في عينيكِ من قلق؟" وضعَتْ فلة في كأس ماء ثم جعلتْ تمرر أناملها على ظاهر يدي. قلتُ لها:

"لقد تدهورتْ صحتي أكثر يا فريال."

رفعتْ عينيها إليَّ ولاح في تألقهما ابتسامة رضية:

"بيد أني مطمئنة يا صلاح.. ستبرأ وستكون أيامنا جميلة."

"أتذكرين؟"

كانت رائعة حقا تلك الأمسيات الشتوية حيث الدفءُ والشِعْرُ والكستناءُ يتفلقُ فوق الموقدِ, ودفترُكِ الذي جمعْتِ فيه أحلى الكلم.. قلتِ لي أكتبْ ما تشاء على صفحته الأولى..

أتذكرين ما كتبت؟

"أنتِ التي أنا لكِ وأنتِ لي وأنا منكِ وأنتِ مني وكلانا واحد."

وفي أمسيةٍ شتويةٍ أيضاً, أحلامها مشرئبة كالنخيل, طوقني الإختناق.

"لا تقلقي مجرد نوبات ربو خفيفة تنتابني في الشتاء."

ولكنها الآن ليست خفيفة.. من الصعب أن أصدقَ أنها لن تبرحَ أنفاسي أبداً. وكأني أتصارعُ معها تحت الماء. أنزعُ حشائش برية عالقة على جسدي, أعرف جيداً أن الربو لا بَرْءَ منه, وأعرفُ أن القدرة على التنفس – كما يتنفسُ خلقُ الله – شيءٌ لن أطاله ما بقي لي من سني العمر. لكن دائماً يحلو لنا أن نغتالَ الحقيقة:

"سأبرأ.. وستكون الأيام جميلة."

ما أروع تلك اللحظات التي نصنع فيها أحلام العافية.

"ما رأيك يا صلاح لو نخرج ونسير قليلا؟"

سرنا عبر رصيف طويل تمتد على طوله شتلاتُ نخل صغيرة. هاديءٌ كل شيء من حولنا. وهذه النسماتُ المنعشة أحالتْ ذلك النهار إلى ربيع مفاجيء. يركضُ صغيرنا. يقع. أعجِّلُ خطوي وراءه. يقوم وحده ويتابع ركضه. أشعرُ بإجهادٍ في صدري. رباه! مجرد خطوات جعلتني ألهثُ كالمكدود. أتحسسُ بخاخة (الفنتولين) في جيبي. أضخُ دفقتين في فمي.

"يجب أن نعود يا فريال. لم أعدْ اقوى على السير."

تنادي صغيرنا: "أحمد."

يهرب من نداء أمه. تتدافع الضحكات من أعماقه. يعجِّلُ من خطوه, تتبعه وتمسكُ به.

رائعٌ ولدي.. والدربُ طويل..

ينتابني اصرارٌ أنه لا بد من العافية. أشعرُ أنَّ النوبة قادمة.. فراسة ألفتها وأصبحتُ بفضلها قادراً على معرفة شراسةِ النوبة.

"ستكون شديدة هذه المرة يا فريال."

كثيراً ما تكون البداية عسراً في التنفس ثم تتضرعُ بعده كل خليةٍ في جسدي لتنعمَ ولو بشهيق واحدٍ من الأكسجين. ويجثو الداءُ فوق صدري. يستحيلُ إلى زمن تتمطى ثوانيه ببلادة وتمارسُ ساديتها فوق ضلوعي.

ما كان علينا أنْ نعودَ إلى البيتِ والنوبة آخذه بالإشتداد. كان يتعينُ عليَّ أن أذهبَ إلى أقربِ مشفى.

أسند ذراعي إلى الجدار وتجولُ عيناي عبر النافذة في الدنيا الرحبةِ الممتدةِ أمامي حتى الأفق البعيد.

"ألا تستلقي يا صلاح؟"

"من الأفضل أن أبقى واقفاً" أشعر وأنا واقفٌ أنني أكثرُ قدرة على ملء رئتي بالهواء والتحكم بأنفاسي. ثم إني أكرهُ الإستسلام للسرير. هكذا – على الأقل – أجابهُ خصمي وجهاً لوجه.

