أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 15/08/2024

الكاتب: عبد السلام المودني-المغرب

       
       
       
       
       

 

 

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

روائي وقاص من المغرب

من مواليد 05/06/1976 بالرباط

 

الأعمال
الدخلاء "رواية" فاس 2003

أتون التيه "رواية" سلا 2004

 

تحت الطبع

أسفار الرجوع  "رواية"

كوابيس جنوبية  "قصص"

همس المدينة "قصص"

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتب

مفقود في الحشد

الزبون الوحيد

وجه في المرآة 

 

وجه في مرآة

 

استفاق من شروده ذاهلا. و طفق يحملق في المكان الذي ساقته إليه قدماه في نومة منه بدأت تتكرر معه كثيرا هذه الأيام. وكأنها بداية أفول رجاحة عقله الذي كان مفخرته الوحيدة.

محطة القطار على غير عادتها خالية أو تكاد تكون إلا من بعض المتسكعين من أمثاله الذين جعلوا يطوفون بالمكان بحثا عن فريسة. والفريسة قد تتحول إلى مفترس، إلى قوة قاتلة مدمرة قد تأتي على كل جيوبه. والفرائس تلك الليلة كانت واحدة استسلمت إلى ركن قصي داخل المحطة شبه الخالية، وجعلت تخطر في وجوه المطاردين لها. وكانوا أربعة ، كأنها تختار فريستها هي أيضا.

ما أن رأته حتى هبت من مكانها تقصده في خطوات واسعة. ارتمت بوجهها على وجهه وهي تقول بصوت مسموع:

- تأخرت كثيرا.

قال بذهول و بقايا عطرها المدوّخ تستقر في خياشمه:

- لا بأس.

ولم تمهله وقتا ولا منحته فرصة ليتفحص وجهها ويتأكد إن كان يعرفها فعلا ، إذ جرته من يده، واندفع خلفها مستسلما ليدها التي تسحبه تحت مطارق العيون الناقمة عليه والتي انتقلت منها إليه كحالها كلما ظفر أحدهم بإحداهن. هم يعرفونه جيدا. يجيء إلى محطة القطار . يقف في ركنها القصي، تماما بين بابها وشباك تذاكرها. 

أكان ينتظرها كل تلك المدة؟

لطالما غنم أصحاب العيون المتقدة الحاقدة في ليال كثيرة لكنهم اليوم سيغادرون خاسرين خائبين. بينما لأول مرة يغادر هو رفقة جميلة فاتنة، والوحيدة المتوفرة في تلك الليلة على غير عادة المحطة المعطاء. كأنه كوفئ على صبره. لم بسمعوه من قبل  يقول كلمة ،أو يغمز بإشارة لواحدة، أو حتى يطوف بمكان تواجدت فيه فريسة. كل ما كان يفعله. وقوف في برزخه بين الباب و الشباك و ينتظر. و ند موعد إقفال المحطة يطأطئ رأسه منسحبا.

أكان ينتظرها كل ذلك الوقت؟

ولماذا كان يقف كل ليلة بين الباب وشباك التذاكر؟

ثم لماذا لم يكن ينظر إلا لهما؟

منذ التقيا وتبادلا تلك الكلمة لم يقولا شيئا، إنما مشيا صامتين بخطوات أخذت تتباطؤ كلما ابتعدا عن المحطة. كانت ممسكة ذراعه كأنها متعودة على فعل ذلك منذ زمن. وعندما صعدا تلك العمارة التي كانت سباقة إلى مدخلها. بدت كأنها تعرف شقته حتى إذا دخلاها أبدت ألفتها مع المكان إذ توجهت إلى المطبخ دون أن تسأله عن موقعه ، كأنها تعرفه معرفة جيدة ، كما تعرف أين يضع القهوة والسكر. وتركته فاغر العينين. راكنا إلى صالونه معقود اللسان. كأنه ضيف في شقته. ولكنها شقته وهذه المرأة تزيد في إحساس غربته وربكته ووحدته.

يخفي نظراته في فنجان القهوة الذي يحتسي منه متحاشيا نظراتها التي تعاود اكتشاف تضاريس وجهه.

- لم تتغير كثيرا حسن.

كاد يشرق بغصة في حلقه. كيف عرفت إسمه و هو متأكد أنه لا يعرفها ولم يقابلها يوما؟ لم يعرف امرأة غير أمه حتى علاقته بها على قدمها لم تترك له ذكرى طيبة .

كان يود أن يقول لها { وأنت تغيرت كثيرا عني حد أني لا أعرفك يا...} لكنه عاد فقال:

- كأنك كنت تنتظرين شيئا أو أحدا في المحطة.

غمزت له بعينها و قالت دون تفكير:

- كنت أنتظرك

لازالت الأسئلة تهذر في رأسه. من تكون هذه التي اقتحمت عليه حياته؟

المحطة التي قالت أنها كانت تنتظره داخلها والتي أدمن على الذهاب إليها كل ليلة في مثل ذلك الوقت ، كانت فضاء نزاعه مع نفسه وحيرته المستمرة.

 أيظل في تلك المدينة التي أقرفته بمن وبما ضمت أم يقصد شباك التذاكر و يصعد أول قطار و ليأخذه في وجهته؟ أتكون هي قطاره ؟ ترى أين تقوده ؟

قصدت المرحاض بخطوات ثابتة كأنها تعرف مكانه و خلته إلى نفسه و أسئلته الخرساء التي لا تجود إلا بأسئلة أخرى، فأخرى، ثم أخرى.

