أنا وأنت وشيء ثالث
جلس بهدوء على الكرسي، يفصله عنها طاولة أنيقة..
ويفصلهما عن الشارع سور من الزجاج.
يبتلع الضجيج فيضفي على المكان ذاك الهدوء الذي
يتمناه عاشقان..
فتح الجريدة بعصبية وقال لها: أنظر هنا.. وأشار
باصبعه.
لكنها لم تغيّر نظرها، ما زالت توجّه إليه سهامها..
ـ ما بكِ؟ تأخرت..
ـ كنتَ تشتري الجريدة.. أليس كذلك؟ سألته بعصبية.
لقد بتْ أكره هذه الجريدة، صرت أشعر أنها تبعدك
عني.. إنها تسلخك من جسدي..
أسمع؟ إني أحقد على هذه الجريدة.
حاول أن يبتلع غضيها بابتسامة اغتصبها من شفتيه
وسفرّها دون حنين.. احتوى يديها بحنان ورمقها بنظرة عذبة مشبعة بالحب..
ـ هذه الابتسامة ستقتلني ذات يوم.. إنك مارد.
ـ آهٍ لو تعرفين.. إن هذه الجريدة تربطني بك أكثر..
أشعر أنها جسر جديد أعبر من خلاله إلى شواطئك.. لم نعد في هذه الحياة أنا
وأنت فقط.. صرنا أنا وأنت وشيء ثالث..
ـ ما هذا الحب الذي يولد من جريدة؟
ـ إننا يا صديقتي في نهاية القرن العشرين.. وذاك
الحب الذي يبني قصوراً من كلمات وبساتين من زهور وهمسات لم يعد نافعاً
الآن.. بل هو عاجز أن يستمر في هذا الزمن سوف ينكسر عند أول صخرة..
الآن حتى أحبك.. حتى أعيش في عينيك يجب أن أكشفها
بين هذه السطور، يجب أن أبحث عنها بين هذه الكلمات.. إنك بعيدة عن الخطر..
خل تعرفين أنه قد تموت عيناك هنا ولكن من هنا أيضاً الولادة..
ـ ماذا تقول!! روميو وجوليت.. جميل وبثينة.. أين ذهب
هؤلاء؟!
ـ هؤلاء اخترعهم الشرق في الزمن السهل.. نحن الآن في
زمن ميت.. وأعتقد أنهم لم كانوا الآن هنا لفعلوا كما نفعل نحن..
ابتسم مرة أخرى.. وعندما تحزنيني.. وحتى عندما
تبعدين هذه الجريدة من أمام عينيك.
ـ إنك مارد.. لكنني أحبك.
***
تنبَّت أنها ليست وحيدة.. أوقفت سيل ذاكرتها.. إنه
يؤلما بقدر ما يفرحها.. كانت تسير بلا وعي لكن عينيها كانتا تلاحقان هذه
المشاهد المرسومة في كل مكان..
المدينة أثرت فيها كثيراً.. زرعت فيها أشياء وسلبتها
أشياء.. إنها تشعر أنها تغيرت.. المدينة مدرسة حقاً.. قريتها البسيطة لا
زالت تداعب وجدانها، لا زالت تعزف على أوتار خلاياها، فتوقظ الحنين،
وتستفيق الذكرى.. لعلها لا تنسى كيف اشتعلت في عيني أمها تلك النار
العجيبة، أحست بلهيبها يفترس ذرات جسدها.
ـ ماذا تقولين؟ صرخت فيها وقد أمسكت شعرها بوحشية.
ـ أين تعيشين..؟ في المريخ.. في أوربة.. هل جننتِ.
ـ إنني أحبه.. وهو يحبني.
ـ هذا ما علموك إياه.. كيف ستعلمين تلاميذك أيتها
المربية الفاضلة..
عليك أن تسقطي هذا الجنين من أحشائك قبل أن تكبر
الفضيحة، وإلا سوف أخبر والدك وتعرفين أنت الباقي.. يا للمصيبة.. يا
خسارة..
ـ أمي، أرجوك.. يجب أن تفهميني.. سوف يعود قريباً
جداً.. ونتزوج.
ـ وإذا لم يعد؟
ـ لماذا لا يعود..؟
ـ الدنيا مشتعلة في لبنان.. الصهاينة شياطين..
والحرب لا ترحم.
***
غصّت.. ابتلعت دمعها.. إنها في الشارع، يجب أن توقف
هذه الذكريات، لم يعد بإمكانها أن تقاوم.. آهٍ.. لماذا لم تعد!؟.
اقتربت من الكشك واشترت الجريدة.. تصفحتها.. ومن
خلال سطورها، برق وجهة كإله.. ابتلعت دمعتها مرة أخرى..
ـ تعالي أعلمك الحب الجديد.. الحب في القرن
العشرين..
مدّي هذه الجرائد على الأرض.. هيّا.. أحسنت يا
ملاكي.. والآن إخلعي هذه الثياب عن جسدك الرائع..
ـ هل أنت مجنون..
ـ منذ أن رأيت عينيك..
اقترب منها بهدوء عجيب.. واستسلمت له بهدوء عجيب..
ثم تصالبا على الجرائد..
أغلقت الجريدة بعنف.. سجنتها في محفظتها.. واستسلمت
هذه المرة لدمعة مرهقة هجرت عينيها بصمت حزين..
ـ غداً سوف أسافر..
ـ ويهون عليك أن تبعد عني..
ـ أنت تعيشين في قلبي وعقلي وروحي، وفي هذه
الجريدة..
ـ لكن ألا يمكن أن تؤجل سفرك حتى تهدأ الحرب..
ـ وهل ترضين أن يكون من يحبك إنساناً يعيش على
الهامش.
أنا ذاهب الآن كي لا تموت عيناك بين هذه السطور،..
احتضنها بعنف، شعر بدفء يسري في جسده كله، وتمنى ألا ينفصل عنها أبداً..
ـ هل تسمحين لي أن أسافر في عينيك الآن..؟
ـ مالك تعشق السفر؟
ـ سفر هو الحب الحزين.. وأنت أغنية السفر..
هل تعرفين أن الإنسان يقضي حياته مسافراً منذ أن
يغادر رحم أمه المظلم وحتى يغرق في عيني امرأة.
ـ هل لديك جواز سفر.. سألت وقد علت الابتسامة على
شفتيها..
ـ خطف من شفتيها قبلة سريعة.. هل هذا يكفي.
.. ثم تاها في سفر جميل.
***
تنبهت أنها وصلت إلى "الكراج".. قرأت اسم قريتها على
لوحة علقت أعلى "الميكروباص" هزت رأسها بحزن: مرة أخرى.. سأعود إلى
الضيعة.
ثم ابتلعتها السيارة..
كيف ستقابل أمها الآن.. كيف ستقابل الضيعة كلها..
كانت السيارة تمضي مسرعة.. تحرق تحت دواليبها
أمانيها، وأحلامها الوردية، وكان القلب يشتعل شيئاً فشيئاً..
ـ ما أقسى الحياة.. في القلب موال لم يغنَّ بعد..
لم تشعر بشيء.. هناك ما يكبل حتى أحلامها..
ترجلت من السيارة.. وبنظرة سريعة احتوت كل ما حولها
بحنان حزين..
ـ كل شيء كما هو.. لا شيء تغير..
مضت في الطريق إلى البيت بخطا ثقيلة.. شعرت أن شيئاً
يشدها إلى السيارة..
لاحت لها المدرسة.. فشعرت أن قلبها يكاد يطير من
الفرح.. ثم خبا الفرح شيئاً فشيئاً.. عندما لاح الأستاذ عبد الرحمن.. كم
تمنت أن تراه.. ولا تدري لماذا.. ربما تريد من يوقظها من تعاستها..
ورعونتها..
ـ الحياة موقف.. والإنسان لحظة..
في لحظة واحدة قد ينهار الإنسان، وفي لحظة قد يولد
من جديد..
أرى أن نادية شاردة.. وبعيدة عن الدرس..
ـ لا.. إنني استمتع لك جوارحي..
لا يمكن أن تشرد.. إن كلماته تدخل دون جواز سفر..
تستقر في كل خلية من عالمها.. إن هذا الأستاذ يعني عندها كل شيء.. لقد
علمها الحب.. وعلمها أن تدافع عمن تحب..
وجهاً لوجه..
ابتلعت ريقها.. حدقت فيه جيداً.. ابتسم لها ومدَّ
يده: أهلاً نادية.. كيف أنت.
ـ لقد انتقلت إلى مدرسة في المدينة.. أحببت رجلاً
وحملت منه جنيناً..
ـ الحب فراشة تطير في دنيانا فتلونها بالفرح
والسعادة..
ـ لقد سافر إلى لبنان، لأداء مهمته العسكرية.. وعدني
عندما يعود سوف يتزوجني..
ـ لعله محارب بطل..
ـ لكنه لم يعد يا أستاذ.. جعل جسده قنبلة فجر بها
دبابة للصهاينة..
ـ إذاً أنت تحملين في أحشائك الآن ابن أعظم
الرجال..
لك أن تفخري.. وله أن يفخر.. البطولة لا تموت..
أحسّت بغصة عمياء تحنق كل كلماتها.. ترددت.. لكنها
لا تعرف لماذا استمرت بالحديث:
ـ لكنني أسقطته..
ذوت ابتسامة الأستاذ.. رماها بنظرة لم تدرك منها
شيئاً.. شعرت أن جسدها بدأ يذوب.. يتلاشى.. ينهار..
ثم مضى..
راحت تلاحقه بنظرات مليئة باليأس..
ـ لم تفعل به السنون شيئاً.. لا زال منتصباً كجبل
تحطمت عليه كل الأمواج..
لم تعد قادرة على المقاومة.
استسلمت لدمعة حزينة..
جلست قرب زاوية من زوايا المدرسة..
فتحت محفظتها..
.. وأخرجت الجريدة.
الكرسي الآخر
1
بعد وجبة الغداء بثلاث ساعات تماماً، اعتاد السيد
الوزير أن يجلس على الكرسي الذي ورثه عن جدّه، والذي وضعته زوجته على
الشرفة الشماليّة التي تطلّ على أرض خضراء ممتعة، حيث يشرب قهوة العصر.
والسيد صاحب اللباس الأنيق يتذكر الآن، هذا الكرسي
الذي كان موضوعاً على السقيفة يأكله الغبار مثله مثل كل الأشياء المهملة،
وكيف آل إليه بعد اقتسام التركة. كان الأمر مضحكاً في أوله، لكن مع مرور
الأيام صار هذا الكرسي جزءاً من عاداته اليومية.
في جلسته هذه التي تدوم خمسين دقيقة تماماً، يرفض
مقابلة أي شخص، حتى زوجته التي تحاول كثيراً الاستفادة من هذه اللحظات
الناعمة كي تسمع منه كلمة جميلة، لكنها لم تفلح. لا يتمنى أي شريك له مع
هذه الطبيعة الساحرة.
هذه المرة فقط ناداها، وكان لصوته تأثير غريب
عليها... انطلقت نحوه وكلها أمل وخوف. لا بدّ أن أمراً عظيماً قد وقع. إنه
ومنذ استلامه لهذا الكرسي العتيق، واعتياده شرب القهوة على الشرفة الشمالية
لم تحظ بدقيقة واحدة من الدقائق الخمسين التي يقضيها مع كرسيه الذي جلس
عليه من قبله كل أجداده لكنه هذه المرة أطلق صوته يدعوها. عندما وصلت إليه
كان يضحك... ضحكت هي الأخرى، وجلست على حافّة الشرفة، وبعد ضحكة استمرت نصف
دقيقة تماماً، قال لها:
ــ هل تصدقين...؟ وراح يضحك ثانية. ثم تابع كلامه:
لأول مرة أشعر أنني أرتاح على هذا الكرسي كأنني طفل يستريح بعد الركض في
مساحات واسعة تطارده عشرات الفراشات الملونة بحفيف أجنحتها الجميلة فور
جلوسي ترتخي عضلات جسمي، وأشعر بالفرح يغمر قلبي.
ــ لعلك تمزج... وضحكت، كنت أعتقد أنك منذ جلوسك على
كرسي الوزارة الفخم، ستقوم برفع هذا الكرسي على السقيفة، ليستقر في المكان
الذي كان عليه، فلا يليق أن يجلس عليه إلاّ الغبار... أمّا رجل عظيم مثلك
فلا يليق به إلاّ ذلك المكان الذي يحسده عليه الناس كلهم.
ــ هل هنالك أمر مضحك أكثر مما قلته لك؟ قال كلمته
الأخيرة بنوع من السخرية.
ــ خذ هذا الكرسي المهترئ الذي يئن مع كل حركة، وضعه
هناك في الوزارة ما دام يجلب لك المسرة والفرح، حتى يغتبط قلبك وينطلق
بجميل الكلام لسانك.
ــ يا له من اقتراح! قال ذلك وعاد إلى الضحك
ثانية..
بعد ذهابه إلى عمله، صنعت لنفسها كأساً من الشاي
ودعّمته بالزنجبيل والقرفة، وجلست على الكرسي العتيق، لكنها لم تحتمل ذلك
الصرير المنبعث من الكرسي كأنه أنين ناعورة هرمة، وكم عجبت من زوجها كيف
يتحمل خمسين دقيقة مع هذا الأنين المزعج.
2
هناك ولأول مرة منذ جلوسه على كرسي الوزارة، دفع
بكرسي مكتبه إلى منتصف المكتب وراح يتأمله... كان عالياً، شامخاً، براقاً،
تلفّه الزخرفات من كل جانب، يكسوه ثوب من الحرير يضفي عليه نعومة وطلاوة،
جلس عليه، وراح يتحرك في الاتجاهات كلها، يدور ويدور بحركات سريعة وبطيئة،
أغمض عينيه، أراد أن يسمع شيئاً، لكنه لم يقدر. ضحك.
حدث نفسه: لعل زوجتي معها حق، هنا الهيبة والوقار
والفرح، أي وهم أراد أن يتسلل إليّ؟.
دفع الكرسي برفق ووضعه خلف طاولة مكتبه الكبيرة، ثم
جلس عليه، وسأل نفسه: ماذا يحدث إذن؟
راح يفكر بطريقة عمله: يأتي إلى الوزارة في الساعة
السابعة والنصف قبل قدوم الموظفين بساعة تماماً، يحتسي فنجان قهوة، ويرسم
مخطط يومه كاملاً، في الساعة التاسعة يقوم بجولة على مكاتب الوزارة يطمئن
على الموظفين وأدائهم للعمل الموكل إليهم. بابه مفتوح لكل الناس،
لا يملّ من العمل، ويكره أن ينام أيّ طلب في مكتبه.
في الساعة السادسة مساء يقوم بدراسة كل الطلبات المقدمة إلى الوزارة لتكون
جاهزة صباح اليوم التالي.
3
في البيت وبعد جلوسه على كرسي جده وارتخاء عضلاته
وشعوره بالراحة حدث زوجته بالأمر ضاحكاً وقال لها: لا أصدق ما يجري... هذا
الكرسي مسحور.
زوجته التي تملكها الخوف من هذه الحالة الطارئة التي
تهاجم زوجها في وقت غير مناسب، فكرت كيف يمكن أن تعيده إلى توازنه... فكرسي
الوزارة بحاجة إلى رجل لا يأبه بمثل هذه الحالة، لذلك عندما انتهى زوجها من
فنجان قهوته لفت الفنجان بقطعة قماش وانتظرت حتى خرج، وأسرعت إلى حي الغجر
في ضاحية المدينة، عسى "أم بقوة" الشهيرة بقراءة الفناجين، تطلعها على سر
زوجها في عشقه الكرسي القديم، وانزعاجه من كرسي الوزارة.
سألتها "أم بقوة": ألم تحبلي بعد؟
ــ يلعن الحبل ويلعن ساعته. بدنا الكرسي...
ــ أي كرسي؟
ــ لا شيء. أريد أن أعرف مستقبل زوجي.
انتبهت "البصّارة" والتقطت الشعور المخيف الذي يفور
من أعماق نفس الزوجة.
استغلت ذلك واشترطت عليها: يمكنني أن أكشف لك كل
الطرق، لكني أريد مساعدتك، لتوظيف ابني الرابع. جلوسه الدائم في البيت مزعج
ومثير للقلق، ثم تابعت ضاحكة: ملعون كل من لا يساعد الفقراء.
وبعد أن وعدتها بالمساعدة، حدّثتها عن الطرق العديدة
المتشعبة، المظلمة، والمفرحة... أيام عظيمة قادمة، وأيام تحمل بعض
العثرات.
وعندما سألتها عن انزعاج زوجها من كرسي الوزارة
وعشقه لكرسي عتيق، أجابت مغمغمة: إنها العادة. ليكن بالك طويلاً.
كلمات العرّافة أوقعتها في مشكلة كبيرة. الأمور ليست
جيدة على ما يبدو.
لكن ما حدث لاحقاً أجج في قلبها ناراً كاوية...
فالسيد الوزير يصطحب معه ثلاثة من أمهر النجارين في البلد؛ ويطلب منهم صنع
كرسي يشابه كرسي جده تماماً ليجعله وراء مكتبه.
4
عملية صنع الكرسي كانت سريعة بناء على إلحاح السيد
الوزير، وخلال هذه العملية عاش الوزير في أحلام وردية... قريباً سينتهي هذا
الألم والقلق والتوتر، وهذا ما أسرّه لزوجته. أما الزوجة فقد كانت قلقة من
حديث العرافة، لكنها كانت تأمل أن يستعيد زوجها مزاجه بعد الكرسي الجديد.
الكرسي لا يهم بل تهم الوزارة ولو جلس على صندوق ماسح أحذية... كانت طيلة
الوقت تنظر إلى هذا الكرسي العتيق، ازدرته أولاً ثم صارت تحقد عليه يوماً
بعد آخر، لكنها الآن راحت تمني النفس عسى أن يحل الكرسي الجديد المشكلة.
عملية نقل الكرسي الجديد إلى الوزارة كانت سرية
للغاية، فقد حملوه بناقلة مغلقة، وبعد أن عم الظلام وشمل كل أطراف المدينة،
ومع ذلك ظلوا يراقبون الشارع حتى خلا من عابري السبيل، فلم يعد يسمع إلا
أصوات السيارات، وقد استغرق هذا وقتاً طويلاً قضاه الوزير بالأمل وقضته
زوجته بالخوف والقلق. ظلت مستيقظة حتى قدم زوجها، الذي وصل إلى المنزل مع
صياح ديك الجيران المسجون على السطح، وعندها فقط أقنعت نفسها بأن الأمور
استقامت، فغطت في نوم عميق.
في الصباح، وبعد شرب القهوة سألت إن كان زوجها
مرتاحاً في الجلوس على الكرسي الجديد، فكان جوابه مبهماً. قال لها "الأرجح"
ولم يزد، مما أعاد إليها بعض وساوسها التي كانت تظن أنها ولّت.
وظنت أن هذا حصل بفضل "أم بقوة" فتذكرت وعدها ونقلت
إلى زوجها ما طلبته منها البصّارة.
ضحك زوجها، صاحب الابتسامة المختصرة وقال لها: ألا
تعرفين زوجك حتى الآن؟
5
أيام قليلة فقط ستمضي بهدوء،وسيحاول خلالها صاحب
الابتسامة والوحمة الصغيرة على خدّه الأيسر، أن يغير من عاداته قليلاً...
حاول أن يبتعد عن الكرسي العتيق والشرفة الشمالية وفنجان القهوة، وصار يقضي
الوقت المخصص لذلك في النوم، حيث يستيقظ بعدها متوجهاً إلى كرسي الوزارة
الجديد.
ومع مرور الوقت شعر أنه لم يستفد من كرسيه الجديد.
ما زال التوتر والصداع والقلق مسيطراً على كيانه. نقل الكرسي إلى وسط
مكتبه، حدق به طويلاً، قام بقياسات مختلفة وسجلها في ورقة. قال: لعلّ خطأ
ما وقع في القياسات.
في البيت عندما رأته زوجته يقوم بالقياسات نفسها على
كرسي جده ويقارن بما سجله على ورقته، شعرت بالإحباط وقالت: لا بد أن الحالة
العصبية قد رجعت له. إنها لعنة "أم بقوة".
اقتربت منه، كان قد جلس على الكرسي وراح يحدق إلى
الأفق البعيد الذي تسمح به فرجة من منزل الجيران. سألته: ما بك؟
ــ لا شيء... حضري لي فنجان القهوة.
شعرت برعدة سرت في كل جسدها، وتمتمت "عاد كما كان.
إنها لعنة أم بقوة".
جاءت بفنجان القهوة وسألته إن كانت الأمور جيدة.
ــ في حقيقة الأمر، لم يرحني الكرسي الجديد... بل
يزداد الأمر سوءاً.
تبالغ في وصف مشاعرك... لا أحد يصدق أن الجلوس على
ذلك الكرسي الفخم يمكن أن يجلب غير الراحة والسعادة.
ــ وهذا هو الأمر الذي يؤرقني.
6
أمضت وقتاً طويلاً بحثاً عن سبب مقنع للحالة التي
وصل إليها زوجها، غير خطيئة "أم بقوة" فلم تجد. إن بقاءه على هذه الحالة
معناه أن يخسر ذلك الكرسي الفخم. قالت في نفسها: لن يحصل ذلك أبداً، سأبذل
كل شيء عسى ولعل...
كانت زيارتها له في مكتبه مفاجئة له، فلم يسبق لها
أن زارته من قبل...
ــ أردت أن أراك في هذا المكان الرائع يا زوجي
العزيز، وأحتسي فنجاناً من القهوة معك.
ــ تفعلين حسناً لو عدت إلى البيت. ليس لديّ وقت
أضيعه، هموم الناس لا تنتظر التأجيل.
ــ ما دمت جئت فلنشرب القهوة معاً.
وتماماً كما رسمت، شربت القهوة مع السيد الوزير الذي
أرغمته أن يجلس على الكرسي الفخم وهو يشرب فنجانه، ثم أخذت الفنجان من غير
أن يراها وودعته وذهبت مباشرة إلى العرافة المشهورة بحل الألغاز، لكن
جارتها رفضت قراءة فنجان من لم يمدّ لها يد العون عندما قصدته، الأمر الذي
أوقع الزوجة في حزن شديد جعلها تشعر أن الشؤم قد حلّ وأن الوزارة سوف تطير
من زوجها... لذلك كان الحل الآخر اللجوء إلى الصديق القديم لزوجها
والاختصاصي بالأمراض النفسية، وقبل أن تدعوه كان عليها أن تدرس الأمر بشكل
جيد وفق النقاط التالية:
* يجب أن يحضر الطبيب بشكل مفاجئ لا يعرف به زوجها؛
لأنه سيرفض هذه الفكرة نهائياً.
* وقت حضور الطبيب يجب أن يكون في الخمسين دقيقة
التي يكون زوجها فيها جالساً على كرسي جده، هذا الكرسي التي تعدّه حالياً
موضوع الأزمة. وهذا بحدّ ذاته أمر خطير لا تعرف ردّ فعل زوجها الذي يرفض
مقابلة أيّ كان في هذه اللحظات...
* يجب أن يثار الموضوع بشكل عفوي أمام الطبيب.
كانت قد درست الأمر جيداً بالتعاون مع الطبيب الصديق
الذي أصابته الدهشة عندما سمع بالحالة السيئة التي وصل إليها صديق صباه
الرزين، والذي لم يعرف عنه أحد إلاّ جدّه واجتهاده، الآن يسمع من زوجته أن
هذا الصديق قد صار شخصين أحدهما يجلس على كرسي الوزارة حزيناً والآخر يجلس
على ذلك الكرسي العتيق فرحاً، ضحك الطبيب وقال لها: إنّ من يعرفه يتوقع أن
يحدث له ذلك، لكن سوف أساعده، لا تقلقي، زوجك رجل نبيل،ومن المتوقع أن يحدث
له ذلك.
8
مجيء الطبيب كان في وقت غير مناسب. لقد قرع الجرس في
الخمسين دقيقة المحرمة، ولقد أخطأت الزوجة في عملية التوقيت بالرغم من
اعتمادها على حبّ السيد الوزير لصديقه، لكنه رفض تماماً حتى سماع صوته...
هذه اللحظات مقدسة.
عاد الطبيب من حيث أتى، أما السيد الذي صار فريسة
أوهامه فما زال مسترسلاً في تأملاته عبر هذه الأرض الخضراء، وعلى تلك
الموسيقا التي يعزفها الكرسي بين الحين والآخر حسب حركات السيد الوزير.
شعرت الزوجة بالإحباط الشديد، وفكرت، ومن خلال
دموعها: أتى الحل المناسب، حدثت نفسها: لا بدّ من تحطيم هذا الكرسي، كي
يستمر في الوزارة.
9
عندما عاد السيد الوزير إلى البيت بعد يوم مضنٍ من
العمل المتواصل، وبعد وجبة الغداء بثلاث ساعات، طلب من زوجته فنجان القهوة،
وقبل أن يمضي إلى الشرفة الشمالية قال لها بحزن: على الرغم من حبي للعمل
ورغبتي في تقديم شيء مفيد للناس، صرت أكره الذهاب إلى هناك، أشعر أن ذلك
الكرسي عندما أجلس عليه سيدور بي حتى يصيبني الدوار والغثيان، ثم تركها
ومضى إلى الشرفة الشمالية، لكنه فوجئ بالباب مقفلاً، نظر من الزجاج... ما
هذا؟ سأل نفسه بغضب. لقد تحولت الشرفة الشمالية إلى ما يشبه السقيفة التي
كانت في بيت جده؛ رمت فيها الزوجة أغراض البيت البالية كلها، وهناك في تلك
الزاوية وجد كرسي جده وقد تحول إلى حطام.
صاح بأعلى صوته المجروح: تعالي... ماذا حدث هنا؟
ركضت الزوجة: وجدت السيد الوزير يستند إلى الباب
المغلق، وقد احمرت عيناه.
قالت له بارتباك: سوف لن تصدق ما حدث: لقد انهار
فجأة. رأيته يتفتت بعينيّ.. يتلاشى.
كانت تتحدث، كمن يقص حكاية لابنه الصغير قبل أن
ينام. أما السيد الوزير فقد كان يبحث بين تلك الأشياء، عن كرسيه المحطم وفي
نيّته أن يعيده كما كان.
أسرعت الزوجة في العودة إلى المطبخ وهي تتمتم "إنها
لعنة أم بقوة".
قصة حب
1:
أخيراً حانت اللحظة التي ناضلت للوصول إليها. لكن
الذي أحزنني أن يكون موتي على يدي ذلك الرجل الذي عشت مع أسرته فترة اعتقدت
أنها كافية لخلق نوع من الحب المتبادل بيننا. لكن لا بدّ من الاعتراف بأن
ابنه الصغير أحبني، وكثيراً ما كنت أمضي أوقاتٍ ممتعة معه. وكذلك زوجته
دللتني، وتحدثت طويلاً عن جمالي وسحري. كانت تقول لابنها أنظر إلى هذا
الديك. لقد وضع في رقبته قوس قزح. وصوته في الصباح يوقظني ولا يزعجني، ليس
كصوت أبيك الخشن الأجش.
خطرت على بالي فكرة قد تكون سيئة وبعيدة عن المنطق،
لكنها عبرت دماغي لحظة وهي احتمال شعور الرجل بالغيرة من جمالي الذي أقرت
به زوجته. ربما أخفى هذا الشعور وأخرجه من صدره تلك اللحظة مستفيداً من
محاولة هربي.
في كافة الأحوال عندما استل بندقيته المعلقة على
الجدار منذ سنوات طويلة، وأطلق باتجاهي كنت آمل أن يكون الصدأ قد فعل فعله،
الأمر الذي سيتيح لي الهرب. لكن الرصاصة انطلقت مسرعة، محطمة حلمي الجميل.
2:
"أرجوك لا تدعنا نغرق في بحر الحب أكثر". هكذا طلبت
مني وهي تبعد رأسها عني، واعتقد أنها كانت تبكي. وعندما سألتها عن السبب.
قالت لي: إنني مرهونة للرحيل. أهاجر من مكان إلى آخر، أخشى أن أترك لك
الحزن، ليس أكثر. ظننت أنها تمزح ، رميت رأسي على جسدها، فركته بنعومة،
قبلتها، وقلت لها: رائحتك الباقية هنا تكفي كي تلفني بفرح دائم. استدارت
نحوي، رأيت دموعها. كانت تبكي إذن. قالت لي: أرجوك ابتعد عني، لقد
أحببتك،لا تجعل قلبي يتفتت عندما أرحل. لقد كررت كلمة الرحيل للمرة
الثانية، الأمر الذي جعلني أتركها تلك اللحظة وأمضي أجرّ خيبتي.
3:
لم نكن نغادر الحاكورة عادة. لكن تلك الفترة، أشفقت
علينا سيدة المنزل، وطلبت من زوجها أن تفتح لنا الأبواب كي نتنزه. ولقد
وافق.
انطلقنا في مساحات خضراء جميلة أنعشت قلوبنا. لكن
على ما يبدو كنت أنا المستفيد الأكبر، حيث التقيت بها قرب البحيرة. نظرة
واحدة منها، كانت كافية كي تنقلني إلى عالم آخر.
بداية قررت أن أهرب، لكنني لم أستطع. بعد ذلك هاجمني
شعور آخر، عرفت أنه الحبّ.
آه، ماذا يفعل الحب. لقد قلب حياتي. غدوت كائناً
آخر. وراح الجميع يشعرون بفرحي، ويقولون لي: لقد صار جمالك ينوّر الحاكورة،
أيها الديك الشقي. كنت الديك الوحيد هنا وكنت مدللاً من قبل سيدة المنزل،
ومن قبل عشر دجاجات، لكنني بطبيعة الحال لم أكن أشعر بالفرح حتى التقيتها.
كانت جميلة، دافئة، فيها شيء مختلف عن كل الطيور.
4:
قالت لي: من السهل أن نتعلم الكره، لكن هيهات أن
نمتلك القدرة على الحب. ثم أعطتني من قلبها نقاوته، ومن فمها عطره، ومن
جسدها ضوءه. وقتها غدوت قادراً على الحب. قبل ذلك كنت أنانياً. أنظر بقرف
إلى تلك الدجاجات اللواتي يبذلن قصارى جهدهن لإرضائي. حتى تلك السيدة التي
كانت تهتم بي كثيراً كنت أتعامل معها بخوف، أهرب منها كلما مدت يدها لتداعب
ريشي الملون. وذلك الصغير الذي حاول أن يبني علاقة صداقة بيننا، لكنه فشل.
حتى أنني طاردته مرة، وجعلته يبكي. الآن انقلبت الأمور رأساً على عقب. صرت
أتعامل برأفة مع الدجاجات، وأنام في حضن الصغير، واستسلم ليد السيدة تداعب
ظهري. حتى صوتي، صار أشبه بموسيقا عذبة تفرح القلوب، وتهديء النفوس.
5:
لقد نجاني الحب من الموت. ذلك الرجل صار يعجب
بألواني الزاهية، وصوتي الجميل.
قال لزوجته: أنا راض عنه هذه الأيام، إن صوته يهبني
الطمأنينة، والهدوء. يفرحني عندما أسمعه،أذهب إلى عملي نشيطاً. لقد فكرت
كثيراً فيما مضى أن أرتاح منه. كان مزعجاً. لم يكن تعجبني به تلك الكبرياء
الزائفة. أما هي فقد كانت تؤكد له: إنه ساحر، أشبه بطاووس.
- تحبينه، أليس كذلك؟
- قل لي الصدق، ألا تحبه أنت أيضاً؟
- مؤخراً، بدأت أشعر نحوه بالحب.
- الصغير، يعتبره صديقه الوحيد.
لقد منحتني هذه الاعترافات، الكثير من الهدوء.
وشجعتني على الهروب لملاقاة ساحرتي. سوف أحكي لها عما قدمته لي من حياة
جديدة.
6:
لقائي الأخير معها كان مختلفاً. تحدثنا طويلاً عن
الحب.
قالت لي: إنها تجربتي الأولى. ولقد أكسبتني الكثير
من الأحلام. كنت أعيش بلا حلم، وما أصعب ذلك. أما الآن ففي حقيبتي الكثير
منها، لقد أصبح حبك زوادة سفري.
قلت لها: أرجوك أن تنسي هذه الكلمة.
قالت ضاحكة: لا يمكن. أنا مخلوقة للرحيل.
بعد ذلك بكينا، وتعانقنا طويلاً. ثم تحدثنا عن مملكة
تجمع الطيور لما لها من صفات رائعة أهمها الحب، المفقود بين البشر، وقالت
لي مؤكدة: كل الممالك التي لا تقوم على الحب، مصيرها إلى الزوال، وهكذا كان
مصير كل الممالك البشرية عبر التاريخ التي قامت على الحرب والدمار.
أكدت لها أن البشر يعشقون الدم، ويبنون عليه فرحهم.
كنت بذلك أتنبأ بطريقة موتي القادمة.
7:
ذلك الصباح الكئيب لا يمكن أن أنساه. استيقظت لكن
هذه المرة كنت تعباً، مع رشح بسيط هاجمني وألم في مفاصلي. انطلقت إلى
البحيرة. لا زال لدي أمل أن تكون تنتظرني هناك بألوانها الجميلة وصوتها
الدافيء. لكنني لم أرها. غطست في البحيرة، أشم رائحتها،ابتلعت من الماء
الكثير، بحثاً عن شيء من بقاياها، لكنني لم أجد شيئاً. رجعت تاركاً حزني
هناك.
رفاقي لاحظوا التغير المفاجيء وقالوا لي: الحب. . .
الهزيمة. قلنا لك منذ البداية نهايته دموع.
- لا ، لقد اتفقنا على إنشاء مملكة خاصة بالطيور.
سنلتقي بها قريباً. إذا كانت حياتنا قصيرة، فلتكن جميلة على الأقل.
- مملكة للطيور؟
- لقد رحلتْ تبشر بها. آن الأوان كي نتحرر من العنف
الذي يفرضه البشر.
- ولكننا اكتسبنا من البشر ما يكفي لإفساد أي مملكة.
8:
لاحقاً تطورت حالتي السيئة بصورة سريعة. بدأ اللون
الأزرق يكسو جسدي. والسعال يأكل رئتي، والتعب ينتشر في عضلاتي كلها. أيقنت
أنني مصاب بذلك المرض اللعين الأنفلونزا. لقد رحلت يا مولاتي وتركت لي
الموت. لكنني لست نادماً. إن الفرح الذي عشته يستحق أن نموت من أجله. الذي
يؤرقني الآن أنني لن أشهد بناء مملكتنا الجميلة. وصار همي أن أموت بسرعة،
لا أود أن ينتقل المرض إلى أصدقائي، وإلى أولئك الناس الذين عشت عندهم كل
هذه المدة، لذلك لم أعد آكل. رفاقي لاحظوا انزوائي ونفوري منهم، وتغيري
الشديد. وتلك المرأة التي كانت معجبة بجمالي، هاهي تنفر مني الآن.
- إنه يتغير على نحو مرعب. قالت لزوجها.
- هكذا كل الذين أعجبتِ بهم في حياتك، تغيروا، أم
أنك نسيت يا امرأة؟
- أراك تفتح أبواباً لا يمكن أغلاقها.
- أمسكيه، وأجعليه وجبة للصغير، وسوف أجلب لك ديكاً
قوياً فتاناً.
مدت يدها محاولة أن تمسك بي. كنت مستسلماً، ليس لدي
القوة كي أحرك جناحي. لكن قبل أن تلقطني أصابعها نفرت ، لا يمكن أن أكون
سبباً في موت هذا الصغير الذي أحبني. لا أعرف كيف أتتني تلك القوة المرعبة.
قفزت وركضت بسرعة.
- أنظر، إنه يهرب.
- غبي.
أمسك بندقيته المعلقة على الجدار منذ سنوات طويلة،
وأطلق نحوي. كنت آمل أن يكون الصدأ قد فعل فعله بها. لكن أملي خاب هذه
المرة أيضاً. حلمت بسماء صافية لا بنادق فيها ولا غضب، لاشيء يلفها إلا
الحب. حلمت أيضاً بمملكة للطيور، ورأيت حبيبتي تجلس على عرشها، وتغني أول
أغنية حبّ في المملكة. كان ذلك تماماً قبل أن تصيبني الرصاصة وتحولني إلى
أشلاء مبعثرة.
بَحثاً.. عَنْ كوةٍ للهواء ـــ قصة: جرجس حوراني
-الحياة هكذا. سؤال.. مجرد سؤال.
رماها في الهواء، ومضى.
أتذكره تماماً، وأتمنى أن أراه.. لأقول له إن الحياة
هكذا.. تركيبة. مجرد تركيبة.. وإلا كيف يمكن أن يفقد المرء ثيابه قطعة..
قطعة دون أن يدري. كيف يمكن أن يخسر المرء ألوانه.. شيئاً فشيئاً وليس بيده
إلا أن يصمت..
أتحول رغماً عني إلى آلة.. عندما قلتُ ذلك في مكان
عملي، ضحك أحدهم وقال: الحمد لله بقيت أنثى.. ولم يجعلوك ذكراً..
أود أن أقف وأصرخ بملء صوتي: أرفض ذلك.. إني
إنسانة.
لا أدري كيف بدأت عملية الاختصار، ولا أدري من بدأ
تلك العملية.. كل ما أعرفه الآن أن أحداً في هذا العالم لن يسمع صوتي..
وإننا نسير نحو الهاوية بلا رحمة..
أنا امرأة متزوجة، عندي طفلتان عذبتان: ميس، ونورما.
زوجي مهندس يعمل في الشركة العامة للبناء، ويملك سيارة خاصة. طفلتي الكبيرة
ميس في الصف الخامس الابتدائي.. ونورما بالصف الأول الابتدائي وماذا بعد..
ماذا يعني أن تخسر امرأة ألوانها- أعتقد أنني لست الأولى ولن أكون
الأخيرة.. وهذا ما يؤرقني..
اللعبة لا زالت مستمرة.. وهم يعيشون الاختصار..
والاختزال. من بدأ هذه اللعبة.. ليتني أعرفه.. كنت قتلته..
آهٍ، أنا المرأة اللطيفة الحلوة التي تشبه نسيم
صباحٍ ربيعي كما يسميني زوجي يمكنها أن تقتل الآن..
نعم يمكنني أن أقتل.. القتل في هذه الحالة دفاع عن
النفس.. إذاً هو شجاعة..
صباحاً أستيقظ باكراً.. أصنع فنجانين من القهوة..
أحدهما لي والثاني لزوجي.. نسمع فيروز.. رغم أنني أحبها جداً إلا أنني لم
أعد أعي ما تقول.. لم تعد تدغدغ مشاعري.
بعد ذلك أحضّر طعام الفطور لميس ونورما.. ألبسهما
الثياب، تنطلقان إلى المدرسة.. ويكون والدهما قد سبقهما.. بعد ذلك أحمل
محفظتي وأتوجه إلى المعمل.. أنا موظفة في شركة الألبان.. قد تخرجتُ من كلية
الهندسة البتروكيمياوية وقادتني الظروف إلى هناك.. نسيت ما تعلمته في
الكلية وصرتُ بعد ذلك أنسى أشياء كثيرة.
الآن غدوتُ مهزوزة.. وخائفة.. أشعر أن شيئاً ما
سيحدث، لا أعرفه.. هذا الشعور يلازمني منذ أن أخرج من البيت وحتى أعود
إليه..
عندما دخلتُ معركة الحب، ولا أدري لماذا أسميها
معركة، لكنَّ الحب له صلة ما بالمعارك، أعتقد ذلك.. عندما بدأت الحب وشعرت
أن قلبي يغني صرتُ مجنونة.. في تلك الفترة أحسست بألواني جميعها.. وقتها
صار لي عالمي الخاص، وكان جميلاً جداً. طرنا معاً- صنعنا وطناً لنا..
تقابلنا.. تصالحنا.. بكينا.. فرحنا.. وكنا نحلم.. ونعرف معنى الأغنية..
ومعنى الحب. كان يقول لي: الحب أعجوبة.. هو أجمل العجائب.
كنت أضحك وأعانقه: هو حرب من أجل إثبات الذات..-
أنتِ قوية.. وخطيرة. وكان يقبلني.. وأشعر أن في قبلته أحلاماً لم يصل إليها
قلبي بعد.. مارسنا الحب في كل مكان.. ولم أكن أخاف سألني كثيراً: ألا تخشين
شيئاً.. -أبداً.. أبداً.
وكان يسألني مازحاً: ماذا لو تركتك ورحلت- لن تفعل
ذلك.. لأنني أحبك بجنون.
وكان يلاحقني.. وكنتُ أهرب من أمامه.. لكنني أتمنى
أن يصل إليَّ كي يرسم على شفتي أحلاماً جديدة.. قاتلت من أجله كثيراً..
كنتُ أشعر أنني أحارب من أجلي أنا.. فعلى صدره وجدت نفسي، وبين عينيه رأيت
مدينتي الجميلة، وصممت تلك الفترة أن أحارب كي أصل إليها..
الحب نوع من المعارك.. وهو أشدها، وأصعبها..
والهزيمة به تعني النهاية لم أتوان أبداً أن أدخل صراعاً مع أهلي من أجله..
أقصد من أجل مدينتي عندما كنا نرقص معاً.. كان يهتف في أذني:
-لن توجد سماء تقف عندها طيورنا.. سنحلق إلى ما لا
نهاية.. ألا تكرهين الحدود مثلي.. كنتُ أجيبه: بلى.. أكرهها..
-هل ستبحثين مثلي عن وطن بلا حواجز
-بالتأكيد- وطن بلا حواجز
-هل تعرفين أن الحياة بين يديك لها طعم النار
-تحرقك!
-لا.. تطهرني.
الآن أشعر بالخوف يتسلل عبر أجزائي.. لا زال يحبني
جداً.. وميس ونورما حلمان أخضران.. لمَ الخوف إذاً؟!.. لأنني لست كما كنت..
كنت أقوى من ذلك بكثير.. الآن أشعر أن حياتي خط مستقيم يصل بين البيت
والعمل.. محطتان تحرقان عمري بلا ثمن.. قلق يعتريني.. حكاية الاختصار ترهق
أعصابي، كأن الإنسان مصمم عندنا كي يذوب بين أشيائه البيتية التافهة..
مرة وعندما كنتُ عائدة إلى البيت، ركبتُ إحدى
السيارات السنافر.. هذه السيارات الصغيرة التي دخلت البلد حديثاً.. صعد
أحدهم فطرق رأسه بالباب.. كتم غيظه وألمه واحتل أحد المقاعد..
-سأل أحد الركاب السائق: ألا يمكنك أن ترفع الباب
أكثر.. ضحك السائق ولم يجب.. بينما همس أحدهم من خلفي: هذه السيارات مصممة
أصلاً كي تعلمنا أن نحني رؤوسنا..
لقد ضرب في قلبي هذا الرجل.. إذاً الحكاية بدأت
هكذا. في البيت طرحتُ الموضوع مع زوجي..
قال لي: كنا نركب الباصات، ملاعب.. هكذا تشعرين
بها.. ثم صارت بقدرة قادر ميكروباصات.. ضاق نفسك قليلاً.. والآن ها هي
الأقفاص الصغيرة تملأ الطرقات.. علينا أن نبحث عن كوةٍ للهواء.. كي لا
نختنق..
حقاً علينا أن نبحث عن كوةٍ للهواء.. كي لا نختنق..
الموضوع إذاً كبير جداً. وحكاية الاختصار مرض مزمن لم أكن أفكر بالموضوع من
قبل.. لم يكن يشغلني.. الآن تغير كل شيء.. وجدت نفسي في قلب الدوامة.. لا
مهرب من التفكير..
عندما يطبق علينا الحصار، ويتعكر الهواء، يغدو
السكوت نوعاً من الانتحار.. لا أدري كيف بدأت عملية التقليم يُعرُّوننا
ورقة.. ورقة.. غصناً غصناً وما يخيفني الآن احتمال وصولهم إلى الجذور..
عندما وصلت ذاك المساء.. فتحتُ الباب.. وحقاً كنتُ
شاردة.. سمعت صوته من الداخل.. لقد وصل قبلي هذه المرة..
-أهلاً سوسو- لقد أنهيت تحضير الطعام يا حبيبتي جمدت
في مكاني.. ثم انفجرت ضاحكة..
الآن، عرفت كيف بدأت عملية الاختصار.
الآخر
1
بعد وجبة الغداء بثلاث ساعات تماماً، اعتاد السيد
الوزير أن يجلس على الكرسي الذي ورثه عن جدّه، والذي وضعته زوجته على
الشرفة الشماليّة التي تطلّ على أرض خضراء ممتعة، حيث يشرب قهوة العصر.
والسيد صاحب اللباس الأنيق يتذكر الآن، هذا الكرسي
الذي كان موضوعاً على السقيفة يأكله الغبار مثله مثل كل الأشياء المهملة،
وكيف آل إليه بعد اقتسام التركة. كان الأمر مضحكاً في أوله، لكن مع مرور
الأيام صار هذا الكرسي جزءاً من عاداته اليومية.
في جلسته هذه التي تدوم خمسين دقيقة تماماً، يرفض
مقابلة أي شخص، حتى زوجته التي تحاول كثيراً الاستفادة من هذه اللحظات
الناعمة كي تسمع منه كلمة جميلة، لكنها لم تفلح. لا يتمنى أي شريك له مع
هذه الطبيعة الساحرة.
هذه المرة فقط ناداها، وكان لصوته تأثير غريب
عليها... انطلقت نحوه وكلها أمل وخوف. لا بدّ أن أمراً عظيماً قد وقع. إنه
ومنذ استلامه لهذا الكرسي العتيق، واعتياده شرب القهوة على الشرفة الشمالية
لم تحظ بدقيقة واحدة من الدقائق الخمسين التي يقضيها مع كرسيه الذي جلس
عليه من قبله كل أجداده لكنه هذه المرة أطلق صوته يدعوها. عندما وصلت إليه
كان يضحك... ضحكت هي الأخرى، وجلست على حافّة الشرفة، وبعد ضحكة استمرت نصف
دقيقة تماماً، قال لها:
ــ هل تصدقين...؟ وراح يضحك ثانية. ثم تابع كلامه:
لأول مرة أشعر أنني أرتاح على هذا الكرسي كأنني طفل يستريح بعد الركض في
مساحات واسعة تطارده عشرات الفراشات الملونة بحفيف أجنحتها الجميلة فور
جلوسي ترتخي عضلات جسمي، وأشعر بالفرح يغمر قلبي.
ــ لعلك تمزج... وضحكت، كنت أعتقد أنك منذ جلوسك على
كرسي الوزارة الفخم، ستقوم برفع هذا الكرسي على السقيفة، ليستقر في المكان
الذي كان عليه، فلا يليق أن يجلس عليه إلاّ الغبار... أمّا رجل عظيم مثلك
فلا يليق به إلاّ ذلك المكان الذي يحسده عليه الناس كلهم.
ــ هل هنالك أمر مضحك أكثر مما قلته لك؟ قال كلمته
الأخيرة بنوع من السخرية.
ــ خذ هذا الكرسي المهترئ الذي يئن مع كل حركة، وضعه
هناك في الوزارة ما دام يجلب لك المسرة والفرح، حتى يغتبط قلبك وينطلق
بجميل الكلام لسانك.
ــ يا له من اقتراح! قال ذلك وعاد إلى الضحك
ثانية..
بعد ذهابه إلى عمله، صنعت لنفسها كأساً من الشاي
ودعّمته بالزنجبيل والقرفة، وجلست على الكرسي العتيق، لكنها لم تحتمل ذلك
الصرير المنبعث من الكرسي كأنه أنين ناعورة هرمة، وكم عجبت من زوجها كيف
يتحمل خمسين دقيقة مع هذا الأنين المزعج.
2
هناك ولأول مرة منذ جلوسه على كرسي الوزارة، دفع
بكرسي مكتبه إلى منتصف المكتب وراح يتأمله... كان عالياً، شامخاً، براقاً،
تلفّه الزخرفات من كل جانب، يكسوه ثوب من الحرير يضفي عليه نعومة وطلاوة،
جلس عليه، وراح يتحرك في الاتجاهات كلها، يدور ويدور بحركات سريعة وبطيئة،
أغمض عينيه، أراد أن يسمع شيئاً، لكنه لم يقدر. ضحك.
حدث نفسه: لعل زوجتي معها حق، هنا الهيبة والوقار
والفرح، أي وهم أراد أن يتسلل إليّ؟.
دفع الكرسي برفق ووضعه خلف طاولة مكتبه الكبيرة، ثم
جلس عليه، وسأل نفسه: ماذا يحدث إذن؟
راح يفكر بطريقة عمله: يأتي إلى الوزارة في الساعة
السابعة والنصف قبل قدوم الموظفين بساعة تماماً، يحتسي فنجان قهوة، ويرسم
مخطط يومه كاملاً، في الساعة التاسعة يقوم بجولة على مكاتب الوزارة يطمئن
على الموظفين وأدائهم للعمل الموكل إليهم. بابه مفتوح لكل الناس،
لا يملّ من العمل، ويكره أن ينام أيّ طلب في مكتبه.
في الساعة السادسة مساء يقوم بدراسة كل الطلبات المقدمة إلى الوزارة لتكون
جاهزة صباح اليوم التالي.
3
في البيت وبعد جلوسه على كرسي جده وارتخاء عضلاته
وشعوره بالراحة حدث زوجته بالأمر ضاحكاً وقال لها: لا أصدق ما يجري... هذا
الكرسي مسحور.
زوجته التي تملكها الخوف من هذه الحالة الطارئة التي
تهاجم زوجها في وقت غير مناسب، فكرت كيف يمكن أن تعيده إلى توازنه... فكرسي
الوزارة بحاجة إلى رجل لا يأبه بمثل هذه الحالة، لذلك عندما انتهى زوجها من
فنجان قهوته لفت الفنجان بقطعة قماش وانتظرت حتى خرج، وأسرعت إلى حي الغجر
في ضاحية المدينة، عسى "أم بقوة" الشهيرة بقراءة الفناجين، تطلعها على سر
زوجها في عشقه الكرسي القديم، وانزعاجه من كرسي الوزارة.
سألتها "أم بقوة": ألم تحبلي بعد؟
ــ يلعن الحبل ويلعن ساعته. بدنا الكرسي...
ــ أي كرسي؟
ــ لا شيء. أريد أن أعرف مستقبل زوجي.
انتبهت "البصّارة" والتقطت الشعور المخيف الذي يفور
من أعماق نفس الزوجة.
استغلت ذلك واشترطت عليها: يمكنني أن أكشف لك كل
الطرق، لكني أريد مساعدتك، لتوظيف ابني الرابع. جلوسه الدائم في البيت مزعج
ومثير للقلق، ثم تابعت ضاحكة: ملعون كل من لا يساعد الفقراء.
وبعد أن وعدتها بالمساعدة، حدّثتها عن الطرق العديدة
المتشعبة، المظلمة، والمفرحة... أيام عظيمة قادمة، وأيام تحمل بعض
العثرات.
وعندما سألتها عن انزعاج زوجها من كرسي الوزارة
وعشقه لكرسي عتيق، أجابت مغمغمة: إنها العادة. ليكن بالك طويلاً.
كلمات العرّافة أوقعتها في مشكلة كبيرة. الأمور ليست
جيدة على ما يبدو.
لكن ما حدث لاحقاً أجج في قلبها ناراً كاوية...
فالسيد الوزير يصطحب معه ثلاثة من أمهر النجارين في البلد؛ ويطلب منهم صنع
كرسي يشابه كرسي جده تماماً ليجعله وراء مكتبه.
4
عملية صنع الكرسي كانت سريعة بناء على إلحاح السيد
الوزير، وخلال هذه العملية عاش الوزير في أحلام وردية... قريباً سينتهي هذا
الألم والقلق والتوتر، وهذا ما أسرّه لزوجته. أما الزوجة فقد كانت قلقة من
حديث العرافة، لكنها كانت تأمل أن يستعيد زوجها مزاجه بعد الكرسي الجديد.
الكرسي لا يهم بل تهم الوزارة ولو جلس على صندوق ماسح أحذية... كانت طيلة
الوقت تنظر إلى هذا الكرسي العتيق، ازدرته أولاً ثم صارت تحقد عليه يوماً
بعد آخر، لكنها الآن راحت تمني النفس عسى أن يحل الكرسي الجديد المشكلة.
عملية نقل الكرسي الجديد إلى الوزارة كانت سرية
للغاية، فقد حملوه بناقلة مغلقة، وبعد أن عم الظلام وشمل كل أطراف المدينة،
ومع ذلك ظلوا يراقبون الشارع حتى خلا من عابري السبيل، فلم يعد يسمع إلا
أصوات السيارات، وقد استغرق هذا وقتاً طويلاً قضاه الوزير بالأمل وقضته
زوجته بالخوف والقلق. ظلت مستيقظة حتى قدم زوجها، الذي وصل إلى المنزل مع
صياح ديك الجيران المسجون على السطح، وعندها فقط أقنعت نفسها بأن الأمور
استقامت، فغطت في نوم عميق.
في الصباح، وبعد شرب القهوة سألت إن كان زوجها
مرتاحاً في الجلوس على الكرسي الجديد، فكان جوابه مبهماً. قال لها "الأرجح"
ولم يزد، مما أعاد إليها بعض وساوسها التي كانت تظن أنها ولّت.
وظنت أن هذا حصل بفضل "أم بقوة" فتذكرت وعدها ونقلت
إلى زوجها ما طلبته منها البصّارة.
ضحك زوجها، صاحب الابتسامة المختصرة وقال لها: ألا
تعرفين زوجك حتى الآن؟
5
أيام قليلة فقط ستمضي بهدوء،وسيحاول خلالها صاحب
الابتسامة والوحمة الصغيرة على خدّه الأيسر، أن يغير من عاداته قليلاً...
حاول أن يبتعد عن الكرسي العتيق والشرفة الشمالية وفنجان القهوة، وصار يقضي
الوقت المخصص لذلك في النوم، حيث يستيقظ بعدها متوجهاً إلى كرسي الوزارة
الجديد.
ومع مرور الوقت شعر أنه لم يستفد من كرسيه الجديد.
ما زال التوتر والصداع والقلق مسيطراً على كيانه. نقل الكرسي إلى وسط
مكتبه، حدق به طويلاً، قام بقياسات مختلفة وسجلها في ورقة. قال: لعلّ خطأ
ما وقع في القياسات.
في البيت عندما رأته زوجته يقوم بالقياسات نفسها على
كرسي جده ويقارن بما سجله على ورقته، شعرت بالإحباط وقالت: لا بد أن الحالة
العصبية قد رجعت له. إنها لعنة "أم بقوة".
اقتربت منه، كان قد جلس على الكرسي وراح يحدق إلى
الأفق البعيد الذي تسمح به فرجة من منزل الجيران. سألته: ما بك؟
ــ لا شيء... حضري لي فنجان القهوة.
شعرت برعدة سرت في كل جسدها، وتمتمت "عاد كما كان.
إنها لعنة أم بقوة".
جاءت بفنجان القهوة وسألته إن كانت الأمور جيدة.
ــ في حقيقة الأمر، لم يرحني الكرسي الجديد... بل
يزداد الأمر سوءاً.
تبالغ في وصف مشاعرك... لا أحد يصدق أن الجلوس على
ذلك الكرسي الفخم يمكن أن يجلب غير الراحة والسعادة.
ــ وهذا هو الأمر الذي يؤرقني.
6
أمضت وقتاً طويلاً بحثاً عن سبب مقنع للحالة التي
وصل إليها زوجها، غير خطيئة "أم بقوة" فلم تجد. إن بقاءه على هذه الحالة
معناه أن يخسر ذلك الكرسي الفخم. قالت في نفسها: لن يحصل ذلك أبداً، سأبذل
كل شيء عسى ولعل...
كانت زيارتها له في مكتبه مفاجئة له، فلم يسبق لها
أن زارته من قبل...
ــ أردت أن أراك في هذا المكان الرائع يا زوجي
العزيز، وأحتسي فنجاناً من القهوة معك.
ــ تفعلين حسناً لو عدت إلى البيت. ليس لديّ وقت
أضيعه، هموم الناس لا تنتظر التأجيل.
ــ ما دمت جئت فلنشرب القهوة معاً.
وتماماً كما رسمت، شربت القهوة مع السيد الوزير الذي
أرغمته أن يجلس على الكرسي الفخم وهو يشرب فنجانه، ثم أخذت الفنجان من غير
أن يراها وودعته وذهبت مباشرة إلى العرافة المشهورة بحل الألغاز، لكن
جارتها رفضت قراءة فنجان من لم يمدّ لها يد العون عندما قصدته، الأمر الذي
أوقع الزوجة في حزن شديد جعلها تشعر أن الشؤم قد حلّ وأن الوزارة سوف تطير
من زوجها... لذلك كان الحل الآخر اللجوء إلى الصديق القديم لزوجها
والاختصاصي بالأمراض النفسية، وقبل أن تدعوه كان عليها أن تدرس الأمر بشكل
جيد وفق النقاط التالية:
* يجب أن يحضر الطبيب بشكل مفاجئ لا يعرف به زوجها؛
لأنه سيرفض هذه الفكرة نهائياً.
* وقت حضور الطبيب يجب أن يكون في الخمسين دقيقة
التي يكون زوجها فيها جالساً على كرسي جده، هذا الكرسي التي تعدّه حالياً
موضوع الأزمة. وهذا بحدّ ذاته أمر خطير لا تعرف ردّ فعل زوجها الذي يرفض
مقابلة أيّ كان في هذه اللحظات...
* يجب أن يثار الموضوع بشكل عفوي أمام الطبيب.
كانت قد درست الأمر جيداً بالتعاون مع الطبيب الصديق
الذي أصابته الدهشة عندما سمع بالحالة السيئة التي وصل إليها صديق صباه
الرزين، والذي لم يعرف عنه أحد إلاّ جدّه واجتهاده، الآن يسمع من زوجته أن
هذا الصديق قد صار شخصين أحدهما يجلس على كرسي الوزارة حزيناً والآخر يجلس
على ذلك الكرسي العتيق فرحاً، ضحك الطبيب وقال لها: إنّ من يعرفه يتوقع أن
يحدث له ذلك، لكن سوف أساعده، لا تقلقي، زوجك رجل نبيل،ومن المتوقع أن يحدث
له ذلك.
8
مجيء الطبيب كان في وقت غير مناسب. لقد قرع الجرس في
الخمسين دقيقة المحرمة، ولقد أخطأت الزوجة في عملية التوقيت بالرغم من
اعتمادها على حبّ السيد الوزير لصديقه، لكنه رفض تماماً حتى سماع صوته...
هذه اللحظات مقدسة.
عاد الطبيب من حيث أتى، أما السيد الذي صار فريسة
أوهامه فما زال مسترسلاً في تأملاته عبر هذه الأرض الخضراء، وعلى تلك
الموسيقا التي يعزفها الكرسي بين الحين والآخر حسب حركات السيد الوزير.
شعرت الزوجة بالإحباط الشديد، وفكرت، ومن خلال
دموعها: أتى الحل المناسب، حدثت نفسها: لا بدّ من تحطيم هذا الكرسي، كي
يستمر في الوزارة.
9
عندما عاد السيد الوزير إلى البيت بعد يوم مضنٍ من
العمل المتواصل، وبعد وجبة الغداء بثلاث ساعات، طلب من زوجته فنجان القهوة،
وقبل أن يمضي إلى الشرفة الشمالية قال لها بحزن: على الرغم من حبي للعمل
ورغبتي في تقديم شيء مفيد للناس، صرت أكره الذهاب إلى هناك، أشعر أن ذلك
الكرسي عندما أجلس عليه سيدور بي حتى يصيبني الدوار والغثيان، ثم تركها
ومضى إلى الشرفة الشمالية، لكنه فوجئ بالباب مقفلاً، نظر من الزجاج... ما
هذا؟ سأل نفسه بغضب. لقد تحولت الشرفة الشمالية إلى ما يشبه السقيفة التي
كانت في بيت جده؛ رمت فيها الزوجة أغراض البيت البالية كلها، وهناك في تلك
الزاوية وجد كرسي جده وقد تحول إلى حطام.
صاح بأعلى صوته المجروح: تعالي... ماذا حدث هنا؟
ركضت الزوجة: وجدت السيد الوزير يستند إلى الباب
المغلق، وقد احمرت عيناه.
قالت له بارتباك: سوف لن تصدق ما حدث: لقد انهار
فجأة. رأيته يتفتت بعينيّ.. يتلاشى.
كانت تتحدث، كمن يقص حكاية لابنه الصغير قبل أن
ينام. أما السيد الوزير فقد كان يبحث بين تلك الأشياء، عن كرسيه المحطم وفي
نيّته أن يعيده كما كان.
أسرعت الزوجة في العودة إلى المطبخ وهي تتمتم "إنها
لعنة أم بقوة".
الروح ـــ د. جرجس حوراني
مساء وجدَتْ زوجتي الحلّ...
كانت قد عانَت الكثير معي قبل أن تعلنَ لي أنّ حلّ
مشكلتي التي بدّلتْ حياتي وحياتها، يختبئُ خلف ذلك الجبل، هناك في ضيعتها.
وراحتْ تحكي لي عن ذلك الرجل الذي لم تفارقه الابتسامة يوماً ما، حتى أنَّ
الجميع يقولون: إنه أسعدُ رجلٍ في هذا العالم. والبعضُ يبالغ في وصفه
فيسميه: أبو فرح. متناسين أسماء أولاده الأربعة.
لم أنم تلك الليلة، فبعد أن عشتُ ليلة حبّ جميلة مع
زوجتي التي قالت لي: كدتُ أنسى... الحمد لله أنكَ ذكرتني أنّ هناك قبلاً
وتنهداتٍ بين الزوجين. ونامتْ تاركةً لي السهر.
كنتُ أرسم صورةَ هذا الرجل الذي تجاوز السبعين من
عمره ولم يفارقه الفرح، وكما قالت زوجتي: الكلُّ يعرفه من ابتسامته التي
تسبقه. أسأل نفسي: كيف استطاع أن يوطدَ صحبته بتلك الابتسامة طوال تلك
السنين؟ إذن خروفي الضال يرعى في حدائقه.
كنت قد جربتُ كل الوسائل الممكنة التي من شأنها أن
تعيدَ إليَّ الفرح وتزيلَ هذه الغيوم الملبدة في قلبي. لقد وقعتُ فريسة
الحزن والكآبة ودخلتْ الروح في غبشٍ ممتدٍ بلا نهاية دون سبب واضح منذ
ثلاثة أشهر.
قلت لزوجتي وقتها: فقدتُ القدرة على الضحك يا امرأة.
ابتسمتْ ولم تبالِ. لذلك فتشت بين الأصدقاء عن حلّ. البعض نصحني بشرب نوع
من الأعشاب. فعلتُ ذلك وكاد الشراب الذي كرهتْ زوجتي رائحته، يفتك
بالكليتين دون أن يعيد لي ولو بارقة من فرح.
جربتُ الرياضة طويلاً لكنها أعادت لعضلاتي قوتها دون
أن تعيد لقلبي فرحه. ذهبت كثيراً إلى ذلك المقهى الذي يزدحم عنده الناس مثل
مباراة كرة قدم يستمعون إلى رجل يسمّونه أبو الليل يحكي لهم المضحك في
حياته وحياة من يعرف إضافة إلى الكثير من النكات. كان المقهى يتحول بعد أقل
من عشر دقائق إلى بركان من الضحك، لكن هذا البركان لم يجرفني بسيله. النادل
القصير ذو الشامة المميزة على خذه الأيسر، قال لي: إذا لم تضحك هنا، لن
تضحك أبداً. وتركني وهو يكاد يغمى عليه من شدة الضحك.
قبل أن تشرق الشمس بقليل كنت قد سألت نفسي لماذا هرب
مني الفرح؟ ورحتُ أبحث عن أي سبب يمكن أن أتهمه:
1 ــ زوجتي هذه النائمة قربي تشبه ياسمين الشام.
2 ــ ابني الكبير أنهى دراسته الجامعية، وهو الآن
يكمل مشواره في بريطانيا بنجاح.
3 ــ ابنتي تعيش مع زوجها حياة هانئة.
4 ــ ابني الصغير نجم في ملاعب كرة القدم.
5 ــ أملك من المال ما يمكنّني من شراء مدينة
بأكملها. ما الأمر إذن؟. ليس هناك أية ثغرة مادية أو عاطفية أو اجتماعية.
هل هي عين قد أصابتني.
صباحاً أيقظتني زوجتي. كان النعاس قد هجم عليّ في
ساعات الصباح الباكر وغلبني.
قالتْ لي: هيا أيها الكسول. لتناول طعام الإفطار
وننطلق في رحلة نحو البهجة الحقيقة.
نظرتُ إليها، كانت شهية كعادتها. قلتُ لها: لننطلق
فوراً.
عندما ابتلعتنا السيارة شعرتُ أنني ذاهب إلى أجمل
الأمكنة، ورسمت خلال ثوان صورةً لأبي فرح. قلتُ لها: ماذا سنأخذ له.
ضحكتْ: ألا يكفي أنك ذاهب إليه، سوف يعتبرُ ذلك أجمل
أيام حياته. المستشارُ قادمٌ إليه، ذلك بمثابة حلم عنده.
قلتُ لها: رجل مثله لا أعتقد أنه يدخن، لذلك لا ينفع
أن نقدم له نرجيلة.
وقفتُ بالقرب من إحدى البقاليات، واشتريت كمية كبيرة
من العسل، والمربيات.
قالت: إنه من أشهر النحّالين في المنطقة، يقولون:
إنه صديق النحل، لا يلبس أي شيء عندما يتجول بينهم، يحومون حوله مثل
العاشقين.
ــ لماذا لم تقولي لي ذلك قبل أن نشتري العسل.
ــ وهل سألتني.
وقفتُ بالقرب من بقالية أخرى، وهممتُ أن أشتري
صناديق من الفواكه والخضار المنوعة. عندما أتاني صوتها ضاحكاً: يبدو أننا
لن نصل قبل مغيب الشمس.
ــ ليس لائقاً أن ندخل ويدنا فارغة.
ــ لكنه يتميز بأنه أفضل الفلاحين. كل أشجار الفواكه
مزروعة في أرضه، وكذلك الخضار.
ضحكتْ: إنه يربي دجاجاً ليأكل لحمه وبيضه، ويربي
أغناماً من أجل الحليب ومشتقاته. ماذا تريد بعد؟.
ــ لقد حيرتني. ماذا أقدم له إذن؟
ــ قف هنا. نزلتْ هي، واشترتْ له قماشاً وألبسة
داخلية، وزجاجاتِ عطر، وأدوات حلاقة. قالت لي: هذه أشياء كثيرة
الاستهلاك...
قلتُ لها: هذا لا يكفي ما رأيكِ بجهازِ للرياضة؟.
ضحكت: إنه يعيش الرياضة في أرضه وبين طيوره وأشجاره
كل يوم.
*********
لاحَظَتْ أنَّهُ مهموم. سألتهُ: ما بك؟
قالَ لها: يجب أن أقدم له هدية. لا يمكنني أن أقابل
رجلاً سيملأ قلبي بالفرح بيدين فارغتين. أنتِ لا تعرفين قيمة ما سيقدمه هذا
الرجل.
ضحكتْ: كيف لا أعرف. لقد أصابني حزنك وكاد أن يحطم
حياتي. أنا من سيقدّم له الهدية.
سألها: ما رأيك بلوحات فنية؟ أودّ أن أشتري له السوق
بأكمله.
ــ لعلك تمزح، إنه يعتبر أرضه وتلك الجبال التي تحيط
به أعظم لوحة فنية. هيا لننطلق لقد اشتقت لرؤية الابتسامة على فمك العذب.
نظر إليها، تمنى أن يرد على كلامها الجميل بابتسامة
لكنه عجز.
أعطى لمحرك السيارة المزيد من البنزين، وقال لها:
لقد كنت معي أجمل رفيقة. دائماً كنتُ أسأل نفسي ما هو الحب؟ الآن أستطيع أن
أعرفه لك بدقة. الحبُ هو أنتِ.
كانت السيارة تمضي مسرعة وكان صوت فيروز يمزق صمت
المكان الكئيب.
قالتْ: ها قد وصلنا.
قالَ لها: عرفت، أعلمني قلبي بتسرعه المفاجئ. سوفَ
أتقيّد بكل الخطوات التي سيرسمها لي كي أصل شاطئ الفرح.
راحت السيارة تتباطأ، مدَّ رأسه وسألَ أحد المارة:
بيت أبو فرح، من فضلك؟.
هزَّ الرجل رأسه بأسى وقال: لقد انتحر المسكين.
جاء الخبر مثل الصاعقة.
رددا: انتحر.
نعم، قال الرجل: لقد نهره ابنه، على ثرثرته، فكبر
عليه ذلك، فقتل نفسه في يوم ماطر، اعتقاداً منه بأن المطر يغفر الخطايا.
لم يصدقا. تابعا المشوار. وقفا قرب رجل آخر.
ــ إذا سمحت. بين أبو فرح.
ــ المسكين. صار بيته فوق. في السماء. لقد انتحر.
ــ انتحر.
ــ استيقظ ذات يوم، وجد أشجار حقل الزيتون مقطوعة
كلها. لم يحتمل. فقرب شجرة الرمان الصغيرة طمر نفسه في الثلج، لاعتقاده أن
الثلج يغسل الخطايا.
نظر إلى زوجته التي بدأت دموعها تعلن الهزيمة،
سألها: ما رأيك؟. حاولت أن تبتسم وقالت له: لا أصدق دعنا نسأل أيضاً.
توقف بالقرب من مختار القرية: كيف نصل إلى أبي فرح؟
هزّ الرجل رأسه: الأفضل ألا تصلا إليه. فالجحيم منزل
المنتحرين. قال لنا إنه سينتحر غداً فما صدقنا، ولكنه فعلها مخالفاً تعاليم
الرب، وقطع شريان يده اليسرى وراح يتفرج على دمه النافر على شجرة رمّان
صغيرة، راسماً عليها خرائط بخطوط حمراء. دفنوه بلا جنّاز، والخوري اليوم
عند المطران يسأله إن كانت الصلاة تشفع للمنتحرين... لا أظن... لكن ألستِ
مدام مادلين...
لم ترد؛ لأن السيارة كانت قد أقلعت بسرعة، ومع ذلك
سمعا صوته: لم يحضر أولاده حتى الآن، ولكن تفضلا. التعزية في منزولي، منزول
المخترة.
غيّر اتجاه السيارة.
ــ ما بك؟
ــ ألم تسمعي. لقد انتحر أبو فرح. هيا لنعد. هل يكون
سعيداً من ينتحر؟
عادا إلى البيت. كان الحزن يفتك بهما. قالت له:
سأفتش عن جديد، لابد من وجود حل.
نظر إليها، شعرَ أنها تعامله مثلما كانت تتصرف مع
ابنها الصغير. قال لها: لا مكان للفرح على ما يبدو.
في الطريق رأتْ أخته الكبيرة، كانت تجلس على الشرفة
تحدق بعيداً تبحث عن شيء ما. قالت له: مازالت على حالتها. ليتها تزوجت.
نظر إليها بأسى، وتذكر أنه منعها من الزواج بمن تحب
منذ أن كانت في العشرين من عمرها، ثم حال دون خطوبتها ثلاث مرات حرصاً على
الثروة. وفجأة شعر أن كآبته تنبع من هنا.
قال لزوجته: ليتها تزوجت.
ــ لا تندم.
ــ وماذا يفيد الندم الآن بعد نصف قرن؟
صمت قليلاً ثم طلب من زوجته أن تجهّز له النارجيلة
العثمانية النفيسة مع علب التنباك الفاخر.
ابتسمت زوجته ونظرت إليه فانفرجت شفتاه عن ابتسامة
حزينة فأعلمها بأنه سينضم غداً إلى أخته في الشرفة. دهشت الزوجة، فقال لها:
غداً أشاركها.
ــ تشاركها ماذا؟
ــ أشاركها التأمل في الغبش.
ــ التأمل!
ــ حتى لا أغتال صمتها ولا أبعثر رماد قلبها.
ــ لا تيأس. سوف تعثر على خروفك الضال.
ــ كبّري عقلك. إنه يرعى في عالم آخر.
جاء الربيع أخيراً، وصار للكتابة طعم مختلف.
لماذا نحبّ الربيع ونشتاق إليه، يا أستاذي؟
ربما لأنه يجلب لنا الحب..
وربما لأنه يحمل في جعبته تلك الطيور الساحرة..
وربما لأنه يذكرنا بأشخاص مثلك..
اغتيال
فتح والدي باب الغرفة.. وخرج الرجل الغريب.. وأمي لم
تعد بعد..!!
ضاعت الدار...
-شرّفت
-أشكرك.. إذا خلال هذا الشهر كما اتفقنا..
-بالتأكيد..
عندما كانت الغرفة تبتلعهما، كنت أبكي وأتمنى أن
تعود أمي مسرعة.. يجب أن يغير رأيه.. لماذا يبيع الدار؟!
سمعته يقول لأمي: نبيعها ونشتري بدلاً عنها داراً
صغيرة، ونستفيد من الباقي بمشروع ما كانت أسرتنا كبيرة.. أما الآن فهذا
البيت لا يضم إلا نحن الثلاثة.. أنا الحزين..
وأمي التي لا أعرف مكانها الآن.. ووالدي الذي يفاوض
على السعر المناسب الذي يحقق حلمه.. لعلها هربت من المواجهة. لم تكن ترغب
في بيع الدار.. أعرفها.. أمي تحب هذه الجدران، وتلك الياسمينة.
عندما دخل الرجل بجسده العريض شعرت بموجة بكاء
تجتاحني بغضب.. وشعرت بغصة.. الدار تنهار أمام عينيَّ، وقلبي يلفظ كلماته
الأخيرة..
لن أغادر هذه الدار.. عودي يا أمي.. أرجوك..
كيف سأرى عينيها الجميلتين إذا رحلنا من هنا.. أبداً
لن تغفر لي ذلك.. ستقول إني هربت.. وأنا الذي وعدتها بطوق ياسمين عند كل
صباح.
قالت لي: أتحبني جداً.. وضحكت..
قلت لها: لا أدري حدود محبتي.
وصرت أنتظرها كل صباح.. كانت تمر قرب دارنا فأشعر أن
العالم يسير على هذه الطريق الترابية، وأن كل ذرة تراب تهتز طرباً..
أقدامها تشعل النشوة في هذا التراب فيتيه بغير حدود.. كنت أقدم لها طوق
الياسمين وأرسل لها من قلبي مئة ألف أغنية.. آهٍ كم هو رائع أن أقضي الليل
وأنا أصنع طوق الياسمين.. ما كنت أشعر بالنعاس.. دائماً كنت أحلم أن هذا
الطوق يضمنا معاً ونرحل فوق هذا الزمن الذي كنت أخشاه أن يعرف والدي بما
يجري.. كان سيقطع شجرة الياسمين..
أرجوك، عودي يا أمي.. هل يمكن أن نبيع الدار. وهذه
الشجرة.. تصبح لغيرنا..
ويأتي شاب ويضع ياسمين.. ويقدمه لعينيها.. ستكرهني..
وتحبه..
حبيبتي تعشق الياسمين..
دائماً كانت تقول لي: ما أجمل هذا العطر عند
الصباح!!
كنت أجيبها: ليتك تعرفين سرَّ هذا الجمال.. لقد حفرت
اسمك على شجرة الياسمين فسرقت منه عطرك وصارت تنشر هذا النقاء.
أرجوك يا أمي. لا أحتمل حتى التفكير بقادم جديد..
يرى اسمها هنا.. ويقرأه بشفتيه.. لا أحتمل..
والدي يا قاسي القلب ماذا تفعل بالداخل.. تراهن على
قلبي!! ألهذه الدرجة أهون عليك.. هل نسيت أنك قلت لي: تحبني جداً.. لماذا
إذا ضحكت مني يوم قلت لك أن أغادر هذه الدار. كيف نترك شجرة الياسمين، ضحكت
وقلت لي: اقطعها وخذها معك ستموت يا والدي. ولن أقدم لها طوق الياسمين عند
الصباح.. مزاحك ثقيل جداً يا أبي آهٍ كم أتمنى ألا يدفع السعر المناسب..
لكن أعتقد أن والدي سيرضى مهما كان السعر ما دام قد وضع في ذهنه فكرة
البيع..
نظرات هذا الرجل عندما دخل الدار كانت قذرة.. كأنه
اغتصبها.. يا ويلي إذا لمح اسمها على شجرة الياسمين.. هل عرف أنها تعشق
الياسمين.. وتحب هذه الشجرة دون غيرها من أشجار العالم..
أمي لماذا تأخرت؟!.. ألا تعرفين أن والدي بالداخل
يراهن على قلبي.. وحبي.. وحياتي.. وذكرياتي!! أيحق له ذلك؟! حتى لو كان
والدي.. أيحق له ذلك.. يجب أن يغير رأيه.. لا أحتمل حتى التفكير.. أيمكن
ألا أرى عينيها ذات صباح.. لا.. لا أحتمل حتى التفكير.
هذه الدار رأتني وأنا أكبر قليلاً قليلاً.. بكت
معي.. فرحت معي.. وعند كل حجر فيها زرعت ذكرى.. كيف يفعل ذلك إذاً؟!.. ماذا
جرى.. عودي يا أمي..
وتلك النافذة شهدت على دقات قلبي يوم التقى بها لأول
مرة.. وراح يصرخ بداخلي شيء غريب..
هذه النافذة رأت على شفتيها ابتسامة أنقى من
الياسمين، وسمعت بقلبي فرح أطفال العالم كلهم.. لكن ألا يحبني والدي هو
الآخر؟!.. إذاً لماذا يحزنني وهو يعرف أنني أحب البقاء في هذه الدار..
لماذا يريد أن يحملني إلى مكان بعيد عن آلامي وأفراحي وأحلامي.. وشجرة
الياسمين.. وابتسامتها الهادرة بالحياة.. لماذا الرحيل يا والدي.. هو ليس
رحيلاً.. إنه قتل!
أشعر أن شوكة قذرة تقف في حلقي.. لقد بدأ دمي يتسرب
من قلبي عبر أقدامي.. إني أموت ببطء..
أسمع قهقهات الرجل من داخل الغرفة.. أسمع صوت
والدي.. أسمع ضحكته.. إني أكرهه لا أود أن أراه.. بإمكاني أن أقتله الآن-
لن أحزن عليه.. لماذا يدمرني بهذه الطريقة!! لعله عرف أني أحبها وأراد أن
يبعدني عنها.. لكنه لن يبعدني عنها فقط.. إنه يحصدني منذ الولادة.. لن تقدر
على ذلك يا والدي..
عندما كانت الأيدي تتعانق على باب الدار.. كان قلبي
يبكي آخر قطرة من دمه.. راقبت والدي وهو يعود إلى الغرفة، تمنيت أن أرميه
بحجر فيكسر رأسه العفن.. التقت عيناي بعينيه. أحسست أن ليلاً شتائياً يقف
بيننا..
-غداً سوف تفرح في الدار الجديدة. ستكون لك غرفة
خاصة.. وسأشتري لك دراجة قال ذلك.. ودخل الغرفة.
من قال لك أن هذه هي أحلامي..
فتحت باب الدار ورحت أركض. أشعر أن الأرض تدور مسرعة
وأني أدور معها..
أيمكن أن يكون هذا حقيقة.. لا أصدق.. هل يحق له أن
يراهن على قلبي.. وإذا كان والدي!! لا يحق له.. أبداً لا يحق له..
قلبي وذكرياتي وشجرة الياسمين وابتسامتها وآلامي شيء
بعيد عن قراره..
يجب أن أمضي إليها.. يجب أن أراها.. سأقول لها أني
أحبها ولن أتركها.. سأبقى معها.. وسأقدم لها كل صباح طوق ياسمين.. لن أدع
أحداً يرى اسمها على شجرتي الحبيبة.. سأطير معها إن شاءت.. سنحلق بعيداً..
بعيداً.. لكن دائماً فوق هذه الدار.. وفوق تلك الشجرة..
حبنا شيء آخر..
عندما كانت تمر صباحاً، كنت أشعر أنها لي وحدي دون
كل العالم.. كنت أشعر بفرح طفولي عجيب يعرش على قلبي.. هي لي.. لن يبعدني
عنها أحد.. وهذه الدار أحبها لن أتركها.. والدي كيف تفعل ذلك.. كيف تراهن
على كل ذلك..
خطوات وأصل إليها.
سأقابل عينيها الآن.. سأرى ابتسامتها.. ستمسح دموعي
ودمي.. ونطير.. ذاك هو باب دارها.
لماذا ينتفض قلبي على هذا النحو.. والدي راهن على
هذه النبضات الحية..
أنتِ ترقِّصين نبضي..
تجرين في دمي..
تورقين على شجرة الياسمين..
تشرقين مع الشمس لكنك لا تغيبين.. أنت لي.. ولن
يبعدني عنها والدي..
وقفت.. تأملته جيداً.. إنه باب دارها.. لا.. ليس
هو.. بل هو.. كنت دائماً أوصلها إلى هنا.. وهذه هي نافذتها.. وذاك هو أصيص
الورد.. وهذا هو طوق الياسمين الذي قدمته لها هذا الصباح..
لكن.. أيمكن أن يكون قد عرف بالأمر.. لعلَّ والدها
عرف هو الآخر..
وهناك على الرصيف جلست.. وضعت يدي على قلبي. سأحتفظ
بقطرة دم أخيرة.. سأحتاجها قريباً.. بينما رحت أقرأ بألم..
"هذه الدار للبيع"
البطل
كان يحلم دائماً أن يرفع علم بلاده في إحدى الدورات
العالمية.. يغمض عينيه، ويراقب علم الوطن وهو يحلق عالياً، ويصغي بهدوء
شديد للنشيد الوطني ينساب مثل ماء النهر العذب، وتحديداً نهر ضيعته الذي
يعتبره أجمل أنهار الدنيا بالرغم من صغره لأنه شهد قصة حبه.. هناك بالقرب
منه وتماماً على ضفته الشرقية أمسك بيدها دون أن تنتبه.. استدارت نحوه،
ودون أن يعطيها أية فرصة للكلام أو الدهشة أو حتّى التعبير عن المفاجأة
التي حدثت.. قال لها: أحبك.. جاءت الكلمة أبسط مما توقع وأحلى مما رسمه
خلال الأشهر الثلاثة الماضية التي كان فيها يخطط لكيفية مصارحتها بما يجول
في دمه من مشاعر تكاد تحرقه، لكنه قالها بكل بساطة، ومشى مبتعداً عنها..
وبعد ثلاث خطوات متعثرة له جاء صوتها عذباً كماء النهر الذي يحبه: وأنا
أيضاً أحبك.. وقف في مكانه جامداً لم يصدق الكلمات التي هربت وراءه لتعانق
قلبه وتجعله يهدر مثل حصان أصيل يجري في سباق العمر، ركض إليها وأخذها بين
ذراعيه في ضمة طويلة تساوي العمر كلّه، ودون كلام تشابكت اليدين وسارا على
ضفاف النهر الذي راح يسمع تفاصيل ولهه بها منذ سنوات طويلة.. دائماً يتمنى
أن يسمع النشيد الوطني في مناسبة عالمية يكون فيها البطل الذي يرفع علم
بلاده عالياً.. أعلى ما يمكن يريده أن يقهر كل الأعلام.. ويرفرف مثل حمامات
سلام. أليس وطنه منبع السلام.. يبتسم، يشعر بفرح غريب يدغدغ قلبه.. منذ
سنوات، وبعد أن نال بطولة الجمهورية بالمصارعة، صار الأمل بتحقيق حلمه
قريباً جداً، وتلك الفترة عاش أياماً هي الأجمل في حياته، كان يقضي معظم
أوقاته في التدريب، وكانت دائماً بالقرب منه، تصفق له، وتعيش معه الحلم
الرائع، وعندما كانا يلتقيان قرب النهر، كان يهمس في أذنها: سأرفعه بيدي
عالياً، وأركض.. سوف لن تسعني الدنيا يا حبيبي، أركض... وأركض.. وأنت ماذا
ستفعلين؟ يسألها، ويشد على يدها.. كانت تضحك مثل سنبلة قمح تتمايل مع
الهواء العليل وتقول له: سأكون متسمرة أمام التلفاز أراقبك وأنت تركض
رافعاً إيّاه مثل منارة، وأبكي.. كم كان سعيداً وهو يسمعه ويرى عينيها
الدامعتين، لكن وبعد مرور أيام سبعة سقط الحلم مثل جبل من الثلج، ولم يشارك
في البطولة المقررة في أخر شهر أيلول.. كانت عودته إلى البيت صعبة، ما إن
انفتح الباب وأطل وجهه حتّى سقط قلب أمه ركض إليها وارتمى على صدرها وراح
يبكي.. عندما دخل والده، رأى كتلتين من الحزن.. ما بك؟ سأله وقد شعر بغصة
مؤلمة، فمنذ زمن تعاهد مع نفسه ووعدها أن يقاتل ليمنع البكاء من الوصول إلى
قلب ابنه الوحيد، هذا القرار جاء عندما وصل إلى نتيجة أكيدة بعدم القدرة
على إنجاب ولد آخر، لذلك قال لزوجته وقتها: دعيه يفعل ما يشاء.. يريد
الرياضة، ليكن.. وقتها بكت مثلما تبكي الآن وقالت له: إنه لا يعرف ماذا
يعمل سيدمر مستقبله... وهاهو الآن يرى الأم وابنها تحرقهما الدموع.. لذلك
يصر ثانية على السؤال.. لقد منعوني من المشاركة في البطولة الخارجية..
وماذا يعني ذلك؟ هل انتهت البطولات.. هل انتهت الحياة؟.. لا يا والذي لم
تنته، لكنني أتمنى أن أرفع علم بلادي عالياً، أسمع النشيد الوطني.. استدار
والده ومضى لقد هرب منه لأنه لا يستطيع أن يريه دموعه، لكنه ولأول مرة يشعر
بالفخر بابنه ويقرر أن يدعمه بكل قوته لتحقيق هذا الحلم.. لقد تغير موقفه
الآن، فيما مضى وعندما صارحه بأنه لن يتابع مشواره الدراسي في الجامعة،
صعقه الخبر، وتحيّر ماذا سيفعل معه، للحظات راوده تفكير سريع بضربه حتّى
الموت وقرر أن يفعل لولا أن واجهته عينا زوجته الحزينتين، وقتها تركه
ومضى.. لكنه قال لزوجته مساء: ليس أمامك الكثير من الوقت لإقناعه، لأنك إن
فشلت سأقتله.. ضحكت وقتها، وضحكتها تفعل به الكثير، هو قال لها ذلك منذ
سنوات بعيدة: لك ضحكة يا امرأة تعادل آلاف الأقراص المهدئة.. لكن ضحكتها
الآن فشلت بتخفيف غضبه على ابنه الوحيد.. لقد بكى أمامها وارتمى على صدرها
عندما قالت له بعد سبعة أيام: فشلت في إقناعه، يراوده حلم واحد يجلس كجبل
على صدره ومن المستحيل أن يزيحه.. وقتها لم يسألها عن هذا الحلم ولم يهمه
هذا الجبل الجالس على صدر ابنه.. كان يهمه فقط أن يكمل تحصيله العلمي، لقد
كان يعتبر حلمه أهم من حلم ابنه ولا يريد أن يتحطم ويتناثر أشلاء في مهب
الريح العاتية، لذلك بكى، لأنه عرف أنه انهزم أمام رغبات ابن المحبب ولا
يستطيع أن يغير رأيه.. ومضت أيام كثيرة بعيداً عنه.. لا يكلمه، لا يضحك
معه، لا يرد عليه تحية الصباح، حتّى هجم على غرفته ذات يوم وقال له: أمامك
دقيقة واحدة فقط لتختار بين معانقتي، أو أقتل نفسي.. عندها هجم عليه، وأخذه
إلى صدره وقال له: لقد كانت مهلتك طويلة جداً.. فمن جهتي لا أحتاج أكثر من
ثانية واحدة كي اختارك أنت بكل شقاوتك.. يتذكر الآن كل ذلك ويضحك، فلقد
استطاع هذا الولد أن يورطه بحلمه وهاهو الآن سيسعى بكل قوته كي يحقق هذا
الحلم.. يغمض عينيه، ويحلم مثل ابنه، علم الوطن يرفرف عالياً، والنشيد
الوطني يملأ السماء بآلاف الألوان المدهشة.. آه، يا له من حلم جميل..
وتحقيق هذا الحلم ليس مستحيلاً، فابنه هو بطل الجمهورية في المصارعة، وهذا
يؤهله لنيل أية بطولة.. الآن حان دورك أيها الصديق.. له صديق قديم من أيام
الجامعة، وقتها قدم له خدمات كثيرة وساعده في النجاح.. هو الآن فوق، يقول
ذلك متألماً. غدا ومنذ الصباح الباكر سأكون عنده.. مساء يحدث زوجته طويلاً
عن الحلم الجميل لابنه وكيف سيساعده في تحقيقه، تضحك، وتقول له: غريب أمرك
يا رجل.. منذ أيام كنت تهدد بقتله لأنه لم يدخل الجامعة.. وها أنت الآن
ستحارب من أجله.. يضمها.. يقبلها، منذ سنوات لم يفعل ذلك، يشعر برغبة شديدة
لممارسة الحب مع هذه المرأة التي دائماً تنشله من الغرق وتعيده إلى حقولها
الخضراء.. تضحك، وتغمر نفسها بذراعيه، وتستسلم ليديه الحنونتين، يفعلان بها
الكثير، ويدعوانها إلى الطيران عن ليالي الأسى والهم.. تهمس له: لقد غيرنا
هذا الولد، جعل حياتنا كلها مرهونة له.. ليكن، يقول وهو يغمض عينيه، ويطفئ
النور...
عندما استيقظت صباحاً لم تجده، عرفت وقتها أنه ذهب
إليه.. ركضت ونامت بالقرب منه.. ضمته إلى صدرها، قبلته، همست له:
ستذهب إلى اليونان، وسترفع العلم الغالي.. استدار
نحوها، لمح في عينيها شيئاً يشبه الحقيقة، قبلها كثيراً.. هل تقصدين ما
تقولين يا أمي؟.. هيا أيها الكسول.. عليك بالطعام الجيد، لتستطيع أن تغلب
الجميع، لقد حضرت لك فطوراً شهياً.. انتفض مثل الباشق، أخذها من يدها،
وانطلقا إلى طاولة الطعام.. تناول طعامه بشهية بعد خصامه الطويل لكافة
المأكولات التي قدمتها له أمه في الأيام الأخيرة، وبعد انتهائه من وجبة
الفطور المتنوعة، أصابته موجة من الكآبة المفاجئة.. راح يذرع البيت جيئة
وذهابا بعصبية، ولأول مرة تراه أمه يدخن.. كان جالسا قرب النافذة المطلة
على الشارع يراقب عودة والده.. أشعل سيجارة ثانية، وقال لأمه: لقد تأخر
كثيراً.. اقتربت منه، ضمته إلى صدرها، قبلته، لا تخف، ستذهب. والدك لا يخلف
بوعوده.. منذ التقيت به، علمني درساً واحداً مهما كما قال لي: الوعد، على
الإنسان أن يموت قبل أن يخلف بوعده.. قاطعها، ضحك، القضية ليست عنده، إنها
عندهم، وقد اعتادوا أن يخلفوا بوعودهم... أراد أن يتحدث لها طويلاً عنهم،
لكن دخول والده اعتقل لسانه... لحظات من الصمت المرير لفت البيت قبل أن
يقول لهم: مبروك... إلى اليونان في نهاية الشهر. وهنا تحول البيت إلى
عاصفة.. وزغاريد أمه وصلت إلى أخر شارع، أمّا هو فقد بقي جامداً للحظات، لا
يرى إلا علم الوطن وهو يحلق عالياً، ثمّ رحل..
(2)
كان كل يوم من الأيام السابقة للسفر يغص بالحزن،
والأمنيات.. لقد حضرت له أمه الحقائب وأفرغتها مئات المرات.. ولقد ضحكت
وبكت مئات المرات.. أمّا والده فكان يقضي أكثر وقته خارج المنزل.. ومن جهته
فقد واصل تمارينه العنيفة صباحاً، ومساء كان يلتقيها قرب النهر يحكي لها
قصصاً للحب ممتلئة بالبطولات ودائماً تنتهي بقبلة طويلة هامساً لها:
ستشعرين بالفرق عندما أعود، فقبلات البطل تختلف..
أمه قالت لوالده: أشعر أنني سأفقده، أتمنى ألا
يسافر
والده قال لأمه: سيعود بطلاً يا امرأة، سيرفع علم
الوطن، وسيرفع رؤوسنا.. افرحي له.
الأم تقول: لا أدري لماذا لا أمتلك القدرة على
الفرح..
الأب يقول: إياك أن تريه دموعك.. لا أريد أي شيءْ
يلهيه عن الحلم.
هناك في اليونان كان الوضع مفرحاً، فلقد حقق
الانتصارات المتتالية، ووصل إلى المباراة النهائية، وبات الأمل معقوداً
عليه، وصار الحلم أقرب إلى قلبه من قبضة يده التي حققت كل الانتصارات
الماضية.. قبل المباراة النهائية، تحدث طويلاً مع والده، ووعده بتحقيق
الحلم.. واستمع إلى صلوات أمه، وهمسات حبيبته.. والجميع سيكون أمام التلفاز
ينتظرون صافرة النهاية.
في اليونان كان الاجتماع مغلقاً بين الجهاز التدريبي
وبينه.. قالوا له: إن الخصم عنيد ومتمرس والفرصة سانحة لنيل الذهبية ولن
نضيعها مهما كانت النتائج.. لذلك سيقوم الطبيب بإعطائك عدداً من الحقن
المنشطة التي ستجعل قوتك مضاعفة.. كان يوافق على كل اقتراحاتهم، لا يهمه
إلاّ رفع العلم، وابتسامة أؤلئك الجالسين أمام التلفاز ينتظرون عودته
منتصراً الطبيب امتنع عن إعطائه أكثر من حقنة، قال لهم: أكثر من ذلك سيكون
خطراً على حياته.
الجهاز التدريبي أصر على خمس حقن.. لا يهمنا الآن
سوى الذهبية، ورفع اسم هذا الوطن، وهو شاب، جسمه مثل الحديد.. سيتحمل.
وتم إعطائه الحقن الخمسة المقررة أمام عيني الطبيب..
وانطلق البطل إلى ساحة القتال بقوة ألف حصان عربي أصيل... كان التصفيق
شديداً للبطل من الجمهور المتابع في الصالة، ومن أحبائه أمام التلفاز.
الطبيب كان عليه أن يهرب لكنه لم يفعل، أراد أن يرى
نتائج تلك الحقن. أمّا الجهاز التدريبي والبعثة الإعلامية المرافقة فكانت
تنتظر بفارغ الصبر صافرة النهاية، فالفوز مضمون، وكيف لا وهم يعرفون أي رجل
قدموا على ساحة القتال... وفعلاً صدقت آمالهم.. هاهو البطل يرميه أرضاً
وينقض فوقه مثل نمر جائع منذ سنة، يعلو التصفيق على المدرجات لهذا المغمور،
وهناك أمام التلفاز كان والده يبكي، وأمه تزغرد، وحبيبة قلبه تصلي، ولم
يمضي دقائق قليلة، حتّى أعلن الحكم فوز البطل بالتثبيت.. وارتفع علم
الوطن.. رآه بعينه الدامعتين، وسمع النشيد الوطني، ابتسم، عاد إلى ذاكرته
نهر الضيعة، وبداية قصة حبه، بعد ذلك شعر أنه لم يعد يسمع، نظر إلى الأعلى،
كان العلم مستمراً في صعوده، ما الأمر إذن؟ سأل نفسه... أحس كأن جبلاً على
صدره، ولم يعد يرى شيئاً بعد ذلك.
الجميع عاد إلى الوطن بعد مؤتمر صحفي هام تحدث فيه
الجهاز التدريبي عن الجهود المبذولة لتهيئة هذا البطل، والخدمات المتاحة
له.. وفي الوطن نشرت البعثة الإعلامية صورة البطل معانقاً العلم بالإضافة
إلى حوار معه أكد فيه على نيته في مواصلة التدريب لنيل كافة الألقاب
العالمية المقبلة..
أمّا أولئك الذين كانوا متسمرين أمام التلفاز، فهم
الآن يلبسون الثياب السوداء حزناً على ابنهم الذي أرسلوه بأيديهم إلى
اليونان، والذي عاد إليهم في كفن مع تقرير طبي موقع من قبل الطبيب المرافق
للبعثة الرياضية كتب فيه: بعد المعاينة السريرية، تبين إصابته بأزمة قلبية
مفاجئة، هي على الغالب نتيجة فيروس التقطه من البلد المضيف.. رحم الله
بطلنا الكبير، وعوّض الوطن وأهله بأبطال أشداء مثله.
أقراص للحب
"جمهورية أفلاطون" ليست من بناء الفلاسفة والحكماء،
إنما هي من اختراع الصيادلة والأطباء". هذه الجملة شدتني إلى قراءة المقال
كاملاً، لذلك مزقت الورقات الثلاث من المجلة ووضعتها في جيبي، وأعدت المجلة
إلى الرف المخصص لها ومضيت إلى الحديقة مسرعاً. هذه هي إحدى عاداتي السيئة،
أقوم بقراءة المجلات بالرغم من تحديد البائع بعدم لمسها، وأقوم بتمزيق
الأوراق التي تعجبني. وبالرغم من المعارك التي نشبت مراراً بيني وبين
البائع، إلاَّ أنني لم أترك هذه العادة. في الحديقة وبعد شرائي سندويش
فلافل، جلست على المقعد الذي صار لي مع مرور الأيام، ورحت أقرأ المقال وآكل
الفلافل بنهم. (تركيبة عشبية فريدة من نوعها تعيد اتصال الفرد بالمجتمع،
تجعله فرحاً ونشيطاً، كل ذلك خلال ثلاثة أسابيع من تناول أول حبة..) لم
أصدق بداية ما قرأت، لكن رغبتي الشديدة بتغيير طبائعي السيئة جعلتني أعيد
قراءته مرات عديدة. أشعلت سيجارة، وتنفست الصعداء. إذن قريباً سأتخلص من
هذه الأزمة التي أعيش فيها، من كان يصدق أن يحدث هذا؟ لكنني مؤمن بالعلم
وربما هذه هي الصفة الحميدة الوحيدة في شخصيتي اللعينة. أطوي الورقات
الثلاث بنعومة لم أعهدها من قبل، وأخبئها في جيب قميصي. أرمي السيجارة على
الأرض، وأدوسها بقدمي بعنف. أشعل سيجارة ثانية، وأفتش عن سبب حالتي
اللعينة. والدي كان هادئاً لطيفاً رقيقاً لم أسمع صوته في المنزل، لم يرفع
يده أبداً في وجه أمي مع أنها صرحت لي أكثر من مرة: أن المرأة تحب الرجل
العنيف، والحنون بالوقت نفسه. تحب أن تشعر بصدره الدافئ، لكنها تحبه
أحياناً أن يسقطها على الأرض بنظرة واحدة. وبالرغم من ذلك فإن والدي لم
يصرخ في وجهها أبداً، ثم إنه لا يحب المشاكل كما يقول. فعندما حاول عمي أن
يأخذ أرضنا الغربية الخصبة، لم يمانع لأنه عرف إلى أين ستقودنا الأيام،
لذلك أعطاه الأرض بلا مناقشة. وقتها لم أسكت، ونشبت معركة حقيقية بيني وبين
عمي رفع على إثرها سكين مهدداً بقتلي، تدخل والدي مانعاً الجريمة، ثم قال
لي: الأمر انتهى، لا داعي لأي مشكلة. لعنه الله ولعن أطماعه أيضاً، سنرى
ماذا سيأخذ لاحقاً، اهتم بدراستك هذا هو المهم. إذن من أين أتتني هذه الصفة
اللعينة.؟ أمي بالتأكيد هي خارج دائرة البحث، لأنها تشبه الحمام. لعل أتتني
من أحد أجدادي العظماء، إن قانون الوراثة هو أسوأ القوانين التي اخترعها
البشر على ما أعتقد. لكنني بكل الأحوال أعترف أنني إنسان سيئ حاقد، وربما
هذه الكلمة هي المعبرة، ولا أدري من أين حصلت على هذا الحقد. لكنني الآن
على بعد خطوات قليلة من طرد هذه الصفة التي حطمتني، أشعر أنني تعبت وأتعبت
كل الذين يحبونني. لقد ملّت زوجتي من تصرفاتي الخشنة كما تسميها، وهي تقول
ذلك حفاظاً على مشاعري. قالت لي مراراً: لا أود أن أجرحك، لكن تصرفاتك هي
من تفعل ذلك. وعندما سألتها: ما بها تصرفاتي يا امرأة؟ قال لي بعد دقيقة:
إنها خشنة. أضحكتني هذه الكلمة، وأبكتني ليلاً. ماذا يمكنني أن أفعل كي
أتخلص من سلوكي العنيف. قلت لزوجتي: لا أستطيع أن أرى الأخطاء أمامي وأسكت.
ساعديني. قالت لي بعد أن حضنتني وقبلتني: عليك أن تعيش بهدوء، لا تنظر إلى
الآخرين، دعهم وشأنهم يا أخي. لكنها لم تفلح بالرغم من كل المحاولات التي
بذلتها. الآن ستتغير حياتي. أبحث عن أقرب صيدلية، أدخل إليها بفرح. أسأل
الصيدلي عن الدواء المكتوب بالمجلة. يضحك ويقول لي: هذا الدواء غير متوفر
حالياً. رددت كلماته بغضب، وسألته: لماذا؟ ضحك وقال لي: إنه أجنبي. إذا
أردت أستطيع أن أدبره لكن بصعوبة. فهمت اللعبة وقلت له: ابذل جهدك أرجوك،
لن أنسى تعبك. وقبل أن أتركه، قال لي: قد تحتاج أكثر من علبة، سعره مرتفع.
قلت له: لا يهم. ربت على كتفي بلطف وقال لي: إذن بعد ثلاثة أيام.
* * *
الأيام تمر أصعب من غيرها بكثير. أولادي ضجروا مني
وراحوا يسألون: ما بك يا والدي، لا تحتمل حتى النسيم. أجيبهم، عما قريب
ستتغير الأمور. فيهزون رؤوسهم ضجرين. لقد ملوّا من هذه الجملة التي كثيراً
ما رددتها. أعرف أنني أسأت إليهم كثيراً بعنفي اللعين، لكنني هذه المرة
سأفي بوعدي، أرجوكم صدقوني: أقول بصوت عال: انتظروا ثلاثة أيام فقط وسترون
رجلاً مختلفاً تحبونه. أتذكر بعض مشاكلي، وأضحك. عندما كنا في المطعم مع
بعض الأصدقاء، دخلت إلى المطبخ وصوتهم يلاحقني: تعال إلى هنا يا فضولي. لم
أصدق ما رأيت هناك، كل نفايات الدنيا، لم أستطع أن أتحمل وبدأت ساعة جنوني،
التي انتهت بمجيء رجال الشرطة الذين جعلوني أتعهد بعدم التدخل ثانية بشؤون
المطعم. وصلت إلى زاوية سيئة، صرت
أشبه بفأر تحاصره آلاف القطط، لذلك جاءت هذه الأقراص
في وقتها. الأمر الجديد الطارئ هو سعرها المرتفع. كان عليّ أن أجد حلاً
مناسباً، لكن الحظ وقف إلى جانبي هذه المرة. أحد الأصدقاء دبر لي عملاً
مسائياً في مستودع للحبوب. كان علي أن أبذل جهداً إضافياً، لكنني لن أتراجع
عن هذه التجربة التي من الممكن أن تغير حياتي. أسرتي وافقت على عملي
الجديد. قالوا يتلهى، فتنقص مشاكله. يعود متعباً إلى البيت، ونرتاح من
غضبه. وهذا ما حدث في الأيام الأولى، لكن ذلك لم يكن من التعب. الصيدلي قال
لي: انتبه إن كنت سائقاً، الدواء سيسبب لك النعاس في الفترة الأولى لكن
سرعان ما يتأقلم جسمك معه. وحدث ذلك. وكانت النتائج مذهلة. لم أصدق!. منذ
ولادتي وحتى هذه اللحظة لم أعرف هذا الهدوء والطمأنينة والفرح الداخلي الذي
أعيشه الآن والذي انعكس على الجميع. في العمل لاحظ الجميع ذلك، أبو عادل
قال: ستقوم القيامة يا شباب، صاحبنا لا تفارقه الابتسامة منذ أسبوعين، لم
نعد نسمع صوتك يا رجل، لقد اشتقنا له، وضحك الجميع. وبات الذين يهربون من
رفقتي، يتمنون أن أقضي معظم الأوقات معهم. ويسألون: بربك قل لنا ما الذي
تغير؟ انقلبت من رجل لا يطاق إلى رجل لا نتمنى أن نفارقه.
يا إلهي كم كنت سعيداً وأنا أسمع هذه الكلمات. في
البيت صارت زوجتي تحبني. هذه المرأة التي فقدت حنانها في الفترة الماضية،
وصارت تنام بعيداً عني. الآن تهمس في أذني بصوتها البلبلي: أحبك وأشعر أن
شوقي لك لا ينتهي. وتعترف لي وأنا أقبلها: لماذا لم تكن تفعل ذلك من قبل؟
هل تصدق أنني صليت لله كي يأخذك، ويريح هذه الأسرة من بلائك. سألتها:
والآن؟ حضنتني بقوة وقالت: لا أتمنى أن تغيب عني ولو دقيقة. ثم أنها أصرت
هي والأولاد أن أترك عملي المسائي، لكنني رفضت طبعاً من غير أن أذكر السبب
لهم.
عودة ابني الضال كانت فرحتي الكبرى وأجمل ما قدمه
الدواء لي. ابني الكبير الذي وصلت الأمور بيني وبينه إلى مسك الأيدي
والعراك. الآن يعود بعد أن توسط لي أصدقائي عنده، وبينوا لـه توبتي وتغيري
الشديد.
طبعاً لاحظ هو ذلك وبكى على كتفي وقال لي: أحبك يا
والدي، لا تظلمني ثانية أرجوك. مرت الأيام ممتعة، عكرها قليلاً ظهور لون
أصفر في عيني. وقف الجميع ضدي، وصار ترك العمل الإضافي إلزامياً. أصدقائي
في العمل وأبنائي وزوجتي، أصروا أن السبب هو الإرهاق. لكنني أقنعتهم أن
العمل يجلب لي السعادة وأنه غير متعب جسدياً، خاصة بعدما تسلمت الحسابات
هناك. ولإرضاء الجميع، حصلت على إجازة مدة عشرة أيام، قررنا خلالها أن نقوم
برحلة طويلة. قلت لهم: أعتقد أنكم لا تعرفون المناطق الجميلة في هذا الوطن
الغالي. ضحكوا. تابعت كلامي ساخراً: تصوروا أن الأجانب يعرفون بلدنا أكثر
مما نعرفه. لذلك قررت أن نقوم برحلة إلى عشرة أماكن سياحية مدهشة. كانت
الفرحة بهذا القرار مذهلة وذلك لأمرين، الأول: أن الأولاد فرحوا برفقتي
وتأكدوا أنني تغيرت، حيث لم يحدث ذات يوم أن خرجنا مجتمعين. والثاني: لأنهم
لم يغادروا هذه المدينة أبداً، نظراً لضيق الحال. لكن الذي هشم هذا الفرح
هو ازدياد لوني الأصفر بشكل سريع، وبالرغم من ابتعادي عن العمل. وقتها قالت
زوجتي: الأمر لم يعد مجرد تعب، لابد من مراجعة الطبيب. وبالرغم من إصرارها
على مرافقتي إلا أنني هربت منها وقمت بمراجعة طبيب أخصائي بأمراض الكبد.
أضحكني هذا الطبيب عندما قال لي: الدواء هو السبب، وعليك إيقافه فوراًُ.
خرجت من عيادته، وقد نويت أن أنسى هذا الكلام السخيف، هل يعقل أن يقوم دواء
بتغيير حياة إنسان نحو الأفضل، ويؤذيه في الوقت نفسه. أمرُّ على أكثر من
طبيب، فيؤكدون أن هذا الدواء يؤدي إلى نخر بالخلية الكبدية، والاستمرار به
يؤدي إلى الموت. إذن لا يوجد حل آخر، لابد من إيقافه. أشعل سيجارة، والتجئ
إلى حديقتي المفضلة، لقد اشتقت لمقعدي، الذي لم أزره منذ فترة طويلة. أجلس
عليه أشعر بغربة، ابتلع دخان السيجارة وأسأل نفسي: ماذا بعد إيقاف الدواء؟
سيزول اللون الأصفر ويرتاح الكبد، وأعود من جديد إلى طبعي القديم. سيكرهني
أصدقائي وستصلي زوجتي لعل الله يأخذني وترتاح من قرفي، وسأخسر أبنائي
الواحد تلو الآخر. أشعل سيجارة جديدة هي العشرون على ما أعتقد، أتلمس
المقعد أشعر أنني غريب عنه وأنه لم يعد ناعماً كما كان من قبل. أخرج الدواء
من جيبي الداخلي، أشعر برغبة ملحة للبكاء. يجتمع حولي الناس، يحاولون تقديم
المساعدة. أشكرهم وأقول لهم: لا شيء يستحق الاهتمام، سأهدأ بعد قليل. أعدّ
الحبوب الباقية، وأحسب متى يجب أن أشتري العلبة الجديدة، ابتلع قرصاً،
وأتنفس الصعداء. أترك مقعدي، أقصد الذي كان مقعدي فيما مضى، وأمضي لقد
اشتقت لأسرتي التي تحبني.
أيَّام..
1
"لقد رأيت ذئباً عندما كنت متوجهاً إلى بيت أبي
حيدر".
قال ذلك عبد الله ومضى تاركاً العيون تراقبه وقد
غرقت في بحر من الحزن، الخوف، والدهشة.
2
هذا الخبر، جاء مع بداية الشتاء..
حيث من المعتاد أن تمتلئ اليبوت بالضجيج والسهرات
الحلوة، ولعب الورق، والمراهنات الجميلة.
لكن عبد الله حول الشتاء الدافئ إلى فصل من الخوف
والترقب.
الطرقات صارت تخلو من الناس منذ الساعة الخامسة
مساء.. وبيت المختار صار يعجّ بكبار الضيعة والتساؤلات..
والمطر.. والبرد.. والريح ثلاثة يناوشون الضيعة بين
الفينة والأخرى.
3
فور سماعه الخبر..
عقد المختار اجتماعاً طارئاً لوجهاء الضيعة لدراسة
الوضع الجديد، ووسط جو من الصمت والدخان الذي ملأ المكان دارت المناقشات..
أبو أحمد: يا جماعة، منذ فترة طويلة ما رأينا هذا
الحيوان.. أذكر أن آخر ذئب شوهد كان منذ عشرين سنة ومنذ ذلك الوقت اختفت
الذئاب، وانتهت قصصها.
أبو حيدر: إن عبد الله هو الشاب الوحيد المتعلم في
ضيعتنا.. فأنتم تعرفون أن صبحي لم يقدر على اجتياز المرحلة الإعدادية..
وغسان ترك المدرسة في المرحلة الابتدائية، لكن هذا الشاب
اللطيف نجح في البكالوريا ولو توفرت الإمكانات
المادية مع والده لكان الآن في المدينة الجامعية.
هذا يعني أن ما قاله على درجة من الأهمية.
المختار: نحن الآن بحاجة إلى حل سريع، فوجود هذا
الحيوان اللعين سوف يخلق المشاكل.
عمر السعيد: لا بد أن نعرف رأي معلم المدرسة فهو كما
تعرفون صائب الرأي.
4
معلم المدرسة تلك الفترة كان في إجازة..
فعندما يأتي المطر يشعر بالحنين إلى ضيعته.. يغلق
المدرسة، ويحضر ثيابه ويمضي دون أن يخبر أحداً متى سيأتي.. يقول يجب أن
يروي شوقه ثم يعود.
في هذه الأثناء تُرك الأمر معلقاً.
5
أشخاص كثيرون شاهدوا هذا الحيوان..
قالوا إنهم لم يشاهدوا مثل شراسته من قبل.. وبعضهم
قال لقد أنقذني الله من فمه المتوحش ولكن عندما كان عمر السعيد يسألهم بدقة
ويصر على الإجابة الدقيقة كانوا يقولون:
-ربما هو شيء يشبه الذئب.. نحن ما رأينا ذئباً قبل
ذلك، لكنه على كل حال حيوان أبيض ضخم إذا نظرت إلى عينيه رأيت النار تنطلق
كالسهم.
6
مجيء الذئب إلى الضيعة أربك الأهالي، ولكن مرض
المختار اربكهم أكثر..
لقد فتك به السكري الذي كان نائماً في جسده منذ
سنوات طويلة.
-يا ويلي.. هكذا قال عمر السعيد صاحب البقالية
الوحيدة في الضيعة.
-لقد هاجمه الخوف.. الخوف يرفع السكر، أليس كذلك يا
أبو أحمد؟
-إنه يرفع السكر.. ويقتل القلب أيضاً، أجاب أبو
أحمد، وحاول أن يضحك لكنه فشل.
-ما العمل يا جماعة؟ سأل أبو حيدر.
-يجب أن ننتظر شفاء المختار، وعودة معلم المدرسة.
-تريدنا أن نبقى سجناء في بيوتنا حتى إشعار آخر
إذن؟!
-وجدتها.. قال عمر السعيد فرحاً، واستدرك: يجب أن
نصلي.
غداً نجمع أهالي الضيعة جميعهم ونذهب إلى البيدر
نصلي لله.. لا بد أن يسامحنا ويبعد عنَّا هذا الحيوان اللعين.
7
صباحاً، كانوا ينطلقون نحو البيدر
والبيدر، ومنذ سنوات، خُصّص لربط الأبقار.. وإجراء
المباريات الرياضية النادرة، لكنه أبداً ما كان ساحة للصلاة والاتصال مع
الله.
تأملات كبار الضيعة
أبو حيدر: آه يا زمان، لو ترجع بنا خمسين عاماً
فقط.. ضاعت الأيام، وما زلت أذكرها.
فاطمة، حبيبة قلبي.. مضت السنوات، وأحد لا يعرف أن
هذا البيدر كان مسرح حبنا لا بد أن أراك الآن.. ولا بد أن تتذكري طعم
القبلة الأولى التي سرقتها من خدك.. آهٍ من خدك.. مثل التفاحة.. بكيت
وقتها، وغضبت، وتركتني عشرة أيام.. كنت أتردد خلالها إلى البيدر، أبحث عنك،
أحلم بتلك القبلة.. لكنك في اليوم العاشر أتيتِ وأخذتني، وتعربشت على
جسدك..
الآن قد تزوجت.. وأنا تزوجت وصار عندي أم حيدر لكنني
ما زلت أشتهيك بقوة شاب عمره عشرون سنة.
أبو أحمد: تمر الأيام.. والسنون، ويمضي العمر، وأنت
باقٍ أيها البيدر، الشاهد الذي لا يتكلم، وأحد غيرك لا يعرف سرَّ الغنى
الذي حلَّ بي، تحت أمطار كانون وفي منتصف الليل.
عمر السعيد: أين أنت يا عبد الله.. لست وسط هذه
الحشود.. غيّرت حياتنا، لعنك الله.
وجوه الناس كانت قاسية على نحو غريب..
8
مساءً سألهم عمر السعيد: هل رأى أحدكم عبد الله بين
الجموع؟
هزّ رأسه أبو أحمد ضاحكاً: هؤلاء المتعلمون لا
يؤمنون بمثل هذه الوسائل.
-يا جماعة.. لا بد من وضع أشخاص مسلحين عند زاوية كل
شارع.
-ومن ذلك الذي يرضى..؟ إن الذئاب يا أبو حيدر، تأتي
من الخلف.
-حيرتنا، سيد عمر، ما الحل إذن؟
-الحل بسيط جداً.. يجب أن نعيش حياتنا كما كانت قبل
قدوم هذا الحيوان اللعين.
-لا بد أنك قد جننت.. قال ذلك أبو أحمد وغادرهم.
9
عند زيارتهم للمختار في المشفى.. سألهم قبل ان يرد
عليهم التحية:
-ماذا فعلتم؟
-لقد شاهدوه مرة أخرى يقفز على سطوح المنازل..
-الخوف بدأ يمتد يا مختار.
-وماذا تنتظرون، سألهم بعصبية.. وراح يشعل سيجارة.
-أن يأتي معلم المدرسة.
-هناك مثل يقول: الذي لا يأتي إليك، اذهب إليه..
أليس كذلك يا أبو حيدر..
أخذ نفساً عميقاً، ثم طرد الهواء من صدره وتابع
كلامه بعصبية، أبو حيدر حضر نفسك للذهاب غداً إلى ضيعته، يجب أن تأتي به،
قل له إننا بحاجة إليه.
10
كانت الساعة قد تجاوزت السادسة مساءً.
السماء مسجونة وسط غيم أسود.. والمطر العذب يعزف
موسيقا جميلة تداعب هذين العاشقين.
-آهٍ يا غاليتي.. هل رأيت كم هو جميل؟
-الحب؟
-لا.. اختلاس الحب.
-أخشى أن نكون قد ارتكبنا خطأ في حقهم.
-إنها الوسيلة الوحيدة كي نعيش قصة حبنا بحرية.
-لكن إذا عرفوا الحكاية، يا عبد الله..
-لن يعرفوا.. ليس هنالك وقت كي يعرفوا.. الخوف يمتد
أكثر فأكثر.
-عبد الله.. أنا خائفة.. إذا عرفوا سنخسر كل شيء.
ضحك عبد الله من أعماقه: لا تخافي.. هم من صنع
الحكاية، ليس أنا.
راح يشمّها.. يقبلها، وشيئاً فشيئاً راحا يذوبان تحت
المطر ويأخذهما الحب إلى دنياه البعيدة وبعيداً عن زاوية حبهما، كانت
السماء تطلق رعدات قوية.. والمطر يشتد أكثر.. فأكثر.
جسر السيد لور
(1)
كانت فكرة إنشاء جسر على نهر القرية، من مبتكرات أبو
حنا، وقد أدهش أهل القرية بهذه الفكرة، بعد أن شرح لهم الغاية منها وكيف أن
هذا الجسر سيضفي جمالاً أخّاذاً على النهر والقرية... وعلى النفوس أيضاً،
فرأيه أن الجمال الخارجي يتغلغل فينا، ويتحول إلى حس متأصل.
أغمض عينيه وقال: سيكون منظراً رائعاً عندما تعبر
السيدة لور الجسر بعربتها الخشبية، التي يجرها حصان أبيض أصيل أهداه لها
شيخ عشيرة المنجي.
أغمضنا عيوننا ورحنا نتخيل السيدة لور، بوجهها
الوضّاح وعينيها الساجيتين، وبعقدها الذي ورثته عن جدتها، تعبر الجسر الذي
اقترح أبو حنّا بناءه فوق النهر، مقابل الباب الشماليّ للضيعة، وقد علت
شفاهنا ابتسامات دافئة كانت طيّ النسيان. قلنا أوهام مجانين، أو خيال
شعراء... ونسيت أن أقول إن أبا حنا كان زّجالاً مشهوداً له.
لاحقاً سيحدثني أبو حنّا، ويقول: كانت رغبة... رمتها
في الهواء ومثل الصقر بعد أن يرفع صاحبه الغطاء عن عينيه فيمسك بما يراه من
طيور الجو، أمسكت الفكرة، ووعدت بتنفيذها.
وأضاف أبو حنّا فرحاً: إنها تحبّ الخشبة، لأنه، كما
تقول، مثل الحبّ فيه طراوة وحنان... إنها تكره الحديد العنيد والزجاج
الهش...
(2)
مسألة بسيطة..، نضع عدداً من الألواح الخشبية فوق
النهر، ونثبتها بشكل جيد.. فيكون الجسر.
نظر إلينا أبو حنّا بغضب، وأطلق تنهيدة طويلة:
ـ هكذا! ... إذن نسيتم ما فعلته، انظروا... وأشار
بيده إلى المدرسة، لازلت شامخة مثلها، كم حاربت من أجل بنائها.
وسرعان ما دهمتنا موجة من الخجل، جعلت رؤوسنا تنحني
بعيدة عن عينيّ أبو حنّا، الذي أمضى ليلة كاملة يفكر، حتى وصل أخيراً إلى
شكل جميل مدهش لنصب الجسر.
(3)
كان علينا أن نجد المكان المناسب لبناء الجسر كما
أشار أبو حنّا، ومن ثمّ ننقله إلى النهر.. كان من المستحيل بناؤه فوق النهر
مباشرة في هذا الشتاء الذي قال عنه أبو حنا بأنه شتاء يخيف حتى طيور
الرخّ.
أبو حنّا يكرر مفتخراً: إنّ السماء تشاركنا فرحة
قدومها، لذلك لم يتوقف سقوط المطر منذ سماعنا خبر قدومها، الذي لا يشبه شيء
إلا نغمات المطر.
ويضيف أبو حنّا: إنّ حلّ هذه المشكلة موجود في
الحارة الثانية، وتحديداً لدى أبي ماجد، الذي يملك مستودعاً كبيراً يصلح
لهذا العمل.
وهنا برزت مشكلة أصعب... فقد عمل الباشا خلال سنوات
ثلاث ماضية على توسيع دائرة الخلاف بين الحارتين، ونجح إلى حدّ كبير في خلق
مشاحنات كبيرة بين الأهالي.
نساء الحارة الثانية وقفن إلى جانب أبي حنّا... فقد
استرجعن طيف السيدة لور وهي تضع في فمها قطعة صغيرة من رغيف خرج للتو من
التنور وشاهدن الطيف يبتسم ويقول برقة وبحماسة أيضاً: خبز التنّور مثل رحيق
المن والسلوى، مثل بخور شجرة الجبل الشرقي.. ولكن آن للمعذبات أن يسترحن من
هذا العناء، وأشارت بيدها إلى قطعة الأرض التي سيبنى عليها الفرن. واليوم
استراحت النسوة من خبز التنور، ولكنهن بقين يتذكرن طعمه كلما وضعن قطعة خبز
مما يخبزه الفرن. يومها زغردن للفرن، واليوم يتشوقن لخبز التنور.
وبالمقابل، فإنّ رجال الحارة الثانية، لم يغب عن
ذاكرتهم ما فعلته السيدة لور عندما هاجم المرض مواسم القمح... لقد ناضلت
حتى أعفتهم من الديون الماضية وقدمت لكل أسرة الطحين الكافي للشتاء.
ـ مستودعنا، وعرباتنا تحت أمر السيدة لور... هكذا
قال أبو ماجد، وأضاف:
ـ لكن علينا أن نبنيه من الإسمنت... أليس كذلك يا
أبا حنّا؟
ـ سنفعل ذلك صيفاً، أجابه أبو حنّا وتابع: السماء
كما ترى فرحة بعودة السيدة لور، مازالت تمطر منذ سماعها الخبر... ثمّ إنّ
الوقت لا يسمح بالتأخير.
(4)
عندما بدأنا ننقل الأخشاب عاد أبو حنّا شابّاً...
كنّا نراه ينطلق مسرعاً، وقد حمل على ظهره لوحاً، أو أكثر من الخشب.
وكان يغنّي، والسيجارة في فمه لا تنطفئ.. وفي أوقات
الراحة القليلة، كان يحدثنا عن مجيئها وقد امتلأت عيناه بشيء يشبه
الدموع...
ـ عندما جاءت، وكان ذلك منذ ثلاث سنوات، امتلأت
الشوارع بالزنابق التي تشبهها، وتفجرت الينابيع... وغيّرت حياتنا دفعة
واحدة.
لم نكن نعتقد أن يحدث هذا كلّه... كنّا نظنّ أنها
تشبهه، لكنّها قدمت لنا صورة تشبه سرباً من السنونو المحلق في سماء
ربيعية.
كانت تكرهه... قالت لنا: لقد علّم قلبي أن يكره...
هذا الرجل المتوحّش وعندما رحلت، كثرت الشائعات: منهم من قال: إنّ زوجها
عمل على ترحيلها، ومنهم من قال: إنّها ملّت من الحياة هنا... ومنهم من
اخترع قصّة عشق فاشلة بيني وبينها. المهم... أنّها رحلت، فماتت بعدها
المواسم، وجفّت الينابيع، ونشأت الخلافات بين الأهالي، وزاد ظلم ذلك الرجل
المتوحّش، الذي يعتقد أنّنا سنبقى دائماً بلا كرامة..
كنّا نسمعه، ونحن نأكل زوادتنا التي حملناها من
البيت، وشيئاً فشيئاً نشعر أننا نشتاق إليها وننتظر بفارغ الصبر قدومها.
(5)
كانت أيامنا التالية صعبة.. لم نعرف خلالها النوم،
وكان المخزن الكبير يحتوينا وقد امتلأ بالنشاط والحيوية، والأغنيات
الشعبيّة التي كان يرددها أبو حنّا، وبالرغم من سقوطه وإصابته برضوض شديدة
في جسمه، إلاّ أنّه بقي يساهرنا، ويحكي لنا قصصاً قديمة ممتعة ويراقب العمل
ويبدي ملاحظاته.
ـ يجب أن يغدو قطعة فنّية نادرة..، ثمّ يشدّ أصابعه
بقوة، ويتابع:
ـ يجب أن يغنّي عندما تمرّ فوقه.
كنّا نعمل فرحين... نسمع كلامه، ونحلم... ثمّ ننتظر
منه أن يحكي.. يشعر بنا.. يضحك: إنني فرح لأجلكم، دائماً عندما تأتي، تحمل
معها المستقبل الأجمل.
(6)
عندما هدأت السماء، بدأت عملية نقل الجسر إلى مكانه
المرتقب... كانت العربات الخشبية تسير مثل سرب حمام، ولأوّل مرة أشعر
بالحنين إليها.
اجتمع رجال الضيعة، ونساؤها، قرب النهر، وعقدت
الدبكات، وقرع الطبل وعزف المزمار حتى آخر الليل.
لم تنم الضيعة ثلاث ليال متواصلة كانت كافية لعودة
الحبّ إلى الشوارع. والبيوت والقلوب. لحظات من الصفاء الممتعة خيّمت، فأحيت
قصص العشق النائمة. والنهر من جهته، عانق الجسر وكأنه يشمّ رائحة السيدة
القادمة، وباح له بحبّه.
(7)
وأخيراً أتى اليوم الذي انتظرته الضيعة بفارغ
الصبر...
لقد انطلق الأهالي يسبقون شروق الشمس إلى الجسر، وقد
لبس كلّ منهم أجمل ثيابه، وعطّر نفسه، كأنه في ساحة عرس يضفي عليه الصخب
جمالاً.
عند الجسر اجتمع الأهالي، وكان أبو حنّا يطوف هنا
وهناك يذكر الشبان والصبايا بضرورة التقيّد بالبرنامج الذي وضعه للرقص
والغناء وحلقت الدبكات، وكان قد دربهم مراراً على هذا البرنامج.
ومرّ خلف بعض شيوخ القرية، وهم يتهامسون فيما
بينهم.
قال أحدهم: إنها مكيدة خبيثة.
قال الآخر: سيأتي مرتزقة الباشا وأزلامه من قرية
ناحور، مسقط رأسه، سريعاً إلى القرية بعد عبور الجسر، ولن نجد وقتاً للهرب
إلى الغابات، وإن كانت قريبة.
قال ثالث: ولكن كيف وقع أبو حنا في هذه المصيدة؟ ألم
يكرر علينا بأن كل ما يقدمه الباشا مريب، حتى الهدايا؟ ألم ينتبه أبو حنا
إلى أن موافقة الباشا على تشييد الجسر خبث دفين، بل خبث ظاهر؟
قال الأول: أبو حنا، أبو حنا، إنه مسكين... شاعر،
كلمة تأخذه وكلمة تجلبه.
قال الثالث: لا، لا، بالفعل الحب أعمى.
قال الثاني: ولكن هذا العمى سيعود بالوبال على أهل
قريته.
قال الأول: ولكن السيدة لور هي التي أوحت لأبي حنا
ببناء الجسر.
قال الثالث: أوحت حتى تريح ولم توح حتى تبيح.
ـ تبيح ماذا؟
ـ تبيح القرية لعناصر الدرك وأزلام الباشا المأجورين
من الأغراب. وغداً سيظهر ذلك في مواسم الحصاد.
أبو حنا الذي لم يكن يرفع نظره عن طريق السيدة لور
ترقباً لقدومها، اختفى من بين الحشد. وبقي الناس يتلفتون إلى الطريق
بانتظار ظهور عربة السيدة لور.
أخيراً شاهدوا موكب السيدة لور يتقدم.
انعقدت حلقات الدبكة، وراح المغنون يرددون القصائد
التي نظمها أبو حنا، وكلها ترمز إلى حبه الدفين الصامت. ورفعت الصبايا
المناديل يلوحن بها مرحبات مهللات، وانفرد رئيس فرقة الدبكة عن زملائه
برقصة صعبة، ولكنها جميلة... يبدو أنه تدرب عليها كثيراً. وترافق الرقص
بتصفيق من الأكف، إلا أن الشيوخ كانوا واجمين ينظرون بعيداً، إلى موكب
السيدة لور.
فجأة اندلعت النار في الجسر الخشبي الجميل ولوّحت
النار الورود الجميلة الموضوعة على الجانبين، وكان غصن الليلك الذي اعتنى
أبو حنا بتنصيبه أول الأغصان التي مالت أفنانها، حتى قبل أن تصلها النار،
وانحنى رأسه يتهادى يميناً وشمالاً كأنه يبحث عن أبي حنا مستنجداً.
دهش الناس، فوقفوا صامتين منذهلين.
احترق الجسر، ونزلت السيدة لور من العربة، وخلفها
ظهر وجه الباشا المتجهّم، أما أبو حنا، فلم يعد أحد يراه.
قال الشيخ الأول: فعلها.
قال الثالث: فعلاً مجنون.
قال الثاني: ولكنه شاعر.
الحصار الأبيض
1
في حقيقة الأمر لا أحد يعرف سبباً لهذا الخلاف..
إبراهيم الباشا، رئيس الجمعية الفلاحية في الضيعة،
يعتبر عزّو الديري طفيلياً، ويتعهد أن يبني بقالية له، فهو بنظره لا يصلح
إلا لبيع الحلوى للأطفال. أما الديري والذي هو مختار الضيعة فإنه يكاد يفقد
صوابه ويرد غاضباً:
-سوف أحطم رأسه العفن.
2
5/6/2003 بدأت المفاجآت
الديري يعود إلى الضيعة وقد امتطى فرساً رائع
الجمال.. يتجول في الشارع القريب إلى بيت الباشا.. والجميع يتابع تلك
الخطوات الموسيقية التي يرسمها فرسه.. الباشا يسأل: من أين به.. ذلك
الطفيلي؟
لاحقاً يتحدث الديري في مجلسه..: لقد تحقق حلمي..
والفضل يعود لهذه العائلة الكريمة لا أعتقد أن هناك من يعتني بالخيول
ويدللها مثل آل الحصني.. يا أخي يتعاملون معها كأولادهم وربما بطريقة
أفضل.. هذه العائلة تستحق كل احترام.. صدقوني، وإلا من أين لنا بمثل هذا
الفرس الأصيل.. لعلكم رأيتم هذا اللون الذي لا أستطيع أن أسميه، وذلك الشعر
الذي لا أعرف أن أصفه.. وتلك الخطوات.. يا إلهي! لو أنني أملك إمكانية
الشعر لكتبت ديواناً في وصفه..
الديري لم يكتف بالغزل بفرسه.. وإنما صار ينطلق في
جولات تفقدية للضيعة ويقول:
-إن الحياة سوف تتغير..
وبدأ يعد بإصلاحات جديدة
-ستغدو ضيعتنا جميلة تشبه هذا الفرس الأصيل.
3
9/6/2003 سلسلة المفاجآت مستمرة.
الباشا وبعد اختفائه عن الأنظار، يعود إلى الضيعة
تحمله مهرة جميلة حتى الإرباك.
الجميع يراه، تركض به مهرته في شوارع الضيعة،
وابتسامة تعلو شفتيه، وعيناه تعدان بالكثير..
لاحقاً يتحدث إلى أصدقائه..: وجدت خيولاً كثيرة مثل
فرس ذلك الطفيلي، لكنني اخترت هذه المهرة التي لا يستطيع أحد أن يتحدى
جمالها.. مدللة كانت عند آل الحصني،.. قالوا لي: إنها الأحب إلى قلوبهم..
ووجدت صعوبة كبيرة بإقناعهم بالتخلي عنها.. لكنهم لم يفعلوا ذلك إلا بعد أن
رميت تحت أقدامهم كيساً من الأوراق النقدية.
4
في اليوم التالي..
الباشا والديري يلتقيان مصادفة في ساحة القرية.. وقد
امتطى كلّ فرسه.
الديري وقد أصابه القرف: اللعين.. فعلها. وأتى
بالمهرة الباقية لدى آل الحصني.
أهالي الضيعة يتجمعون منتظرين المعركة التي ستحدث..،
الفارسان يتبادلان النظرات.. وينتظر كل منهما الآخر أن يبدأ.. لكن الذي حدث
ومع بداية المعركة ما بدر من حصان الديري. ذلك الذي رأى مهرته المحببة
والتي عاشرها طويلاً قبل أن يأتي إلى هذه الضيعة.. بدأ بحركات مدهشة، ثم
أطلق أغنية شوق وعشق..
المهرة من جهتها بدأت بالرقص معلنة استعدادها لبدء
قصة حب جديدة.. ثم اقتربت.
تأججت مشاعر فرس الديري وركض نحو مهرته..
الديري يدرك خطورة الموقف.. يضرب فرسه، ويحوّل
اتجاهه بعيداً عن الساحة.
5
صباحاً، المختار لا يجد فرسه في الحظيرة..
-ابحثوا عنه في كل مكان. يقول ذلك وقد طار صوابه.
بعد ساعات، يعودون به.. كان هناك في بيت الباشا، عند
المهرة.
الباشا ينظر إليه بحقد، يضربه: أنت مجنون.. ماذا
فعلت، تود أن تهين الديري آخر عمره ألم تجد إلا تلك المهرة القبيحة.
لكن الحصان يهز رأسه حزيناً ثم يطلق صهيلاً مؤلماً.
الراعي هلال يحلف ألف يمين أنه لم يفعل، لأن الديري
يتهمه بأنه قد فتح الباب لفرسه..
-أنت أيها اللعين من فعل ذلك
-أقسم بشاربك لم أفعل.. أنا لا أقدم على عمل يزعجك.
عشرة عمر يا مختار بيننا.
-على كل حال انتبه لنفسك.. هيا، أريد أن ترفع جدران
الحظيرة، لا أريده أن يفكر ثانية بهذا العمل الجنوني.
بعد ذلك وبسرعة مدهشة، وضعوا ألواحاً من الخشب،
فعَلَتْ الجدران وحجبوا عن الفرس النور، والناس، والمهرة.
المختار وبعد أن يتنفس الصعداء ويلف سيجارة: بعيد عن
شاربك، أيها العفن.
6
مهرة الباشا ليست عديمة الأصل، فبعد ثلاثة أيام من
مغيب فرسها الغالي، وبعد أن حاول اليأس أن يطرق بابها، هربت إليه.. لكنها
حزنت عندما وجدت تلك الأسوار الشامخة، أطلقت صوتاً مرعباً.. أتاها الجواب
من الداخل... صوت رنان مشتاق.. ضربت السور الخشبي.. وهو قد فعل ذلك أيضاً.
سهرة عشق استمرت حتى الصباح، تحدثا فيها عن الذل
الذي وجداه هنا بعد أن تركا آل الحصني. ثم غفت بالقرب من السور الخشبي الذي
حجزها عن حبيبها.
صباحاً،
الراعي هلال، وبأفكاره الجهنمية، وبرغبته أن ينتقم
لشرف المختار، فتح باب الحظيرة وربت على ظهرها ودعاها للدخول إلى حبيب
قلبها، ثم أطلق ضحكة.. سرعان ما علت أكثر وأكثر عندما أخبر المختار بالذي
حدث.
أما الباشا فقد أتته نوبة عصبية عندما علم بالأمر.
ضربها ضرباً مبرحاً.. إياك أن تعودي إلى هذه الأفعال
السيئة.
وسرعان ما علت جدران الحظيرة.
7
الديري يواجه مشكلة جديدة.. فالحصان يضرب عن الطعام،
ويفقد قوته شيئاً فشيئاً..
-هذا غير معقول.. ماذا يجري، أتينا به كي نفرح
قليلاً.. ها هو ينقلنا من مشكلة إلى أخرى.
الجميع يهز رأسه.. -يجب أن يراها، إنه العشق يا
مختار.
-رؤيتها مستحيلة.. هل من حل آخر.
-طبيب بيطري.
أحسن الأطباء زاره، وأحسن الأدوية وصفت له.. لكن
الأيام تمضي دون فائدة، من جهتها، المهرة الأصيلة، تفعل مثلما فعل فرسها،
وتوقع الباشا في مأزق دعا من خلاله الأصحاب وسألهم عن الحل..
-يجب أن تراه. قالوا مؤكدين.
-هذا مستحيل.
-لا بد من طبيب.
الديري ليس أفضل وأكرم منه.. لقد جاء بطبيب من
المدينة، وحمل معه أحسن الأدوية الأجنبية ومرت الأيام والوضع يزداد سوءاً.
8
بات الأمر محرجاً، والأحداث تسير نحو الهاوية..
لكن سلسلة المفاجآت تستمر بانهمار تلك الثلوج غير
المتوقعة أبداً.. بقي الثلج يسقط يوماً كاملاً حتى صار ارتفاعه متراً أو
أكثر.. وصار من المتوقع أن يحدث شيء ما، فالمختار يعشق الثلج، يذكره
بطفولته، ودائماً يتحدث عنه والدموع تملأ عينيه.
لذلك قام الراعي هلال بتلك الحركة المدهشة.. قال في
نفسه: يجب أن تنتهي هذه المهزلة.
خرج مع الحصان في رحلة هي الأجمل منذ أتى إلى هذه
الضيعة.. كان يرسم بخطواته على هذا البياض المدهش حروفاً لا تنتهي من
الأمل.. وبالقرب من حظيرة عشيقته وقف.. أطلق صوتاً حزيناً، فجاء الرد من
وراء الأسوار الخشبية، ثم بدأ الصهيل.
صهيل من داخل الحظيرة، وصهيل من خارجها.. يمتد
ويستطيل ليملأ الشوارع البيضاء كلها.
الديري يركض، والباشا يركض.. يلتقيان، تحيط بهما هذه
الكتلة البشرية التي راحت تنتظر أن تلين الأمور، وتهدأ النفوس..
يتبادلان النظرات، يحترق الثلج تحت أقدامهما..
يشد الفرس الحبل، يقع الراعي هلال على الأرض.. يسحبه
الفرس نحو الحظيرة، يفلت الحبل... يحطم الخشب.. يتلاقى مع معشوقته..
ثم ودون انتظار، ووسط دهشة الجميع ينطلقان مسرعين
يشقان هذا الحصار الأبيض، وشيئاً فشيئاً يختفيان، ولا يبقى إلا ذلك الصهيل
الذي تغيرت نغمته على نحو مرعب.
غبش الروح
مساء وجدَتْ زوجتي الحلّ...
كانت قد عانَت الكثير معي قبل أن تعلنَ لي أنّ حلّ
مشكلتي التي بدّلتْ حياتي وحياتها، يختبئُ خلف ذلك الجبل، هناك في ضيعتها.
وراحتْ تحكي لي عن ذلك الرجل الذي لم تفارقه الابتسامة يوماً ما، حتى أنَّ
الجميع يقولون: إنه أسعدُ رجلٍ في هذا العالم. والبعضُ يبالغ في وصفه
فيسميه: أبو فرح. متناسين أسماء أولاده الأربعة.
لم أنم تلك الليلة، فبعد أن عشتُ ليلة حبّ جميلة مع
زوجتي التي قالت لي: كدتُ أنسى... الحمد لله أنكَ ذكرتني أنّ هناك قبلاً
وتنهداتٍ بين الزوجين. ونامتْ تاركةً لي السهر.
كنتُ أرسم صورةَ هذا الرجل الذي تجاوز السبعين من
عمره ولم يفارقه الفرح، وكما قالت زوجتي: الكلُّ يعرفه من ابتسامته التي
تسبقه. أسأل نفسي: كيف استطاع أن يوطدَ صحبته بتلك الابتسامة طوال تلك
السنين؟ إذن خروفي الضال يرعى في حدائقه.
كنت قد جربتُ كل الوسائل الممكنة التي من شأنها أن
تعيدَ إليَّ الفرح وتزيلَ هذه الغيوم الملبدة في قلبي. لقد وقعتُ فريسة
الحزن والكآبة ودخلتْ الروح في غبشٍ ممتدٍ بلا نهاية دون سبب واضح منذ
ثلاثة أشهر.
قلت لزوجتي وقتها: فقدتُ القدرة على الضحك يا امرأة.
ابتسمتْ ولم تبالِ. لذلك فتشت بين الأصدقاء عن حلّ. البعض نصحني بشرب نوع
من الأعشاب. فعلتُ ذلك وكاد الشراب الذي كرهتْ زوجتي رائحته، يفتك
بالكليتين دون أن يعيد لي ولو بارقة من فرح.
جربتُ الرياضة طويلاً لكنها أعادت لعضلاتي قوتها دون
أن تعيد لقلبي فرحه. ذهبت كثيراً إلى ذلك المقهى الذي يزدحم عنده الناس مثل
مباراة كرة قدم يستمعون إلى رجل يسمّونه أبو الليل يحكي لهم المضحك في
حياته وحياة من يعرف إضافة إلى الكثير من النكات. كان المقهى يتحول بعد أقل
من عشر دقائق إلى بركان من الضحك، لكن هذا البركان لم يجرفني بسيله. النادل
القصير ذو الشامة المميزة على خذه الأيسر، قال لي: إذا لم تضحك هنا، لن
تضحك أبداً. وتركني وهو يكاد يغمى عليه من شدة الضحك.
قبل أن تشرق الشمس بقليل كنت قد سألت نفسي لماذا هرب
مني الفرح؟ ورحتُ أبحث عن أي سبب يمكن أن أتهمه:
1 ــ زوجتي هذه النائمة قربي تشبه ياسمين الشام.
2 ــ ابني الكبير أنهى دراسته الجامعية، وهو الآن
يكمل مشواره في بريطانيا بنجاح.
3 ــ ابنتي تعيش مع زوجها حياة هانئة.
4 ــ ابني الصغير نجم في ملاعب كرة القدم.
5 ــ أملك من المال ما يمكنّني من شراء مدينة
بأكملها. ما الأمر إذن؟. ليس هناك أية ثغرة مادية أو عاطفية أو اجتماعية.
هل هي عين قد أصابتني.
صباحاً أيقظتني زوجتي. كان النعاس قد هجم عليّ في
ساعات الصباح الباكر وغلبني.
قالتْ لي: هيا أيها الكسول. لتناول طعام الإفطار
وننطلق في رحلة نحو البهجة الحقيقة.
نظرتُ إليها، كانت شهية كعادتها. قلتُ لها: لننطلق
فوراً.
عندما ابتلعتنا السيارة شعرتُ أنني ذاهب إلى أجمل
الأمكنة، ورسمت خلال ثوان صورةً لأبي فرح. قلتُ لها: ماذا سنأخذ له.
ضحكتْ: ألا يكفي أنك ذاهب إليه، سوف يعتبرُ ذلك أجمل
أيام حياته. المستشارُ قادمٌ إليه، ذلك بمثابة حلم عنده.
قلتُ لها: رجل مثله لا أعتقد أنه يدخن، لذلك لا ينفع
أن نقدم له نرجيلة.
وقفتُ بالقرب من إحدى البقاليات، واشتريت كمية كبيرة
من العسل، والمربيات.
قالت: إنه من أشهر النحّالين في المنطقة، يقولون:
إنه صديق النحل، لا يلبس أي شيء عندما يتجول بينهم، يحومون حوله مثل
العاشقين.
ــ لماذا لم تقولي لي ذلك قبل أن نشتري العسل.
ــ وهل سألتني.
وقفتُ بالقرب من بقالية أخرى، وهممتُ أن أشتري
صناديق من الفواكه والخضار المنوعة. عندما أتاني صوتها ضاحكاً: يبدو أننا
لن نصل قبل مغيب الشمس.
ــ ليس لائقاً أن ندخل ويدنا فارغة.
ــ لكنه يتميز بأنه أفضل الفلاحين. كل أشجار الفواكه
مزروعة في أرضه، وكذلك الخضار.
ضحكتْ: إنه يربي دجاجاً ليأكل لحمه وبيضه، ويربي
أغناماً من أجل الحليب ومشتقاته. ماذا تريد بعد؟.
ــ لقد حيرتني. ماذا أقدم له إذن؟
ــ قف هنا. نزلتْ هي، واشترتْ له قماشاً وألبسة
داخلية، وزجاجاتِ عطر، وأدوات حلاقة. قالت لي: هذه أشياء كثيرة
الاستهلاك...
قلتُ لها: هذا لا يكفي ما رأيكِ بجهازِ للرياضة؟.
ضحكت: إنه يعيش الرياضة في أرضه وبين طيوره وأشجاره
كل يوم.
*********
لاحَظَتْ أنَّهُ مهموم. سألتهُ: ما بك؟
قالَ لها: يجب أن أقدم له هدية. لا يمكنني أن أقابل
رجلاً سيملأ قلبي بالفرح بيدين فارغتين. أنتِ لا تعرفين قيمة ما سيقدمه هذا
الرجل.
ضحكتْ: كيف لا أعرف. لقد أصابني حزنك وكاد أن يحطم
حياتي. أنا من سيقدّم له الهدية.
سألها: ما رأيك بلوحات فنية؟ أودّ أن أشتري له السوق
بأكمله.
ــ لعلك تمزح، إنه يعتبر أرضه وتلك الجبال التي تحيط
به أعظم لوحة فنية. هيا لننطلق لقد اشتقت لرؤية الابتسامة على فمك العذب.
نظر إليها، تمنى أن يرد على كلامها الجميل بابتسامة
لكنه عجز.
أعطى لمحرك السيارة المزيد من البنزين، وقال لها:
لقد كنت معي أجمل رفيقة. دائماً كنتُ أسأل نفسي ما هو الحب؟ الآن أستطيع أن
أعرفه لك بدقة. الحبُ هو أنتِ.
كانت السيارة تمضي مسرعة وكان صوت فيروز يمزق صمت
المكان الكئيب.
قالتْ: ها قد وصلنا.
قالَ لها: عرفت، أعلمني قلبي بتسرعه المفاجئ. سوفَ
أتقيّد بكل الخطوات التي سيرسمها لي كي أصل شاطئ الفرح.
راحت السيارة تتباطأ، مدَّ رأسه وسألَ أحد المارة:
بيت أبو فرح، من فضلك؟.
هزَّ الرجل رأسه بأسى وقال: لقد انتحر المسكين.
جاء الخبر مثل الصاعقة.
رددا: انتحر.
نعم، قال الرجل: لقد نهره ابنه، على ثرثرته، فكبر
عليه ذلك، فقتل نفسه في يوم ماطر، اعتقاداً منه بأن المطر يغفر الخطايا.
لم يصدقا. تابعا المشوار. وقفا قرب رجل آخر.
ــ إذا سمحت. بين أبو فرح.
ــ المسكين. صار بيته فوق. في السماء. لقد انتحر.
ــ انتحر.
ــ استيقظ ذات يوم، وجد أشجار حقل الزيتون مقطوعة
كلها. لم يحتمل. فقرب شجرة الرمان الصغيرة طمر نفسه في الثلج، لاعتقاده أن
الثلج يغسل الخطايا.
نظر إلى زوجته التي بدأت دموعها تعلن الهزيمة،
سألها: ما رأيك؟. حاولت أن تبتسم وقالت له: لا أصدق دعنا نسأل أيضاً.
توقف بالقرب من مختار القرية: كيف نصل إلى أبي فرح؟
هزّ الرجل رأسه: الأفضل ألا تصلا إليه. فالجحيم منزل
المنتحرين. قال لنا إنه سينتحر غداً فما صدقنا، ولكنه فعلها مخالفاً تعاليم
الرب، وقطع شريان يده اليسرى وراح يتفرج على دمه النافر على شجرة رمّان
صغيرة، راسماً عليها خرائط بخطوط حمراء. دفنوه بلا جنّاز، والخوري اليوم
عند المطران يسأله إن كانت الصلاة تشفع للمنتحرين... لا أظن... لكن ألستِ
مدام مادلين...
لم ترد؛ لأن السيارة كانت قد أقلعت بسرعة، ومع ذلك
سمعا صوته: لم يحضر أولاده حتى الآن، ولكن تفضلا. التعزية في منزولي، منزول
المخترة.
غيّر اتجاه السيارة.
ــ ما بك؟
ــ ألم تسمعي. لقد انتحر أبو فرح. هيا لنعد. هل يكون
سعيداً من ينتحر؟
عادا إلى البيت. كان الحزن يفتك بهما. قالت له:
سأفتش عن جديد، لابد من وجود حل.
نظر إليها، شعرَ أنها تعامله مثلما كانت تتصرف مع
ابنها الصغير. قال لها: لا مكان للفرح على ما يبدو.
في الطريق رأتْ أخته الكبيرة، كانت تجلس على الشرفة
تحدق بعيداً تبحث عن شيء ما. قالت له: مازالت على حالتها. ليتها تزوجت.
نظر إليها بأسى، وتذكر أنه منعها من الزواج بمن تحب
منذ أن كانت في العشرين من عمرها، ثم حال دون خطوبتها ثلاث مرات حرصاً على
الثروة. وفجأة شعر أن كآبته تنبع من هنا.
قال لزوجته: ليتها تزوجت.
ــ لا تندم.
ــ وماذا يفيد الندم الآن بعد نصف قرن؟
صمت قليلاً ثم طلب من زوجته أن تجهّز له النارجيلة
العثمانية النفيسة مع علب التنباك الفاخر.
ابتسمت زوجته ونظرت إليه فانفرجت شفتاه عن ابتسامة
حزينة فأعلمها بأنه سينضم غداً إلى أخته في الشرفة. دهشت الزوجة، فقال لها:
غداً أشاركها.
ــ تشاركها ماذا؟
ــ أشاركها التأمل في الغبش.
ــ التأمل!
ــ حتى لا أغتال صمتها ولا أبعثر رماد قلبها.
ــ لا تيأس. سوف تعثر على خروفك الضال.
ــ كبّري عقلك. إنه يرعى في عالم آخر.
جاء الربيع أخيراً، وصار للكتابة طعم مختلف.
لماذا نحبّ الربيع ونشتاق إليه، يا أستاذي؟
ربما لأنه يجلب لنا الحب..
وربما لأنه يحمل في جعبته تلك الطيور الساحرة..
وربما لأنه يذكرنا بأشخاص مثلك..
لعبة البكاء
ذكرى -1-
عندما ابتلعه السجن، اختلفت آراء الشلة حول مروان.
ماري قالت: ما قام به ليس تصرفاً هاماً، لأنه لم يكن
ذات يوم بمستوى أهمية الحريق.
لورا قالت: لعله حرق فشله عندما حرق هذا المطعم.
كفاح قال: أنتم مخطئون.. على المرء إذا لم يكن
بإمكانه أن يفعل شيئاً، أن يرمي حجراً على الأقل.
نور (أخت مروان) قالت: على كل حال، الأمر ليس بهذه
السهولة.. وليس بهذه الطريقة نحل مشاكلنا.. مروان تركيبة مزاجية انفعالية،
ما كان عليه أن يتصرف على هذا النحو.
أما أنا فقد لفني الصمت ورحل بي بعيداً...
ذكرى -2-
كيف أصلُ إليكِ؟
عندما كنتِ تتحدثين عن أخيكِ، كنتُ أبحث في عينيك عن
سر الحياة، وكنت أبحث أيضاً عن معنى الفشل، وأسباب الانهيار.. تمنيت أن
أقول لك شيئاً ذلك الوقت، لكن الصمت غلبني.
ذكرى -3-
هل تذكرين يوم اختلفنا حول "دمشق"؟
مروان كان يقول: إنها مملكة الجنون والضياع.
كفاح كان يقول: بل هي مدينة المواقف وقلعة الرجال
الأشداء.
ماري تقول عنها: دمشق مدينة الحب والألم
والذكريات..
كنت أنتظر ساعتها بفارغ الصبر كي تتكلمي أنت، لكن
الصمت لفك مثلي ورحل بك بعيداً...
ذكرى -4-
هل تعرفين أني حملت إليك حزني وأتيت..؟
أنت يا دمشق.. ماذا أسميك.. كيف أناديك!
فيك التقيت مع هؤلاء الأصدقاء الرائعين، منك عرفت
مروان بمرحه ولا مبالاته.. وعرفت كفاح بتحديه وعنفوانه.. وعرفت ماري
العذبة..
والتقيت بسري الأليم، أقصد نور..، طيري المسافر.
ذكرى -5-
مروان، كان عنصراً هاماً في الشلة، دائماً يشغلنا
بمرحه، ودائماً كان يقول: لقد خلقتُ للرقص والغناء، وهذه الحياة لا تساوي
ليرة دمشقية..
كنا نضحك.. وكنا نختلف..
كفاح يقول: لا.. الحياة أجمل وأغلى.. لكن لمن يعرف
كيف يتعامل معها، إنها امرأة دمشقية تعشق الرجال الأشداء، أصحاب المواقف
العنيدة.. عندما تمتلك لحظة حقيقية في حياتك تكون سعيداً.
وكنت أنتظرك كي تتكلمي.. لكنك كنت تستسلمين للصمت
مثلي.
ذكرى -6-
هل تذكرين يوم التقيتك وحيدة
قلت لي: تعال نسر معاً
ومضينا.
كان الجو خريفياً، والورق الأصفر يرسم على الطرقات
أحزاني، والسماء تبكي بهدوء..
على الطريق كنا وحيدين.. كأن الحياة خلت إلا من
كلينا.. كنت أسمع وقع خطواتك وأتمنى أن أسمع قلبك.
-غني.. قلت لك
ابتسمتِ.. يبدو أنك مللتَ مني، وتود الهروب
نظرت إليكِ تمنيتُ أن آخذك بين يدي، أبحرت في عينيك
-أحب أن أسمع صوتك
-وهل سمعته قبلاً
-دائماً أسمعه.. حتى وأنت صامتة
يبدو أن الخريف فعل فعله.. وضحكتِ
ولفنا الصمت، بينما كان المطر يناديني.
ذكرى -7-
أتى ذات يوم إلينا وقال لنا: سنلعب لعبة جميلة..
رهان بسيط، والفائز به يأكل على حساب الشلة.
ضحكنا ووافقنا.
سألته ماري، ما الرهان، يا بطل؟
-سوف نرى مَنْ له القدرة على البكاء أولاً.
ضحكنا جداً وقتها، كيف خطرت على باله هذه الفكرة..
الشقي؟
ورحنا نعيش جواً جنائزياً.. وكل منا يفتش عن دموعه،
يستحثها، يناديها كي تأتي.
كنت أنظر إليك وأتمنى من كل قلبي ألا يعكر صفو عينيك
أية دمعة.. لكن صلواتي خابت
فزتِ بالرهان.. ورحنا نحدِّق فيك بدهشة.. لأننا
أدركنا أنكِ بكيتِ من أعماقكِ..!!
ذكرى -8-
عندما بكيت، احترق قلبي.. وددت أن أسألك: لماذا
تبكين.. وددت أن أمسح بشفتي دموعك سأحرق عمري إذا أردت لكن أرجوك لا تبكي،
فدموعك تجرجرني إلى الهلاك.
بحثت بين الدموع عن عينيك.. تلك اللحظة لم أجد إلا
قلبي.. كنت تبكين قلبي يا شقية.
ذكرى -9-
عندما زرناه في السجن، كان يضحك ويغني.. وكان
يدخن..!!
-لن أموت.. لا تخافوا
ضحكنا.. حتى هنا لا تزال شقياً.
-لماذا فعلت ذلك يا مروان.. سألته ماري بحزن.
-هذا السؤال متأخر يا عزيزتي.. كل ما في الأمر أني
أردت أن يجرب غيري طعم الحريق.
دهشنا.. وقبل أن نمضي قال لنا، لندخل الرهان الآن..
لنعرف من يبكي أولاً.
ضحكنا.. وخبأنا دموعنا.. ومضينا..
ذكرى -10-
بيني وبينك شيء ما، غريب جداً مثلك يا مروان.
يوم التقيت بك، حيرتني.. لغز أنت.. تركيبة غريبة..
متى تضحك.. متى تحزن.. لا أحد يدري، أعتقد أنك مثل الجميع لا تدري أيضاً..
لكنني كنت أشعر دائماً أنك تبكي.. وأنك دائماً محترق وتلك الأيام كان
يشغلني كثيراً أن أعرف هل كانت هي أيضاً تبكي دائماً؟
ذكرى -11-
كنت تعرفين أني أحب المطر، لذلك قلت لي، أود أن
أرافقك في رحلتك المطرية.. كنت تسمينها هكذا.. ومشينا معاً.
سألتني: لكنك لم تقل رأيك بما عمله مروان.
-لا أدري، لكنني دائماً كنت أشعر أنه يود أن يبكي
عندما يعلن الرهان.. ويود دائماً أن يقول شيئاً ما.. وأنتِ لم تقولي رأيك
في دمشق.
-أعشقها.. وهذا كل شيء.
ذكرى -12-
هل تذكرين لون النار.. يوم أتيتِ إلى غرفتي ومعك
حقيبة، رقصت معي.. كنت مستسلماً لجنونك.. لا أدري ماذا تتصرفين، فتحت
الحقيبة.. أخرجت صوراً كثيرة.. أخرجت ثياباً كثيرة وكتباً.. أشعلت عود ثقاب
وأحرقتها وحضنتني.. ورحت تضحكين وتصرخين:
-أحبك أنت.. حرقت كل الزمن الذي قبلك.
ورقصنا من جديد.. استسلمت لجنونك من جديد.. غلبتني
الدهشة، وغلبني الصمت.. بينما كنت أفتش بين ألسنة اللهب عن شيء في داخلي
أقوله لك.. لم أجد.. تلك اللحظة- آهٍ ما أقسى الحياة.
لو وجدت تلك اللحظة شيئاً ما كان الأمر قد انتهى،
ولم أكن الآن أعيش أسير حيرتي.
ذكرى -13-
هل تذكرين.. دخلنا الحديقة.. وحدنا كنا، وكان المطر
يغني لنا.
ماذا سأقول لكِ.. هل أقول أحبك.. لعلك ستقولين لي
تأخرت كثيراً.. ماذا أقول.. أعطني كلمة.
سألتكِ: ماذا تتمنين أن أقول لك الآن؟
ضحكتِ: لا شيء سوى ما تشعر به الآن.
-أنا حزين
ضحكتِ.. خداك كانا يبكيان وكنت أغار من حبات
المطر...
-الحزن مرض مزمن.. ليس له دواء.. وليس له سبب
محدد..
-لكنني أعرف سببه.. أحدده بدقة
-أمرك بسيط إذاً.
ذكرى -14-
عندما سألتك يا مروان: لماذا هذا الرهان.. لماذا
لقبه البكاء؟
ضحكت وقلت لي: أي أعرف من منّا الأكثر حزناً.. لا
تصدق أحداً يبكي غير أحزانه.
ذكرى -15-
-أحبك.. هذا سبب حزني
حدقتِ في البعيد.. ضحكت.. استدرت نحوي، ورحت تبكين..
بكيت بغزارة.. حاولت أن أعرف لماذا تبكين، لكن الصمت لفني.. بحثت بين
دموعكِ عن عينيك منهما أستمد القوة.. لم أجد إلا قلبي يحترق..
ويلٌ لك، مرة أخرى تبكين قلبي يا شقية!!
***
عندما انتهى من قراءة ذكرياته، استلقت على صدره
وقالت له:
-أبعد عشر سنين تصارحني بأنك كنت تحب واحدة قبلي،
لماذا الآن؟
قال لها: لأني أحبك أكثر.
-دائماً تغلبني.
-سأصارح عينيك بحقيقة أخرى، بعد عشر سنين اكتشفت
أيضاً أني معك دائماً خاسر، وبك دائماً منتصر...
الوجه الآخر
-1-
-لا تغضب.. المشاكل هي الوجه الأول في هذا المقهى
قال لي ذلك، وهو يشدني من يدي، ويخلصني منهم.
جلستُ على طاولته، قدّم لي كأس الشاي.. أشعل سيجارة، ثم تابع مبتسماً:
-الحبّ هو الوجه الآخر.. قد تشتعل حرباً حقيقية هنا، لكن سرعان ما تتلاشى،
ويعود الفرح من جديد.. أشعر هنا بالدفء.. لكن عندما أغادر، وأصل إلى طرف
الشارع أعرف أن الضجيج قد بدأ.. لذلك تراني أمضي معظم وقتي هنا..
كان يتحدث، وكانت بين يديه كومة من المفاتيح، أثارت انتباهي عندما أنهيت
كأس الشاي، وهممت بالرحيل، جاءني صوته:
-إذا اشتقتَ لي، ستجدني هنا.
ابتسمتُ.. ثم هربت إلى الشارع.
-2-
عندما ابتلعني المطر، كنت أفكر بالوجه الآخر للعلاقة مع صديقتي.. وأسأل
نفسي:
-لماذا كلما التقينا نختلف!! آهٍ منك أيتها الصديقة التي تشبهين سنابل
القمح،.. ألا تعرفين أن بعدك يوقعني في المشاكل.. أضحك بألم، وأتذكر تلك
المشكلة التي حدثت والتي كنت طرفاً بها بالرغم عني.
كنت أهرب من المطر دون جدوى.. لازال يهاجمني بقسوة.. أركض مسرعاً، وأشعر أن
غرفتي العتيقة بعيدة المنال.
ومن خلال حبات المطر، ألمح وجهها، الذي يشبه سماءً ربيعية، يضحك لي،
ويناديني.. أمدّ يدي كي أصل إليه، فيختفي فجأة.
-3-
صباحاً، وجدت نفسي أمام المقهى نفسها- ورأيته من خلال السور الزجاجي يضحك
لي ويناديني.. شعرت للحظة أني أحبّه.. هذا الذي نبت في طريقي من حيث لا
أدري.. ركضت إليه.
-قصة حبّ فاشلة! سألني فور جلوسي.. ودون أن ينتظر، طلب لي كأساً من الشاي
وأشعل سيجارة، وتابع كلامه:
-خارج هذا المقهى، لا يوجد إلاّ العبث، والأمور السيئة.
سليمان الخواجة.. هذا هو اسمي، وعمري أربعون سنة.. أعمل كل ما يطيب لي..
قد أمضي أياماً كاملة بلا عمل.. لا أشعر باليأس، ولا بالحزن.. بل قد أشعر
بالفرح أقضي معظم أوقاتي هنا.. أراقب الناس.. وجوههم خاصة.. أبحث فيها عن
الفرح الغضب.. والشقاء.. والليالي اللامعنى لها.. أفرح وأحزن معهم. وأحلّ
المشاكل.. لذلك سموني الخواجة.. ولا أعرف لماذا.. لكنه ذات يوم، قال أحدهم
عندما رآني قد دخلت المقهى: جاء الخواجة.. ومنذ ذلك الوقت، صار اسمي:
سليمان الخواجة وصار لي كلمتي هنا.. ربما لأنني أكثرهم تواجداً.. وأقلهم
تعاسة.
كان يتحدث بطريقة ممتعة.. وكنت منشغلاً بكومة المفاتيح التي يلعب بها..
وخلال أقل من دقيقة عرفت أن الجميع هنا يملكون مثل هذه الكومة.. مرمية على
طاولاتهم.
-لمَ كل هذه المفاتيح.. سألته مندهشاً.
نظر إليَّ، وضحك بغزارة
-ألم ترَ في الخواجة إلاّ هذه المفاتيح.. يا صديقي..
هذا مفتاح البيت.. هذا مفتاح المكتب.. وهذا لمستودع الإسمنت.. وهذا
للسيارة.. وهذا.. توقف لحظة- ثم قال: ما رأيك أن تهرب إلى المطر.
-لا أحبه.
-هيا، قالها آمراً.. تعال بسرعة.. وأخذني من يدي.
وسرعان ما وجدت نفسي أسير إلى جانبه.. ومثل لصّين، كان يطاردنا المطر.
رحتُ أراقب ناس الشوارع، كما يحلو له أن يسميهم، فلقد قسَّم الناس إلى
فئتين:
الأولى: توجد في المقهى، ويوجد لديها الوجهان
الثانية: توجد في الشوارع، وليس لديها إلاَّ الوجه الأول
كانوا يسيرون مسرعين، وكان لكل منهم كومة من المفاتيح، قد علقت بجانب
بنطاله.
لمَ هاجمني هذا الموضوع الآن!.. لعلّه الملل.. كلما ابتعدت عنها، تصيبني
حالة من الملل كان صديقي يتحدث.. وكنت منشغلاً بمللي، وبمراقبة المفاتيح..
الشيء الغريب هو كثرتها لم أرَ أحداً لديه مفتاح واحد، أو اثنان..
-هل رأيت.. جميع الناس يحملون مفاتيح كثيرة.
نظر إليَّ ساخطاً: إن هذا الموضوع يشغلك جداً على ما يبدو.. انسَ المفاتيح
وانظر إلى وجوههم.. عيونهم، سترى ما هو أكثر أهمية.
يجب أن تعرف إن الإنسان يكون سعيداً كلما نقصت مفاتيحه أكثر..
المطر لازال شديداً.. وأنا لازلت أفكر بالسعادة، وعلاقتها بالمفاتيح، وبهذا
الرجل الذي أتاني من كوكب آخر.. أراه سعيداً، ومفاتيحه كثيرة.. أحاول أن
أجد حلاًّ لهذا اللغز.
التفتُ إليه.. كان يبحث عن مفتاح، حرره من السلة، وقدمه لي قائلاً:
-خذه.. سوف تحتاجه.. هذا مفتاح قلوب النساء.. وبه ستحل مشكلتك.
أخذته مبتسماً.. صار عندي مفتاح.
أتذكر الآن ما قالته لي صديقتي التي تشبه طيور الشواطئ: إنها من أطفال
المفاتيح.. وقسمت لي الأطفال إلى قسمين: أطفال المفاتيح وهؤلاء يعودون إلى
بيوتهم وهم يفتحون الباب.. وأطفال يعودون، وتفتح لهم أمهاتهم.
تلك الفترة لم يشغلني هذا الأمر.. لابدّ أن ألتقي بها هذا المساء، أو يوم
غد على الأكثر إنها لا تقدر على فراقي.. لكنني أعرف أننا سنختلف من جديد.
ضحك كما لم أره يضحك من قبل.. بل لم أر إنساناً يضحك بمثل هذه الطريقة..
رأيت حبات المطر كيف تدور مسرعة حول شفتيه وتتناثر..
-ما بكَ.. يأتيني صوته متواقتاً مع يده التي انهالت على كتفي الأيسر نظرتُ
إليه.. لعلّه تحدث كثيراً عن الناس، والوجوه، دون أن أسمعه
-لا شيء.. فقط أشعر بالبرد
-لا بأس.. ها قد وصلنا إلى منزلي.. تعال نختبئ به قليلاً.. ونشرب شيئاً من
الشاي وقفنا أخيراً أمام باب منزله.. أخرج كومة المفاتيح من جيبه. وراح
يحاول فتح الباب.
كنت أراقب كيف يتعامل مع مفاتيحه بصبر..
-هل رأيت.. ماذا تفعل كثرة المفاتيح!
وراح يبحث من جديد عن المفتاح المناسب.. لكنه لم يجده
نظر إليَّ.. حكَّ شعر رأسه.. أتاه صوتي منعشاً،
-لعلنا أخطأنا البيت.
أخذني من يدي.. وانفجر ضاحكاً.
سقطت دموعه.. مسحها بيده، وقال لي:
هي قالت لي: اختلافنا هو خبزنا.. فلا تحزن
-علينا أن نرجع إلى المقهى.. على ما يبدو
رائحتها العطرة
-1-
عندما رأيتها، حدثَتْ الأمور التالية:
1- تغيّر اسمي من عبد الناصر، إلى أبو الورد
2- صرت أهرب أثناء أوقات العمل
3- صارت تهاجمني حالة من الشرود
4- تعلمت التدخين، السهر، سماع الموسيقا، وشرب الشاي
-2-
أعود إلى تلك الأيام، وأهرب إلى زاوية للصمت أبحث فيها عن معنى لوجودي..
في يوم ما.. في شهر ما.. في سنة، ولدتُ، وسموني: عبد الناصر.. أسأل نفسي:
أية آفة تلك، قدمها والدي لهذا العالم وأضحك من أعماقي.. لكنني بالرغم من
ذلك تخرجت من كلية الهندسة المدنية، وعينت في الشركة العامة للبناء، ورأيت
أمي تبكي.. عندما سألتها، قالت لي: إنها دموع الفرح.. وتركتها تصلي.
لكن وبعد مرور خمس سنوات، وجدت نفسي خارج حدود تلك الشركة وذلك بناء على
طلبي.. ومرة أخرى رأيت أمي تبكي لكن هذه المرة لم أسألها.
في كافة الأحوال غدا عبد الناصر في مكتب لشراء وبيع السيارات المدنية
والمستعملة.. وتغيرت أحوالي دفعة واحدة.
أعرف أن الحياة جميلة.. لكن ينقصها القليل من الهدوء والطمأنينة.
- وقليل من الحظ.. هكذا يضيف مدحت الوادي
المكتب لا يخلو من الناس الثابتين والعابرين.
أما مدحت الوادي،.. إبراهيم الصافي،.. وأبو صفا، وهم شركائي في المكتب، فقد
أخذ كل منهم كرسياً لا يغيرها.. ومنذ وصولهم يوضع أبريق الشاي الكبير الحجم
على النار، ولا يرحمونه من غضب النار حتى يغادرون المكتب.
أما عبد الناصر فيقضي وقته يسمع، ويراقب الشارع.. ويضحك أحياناً.
-3-
أنا إنسان عادي..
هذا التعبير أخذته من أحد الأصدقاء الذين عاشوا معي أيام الجامعة.. كان
يردد دائماً هذه العبارة فيقول:
"إن ذلك إنساناً عادياً.. وهذا إنسان غير عادي"
كنا نضحك وقتها.. عندئذ يشير إلينا بإصبعه: وأنتم أناس عاديون.
إذن أنا عادي.. ليس لي أحلام، بل أعتبر أحياناً أن الحياة تمضي بشكل سيء
وخاصة في هذا الشهر من السنة. شهر أيار، أكرهه جداً.. كل المناسبات السيئة
حدثت فيه.. وكان آخرها تركي للشركة بالرغم مني..
أحياناً يقودونك إلى زاوية ضيقة تجبرك على القيام بعمل يفرحك وقتها، وتندم
عليه بعد ذلك..
لكن عندما رأيتها، شعرت أن تياراً كهربائياً يخترق الشارع العريض، ويمتدّ
إليّ.. تابعتها للحظات.. ثم صحوت وكأنني في حلم لذيذ..
ما الذي حدث!.. غيبوبة للحظات.. أخذت نفساً عميقاً، ورجعت إلى مجتمعي
الصغير.
-4-
ليلاً عادت إلى ذاكرتي، وشعرت بنشوة ساحرة.
انتظرت بفارغ الصبر كي يأتي الصباح، وصليت لأول مرة في حياتي كي أراها تعبر
الشارع العريض الذي طالما كرهته.. تسمرت على الكرسي منذ الساعة الثامنة
صباحاً بعد أن أعددت إبريقاً من الشاي..
وجهت الكرسي نحو الشارع..
الأصدقاء أصابتهم الدهشة..
- هل أنت زعلان منا يا عبد الناصر
- اتركه.. وجوده، أو عدمه سيّان
لم أكن أسمع ما يدور حولي.. ولم يكن يهمني أن أسمع.. الذي يشغلني ذلك الوقت
أن تمرّ.. ثم لاحت.. فانطلقت وراءها مسرعاً دون أية كلمة.. دهش الجميع
وخرجوا ورائي وراحوا يضحكون.
بعدما رجعت إلى المكتب، أمضيت ساعة كاملة من الصمت.. وكأنني نسيت الكلام.
كلهم كانوا يشيرون إليَّ ويضحكون.. وكانوا يقولون: إنه أبو الورد العاشق.
عندما استيقظت من غفوتي، سألتهم: لمَ هذه الفوضى!
ضحك أبو صفا: "أبعد هذا الصيام تفطر على بصلة"!
مدحت الوادي قال: الحب أعمى يا أبو صفا
إبراهيم الصافي عندما انتهى من إشعال سيجارته تدّخل: اتركوا المخلوق
وشأنه.. هل صار العشق جريمة.
- فليعشق.. لكنني لم أر أية ظاهرة جمالية في هذه المرأة.. كيف طار إليها،
هذا الذي كان أقسى من الحديد..
شيء يثير الدهشة.. أجابه مدحت الوادي.
كنت أسمع حديثهم وقد لفنّي ورحل بي إليها.. بينما كان قلبي ينتظر أن يعود.
-5-
في البيت الذي أعيش فيه مع والدتي، كانت أمي قلقة، لم تستطع أن تنام تلك
الليلة.. راحت تراقبني وقد وضعتُ أبريق الشاي على طاولتي الصغيرة.. وعلبة
سجائر.. كنت أدخن لأول مرة.. واحتسي الشاي بنهم شديد وكنت هارباً إليها.
سألتني وقد جلست بقربي: عبد الناصر.. هل هنالك مكروه!
ابتسمت: لا شيء.. أمي، اذهبي إلى النوم.. وقبلتها.
لكنها عادت بعد ساعة فوجدتني كما تركتني.. مما أثار قلقها أكثر.. نظرتُ
إليها، رأيتها تبكي.. ثم اختفت.
لا أدري ماذا حدث بعد ذلك.. لكن على الأغلب، سرقني النوم في وقت متأخر، بعد
أن أنهيت أبريق الشاي وعلبة السجائر.
-6-
صرتُ أصل إلى المكتب فأجدهم قبلي يشربون الشاي.. وهذا لم يحدث أبداً قبل
ذلك.
- ما القصة يا أبو الورد..
- لقد غلبني النوم
- تقصد غلبك العشق
- وهل هذا عيب!
- العشق أجمل شيء في هذا الكون، لكن يجب أن يكون المعشوق جميلاً يسمو
بالنفس..
انتبه لنفسك يا أبو الورد.. لستَ صغيراً، كي تقع في هذه الحفرة.
لقد أغضبني كلام مدحت الوادي..: لماذا تتحدث بهذه الطريقة.. كيف ترون
الأمور.. لماذا لا يعيش الإنسان لحظة حريّة!
- انظر إلى نفسك.. أية مصيبة هذه.. ما بك! أجاب الصافي.. وتابع: لعلك جننت
يا رجل.
في هذه اللحظات كانت تمرّ، وكانت تسبقها رائحتها العطرة.. نظرتُ إليهم..
وقفوا في طريقي.. سدّوا الباب لكنني خرجت بالقوة.. وتبعتها، وتبعني مدحت
الوادي.
-7-
فور عودتي إلى المكتب، كانوا بانتظاري..
حدقوا بي، وعلى وجوههم نار الغضب.. وكانوا يدخنون
- ما القضية.. سألت مازحاً
- عبد الناصر.. ابتعد عنها. قال ذلك مدحت الوادي
جلستُ وراء الطاولة.. ورحتُ أراقب الشارع.. أشعلت سيجارة.. أصابتهم
الدهشة.
- أصبحت تدخن يا أبو الورد!
- ما القضية.. أعدتُ السؤال.. بعد أن طردت الدخان من صدري ورحت أراقبه.
- عبد الناصر.. لسْتَ صغيراً.. وليسَتْ جميلة.
- لا أدري كيف يتحدثون عن الجمال.. وعن الحب.
- لعلك تريد أن تخسر صداقتنا يا أبو الورد.
شعرت بالغضب يمزق صدري.. ما بالهم.. لماذا يريدون أن يشعلوا حرباً لا مبرر
لها..
جلستُ صامتاً حتى صارت الساعة الواحدة.. نظرتُ إليهم، ودون أية كلمة خرجت..
وخرج ورائي مدحت الوادي.
في البيت، ألجأ إلى مسائي الطويل.. وسجائري، وإبريق الشاي، وأتوه في سفر
ناعم.. أتذكر تلك المرأة التي أدخلتني في مشكلة لا أعرف سبباً لها بينما
أمي تراقبني وتحبس دموعها.. تهاجمني أسئلة سيئة.. لماذا يتدخلون في حياتي!
أي مبرر لهم..
أسهر حتى يغلبني النوم، وطبعاً أكون قد أنهيت أبريق الشاي وعلبة السجائر.
-9-
صباحاً توقظني أمي.. أسمع همهماتها.. وصلواتها، وهي ترمي بقايا الليل..
وقبل أن أمضي إلى عملي أسمعها تقول لي:
- انتبه إلى نفسك يا بني.. الحياة غير الذي تفعله.
أما في المكتب فإنني أصل متأخراً.. أجدهم عابسين ولا يردون سلامي.. لكنني
أرى مدحت الوادي وقد جلس مكاني يدهشني تصرفه..
- هل تسمح لي بالجلوس.. أسأله بلطف.
- لا أعتقد أن هذا المكان مكتوب باسمك. أجاب دون أن ينتبه لي.
آخذ كرسياً.. وأشعر بالحزن.
- لماذا تعاملونني بهذه الطريقة المرعبة.. هل تودون أن أترك المكتب.
- لا.. أجاب الصافي، وأكمل: نرغب أن تترك هذا الطيش
- إذا كنت تنوي الزواج، غداً أزوجك، قال ذلك مدحت الوادي بعصبية.
أبو صفا أيضاً كان له رأي لم يتوانَ أن يقوله: بنات كثيرات يركضن إلى إشارة
منك.
أضحك من أعماقي.. أنظر إليهم واحداً واحداً.. تراودني الأسئلة السيئة
نفسها.. أرى الحزن في عيونهم.. أضحك.
- هل ترى أن الوضع مضحك يا سيد أبو الورد.. يسأل الصافي غاضباً.
أودّ أن أقول لهم شيئاً ينهي المشكلة بشكل نهائي.. لكن رائحتها العطرة تسبق
كلماتي.. أنظر إلى الشارع فأراها أقف.. أنظر إليهم.. أهزّ رأسي بحزن:
- أنتم حمقى.. الأمر ليس بيدي.
أركض وراءها مسرعاً، لكن هذه المرة لا يتبعني مدحت الوادي.
|