أنظرُ إلى الناس والدنيا, إلى السماءِ والأفق الرمادي, إلى تلك الجبال الباهتة اللون لفرط بعدها, أما تلك الواحات الخضراء فهي ما يثير ويؤجج توقي للحياة. يجب الاَّ أنفعل كي لا أزيد من هياج صدري. تعلمتُ – كلما هاجمتني نوبة – أن أسلم جسدي كله للركون وأصرفَ طاقتي لعملية جذب الأنفاس وضخها, ويقيني أنها عملية مضنية. عيناي هما الوحيدتان اللتان تتحركان بنشاط وتجوسان بنهم كل ما يقع في ساحتهما.. أتمسكُ بكل ما تراه عيناي. لن ينقطعَ ما بيني وبين هذا العالم من ودٍ وتوق. أشتاقُ إلى كل ما يجري حولي. عجباً كيف لم أرَ الدنيا والناس على مثل هذه الروعة من قبل!

يشتدُ الإختناق..

ليس أمامي إلا أنْ أضاعفَ جهدي في جذب أنفاسي. رئتاي أصبحتا الآن أكثر انسداداً. لا تكاد تدخلهما مسكة من نفس. كل شيء في داخلي يتلوى كسمكة في شبكة صياد, حتى تفكيري يتلوى ويجول دون إرادة مني.. يسترقُ نتفاً من ذكريات, يغوصُ عميقاً لالتقاطها. أعجبُ كيف بلغ تلك القيعان من مجاهل الذاكرة الموغلة في العمق.. كنتُ صغيراً أركضُ في بساتين الغوطة المزهرة.. زهرُ المشمش من حولي ربيع لا ينضب. أنادي إخوتي:

"هيا نتسابق.. أنا الحصانُ الأبيض.."

أشقُ الهواءَ العابقَ بأريج الزهر وأغوصُ في المروج.. كانت الدنيا آهذاك فرحاً وكنا على يقين من أن الأيام الآتيات ستكون أبداً جميلة.

"أكاد أختنق.."

هذا ما قالته عيناي. ويروعني أن أرى الجزعَ في عينيك. تنظرين إلى أظافري بقلق. نعم, لقد أضحَتْ زرقاء.. وهذا يعني خطوة أخرى نحو الخوف الحقيقي. عيناكِ ضارعتان في اتزان وسكون. أروع ما فيهما ذلك الكم الهائل من البشْر والأمل. لا بدَّ من البقاء لأنَّ أيامنا دائماً في انتظارنا. ولن تكون الأيام إلا جميلة.

انقباضة مفاجئة شرسة تنالُ من قدرتي على التنفس. يثقلُ رأسي. أتأرجحُ بين الغيابِ والوعي.

جسدها الدافيء يعينني على السير.. أسيرُ ببطء مضن.. أشعرُ وكأني أقتلع من وجودي. نخرج. يلفحني هواء على شيء من البرودة, وتسكنُ أنفي رائحة الشارع. كلُ شيء صامت من حولي.

" تكسي.." تنادي.

وتنطلقُ بنا سيارة الأجرة الصفراء عبر شوارع خالية. الليلُ, والأضواءُ, وهذه النجوم المنثورة على صفحة السماء الحالكة.. اشياءٌ جميلة.

الحياة جميلة ولا بد من العافية.. منْ أنْ ينجلي الإختناق يوماً.. رائعٌ ولدي والدربُ طويل.

وستكون الأيام جميلة. وزوجتي الجميلة ستكون سعيدة.. والدنيا السعيدة ستعود جميلة.

وتلتهمُ عجلات السيارة الطريق الإسفلتي.. وكان الليلُ, والأضواءُ, وتلك النجوم المنثورة على صفحة السماء.. سكوناً.

القصة من مجموعته "منمنمات على جدران دمشق القديمة" 1990

 

 

ويمضي الخوف

 

 

ما إن غربت شمس القرى البعيدة, حتى اجتاحت الظلمة قرية "قلدون" التي تهجع نائية وراء المدى المنسي, بعيدا عن الطريق العام الذي يصل دمشق بالنبك. ظلمة هادئة لم آلفها في مدينتي دمشق. وهذا ما زاد من قلقي وخوفي على أخي ماجد الذي خرج مع إبراهيم أبن العم عطا إلى البرية من باكورة الصباح.

قلت للعم عطا وكان قد وصل لتوه من الكرم:

"أخي ماجد وإبراهيم لم يعودا من البرية!"

لم يبد عليه القلق, بل اكتفى بأن أشار بيده بحركة متعبة قائلا:

"حيرجعو.. ماتنشغل."

"أنا خائف عليهما من الليل والذئاب."

"الليل لا يخيف والدرب آمنة."

أشاع كلام العم عطا في نفسي شيئا من الإطمئنان, فهو فلاح خبر قريته وليلها ولابد أن يكون في كلامه الكثير من الصحة والصدق. تبعته وهو يدخل حماره الحظيرة, وجعلت أرقبه وهو يفك سرجه المهتريء, وقد امتلأ أنفي برائحة التبن وروث الدواب. قال لي وهو يدفع السرج من على ظهر الحمار:

"الليل لا يخيف. أنتم فقط أهل المدينة تجعلونه مخيفا. نحن الفلاحين لا نخاف من الليل لأننا نعرفه جيدا وألفنا ظلمته. أما أنتم فتخافون من الليل لأنكم لا تعرفونه. لقد بددتموه بالأنوار فأصبحتم لا تعرفونه على حقيقته, وعندما تلقونه في القرية بظلمته وهدوئه تحسبونه وحشا سيفترسكم."

كنت في سن أسمع فيه كثيرا, وأتقبل ما أسمع, وما أقل ما أقول. وأنا الآن عندما أعود بذاكرتي إلى الطفولة أجد تلك الليلة القروية ماثلة أمامي بوضوح محرض وكأنها تتباهى بسلطانها على طفولتي, وبتميزها من كثير من الذكريات.

جعلت اقلب كلام العم عطا, الذي يُعرفُ بين أهلي بالبساطة والسذاجة أحيانا, فوجدته معلما نادر المثال. لقد تعلمت من العم عطا كيف أتغلب على الخوف.. وأن الليل جميل وآمن. كنت أنصت إليه بأمتثال وهو يحدثني عن الظلام. وعندما أسترجع كلماته الآن أشعر بفرادتها وأعجب كيف تصدر عن قروي بسيط. كانت تجربته الخالصة هي التي تنطق فيه. فالعم عطا يقول ما يجرب ويرى ويحس.. فلاح خبر الليل ودروبه واهتدى بقمره وهجومه.. وأدرك بأعماقه أنه أليف وآمن.

"ولماذا نخاف الليل يا ولدي؟"

قلت له وكان واضحا أنني ألتمس منه اجابة تبدد خوفي من الليل:

"لأن الجان تخرج في الليل."

ضحك العم عطا ملء شدقيه وقال وهو ينظر إليَّ مستنكرا بعينين صقريتين بيد أنهما مترعتان بالحب والبساطة:

"يا بني وماذا ستفعل الجان بالفلاحين البسطاء؟ إننا نتعب ونشقى طوال النهار لنحصل على لقمة العيش فماذا ترتد الجان منا؟" ثم ضحك وأمسك بيدي ونادى:

"يا أم إبراهيم.. أعدِّي العشاء, فضيفنا جائع."

"لننتظر مجيء ماجد وإبراهيم كي يتعشيا معنا."

"سيعودان قبل أن تنتهي أم إبراهيم من إعداد العشاء."

عجبت لوثوق العم عطا من عودتهما. وثوق يدل على أنه لا مكانة للقلق في صدره فتمنيت أن أكون مثله, رجلا لا يخاف الليل ولا يقلقه.

دخل العم عطا الحجرة, فوجدت نفسي وحيدا في عتمة حوش الدار الذي تسرب إليه نور مصباح الكاز من نافذة الحجرة – نور ضئيل يكاد لا يبين بيد أنه يؤنس النفس ويشيع فيها الإطمئنان. بلغت باب الحوش الخارجي وجعلت أرمقه بتردد. بلعت ريقى ورفعت نظري إلى السماء. كانت النجوم تبرق واضحة وقد بدا القمر وكأنه يترقب منى أن أقوم بالخطوة التالية. ويشق صوت العم عطا سكون الليل:

"أخرج وتمشَّ حول الدار ريثما ينتهي العشاء."

التفت إلى مصدر الصوت وقلت بنبرة تتظاهر بالشجاعة:

"حاضر يا عم عطا.. سأفعل."

دفعت رتاج الباب الخشبي وخرجت. صدمتني ظلمة حالكة. أمعنت النظر في الديجور فتملكني إحساس أن لا محيد عن الخوف. عجبت كيف أن العم عطا لا يخاف الليل. أتراه كان يهذي عندما حدثني عن أمن الليل وهدوئه؟ هدوؤه بالذات بضاعف إحساسي بالخوف, فلو كان ثمة حركة أدمية من حولي لما خفت خوفي هذا. لكن هذا كله لم يمنعني من أن أقوم بالخطوة التالية.. وقد أرهفت سمعي تأهبا لأية مباغتة تنشب في الظلام. ظللت أتقدم إلى أن غرقت في العتمة. كنت أسمع خطوات قدمي وهما تدوسان تراب الأرض المحصاة. كانت خطواتي أنيسي الوحيد. كل خطوة فيها من الإقدام والشجاعة ما لا عهد لي به من قبل. لم أكف عن التقدم وكان خوفي يتعاظم وكنت أنتظر اللحظة التي سينعدم فيها الخوف في داخلي لهذا كنت أردد كلمات العم عطا.. أرددها لأنني آمنت بها, ولو كنت غير مؤمن بها لما عرضت نفسي لهذه المجازفة.

لقد تجاوزت قلقي على أخي وإبراهيم. وكيف لا أتجاوزه وقد اصبحت بنفسي مطوقا بالخوف. شعرت وكأنني قد قضيت وقتا طويلا في أعماق الليل, وأنني لابد أن أكون قد ابتعدت كثيرا عن الدار. التفت خلفي لأرى بوابة الحوش لا تبتعد عني الا بضعة أمتار. أخذت نفسا عميقا ووطدت العزم على أن اثابر على تحدي الخوف من الظلام. الليل كما قال لي العم عطا لا يخيف إنما نحن الذين نجعله مخيفا.

جعلت أتقدم خطوات أكثر جرأة, ولا أخفيكم أنني كنت خائفا حتى الموت, بيد أنني بدأت امقت خوفي, وانتابتني رغبة صادقة بأن أتحرر منه. كنت أشجع نفسي وأمنيها الأماني العراض بأنني لو تغلبت على الخوف من الليل فانني لا محالة سأصبح أكثر صبيان الحارة شجاعة.

وجعلت أغني ففي الغناء مؤانسة وصرف للخوف. وجدت نفسي أردد أغنية كنا أنا وماجد وإبراهيم نغنيها عند الصباح الباكر ونحن ممتطون ظهر حمار عطا قاصدين أشجار الجوز عند مشارف القرية. وبغتة تناهى إليَّ عواء ذئب تبعه نباح كلاب فانقطع الغناء في حلقي وتبسمرت قدماي في الأرض من شدة الخوف. كادت تنهار خطواتي كلها التي بذلتها في شرخ الخوف, ومع ذلك كان ما يزال في أعماقي صوت غير هياب يحثني على أن أتجلد. حاولت أن أرفع قدمي فلم أستطع. لقد أمسيت عاجزا عن أن أتقدم خطوة واحدة. ولكن عليَّ الاَّ استسلم. يجب أن أخطو بكل شجاعة ولو كان هلاكي. بل يجب أن أركض في قلب الليل ولن أتنازل عن هذه التجربة العظيمة التي ستجعلني رجلا.

وفعلا خطوت.. بل هممت أن أركض! وما أروع تلك اللحظة التي بدا الأمر فيها في غاية السهولة. ركضت وعانقت الليل بأنتشاء! أحسست أنني فزت بالرجولة.. فغنيت.. غنيت بصوت عال. ثم جاءت اللحظة التي كنت منصرفا عنها على الرغم من أنني كنت أنتظرها بفارغ الصبر فقد تناهى إليَّ من بعيد صوت ماجد وإبراهيم وهما يغنيان.

ركضت صوب الصوت وأنا أناديهما بفرح عامر:

"ماجد.. إبراهيم.."

وجعلت أردد معهما أغنية الصباح, وأتحدت أصواتنا النحيلة في عمق العتمة. ومن بعيد – من بعيد حقا – جاءنا نداء العم عطا:

"يا أولاد.. تعالوا للعشاء."

وبصوت واحد صرخنا ثلاثتنا:

"إننا قادمون.."

 

أضيفت في 01/07/2006/ خاص القصة السورية/ المصدر: الكاتب

 

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية