امرأة من خزف
"إلى صديقة من الطفولة تمردت... وما عادت امرأة من
خزف.."
أنا هنا أخونك.. أخونك يا زوجي.. عفواً بل يا سيدي.. يا سيد القصر الجميل..
الغارق بالحرير.. المتماوج بالرياش والعبير. قصرك الطافح بألوان الترف. أنا هنا
أخونك.. أصفع اسمك الأرستقراطي النبيل. أنهش البهجة التي غرستها في المجتمع
الراقي بهجة المرأة من خزف. ألطخ لوحة حياتك المتناسقة البديعة ذات الظلال
والألوان. أشوه حياتك المضيئة بالهناء والمتعة. أدوس نجوم اللآلئ والماس التي
زرعتها حول عنقي الجميل.. أقتلع بوحشية حجارة الفسيفساء من صفحة حياتك التعيسة
وأذروها كمخبولة للريح.. للضياع والتمزق. أكاد أرى الضياء المتعالي في عينيك
يتهاوى كشهاب.. أكاد أرى شفتيك الدقيقتين المنضمتين في ترفع.. تتلويان بألم
باهت أخضر.. وهاهما يداك تتشنجان حول انتقام يائس مرير.
الكؤوس التي تشرب لا تهدئ من ثورتك.. النساء اللائي تشتريهن لا يطفئن نار الحقد
على امرأة جاحدة هي أنا. الأغاني والملاهي والحانات لا تعيدك إلى فراشك إلا
وأنت حطام رجل جريح. كنوزك.. أموالك.. المجوهرات التي تبهر العيون جمد فيها
السحر وخبا منها البريق. أسطورة الخرافة القديمة كانت تحيل التراب إلى ذهب..
وأسطورتنا نحن تعيد الذهب إلى التراب.. التراب. وأغدو أنا إنسانة سميكة من
تراب. آنية من طين حقيرة في عينك.. أيها الفارس الجميل النبيل.
أنا أخونك... نعم.. ومع من؟ رسام لا يطال آفاقك.. طحلب على حوافي بحر.. نبتة
أمام دوح كبير.. أنا معه الآن يا زوجي المترفع العظيم. أنا معه أعيش كياني...
أصنع وجودي كإله صغير. أعيش لأحطم المرأة الخزفية التي صنعتها أنت في عشر من
السنين. أحطم الخزف وأطحنه بآلامي لأعيده إلى تراب. تراب حقيقي لا زيف فيه ولا
خداع. أنا الآن قوة عجيبة خارقة تصنع ببسالة أقدارها لتعيش من جديد. من يستطيع
مثلي أن يحطم القمقم لينطلق المارد؟.
في ليلة عاصفة من هذا الشتاء فررت منك.. كان المطر.. وبكت فوق كتفي غيمة
حنون... ولفتني ريح قوية ثم حملتني ألف ذراع مجهولة إليه.. وها أنا الآن معه..
مخلوقة جديدة.. ضاعت امرأتك الخزفية يا سيدي.. تلاشت في صاعقة الليلة الشتوية.
ضاعت من حياتك لتتألق في عالم صغير منسي. هل تذكر أسطورة العذراء الجميلة التي
استحالت إلى حجر بفعل سحر مشؤوم ثم أفاقت للمسات الحب الحقيقي بعد قرون؟ أنا
تلك الغافية على أحلام ودموع حجرية.. وأنت ذلك السحر. أما هو فقد كان ـ ويا
لعذابك ـ اللمسة العجيبة تمنح للحياة النائمة دفقة الوجود.
أنا هنا أعيش بأصالتي.. بحقيقتي.. كطفلة ترعش لأولى نبضات الحياة. ألجأ إلى هذا
المكان مثل قطة ضالة. هذا المكان في نظرك حقير يا سيدي.. يا سيد القصر المنيف.
لا هو مسكن. ولا هو مرسم.. ولا هو بيت بادي المعالم والحدود. لكنه الآن عالمي
كله.. جنة نفسي العطشى.. وآفاق عمري الضائع.
أنا هنا لا أغرق في الريش والحرير.. لا تتنزه عيناي في حدائق الستائر
والطنافس.. لا تلون حواسي أبهاء الضياء والرواء.. هنا.. لا تدغدغ أناملي وسائد
المخمل الناعم وتلفها في نشوة ملوكية. أنا هنا لا أضحك ضحكات من البللور تضيع
في الغرف الوسيعة الأنيقة. إنما أنا هنا أعيش حقيقتي.. امرأة على الأرض
العراء.. بين البشر الصادقين البسطاء الذين أحببتهم أنا وكرهتهم أنت.. أحسست
بهم في نبضاتي الخفية وجحدتهم أنت وأنكرتهم.
أظافري الوردية يا سيدي أتلفتها الأعمال التي تأنف منها أنت وتسميها أعمال
خادمات. يداي أصبحتا جافتين كيدي قروية..
جسدي لم يعد يرف بعطر الزنبق والياسمين. وجهي لم يعد وجه الدمية الخزفية
الملونة التي عرفت بل أشبه بوجه عاملة بسيطة من بلادي. حقيبتي لم تعد تزغرد
بأوراق النقد الكثيرة بل هي تلوب حول الدراهم لتداري بساطة الحال وقلة المورد..
ومع هذا.. فأنا سعيدة.
سعيدة بكل ذرة من كياني..
هل تذكر يا سيد القصر الشامخ الكبير يوم اشتريت آنية الخزف الجميل؟ لم تكن إذ
ذاك خزفاً.. بل كانت عجينة من حس وشعور. لو لامستها يدك بحنان حقيقي لارتعشت من
ألم ونار. كنت لم أفتح عيني بعد على أكثر من سبعة عشر ربيعاً.. فراشة في حقل
رؤى ونجوم. بساتين الورد البكر كانت تزرع جسدي وقلبي غض كطفل. اشتريتني يومذاك
كما اشتريت آنية الزهور النفيسة وكما اشتريت كل شيء بهيج لحفلة الزفاف الرائعة
وبغباء أبله استسلمت لك.. أنت الخبير بالحياة وبالنساء وغير النساء. استكنت إلى
دوحك كشجرة لبلاب ضعيفة.. التصقت بك أتلهف إلى حب حقيقي.. وسعادة حقيقية فما
أعطيتني إلا الزيف. لم أكن أرى الوجود إلا من خلالك.. ولا أحس بهجة اللحظات إلا
بجوارك.. ألازمك مثل ظل حبيس قدره.. كنت ألهث وراء رغباتك وأنسى نفسي.. كل نفسي
حتى استحالت جنتي إلى سراب. وحياتي إلى عذاب. حنطتني في تابوت إرادتك.
جمدتني في قوالب رغباتك.. طبعت على وجهي وشم عبوديتي.. وشم الجارية تتبع في ذلك
سيدها.
هل تذكر ليلة زواجنا؟ ليلة من ألف ليلة.. كنت فيها الفارس الثري الجميل كأمير
من الأساطير.. تحرق لي البخور.. تغمرني بكل ما هو ساحر. كانت تلك الليلة أول
تجربة لقالب الخزاف الكبير. أمرتني فأطعت.. عبست لي فبكيت.. مسحت على رأسي
فضحكت. طالبتني بما تحب فأسقطت كل ما لم يعجبك من تصرفاتي وأبديت ما تحب.. كما
تحب. حتى ألوان ثيابي.. تزاويق زينتي.. أشيائي العزيزة الصغيرة كلها ذبحتها تحت
أقدام رغبتك وإرادتك وجلست أبكيها بحماقة طفل يحطم دميته.
هل تذكر يوم خرجنا لأول مرة إلى المجتمع (الراقي) الذي تعبده وتذوب فيه؟ كنت
ترسم لي كل خطوة.. وتهمس لي بكل كلمة.. وتشدني إلى كل بادرة. وأنا بين يديك
أتألم. يقطر قلبي دماً.. وتنزف حواسي لوعة. وكنت أتساءل: هل تراني سأعيش أبداً
كما تريدني؟ هل أنا لولب؟ هل حياتي هي هذه القشور من الضياع والوهم؟ حفرت لنا
يا سيدي هوة من التباعد ظلت تزداد على الأيام عمقاً واتساعاً حتى غدت وادياً لا
قرار له ولا مدى... وادٍ يفصل بيننا كقدر. رغم ألوان الترف ومباهج القصور.. واد
يسكنه وحش يفغر فاه لابتلاع كل شيء حتى رابطة زواجنا.
ولقد مللت.. صدقني. مللت الأندية زجاجية الألوان.. مللت الأحاديث وقع حروف لا
مغزى لها.. مللت البيوت الفخمة والسيارات علباً مدهونة بالرياء. مللت ثياب
الطاووس وزهو المال والرفعة. مللت الليالي تتوزعها بهجات ضئيلة وعواطف
التفاهة.. مللت الوجوه الملونة بالرياء.. مللت كل شيء.
ويوم الحفلة المقنعة في النادي الكبير هل يمكن أن ننسى ذلك اليوم؟ كانت حفلة
رائعة كما تقول دائماً عن الحفلات وكنت أحس أن يداً قاسية تعصر قلبي وعنقي
معاً، ولم تكن لي رغبة من أن أرى مخلوقاً ما، وبينما تلح علي وتختار لي أجمل
الثياب وأبدع الحلي كنت أحس كأنني أقبل على انفتاح سر ما. سر رهيب كالموت..
كالحياة. ولا أدري هل هذا الشعور المسبق توضح لي لأنني كنت أكره حياتي أم لأن
حياة جديدة ستفتح ذارعيها لي. لقد بكيت.. وما أردت أن أضع قناعاً كما أردت لي
أن أفعل. هل أنا بحاجة إلى مزيد من الأقنعة؟. أنا لست أنا.. وهؤلاء الناس من
حولي لا أدري في الواقع من هم؟ حتى أنت لم أر مرة أعماقك.. ولا رسوت إلى قاع
نفسك.. ولا عرفت من تكون.
وأطعتك.. ووضعت قناع امرأة صينية من الأساطير تناسب جسدي الصغير.. جسد الدمية
من خزف. وفي الحفل. كنت كمن يغيب في تيار لا قرار له الوجوه تسخر مني كوجوه
الشياطين. الأذرع ترقص من حولي رقصات جهنمية كآلهات الشر بألف ذراع. كان الهواء
يخنق أنفاسي والعرق ينضح من صدري ووجهي وظهري. رأسي يدور كأنني في دوامة.
وعندما ناديتني أن أرقص معك لم أعرفك بين الوجوه. وكنت تضحك لاهياً وأنا أضحك
وأبكي معا بطريقة هيستيرية مرضية. أنت في زي مصارع ثيران من إسبانيا.. وأنا
أميرة مقنعة من قلب الصين. يا للمهزلة. هل تريد تناقضاً وتنافراً أكثر من هذا؟
وسحبتني من يدي بعنف لكني تداعيت. هويت كأنني مخنوقة ألتمس بعض هواء يندي
مشاعري الملتهبة. أحسست أن ذراعي مصلوبتان وأن قدمي قطعتان من حديد.. في هذه
اللحظة التقيته.. كان أمامي مثل منقذ.. بكيت بين يديه.. كأنما كان ينتظرني منذ
دهور وكأن لقاءنا أمر حتمي لا مفر منه. استكنت إليه.. هدأت. مسح دمعتي وسألني:
ـ أليست سيدتي مسرورة في هذه الحفلة؟
ـ مسرورة؟ طبعاً.. لا.. نعم.. عفواً.. جئت أشارك زوجي سهرته. وأنت؟
ـ جئت أرسم صورة لأميرة الأساطير.
ـ أميرة الأساطير؟ لكأنك جئت ترسم جحيم الكوميديا الإلهية لدانتي أو مشاهد
ملحمة هوميروس.
وضحك...
وتقاربنا.. ونزعنا أقنعتنا.. وغرق واحدنا في عيني الآخر.. وواجهنا معاً
مصيرنا.
ـ سوف أرسمك كما رأيتك.. هل تسمحين؟
أنت أجمل ألف مرة من أميرة الصين.. أنت زهرة لوتس على ضفاف بحيرة مجهولة.
ـ شكراً لك.
ـ متى تأتين لأخذ الصورة؟
ـ في مثل هذا اليوم من الأسبوع القادم.
ـ ما أبعد الموعد. على أي حال هذا عنوان المرسم الصغير..
والتقينا من أجل الصورة..
ويوم جئت إلى المرسم أول مرة لم أكن أخونك يا زوجي.. كنت أحتمل.. وأعاني.. وأجد
لحياتي العزاء في الصبر المر. ولكنني هنا.. في معرض الرسوم الكبير رأيت
الحقيقة.. كان بين رسومه رائعاً أسطورياً قوياً مثل إله. أسقط لي أقنعة قلبي..
نزع عنها القشور. لما نظرت إلى الصورة لم أجد شيئاً اسمه صورتي. غضبت.. شعرت
أنه يسخر مني ويهزأ من عاطفتي. ضحك.. وأشار إلى لوحة تمثل دمية خزفية وسط سرب
من الغربان فوق قاع دموي، وقال:
ـ هذه أنت؟
واعتصر الألم قلبي.. وصفع كبريائي.
ـ أنا؟
ـ نعم أنت.. أنت دمية خزفية.. ثمينة ونادرة الوجود لكنها صامتة باردة خرساء.
أنت.. ما أنت إلا هذه التحفة الجامدة... هؤلاء هم ناسك.. وهذا عالمك.
تلاشيت.. صعقت.. وخرجت باكية وأنا أصرخ:
ـ أكرهك.. أنا أكرهك.. بكل قواي.
ـ بل حقيقتك تكرهين.
ولملمت أذيال خيبتي وقررت ألا أراه.. وألا أعود إليه.. وأن أنزعه من خبايا
نفسي.
لكني لم أستطع.. عدت إليه.. مرة ثانية وثالثة.. وإلى الأبد. عدت لأحطم تمثال
الخزف.. لأدوس أقنعتي.. وأجلو حقيقتي.. وأنفض الغبار عن مشاعري. عدت أستبدل
زجاج الخزف بعجينة من ماء وطين. قد تكون أصيص ريحان بسيط ولكنها آنية دون زيف
لنبتة قوية أمام الشمس والهواء.
وها أنا الآن.. معه هنا أبتسم وراء نافذة صغيرة.. في مرسم صغير.. بعد أن
هجرتك.. هجرت القصر الكبير.. والثراء الكبير.
دمشق 1960
الصورة العارية
السماء لوحة سوداء لامعة.. تعطي ذخائر غامضة، في قلبي إيمان بمعجزة ما، هذه
النجوم التي ترقص دون أذرع تشدها، كم ألفت منظرها في طفولتي الموزعة وأنا أسير
مرفوعة الرأس في أزقة (دمشق) القديمة. كانت هذه النجوم في صغري تعابثني..
تغمزني.. ثم تهرب مني وراء الجدران المهترئة والمآذن الضارعة.
الآن عدت من أوروبا إلى الجو الذي كان يكثف وجودي ويعطيه مذاقاً حاداً. لم يصدق
أحد أنني وأنا الرسامة التي قضيت سنين طويلة في روما.. سأعيش في هذا الحي
البسيط.
أصبحت رسامة لأنني أحبت الفن منذ أمد لا أذكره. اهتمامات طفولتي كانت عدوانية
تجاه زوجة أبي. كنت أرسمها على جدران بيتنا العتيق بألف وضع ممسوخ.. وكان كل من
يرى رسومي يضحك لأنها تشبهها ولو كانت على شكل بقرة أو كلب، وقال لي أستاذ علم
النفس فيما بعد إنني كنت أفرغ في الرسم آلامي إلا أنني كنت أعرف تماماً أن
آلامي لم تفرغ وإن في لا شعوري أشباحاً سوداء، وكان يخيل لي دائماً أن العالم
من حولي جدران فارغة أريد أن أرسم فوقها وأن أحول كل شيء إلى كاريكاتير عابث
ساخر..
منذ أمد طويل نبذت معاني الحياة الشفافة الحزينة وحطمت قيم الروح. لم أندم على
ذلك. روما جرفتني حيث كنت أدرس الفنون الجميلة إلى أن لا أقدس شيئاً كما أقدس
العري والرغبة الحمقاء والهزء..
في الشارع الآن أسير مثل عجل تائه. شعور مبهم يتسلط علي من رأسي إلى أخمص قدمي
هو أني أساق إلى الذبح. أشعر بخيبة ما تتسلل مع الهواء الذي أستنشقه بعسر..
الناس من حولي يعيشون عالماً منفصلاً عني. كيف لي أن أحيا بينهم؟ يخيل إلي أنني
لا أفهم ما يقولون إنهم يمضون ويتركونني وحيدة مع خيبتي.. والسماء ذات اللون
الأسود والرسوم التي تنبع من حولي مثل جنيات أسطورية كانت محبوسة في بئر..
عما قليل سينصهر عالم من هذا الصمت. عالم سوف أخلقه أنا.. وسوف يلتهمني. ليتني
أستطيع ذلك في هذا المحيط الأخرس الحزين. وأنظر إلى صدري يرتعش تحت ثوب رمادي
فاتح وأحس أن في هذا اللون ضياعاً وأنه يمتص الأشعة فتموت فيه أو تتحول إلى
فراغ.
أما قصة البيت الذي استأجرته اليوم فهي تطن في رأسي كنحلة ضالة. عزمت على أن
أغامر بالنقود القليلة التي بقيت معي كي أرسم عري الحياة.
وهذه المدينة.. مدينتي عنيفة الألوان والطعوم ترصدني بألوف الموضوعات النابضة
والساخرة بفجيعة.. رؤوس الصبيان الحليقة.. مثل نبات اليقطين الرخو.. نظرات
النساء التي ذبحها الذعر من سنين بعيدة.. عيون الصغار وهم يمتصون أثداء أمهاتهم
المهترئة أمام محكمة الشرع وعند أقدام الباصات.. الباعة المتجولون وماسحو
الأحذية.. لوحات الإعلانات التي تعكس الزيف.. أضواء النيون الشاحبة التي تهتز
بشماتة فوق صور الممثلات العارية.. كل هذا سوف أرسمه وألفه في خطوط جريئة عبر
لوحاتي.. حتى الغربان والعشب المبلل بالندى وأوراق الخس التي ارتخت تحت
الأشعة.. حتى ألوان التراب الصاخبة من بنفسجية وحمراء.. وحتى أشكال الصخور، كل
هذا كان يلهب خيالي وأنا في روما ولسوف أسوقه خلال لوحاتي المهووسة.
قلقي الغامض ينمو. أحس فراغاً في نفسي يتحول تدريجياً إلى عذاب. يحتمل أنني
جائعة.. كم أشعر بالراحة عندما آكل في فترات التعاسة. لم لا أتناول الطعام في
البيت الذي استأجرته؟ لقد أعطتني المرأة صاحبته المفتاح واطمأنت إلي وقالت إنني
سأجد كل شيء أحتاج إليه فهي لم تبرح الدار إلا منذ أسبوع عندما مات زوجها ميتة
غامضة مفاجئة. لعلي سأجد أنفاساً بشرية أيضاً. المرأة لا تحرص على شيء في البيت
ما عدا صورة زوجها. كل ما في البيت مباح لي ما دمت أدفع الثمن.
وأدير المفتاح.. يصر الباب بأنين.. تصدمني رائحة غبار عنيفة.. البيت مؤثث على
الطراز الشرقي بذوق غربي.. هنا في غرفة الضيوف تقليد مزيف ممسوخ لطراز (لويس
الخامس عشر) تشوه بهجته كالعين المفقوءة بعض التحف الدمشقية. في غرفة الجلوس
انسجام مريح وستائر من مخمل ذات لون غامق. مكتبة مليئة، وكرسي من خشب الجوز مثل
رجل مهيب، في زاوية غرفة الطعام بقايا فاكهة جفت بأطباق مفضضة.
أدور في البيت.. أين الصورة؟ لا أراها في المكان الذي حددته المرأة ويخيل إلي
أنني لمحتها هنا بالأمس لما رأيت البيت لأول مرة. هناك خطوط سوداء قد وضعت
لمسات حادة مكان الصورة المنزوعة. أذكر خيالاً غامضاً لصورة ولكن من العبث أن
أتذكر شيئاً من معالمها.
الفزع يتفرع في نفسي. لاشك أن المرأة على يقين من أن الصورة في مكانها. لسوف
تروع لفقدها وسأكون مجرمة لو فجعتها بأعز ما عندها. أحس بحيرتي وأنني سجينة
عذاب لا ينتهي. خطاي تضطرب في أرجاء البيت. تلمع فكرة كالنجم في ذهني: لابد أن
أرسم لها صورة أخرى. أمامي ترقص الشوارع ملتهبة الخطوط وتضج صور الصبيان ذوي
الرؤوس التي تشبه نبات اليقطين ويهتز كل شيء بحمى بائسة.
هذا الرجل الذي لم أعرفه قط كيف سأرسمه؟ أدور في البيت مثل عمياء تبحث عن طريق
ضاع. ألهث وراء ومضة انطفأت. الصورة كانت تلتهم الحائط كله فلابد أن الرجل كان
عملاقاً. ألمس الجدار. الإطار كان ثخيناً حتى ترك هذه الطبقة الكثيفة من
الغبار. هل يمكن ألا يكون الرجل قاسياً؟ وإلا لماذا اختار مثل هذه المواد
الجافة ليؤطر بها رسمه؟ يحز في داخلي أن أجد الرقة والوداعة في هذا الركن الذي
كان معداً لجلوسه. إن في أريكته طراوة غريبة ومقعده الخاص طويل مريح يكاد يلتصق
بالأرض.
أبعثر أشياءه بنزق.. أمسك الغليون المحشو بتبغ فاخر.. أشم فيه رائحة رجل ذواقة.
أعبث بالأدراج وتتناثر أوراقه. تتملكني رغبة التجربة الكاملة. هل كان الرجل
دميماً؟ إن هذه الروائح الفاغمة تدل على عنف كما تدل على غنى نفسي رائع. وهذه
السطور الزاخرة بعبادة الحرف والعاطفة لمن هي؟ هذه الرسائل لمن؟ المرأة زوجته
تتمثل في ذهني: جميلة في الثلاثين ذات عينين هادئتين بلون البحر، لاشك أن عيني
الرجل كانتا قاتمتي السواد واسعتي الحدق تشمل عيني المرأة فتذوب فيهما وإلا لما
خلفت فيها هذا الجنوح المهزوز نحو الهروب والضعف. المرأة نحيلة العود ممطوطة
الخطى.. إن استسلامها العاجز لرجولته الطاغية كان يسحق ثورة شبابها الصامت.
شيئاً فشيئاً أخذت أستوحي من كل ذرة حولي عرقاً ينبض أصبه في خطوط لا تلبث أن
تذوب فوق القماش وتلفني بصمت رهيب. صمت لم أقطعه إلا بالطعام أو بنوم متقطع
مشوش...
كنت أحس أن في داخلي غيمة تبكي وأن الحزن يجعلني غريبة عن كل شيء ما عدا هذه
الألوان الصاخبة التي تفلت مني وتوشك أن تنفجر فوق اللوحة، أصبحت لا أحس إلا
هذه الريشة التي تهتز بين أناملي وعيني بقوة قدر مجهول.
ماذا أفعل؟ الساعات تذوب والزمن ينداح مثل حجر سقط في ماء ساكن. هل أهرب؟
أول ما بدأت الصورة تتكامل أطلت علي العينان ذات المحجرين الواسعين قاتمتين
كعتمة غابات. إن فيهما أسراراً رهيبة. كانتا توجهاني حسب مشيئتهما. كل ما أملك
من كلمات وحركات بل إشارات غدا أسطورة باهتة فقد أصبح من الممكن أن أعيش بدونها
في عالم خلاق مبدع. كل ضجيج الدنيا وصخبها وموسيقاها لا يقوى على أن يمس الوجود
المغلف الأخرس الذي أحياه. أشعر الآن بحاجة إلى الاعتراف بأنني بدأت أحب
الصورة. تعلقت بهوى شهواني وأنا أضع الخطوط الرخوة للشفتين الممتلئتين
العربيدتين وكنت أحس رائحة لحم وخمر معتقة وأن رأسي تدور.
وفي اللحظة التي وضعت فيها أناملي لأمس الشفة. وأصبغها بلون النبيذ المائل إلى
السواد ترتطم ساقي بركيزة اللوحة وأقع على الأرض. الدم يسيل من ذراعي التي كانت
تلامس الفم الشقي ويمتزجان معاً.
أفاق قلقي مثل زوبعة من رغبة متفجرة، أنا أسيرة اللوحة.. بل أسيرة الرجل..
صابون الحلاقة بالعطر الفرنسي، المنشفة الخشنة، الصحف القديمة، علبة السجائر
المصدفة، الخف المبطن بألوان قاتمة، بطاقات الدعوة للنادي العائلي، كل هذه
الأشياء الصغيرة.. أشيائه تنبض من عروقي حياة، تضيعني في دوامة عجيبة..
الصورة أمامي عارية مثل آلهة أوليمبية متمردة. لم يبق إلا ضربات خفيفة وأنتهي
منها. النظرة في زاوية العين حائرة. لمسة صغيرة إلى الناحية الأنسية تجعل الخير
يزهر ويورق بل يتفتح كوردة هل أعطي الصورة هذا التعبير العاري؟
ولكن لا.. لابد أن شيطان (فاوست) يتحرك في أعماق الرجل وإلا لما ترك زوجته
مفجوعة منكودة ولما غدر بي أنا أيضاً. كيف أعلم الحقيقة؟
نبشت آخر ورقة في سلة المهملات وأنا يائسة والشوق يأكلني هذه خطوط ممزقة لرسالة
إلى امرأة أخرى غيرنا أنا وزوجته.. شظايا الرسالة تنبض بحب ملتهب وتهديد
بالموت.. يا للمرأة المسكينة زوجته كانت مخدوعة به وكانت تنام على حب جاحد.
البيت يردد صدى فارغاً حزيناً.. هل كان موته انتحاراً أم جريمة أم عقاباً أم
إثماً؟
ونمت الخطيئة أمامي مثل نبات استوائي بأذرع عجيبة.. تلفني الخطيئة وأنا أنغرس
في أرض رطبة، ثم تمتد نحو الصورة.. تظلل العينين. وأعود فأنظر إليه وأفزع..
لسوف أقتله أنا.. الخائن.. لسوف أمزق الصورة العارية وأستريح منها..
عند المساء أغلقت بابي وتهالكت بإعياء فوق السرير.. قذفتني أحلامي في لجة
عميقة. رأيت الرجال الذين كانوا في حياتي.. (ناجي) الرجل الوحيد الذي أحببته
رأيته غارقاً مع الصورة العارية في ضباب بنفسجي.. (ناجي) هجرني من أجل امرأة
ساقطة وفجعت به.. ولن أفجع بغيره مرة أخرى. كم تخيلت أنه مات في قلبي حتى رأيته
مع الصورة العارية وكأننا مازلنا في المرسم الصغير في روما.
أسمع طرقاً خفيفاً على الباب كما لو أن عصفوراً ضالاً ينقر. أنهض متثاقلة ورأسي
يدور. الصورة ما تزال إلى جانب سريري وعينان تلتهبان. المرأة صاحبة البيت تدخل
كما لو أن ريحاً حملتها. تضيع نظرتها في أرجاء الغرفة. تبتسم مع شحوب مريع.
كانت على وشك أن تتهالك عندما رأت الجدار فارغاً من الصورة. عيناها تغيمان في
يأس مفجوع وهي تبحث. نظرتها تتأرجح مصعوقة ولا تلبث أن ترخي جفنيها وتسألني عن
الصورة.
أطرافي تنمل وتصبح باردة كالثلج.. ببساطة مفتعلة أقول: الصورة سرقت قبل أن
أستلم البيت..
وأسكت.. كأنما الزمن قد جمد فوق شفتي. هل أعطيها الصورة العارية أم أمزقها؟
المرأة المذعورة لا تفهم ما أعنيه من أن الصورة سرقت..
ماذا سأفيد من الصورة العارية؟ لسوف تمزقني كما مزقني (ناجي).. لسوف تميتني
نظراتها الخائنة.. لسوف تلاحقني العينان الواسعتان الوحشيتان. لسوف تمتصني
الشفتان العربيدتان.. وأقول بصوت ميت:
ـ الصورة الأصلية سرقت يا سيدتي وإليك صورة رسمتها لك عوضاً عنها.
وأشير إلى الصورة. وتتسع حدقتا المرأة. تغدو عيناها كالزجاج البارد وتصيح:
ـ ليست صورة زوجي.. آه.. ولكنه هو. إنه هو كما عاش في أعماقي وأنا أجتر خيانته
وعذابي..
وتسقط ركبتاها بإعياء.. تمد يدها بضراعة نحو الصورة.
وتنتحب بصوت مسموع.. نظرتها تغيم وعضلات وجهها ترتعش وهي تقول:
ـ أواه.. يا إلهي.. ماذا ألمح؟ هاتان الدمعتان.. لكأنني رأيتهما فوق صفحة وجهه
الساكن يوم مات.. لقد ندم.. وأنا غفرت له.
وأنظر أنا بدهشة بالغة إلى الصورة. الصورة التي التصقت بي كنفسي. الصورة التي
عريتها من كل نأمة خير.. هل ما تقوله المرأة صحيح؟
هناك حقاً دمعتان. دمعتان لم تخطهما ريشتي أبداً وقد مسحتا الصورة بتعبير جديد.
دمعتان واضحتان مثل منارتين فوق شاطئ مهجور.
روما 1963
حلم وباقة ورد
ودموع
الليل وردة مدهونة سوداء... تتبعثر معها براعم الأضواء اللامعة. الشارع يغمره
الفرح. تفوح منه عطور الربيع... والصبايا... وأناقة المخازن الجميلة. وحيدة
أسير. برودة تلثم شعوري... تهمس وراء أذني... تناغي جلدي. أرتعش. يغمرني إحساس
بنشوة غامضة. ليست السعادة هي التي تبهر وجود الإنسان. السعادة هي التي تتسرب
إليه بلطف فيشربها بهدوء وبصمت وهو مفعم بانبثاقات صغيرة كأنها عيون الماء بين
الحصى..
وأنا... أنا التي أعيش سعاداتي الصغيرة هذه يخلقها مؤثر تثيره عندي نتف
الحوادث... أخيلة الذكريات... مزق الصور الباهتة الشاحبة التي ترتسم في عيني.
لعلني لا أعيش إلا هذه اللحظات بعد أن فقدت خطوط الحياة البارزة العريضة.. بعد
أن اغتال واقع قاس مر ذرى أحاسيسي العنيفة.. لعلني أمر بالتجربة الصغيرة.. لعل
وجودي يتسرب كدمعة من عين زهرة... كقطرة ماء من منقار عصفور.
أمام محل للزهور أقف شاردة. قلبي يخفق دون ملجأ. الزهور تسطع وراء الزجاج...
وفي خاطري وقلبي. شلالات صناعية تنثر حبات اللؤلؤ المندى فوق أحداق الزهور...
أسراب من الأحلام تحط فوق كتفي... تحوم أمام عيني. تنثر البسمة تقطف الدمعة..
ألوان الطيف تتكسر... تتلوى. ثم تموت بين بنفسجية زرقاء وصفراء وحمراء. يترعني
المشهد بإحساس مجهول. أحدق في الزجاج. الطفل أزرق العينين يلتجئ إلى جنبي
الأيمن.. تتسلل يده الصغيرة الدافئة نحو يدي، أضغط فوقها بحنان. إنه طفلي. طفلي
الذي تاهت زرقة السماء في عينيه. ظل رجل عملاق يرتسم فوق الزجاج. تلتمع عيناه
الفاتحتان فوق أزهار التوليب فتصبغ سهولاً لأحد لبهاتها. أرتجف كورقة خريف. يد
إلى جانبي... تتلمس طريقها إلي. ترتمي فوق كتفي بلهفة ضارعة. يقربني منه. تلامس
وجنته شعري. يدس راحته الكبيرة تحت إبطي. يبسم في وجهي. تلتصق الصورة على
الزجاج كظلال خرافية فوق معبد وثني محتها يد الزمن.
نحن الثلاثة هنا... في إطار الوجود النادر السعيد. هنا... واللحظة الخالدة ترسم
وجودنا الضائع... فردوسنا المفقود... حياتنا المبعثرة خلال عشر من السنين.
البائعة الشابة في المحل الأنيق تبسم لنا كما تبسم لأي أسرة في أمسية من أماسي
العيد.
ـ أي نوع من الزهور تفضل سيدتي؟
تضطرب أناملها وهي تجوس فوق الباقات الرائعة.. والألوان الفتانة ثم تقول بصوت
صاف:
ـ هل أستطيع أن أؤدي خدمة؟ ما مناسبة الزهور؟
وأصمت... وتنهال الصور أمام عيني. تعرى الرياض من أزهارها... ترتمي تحت قدمي
وتجهش خطاي في مواكب الماضي بينما الشوق صقيع تلفه أوهام ثلجية.
يا حكاية المأساة... شربت من دمعي.. أكلت من أحداقي.. وذابت شموعها باردة
البياض مع أناملي.
منثور؟.. أغصان المنثور تتلاشى. تغوص مع الدموع التي التصقت بقبر أمي. يوم ماتت
أمي لم يحاول أحد أن يضع لها الزهور وأنا.. بطفولتي المفجوعة اقتلعت المنثور
الهزيل من ضمن دارنا وركضت حتى المقبرة لأضعه عند رأس الراحلة الحبيبة ثم أخذت
أبكي فراقها اللاذع الأليم. ومن يومها ما أحببت المنثور قط. النرجس؟.. وأعواد
النرجس الحزين تتقصف. تتلاشى عذراء الأحزان وأنا إذ ذاك مريضة في شبابي الأول
تفترسني وحشة مجهولة ويأكلني حنين غامض وغربة كانت تنتحب في أعماقي وترميني في
واد سحيق. ويأتي (مروان). زوبعة من الحنان والإشراق. يحدق بي بعينيه الفاتحتين
فتضيء شموسي. يهبني باقة زهور النرجس. ثم يمسك بيدي كما أمسك المسيح بيد
(العازار). فأقوم ويغتسل العالم أمامي بأضواء جديدة وأمل جديد. أواه يا
مروان... أيها الحب الأول المعبود... كنت أحلم أن أكون لك. لم زرعت أحلامك في
أحداقي؟ لم فجرت انطلاقة فكرك في رأسي الصغير؟ لم خلقت في قلبي النور ثم تركتني
لأعيش على حلم؟
تمنينا أن يكون لنا طفل أزرق العينين مثلك... وطفلة شقراء شاحبة مثلي. واختصمنا
من أجل تسميتها ثم اصطلحنا. ثم همست لي بأشياء كثيرة أخرى. وبعد ذلك... رحلت
وتزوجت فتاة أخرى. تطير باقة النرجس. يمزقها شلال. تنفجر. تدور في دوامة ثم
تغيب.
الباقة الحمراء؟.. تتوهج الباقة الحمراء.. تسقط فوق ذراعي ذات صيف. تحملها إلى
يد (خطيب) عاشق. تسكرني رائحتها الفاغمة.. تبهرني ألوانها القرمزية. أقع في
دوار من اللهفة. تقودني إلى بستان أسطوري عجيب. أقطف الأحلام.
وفي ليلة ما... تحولت الورود إلى لون أبيض كالطهر.. كالغيوم. كقبلات الملائكة
ثم تهاوت فوقي كالثلج بينما لمعت الدموع في عيون أبي وأخواتي البنات.
ـ هذه باقة العرس يا حبيبتي.
هكذا هتفت أختي الصغيرة وهي تغرس في شعري زنبقة. احتضنت الزهور البيضاء. بهرني
إحساس فتي. وكنت أضحك. وأبكي... ويمتزج في أعماقي اللونان: الأحمر... الأبيض...
ثم الأبيض والأحمر. وأضيع.
وباقات الزهور المتنوعة الجميلة؟ قصتها عجيبة غمرتني يوما تلك الباقات. من كل
شكل ولون. نثرت فوقي بسخاء كما لو كنت في تابوت ملوكي. لم فعلوا كل هذا؟ هل
يريدون عزائي عن جسد الطفل الممدد إلى جانبي بصمت؟ كنت أقبل فمه البارد. وعينيه
الصافيتين الميتتين.. ووجنتيه الناعمتين وأود أن أمزق كل زهور العالم وأطعمها
للريح والسيول وقيعان البحار. كنت أود ن أنتفها بغضب شرس وحقد حقيقي وأنا أحس
أن إنسانة مريضة تختفي وراء جلدي وتئن بشكل مفجع.
أواه يا طفلي... يا أفراح حبي الأفله. بذرتك هناك دون أمل بالنماء. الزهور تجدد
رواءها كل ربيع وما من ربيع يحوم حول فمك يا بسمة السماء الزرقاء كنت آمل أن
تكبر... وتكبر... وتتزوج يوماً حبيبة بيضاء البشرة... وتأتيني بصغار تنام في
أحداقهم النجوم.
والآن... أمام هذا المهرجان الربيعي أتعذب.
لتحترق الزهور... كل الزهور أنا أمقتها. أنظر من وراء الزجاج إلى أشكالها فتبدو
لي لوحة تجريدية مشوهة. ألوانها أشباح ميتة... كل شيء في هذا العالم الكبير.
الوجوه أمامي مشوشة... كل شيء غريب... غريب. موسيقى تعزف لحناً جنائزياً.
كم أود أن أهرب.
يرتمي وجودي الأسيان فوق الزجاج قطعة من غيمة منسية.. بقايا دخان حائر... ظلال
أصابع القدر فوق صفحة زئبقية باردة.
الرجل إلى جانبي ينظر إلى وجهي الطافح بالدموع. تذهله المفاجأة أنه هو (مروان)
ومأساة زواجه العقيم تحفر خطوطا سوداء تعيسة في أعماق عينيه. ينحني فوق الصغير
الملتصق بي. لعله يظنه طفلي. يقبل يده بحنان. ثم يمضي.
يصرخ الطفل:
ـ ماما... ماما.
يرفع رأسه الصغير نحوي ويقول: ما أنت ماما.
امرأة شابة تتفجر منها الحياة تقترب. ترميني بنظرة امتنان خاطفة. تسحب طفلها
كوعل شارد.
ثم تمضي...
مطر يقرع الزجاج بعنف. تضيع الصورة المرتمسه فوقه.. صورتنا.. نحن الثلاثة. صورة
الوهم السعيد. يختلط ظل القطرات بشلال الماء الصناعي، أمد أصابعي الراجفة
لأعانق خطوط الوهم.. بل لا محوها... تلسعني برودة ناعمة مثل أفعى. ألصق وجهي
الملتهب بالزجاج. أبكي. تختلط أنفاسي مع الدموع والمطر ويضع كل شيء في فوضى.
البائعة الشابة تهمس بلطف:
ـ لم تقل لي سيدتي بعد أي الزهور تفضل؟
لا أنطق بحرف...
بل أمضي.. أنا أيضاً... ألملم حلمي... بينما ينطفئ الشعاع ويغرق العالم في
الظلام.
بيروت: رأس السنة ـ 1963
الجثة.. وشجرة زيتون
يقول الرواة إنه منذ خمسين عاماً أو أكثر أو أقل
اجتاحت قريتهم قوى معادية وظالمة أتت من المجهول.. فهدمت البيوت.. وشردت
الأهالي.. وتمزقت جثث الأطفال فوق التراب وغدت أشلاء.. فجمعوها ودفنوها في
قبر واحد بعيداً عن المكان الذي كان يسمى القرية.. ولم تسلم إلا جثة واحدة
لطفل اسمه (أرغد) احتضنه أبوه مغتسلاً بالدم والدمع.. وذهب الى آخر شجرة
زيتون على حدود بستانه الكبير فدفنه هناك.. ومنذ ذلك اليوم تقلبت الحياة
بهذا الأب بشكل غامض حتى أطلق الناس عليه (الزاهد) أو (العابد).. فهو لم
يعد يختلط بأحد في المدينة الصغيرة القريبة.. ولم يعد يفارق تلك الشجرة.
ويقول الذين عرفوه من أقربائه وممن احتفظ ببقية صلة
معه إنه فقد عقله كله أو بعضه.. إذ لم يعد يهتم بكرم الزيتون الذي كان
ملكه.. ولا ببقايا بيته الفخم الذي تهدم.. واكتفى بغرفة من الطين قرب تلك
الشجرة حيث دفن ابنه ليعيش فيها وحيداً كأنما ينتظر مصيره المجهول.
ويقول الذين كانوا يأتون الى بستان الزيتون في أيام
القطاف إنه لم يكن يهتم بما يأخذونه من الثمار.. وما يجمعونه أيضاً من
الأعشاب البرية النافعة التي تنبت هناك.. بل كان ينظر إليهم نظرات غائمة
دون أن يعترض على شيء. ولما تسلط الأعداء الذين هدموا القرية على بستان
الزيتون لم يكن ليهتم أيضاً.. وكأن هذه الغرفة الطينية.. وتلك الشجرة هما
عالماه الوحيدان اللذان تنساب من بينهما أيامه مثل قطرات من ماء تنحدر ببطء
من صخرة عالية.
ويقول الذين أحبوه من أولئك الصغار الدارجين مع
أمهاتهم لجمع الزيتون إنه كان يعانقهم.. ويقبلهم.. وتنفرط الدموع من
عينيه.. ويقول لهم: “أرغد لم يمت إنه نائم هنا”.. ويشير الى حفرة صغيرة قرب
شجرة الزيتون مغطاة بقطعة قماش أبيض نظيف. ولما قالوا له مرة: “دعنا نكشف
عنه يا جدنا”.. قال: “لم يأت الأوان بعد”.. فيطرقون برؤوسهم تهيباً وخشية
ثم ينسحبون بعد أن يعطي كلاً منهم قطعاً من الحلوى البيضاء قائلا لهم: “هذه
هي الحلوى التي يحبها أرغد”.
أما الذي روى القصة الغريبة العجيبة فهو إنسان واحد
ائتمنه ذلك الرجل على سره، وقال له: “إن أرغد يكبر يوماً بعد يوم.. وسنة
بعد سنة.. وهو نائم في هذه الحفرة”. وكشف له الغطاء فرأى رأساً لطفل رائع
الملامح.. بشعر ناعم مسترسل.. ووجه شاحب كالشمع.. وعينين مطبقتين بهدوء
كأنه النوم. وفزع الرجل وأوشك أن يولي هارباً لولا أن تماسك، واتهم نفسه
بأنه يتخيل، أو يحلم، أو أن الصورة المنبعثة من ذهن الأب قد انتقلت الى
ذهنه فانطبعت فيه، ومن ثم تجلت بطاقة روحية هائلة فرأى الذي رآه.
وسكان المدينة الصغيرة القريبة يعرفون أن هذا الأب
المفجوع بابنه (أرغد) يأتي بين سنة واخرى ليشتري أقمشة بيضاء.. يعود بها
الى غرفته المنعزلة.. ثم يبدأ بتمزيقها الى قطع لا تلبث أن تختفي تحت
الأرض. ولما سألته تلك الطفلة رفيقة (أرغد) التي أصبحت فتاةً: “ماذا تفعل
يا عمي بهذه الأقمشة؟”.. قال لها: “إن أرغد يكبر ويكبر.. وكلما كبر احتاج
الى كفن أكبر”.. فتضحك بطفولتها الراقدة في أعماقها وبشبابها النضر البراق
رغم الدمعة التي تسقط من عينيها إذ تتذكر (أرغد).
لماذا يا ترى أصبح والد (أرغد) هكذا؟ ولماذا يعتقد
أنه يكبر وهو تحت التراب؟.. ولما سألت أمها عن ذلك السر قالت لها: “مسكين
والد أرغد.. لم يعد يفرق بين الحقيقة والخيال.. وبين الوهم والواقع..
والموتى لا يكبرون في قبورهم”. فتجيبها البنت: “لكنه يقول إنه نائم..
نائم”. فتردها الأم عنها بعفوية ولطف، وتقول لها: “لن تذهبي إليه بعد الآن
فالمشوار طويل وقد يصيبك الأذى”.
ولم تدرك (ليلى).. وهذا اسمها.. ما هو هذا الأذى..
هل هو من طول الطريق.. أو ممن ستصادفهم أثناء ذلك.. أم من والد (أرغد)
بالذات؟.. لكنها ولمدة طويلة طويلة لم تعد تذهب.. واختطفتها أضواء العاصمة
أو ما يسمونها عاصمة لتكمل دراستها.. وبعد ذلك تزوجت وأنجبت.. إلا أنها لم
تنس (أرغد).. ولا والده وهما يزورانها في أحلامها.
والفصول الأربعة تقول إن الرجل في الصيف كان لا
يغادر ظل الشجرة التي تنفرط أوراقها فكأنما يشوى جسده بسياج من نار حتى
يصبح مثل شريحة لحم مقدد يمضي نهاره في الغناء الحزين.. وربما لبكاء
المكتوم.. حتى إذا جاء الليل دخل الى الغرفة وبدأ بتمزيق القماش الأبيض، ثم
يحفر حفرة على امتداد جسد ابنه ويدخلها بعناية كما لو أنه يلف فيها جسد ميت
عزيز.. ولكن المسافة بين رأس الولد (أرغد) وبين تلك الحفر أصبحت ممتدة كما
لو أنه كان ولداً عملاقاً. هل يا ترى ينتبه إليه أحد وقد أصبح رقماً منسياً
يفعل ما يشاء في هذه الأرض التي غدت شبه قفراء؟
وفي الخريف يتلفت وراءه ليرى من سيأتي ليأخذ ثمار
شجرة الزيتون.. وكأنه يستعجلهم ليريحوه منها بعد أن يحتفظ بقسم ضئيل ينقعه
في سطل ماء نحاسي. لماذا يستعجلهم إنه يخاف من رياح تهب فجأة فتنثر التراب
حيث يحفر وتعيق تمزيق الأقمشة التي يلف بها جثة ابنه كما يقول أو هو يلف
الوهم. أما في الشتاء فلا أحد يعرف معاناته الشديدة وهو يحفر في أرض طينية
ثم يعود ملوثاً بالتراب كما لو أنه خارج من قبر والقماش الأبيض على كتفه
لأنه لم يستطع الوصول الى الجثمان كما يقول.
وفي مرة عاند العواصف والأمطار، وقطع مسافة طويلة في
أرض أصبحت خالية من العدو الذي انشغل عنه بالخطوط الأمامية، وقرر أن يلف
الجسد الحبيب بقطع جديدة كأنما يخاف عليها أن تغرق أو أن تبرد.. ومع كل
الجهد والتعب.. وما تبقى في العروق من نشاط لم يستطع أن يحفر عدة
سنتيمترات، فعاد متثاقلاً وأقدامه تغوص في برك الماء.. وقلبه يغوص بالدموع
المنسكبة من عينيه بينما المطر يبلله بالكامل. ولما وصل الى غرفته وجد أن
الريح قد كسرت بابه، ودلقت السطل الذي وضع فيه الزيتون، وبعثرت قطع الخبز
اليابس فحمل بقايا رغيف وخرج الى العراء، ونظر الى السماء، وعاد بخبزه
المبلل ليلتقط حبات زيتون لا تزال المرارة فيها فأكل وآوى الى فراشه المبلل
أيضاً وهو يرتجف من البرد، وسد باب غرفته بما يملك من أثاث مهترئ. ولم ينس
تلك الليلة لأنه رأى في حلمه (أرغد) وهو يفتح عينيه ضاحكتين ويبتسم له
بعذوبة، ويقول: “الربيع آت يا أبي.. الربيع آت”.. فقرر أن يصبر حتى تباشير
الربيع ليخرج الى مهمته الخرافية وهي لف الأعضاء التي تنمو وتكبر وتتطاول
بأقمشة جديدة هي الأكفان الجديدة.
وعندما رآه الناس وهو يسعى الى البلدة الصغيرة
ذهاباً وإياباً يشتري الأقمشة ويعود بها قالوا إنه كما روى بعضهم يزرع هذه
الأقمشة في التراب حيث جثة ولده. وبما أنهم يشفقون عليه لم يعودوا يسخرون
منه كما لم يعودوا يلقون بالاً إليه.
صحيح أن الربيع أتى ونشط الأب المتهدم في متابعة
الحفر والتكفين لكنه لم ينتبه أنه اخترق أمتاراً كثيرة في الأرض المحظورة
التي انسحب منها العدو إلا أنه لا يسمح لأحد باختراقها. ولما رآه جنود
العدو بمناظيرهم المكبرة لم يهتموا به على الإطلاق فهو شبه عارٍ، لا يحمل
سلاحاً، ليس منه خطر، ولا أكثر من أنه يحفر في الأرض، ويضع خرقة بيضاء ثم
يطمرها وينصرف. وقالوا لعله متسول أو مجنون أو من هؤلاء المخبولين الذين
يظنون أن بساتينهم فيها كنوز عليهم أن يبحثوا عنها.
ربيع امتدت أيامه والرجل يركض كل يوم مسافة أبعد من
التي تركها بالأمس.. ونبتت أعشاب برية لم يأبه لها.. ونبعت عيون ماء صغيرة
لم يفكر أن يغرف منها شربة ماء.. وزقزقت عصافير لم يسمعها وهي تقطع
المسافات بحثاً عن البساتين التي قطعت وما عادت مأوى لها.
يا الله.. (أرغد) يكبر.. ويكبر.. ويكبر.. وكل يوم
يحتاج جسده الى قماش جديد.. ويهمهم لنفسه: “لا.. هذه ليست جثة.. وهذه ليست
أكفان.. إنها ولدي وسيقوم يوماً من نومه الطويل هذا”. وعندما اشتعلت
المعارك من جديد ومن بعيد كان الرجل يخرج من غرفته رغم دوي الرصاص ليسابق
نفسه في عمليته المقدسة والتي لم يكتشفها أحد.. صباح بعد صباح.. وعودة في
الليل والطائرات تهز الفضاء وترتج الأرض لها تحت الأقدام وهو لا يعبأ بشيء
من هذا.. فليفعلوا ما يريدون مادام يملك زيتونة تثمر.. وجسد ابن نائم سوف
يقوم يوما من الأيام. ولم يحيره أبدا هذا السؤال: كيف يكبر.. ويكبر.. وهو
ممدد في حفرته في سكون موت خرافي؟ حتى جاء ذلك اليوم:
صدر بلاغ عن قيادة العدو بأن يحرثوا تلك الأرض حيث
غرفة الرجل والزيتونة وجثة (أرغد)، لأنهم يريدون أن يبنوا سوراً يفصل بينها
وبين معسكراتهم خوفاً من تسلل سكان البلدة التي هاجر إليها أهل القرية، أو
من أولئك الذين يشتبهون بهم وهم يلتقطون حبات الزيتون أو يقطفون الأعشاب
البرية. ولما استشعروا نوعاً من الهيبة والحذر من هذا الرجل الغامض فقد
قصدوا البلدة المجاورة، واستعانوا ببعض الذين هاجروا إليها من سكان القرية
ليأتوا معهم ويقنعوا هذا الرجل بالتخلي عن غرفته وشجرة الزيتون، ولم يخطر
لهم بالطبع جثة الابن (أرغد) الممددة على عمق قليل في الأرض.
وتبادل الناس في البلدة قصة الرجل مع جثة ابنه،
وهمهم بعضهم بأصوات خفيضة أنهم لا يريدون الذهاب فانسحبوا بينما وافق بعض
الشيوخ والذين أكلوا من خيرات بستانه أن يذهبوا لا إطاعة لأمر العدو بل
تخليصاً لهذا الرجل المسكين من مصير محتوم لأن الجرافة قادرة في أي لحظة بل
في لحظة أن تنفذ كل ما خطط له العدو فذهبوا. ولحق بهم بعض الشبان المتحمسين
بعد أن أخفى عدد منهم سكاكين في جيوبهم، وسبقهم بعض الصبية الصغار حفاة وقد
حشوا جيوبهم بالحجارة والحصى.
عندما وصل الجميع الى شجرة الزيتون والغرفة المهدمة
تحلقوا حول الرجل واختلطت أصواتهم وكل منهم يدلي برأيه في وجوب الانسحاب من
هذه البقعة المطلوبة من العدو، وهز الشيوخ برؤوسهم ومسحوا على لحاهم ولم
ينطقوا بحرف بينما تحمس الشبان بعض الشبان المشفقين على الرجل وقرروا أن
يدافعوا عنه وعن شجرة الزيتون وقبر (أرغد) المدفون دون شاهدة أو بلاطة أو
أي شيء يدل على أنه قبر. وتقافز الصغار هنا وهناك كأنما يبحثون عن سر مجهول
يريدون أن يكتشفوه أو كأنهم يلعبون ويعبثون مع شيطان غامض.
وفجأة ارتجت الأرض بسيارات من جيش العدو، وبدأت
خطوات الجنود قوية وثابتة على الأرض تقترب من هذه الجموع لترى ما النتيجة
هل سيغادر الرجل أم لا؟ وها هي البنادق على الأكتاف والمسدسات في الأيدي.
مشهد لم يصوره صحفي.. ولا أي وسيلة إعلامية مرئية..
لكنه انطبع في الذواكر والقلوب وسوف يظل مثل أسطورة.. فقد رفع الرجل والد
(أرغد) يده في الهواء ممسكاً بقطعة قماش أبيض، ثم قال بصوت بدا وكأنه آتٍ
من كهف:
ـ أنا أذهب معكم حيث شئتم.. خذوا الغرفة وشجرة
الزيتون والأرض إن استطعتم أن تحملوها ولكن دعوني آخذ جسد ابني.
وتكلم الجنود فيما بينهم بعصبية، ولم يوافقوا، وركل
جندي حجراً بقدمه وصوب بندقيته فجمد الجميع بينما تقدم أحدهم وهو يعرف لغة
العدو وطلب إليهم متوسلاً أن يدعوا الرجل يأخذ جثة ابنه إن بقيت هناك جثة
فقد مضت عليها أعوام وأعوام ولا شك أنها بقايا من عظام.. فماذا يضيرهم
هؤلاء الجنود لو أن الرجل تأبط كومة من عظام وانصرف وهو الذي كان يملك كرم
الزيتون الكبير، والبيت الذي يشبه القصر الكبير، وهو الذي أمضى عمره في هذه
الحالة من الحب الكبير لابنه الصغير؟
وقبل أن يقرر الجنود الموافقة ركع عدة شبان وأخذوا
ينبشون التراب بأيديهم، فانكشف الوجه الجميل الصامت وكأنه لم يدفن إلا للتو
بالعينين المطبقتين، والفم الذي ارتسمت عليه ابتسامة، فشهقوا وتراجعوا ثم
تحمسوا وأصبحت أيديهم تغوص في التراب أكثر. وصعق الجنود لكنهم دخلوا في
دائرة سحرية لموقف لا يمكن أن يتخيلوه حتى في أفلامهم أو في أحلامهم..
الجثة سليمة لم يمسها أذى فليخرجوها إذن.. لينشلوا أولاً الكتفين، ثم
الذراعين، ثم الصدر، ثم البطن، ثم الأطراف السفلية وصولا الى الأقدام. ولكن
الرعدة كانت تهزهم حتى أوشكوا على السقوط في الإغماء أو الغيبوبة،
فالذراعان كبيرتان ليستا لطفل بل لرجل قوي تنتهيان بأكف عريضة.. والصدر
واسع مثل صدر رياضي.. والبطن قوي وسليم.. أما الساقان فيلزمهما أمتار
وأمتار حتى ينتهيا.. وقبل الوصول الى القدمين كان أكثر الجنود قد ولوا
هاربين مذعورين ولم يبق إلا واحد هو الذي روى القصة. أما أهالي البلدة
المجاورة الذين كانوا أهل القرية التي أبيدت عن وجه الأرض فظلوا ثابتين
مغروسين في الأرض وقد قرروا ألا يتزحزحوا قبل أن يأخذوا الجثة معهم..
وسيحملها الجميع على أكتافهم ولن تثقل عليهم.. وتوقعوا ذلك المشهد المهيب
وهم يدخلون البلدة بجثة رأسها طفل.. وجسدها عملاق.. إلا أن الجندي الوحيد
الذي صمد أمام المشهد استطاع ويداه ترتعشان أن يطلق من بندقيته عدة رصاصات
اخترقت جسد والد (أرغد) فتكوم في الأرض تسيل منه قطرات دماء شحيحة فصرخت
الجموع أطفالا وشبانا وعجائز مسنين: “الله اكبر.. الله اكبر”. وتهاطلت
الحجارة على الجندي المسعور، وانهالت السكاكين فوقه، ولم يلبثوا أن حملوه
وألقوه بعيداً حيث يمكن أن يلتقطه رفاقه، ثم عادوا يجمعون التراب بأيديهم
وبقطع ثيابهم ليرموها فوق الجثتين معاً جثة الأب وابنه، وقرروا أن يحرسوا
هذه القطعة من الأرض ويفتدوها بأرواحهم لأنها مباركة ولأنهم شهدوا فيها
معجزة.
وكلما رويت هذه القصة من أفواه الذين رأوها ظن
الآخرون أنهم يبالغون أو يتوهمون فيقولون لهم اذهبوا وانبشوا الأرض سترون
الجثتين معاً (أرغد) ووالده. لكن من ذهب منهم بعد سنوات من القتال مع العدو
لم يجدوا أثراً لشجرة الزيتون، ولا للغرفة المهدمة، ولا حتى لأي أثر لجثة..
إلا أن القصة أصبحت رواية ترويها الأمهات للأبناء.. والأجداد للأحفاد.. عن
جثة أسطورية تكبر وتكبر وهي في التراب دون أن تتحول الى عظام أو رفاة.
من سيعرف الحقيقة وقد قام السور حائلاً بينهم وبين
تلك البقعة المباركة؟ والأمل يظل حمامة بيضاء ترف مع أحلامهم لأنهم سيعودون
يوماً.. وسيجدون جثة الطفل (أرغد) كما هي ممددة تحت التراب برأس طفل.. وجسد
عملاق.. ولا يهم إن فنيت جثة والده.. فالجثث عادة تتحلل إلا إذا تقدست من
السماء.
إنّه من سليمان
قرية (أكياد) ببيوتها الواطئة البسيطة تغرق في
الظلام...
الصمت يلف هذا الكون الصغير...
كون من الأحزان... والدموع.. والمشاعر الصادقة أقفلت
من دونه الأبواب..
لم يبق إلا الآهات المكتومة.
صوت (أم سليمان) يشق الليل...
إنها ليلة الاثنين 6 كانون الثاني 1985 (زغردي يا
إنصاف.. زغردي يا سعدية.. أخوكم بريء وستعلن براءته مع الفجر. وأنت يا
داليا.. يا عروس البطل وابنة العم. لا تطبقي الجفن.. لا تنامي على الحلم
الكاذب بأنه سيخرج من السجن بعد عدة سنوات. يأتيك غداً... بالطلعة
المصرية.. بالقامة غير المحنية.. بالوجه الطفولي العنيد.. بقلب البطل
الصنديد.. يا رجال.. يا نسوان.. يا صغار.. ويا كبرا.. انصبوا الزينات..
اشعلوا الأفراح يا طبالين... يا زمارين.. يا منشدين .. دقوا وغنوا.. قولوا
مع من قال:
يا شرقية قولي الحق
ابنك بطل واللا لأ
ترتجف أم سليمان.. تنار على عتبة دارها مثل سنديانة
قفتها الريح.. تعاند قدرها والناس من حولها واجمون. لا أضواء تفضح الوجوه..
بصيص الأنوار الخافتة في القرية يضيع في عاصفة رملية بينما القاهرة تنبض
عيونها من بعيد.
(ألا تردون؟ لماذا لا تردون، خذوا كتابه.. خذوا
خطابه... إنه منه.. من سليمان).
وتمد يدها المعروقة تلوح بأوراق
من أين أتت بهذه الأوراق؟
بل ماذا فيها؟
هل أنت أم سليمان؟
يا وليتنا.. سيثبتون في سجلاتهم أنه مجنون.. من
سلالة مجانين.. ألا يكفي أنهم أشاعوا عنه ذلك؟
لكن أم سليمان في كامل عقلها وصحوها..
ولماذا تجن؟ لم تفقد اتزانها عندما أخبروها أن ابنها
اتهم بقتل سبعة صهاينة.. ولا تخلت عن شجاعتها الفطرية مثل أي أم مصرية..
وواجهت المحققين والمخبرين، استجوبوا.. وفتشوا دارها غرفة غرفة.. وقلبوا
حوائجها كلها بحثاً عن الإثبات والدليل. سألوها عن كل شيء يتعلق بابنها. عن
ابن عمه الطبيب.. وعن رفاقه.. واتصالاته.. وأصحابه وجيرانه من أهل القرية.
حتى عن مدرسته الثانوية وأساتذته سألوها. وعندما أحست أن دارها تحت
المراقبة الشديدة تصرفت بشكل عفوي وطبيعي. كأن كل شيء لا يزال على حاله.
قامت وبناتها وقريباتها بأمور البيت واستقبلت الأهل والجيران وكل من وفد
عليها سائلاً مستفسراً أو حانياً مشاركاً..
أم سليمان لا يمكن أن تجن.
كانت قد جنت يوم أن أحيل ابنها للمحكمة العسكرية
العليا وأسندوا إليه الجرم بقتل الإسرائيليين.. كانت قد جنت يوم انقلبت
الدنيا من أجل سليمان. سارت المظاهرات من طلبة الجامعات واحتشد الألوف من
العمال والفلاحين ورأتهم بعينها في التلفزيون وعلى صفحات الجرائد يوم تدفقت
على (أكياد) جموع الطلاب غاضبة مزمجرة كالرعد..
لا .. أم سليمان ليست مجنونة..
القرية بأسرها تفيق..
ويتجمع خلق كثير .. وتدور الأحاديث همسا.. ثم تعلو
هديراً صخاباً كالموج:
ـ أم سليمان معها أوراق.
ـ تقول أنها من سليمان.
من أعطاها إياها؟ من أين أتت بها؟
ـ القضية كلها ما هي نظيفة.
ـ ضربوه.. عذبوه.. أهانوه.
ـ ومن رأوه قالوا إن وجهه مبقع بالكدمات.
ـ ابن عمه الطبيب قال إنه رغم كل شيء متوازن..
وهادئ.
ـ ضغوط علي ليتكلم المعلومات.
ـ وما هذه المعلومات؟ أسرار حربية أم أنها وقائع مما
يجري على الحدود.
ـ زملاؤه بكوا أثناء المحاكمة
ـ جبناء... أنذال.
ـ وماذا عساهم يفعلون تحت التهديد؟
ـ عملية خاسرة يا أخوان.
الطبيب خاطر يتدخل:
ـ يا جماعة.. بذلنا كل الجهود ولم نفقد الأمل بعد
بإطلاق سراحه بعد أن تخمد النار.
سنتان أو خمس ليست كثيرة وأنا قلت لكم إنهم يصرون
علينا أن نزوره صباح اليوم.. لا ندري ماذا ينتظرنا من أخبار.
يتقدم من سليمان:
ـ أنت أول من سيذهب يا امرأة عمي..
أتسمعين؟
أم سليمان لم تكن تسمع شيئاً... لا تصغي إلا إلى
النداء المضطرب في أعماقها. تلوح بالأوراق مذهولة. وجه سليمان ينبض أمامها
بملامحه السمراء.. بعينيه السوداوين العميقتين.. بابتسامته الفضية. تمد
يدها.. تمسح على شعره الأجعد.. تقربه من صدرها.. تناغيه.. تدلله.. تناجيه..
تناديه بأعذب الأسماء إليها:
يا وليدي.. يا كبدي.. يا حبيبي.. راجع أنت.. راجع
لي.. لشبابك لدرسك.. لمستقبلك.. الله يلعنهم. لا.. أن تركوا الله يسامحهم.
يدها لا تقبض إلا على الفراغ. تنهار على الأرض سنديانة منخورة.
ابن العم يقترب منها.. كأنما يعيد شريطاً تكرر
سماعه:
ـ أنا أعرف.. وعدونا بتخفيف الحكم... حتى أنهم عرضوا
عليه الهرب.. ويوم الخميس الماضي زرته.. وكانت معنوياته عالية.. طلب مني
كتب الدراسة.. وأن أسلم على الجميع. وإن أقبل يدك نيابة عنه.
ينحني ليبحث عن اليد المتراخية.. لعله يمسك بالأوراق
لكنها تنتفض فجأة مثل لبوة وتضمها إلى صدرها.
تمتمات تغص بها الحناجر:
ـ سليمان مصري صميم.. وطني بحق وحقيقة.. لما رأى
الصهاينة يبصقون على العلم المصري إلى الدم في عروقه.
ـ تحدوه .. وأخرجوا نساءهم أمامه عرايا من الفندق..
ولوحوا له هازئين.
ـ وكان قد امتلأ بالغيظ لما رفضوا أوامره.
ـ وهي كانت أوامره عسكرية؟ أوامر عسكرية يا أخي.
ـ قال لهم بالحرف الواحد: (قفوا.. ممنوع المرور)
يعني كان يكذب.. أو يخالف الأوامر؟
ـ وهو أطلق النار للتحذير.
ـ وما استجابوا.. يظهر أنهم اعتادوا على الرواح
والمجيء بين طابا وسينا دون أن يعترضهم أحد.
ـ وعلى أي شيء كانت الأوامر: ممنوع المرور.. إذا كان
المرور لا يمنع؟
ـ أوامر من هواء.. من قش.. لا أوامر من حديد.
ـ كان يلزمهم رصاص مصر كلها.. لا رصاصات سليمان
وحدها.
شاب يهمس لآخر إلى جانبه:
ـ أنا حضرت الجلسة.. رأيت وسمعت. سليمان سأل المحقق
(هل نترك الحدود إذن بلا دفاع؟ وهل إطلاق النار على الحدود من المحظورات؟
كل من يدخل منطقتي العسكرية بلا تصريح فهو عدو (أما قلتم ممنوع المرور
ليه؟).
ورأيته بعيني وهو صامد.. يصوب نظراته كالنسر المقيد
إلى من كبلوه بالحديد.. جريء.. متماسك.. قوي.. وكلامه كله منطق.
وقال لهم (وأنا ماسك الخدمة ومعي السلاح شفت مجموعة
من الأجانب وهم مش سائلين على وطالعين عالجهة الثانية. وأنا واقف أؤدي
واجبي. وفيه أجهزة ومعدات ما يصحش أي حد يشوفها. دي نقطة ممنوعة وممنوع أي
حدث يتواجد فيها وده أمر واللا يعني نسيب الحدود فاضية وكل واحدة تورينا
جسدها العاري نعدّيها).
ولما سأل المحقق: هل هذا يحصل في سيناء؟ أجاب:
(يحصل هذا وغيره.. سمعت أن واحدة عملت حالها مسطولة
وسكرانة ودخلت نامت في الشاليه اللي فيها جهاز الإشارة وطبعاً دي جاية
مأمورية وأخذت ذبذبات الجهاز ومشت).
قال المحقق:
ـ لكن إطلاق النار ممنوع.
فرد سليمان بقلب ثابت:
ـ ممنوع ضرب النار على عدوي؟
أفحمه فرد كمن طاش عقله:
ـ ومن قال لك أنهم أعداء؟
ومثل من يصارع الموت قال سليمان بصوت هادئ:
ـ أنا والله أعتبر كل واحد يخش النقطة عدوي. دي نقطة
ممنوعة أما أنا موجود هنا ليه؟
ما تتركوها سايبة.. قولوا لنا نسيبهم واحنا نسيبهم؟
يدخلوا الشاليهات ويرقصوا فيها.
***
هاجس يقلقه.. إنه من سليمان...
في سره كانت تتردد كلمات. مصري مجهول.. يعرفه الجميع
ولا يعرفه أحد.. هل هو إعلامي؟ صحفي مثلاً؟ هل هو محام؟ هل هو طالب من
زملاء سليمان. أم جندي؟ هل هو من الواعين المثقفين أم من الناس البسطاء
الذين يدرون الحقيقية عارية عن كل القشور بيضاء كالفجر؟
الكلمات تعلو من داخله:
قتل السادات.. نفذ الشعب فيه حكمه وفوراً أعلن العدو
الصهيوني انسحاباً شكلياً من سيناء. واليوم تثير محاكمة سليمان قضية طابا.
ماذا سيفعلون في طابا؟ الخيوط ترتبط بعضها ببعض.. لو
أنهم فعلاً انسحبوا من صحيفة لكان للجندي المصري حق حماية الحدود المصرية
ومنع الإسرائيليين من اختراقها أو على الأقل أن يبرزوا تصاريح. وما دام
الأمر ليس كذلك فمعناه أن اتفاقيات كامب ديفيد تتيح للصهاينة دخول أي منطقة
في مصر دون تصريح ولا يحق للمصريين مدنيين كانوا أم عسكريين منعهم من
دخولها.
يا للذل.. أي عار يجلل رؤوس أبنائك يا مصر.
والأخطر من ذلك أن يتخفى الإسرائيليون بثياب مدينة
ويحضرون المحكمة.. والأمريكان أيضاً أرسلوا مراقباً. وما يدرينا أنهم
يراقبونه في السجن وربما يقتلونه؟ وسير المحاكمة؟ ألم يكن ظلماً في ظلم؟
وإذا كان محاميه يؤكد براءته قانونياً فلماذا سلموا جثث القتلى تشريحها؟
ولماذا فاوضت حكومة مصر على دفع التعويضات لذوي المقتولي؟ لماذا صموا
آذانهم عن كل الصيحات الحرة في أرجاء مصر وفي العالم العربي؟ مهزلة والله
أن يتهموه بالجنون.. ليت كل أم مصرية تلد مجنوناً يدافع عن عزة مصر وكرامة
مصر..
سليمان ليس في السجن.. ولا مهددا بالقتل .. لا..
سليمان قاعد يغني:
(سينا حتفضل حتة مني).
سجل سجل يا زمان
البطل هو سليمان
حكموا عليه بالمؤبد.. وقال الشعب: سليمان بطل
الشعب..
شبح من سليمان..
كابوس يحاولون أن يهربوا منه..
في المكاتب السرية.. وفي حجرات فنادق.. ووراء كواليس
الحكم وفي مؤتمرات صحفية.. وأخرى إذاعية. يجتمعون ويتشاورون.. ويختصمون
ويغدو الكلام رصاصاً متناثراً.
الهرم المصري تحول إلى بناء يقفزون أدراجه كالومض
حتى يصلوا إلى القمة.
ـ هل سمعتم ما يرددون في الشارع؟
(سيناء يا بهية محتل.. القصر الجمهوري محتل).
رأس الهرم يزمجر: مجنون.. ألم نثبت أن مجنون؟.
العسكري الأول يهدر:
ـ ما الذي يحدث؟ يقتلونهم في سيناء؟ ألم ننته من
سيناء بعد أن فتحنا الحدود؟.
العسكري الآخر بلا رتبة يتمتم:
ـ رقيب يطلق 49 عياراً نارياً دون إذن؟ مهزلة.. لقد
تورطنا وانتهى الأمر.
رأس الهرم يقوم بعصبية بالغة:
ـ الأمر انتهى.. ألم تتم الإحالة إلى القضاء
العسكري؟ ألم يصدر الحكم وماذا بعد؟
العسكري الأول يرتجف:
ـ الحكم صدر بالسجن المؤبد.. أوصلناه إلى النتيجة
التي نريد.. لكن الشارع.. الشارع يا سيدي.
ـ ما لنا وللشارع؟ ليصرخوا كما يريدون.. هذا لن يغير
من الأمر شيئاً. وإذا احكمنا الطوق: تختنق القضية.
العسكري بلا رتبة يتمتم أيضاً:
ـ الطائر في صدري يختنق.. ليت رصاصة ما تخترقني
فأستريح.
العسكري الأول كأنما يتحدث إلى نفسه:
ـ والحل؟ نريد أن نصل إلى الحل؟.
رأس الهرم قبل أن يأمرهم بالانسحاب:
ـ ألست أنت الذي اجتمع به وناور وشاور؟ ألم أقل أن
القضية تختنق بطوقها؟
ويتدحرجون على الأدراج باستذلال وخضوع.. وعلى رأس
الهرم ظلٌ لنجمة مسدسة الشكل.. وفي حجرة من فندق.. ميناهاوس.. تجتمع حثالة
من البشر.. جواسيس وعملاء ومندسون على القضية.. ينزعون أقنعتهم.. ويصخبون..
ويشربون الأنخاب.. (أول نصر المؤبد.. والثاني... سيرون الثاني) ثم يقهقهون
هازئين.
أما في الصحف التابعة.. والمأجورة.. وفي قنوات
الإعلام الملطخة بالأقذار والسواد يتصارعون كالديكة.. ويتراشقون الاتهامات
ويتشاتمون.. يمزق بعضهم أوراق.. وآخرون يمضغونها وفي حلوقهم شوك وعلقم.
الفقاعات البيضاء تتناثر في الهواء بينما صورة لسليمان تصعد.. وتصعد عالياً
في الجو يغمرها النور.
اثنان ـ أية خساسة..
ـ بل أي إجرام
ـ أنت كتبت الأول
آخران
ـ بل أنت..
ـ هل تنكر "ريبورتاجك الصحفي" .. الذي كان ساخناً؟
ثالث ورابع
ـ ريبورتاجي هو الذي أدفأ العجلات فدارت دوراتها
القائلة.
ـ لكنك لم تربح شيئاً؟
ـ كيف وهذا مكتبي الجديد في صحيفة رئيسية ينتظرني.
وتضيع الأصوات واسم سليمان يرن بضجيج طبول تهرب منها
الآذان.
أم سليمان لا تزال تضم الأوراق.. والليل يهمي رذاذاً
كالدمع.. الليل رصاص ثقيل على أكتاف الجميع ما عداها.. كأنها تحملها غيمة
إلهية إلى سماء بلون الفرح المستحيل. ومع الفجر يتلقون النبأ الفاجع:
سليمان انتحر.. وجدوه مشنوقاً على نافذة الزنزانة.. ويصخب البشر كالموج. من
يستطيع أن يصدق؟ بل من يستطيع أن يخبر هذه الأمر الرمز؟ وعندما تتنبه الأم
للحظة إلى المد والجزر من حولها تقفل إلى بيتها راجعة والناس من ورائها
يسيرون كأنما هم في جنازة.. والطريق على قصرها تطول.. تغدو هي المسافة بين
الحياة والموت.. بين الأرض والسماء..
عند عتبة الدار يرونها وهي تخفي الأوراق في صدرها..
لصق القلب، ثم تقعي صامتة كتمثال للألم:
أنا سأنزل القاهرة وأستفهم عن كل شيء.. ألست ابن عمه
ومثل أخيه؟
ـ الأخبار ليست مؤكدة يا أم سليمان:
ـ لعلها إشاعات.
ـ خفير المركز هو الذي نقل خبر الشؤم.. لا.. لا يمكن
أن يحدث هذا.
ـ ستزحف القرية كلها إلى السجن.. بل كل القرى..
ـ نريد أن نراه بأعيننا.
ـ نريد أن نأتي به ولو كان ميتاً.
وأم سليمان تسمع وكأنها لا تسمع. تردد لنفسها عبارة
واحدة.. إنه من سليمان.
***
صباح الأربعاء تنقلب الدنيا في أكياد.. حرائق
وتحطيم.. وغبار يشق الجو.. وألوف الحناجر تهتف: /يا شرقية قولي الحق.. ابنك
بطل واللالأ.. أطفال.. وشيوخ.. ونساء من كل بيت.. ولا ثوباً أسود إلا أسود
إلا وارتدته صبية.. "أكياد" تشع في عذاباتها مثل نجمة مقتولة.. مثل شمس
ذبيحة.
وآهة كالجمر تشعل النار في كل القلوب: يا ولدي..
يوم هو بمليون سنة.. أطول يوم.. عاشوه جميعاً حتى
خرجت الجنازة بعد العصر.. عشرة آلاف رجل وامرأة.. وصور سليمان تخفق في
الجو.. وإعلام مصر ونشيج يفلق الحجر.. وشبان متحمسون يتطاير من قبضاتهم
وأصواتهم الشرر.. (يا أم سليمان ودّعيه.. يا أم سليمان وسدّي. مثواه
الأخير.. إنهم يصلون عليه هنا.. وفي كل المساجد أيضاً يصلون صلاة الغائب..
المسي نعشه الملفوف بالعلم المصري.. افعلي كل ما يبرد ألمك المشتعل وثكلك
الفاجع ولكن إياك أن تحني رأسك.. فرأسك يجب أن يظل مرفوعاً).
أم سليمان تتقدم الصفوف قبل أن يغيب عنها الجثمان
إلى الأبد.. تنسل من صدرها المكشوف أوراقها.. تفرشها فوقه.. وثيقة الحق
أمام التاريخ والسماء..
أوراقها كانت بيضاء.. ناصعة كصفحات ابنها في
الحياة..
لكن الأيدي تخاطفتها.. والعيون والقلوب نظرت فيها.
ولم تلبث أن مهرت بالدم..
ووقعت بأسماء الشرفاء..
وعنونت بعنوان مصر..
ختمت بعهد الشهادة..
وعوضاً عن أن يتركوها متناثرة تحملها الريح في كل
مكان جمعوها باسم بناء مصر وأودعوها عند أم سليمان.
وزمجر أبو الهول.. وزلزل الهرم.. ودوّى الرصاص
كالرعد.. ثم عاد كل شيء إلى السكون. سكون الموت أو سكون الحياة.
|