لابد أن يعرف من تكون؟

التفت حوله فإذا يده تمتد بحركة آلية مسرعة إلى حقيبة يدها. متاعها الوحيد وعيناه إلى مدخل الصالون. لاشيء داخلها قد يجيب على فضوله. هاتف نقال ومذكرة صغيرة فتحها فألفى دهشا صورة حديثة له وأخرى بالأبيض

والأسود عندما كان صغيرا. تساءل:

- صورتان لي. كيف حصلت عليهما؟

ونزعت به نظراته المتوثبة إلى أرقام الصفحة الأولى من مذكرتها فإذا هي ملآى بأرقام. شُد ّ للرقم الأول. ثم عاد للتساؤل:

- من أين أتت برقمي الجديد الذي حصلت عليه هذا الأسبوع فقط؟

الرقم الثاني في الصفحة الأولى المقابلة للصورتين كان رقمه الأول الذي غيره عندما أخذ أحدهم يتسلى به ما بعد منتصف الليل. وتساءل مرة أخرى:

- أيعقل أنها تعرف الآخر أيضا لتدونه تحت الجديد ؟

كالصورتين تماماـ فكرـ وأرقام أخرى هرعت إليها حدقتاه. الرقم الثالث طبعا كان تاريخ مولده. غير معقول

أحس حركة منها فأعاد الأغراض إلى حقيبتها بسرعة. وتظاهر صادقا بالسهوم:

- ماذا كنت تفعلين في المحطة؟

-قلت لك كنت أنتظرك.

- هراء كيف عرفت أني سأذهب إلى هناك؟

- لأنك تقصدها كل ليلة مذ كنت صغيرا

- ولماذا الليلة؟

- أنت تعرف لماذا؟

- لا.لا أعرف شيئا.

- لا تكذب خشيت أن تسافر وتتركني وحيدة في هذه المدينة الموحشة ليس لي إلا أنت و لا تملك غيري. لقد كنت عازما الليلة على السفر. أليس كذلك؟

- كيف عرفت؟

- لا يهم.

- بل يهمني.

- يبدو أني أخطأت عندما حاولت أن أبقيك في المدينة.إرحل إن أردت.

-أيهمك أمري؟

- طبعا.

- لكني لا اذكر أني رأيتك و لا عرفتك قبل اليوم.

- ماذا تقول؟ لاتعرفني حسن. أفقدت عقلك مع ذاكرتك؟

- إرحميني من هذا العذاب و قولي من تكونين ؟

- يبدو لي أني أخطأت كما قلت لك.

وانتفضت من مكانه ابعصبية و قصدت باب الشقة و الغضب ممسك بتلابيبها دون أن تزيد كلمة أخرى وإنما حملت نظراتها ضيقا وحرجا وكثيرا من الأسى والأسف وخلّته إلى وحدته وحيرته.

انتبه بعدما خرجت أنها نسيت حقيبة يدها و أخذ يبحث داخلها بهدوء هذه المرة. لا شيء جديد. أعاد فتح المذكرة الصغيرة . اتسعت عيناه دهشة وهو يكتشفها فارغة كأنها جديدة:

- أين ذهبت الصورتان؟ والأرقام؟ أأخذت كل شيء معها؟ لكني لم أرها تفعل ذلك. أخذت أجوبة كانت ستغنيه عن الحيرة و تركت له حقيبة يد صغيرة. ضمت مذكرة خالية تماما وهاتفا نقالا. ولا شيء آخر. لا، لاحت له مرآة يكتشف وجودها لأول مرة، كأنها لم تكن هناك في المرة الأولى. جعل يتفحصها، تطلع فيها وعيناه تزدادن اتساعا دهشة و استغرابا. المرأة تركت وجهها في المرآة. وجه جعل يرقبه بدهشة كأنه فوجئ بفضول غريب أخذ يتطلع إليه. ألقى المرآة جانبا بيأس وهو يتساءل دون أمل في رد هذه المرة:

- ترى أين ذهب وجهي؟

سلا في..26/فبراير 2005     

 

 

الزبون الوحيد

 

مستند بكوعه إلى المشرب الخشبي. وجهه متغضن، عضلاته متقلصة و طرفه ذاهل في نقطة بعيدة مخترقاً حدود المكان و الزمان. تململ بدون مقدمات، فأحدث ذلك قطيعة مع صمت طويل لم يجرؤ أحدهما على قتله، ثم قال بصوت متهدل، كأنه يحتاج لمدة طويلة و لدًُربة قاسية كيما ينفض عنه الغبار، كاشفا عن فضلات أسنان لبقايا فم لشظايا وجه لذكرى رجل عاش في شبه زمن.

-" باقلال" !

بحركة لاإرادية تململت لتملمه المفاجئ، وزاد في ربكتها أنه أعتق أخيراً لسانه من معتقله. لكنها تملك ما يكفي من حنكة السنين لمجاراة الإحتمالات الطارئة، رغم أنها كانت تنتظر منه كل شيء إلا أن يبادرها الحديث حتّى عندما دخل دخل بدا وكأنه ثمل، صامت متصلب في مسالك الصمت البعيد. لم يلق تحية، وعندما أراد أن يختار مشروبه لم يتفوه بكلمة بل أشار لها بطرفه في حركة حادة ، ولبت طلبه متوقعة أن يتجرأ مع الوقت و ينطلق لسانه كما يحدث دوماً مع السكّيرين من أشباهه لكنه أبداً لم يكن كظنها به من طينة الآخرين. ثلاث ساعات أمضتها رغم أنها أبدت لامبالاتها الظاهرة ،بيد أنها في قريرتها ووعيها توجست منه، و ظلت ترقب سكناته. رفعت حاجبيها بعدما ازدردت وقع المفاجأة لحظةَ ارتطام المتوقع مع الواقع، واصطنعت ملامح دهشة أخرجتها من رف تعاملها، وقد اطمأنت إلى أن المفعول السحري للسائل الناري يصيب ولو بعد حين.

- الموقعة؟

عاد ليقول بتثاقل مضجر، و كأنه يلفظ أنفاسه الأخيرة أو أنه تحت رحمة كائن يجبره على الحديث معه رغم أنه البادئ و المبادر:

- الكابرال "باقلال". الكابرال رتبتي، و"باقلال" إسمي. أما الموقعة فقد سميت لأجلي كما اقترنت الرتبة باسم "كابو" الإيطالي الشجاع.

حسبت أنه أمضى زمناً لم يتكلم. كان كطفل يدرج خطواته الأولى في الحديث. هي تكره أشدّ ما تكره في مهنتها زبون صامت. و الأشد ثقلاً على نفسها و وطأة على أعصابها و طاقة تحملها أن تبتلى بآخر مجنون، تزيد الخمر في دفعه إلى أعماق هوته السحيقة حيث لا قرار غير سديم أعمى . لكن ماذا تملك غير الصبر و مجاراة الزبون الوحيد. فالزمن زمن أزمة حانات. والطرقات هُجرت إلى المضاجع مخافة الهلاك بعدما سقطت قذيفتين الأسبوع الفائت على حانتين في الشارع الخلفي فأحالتاهما إلى أثرين لبقايا حديث متشظي ملفوظ مع حشرجات الألم لقاء صدمة مفاجئة.

لاشك أنه مجنون فعلاً ليدخل في ساعة مثل تلك إلى هذه الحانة. أما هي فلا تملك و لا تعرف غيرها التي اختزلت سني تواجدها في هذه المقاطعة. اختارت مجبرة البقاء على الفرار وقالت بإصرار:

(الأجدر بالمرء أن يُقضى في مكان كسب عيشه على أن يَهلك جوعاً).

ألقى إليها بهذا الخيط الدقيق الذي لن تضيعه. ستستأجر ما فضل  لها في جورب صبرها لتتحمله، وستُعمل كل حنكتها علها تظفر منه بشيء. من يدري؟ ليلة مؤداة الثمن مثلاً. أعادت تقليب صورته أمامها مرة أخرى بعدما عبثت بها مرات قبل ذلك علها تفلح في فك شفرة الزبون العصّي. كل ما كان عليه يشي بعته حقيقي يتخايل مع وجوده.

في الساعة الأولى لدخوله بدا كعسكري مستقيم يؤدي واجباً مقدساً في بزّة عسكرية أنيقة، عمد إلى فتح أزرار قميصه في الساعة الثانية. و انتهى مع بداية الثالثة إلى نزع كنزته و إلقائها بإهمال على كرسي بجانبه، و تخلّى معها عن هالة الصمت التي أدخلها معه و صحبته كل تلك المدة مطوّقة وجوده. لقنتها مهنتها المتعبة جداً أن تحفظ حدوداً وهمية تصون بها بعضاً من رمزية  شخصها كأنثى وحيدة، و سلعة وحيدة معروضة في حيّز ذكوري خالص، تستثمرها فيما بعد في التفاوض في ليلة مؤداة الثمن مثلاً. لأجل ذلك أظهرت نفوراً مقابلاً لصمته المعلن في الساعة الأولى ، و بدأت تلين بعض الشيء في الساعة الثانية و كادت تبادره الحديث. ولاطفته بنظرة رقيقة لم تفعل سالف فعلها. و جربت عطرها الذي تلاشى في المسافة الفاصلة بينهما قبل أن يتسلل إلى خياشمه، لكنها أحجمت استناداً إلى قاعدتها الذهبية. و عند بداية الساعة الثالثة ركنت إلى جهاز التلفاز أنيسها الوحيد بعدما فقدت كل أمل في زبونها الوحيد.هي تلعن الزمن الذي دحرجها إلى هوّة مثل هاته لتصبح عرضة لموقف ساخر مثل ذاك.

في سني اشتغالها الأولى ما كانت لتلحظ وجود شيء مثله، بيد أنها الآن تخطت مسرعة عقدها الرابع من عمر أنفقت أكثر من نصفه في السهر والإنطلاق إلى أن اصطدمت يوما بالأحداث الرهيبة لصور بثتها مرآتها اللعينة. فاجأتها التجاعيد مستلقية على وجه كان نضراً طرياً، وزحفت حتّى أسفل عنقها. واكتشفت متفاجئة أكثر من مرة وزنها الذي تضاعف في لحظة غفلة منها. و تراخت طبقات اللحم المطعّمة بالشحم بعضها فوق بعض في فوضى جسدية بادية، تحاول مداواتها بالتحسرعلى ما مضى، وبالأصباغ و بعض الغنج البائد.

في الماضي كان الزبناء  كالنمل . حيثما ولّت وجهها تلتقي بنظرات الأمل والرجاء. يتسابق الجميع لأجلها. هي نقطة البداية والنهاية. لأجلها أقيمت  الولائم والمراهنات والمقالب والمطاحنات. الكل كان يأتي لأجلها، علّه يظفر بليلة مؤداة الثمن الباهض مثلاً أو بموعد أو بكلمة مجاملة أو حتّى بنظرة تجود بها لحظة من لحظات رضاها و صفاء خاطرها. كل ذلك غدا أثراً من ذاكرة أيام هرعت فارة مقررة عدم العودة حتّى صار جسدها قفرا كالمكان تماماً.

فكرت قليلا في أن جنونه معروف يقوده كما يفعل دوماً مع جل السكارى يدارون خيباتهم بالحديث عن بطولات وهمية ، لكنه مضى أبعد قليلاً  إذ زعم أن الموقعة الشهيرة التي عرفت تكبد إخوة الشمال هزيمة مريرة. لكنها مع ذلك مصرة على حفظ حبل الكلام معه. فعمدت إلى قاموس المجاراة تبحث في ثناياه عن كلمات تبقي الأحمق المدّعي أطول فترة ممكنة داخل حانتها المهجورة، المائل ضوؤها إلى الإحمرار. وبينما هي في بحثهاعن الكلمة المناسبة قال فجأة وقد انتصب و عيناه على التلفاز:

- ارفعي الصوت.

استسلمت مذعنة لأمره. أليس الزبون ملكاً؟

أخذ يحملق بعته جليّ في مقدمة الأخبار التي رأى فيها وجها آخر لساقيته. تصورهما متشابهتين حد التطابق. ملامح وحيدة، نفس الشفتين الممتلئتين و ما تفرجان عنه من كلمات ملغومة، والطلاءات الصاخبة التي أحالتهما إلى دميتين آدميتين. كذاك كانتا فعلاً. قالت بصوت حماسي:      

 ( يحتفل شعبنا اليوم بالذكرى الأولى  للإنتصار الكبير في موقعة "باقلال" الشهيرة على العدو الغاشم، حيث كبده خسائر فادحة في الصفوف والعتاد وأجبره على التقهقر خارج "تل الملح" بصفة نهائية. وعرفاناً منه بخدماته الجليلة، قام رئيسنا المفدى بتوشيح الكابرال"باقلال" البطل

الذي استطاع بمفرده التغلب على جيش العدو فألحق به العارأبداً. إليكم مراسيم منح وسام البطولة مع مراسلنا الدائم من القصر الرئاسي العامر).

تابعت باهتمام مزيف اهتمامه المحموم بالموضوع، ثم ما لبثت أن شرعت عينيها دهشة بصدق هذه المرة لمّا رأت زبونها الوحيد نفسه يقف متصلباً أمام الرئيس في مراسيم التوشيح بوسام صنع خصيصاً له. كان يرقب الجهاز صامتاً و من خلفه دوي مدفعية العدو وأشلاء جثت تتخبط في رقعة الموت. وجوه تستغيث بالموت و أخرى تهذي. كل تلك الوجوه يعرفها ، يحفظها. أصابته شظية عمياء في ساقه اليسرى جعلته يترنح قبل أن يهوي بلا حراك. و استفاق على دوي أناشيد النصر الحماسية تصك صماخيه. و أمعنت في التودد له بعدما اكتشفت أنه لم يكذب، بأن رفعت صوت الجهاز بيد أن ردّة فعله أتتها مخيبة محاولتها مجدداً إذ صاح بصوت مجلجل:

-غيري لنا هذه القذارة.

و بدون قصد منها،هُرعت قناة العدو إلى واجهة الجهاز، إذ كانت التالية على اللائحة كأنها تتعقبه أنّى اتجه. ولمّا لحظت أهتمامه الكبير الذي تواطأ مع رغبتها المنطلقة، أبقت على الصورة مثبتة على قناة العدو. أعاد حملقته مجدداً في مقدمة الأخبار التي بدت شبيهة بمن سبقتها و ساقيته. وبنفس الصوت الحماسي قالت:

( يحتفل شعبنا اليوم بالذكرى الأولى للإنتصار الكبير في موقعة"الزيزي" الشهيرة على العدو الغاشم حيث كبده خسارات فادحة في الصفوف و العتاد أجبره على التقهقر خارج "تل الملح" بصفة نهائية. و عرفاناً منه بخدماته الجليلة، قام رئيسنا المفدى بتوشيح الملازم "الزيزي" البطل الذي استطاع بمفرده التغلب على جيش العدو فألحق به العار أبداً. إليكم مراسيم منح وسام البطولة مع مراسلنا الدائم من القصر الرئاسي العامر).

 تابع بحذر شديد صورة الملازم و حركاته. كان كالماثل بين يدي موت آتيه. وقف قبالته تماماً بعدما استعاد وعيه. لاحظ أنه مصاب أيضاً لكن في ساقه اليمنى . وقف متصلباً و بندقيته اتجاه صدره. شيء ما يمنعهما من الحركة. أتاهما دوي مرعب لأناشيد احتفالية. روحها الوطنية دفعتها إلى خفض الصوت. فعلت ذلك مترددة ما بين ادعائين كالحقيقة تماماً. كلتا الجبهتين تصران على أنهما انتصرتا، وقدمت للشعبين صيغتين مختلفتين لنفس الرواية لكن بنهايتين متناقضتين. لم يعد يهمها شيء أكثر من معرفة الحقيقة التي كان زبونها الوحيد جزءاً منها. لم تعد تعنيها ليلة مؤداة الثمن مثلا ً. أدخلها دوّامة جديدة .عليها أن تحسن التصرف إذا ما أرادت كسب ثقته وفك لسانه الذي أضاف بتثاقل واضح وقرف كبير:

- غيري لنا هذه القذارة.

تتكالب الصدف تباعاً، وتبزغ قناة الحقيقة إذ كانت التالية. يظهر وجه ذكوري هذه المرة، لا تلتقي تفاصيله مع أحد ممن سبقه، فقال بصوت رصين:

( نحتفل اليوم بذكرى مرورعام على الإنتصار في موقعة "تل الملح" حيث نجحت قوات الحلفاء في القضاء على المتمردين و ردعهم عن أرضنا أبداً في بداية حرب تشهد هذه الأيام آخر فصولها. وحتّى نعيد إلى ذاكرتكم مظاهر قوة جيش الحلفاء التي ستُكرر عمّا قريب، نبث لكم الحقيقة لتلك الأحداث الموشومة في أرشيفنا الوطني. إليكم الصور كما التقطها المصور المصاحب لجيش الحلفاء).

كأنها تتنصت على وجيب صدرها المدوي و هي تكافأ على طول صبرها. مدرعات تشق المسافات في "تل الملح" حيث وقف رجلان أو بقايا جيشين، أحدهما في مواجهة الآخر و كلاهما يحمل بندقية موجهة صوب صدر الآخر، و ساد بينهما تصلب اضطراري عجزا معه على الحركة بعدما بلغهما هدير مرعب لآليات آتية من الغرب صوبهما مباشرة. وفي نفس اللحظة تماماً كأنهما ينفذان أمراً عسكرياً صارماً، تراجعا مستديرين وقد بدا عرجهما.

كانت التحذيرات من عقلاء الشمال والجنوب الأخوين قد انطلقت منذ مدة، تقول أن الوحدة سبيلهما الوحيد لمواجهة جيش الحلفاء، بيد أنهما لمّا اقتربا كثيراً و أوشكا على الحدث المأمول، اشتبكا في حرب أنهكت الجند والميزانية. فزحف جيش الحلفاء بسهولة ويسر دون أن يجد من يعترض سبيله. حينما استفاقت من صدمتها التي ألقتها إلى وهاد الصمت، أرادت سؤاله عن مكمن الضعف و الخلل.

( لا يمكن أن يحدث هذا، لقد قالوا أننا انتصرنا، واحتفلنا بذلك. واليوم يوم ذكرى و عيد و...) لكنها لم تجده أمامها، بينما هرعت نظراتها تحاول اللحاق به، فأدركت شظايا طيفه يعرج مخترقاً باب الحانة، وقد خلّف كنزته حيث وضعها أول مرة. وعلى المشرب الخشبي بضع وريقات نقدية كانت كل ما تسلمه من القيادة العامة، وهي ثمن سنين كذب مؤداة الأجر، ووسام يلمع. أخذت الوريقات ثم وضعتها بعناية وحرص في جارور خزنتها . ترددت  لحظة ثم أخرجتها بحركة عصبية و ألقتها و الكنزة والوسام في سلة القاذورات، بينما جرتها صور قناة الحقيقة التي انتصبت على زاويتها العلوية كلمة "مباشر" ، وهي تتعقب مُدرعات جيش الحلفاء.

أطفأت الجهاز والهلع يركبها. لا زالت تسمع ذلك الهدير القوي المرعب. خرجت شبه مهرولة خارج

الحانة لتجد نفسها في مواجهة جيش الحلفاء مباشرة.

سلا في 18/07/2005

 

 

 مفقود في الحشد أو المتنازع عليه

 

 

يمشي، لا لم يكن يمشي.كان يتعلم المشي. يكاد يتعثر في الصورالتي تخطو إليها عيناه و رجلاه تحملان جسدا غريبا عنه يكتشفه هو أيضا كما الأ شياء الأخرى المحيطة به،كما روحه التي علقت بسجن جسد لم تختره.أحس جوعا يكاد يمزق أمعاءه. كطفل صغير تماما ودّ الصراخ ، ربما البكاء. لو وجد ثديا حلوبا لارتمى إليه من فوره بغريزة متناهاة. أشباهه لا يعيرونه وجوعه نظرة لكأنهم لا يلحظون وجوده.لا ، هناك من يدنو منه . عجوز بالكاد تمشي في مواجهته تماما. مستندة على عصا خوفا من انهيار محتوم. لازالت تدنو منه. توقف فجأة . عيناها اللتان تعانيان رمدا حبيبيا مثبثتان على وجهه. تحسست بيد مخشوشنة شعره. جالت في دروب وجهه. لم يمانع تصرفها بل إنه انحنى قليلا كيما يساعدها. زال جوعه. لا لم يزل تماما،بل هجع في زاوية قصية مظلمة. أصاخ لصوت خرج من بطنها:

- أين كنت طول تلك السنين يا وليدي؟

تفاجأ. شعور المفاجأة يكتشفه لأول مرة . لم يكن يتصوره كذلك. لا لم يتصوره،لأنه لا يملك ألبوما في ذاكرته يختزن الصور ويحفظها، بل يملك واحدا لكنه خال تماما. صدر عنه صوت خرج رغما عنه . لم يكن يعني ما قاله:

- عفوا ؟

كطفل ارتمت في أحضانه مجهشة دونما إمهال ثم قالت منتحبة:

- ألا تذكر أمك ؟

أخذ جسداهما بالإهتزاز. هي لأنها تبكي . و هو لأنها تبكي.أشباهه الذين مروا به من قبل دونما مبالاة. يحيطون بهما يرقبون مشهدا جديدا على المدينة. شظايا ذاكرة تضم شظايا جسد إليها ضمة اهتزازية. كرقصة مربوكة بموسيقى الدموع مشفوعة بأغنية حزينة غير واضحة الكلمات. عندما ردّها بلطف عن حضنه أدرك أن الدموع زادت من تشوه عينيها، فصارتا أكثر مدعاة للتقزز و التبرم. فقال محاولا حسم الأمر:

- معذرة أيتها السيدة ، لكني لا أعرفك.

انطلق صوت من بين الحشد:

- جاحد .

كانت في ختام وصلة نحيبها عندما قالت:

- لاتخطئ أم ابنها مهما قلبت المدينة شكله و حاله. تريد أن تعرف حكايتك؟ تريدون أن تعرفوا حكايته؟

اشرأبت الأعناق و تطلعت الآذان و أشرعت العيون. لم يقل شيئا. لم يفعل شيئا. الأمر سيان عنده. خرج صوت من بين الحشد:

- ن..ر..ي..د .

صمتت قليلا مزدردة ريقها وفرحتها المتلظية بفجيعتها. الفرحة و الفجيعة مصدرهما واحد. هو. ثم قالت بصوت متقطع لكنه واثق:

- كنتَ وحيدي و لازلت.أخذتك أضواء المدينة بعيدا عني كما فعلت مع والدك من قبل.أترى عيني هاتين؟ لقد دمرتهما بحثا في وجوه أبناء المدينة عن وجهك. لكن لا بأس عليهما ما دمت قد وجدتك.

العجوز والذكريات وصوتها والتضحيات لا يعنوه في شيء. هولا يتذكر أي شيء غير جوعه الذي استفاق إذ سمع صراخه هاتفا. هز كتفيه و قال ببساطة شديدة:

- لكني لا أعرفك.

انبرى صوت غاضب من بين الحشد المتنامي:

- جاحد.

من بين الحشد المتنامي. جسد يجر خلفه جسدين يحاول الإختراق. صعوبات تعترضه. يخفق حينا . يتعثر. بإصرار يواصل. يفلح أخيرا و يصل نواة الحدث. الجسد تحمله امرأة تجر طفلين و تحمل على ظهرها آخر لم أره لشدة الزحام و لبعدي عنهم.

- إبعدوا عن طريقي لأرى هذا الجبان المخادع.

قالت غاضبة ثم شبه باكية أردفت:

- أكذا تكون الرجولة. تذرني أصارع الأقدارمع أبنائك و تفر دون مقدمات.

كان يتمنى طبعا أن يتخلص من وجود العجوز. و لكن لا ليقع بين قبضتي عجوز أخرى أصغر بقليل. لكنها كما تبدو جبارة و عنيدة. هز كتفيه و حاجبيه:

- عفوا ؟

قالت والغضب يكاد يمزق حبالها الصوتية:

- تتظاهر بالأدب، وبأنك تجهلني. أنا سأقدم الحجة للجميع بأنك زوجي الخائن . الجبان.

انبرى صوت امرأة من بين الحشد المتعاظم:

- إذا كان زوجك كما تدعين، و تلك أمه كما تقول. فهل تعرف إحداكما الأخرى؟

- هه.ـ قالت المرأة ـ لم يحدث أن رأيت أمه.أعرف أباه فقط.

قالت العجوز دون هه:

- ما عرفت أنه تزوج قط قبل الآن أو خلف من صلبه ذرية.

والذرية، طفلان ركضا نحوه في لحظة واحدة، و ضمّاه و هما يصرخان كأنهما يلهوان:

- بابا..بابا .

بينما آخر مقعي على ظهر المرأة يمتص مخاطه وسط وجوه طوقته من كل جانب.

العجوز ظلت رغم وجود الطفلين تحتفظ بنفس درجة قربها منه ثم قالت متوجهة إلى الحشد بعدما رمت المرأة بنظرة شرسة استطعت رؤيتها رغم تقلص عينيها و رمدهما و بعدهم عني.

- أنا مستعدة لإقامة الدليل على أنه ابني.

المرأة شخصت ببصرها في العجوز بزراية و قرف . استطاع الجميع رؤيتها-بما فيهم أنا طبعا- كما استطعنا أن نسمع صوتها فيما يشبه إعلان التحدي ـ:

 

- أنا أيضا أستطيع إثبات أنه زوجي.

 

التفتت هذه المرة العجوز صوب الحشد. و قد تناسيتا المتنازع عنه. و أضحى الحديث و التحدي محصورا بينهما والإنتباه أيضا. فقالت بصوت تخلى عن شيخوخته ، و الضعف الذي يشيرإليه جسدها:

- ما حجتك؟ أنا أعرف جسد ابني مذ كان في طور تشكله الأول.

زمجرت المرأة:

- لا توجد امرأة لا تعرف جسد رجلها.

نط صوت من بين الحشد المتعاظم:

- أثبتا لنا ذلك.

قالت العجوز مستبقة المرأة محاولة كسب مسافة عنها في سباقهما نحو الظفرو قد ألهبت طاقة نشاط خفية ، صوتها و حركاتها:

- هناك أثر حتما. لا يمكن للسنين مهما عتت بتره من ذاكرتك.أعود بك يا وليدي إلى تلك الحادثة التي دفعتنا إلى ترك قريتنا و هجرأرضنا، و ليتنا ما فعلنا، إذن لما استطاعت هذه المدينة الملعونة أخذك مني كما فعلت مع والدك من قبل.

أنا أكيدة من أنك تذكر ذلك . كنت تعمل في الحقل. والدك عاجز كما تعلم. وبسبب خلاف مع جيراننا البعيدين حول الأرض بعثوا في أثناء غيبتك بشابين اعتديا علي. وعندما عدت ووجدتني ملطخة بدماء العار، ثارت حميتك و نبض الرجولة داخلك فهرعت إليهما من فورك وقتلتهما انتقاما لشرفك . أتذكر يا وليدي؟

ثم أجهشت بالبكاء مجددا. والتفتت إليه كأنها تحثه على التذكر بعدما تذكرته إذ كان خطابها موجها للآخرين رغم أنه صيغة المخاطب فيه. لكنه بدا غير مبال بدموعها وبالأحداث التي دنست شرفها. هز كتفيه و قال:

- أعتذر منك حقا. لا أثر لدي من ذلك.

ضربت العجوز الأرض بقدمها بقوة حنقا ثم قالت:

- تبا لهذه المدينة الملعونة كما أخذته ستأخذك.

صوبت الأحداق صوب المرأة فأدركت أن دورها قد حان. فقالت بصوت واثق:

- كنت أعلم أنها دعية كذّابة. أنا من يملك الإثبات.

ثم توجهت بالحديث إلى الحشد لكنها تخاطبه كسابقتها :

- أثري في ذاكرتك. جئنا إلى هذه المدينة من قريتينا، حيث في المسافة التي تفصلهما ولد حبنا و درج أولى خطواته. حب عاصف مستحيل. قدمت إلى منزلنا يصحبك والدك طلبا ليدي لكن والدي الثري صدكما بقوة و عنف. قال أن مصاهرتكم لن تشرفه، بل تدنسه. لم يشأ منحكم إسمه و ثروته وابنته الوحيدة. رغم كل ذلك ظل حبي لك قويا . وداومنا لقاءاتنا السرية مغرب كل يوم عند الساقية التي تفصل قريتينا و التي شيء لها أن تسقي حبنا أيضا ، و أن تكون رحم حبنا و مسقط رأسه. إلى أن جئتني يوما و قد استبد بك الضيق واليأس معلنا عزمك السفر وحيدا إلى هذه المدينة الماردة لتكسب مالا وأراض كثيرة في قريتنا تقربك من ثراء والدي لتنال بغيتك. لكني لم أدعك تفعل ذلك وحدك. فرحلت معك مضحية بسمعتي وشرفي وشرف عائلتي و ثروتها، و ذهبي.

قبلت تلطيخ اسم أبي في وحل الدنس على أمر فقدانك. و عشنا سنين هنا، رزقنا فيها من زواج مبارك طفلينا الجميلينهذين. وفي يوم غبت دون كلمة أو سبب ودون وداع. كنا سعداء حقا، و تركتني أحمل في أحشائي ابننا الرائع هذا وخيبة مزمنة. أنظر كم يشبهونك. أتذكر قريتينا والساقية التي ولد فيها حبنا و موعد مغرب الشمس و لقاءاتنا وتغزلك بي، و تضحياتي، وثروة والدي وذهبي. أتذكر؟

قالت ذلك كله دفعة واحدة كأنها تتخلص من تزاحم الكلمات على طرف لسانها ثم دنت منه مزيحة العجوز التي قاومت للحظة متصلبة في مكانها بيد أنها تنحت مذعنة لقوة الشباب العاتية. ووقفت قبالته لكنه كفعله مع الأولى عاد لمثل ذلك مع الثانية إذ أن كل حكايتها لم تثره، أو تحرك داخله و لو ذرة واحدة يمكنه ركوبها لتوصله حيث تريد المرأة المتحدثة فقال هازا كتفيه:

- أعتذر منك حقا. لا أثر لدي من كل ما ذكرت.

بصقت في وجهه و هي تقول بحدة:

- جبان ، تفر من مسؤوليتك كعادتك.

لمحت بعدها صوتا يخرج من جسد آخذ في التقدم إلى نواة الحدث. كان متزنا رصينا جديرا بالإنتباه و التصديق:

- أنا أعرف هذا الرجل.

التفت الناس و نواة الحدث اتجاه الصوت و أفسحوا له ممرا واسعا لا يتفق و نحافة جسده. و عندما صار بمحاذاة الرجل قال:

- أنا أعرف هذا الرجل و أذكره جيدا.

زفرات ارتياح صدرت عن الحشد الذي صار كل المدينة. المدينة معروفة بأن ساحتها الكبرة لا تمتلئ إلا إذا تجمع فيها كل سكان المدينة ، و زوارها ، و روادها. لأجل ذلك أنشئت. كل مرافقها عُطلت و أقفلت كل مؤسساتها وامتصت حكاية الرجل و ما يحدث معه فضول كل سكانها و زوارها وروادها.

الوقار يحيط رقصا بالمتحدث كفراشات تجتذبها الأضواء . قال كأنه يخطب أو يلقي عظة:

- عرفت الرجل صالحا مؤمنا برا. من أتقى الناس و أكثرهم ورعا و تفانيا في العبادة و الإجتهاد. هدايته طبعا كانت على يدي. أوصلته بداية الطريق الذي رسمتها له و تركته يسير فيها. لكني فوجئت به يوما يعود إلى سالف عهوده في اللهو و الإستهتار و الامبالاة. حذرته فلم يرعو و وبخته فلم يبال. وكان جزاؤه أن دهسته سيارة فأردته قتيلا.

شهقت "سيارة فعلا دهستني دون رحمة و ألقت جسدي إلى الموت و تابعت سيرها " و كدت أصرخ لولا أن أحدا فعلها عني قائلا:

- لكنه حي يا مولانا.

تألقت عينا مولانا على نحو مثير استطعت رؤية ذلك رغم الزحام و بعدي عن بؤرة الحدث ثم قال رافعا صوته لكنه بذات الإتزان و الرصانة:

- بعد التحذير يأتي الإنتقام العلوي. انظروا إليه. لقد بعث مسخا حتى يعتبر كل معتبر .ألا تصدقون شيخا جليلا؟ لقد شهدت دفنه.

بدا أن الرجل خارج مدار ما يقوله الشيخ الجليل ، إذ هز كتفيه مرة أخرى بلا مبالاة ، ثم قال بصوت جاف، بارد:

- لا أذكر شيئا ولا أريد.

حينها أحسست ولست الوحيد قطعا، حركة مفاجئة تصيب ساحة المدينة المكتظة كأنها سهام تخترق الحشد المتعاظم من الجهات الأربع. و في لمح البصر، دخل رجال أربعة بؤرة الحدث فأحاطوا بالرجل. كانوا بمعاطف متجهمة مائلة إلى الرماد، و يضعون نظارات سوداء. طوقوا الرجل ثم لبثوا دون حراك كأنهم ينتظرون شيئا أو أحدا. نعم إني أراه الآن. كان أبرزهم و لاشك. هاهو يخرج بسرية بالغة من وسط الحشد. كان يشبههم تماما، بمعطفه العابس لكنه مائل أكثر إلى السواد. قصد المتنازع عنه و قال بصوت رهيب:

- لا يهمنا من تكون فعلا؟أنت مدان. و سنعتقلك حتى آخر أيام حياتك.

قرار مثل هذا أحبط الجميع. كل بسبب تصوره. كهذا الرجل أمامي مثلا. كان يريد دخول نواة الحدث للظهور فقط. وآخر هناك كان يود إثبات أنه أقرض المتنازع عنه مالا. وتلك هناك، كانت تتحين الفرصة لتدعي أنه سبب حملها. والآخرون...

أفاقني صوت غاضب لرجل غاضب آثر إخفاء رأسه و تغيير نبرة صوته:

- وما تهمته؟

قال الأبرز:

- ألا تذكرون أم أن عدوى الإجرام إنتقلت منه إليكم. لقد قتل رجلين في قرية مجاورة و لدينا شهود. و تخلى عن أم عجوز و لدينا شهود، وعن زوجة برّة و أبناء نجباء و لدينا شهود. ثم ، ثم، إنه فاسق خرج عن طريق و طريقة شيخنا الجليل ولدينا الخبر اليقين من حافظ اليقين، أضف إلى ذلك تعطيل حال المدينة يوما كاملا، و إشغال أناسها الطيبين بأحاديث لا ثمار تجنى من ورائها.

صاح صوت نسائي هذه المرة لعله لنفس الرجل الأول:

- ولكنكم تفترون على الرجل ولم تنجل هويته بعد.

بنفاذ صبر قال الأبرز:

- أتحسبوننا نلهو في هذه المدينة؟

مد يده و أخرج صورة رفعها عاليا. مددت بصري ككل الأبصار، واستطعت فعلا رؤيتها و تمييزها جيدا. و كانت للرجل المتنازع عنه ثم قال:

- نحن نعرف جيدا من يكون، و هو مسجل خطر لدينا. و نحن في أثره منذ مدة طويلة. و هناك أشياء أخرى كثيرة لا نستطيع البوح بها للعامة.

قيّدوا الرجل الذي لحظت لأول مرة ابتسامته و خلته ينظر إلي. رغم أني كنت بعيدا جدا عن بؤرة الأحداث فقال:

- هذا ما كنت أبحث عنه و تبحثون عنه. هذا جيد.

وبدأت الدائرة الكبرى بالتلاشي مع سقوط آخر حبة من سبحة المدينة. و كما الجميع وجدتني أدفع معهم للتلاشي تحيط بي زوجتي وابناي، بينما كانت أمي العجوز تتقدمنا متراخية على عصاها، كأنها التفتت إليّ غاضبة من نكران الأبناء و عقوقهم. و كما كانت تفعل معي صغيرا عند اشتداد غضبها . هوت علي بعصاها بقوة لا تتفق و سني عمرها. فألفيت قوة خفية تشدني حيث أنا. تحالفت مع رغبة عارمة في الخروج عن دائرة التلاشي. انمحت ذاكرتي. احتفظت فقط بابتسامة المتنازع عنه.أغبطته كثيرا على سعادته البادية لي وحدي دون غيري رغم المصير الأسود الذي ظنه الآخرون يساق إليه.

 

لم يلحظني أحد من أقربائي أتخلف عنهم. صعقت لذلك إذ ظننتني دوما قطب الرحى في نظامهم و إذا ما اختفيت اختل التوازن و انهار النظام. لكن شيئا من ذلك لم يحدث إذ لمحتهم يمشون هادئين إلى التلاشي في حشد كانت تغصّ به قبل قليل ساحة وسط المدينة الساحرة. كنت أمشي. لا لم أكن أمشي . كنت أتعلم المشي. و أكاد أتعثر في الصور التي تخطو إليها عيناي. أكتشف سعادة غريبة تحملها روحي و أحسّها لأول مرة. وأرشف ذبذباتها. لا أحد يهتم لحالي. أحسست جوعا يكاد يمزق أمعائي كطفل صغير تماما. وددت الصراخ. هناك من يدنو مني. عجوز بالكاد تمشي. في الطرف البعيد لمحتني أنظر إليّ أنحني لها كيما تمرر يدا مخشوشنة على شعري، و منه تجول في دروب وجهي.

سلا 21يوليوز2005

 

أضيفت في 09/04/2006/ خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية