أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 15/08/2024

الكاتب: أحمد محمد ضحية أحمد-السودان

       
       
       
       
       

لا وطن في الحنين-رواية

السرد والرؤى

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

-مواليد مدينة كوستي نوفمبر 1971   

-دبلوم الترجمة كلية( الآداب والعلوم )– جامعة أم درمان الأهلية.

-كاتب وصحافي مقيم بالقاهرة.

-محرر بصحف (أخبار اليوم –الأسبوع – الأزمنة – الدستور : 1998- 2002).

-كاتب مشارك بصحيفة الصحافة 2000- 2001

-مسئول النشاط الثقافي ببيت الثقافة لخرطوم 2002

-عضو دائرة الأدب والنقد (المجلس الأعلى لرعاية الثقافة والآداب والفنون) 2002

-رئيس قسم التحقيقات بالصحافي الدولي (2001 – 2002).

-رئيس القسم الثقافي بالصحافي الدولي (2001- 2002).

-مسئول تحرير نشرة"إضافات" – مركز الدراسات السودانية 2003

-مساهمات في الندوات الأدبية والفكرية كمحاضر 1998-2004(الخرطوم - كوستي– القاهرة ).

 

إصدارات:

-دروب جديدة – أفق أول (بالاشتراك مع مجموعة من القصاصين) منشورات نادي القصة السوداني بالتعاون مع دار نشر الشريف الأكاديمية (2002- الخرطوم).

-مار تجلو – ذاكرة الحراز (رواية) عن دار عزة للنشر الخرطوم.

-الاثنية والديموقراطية (بالاشتراك مع كتاب آخرين) عن مركز الدراسات السودانية الخرطوم 2003

 

تحت الطبع:

-لانجور – مناخات التحفز (رواية) .

-لا وطن في الحنين (رواية من جزأين).

-نافذة للحنين – نافذة للشجن – مجموعة قصص قصيرة .

-السرد والرؤى (دراسات في القصة القصيرة السودانية).

-كتابات منشورة في العديد من الصحف والمجلات السودانية والعربية . والصحافة الاليكترونية.

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتب

الصفر

أغنية لطائر الحب والمطر

تجليات الميرم كلتوم

قصص قصيرة 

النوة

نافذة للحنين

حب

أرض النبؤات - القسم الثاني

أرض النبؤات

 

 قصص قصيرة

 

أصدقاء ..

 

على حافة الحلم المنهار , في زمن متداع , تعرفوا عليه , وتعاهدوا في صمت على " معنى الصداقة " . ربما , ما يحكى عن صولاته وجولاته في السياسة وكتابات الهتاف , هو ما دفع ثلاثتهم لمصاحبته ..

بعد أن أطلق الأمن سراحه , من آخر اعتقال , منذ صادقهم . فوجىء باختفاء الصديق الأول , ونقل إليه الصديقين الآخرين :" انه يحرص على نفى اى صلة جمعته بك !" .. فلم يعلق .

أفصح عن انزعاجه من عدم معاودة خطيبته له , منذ خرج من المعتقل . وبعد تردد طويل , من صديقه الثالث , -الذي كانت عيناه تحملان إفادات غامضة عن سبب عدم زيارتها له -.اخبره :" لقد تركتك , لخوفها من عالمك غير المستقر . وعما قريب ستعلن خطبتها على صديقك "..انطوى على حزنه , وآلمه أن يفقد صديقين , فاخذ ينظر إلى الصديق الثالث , بعينين لا قرار لهما , ويراقب محاولاته الدءوبة لإثبات انه ليس كالصديقين الآخرين .

القاهرة سبتمبر 2004

 

لاجىء ..

 

فتح باب الشقة , وهو يعتقد إنها تنتظره كالعادة . فوجىء بأنها غير موجودة . انتظرها وهو يكاد يتميز من الغيظ .

بعد منتصف الليل بقليل دخلت .. باغتته بالارتماء على حضنه وهى تقول : " كنت في حفل وداع إحدى الصديقات , اللائي سيسافرن غدا إلى أميركا ..وحدثت جريمة قتل .. صديقة أخرى قتلت حبيبها في الحفل .. و .."

انتزع نفسه  من أحضانها مأخوذا :" قتل ؟!.." .

" اكتشفت أثناء الحفل انه يخدعها ولن يضيفها إلى ملفه في إعادة التوطين  عبر الأمم المتحدة .كما وعدها , بعد أن آوته وعملت في البيوت لتصرف عليه في هذه الغربة القاتلة ..خانها مع أخرى , أضافها لتسافر معه بدلا عنها , فقتلته ..

ابتلع ريقه الجاف , وهو يبعد نظراته عن وجهها الذي بدا له خبيثا جدا ..

القاهرة أكتوبر 2004

 

أطفال..

 

في مثل هذه الساعة من كل يوم , يمر غريبا بينهم . فيصرخ فيه الأطفال الأشقياء : " بونقا .. بونقا .. شيكولاته .." ..

ويسأله آخر :" عمو الساعة كام ؟ .. " ...

يفهم أن المقصود هو أن ينظر إلى لونه الأسود . يضحك الأطفال في سعادة , دون أن يتدخل أهلهم ..

وأحيانا , في المترو , في وضح النهار , وهو منتصب بلونه الأسمر . يتهامس شابين أو ثلاثة : " هي الدنيا ضلمت كدة ليه .." ..

فيتذكر وطنه وهو يتمتم : " انه ثمن الغربة .." ..

القاهرة 2003

 

نوبل..

 

كلفه مدير التحرير بإجراء حوار مع الكاتب الحائز على نوبل . وبعد أن حصل على رقم التليفون , اتصل به .. و عند اقتراب مواعيد المقابلة وهو متوجه إلى الحي الذي يسكنه الكاتب الكبير .. تنازعته مشاعر وأفكار شتى , عن جيران الكاتب " لابد أنهم يحبونه كثيرا " ..

وعن سكان الحي " لابد أنهم يعرفونه كلهم .." ..

في أول الحي سأل احد المارة بثقة :" عايز بيت الأستاذ.. "

" أنت متأكد انه يسكن معنا هنا ؟!" ..

شعر بالإحباط وسؤاله يتكرر بطول الحي وعرضه حتى تملكه التعب واليأس. وبعد ان اهدر وقتا طويلا وجد شخصا واحدا فقط يعرفه !..

الخرطوم 1999

 

 

الصفر..

 

(إلى صديق جميل . عارف بأسرار الصفر : علاء الدين بشير..

محبة وود .. إنها , لك .. أنت , وحدك .. لا شيء ..)

 

قالت لها العرافات : (ستخرجين من عتمتك إلى إشراق , يملؤك بالنور . فلا ترين سوى دربا اخضر , وجدر تسلقتها نباتات الخريف, وبين بين نهرين من اللبن والخمر , على ضفافيهما تنهض أشجار المانجو , التي تغرد بين تلا فيفها الطيور الملونة , وتجلس تحتها الطواويس والغزلان ..

ستخرجين من عتمتك إلى بوح ندى , يخاطبك الناس بالشعر , فتتكلمين بلغة العصافير , وتدركين أول الأنبياء .. تحكى له عن طي الزمن , والمسافات , والوجوه المغبرة , وعكرة خلفتها وراءك . فيبادلك الحكمة , ويبتسم ثم يسجد ..

تنتظرينه وتنتظرينه , لكنه لا يرفع من السجود . فتغادرين إلى الإشراق .. ) ..

خرجت خديجة من الغرفة المعتمة , دون أن تعير ولد العرافة الصغير , المتكيء على مواربة الباب , التفا ته . مضت في الدرب الملتوي , تتجنب المستنقعات والبرك الصغيرة , في الزقاق المظلم . وتخشى أن تهاجمها كلاب الحي على حين غرة ..

وهى تخلع ثيابها حائلة اللون , لترتدي قميص نومها الداكن , الخشن , سألتها أمها بلامبالاة :

* أين تأخرت كل هذا الوقت ؟!..

فأجابت باقتضاب وهى تستلقي على سريرها :

* اخذتنى مريم إلى جدتها العرافة ..

كانت صديقتها الوحيدة مريم , قد ألحت عليها , بالذهاب معها إلى جدتها العرافة , ذات المهارات المتعددة __ ( فهي تخط الودع , تقرا الكف , تضرب الرمل وتفتح الكتاب .. بعد أن تضع أعواد البخور , على المباخر العديدة المنتشرة في الغرفة الضيقة , الصغيرة , بضؤها الكابي , الموحى .. ليتصاعد الدخان السحري , محيلا الرؤية إلى ضبابية , متقشعة . مسربا الخدر , والإحساس بالوجع اللذيذ . الخفي . في كل شيء ..حتى قطع الأثاث العتيقة ..

كانت مريم دهشة للسؤال الذي يطرحه حال خديجة , فهجست بالإجابه عن هذا السؤال . بإحضارها إلى جدتها , ولية الله الصالحة بنت يونس , التي ولدت مختونه , وعزفت عن طلب الرجال , إلى أن تقدم بها العمر , وصارت من القواعد .. لكنما , ماء شبابها , كأنه لم يغيض . إذ لا تزال نضرة , لم يغشاها غضن , ولم يخط عليها شيب .. وعندما حدثت مريم جدتها . تبسمت الجدة عن أسنانها الناصعة ,المكتملة , ولم تنبث ببنت شفة ...)__ في البدء رفضت خديجة الذهاب , ثم لانت . كأن قوة خفية نهضت فجأة , لتدفعها دفعا .. وعندما خرجت من غرفة الجدة , كانت مريم قد اختفت من الصالة , حيث تركتها قبل أن تدخل على الجدة , التي مضت بها في دروب ذلك العالم البرزخى , تدفعها دفعا لقطع وهاده وسباسبه , إلى أن توقفت عند شجرة ( اللألوب) في المنتهى .. فتركت خديجة تسير وحدها , كطيف سابح في بحر من النور الكلى ..

لم تبحث خديجة عن مريم , وغادرت بيت الجدة في عجلة , وهى تتعثر في قطع الأثاث بطريقها . دون أن تشعر بها . إلى أن لفحها تيار هواء بارد , فأدركت أنها بمنتصف الزقاق المفضي إلى الشارع الرئيسي ..

كانت خديجة منذ طفولتها كغزالة نافرة , فعندما تبدأ الفتيات في لعبة ( الحجلة أو عريس وعروسة , الخ ..) تقصى نفسها ك ( وزينه ) على ضفاف بحيرة شاسعة . لا تريد التوغل .. تتركهم يمرحن وحدهن . وتراقبهن وهى  تنشد :

( الزار عينا في كبد البوصة .. ني , ني .. مونجيض ,,

الطير كلى البر سوسة ...

الزار عينا في كبد الغابة .. ني , ني .. مونجيض ,,

الطير كلى الورتابه .. )

وظلت هذه الأنشودة , تعزية وحدتها . منذ ذلك الوقت . وكانت حين ترغب في فصل نفسها عن العالم حولها , تتوغل متسحبة إلى داخلها وتدخل في حالة لا شعورية , وتبدأ في ترديد أنشودتها المحببة , بصوت عميق , ملؤه الأسى واللوعة . كأن طقسا بكامله , تؤديه جوقة من الرهبان .. إلى أن يخترق صوت مريم كالمعتاد , في كل مرة عالمها الطقسى :

( الناس عر سو .. أنا في النميم يا يابا ... )

هكذا تشرخ مريم عالمها في كل مرة , فلا تملك سوى أن تنظر إليها بمحبة , وتمسح حبات العرق من وجهها , وتبتسم دون تعليق ..

سنوات غربتها تمضى بخطى وئيدة , كتسحب الشمس شيئا فشيئا , قبل أن تغيب . وطفل مريم الذي أرسلت لها صورته - في السنة الأولى لولادته - يكبر . يصير صبيا , وسيما . تطل شقاوة أمه من عينيه . تبتسم خديجة عند هذا الخاطر , وتدخل أخر الصور -التي أرسلتها لها مريم قبل شهر , للصبي الذي صار شابا أليف الملامح , صبوح الوجه - في إطار مذهب حذاء التسريحة ..

في غربتها المترفة تنفتح حياتها على بوح قديم , ظنت إنها خلفته وراءها .. بوح يطل برأسه من رحم الماضي , بين آونة وأخرى .. يخز رغباتها الغامضة : التي ليست لديها فكرة واضحة عنها , فقط محض رغبة في التلظي والتشظى .. تخرج منها إلى صلوات سرية طويلة , تختمها بتلك الأنشودة التي تحبها , دون أن يخترق صوت مريم عالمها الطقوسى ويشرخه ...

تتفجر كوامن شجنها لوجه غامض , تعرفه ولا تعرفه . يجيء بملامحه المبهمة , من خلف ضباب المغيب , لحظة ما قبل الفجر الغامضة ..

يصبح كيانها كله مشدودا كوتر كمان , عميق الجرح والآهة , أسيان كندى فجر شاحب .. يخرج ابن مريم من الصورة , يعزف حتى تكل يداه من العزف المنفرد , فيتوقف عن العزف , وتخرج مريم , من سطور الخطاب .. تشد الوتر - وجدان خديجة - وتعزف نغما مألوفا , عن الشجن والترقب , فتهتف فيها بكل التحفز العميق : ( انه هو ) !.. فتتوقف عن العزف .. تستند على ساق النخل , كالمنهارة . تدخل فيه , تتلاشى !!.. وعبثا يطول انتظارها لخروج مريم .. كانت مريم قد احتضنت ابنها , وغابت في سطور الخطاب ...

تعيد خديجة الصورة إلى التسريحة , تلوكها الهواجس والظنون , فتحترق بنيران الأسئلة , إلى أن يأخذها النوم , وتمضى بها الأحلام إلى عالم مضيء .. تتلفت حولها لترى مصدر الضوء , وعبثا تبحث .. فاضاته من اللا مكان : لا شرق . لا غرب , لا شمال أو جنوب ..تتسلق حائطا اخضر . يبدو لها ناعما . وتسبح بعده في نهر الخمر . تتشرب مسامها بالخدر . وتتسع رؤاها ورؤيتها . , فتدرك الضفة الأخرى منهكة , وهى بين الصحو والنوم , تحط على كتفها يمامة , وتقترب غزالة , لتجلس إليها في حنو . تحكى لها عن الذي وجدته ملقى على شاطيء البحر , وحيدا , ينضح بالعذاب . فسقته من ثديها ( كان ينضح بالعذاب !) .. تؤكد , فتقول اليمامة : ( العذاب غسول الصالحين ) .. وتحلق , تحلق .. لتجد خديجة نفسها بين منزلتين ...

لطالما حلمت في تلك النهارات البعيدة , بوجهه غجري الملامح . يأخذها من قلب حلقة ( الذكر ) , ويمضى بها في مسارات غائظة بالتوجس , مشحونة بالمغامرة , بين احتمال موت جدير بحياتيهما , وحياة لا تدركها تلك الهواجس , التي عانتها في أسى والتياع , بانتظاره المضني !!!...

كطاقة بعث - كانت حياتها - تخرج من قلب دهاليز التاريخ وأزقته وحواريه , في مدنه المدفونة .

طاقة تتفجر هكذا , كبركان . تجتاح حممه كل شيء . لتدفعها دفعا لارتياد عوالم لا تدركها . فقط تحسها . وتكاد تتلمسها . بأناملها التي ترى ما لا يرى !!!.. ..

حاولت أن تغلق قلبها دونه , لكنه ينفتح على شبح وجهه , غامض الملامح . وجهه المحزون . بخذلان حوارييه . وخيانة الصديق القريب .

وجهه المندفع من عالم سرمدي , بعيد , بعيد . لا تدركه الأبصار . .. فتهتز خديجة كنخلة , في مهب الريح , يحاصرها التساب .في غمرة الإدراك لوجودها غير المدرك ..وتمضى في رحاب عالم تصله ولا تصله . وإذ تصله لا تجده . وهو فيها . وهى فيه . يتماهيان . فلا يصبحان واحدا . بل صفرا . مركزا للواحد . . وواحدا على هامش الصفر .. ( تتوحد ) فيه , للتلاشي , معا . ولا يعود لهما وجود : ( صفر ) .. وخز شفيف وشقي , يجبرها على طرد هذا الخاطر , وخز يتكون كدمل . يتحفز للانفتاح على نافذة متربة . بتعاقب الفصول . ..

لثمة خفية تنزعها من مكانها , تتلفت حولها , وتستكين . خدر , بلسم يهديء صبوتها .. عذابها الجرح .. فتترقب وجهه أكثر , وجهه الغامض يلوح من شفق المغيب , فجأة , كما صعد فجأة , تاركا صالبيه : حيارى , وهم مروعين مما شبه لهم , في ذلك الفجر الذي ينذر بالمخاوف - .. يمضى بها , يعلق أحلامها , ويعزف على الكمان , أغنية الانتظار - للتي طال انتظارها الجرح العذاب - لمخلصها من عذابات الوصول (العذاب .. العذاب , غسول الصالحين ..) .. تضج بانين الشجن , وتأوهاته , الم الغربة , القاحلة واحتراقاتها .. هذا الموت الذي يدنو منها , ليقودها إلى ( الفناء ) , مبددا تصوراتها ..

ذاك الوجه الغامض , الذي يتبدى عن أوتار الكمان , وتلافيف الشجن عصى البوح .. يقلق وحدتها .. تتشظى به , فيمضى أكثر لوعه والتياع , ويمضى ولا يجيء .. يغيب في سرمديته ...

وتحت وطء الانتظار تغوص , في أرخبيل شائك . يدفعها الشوق . تعبره ملأى بالجروح المتقيحة , تتمدد تحت نبات( اليقطين ) .. تتشكل معها ( هوية واحدة ) : - محض نور ...

اطل وجه العرافة المقعدة , كانت منتصبة . تتقدم تجاه خديجة ببطء , تعبر إليها من مكان بلا ملامح , حيث تقف في الغياب .. تبدل وجه العرافة , حل محله وجه ابن مريم شابا فتيا , متلفعا ببردة الكتان , الناصعة ذاتها .. تقدم منها فاتحا ذراعيه .. لحظتها كانت أحلامهما ( هي ومريم ) قد غلب عليها الغموض و الألق ..

كان قد اقترب منها .. استحالا إلى لا شيء . تبددا في الضؤ , الذي يغمر أسقف البيوت الواطئة , الشجر , أوكار الطيور , جحور القوارض , حظائر الحيوانات الأليفة , ووجوه المارة .. عابري السبيل ...

تتلاشى ذكرياتها القديمة , لتتشكل اللاذكريات . يتلاشى الحنين إلى الحنين . ذكريات الطفولة , شارع البيت , أشجار الحوش الكبير , قهوة منتصف النهار , الطريق إلى محطة المواصلات وعاصمة بلادها الملبدة بالحذر .. حنينها لأسرتها , لعالمها ذاك .. الناس والأشياء .. يتلاشى كل شيء .. يتشكل فقط وجه الحبيب , في بردته الكتان , الناصعة . يقترب شيئا فشيئا إلى سطح عالم الحنين المنهار .. ليحل مركزا لوجودها وكيانها وحسها .. يلعبان اللعبة ذاتها : يكر فتفر . تفر فيكر .. ويدهمها ليلا ليخطف منامها , ويقطف وردة جرحها , ليغذى الحنين من بوح تلك اللحظات الغامضة , التي ربما عاشاها أو لم يعيشاها معا أو عاشتها خديجة لوحدها !.. فقط تشعر خديجة بمريم , تتقمصها , وابنها يحتضنها حتى تئن ضلوع خديجة . ويغلبها التمزق والإرهاق , فتغرق في النوم ...

احلامهما ( هي ومريم ) غلب عليها الغموض والتوجع , المستمد من أعماق غربتيهما , ركاميهما , البلى الذي حاصرهما , وكل التخثر الذي حاولتا تمزيق أغشيته , للإفلات من تبدد الزمن والمكان , والشروع في الحلم ...

القاهرة ابريل 2004

 

 

 تجليات الميرم كلتوم

 

عثر الحلاج , ولم يكن في زمانه من يأخذ بيده ,

ولو أدركته لأخذت بيده .

الإمام عبد القادر الجيلاني.

---------

كنت واقفا أمعن فيهما النظر , إلى أن تلاشيا في الشارع الخالي إلا منهما . فرددت بصري ,وأنا أشعر بميدان التحرير يمتليء فجأة بالناس , ويهيمن الضجيج على شارع القصر العيني . والزحام يعيق حركة المرور , في الشارع المفضي إلى طلعت حرب .

كانت الحياة قد عادت إلى طبيعتها , في اللحظة التي تهشمت فيها طبيعتي , بعد أن دهستني عربة النقل الكبيرة وساوتني مع الإسفلت .. و حتى الآن لا أدري , هل ما حدث أمامي حقيقي , أم هو وهم تخيلته .. هل الميرم كلتوم , التي عرفتها في طفولتي , هي ذاتها الشيخة كلتوم التي اختفت أمام عيني قبل قليل ؟؟ هل هي ذاتها , التي غيرت حياتي , عندما دخلتها فجأة في ذلك المساء , عند مدخل ضريح السيدة زينب ؟!.. هل هي ذاتها هذه التي غيرت حياتي مرة أخرى , لحظة رأت عبد الرحمن ود التوم , فاقتربت منه , ومدت أناملها تخاصر أصابعه ,ومضيا معا , ليتلاشيا في شارع القصر العيني ؟!..

كانت الشيخة كلتوم منذ عرفتها , تكتفي عن سؤالي بالنظر إلى بؤبؤ عيني , تعبره إلى جوفي , فتدرك حقائقي وتلوح لي بها ..

فكنت أرى نفسي في رقائقها , التي تعبر بي تلك المسافة الكامنة في عجز اللغة وقصورها , عن ترجمة نفسي بهذه الدقة المتناهية, التي تلوح في إيماءات الشيخة وإشاراتها , التي تفكك ما استغلق داخلي , وتبوح برموز باطني , المفعم بالتلويحات , فأرى نفسي كالشمس : ساطعة - وحياتي تنساب فيها من الميلاد إلى المنتهى , عند شجرة اللألوب , التي خيمت عندها الميرم , تناجي ود التوم و غرابها الأشهب , وأنا اقترب منهما حاملا قلبي على كفي .. تنساب حياتي هكذا بإيجاز ورحابة , محاطة بمكاشفات الوصول , المنزهة عن مزالق اللغة , و سباسبها ووهادها ومضايقها الوعرة !! – إذن هكذا , كان ما بيننا من أمر من المبتدأ إلى المنتهى !!..

أول مرة جلست فيها إليها , غابت عني كأنها ترتحل في عالم لا نهائي . لا يمت إلى هذه الدار بصلة .. كانت هائمة . مغتربة في الزمن والمكان . لاشيء منها سوى ثوبها الصوف المطرز بالريش وألياف الشجر .. لا أدري إن كان هذا الثوب يخفي داخله الشيخة كلتوم , أم يخفي شخصا آخر !!..

كنت قد التقيت الشيخة قبل أيام عند ضريح السيدة زينب , واستقبلتني قبل قليل في دارها , وبعد لا تزال التساؤلات تتفاعل داخلي . ترى هل هي الميرم ذاتها : تلك الدرويشة , التي كنا نجلس إليها , في الطفولة , بعد أن نعبث مع الغراب الأشهب في شجرتها" اللألوب", والذي كانت ترعاه .. كنا نسألها ما يعن لنا من أسئلة , فتبتسم وتحكي لنا عن طي المكان والزمان , و"المسيد" و"حيران" (الشيخ كوكاب العنقرة) .. هل هي الميرم كلتوم ذاتها , أم يخفي هذا الثوب , الذي أجلس إليه الآن شخصا آخر , لم تسبق لي معرفته .. كنت مرتبكا , وخائفا .. وحائرا , ربما ..وربما مذهولا ومسحورا . وذاكرتي تحاول أن تستعيد , تلك الحكايات المتناقضة عنها , في تلك الطفولة البعيدة ..

حلت الميرم كلتوم على حينا فجأة , واتخذت من تقاطع الشوارع, في قلب الحي مكانا لكوخ صغير , لا ندري متى شيدته .. فجأة رأينا الكوخ الناهض في قلب ميدان التقاطع!!! ..

كانت الميرم ذات جمال ملائكي, وعينين اجتماعيتين , ووداعة وسمت شبابها الذي تجاوز سن العشرين بقليل – وقتها - وقد أضفى عليها ثوبها المزيج من الليف والصوف والريش - وبشرتها القمحية المشربة بغبار السفر المستمر , الذي لم يستطع إخفاء يناعتها, كزهرة بريّة مرت عليها عاصفة دون أن تذروها أو تكسرها - .. كل ذلك أضفى عليها غموضا وسحرا غريبين !!!..

هذا الغموض والسحر هو ما أثار الأسئلة, التي حملتها إليها لجنة الحي , فردت عليها بهدوء ولطف :" أنا الميرم كلتوم بنت دور شيت السلطان – ولكنني أيضا لبنى وليلى وبثينة , فلم يكنّ سواي يوما ." .. أستهجن أعضاء لجنة الحي إجابتها لكنهم عملوا – مع ذلك – على أن يتقبل الحي وجودها .. تذمر الناس في البدء . ثم خفتت أصواتهم شيئا فشيئا , ثم تقبلو الأمر على مضض, فصار وجود الميرم أمرا واقعا في الحي . خاصة أن أحد أعضاء اللجنة من (أهل الحل والعقد) قد عرض عليها الزواج - على نحو غير معلن - , فرفضت وعرض عليها آخر أن يفرد لها غرفة في داره – سرا - , فرفضت ذلك أيضا .. وأخيرا تعاطف معها كل أعضاء اللجنة, بدفع من الرجلين اللذين قدما عروضهما السرية للزواج والمساكنة – هذه العروض التي لم تخرج إلى العلن إلا بعد اختفاء الميرم - على نحو غامض !!..

تعاطف أعضاء اللجنة معها وعملوا على دعمها , فأدخلوا بعض التحسينات على كوخها , واشتروا لها ثيابا لم تلبسها مطلقا , واتاحوا لها حمامات بيوتهم ..

وهكذا أصبحت الميرم كلتوم جزء من النسيج الاجتماعي للحي , ومعلما بارزا فيه بشجرتها "اللألوب" وغرابها الأشهب, الذي لا يفارق الشجرة أبدا – كانت شجرة "اللألوب" هذه قبل أن تنصب "الميرم" كوخها تحتها: يابسة وجافة منذ وقت طويل , وبمجيء الميرم أخضرت الشجرة وجاء هذا الغراب بلونه الأشهب , فاعتبر بعض عقلاء الحي المتبحرين في العلم , أن تلك كرامة ولية صالحة – صارت الميرم إذن جزء من الذاكرة العامة للحي , الذي بدت كأنها ولدت فيه ..

أخذت الميرم" تخط الودع" للصبيان والصبايا, الذين يزورون كوخها . وتبيع "النبق" و"القنقليس" و "الدوم" للأطفال الذين يتجمعون في العصارى حولها , خارج الكوخ , فتحكي لهم كل الحكايا التي حكتها لهم من قبل , مرارا وتكرارا دون أن تكل أو تمل ..

فجأة بدأت الحكايات حول الميرم تنطلق , لا أدري : هل تزامن انطلاق هذه الحكايات بعد حلولها المفاجيء بقليل , أم بعد ذلك بوقت ليس بالقصير , إذ روج الرجال – خاصة أولئك الذين في لجنة الحي – أن الميرم نزحت من ارض بلادها ,بعد أن ضربها الجفاف والتصحر – و بسبب الحرب الأهلية أيضا - فعندما مات أهلها بسؤ التغذية لم تجد بدا من مغادرة ديارها الخطرة , فضربت في الأرض, حتى أستقر بها المقام في هذا الحي , إلى آخر الحكايات من هذا القبيل , والتي تم اعتمادها رسميا, كحكايا صادرة من السلطة العليا للحي .

لكن كانت هناك حكايات أخرى فاعلة ومؤثرة , رغم أنها لا تعبر عن وجهة النظر الرسمية للحي , هي حكايات النسوة اللائي أخذن يؤكدن أن الميرم حلت بالحي كلعنة , فهي هاربة من القتل , بعد أن أحبت احد حيران الشيخ (كوكاب العنقرة) , في بلدتها التي في نواحي كردفان , وقرر أخوتها ثأرا لشرفهم قتلها – لكنها هربت – بعد أن قاموا بقتل "الحوار" ..

وحكت نساء أخريات , أن "الميرم" ليست من نواحي كردفان , بل من الغرب الأقصى في دار فور .. حيث النساء متحررات , يمكنهن السفر إلى أي مكان, وفي أي وقت دون "محرم" , وإنها جاءت إلى هنا لتخطف أحد "أولاد البحر" من زوجته , فقد رأته في أحدى رحلات عمله ,كسائق لعربة نقل بضائع , فأحبته وأحبها , وبعد سفره قررت اللحاق به , وبحثت عنه طويلا , إلى أن حلت بهذا الحي, لاعتقادها انه يسكن فيه , وأن بصرها سيقع عليه لا محالة , وهكذا نهضت قصص النسوة في الحي, عن الميرم على أساس أنها , تبحث عن رجل ما , فاخضعن أزواجهن وأولادهن لتفتيش يومي ومراقبة صارمة ..

ولذلك عندما اقترب الشاب الغض, والغامض المنكفيء على نفسه والمتوحد: عبد الرحمن ود التوم من حياة (الميرم كلتوم) , وأصبح لا يفارق مجلسها ,مع الصبية الذين يصغرونه كثيرا , ثارت حفيظة الصبايا, وشاعت شائعة بين النسوة في الحي :أن الميرم وود التوم قد وقعا في المحظور !!..

ثم بدأت النسوة يحاصرن الميرم بأطفالهن , فيوعزن للأطفال, بان يهشموا قيلولاتها, برمي شجرة "اللألوب" والغراب بالحجارة , وألا يجلسوا إليها , ورميها هي ذاتها بالحصى الصغيرة .. وكنت أراقب كل ذلك بصمت , دون أن أقوى على فعل شيء . كنت مشدودا إليها , لكنني لم أقوى على فعل شيء !!..إلى أن اختفت الميرم فجأة كما ظهرت فجأة , وتعددت الحكايات والروايات حول اختفائها المفاجيء ..

لكن كل الروايات أجمعت بين متناقضاتها, أنها فجر اختفائها كانت تحمل "صرّة" كبيرة , منسوجة من الريش الأشهب على ظهرها .. وظللت بعد ذلك لوقت طويل أتساءل عن مصيرها , إلى أن غادرت البلاد والتقيتها فجأة في هذه البلاد ,عند مدخل ضريح السيدة زينب الذي كنت أتردد عليه بانتظام , كل جمعة لأكثر من عامين ونصف , وأخذت أتسائل : هل هي الميرم كلتوم ذاتها , أم شبهت لي فاستمرأت هي الأمر ؟!.. وكأنها أدركت تساؤلي , فخرج من الثوب الذي كنت أجلس إليه صوت رقيق مفعم بعذوبة الموسيقى :

سقاني حبيبي من شراب ذوي المجد + فأسكرني حقا فغبت على وجدي

وأجلسني قربه في قاب قوسين سيدي + على منبر التخصيص في حضرة المجد

حضرت مع الأقطاب في حضرة اللقا + فغبت به عنهم وشاهدته وحدي (*)

ثم تنهدت بعمق وزفرت ثم ألتفتت إليّ :" عذرا يا علي .." ..

- لا داع للاعتذار يا شيختي .

لم أتوقف من زيارة الضريح, إلا منذ تلك الأمسية, التي التقيتها فيها عند المدخل , وأنا في طريقي إلى الخروج .. تعرفنا إلى بعضنا واستعدنا بعض الذكريات البعيدة , وركبنا معا الأتوبيس ذاته إلى "العتبة" حيث افترقنا, على وعد أن أزورها في شقتها , التي ما أن استقبلتني فيها , حتى دخلت في تلك الحالة من الغياب ..

ومنذ ذلك اللقاء الأول عند الضريح , أصبحت الشيخة كلتوم صديقتي الوحيدة , في هذه البلاد الغريبة .. كنا قد تقاربنا, كأننا أصدقاء منذ وقت بعيد , جمعتنا ذكريات منصرمة , وبقايا أطياف حميمة ..

ارتدنا سوح شاسعة , تعرفنا خلالها على أدق حقائق أنفسنا .. تلك الحقائق التي لا تبين ,إلا في الارتحال والغوص بعيدا في منابع النور ..

هكذا سرنا معا بأقدام الصدق , والتجرد عن الأكوان الظاهرة, وتلك الذكريات المحزنة : وهي تنسحب إلى داخل كوخها, لتنجو من الحصى, التي يرميها عليها الصبية , أو تسد أذنيها, حتى لا تسمع الضجيج في شجرة "اللألوب", عندما تضرب الحجارة فروعها ..

طارت بي الشيخة كلتوم, بأجنحة المحبة ,مخترقة سماوات الأحوال والمقامات , ولم تحط رحالها أبدا , حتى هتف بها هاتف :

وتظهر للعشاق في كل مظهر + من اللبس في أشكال حسن بديعة

ففي مرة لبنى وأخرى بثينة + وآونة تدعى بعزة عزت

ولسن سواها لا ولا كن غيرها + وما أن لها في حسنها من شريكة (*)

ما وطد علاقتي بالشيخة كلتوم هو تلك العفة, والرقة .التي تسم حياتها.. وكلامها في الجد والمزاح , وتلك الأحوال التي ترتادها , فتغيب عني , لكني أراها في خاطري : أين تمضي – فتدهشني تلك المشاهدات, وذاك الحضور الذي تغيب فيه . كنت أدرك أن روحها وقلبها ,يتوقان إلى تلبية نداء الشوق , والتنعم بالوصال , وما أن تنتفض وتسترد ذاتها الغائبة, متصببة بالعرق والغبار والطين, وتجدني لا أزال قربها ,حتى تفتر شفتيها عن ابتسامة هادئة وتقول :" أوصيك يا علي بالسخاء والرضا – الصبر والإشارة – الغربة ولبس الصوف – السياحة والفقر ." .. فأضحك وأنا أرد عليها :

- يا شيختي , لا أملك سوى قلبي , وهذه الثياب , ولا أظنني أرضى . فقد تركت بلدي لأمر , وأصبحت في شأن آخر , وأظنني صبور على هذا الابتلاء . ولا أظن ثمة غربة أكثر من البعد عن الأهل والأوطان , ولا من هو أكثر غربة مني, في الذات والأرض . وما عاد الصوف يصلح لحياة هذا الزمان , الذي زهد فينا .. ومع ذلك , تطبع أكلي ومشربي وكسوتي خشونة الفقر .. يا شيختي , الوصايا لمن يستطيع نفاذها , إذا أنطبق الحال والمقال .".. فتضحك :

- يا علي القلب إذا صفا , تجلت عليه سطعات الأنوار الشهودية , حتى يصبح مجالا للوسع النوراني , فكيف تقول أن الزمان زهد فينا ؟!.. والزمان لا يزهد !!..

فأبتسم وأشعر أن عروق قلبي تنتفض , وتمضي بعيدا , تخترق الطبقات والحجب لتزرع في اللانهاية , فتستردني :" يا له من قلب !!" ..

سألتها عن الحوار الذي أحبت, وتلك الحكايا التي تناقلها الحي عنها , فتنهدت :" كان ذا وجه صبوح وابتسامة , كلما ضاقت اتسع نورها !.. الوحيد الذي لم يكن يخشاني , ويحضر الطعام إليّ , تحت شجرة اللألوب , ولا ينهض إلا بعد وقت طويل .. كان فتىّ صالحا مليء بالإشراق ولا يعرف ذلك , لكن القوة التي شدته اليّ ,هي ذاتها القوة التي شدتني إليه , كطرفين يلتقيان , ليخلفان وراءهما عذوبة الماء السلسبيل .. تلك كانت أول الحكايات وأخرها , فليس في حياتي حكاية سواها .. حكايتي وعبد الرحمن ود التوم , وكل ما عداها من حكايا محض أكاذيب من نسج خيال الحي .

كنت أتآنس به ويتآنس بي تلويحا وتلميحا , فالصبي – ود التوم – تغلب على مراهقته بصلاحه ونقاء قلبه , وذاك هو الإشراق .. لكن أهل حيك ضربوا علينا الحصار , دونما سبب يبرر ذلك طردني سكان حيك , بعد أن قتلوا غرابي الذي اعتنيت به وجاورته , طردوني بعد أن احرقوا شجرة "اللألوب" .. فافترقنا ولم نلتق بعد ذلك أبدا . لكنني كنت اعلم أنه سيموت كمدا كما ستموت أنت , وكما سأمضي وإياه, إلى شجرة اللألوب في المنتهى , لنقيم في كوخنا تحتها , نلهو مع غرابنا الأشهب الوديع .. تركت الحي دون ضغينة حتى لا أقتل كاللألوبة والغراب , ولم يتبق لي سوى ذكريات الأيام الخوالي . يا علي أنبل الذكريات , تلك التي تخلو من الضغينة ...

... وما أن لها في حسنها من شريكة ..

.. وقتها كنا في قلب ميدان التحرير , قبالة التمثال , ومع آخر كلمات الهاتف , بدأ ميدان التحرير فارغا إلا منا وشاب بهالة ملائكية يتهادى في مشيته من بعيد , باتجاهنا من قبالة الشارع المفضي لتمثال طلعت حرب , رأيت في طيفه عبد الرحمن ود التوم , وأدركت انه هو من ارتباكها ..

نعم , كانت صديقتي الوحيدة الميرم كلتوم مرتبكة , ومتنازعة تقلب بصرها بيني وبينه . ثم حسمت أمرها فمضت باتجاهه , إلى أن اقتربا من بعضيهما , وتخاصرت أصابعهما ,ومضيا في شارع القصر العيني ...

كنت واقفا أمعن فيهما النظر ,إلى أن تلاشيا في الشارع الخالي إلا منهما .. فرددت بصري ,وأنا أشعر بميدان التحرير يمتليء فجأة بالناس , والضجيج يملأ شارع القصر العيني , والزحام يعيق المرور, في الشارع المفضي إلى تمثال طلعت حرب ..

كانت الحياة قد عادت إلى طبيعتها, في اللحظة التي تهشمت فيها طبيعتي , فآخر- ما التقطته عيناي : عربة نقل كبيرة قادمة نحوي بسرعة - ثم لم تلتقط أذناي بعد ذلك سوى صرير عجلاتها وهي تطأني ..

(*) الإمام عبد القادر الجيلاني.

سبتمبر 2005 القاهرة

 

 

 أغنية لطائر الحب والمطر..

 

كنت متكئا على عصاي عندما غفوت على الكرسي .. انتبهت اثر تحطم العصا بعد أن تحول جوفها إلى دقيق ناعم . بفعل السوس والأرضة .. تماسكت في اللحظة الأخيرة , متجنبا السقوط عبر ثقب الليل . كانت الأرضة اللعينة قد كررت ذات فعلتها مع سقف وأثاث البيت , قلت في نفسي يجب أن أجد حلا , وإلا تحول البيت كله إلى رماد .

أتت( إيمى) تحمل قمرية , مدتها لي : ( احد الأطفال الأشقياء حطم جناحها ..).. أمسكتها برفق وودت لو بقيت إيمى .. كبرت كثيرا , وصارت (ملظلظة ).. تذكرت طفولتها الشقية . والتصاقها الدائم بي . كانت دائما تتسبب في الكوارث التي تنسب إلى في خاتمة المطاف . فأنال بسببها العلقات الساخنة , دون أن أقول الحقيقة فأشي بها ....

وددت لو أقول لها شيئا الآن , فلم استطع .. اشعر أحيانا أن خالتي تعلم خفايا عقلي وقلبي , تجاه ابنتها .. حاولت أن أنسى , فتشاغلت بالقمرية الصغيرة .. حدثت نفسي (حديثة عهد بالطيران على ما يبدو ..)..

تابعتها بنظراتي وهى تتسرب بجناحيها في الفضاء اللا متناهي : تتضاءل , تتضاءل , تتضاءل ...ثم تغيب في الأفق الشفقى الوريف ..

شربت الشاي من يدي إيمى , ورحلت في عينيها إلى أخر المساء .. كانت الشمس مجرد هالة خابية , خلف السحب الغائمة .. تشتت بين عيني ايمى وإيغال المساء ...

وقع خطى الليل الثقيل , يبعث في النفس نوع غامض من الرهبة والتحفز .. عوالم من البوح والتردد تتداخل , لتتلوى في داخلي شيئا من أشواق و مشاعر لم تفصح عن نفسها بوضوح ..

كان الوقت متأخرا . طلبت منى خالتي اصطحاب ايمى للتسوق .. أحسست بنفسي سعيدا كطفل غرير يوهب حلو ى أو لعبة يحبها .. طلبت منى ايمى أن نسير على أقدامنا . بحثت في جيوبي عن حلوى لأهديها لها .. عثرت على بقية أحلام طفولية ولم اعثر على حلوى .. ونحن بمنتصف الطريق , أحسست بها تود قول شيء بعد نفاد صبر طويل , وأحست بي كذلك أود قول أشياء لفها صمت سحيق , مذ كنا صغارا ...

تمدد الطريق على المسافة الإلتوائية النادرة إلا هنا.. استوعبته , بنظرة خاطفة واشتعل احساسى في صحن عيني إيمان .. كنت أغوص فيهما عميقا , عميقا .. وكانت السماء مورقة , ووريف عينيها يورق سحبا ملبدة بالغيوم .. كانت سماء عينيها لا تعكس سوى ما اصطحبنا من أحاسيس عميقة منذ كنا صغارا , تلك الأحاسيس السرية , الصاخبة عميقة الغور ..

 

أتتنى العيد المنصرم توفى بالوعد الذي قطعته على مذ عالجت جناحها المكسور .. كانت بعد صغيرة لا تعتقد بالتئام الجرح . وانسداد الشرخ الشرشفى في قبة السماء , التي غيبتها أخر مرة ..أنفقت زمنا في معالجتها , ثم أطلقتها للريح , ومنذها أصبحت تنفق أياما من كل عيد معي .. تهبط على النافذة حين تجد غرفتي ممتلئة بمن أحب واكره .. وحين تخلو الغرفة إلا منى , وعلاقتي المتجددة بها . تهبط على راس مخدتي أو عند حافة السرير .. اقبل جناحيها .. أذيب لها السكر في الماء ..انثر لها الحب .. نثرثر معا .. اضحك , ثم ترحل , لتات في عيد آخر .. سبعة سنوات ولم تتغيب أبدا , لا أدرى ما الذي أخرها هذا العيد عن المجيء !؟!..

الطريق الملتوي كثعبان يشعل في النفس احاسيسا متداخلة .. أطلقت عربتان السباب بينهما , وانحرفتا على نحو مفاجىء ووقعت مقدمة أحداهما على حفرة .. كنت أحيط خصر إيمان بإحدى يدي وجذبتها بالأخرى , تحسبا لأي خطر . حين انقشع الخوف عن الطريق الالتوائي .. لم انتبه إلا وهى على صدري .. استعدت حواسي المغمدة في الدفء ..

مذ كنا نرتدي السراويل بعد وبيننا علاقة مبهمة . يفهمها الجميع ولا يجرؤن على تسميتها . أتذكر كيف كنا نتركهم يتحدثون بتكرار ممل عن أحداث القرية : القادمين والذاهبين .الذين توفوا مؤخرا . الذين اغتيل احدهم برصاصة طائشة . والذين بعد لم تدلقهم مدن البتر ودولار , على دروبنا المنهكة .. المغتربين لأجل أنثى تضمد جراحات أيامهم . وتلملم شظاياهم لتصوغ منها أنشودة طويلة لا تحكى كالمعتاد أحزان المغترب ..نعم اذكر كيف كنا نهرب لنزهو بعيدا عن عوالمنا البهية , سنين من الحب المكبوت !! والمشاعر البريئة ...

سكبت على مؤخرة العربة المقعية على الحفرة ذكرياتي الطفولية . وأنا انسحب من المكوث بين شسوع عيني ايمى .. احتوانا الشارع كأشياء صغيرة اعتادت إهانته كل يوم بأحذيتها .. كان الشارع قد اخذ يخلو شيئا فشيئا إلا من بعض السابلة والمارة المتفرقين , على مسافات متباعدة هنا وهناك .. مسحت السماء ببصري.  كانت قد شنت في الآونة الأخيرة حملات لا هوادة فيها على مدينتنا , قلت لإيمى : ( نزر كارثة أخرى , بيوت المدينة المتهالكة لم تعد تحتمل ؟!..) نظرت إلى وابتسمت :( أين كنت بالأمس . انتظرتك طويلا ؟!) .." كنت هائما اغزل في القلب مخلاة لحب جميل " ... تضرج وجهها بحمرة لامست سواد الليل في الكبد ..وسادت فترة من الصمت الحميم .... آه لوتدرين ايمى كم اشتاق ضحكتك المطلة على عوالم تدفن نفسها بالصمت , أسرنى العشق واتسع جلبابه وفاض , وتمددت في شوق وحنين ..بدأت خيوط المطر ترفو أثواب الهواء الطليق . ثم تدلت تتكوم على الأرض .. لم تعد رزازا بل وابلا لاسع الوخز..ثرثرت في أذنى العيد الماضي وقلت لها : ( مدينتنا تكره الغرباء  ! ) فعبست , فأضفت :(أنت لست غريبة ) فغردت وانطلقت من غنائها تنبؤات الزمن الآت . كانت تود أن تفعل شيئا لأجلى . هكذا أحس بها كل عيد , وكنت مسكونا بايمى . لا أدرى لماذا تأخرت هذا العيد ؟!..على حين غرة اشتد المطر .. أرسل مواويله المرعبة ..سحبت ايمى إلى مظلة على حافة الطريق.. كان الشارع قد خلى تماما من المارة , والليل ينذر بالتوغل في خفاياه .. اخذ المطر يعبث بوجه إيمان , فتطاولت بقامتي لاحميها . تجرا على ظهرها فخلعت سترتي . وأمرتها :( ارتدى  خذي هذه  لئلا تصابى بالبرد ) ( لكنك... ) .. أصررت , فتعنتت, فكشرت لها عن انيابى . استسلمت وهى تضحك في غبطة .. " تبقى على حماية الجبهة الأمامية". تطاولت أكثر لأحمى وجهها . لم اشعر بوقع حبات المطر على ظهري , كانت عيناها تتماوجان بإحساس دافق , تهيجت مكنوناتي كلها , وتراكمت في داخلي شعلة من الأحاسيس والمشاعر الفياضة . رعدة قوية اهتزت لها المظلة . جعلت إيمان تندفع عميقا عميقا لتختبىء في صدري !!..

تنبهت إلى شيء يحط على كتفي . أزحت وجهي عن تنفس إيمان المنتظم .. أفلتت إيمان بذعر .. كانت القمرية تفرد جناحيها على كتفي . مددت لها يدي فهبطت على راحتها . مددتها لإيمان .. كان الفرح يطل من عيني القمرية .. طارت من كف إيمان لتحط على كتفي .. غلفنا الصمت للحظة .. كان المطر قد توقف منذ وقت ليس قصيرا .. حنت إيمان رأسها في حياء . غردت القمرية كما لم تغرد من قبل . ثم طارت .. تابعتها بنظراتي وهى تتسرب بجناحيها الفضاء اللامتناهى .. تتضاءل أكثر فأكثر ..غابت تماما واحتوانا الطريق...

 كوستي 1997

أضيفت في 17/02/2006/ خاص القصة السورية/ المصدر: الكاتب

 

 

النوة...

 

لم اعد أقوى على احتمال المضايقات أكثر من ذلك ..

*.. إذن ستهاجر ؟ .

* انا بصدد ترتيب ذلك ..

* وعائشة ؟!..

*.............

* أفكارك لن تروقهم .!...

منذ أجبت على أسئلة صديقك الوحيد إبراهيم , والحصار يشتد , ومع الحصار تعبر الملامح عن نفسها . تكشف عن أشلاء عائشة التي مزق طيفها الحصار ...!...

اتخذ محمود مقعده جوارك في البص الهرم . ولم يلبث أن نهض لامرأة مسنة . اقترب بنظراته المتسللة لزحام البص , المكتظ , من مفاتن الفتاة التي لم تجد مكانا للجلوس . ودنا يلاحقها بين الزحام والعرق , إلى أن اقترب كثيرا من الفتاة التي كانت قد نهضت ................

ذكريات صداقتكما المنهارة .. نهضت من بين الأطلال , مشاعرك المائية تجاهه . في السكة التي جمعتكما الآن . كصدفة , ربما غير مرغوب فيها ..نتف من اللحظات البعيدة الهائمة , محطة أخرى وينتهي الأمر !.........

كنت تظن انك ستهدم العالم وتشيده على نحو مختلف , وها أنت تستعد للنفي الاختياري والرحيل . تمضى كنبي طريد , تترك خلفك المزاعم والهواجس والظنون . وكمهزوم تمر عبر ثقوب التاريخ , تصطحب الدراويش بلباسهم المرقع , وتتسلل مسارب الايدولوجيا . في قاع المدينة . تقودهم إلى ميدان جامع الخرطوم الكبير

تلتفت خلفك : "  لا احد " .. تعزى نفسك بأشلاء طيف تتلاشى في الذاكرة , لتبقى في الوجدان قبض الريح !... تخاله شيئا من الحنين إلى الحنين , أو لوعة مختلسة فتوغل في الرحيل .........

وكبرق يضيء فجأة وينطفىء . تمضى عائشة تخلف وراءها أشتات من الرماد , وبوح يتلف الدواخل ........

كانت عائشة الورد والسنابل والمطر الأليف . دون رعد أو صواعق . .. تواصل لميلاد أشياء يلفها الصمت ويحويها الأمل  , ونهايات جديدة .......

شهد على لقاءنا الأول عصفور الجنة الملون , في الفناء الخلفي . فامتلأت دواخلنا بالأغنيات .. بحنا للجهنمية الحمراء .. فداعبت وجهينا بغصنها الفارع .........

* سأنجبك أطفالا بعدد هذه الأوراق ...

تقول فتضحك عائشة بخفر ودلال ....

* سأسمى البكر محمود . .. صديق أخى ..... صديقي .......

*لا سأسميه إبراهيم على صديقي أنا ...

وتقرصك في عضلك فتعضها في حلمة الأذن .. تنثر الجهنمية الحمراء الطل . تتساقط أوراقها. وبقايا من شذا سرى يضوع في العروق والأوردة .. يتهشم قصب عش القمرية  في قلب الجهنمية . وتداعب أغصانها وجهيكما ... شذا لا مبال تختلسانه في غبطة حميمة .........

بحنا للغفير العجوز بسرنا الذي ولد فجأة . يعلن عن ارق بواح . للأفاريز , النجوم . الشجر . والحبيب الحبيب .. انسحب الغفير إلى كوخه أقصى سور الفناء . تاركا خلفه ابتسامة واسعة . لقلب توحد في ماض بعيد . أحاطنا به . تقلص القلب .. يبصم على فضاء المكان .. تقلص أكثر فأكثر , يوحدنا في رحمه ..  تمتص غرفه الدم المندفع أكثر فأكثر ليرتخي القلب شيئا فشيئا .........................

لكن كان الطريق لاتجاه واحد . كحلزونين تؤم , قذفهما الموج . يكابدان حر صيف لاهث . طاردتنا الشائعات .. تناثرت الأقاويل . اشتد حر الصيف على آكام فناء مهجور , يفضى إلى شاطيء منحسر , تهورت عائشة .. غاصت في اللجة .. انحسرت دون أن تمسك بالنداء ........

كان العوازل يقودهم محمود قد لغموا كل مكان . نظر غفير الفناء بوجهي في حزن وأسى . رمقني الجيران في الحي بارتياب وقلق .ورفض جارنا الملتحي أن يدس يده معي في الطعام ..كنت مثخنا بالجراح كنبي طريد , يتوهم غربته في نوة . تجذبه إلى مركزها . فيهيم في اختناق آخر المعجزات !...

ما أن جلست على مقعد البص . حتى جلس محمود جواري . كنا كشخصين لم يحدث لهما أن عرفا بعضيهما أبدا . وددت لو أساله لماذا فعل بنا ما فعل .. فداهمني بالسؤال :

* سمعت انك تركت العمل ؟ !..

*..............

وعلى سفر..   لماذا ....

* لأنه الشيء الوحيد الذي أستطيع فعله حتى لو تآمر الآخرين لمنعي ....

كان البص يسير ببطء . والزمن بداخلي يتسحب , والذكريات تمضى بخطى وئيدة . وعائشة كتظاهرة عرمرم , يملا هتافها راسي .. قلت لإبراهيم 

* أعادت عائشة خطاباتي . وأعطيتها الفراشة المحنطة التي أهدتها لي . عندما التقينا أول مرة ..

* بهذه البساطة ؟

* ............

* وصديقكما محمود ؟..صديق العلاقة ......

* قفز على العلاقة !...

* لقد حذرتك منه لكنك لم تنتصح ..

* أعط للنفس البشرية عذرا .

* إنها جريمة !..

* سيتزوجان عما قريب .

* وأنت ستسافر لوحدك ؟

* لا ادري ........

رمقني محمود بخبث . تأرجح بشدة مع اهتزاز البص , في احد المطبات . اقترب من الفاتنة أكثر فأكثر ...

قلت لعائشة :

* كيف تتخذين مثل هذا القرار وحدك ؟ .........

* ......................

* أين إرادتك ... إيمانك بي ........حبنا ........................

* لقد انتهى كل شيء ..أنت لا تستحق......

كضربة رمح . موصل إلى تيار كهربائي باغتتني عبارتها . فلم اصدق ...

* ماذا؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

*...................

ومضت مثل أخر لمحة , مخلفة وورائها , أشتات من الرماد والدخان والحريق .. تركتني للحزن والأسى .. عائشة صارت كشوكة ناتئة بداخلي , تخزني بقسوة , كلما استعدت شيئا من الذكريات !............

جذبتني النوة إلى قلبها . تفتت . تجزأت . صرت جزا من غربة الريح ............

تنهد البص فأخذت ملامح محمود ترتخي . وتتهدل وأكثر فأكثر يدنو بجسمه من الفاتنة التي أخذت تتململ في وقفتها .......و.....شقت صرخة حادة , خرجت من بين الترائب المثقلة . فضاء المكان . حين شعرت بجسمي يطوح في الهواء .. تعالى لغط وهرج ومرج, ولم اعد افهم شيئا .............

كان محمود يقف كالفرخ المبلل بالوحل ..يبحث عن الفاتنة بعينيه الزائغتين ........

الخرطوم 2002

 

 

نافذة للحنين .. نافذة للشجن ..

 

 

كان أخر لقاء لهما قريبا من الفندق الذي تقيم به ,  في احد الصباحات الباردة من  موجات فبراير القار سه .. لم يشعر لحظتئذ بالبرد , فيده المحاطة بكفيها الناعمتين , تدفئانه وتزرعان فيه أحاسيسا لا أول لها ولا آخر .....كان قد اتصل بها من محمولة وجلس ينتظرها على احد "البنشات"   المطلة على مشتل ناهض عند شفة النيل ....  ما أن جاءت وجلست قربه حتى تشتتت أفكارهما , وضاع كل ما أعداه من كلام , ليبقى الصمت فقط معبأ بالدلالات و محاصرا بالرموز التي تفوق احتمال المكان ! .. وعندما ابتعدا في اتجاهين متعاكسين .. توقف بتابعها ببصره وهى تنأى  حتى غابت عند مدخل الفندق دون أن تلتفت ...  في التليفون قال لها الحكمة الاميريكية :  go  on  فهمست بما تسرب   إلى رئة المكان ليتنفس أشجانه في زفرة ملتهبة  ! ...

وهو في الطريق إلى شقته الصغيرة في الجيزة , اتصل بها في المطار ..  لم يتمكن من الوصول إليها .. كانت طائرتها قد أقلعت , تحملها إلى منفاها البعيد   ,  مخلفة وراءها رائحتها وملامحها في كل شيء حوله ......

كانت ميمي قد جاءت بعد حنين طال ,  محملة بالبشارات كأنشودات خريفية  يانعة ,  وكوعد خصبه زمن غامض  . فخص به مكانا اشد غموضا ...  بحث عنها في الزحام حيث تنتظره عند محطة المترو ,  يتفاعل فيها الشوق والحنين والترقب , ليعطى انتظارها معنى كونيا عبقا ومتحفزا .. طعما متوترا برائحة القلق الخرافي , فلا تستشعر القادمين والذاهبين .. المارة والباعة المتجولين ...   رغم تفرسها في الوجوه الموسومة بالضجيج والفوضى والارتباك ...  تبحث في هذا الركام عن وجهه الأليف ..  وجهه الذي تركته خلفها في الخطابات والصور والرسائل الاليكترونية ...  وجهه الخارج من الصمت إلى الصمت ...  أمامها .  .. حمله طيفها . عله يخرج من الزحام فجاه  مبتلا بالوعد والمواعيد ........

في غرفتها بالفندق تلمست ذكرياتها القادمة ..  تحسست مشاعرها وهى  تلقى ببصرها على النيل  المتململ أقصى حدود الشتاء  , نافذة لحب يحيا في الأزل , نافذة تدخل فيها عروس النيل إلى عرش الخصوبة .  يحملها الملائكة الكروبيين  .  لتدفىء الجنة بالشجن .  وتأخذ من عذوبتها ....  تنسج على الكورنيش الممتد كأفعوان وأفعى للربيع جلدا جديدا  لهما   وهما  يمارسان لعبة الحياة ة الموت :الخصوبة ..........

نضت عنها ترقبها  وهى تضغط أزرار هاتفها الانثوى الصغير :

* لقد وصلت بطائرة المساء.

*واحشانى موت..

القاهرة مدينه غريبة عليها , لأول مرة تطأها   ........غامضة ومجهولة كما تخيلتها ..  حية ومربكة ومرتبكة كما تراها الآن !..يربكها انتظارها له بهذه المحطة  .  تربكها معاكسات المراهقين , ونظراتهم المتسللة إلى كنوزها .. كنوزه .. يربكها دفئه الذي يحاصر كل ذرة بكيانها ...  تربكها كل التفاصيل  :  الترقب . الحذر .  !..... كانت اشد توترا منه ,  عندما اتصل بها أكثر من ثلاث مرات على الموبايل يسألها أن تحدد موقعها بالضبط  .."  في أى مدخل من مداخل المترو يا ميمي ؟ " هرول بين المداخل المتباعدة لمحطة السادات عدة مرات

لم ينم اثر مها تفتها له  ....  ظل منتظرا هذه اللحظة  التي اشتاقها منذ وقت طويل ,  وهو يستعيد المكالمات الطويلة منذ الصيف لماضي ,  عن الذي جرى معها ومعه ..عن الغربة وحكايا الليالي الطويلة ..  عن الحنين إلى و طن في الدفء ..  عن دف في ليال الشتاء الباردة..

في السادسة صباحا بالضبط أزال لحيته ,  وغسل عنه اثر الخمر والنيكوتين .. اعد لنفسه قهوة ثقيلة . ارتشفها بتوتر وهو يلاحق عقارب الساعة التي تمضى في اتئاد .  وينقل بصره بينها وبين سماعة الهاتف إلى أن جاءه صوتها في الجانب الأخر :

* أنا مستعدة للخروج .

* انتظريني  في السادات .

تعطر بعطره المميز وخرج .....

أحبها كما لم يحب من قبل   حاصرته بدفئها وعذوبتها  وهدت كل القلاع التي يحتمي بها ... دهمته خارجة من تلا فيف ماض حميم , التقيا فيه بهدؤ  وعلى مفترقه مضيا في صمت جارح  .....  لكنهما ظلا موسومين ,  بذاكرة الجروح الحية . المتجددة كشجن ممتد وحنين لا يطويه الزمان ولا المكان .....كالمطلق خارج التحولات ...........خارج التغيير ......ففي المنتهى يتبديا كروح نبي زاهد , يرتقى مدا رج المحبة والسلام  وهو يحبهما في حميمية وتؤدة ..

اقتنصتها عيناه من بعيد عند مدخل المترو ..  كآلهة يونانية تبدت ميمي عن سحرها العميق ذاته,  وكاثنين محملين بحنين الأرض  لأشواق السماء .  احتضنها بقوة دون أن يأبها  للزحام !..  كانا حاضرين في الغياب غائبين في الحضور..وكالمغيبين في إغماء طويل , لم يستشعرا النظرات الدهشة للناس الذين التفوا حولهما ..........

سحبها من يدها إلى داخل المترو ..  كادت المحطة تفوتهما ..........كانا هائمين  في .. في فضاء  هيولى شفاف ,  يؤدى إلى الأرخبيل الذي بداخلهما ...

بشقته الصغيرة في الأندلس أجلسها على حجره.. ناما بعد ذلك متصالبين ..يصلبان حرمانهما .. عجف الزمن  ..  جور الناس , وقسوة الحياة .. خواء الغربة وألم الذكريات...  يصلبان أوجاعهما المقيمة  في وجدانيهما المنهكين ..... اوجاعهما الثاوية إلى عمق سحيق في الخلايا والعصب : ذاكرة لشجن أزلى  وحنين مقيم كأسرار إلهية  ومواجد  نبوية راحلة في الأبدية  " طوبى للغرباء ! " .. همس ...فتأوهت .. كانت نيرانهما تزداد اشتعالا ولا تخبو ..  وكان ترقبهما لميقات  رحيلها يشعل في القلب أشواقا لا تنضب , كالأتون ..  اشتعلت الغرفة بالحميمية , بالتوتر , بالقلق . بالانصهار .......لتتناثر بقايا صور فوتوغرافية توقف فيها الزمان عند لحظات نابضة بالوجد والمواجد .....................

القاهرة الجيزة 10..2. 2004

 

حب..

 

 

كبرق يشع فجأة , أطلت من غيب غامض ..حبلى بقلق العرافات وتوترات المغنين العابرين ببوح القماري ومواجد النوارس المهاجرة , في مساءات  مبهمة للقيا مؤجلة ..كإيقاع حزين في حناجر الشعراء الجوالة , أطلت منال ..بداية للأشياء ومنتهاها , وسر حميم يضيف إلى الوجود فصلا آخر في قصة الخلق التي لم تبتديء .  قالت , فقلت .. تنهدت , فتنهدت  وحين طال الصمت وتمدد الانتظار على الشرايين المنهكة , انتحى كلانا طي الهاتف المتقطع الصفير في الفضاء البعيد :- البطاقة انتهت ..

• ونمنا يحلم كلانا بمدى البعد وسر المسافة ومنتهى الشوق والاقتراب أقصى تفاصيل الوريد .. أول مرة التقينا . تبادلنا حديثا متحفظا عن ماض لم يثمر ولكنه ظل مؤرقا ككل الذكريات الأشد جمالا وألما . وذات أسى دفيء التقينا لينشطر كلانا , وهو يحمل في غربته شيئا من ملامح غامضة , وربما احاسيسا نائية . أقصى تلافيف القلب .. أدنى الزحام ...   هكذا افترقنا ليمضى كلانا فى الاتجاه المعاكس , إيغالا فى اغتراب يطول وهجرة مفعمة بال   ......مثقلين بالتباريح وباليومي وأخوة الدم والتراب وانتظار الآخرين  ووجه الأم الصبوح ......

• منذ  طفولتها تبدت منال كأنشودة غجرية , مترعة بالحنين والأسى واللوعة . ففي حصارات اليومي تشبعت بهذا التمرد المنطوي على ريح عاصفة ..  هبت لتجتث الحكايات السائدة .. مشرعة  أشرعتها , كأخر السفن المغامرة فى أرخبيل غامض ينطوي على الحكايات القديمة وحطام البيارق وذاكرة الفراغ ! مضت( هكذا) .. تحلم بيابسة فى مكان بعيد قريب , تقيم عليها مملكتها ضد الحصار .. فرف قلبها لعابر لفحت وجدانه نارها .. فلفح قلبها بلظاه ومضى ككل العابرين فى الأمكنة العابرة , قبل أن تبدأ المعركة !.. وجه منال الأسى , المترع باللوعة والنوستالجيا العذاب انطوى على عاصفته ليجتث الحكايات القديمة . مشرعا أعاصيره لأحاديث لا تبقى ولا تذر .....

 

• حين بدأت حكاية الغريب البعيد كمبتدأ وخبر, فى النهايات الفاصلة بين الحب والتردد . المكر والمناورة . الحكمة والاندفاع .. كانت الشمس قد توسطت السماء وانقشعت الغيوم وامتلأت شوارع القاهرة بالحب .. ومن ناصية الشارع الذي يتوسط المدينة هاتفها الغريب , فردت .. ولم يتكرر الصدى ..  ومضى الوقت كأثقل ما تكون الخطى .. استودع الغريب الريح كلماته النادرة . لتهب عليه وتمضى دون أن يكون الغريب ...قلق الغريب , قلق منال . ووجع الغريب وجع منال .. وبين الاحتمالين احتمال , أن يلون الرمادي حواشي الأفكار وهوامش الأحاسيس , ونافلة القول : المحبة .. زاد سيدي كوكاب العنقرة قوت الزمان ...أجاب الغريب فردت منال , وأكد مفتاح الكمبيوتر أخر الأوامر المرسلة ,إلى بلاد البيت الحرام .. إلى منال تجيء بال ..بشارات السعيدة ....

 

• إذن كان الغريب مزيجا من متناقضات منال , يمضى مرتحلا عبر السباسب والو هاد لتسقط النسوة الغريبات والعابرات , ويتلاشين في الفضاء الرحيب لذاكرة المكان المتغير في الزمان الذي لا يجود ..  مضى الغريب خارج الوجع المقيم لآخر النسوة المغادرات .. قسوة الغريب هي سحر منال , جبروتها في النفي والإقصاء , لإشادة مملكة من هديل اليمام ولبن الطير وألوان قوس قزح وبوح ( الغريبمنال ), طلسما مرصودا في الديانات القديمة , التي جاءت لتجمع العشق والعشاق , ليشكلان كلا واحدا !.. إذن كانت منال الغريب ذاته .. فكرة في خاطره .. خاطرها , ربما .. بوحا لأزل العبارة يشيدها الحرف في أسراره , مختطا طريقا غامضا .. نشا الغريب  فى وحدة منال .. نهض فى عذاباتها , ومضى مخترقا أحلامه لتتوغل خاطره وتشيد عالما من الفسيفساء والأطفال , وأنشودات الرعاة وأغان الغجر .. كان الغريب  روح منال ذاتها . وهى جسده الذي افتقده . حين مضت لتشيد مملكتها ضد الحصار . فحوصرت فى العابر المزمن .. وانشطا ر الذات . نهض الغريب جوهرا لهذا العابر , أزليا فى هذا المزمن . وكطاقة التحام جبارة اقتربت الذات من ذاتها . لتلتئم إنشطارات الغريب منال .. أدرك أنها وجهه الأخر وأدركت انه ... وأدركا أن لا محالة . ما كائن سيكون !! نسيا رفقة الماضي المؤلمة .. وحزن ألليال الطوال .. عذابات الغناء الهزيمة وانكسار الوقت في غربة ألذات . وتشظيه إلى وحدات ملأى بالحرمان والذكرى البائسة ...

• ها تفته منال وقالت فقال ... وقال فلم تقل ...كان الحلم يسوقهما إلى مملكتهما البعيدة .. يستمدان من تمرد هما المتلاشي وقودا لمالأت رحلة حبلى بالوعد والمواعيد  والاتقاء .....

القاهرة ديسمبر 2003

 

أرض النبؤات ..

أو

العودة إلى سنار

رواية قصيرة

 

 

إهداء..

إلى روح جدتي جادينة جانو ,حنين دائم لتلك الليالي المقمرة , ونحن نغرق على رشفات الحليب الدافيء.. في حكاياتها المترعة بالشجن عن: الوادي والأمكنة والليل والقمر والمطر ..احمد,

 

(وأنا "تيرياس", كان عقابي العمى ,لأنني رأيت "أثينا"حينما كانت تستحم واشتهيتها , ولكن الآلهة أشفقت على , فمنحتني موهبة فهم لغة الطيور النبوية ,ولذلك أقول لك يا "أوديب" إنك – وإن كنت لا تعلم – أنت الرجل الذي قتل أباه وتزوج أمه , ولهذا يجب أن تنال عقابك ..) لم تعد تفارقني قناعتي التي ترسخت , وتأصلت في نفسي , يوما بعد يوم: بأن العميان يتحكمون في العالم , بواسطة الكوابيس والأوهام .. أبطال وقبور/ أر نستو ساباتو.

 

القسم الأول :

(1)

حدق "أبو جريد" عميقا في عيني "مسك النبي" . يحاول أن يمسك ببصره ,رموش عينيها اللتين أنكفى جفناهما ,على الأفق السحيق..

انطويا على الطبيعة., التي بدأت تتغير حولهما . بدت السماء الزرقاء معتمة ,والصمت الذي يسبق العاصفة .,يخيم شيئا فشيئا ,منذرا بدوامة ,من أحاسيسهما., وأحاسيس الوادي ,التي تشد كل شيء بعيدا , بعيدا..

دنا منها قليلا , فلم تحرك ساكنا . كانت إحدى كفيها على حجرها , وكفها الأخرى تنبش الرمل حينا , وتخط عليه خطوطا وأشكالا متوترة , حينا أخر.

كانت السماء حولهما قد أظلمت تماما  , وأوحى الجو بنذر عاصفة , بدأت تتشكل داخلهما . أخذت الريح تهب خفيفة ,ولا تخلو من ذرات الغبار العالقة في الهواء , ثم أخذت تشتد وتقوى , وقد بدا صوت تساقط أوراق الشجر الجافة ,والأغصان اليابسة الهشة ,واضحا ,يطرق أذنيهما كسندان .

نهض أبو جريد , امسك بمسك النبي من وسطها , يجذبها إليه, ليحتميا تحت شجرة قمبيل هرمة .

أخذت البروق والرعود تضيء الدغل بلمع خاطف , متقطع بين حين وآخر, ثم توالت الرعود تصم الآذان , ومع أول رعدة داوية ,انكفأت مسك النبي, في أحضان أبو جريد كطفلة صغيرة مذعورة ..

 كأنها لم تعد مسك النبي .تلك الفتاة المتوحشة ,التي عاشت الوحدة والوحشة ,بهذا القفر لوقت طويل .. منذ دخل أبو جريد عالمها ,تغيرت عاداتها .,وانقلبت حياتها رأسا على عقب , فلم تعد هي هي ذاتها ..

 اختبأت عميقا في أحضانه , وهو يربت على ظهرها بلطف , وكلما اشتد الرعد التحمت به أكثر ..

كان ذلك محض ذكرى بعيدة., لا تفتا تداعب خواطر الأشرمين ., منذ انتقلت والدتهما مسك النبي, إلى الجانب الأخر من الهاوية , فشيدا لها ضريحا في "دريب الريح" .,وغادرا المكان إلى "دار صباح" ,في الوقت ذاته الذي كانت جيوش (دار الريح ودار صباح ,والصعيد والسافل )المتحالفة تدهم "بلدة الأرباب" .

اجتاحت الجيوش المتحالفة بلدة الأرباب, بعد أن أسقطت كل حواضرها., واحدة تلو الأخرى., ذات فجر غريب ,بدا غامضا منذ لحظة انبلاجته الأولى .فجر بدا منذرا بحوادث وصر وف .,لم تخطر على بال "أبو جريد" ذاته طيلة حياته, التي أنفقها في تأمل النظام والكون .,وسلطة الجسد العاري. لتتكلل حياته في النهاية , بالقتل مسموما بسم ثعبان"أبو الدرق" القاتل..

هكذا انتهت مسيرته العامرة بالحيوية., والقلق والتوتر والحكايات العاطفية التي لم تتم, على نحو مأساوي (كان متوقعا منذ وقت طويل ,لكنه تأخر كثيرا ),الأمر الذي ظل يثير الريبة !..

فأبو جريد ببصيرته الماكرة. كان يريد صياغة (بلدة الأرباب), على نحو كوني ,يجابه به تلك التطورات التي أدت في (دار صباح)  إلى استعمار الناس, واستيراد المزيد من الجماعات الاثنية إلى أسواقها ,دون تقسيم محدد أو واضح للعمل ,أو إعطائهم الحريات الكافية , التي تمكنهم من أن يكونوا ذاتا كغيرهم .,في مجتمع دار صباح المنغلق ,الفج إلى حد الرثاء.

لذا كان أبو جريد يتصور بلدة  الأرباب كمشروع كوني ,يقوض الأسس التي نهضت عليها دار صباح, و توابعها في مشرق الشمس ومغيبها و(صعيد النهر وسافله )..

هدمت الجيوش المتحالفة كل بيوت البلدة ,ووضعت الأرباب العجوز الماكر في خازوق, تحت "عرديبة الدود ", بعد أن عرته و اقتلعت عينيه من رأسه .

احرق جيش المتحالفين  بيت الأرباب وقبته , التي كانت وقتها ترقد داخلها "تاجوج" طفلة "ود النمير" .

وبعد أن خوزقوا الأرباب ,وأحرقوه .مضوا فاحرقوا "عرديبة الدود" ,التي اجتثوها من عروقها . وردموا الأودية الثلاثة , ولم يبقوا حتى على مفرقها , واحرقوا الدغل المتكاثف في "عرين الوحوش" .

وهكذا أصبحت كل ارض البلدة جرداء , كأن بلدة الأرباب لم تكن يوما , واقعا متجسدا !!.

 فعلوا كل ذلك في لمح البصر. وكأن جنودا من الجن تحارب., وتخرب وتحرق معهم .ثم قتلوا كل الرجال .ولم يأخذوا معهم أي غنائم., أو أسلاب سوى النساء .

كانوا وهم منسحبين بالنساء الأسيرات, حريصين ,على إحراق كل ما نسوا إحراقه , أو لم تصله نيران الحرائق, التي أشعلوها في كل أركان البلدة .

وهناك عند منتهى "دريب الريح" ,حيث مقام "مسك النبي" العرافة العجوز., صاحبة القهوة , أوقفوا حشودهم , لتقسيم الأسيرات بين جيوشهم المتحالفة .

ولجمال فاطمة السمحة الفتان اختلفوا عليها., اختلافا كاد يفضي إلى سفك الدماء بينهم , إذ كل فريق منهم ,أرادها أن تكون من نصيبه .

فنهض عمدة "الصعيد" و"السافل" , وانتحيا ركنا قصيا يتشاوران . جاءا بعدها , ونادا بفاطمة من بين صفوف الأسيرات , فلما اقتربوا بها منهما .,طعنها الاثنان طعنة رجل واحد,في ثمرة الفؤاد تماما.

ماتت فاطمة السمحة(وربما لم تمت فقد رآها الجميع تحلق فوق رؤوسهم, ولا يزال دمها دافئا ,ينقط على وجوههم المذهولة) واندثرت بلدة الأرباب., التي أبدا لم تكن يوما مكانا دافئا., يأوي إلى حضنه الأهالي . فهي بلدة مضعضعة. شيدت من الدم والدموع .,والأوهام كأحد اكبر كوابيس الغربة والحنين .

وبعد عشرات السنين .,ستنهض مكانها بلدة أخرى , تستمد أسباب وجودها من ذاكرة المكان , حيث كانت الأرباب يوما ..

بلدة الأرباب مع ذلك نهضت في النظام ,محتشد الموارد والقدرة الباطشة ..النظام  الغني إلى حد الفشل والإخفاق وإثارة الرثاء أو السخرية  ..

 فكان من الطبيعي, ألا توجد موارد معارضيه إلا خارجه , غير أن الأرباب كبلدة مركزية ( لا بالنسبة إلى حواضرها فحسب, بل هي متمركزة حتى بالنسبة للديار الأخرى) ,عملت على إلا يكون ثمة ما هو خارج لها, إلا بقدر ما يمكن أن يكون في الديار الأخرى, التي تطمح للاستيلاء عليها , ولذلك رغم سطوتها على أهالي الأرباب ,كانت سلطتها خفية لا ترى , إلى درجة الزعم بأن لا وجود لها البتة !!...

ذلك أن الأرباب جعل خيطا رفيعا وحسب :هو الذي يفصل بين هيمنته ,وحرية أهالي الأرباب , فلم يستشعر احد,أي شكل من أشكال المركزية ,في بلدة الأرباب رغم المشاعر الغامضة, التي تتناهبهم وتتناهبهم أحيانا,بان بهذه البلدة ثمة أمر غريب..غير مألوف . يضرب سياجا من الرقابة, على كل شيء حولهم  .

بعد عشرات السنين , ستنهض مكان هذه البلدة المسماة "بلدة الأرباب" .,بلدة أخرى باسم آخر ( لا يزال في رحم الغيب ),لكن سيظل دائما محور تفكير العابرين, بذاكرة الأرباب هو تلك المرحلة المهمة ,من تاريخ الجغرافيا التي نهضت فيها البلدة  , و مراحل الحياة المتعاقبة على هذه الجغرافية , حيث يتوقفون (هؤلاء وأولئك العابرين على ذاكرة الأرباب)عند مرحلة بلدة الأرباب ذاتها , هذه المرحلة الوسيطة .,من تاريخ البلاد الكبيرة , التي تعتبر الأرباب جزء ضئيلا جدا منها . وهكذا يظلون يطرحون أسئلتهم العديدة ,دون أن يحصلوا على إجابة واحدة مؤكدة .

سوى أن هذه الجغرافية., المدعوة بالأرباب, تنهض الحياة فيها وتندثر , ثم تنهض مرة أخرى نابضة بالحياة , وهي تحمل اسما .,غير الذي حملته عبر آلاف السنين , اسم "بلدة الأرباب" , برجالها الذين يتسمون بوسامة خبيثة , ونسائها ذوات الجمال الشرير , وأرواح سكانها . كل سكانها ..أرواحهم المسمومة ...

لم تكن بلدة الأرباب قد فرغت بعد., من بناء نفسها كأمة واحدة , عندما بدا العالم الذي يمدها بأسباب البقاء يهتز ثم ينهار .. لم تكن قد فرغت من تشبيك نفسها كأمة واحدة , من هذا الخليط غير المتجانس , الذي يكوِّنها : خليط الأرقاء والمنبتين والجواري والمجرمين وبقايا "الزبالعة ", الذين افلتوا من قبضة سلطان "دار الريح" و"الصعيد" و"السافل" و"دار صباح". هؤلاء الذين توافدوا من كل هذه الأماكن , وشكلو الخليط, الذي كوَّن النسيج الاجتماعي., لبلدة الأرباب . كانوا مهدمين في داخلهم , إذ امتلأت جوانحهم بالشروخ والانهتاكات , ولذلك لم تتسم بهم بلدة الأرباب بالخلود ,كالنقش الذي على ُجدُر كهوف "عين فرح" أو "البر كل" ,أو معبد الكبش بوهين .

لم تتسم الأرباب بالخلود ,كالحضارات التي تعود لآلاف السنين , فقد كانت بلدة مضعضعة , غير مستقرة , مأساوية الطابع , يعصف بها الشقاق والحنين , ولذلك فان كل شيء فيها, كان عابرا وهشا ..

ليس ثمة رسوخ يسم أي نوع من أنواع الحياة فيها : لا زواحفها أو طيورها وحيواناتها, وكائناتها المائية ولا إنسانها ,. كل شيء فيها كان سريع العطب ,وعرضة للفناء على نحو غير مألوف .. حياته قصيرة , سريعة الزوال والتبدد.

فالأرباب ليست حضنا يتم الإيواء إليه بحميمية , وليست وطنا يلتمس فيه الدفء., فهي محض مكان مضعضع .,ومبهم وغامض , شيد من عجين دم "أبو جريد" كبير "الزبالعة" , وذكريات الخيانة والهروب ...

- تاريخ الأرباب هو تاريخ الغزوات التي تعرضت لها !.

تنهد أبو جريد بعمق وهو يلقي بكلماته الأخيرة , محاولا  تقيؤ السم من أحشاءه .

هكذا إذن كانت الأرباب, غريقة في ظلمة غير محسوسة , ظلمة تلف روح أبو جريد المغادرة .,بغلالة خشنة., شكلت من فلسفته ونمط الحياة والعمل., وطريقة الرؤية للأشياء ,والاندماج في المجتمع ..الرؤية التي أرادها للأرباب يوما..

هذه الغلالة الخشنة غير المحسوسة كظلمة الأرباب , هامت بروح أبو جريد إلى كهفها السحري , المرعب ,بظلماته التي بعضها فوق بعض . تاركة جثمانه ,للأرباب ,ليضعه في مثواه الأخير, عند عرديبة الدود.

الأرباب التي أرادها أبو جريد , ليست مجرد بلدة , فهي حالة انتماء إلى نمط جديد في الحياة ,حيث تختلط الشعوب وتتقارب الاثنيات , وحيث يمكن للمرء أن يولد من جديد . انه العالم الجديد ,الذي نهضت على أنقاضه أخر الممالك القديمة , في مواجهة البلاد الكبيرة(التي تقودها دار صباح) ذات الوجه التاريخي الموغل في القدم .

 فالأرباب هي نموذج مختصر , وكون مصغر ,عن كل البلاد الكبيرة . والأرباب نفسه الذي أسسها بمساعدة أبو جريد , كان يدرك الطابع المؤقت .,والسريع العطب لحياة بلدته . ولم يستطع التوصل أبدا للأسباب., التي تقف خلف هذه المشكلة .

ولكن لم يكن ثمة شيء يمنعه من دفع الأهالي, للأخذ بهذه الحياة المؤقتة., حتى النهاية ,فقط أن يأخذوا منها في إطار طوائفهم .,التي تمثل نظام تفكير الأرباب المعدل .,عن جوهر فلسفة أبو جريد ...

عندما اشتد ساعد الأرباب بهذه البلدة , بمساعدة أبو جريد ,وتجمع الفارين من مغرب الشمس وشروقها ,ومهبط النهر الكبير وصعوده , وتجمعت طائفة أبو جريد الهاربة, من مشانق "القِبَل الأربعة" , ولاذوا بالأرباب .,(التي وقتها كانت فكرة للتو ,في خاطر أبو جريد )..

كون الأرباب من كل هؤلاء وأولئك نواة جيشه , ووضع على بوابات البلدة, الناشئة لتوها حامياته .

وهكذا بدأت معالم البلدة تتضح , كطموح لن يلبث أن يسفر عنه الغزو المتتالي., للصعيد والسافل ودار الريح ودار صباح . والاستيلاء على أراضي واسعة, باتت حواضر تابعة للأرباب العاصمة .

بلدة الأرباب من دون كل بلدات البلاد الكبيرة ,ظلت غير مكتشفة من قبل علماء الجغرافيا والتاريخ, وموظفي الإحصاء وخطط السكان . وعلى الرغم من أن العديد من الرحالة الأجانب مروا بها .,ومكثوا فيها حينا من الدهر , وعاصروا فيها الكثير من الأحداث , حتى أن احدهم روى :

(( أنه في إحدى الشتاءات الغابرة .,جاء الفرنسيون والإنجليز والإيطاليون .,تحت قيادة المقدم "مول " والنقيب "كاريو فيقينشو"., قائد الفرقة السنغالية ,من جيش المستعمرات , إلى تخوم بلدة الأرباب ,( التي حينها لم تأخذ هذا الاسم , فقد كانت وقتها حاضرة مملكة غابرة ). جمع سلطان هذه المملكة جيوشه ,وأرسل للجيش الغازي يستفسره , لكن كاريو لم يرد , بل زحف إلى الوادي الأوسط , متوغلا شرق البلدة , بعد ذلك جره السلطان إلى الحرب , فقد أمر أتباعه ببناء"رواكيب" في الوادي, تحت شجرة جميز كبيرة , تقع على شط الوادي  شرق البلدة .

نظم السلطان جيشه من المحاربين .,حملة الحراب ,ثم كمنوا في أشجار الوادي ,ثم جاء فوقف محاربيه مستعدين للقتال, في صفين وسط مجرى الوادي .

قال السلطان :

- أنا أول من يطلق النار على هذا الكافر .

حضر فينقيشيو مادا يده للمصافحة , وبدلا عن مصافحته أشار إليه السلطان , إلى "الرواكيب"تحت شجرة الجميز .ذهب كاريو فينقيشيو إلى"الراكوبة"., ودخلها فلم يرى سوى أرجل الطير ,ولم يكن هناك ما يدل على الضيافة , فخرج ورمى بقبعته أرضا ,وأمر جنوده بإطلاق النار ..

 وقبل أن يطلق الجنود النار ,أطلق عليه السلطان النار., فارداه قتيلا ,وهجم رجال السلطان بحرابهم ,على الجنود واعملوا فيهم قتلا , وطاردوهم حتى غرب الوادي , ولم ينج منهم سوى ثمانية ..))...

كانت هذه أول وآخر حروب هذه الحاضرة , إذ تمكن الإنجليز والفرنسيين والإيطاليين, من ابادة سكانها فيما بعد , وصارت مهجورة, إلى أن لجأ إليها "أبو جريد" مصطحبا الطفل الأرباب , فبدأت تدب فيها الحياة من جديد . بعد أن كانت مهجورة لعشرات السنين.

المفارقة أن خرائط الرحالة., التي رسموها للبلاد الكبيرة ومدوناتهم ,أغفلت هذه الجغرافية , ولم تشر أبدا للموقع الساحر, لبلدة الأرباب أو تاريخها العريق .

 هذا التاريخ و الموقع الناهض في قلب العزلة ,بطبيعتها الملونة ,حيث يجتمع بريق النجوم .,مع صفاء سماء الظهيرة .هذه الطبيعة التي استمد منها "ود النمير" .,رفضه ,للوضع العبثي الذي صاغ عليه الأرباب البلدة .

فود النمير عندما أحب " فاطمة السمحة" , كان كالخارج للتو  من نفق , يتلمس حدود وعيه الكامن ,ويتحسس حدود العالم., الذي سجنه فيه الأرباب ,فحول حياته بذلك إلى حلقة مفرغة . اللحظة التي أحب فيها ود النمير فاطمة., إذن  هي اللحظة ذاتها .,التي بدأت تتلاقى فيها فتاتات طفولته., التي أغرقتها بلدة الأرباب ,في كوابيسها ..

 وهي اللحظة ذاتها التي أعلنت فيها القدرة الكونية ,بداية النهاية لعصر من الارتخاء والناس الهلاميين . ففتات طفولة ود النمير, بمثابة فتاتات أهالي البلدة وسقط أشجانهم.

حيث تنهض هذه الفتاتات الآن ككتلة واحدة .,تقاوم أنين الأهالي الذين لطالما (عذبهم  ود النمير شخصيا ) بإيعاز من عيون الأرباب أو طائفة العميان , دون أن يخالطه أي شعور بالأسى أو الذنب.

الآن فقط يحس شيئا مختلفا ,فيدرك عبثية حياته بالأرباب . ويدرك أكثر من ذلك .,إذ يرى أن أزمة بلدة الأرباب., تكمن في إمكانية استمرار التواصل ,التي دونها العقبات والعوائق ,ويرى بعيون مفتوحة, فارقها العمى الذي حكم حياة الأرباب .

يرى و يدرك لأول مرة ,ومن قلب خوائه الموحش.أن أهالي الأرباب إنما وحدهم البؤس .. بؤسهم الذي يدفعهم الآن للبحث عن منقذ., بعيدا عن أوطانهم وبيوتهم ,بعيدا عن الحنين الذي يعشش داخلهم ..

 ذلك الحنين إلى كائن أخر.. إلى أرض البلاد التي يحلمون بها (تلك البلاد المتوهمة , التي لا وجود لها ).. إلى الماضي .,بعيدا عن عبثية الأرباب ,التي ظلوا يعيشونها مرغمين .

كانوا كعاشق يتعلق بصورة وهمية.,فقط لأنها الشيء الوحيد المتاح له .. صورة وهمية رأوها في حلم عابر., لكن قوي ,فلاذوا إليه هاربين , باحثين عنه ,بين ظلال طفولاتهم, الغارقة في الوهم ..

عندما التقت عينا ود النمير بعيني فاطمة ,أدرك كل ذلك وأكثر ,فأصيب بالسهر والحمى ,وجعل جسده يرتعش ,وتفكيره كالمجذوب..كان لحظتها يعيش تمزقا عظيما, سرعان ما سيتبدى عنه ود النمير آخر .. ود النمير الراغب في حياة أخرى ,غير التي ألفها في الأرباب.

(2)

كانت البلاد الكبيرة في بدايتها ,تشتمل على عناصر دولة عظيمة , لكنها أبدا لم تنجح في بناء هذه (الدولة الحُلُم )من العناصر المتوافرة , فظلت هذه العناصر متشرزمة على نفسها, في دار الريح والصعيد والسافل , ومثلت دار صباح مركزا خبيثا , يسعى للسيطرة على دار الريح والصعيد والسافل .

تعاقب على دار صباح عمد وشيوخ وزعماء طوائف , توحدت إرادتهم في سحق كل ما عداهم , ومن هنا أغلقت الديار الأخرى نفسها عليها , ووضعت متاريسها للحؤول دون هذه الهيمنة , وقتها كانت الطائفة (الجريدية) في دار صباح قد اشتد ساعدها , ومضت تحفر عميقا , تهيئ نفسها للحلول محل هؤلاء العمد والشيوخ ,وزعماء الطوائف الذين لم يكونوا يملكون مشروعا واضحا ,اذ كانوا أشبه بحالة متمركزة من التبدد والزوال ,المرتقب في أي لحظة , متى وجد قوة واسعة النطاق وكافية لدفعه تجاه هذا التبدد..تجاه هذا الزوال...

ولكن زعماء الطوائف أدركوا ما تخطط له الطائفة الجريدية, التي انبثقت من بين طوائفهم المتباينة, لتكون نفسها كطائفة هجين ,تنطوي على توجهات كل الطوائف في دار صباح .

وهكذا قوبلت الطائفة الجريدية ,بتحالف سلطة الزعماء والعمد والمشايخ , وجوبهت مجابهة قاسية انتهت بتفكيك صفوفها . لكنها لم تلبث بعد مضي وقت ليس بالقصير ,أن خرجت من ذكريات القمع والبطش الذي جوبهت به . ضمدت جراحاتها , وشكلت نفسها من جديد في بلدة الأرباب, لتبدأ زحفها من هناك .

بلدة الأرباب مثلها مثل كل الممالك الغابرة, في البلاد الكبيرة ,خرجت من الجغرافيا إلى التاريخ ,لتعود مرة أخرى إلى ذاكرة الجغرافيا ,دون تأريخ لحياتها القصيرة.على الرغم من شمولها على مقدار خرافي من الشر والألم (اللذين ينالان إعجاب المؤرخين واهتماماتهم)بحيث يكفي ,( هذا الشر والألم الذي ينضح به ترابها) أن يكون  مصدرا للإحساس بكل أوجاع البلاد الكبيرة ,متخطيا الأرباب وزبالعتها ..

ومع ذلك الأرباب بلدة بالغة الروعة والتعقيد, بدء بالطقوس التي كان يقيمها أبو جريد كل عام., بعد خروجه من خلوته .,التي تمتد إلى أسبوع ,لتنتهي بالاحتفال مع جمهرة من النساء الجميلات .,المعطرات بخلاصة الريحان البري, والمسك والزعفران ,النساء أنصاف العاريات إلى حد إشعال النيران واسعة النطاق ,في أفئدة الحضور والغائبين..

كانوا يحتفلون بعريهم في الحديقة الغناء ,التي أقامها أبو جريد خصيصا لهذا الغرض ,أمام قبته مباشرة ,يذوبون في أشواقهم التي يتداخل همسها ., مع ظلال همس الأشجار , والبخور الذي يجعل عريهم ضبابيا  ,فلا يبين سوى إيقاع الدلوكة الخافت . والتنهدات التي تعلن استسلام ابوجريد والأرباب وحيرانهم .,إلى نساؤهم المتعطشات .

الدخول إلى الأرباب., يعني ولوج عالم لا يعترف بالاختلافات أو الحدود ,ومع ذلك هو عالم مغلق على خصوصيته .. خصوصية أبو جريد المؤسس الفعلي للبلدة , التي تسعى للتجرد من الحجب الجثمانية للارتقاء., في مدا رج الروح ,إلى الوطن السماوي ,حيث الرؤى الخالدة,التي تمثل الأرباب حدا أدنى من مظاهرها . وتجلياتها. (كما كان أبو جريد يتصور دوما, دون أن يخالطه شك أو ريبة ).

عبرت بلدة الأرباب عن طموح أممي .,كوني ,جعلها هدفا لدار صباح ودار الريح والصعيد والسافل ,إذ ركزت في بداية منشأها .,على عهد أبو جريد ,على اتفاق المصلحة بين الفقراء ضد الأغنياء( أولاد البحر )الأشراف(المزعومين) . بغض النظر عن أصولهم الحقيقية,الضاربة في سواد الممالك الغابرة للبلاد الكبيرة .

وكان هذا الاتفاق., نتيجة إلحاح الضغط المتعاظم, للتطورات الاقتصادية والاجتماعية في دار صباح ,و التي انتجت حالة الثورة.,التي اعترت دار الريح والصعيد والسافل ..

فكانت الأرباب احد ردود الفعل الأكثر قوة ,كموقف من هذا الضغط ,من هنا نشأت كملاذ لاحتواء المنبتين والفقراء ,فقدمت الدعم للفلاحين الذين استقطبتهم عبر طائفة أبو جريد ,ولم تلبث أن سيطرت بقوتها كلها ,على التجارة مع دار الريح والصعيد والسافل ودار صباح , وألحت على تحقيق اكتفائها الذاتي ,فعززت ذلك بضرب عملة من الرصاص, لمنع انتقال الثروة إلى خارجها .

وهكذا شكلت الأرباب علامة احتجاج فارقة  ,على الوضعية التي كانت عليها البلاد الكبيرة ,في أزمنتها الغابرة المتعاقبة , والتي لن تعود إليها أبدا., حتى بعد أن تقضي بتحالفاتها على الأرباب .

بلدة الأرباب هي شبه جزيرة , تقع بين ثلاثة أودية ,يحكمها فعليا "الفكي الأرباب" , الذي هو مصدر كل السلطات , حتى انه يعين العمدة ويعزله., أو يقتله ,دون أن ترتفع نبرة احتجاج واحدة .

ولد الأرباب طفلا غير شرعيا . عندما اكتشفت أمه إنها حاملا به , أخبرت والده المحتمل عمدة دار الريح ,. فاضطر للزواج منها .رغبة منه في عدم رمي لحمه السيادي ودمه النبيل .,على قارعة الطرقات .

ومنذ ولادته(الأرباب) فصلته أمه , وجعلته في عزلة تامة ,عن والده ,حتى لا تقع عينيه عليه,فينكشف أمرها الذي حرصت على إخفاءه .

واستمرت تفعل ذلك, حتى بعد أن أنجبت للعمدة أبناء آخرين ,إذ ظلت تفصل الأرباب., بعيدا عن الأب ,وتكتفي فقط بعرض أبناءه الآخرين عليه ,محتفظة بالأرباب "ثمرة حبها لابوجريد" بعيدا لنفسها ,فقد كانت تحبه كثيرا ,لكن لم يكن ذلك هو السبب ,فقد كانت تخشى عليه من العمدة ,لو اكتشف انه ليس ابنه !..

إصرارها على إخفاء الأرباب عن والده  .,جعله يغضب ويثور بعد طول احتمال , ويصرخ في وجهها:

- هذا الطفل الذي تخفينه عني, عندما يكبر لن أقدم له أسراري .

وهكذا أصبح الأرباب محروما من أسرار السلطة ,إلى أن منحه أبو جريد كل معارفه وأسراره, وحجر" كوتو" المقدس ومرآته السحرية .

منذ أن ولد الأرباب كان أخوته غير الأشقاء, من عمدة دار الريح يكرهونه ,فظلوا يحاربونه, وعندما استشعرت الأم الخطر المحدق بابنها ,طلبت من عشيقها أبو جريد, أن يأخذه بعيدا عن دار الريح ,حيث يكون آمنا ,ولحب أبو جريد الشديد لها (والذي كان قد فرغ وقتها من ترتيب أمور طائفته., في دار الريح , موكلا أمرها للفقير الفلاتي يعقوب),اخذ الأرباب وهرب به ,قاصدا المكان الوحيد., الذي استشعر انه سيكون آمنا فيه .

مكان قديم وحميم إليه . كثيرا ما كان يختلي فيه .,لممارسة بعض طقوسه ,على مقربة من دار حبيبته "مسك النبي ",عند ناصية  في منتهى دريب الريح, الذي يفضي إلى  شبه الجزيرة التي ستصبح فيما بعد "بلدة الأرباب" (حيث شيدا معا ,أبو جريد ومسك النبي ,مقهى للعابرين, وأقاما سعيدين إلى أن تركها ومضى إلى دار الريح).وهكذا قصد أبو جريد بالأرباب, شبه الجزيرة ,وهناك اعتنى به ..

وراح يغذيه بالأفكار والطموح وأسرار "الزبالعة",إلى أن اشتد ساعد الأرباب , وشعر أبو جريد انه لم يتبق شيء آخر, يمكنه أن يقدمه إليه ,فمنحه آخر شيء يملكه : (حجر كوتو المقدس) الذي ورثه عن أسلافه"الزبالعة" ,الذين كانوا قد ورثوه بدورهم .,عن جدهم الكبير ,عندما جاء من الجنة إلى دار صباح , ليحميهم من شرور الناس وشرور أنفسهم, ويهبهم السلام الداخلي .

-هذا الحجر المقدس ,الهارب إليه يأمن العقاب ..

قال أبو جريد وهو يمد الحجر للأرباب . وما أن حصل الأرباب على حجر "كوتو" ومرآته ,حتى دس سم "أبو الدرق" لأبي جريد ,وهكذا أصبح الحاكم المطلق على البلدة, التي أخذت ابتداء من هذه اللحظة تحمل اسم : "الأرباب" وتتوسع في كل ما جاورها .

طيلة وجوده بشبه الجزيرة ,لم يفكر أبو جريد يوما في أن يعرج إلى دريب الريح ,ليستعيد الشجن القديم ,حيث مسك النبي عند ناصية الدرب. وكلما هاجه الحنين ,قتله بمزيد من الطقوس, في عرين الوحوش .

وكانت مسك النبي نفسها, قد أصبحت تراه كذكرى حُلُمية بعيدة , كأنها لم تكن حقيقة واقعة يوما, فقد تآكلها الخوف عليه,في الأيام الأولى لرحيله ,ثم ما فتئت تحن إليه بين آن وآخر ,ثم نسيته تماما  أو تناسته .. ولم يعد ثمة شيء يذكرها به ,إلا اللحظات النادرة .,التي تنظر فيها متأملة شرمتي ابنيها التوءم .

فصل الأرباب رأس أبو جريد عن بقية جثمانه ,وقام بدفن بقية الجسد, في منطقة غير مطروقة من شبه الجزيرة.. وحنط رأس أبو جريد , وأخفاه في مخدعه. وكان بين أن وأخر يخرجه ,ليناجيه , فاكتشف أن الرأس امتلأ بالدود , فحمله في موكب مهيب , ودفنه في قلب البلدة , ولم تمض سوى أيام معدودات,حتى امتلأت تلك البقعة بالدود , الذي لم يلبث أن اختفى, ونمت على نحو مباغت شجرة عرديب محله ..

 إذ صحا الناس من نومهم ذات يوم ,ففوجئوا بشجرة عرديب خضراء كبيرة , في المكان الذي دفنت فيه جمجمة أبو جريد .

لم يجرؤ أحدا من الأهالي على التساؤل, عن الكيفية التي قضى بها أبو جريد, أو المواضع الحقيقية لجثمانه(الذي مزقه الأرباب أشلاء ,كما ذهب بعض أصحاب الخيال المرح) ,فقد كانوا جميعا يخشون سطوة الأرباب ,بجنده الكواسر, الذين كانوا يتزايدون يوما بعد آخر.

 بعد أن تمكن من إنشاء عدد من البلدات حول بلدته ,أعاد الأرباب تقسيم البلدة من جديد ,فأجرى تعديلات حاسمة على نظام الطوائف , فظهرت لأول مرة, إلى حيزا لوجود المعاصر للبلدة حديثة النشأة , طوائف أساسية وأخرى ثانوية ,ومن دون كل الطوائف أعطى الأرباب, عناية خاصة لطائفة العميان ,التي اخذ يعين منها العمد والشيوخ ب(الانتخاب الحر المباشر) , بعد أن قسم  الطوائف إلى طوائف أساسية وأخرى ثانوية ,وكانت ابرز الطوائف الأساسية هي : طائفة بني صعيد وبني سافل وبني دار صباح, وبني دار الريح وبني غُريزة وبني قاع . وهؤلاء بالذات (بني غريزة وقاع )كانوا يشكلون الجند الضاري لبلدته الوليدة .

عدم انسجام مجتمع الأرباب .,جعلهم في شقاق دائم(لكنه غير معلن ,فكان الأرباب يخشى من انفجاره ذات يوم) .,لذلك لم تستطيع قوات البلدة , التي تخرج للغزو بين آن وأخر., متجهة إلى دار صباح أو دار الريح , المكوث على ارض غزواتها وبسط هيمنتها على تلك الديار, بسبب اضطرارها للعودة إلى الأرباب, كظل لسلطة تمنع أي تمرد محتمل على أراضيها .

ولذلك كان جند الأرباب., يكتفون في الديار التي يغزونها . بأخذ الغنائم والأسلاب والنساء,بعد أحداث مجازر مروعة , يضمنون بها ظل سلطتهم بعد المغادرة ..

 ففي مجزرة دار الريح ,التي مضى فيها الأرباب على راس قواته ,تم إحراق كل الحواضر الكبرى لدار الريح , ولم يترك على قيد الحياة ,إلا من نجا بنفسه إلى الفيافي والقفار .

 وفي غزوتي الصعيد والسافل , هاجمت قوات الأرباب الحواضر .,من كل الاتجاهات وأحرقتها ,فقتلت في أول هجماتها عشرات الناس .

ظلت الديار(في الصعيد والسافل ودار صباح والريح) كلها تحاول أن تجتمع على كلمة واحدة ,لوقف الأرباب عند حده , فاقترح حكمائها الذين يحاولون جمع شتاتهم., أن يبعثوا بعيون إلى بلدة الأرباب, باعتبارهم من طائفة أبو جريد , ومن ما ستأتي به هذه العيون ,عليهم تحديد السبل المناسبة ,لوقف الأرباب عند حده (إذ كانوا يخشون ,أن يتمكن الأرباب في نهاية الأمر, من فرض سلطته على كل البلاد الكبيرة) ووجد هذا الرأي استحسانا كبيرا, من العمد والمشايخ.

في هذا الوقت الذي كانت فيه دار الريح., والصعيد والسافل ودار صباح., تستجمع شتاتها لوقف الأرباب عند حده , كانت طائفة العميان, في بلدة الأرباب يقودها ود النمير(لأول مرة على نحو استثنائي) تعتقل ثمانية من مواطنيها., بتهمة التواطؤ ضد الأرباب , وتسريب أفكار هدامة ضد الزبالعة .

أوثق العميان المعتقلين بالحبال , وجروهم بخيول السباق., إلى أن تنصلت أطرافهم , فتوفي منهم في الحال أربعة ,ووضع الأربعة الباقين في حفرة .,تحت عرديبة الدود للدفن أحياء .

استطاع الأرباب أن يغذي وجدان الأهالي., وأفكارهم بايدولوجيا طموحة , مغزاها النهائي أن تتمكن بلدته., التي تقع عند متكأ الليل, في مفترق تلك الأودية الثلاثة., من حكم كل ما حولها من جغرافيا , وظل هذا الحلم الشخصي للأرباب , يداعب خيال كثيرين من سكان البلدة .

ومع ذلك لم يكن من السهل ملاحظة., ما يمور تحت سطح البلدة . فما كان باديا للعيان وظاهرا في السطح حقا , هو شيء واحد فقط . يمكن تسميته بمفردة واحدة : الحب ..

حب ود النمير لفاطمة السمحة . هذا الامتداد لميراث كامل من الشوق و"الريد" والحنين ,بكل ما وسم الشوق والحنين ,من حكايات الجدات,ونبؤات العرافين البائدة.

(3)

نعم , النبؤات ..

النبؤات من جهة أخرى , وفي الطرف المقابل لأحلام الأرباب السرية والمعلنة ,هي ما شيد حياة بلدة الأرباب, وحواضرها , لكن ليس ذلك النوع من النبؤات .,التي قد تتبادر إلى الأذهان . فنبؤات بلدة الأرباب خاصة جدا , لا يمكن إلا أن تكون ,جزء من ميراث الأساطير , بما هي خلاصة تجربة ووعي الأسلاف .

نبؤات حكمت أحاسيس ومشاعر ود النمير وفاطمة السمحة ..

إذن نهضت الأرباب بادية للعيان ,في نبؤات الحب وعذابات المحبين ,الذين أنهكهم التوق القلق المتوفز ,الذي أصابهم بالحنين والغربة والجنون . ومن كل ذلك تشكل جنون الحياة والكيمياء اليومية لسلوك الناس  في كل البلدة وحواضرها القريبة والبعيدة.

ففي ذلك المساء البعيد المشبع برائحة "السعات" البري , سيجت "أم حجل" وجدان فاطمة السمحة., بنبؤة ظلت تلاحقها عاما بعد عام .

قالت الجدة , في ذلك المساء .,الذي هبت فيه النسمات الطلقة ,المحملة ببرودة دار الريح :

(عندما تلقينه ستعرفينه من دون خلق الله أجمعين .ستشعرين بانبساط وهو يتقدم نحوك, ويغمرك الإحساس بضيق المكان الواسع الذي تقفين فيه , عندما يبتعد عنك . وإذا صافحك تنتابك رغبة متناقضة .

فعندما تودين جذب يدك من كفه, تهيمن عليك رغبة إبقائها في حضن هذا الكف , ويصبح غمز الفتيات ولمزهن , كأنه يتقصدك . تشعرين كأنهن يستدعين اسمه , وترغبين في هذا الاستدعاء ,فتقتربين منهن ,تحاولين استدراجهن ,للحكي عنه , وقلبك يخفق كحجر الرحى .

هكذا تشعرين به , وان كان لا يعنيك حديثهن .

يتعلق بصرك بكل شيء لامسه : إناء الشرب..التراب الذي مشى عليه .الجذع الذي تخطاه وهو ملقى على الأرض بإهمال  .. كل شيء .. تشعرين به كلما رآك .,يتعمد ملامستك , والاتكاء على ما ظهر من جسدك ,كأنه لا يقصدك"لكنه يقصدك" .

 وما أن يمضي حتى تمسكين بالإناء., الذي كان في يده ,تحاولين شرب ما تبقى من فضلته . كأنك تدخلينه إلى جوفك ,ليبقى هناك في رحمك, مطلا على فرجك الأشرم ,يداعبك ويدغدغ قيلولاتك ,وأحلامك الكثيفة بحضوره المباغت .

وتفضلين الوحدة على مخالطة قريناتك ,تأنسين بطيفه , وقد يهتاجك الشوق., فيثير فيك لواعج البوح ومكامن الشجن .عند هذا الحد ,يجب أن تدركي انك وقعت في غرامه , وتدنفت بحبه , وان ما لا تقوى على حمله العذارى .,في رجفتهن الأولى , قد أثقل كاهلك , فلا تدعيه ابدا يراك عارية , والا أخذكما البين والفراق بجمره . فتلك قوة تدفعك دفعا .,دون أن تتمكني من التحكم فيها . فتذكري نبؤتي , ولا تقولي :

-تلك خترفة عجوز قدميها والقبر !.

فود النمير يا فاطمة يحمل بين تجاعيد ذاكرته , مثلما تحملين من نبؤة , فهو حفيد الفكي الأرباب , من أختي "بنت مسيمس" ..

الفكي الأرباب الذي كان ببركته يجعل الماء رائبا , وإذا دعا على احد أن : ينفسخ جلده, ينفسخ في الحال! . حتى انه أعطى إحدى المطلقات., تميمة لجلب الحظ , شريطة إلا تقرأها , فتغير حالها وسعدت أيامها , ولم تعد سيرتها الأولى., إلا عندما أعطت ورقتها "التميمة"لأحد العميان كي يقرأها لها ,ففتح ثنياتها وقرأ:

- حموزة مهيوبة ,حمراء لهلوبة ,تلعب الهوبة ,في جزا ير النوبة!.

كما أن "الفداديات" صانعات الخمر البلدي ,كن ينادينه ليفزعهن :

-يا شيخ أرباب . يا راجل الفدّه والمدّه . تلحقنا وتفزعنا. وتكمل مر يستنا .

فكن لا  يلبثن إلا قليلا ,حتى تباع كل مر يستهن ,ويفرقن شيئا منها كرامة للرجل الصالح , صاحب اليد اللاحقة ,الفكي الأرباب .

فالفكي الأرباب جد ود النمير, كان يعرف الرجال بأسماء أمهاتهم , دون أن تسبق له رؤيتهم ,وكثيرا ما كانوا يستعينون به ,لحل القضايا الشائكة, التي تفشل طوائفه في حلها ,فيغمض عينيه برهة  من الوقت .,ويفتحهما ,فيقول الخبر اليقين !!!.

نبؤة ود النمير يا فاطمة ,التي اخبره بها الفكي الأرباب :أنه سيراك وهو عابر في الطريق , ومن النظرة الأولى تأخذين بمجامع قلبه , فيتخلل حبه لك جميع أعضاءه ,فينصرف عن شأنه ,ليصبح عبوره إليك هو شأنه الوحيد . يتبعك مأخوذا ,تدفعه قوة لا قبل له بها ).

قالت الجدة ذلك وصمتت , ولم ينجح احد بعد ذلك على إنطاقها . كانت قد ألقت نبؤاتها في وجه حفيدتها وآثرت السكوت .

(4)

هنالك عدة روايات .,حول السيرة الذاتية لأم حجل .,جدة فاطمة السمحة , وشقيقتها بنت مسيمس , ولكن الرواية الشائعة تزعم : إنها ولدت بعد أن بلغ الكبر .,من أبويها مبلغا انقطع معه حبل الرجاء ,فذهبا إلى الفكي الأرباب., الذي اشترط عليهما :إن رزقا بوليد ببركته , عليهما أن ينذراه حوارا له ,و إلا سيموت .

ولم تمض سوى أسابيع قليلة ,حتى بانت علامات الحمل.,على والدة أم حجل . وهكذا جاءت إلى الحياة منذورة لخدمة الفكي الأرباب . فما أن أوشكت على البلوغ ,حتى أوفى أبويها بنذر هما , وأخذاها حوارا للأرباب .

لكن وفقا لرواية أخرى ,(غير هذه الرواية الملتبسة ),نجد أن والد أم حجل., قد قتل قبل أسبوع ,من قبل العمدة الأعمى (تسربت وقتها كما يقول الرواة المصابين بداء النميمة المزمن ,شائعات بأنه مات حزنا ,لأنه سيفارق ابنته المنذورة للأرباب , وبالطبع لم تشر أصابع الاتهام للأرباب على الإطلاق) .

تؤكد الرواية أن العمدة الأعمى, قام بتسميم والد أم حجل بسم أبو الدرق ,لاعتقاده أن أرضه التي أجدبت ,لن تعود خصبة : سيرتها الأولى ,إلا إذا دفن فيها  قتيل بسم أبو الدرق ,شريطة أن يكون بكرا من أبوين بكرين بين اشقائهما , ومتزوج كذلك من امرأة بكر بين أشقائها , وليس لديه سوى بنت واحدة لا تزال عذراء .

أمر الأرباب حواريه بإحراق دار العمدة .,والإتيان بأمواله إلى بيت الحيران ,والإتيان به شخصيا ملفوفا بحصير الشوك , وضربه بالعصي حتى الموت .

وفي الليلة التي تلت ذلك ,تقدم الأرباب من الفتاة الصغيرة أم حجل وتزوجها .

لكن رواية أخرى(خرجت من طائفة المتأدبين, الذين يقطنون بيوت المرايس) تفيد أن أم حجل كانت زوجة للعمدة الراحل , تزوجها الأرباب., بعد أن قتل زوجها العمدة . وهذه الرواية بالتحديد من الروايات, التي نادرا ما يتم الهمس بها ,وفي ظروف خاصة جدا ,بعيدا عن عيون الأرباب وعميانه .,الذين يملأ ون البلدة .

تؤكد الرواية انه وقتها ,عندما حدث ما حدث,وانتشرت الشائعات في الصعيد والسافل, ودار الريح ودار صباح ,أن الأرباب فعل ما فعل ,ليس إقرارا لقانون أبو جريد الأساسي .,الذي يحكم البلدة ,وإنما لأنه كان مغرما بأم حجل., زوجة العمدة الراحل .والتي كانت قد أخذت بمجامع القلوب , وأشعلت التنهدات من أقصى الصعيد., وحتى أدنى السافل ,عرجا على دار الريح .

وبالرغم من أن الفكي الأرباب., كان متزوجا في الأصل ,من بنت مسيمس شقيقتها ,التي بؤاها مكانة رفيعة بين زوجاته, اللائي بلغ عددهن التسعين ,إلا أن أحدا من الأهالي ,لم يجرؤ على الحديث عن ذلك, لا سرا ولا علانية ,خشية أن يدعوا عليهم الأرباب بفسخ الجلد ,فتنفسخ جلودهم في الحال . كما حدث لكثيرين من قبل , حاولوا التعريض به .

وهكذا نشأت "أمونة" ابنة أم حجل في كنف الأرباب ,فأدركت من حالاته ما أدركت ,حتى صارت تترجم عنه في الجذب,ما ينطق به من كلام غامض, لا يستطيع حيرانه تفسيره .

فالفكي الأرباب كان مغرما بإيقاع الدلوكة ,فبعد أن يجتمع بحيرانه للأذكار ,في ليلة اربعتاشر من الشعر العربي ,منتصف كل عام ,مرددين أذكارا أشبه بأهازيج البحارة . يهتف بعدها بأمونة :

-يا أمونة دقي الدلوكة . خادم الله الما مملوكة .

ويرقص على إيقاعها بجبته المرقعة ,ورحطه المرقش,يهز الجرسين المعلقين في أذنيه كالأقراط ,ثم يزغرد ويعطي "الشبال" لمن حوله .ثم يجلس منهكا .

يمضي بعدها معتزلا الناس في خلوة ,لا تدخل عليه فيها سوى أم حجل., وابنتها أمونة . حيث يبقى في خلوته سبعة أيام . يخرج بعدها إلى حلقة الذكر., في الحديقة الغناء(التي أقامها خصيصا لهذا الغرض) . فيجد الحلقة قد ازدحمت بمجيء النساء المتعطشات, مريداته من الصعيد والسافل ودار صباح ودار الريح,فينتقي من بينهن التي تروقه .,وكذا يفعل حيرانه ,ويمضي كل منهم بالمرأة التي اختار., لختام الذكر.

في هذا المناخ .,نشأت أمونة والدة فاطمة السمحة : غاية في الحسن والجمال والخفر ,والدماثة .عديمة الهزل , منيعة البذل ,قليلة الكلام.بديعة البشر.شديدة الحذر.نقية من العيوب.دائمة القطوب.حلوة الاعراض.مطبوعة الانقباض.مليحة الصدود.رزينة القعود.مستلذة النفار.كثيرة الوقار.لاتوجه الاراجي نحوها ,ولا تقف المطامع عليها ,ولا معرس للأمل لديها ,فوجهها جالب كل القلوب.تحسن الضرب على "الدلوكة" إحسانا ليس له مثيل.

ومن ذات هذا المناخ ,تشرب ود النمير بالنبؤات., التي ستحدد مصيره لوقت طويل .

تفيد رواية أخرى(روجت لها طائفة العميان) ,وتوارثتها البلدة فيما توارثته من حكايات ,عن السيرة الذاتية لبنت مسيمس وأم حجل (وهي الرواية التي حاول المتأدبين تقويضها سرا)أن أم حجل وبنت مسيمس ,جدتا فاطمة وود النمير ,حلتا على البلدة فجأة كالقدر ,قادمتين من دار الريح .كانتا كالتؤام ,بالرغم من أنهما خرجتا من رحمين مختلفين .

ربما أن مطابقتهما لبعضهما البعض., إلى حد كبير ,بسبب أن الفنجري , الرجل الذي تزوج السرة (والدة بنت مسيمس) هو الشخص ذاته( والد أم حجل من حبيبته العازة) , فقد دخل الفنجري على السرة والعازة .,في ظروف مماثلة .,وفي ليلة واحدة .فجاءتا بسبب ذلك متشابهتين ,وكأنهما خرجتا من رحم واحد.كالتؤام.وما أن اكتملت أنوثتهما .,حتى سافرتا تبحثان عن زوج لكل منهما ,فقد أخبرتهما والدتاهما.,أنهما ستتعرفان على زوجيهما ,ما أن تريا حمامتين تحطان على كتفيهما ,وتمد هديلها تجاههما .

وبعد وقت ليس قصير .,من نبوءة والدتيهما ,هجم جند الأرباب على دار الريح , وتمكنتا من الهرب .

كانتا وحيدتين .لا تعرفان إلى أين يفضي بهما الطريق .,الذي سارتا فيه . ولا أنيس لهما في وحشته سوى صوت والدتيهما ,تحكي عن نبؤات جدتيهما ..عن حفيدتين يأتيان إلى هذه الحياة,فيذيقهما الهرب وتحقق النبؤة من مراراته الكثير .

كان طريق الهروب شائكا .فالسماء مظلمة , والليلة باردة ,والوحشة حولهما كأنها رمزا يعبر عن روحيهما المنهكتين.

وكان المطر يتساقط رشاشا رشاشا ,تحمله رياح دار الريح ,التي تغرق بالحزن والفجيعة ,وهما وحديهما على الطريق الموحش ,الذي تهربان منه إليه ..الطريق المبلل بثورة الطقس البائس, والحزن الذي لا حد له .

 يلامس المطر وجهيهما , وهما تسيران على غير هدى ,مقطبتين الجبين .نظرهما مشدود إلى الأمام ..إلى لا شيء .فكل شيء بدا لهما مؤلما وشائكا ومتشابكا.حتى صوت الجدة., الذي يعبر عبر صوت والدتيهما .,طاويا المسافات البعيدة., في الأمكنة والأزمنة البائدة  والفراغ ,لينهض في وحشة الطريق ,بدا هو الأخر متشابكا .عميق الحزن واللوعة.لكنه متماسك ,يحاول أن يبعد عنهما شبح الوحدة والوحشة., والعواقب المحتملة للفرار..

كأن صوت الجدتين ,يتوحد في صوت واحد., يخرج من الحبال الصوتية لوالدتيهما ,متوحدا هو الأخر في طيف حميم يلازمهما :

-(في ذات الليلة التي خرج فيها الفنجري والد بنت مسيمس من دار عريس ابنة العمدة ,متوجها إلى دار زوجته السرة ,عرج على دار عشيقته العازة .,التي كانت قد عادت مع اهلها بعد رحيل طويل .

كان والد الفنجري .,مصرا على تزويج ابنه الفنجري من السرة, إيفاء بعهد كان قد قطعه على نفسه . فقد كان مغرما بوالدة السرة , وعندما لم يتمكن من الزواج منها ,لغلبة ابن عمها على الأمر , ورغبة والده الإيفاء بقسم كان قد قطعه على نفسه : بأنه طالما لم يتزوجها سيعمل على أن يتزاوج ابنائهما فيما بينهما .

هيمنت عليه ذكريات وده القديم مع والدة السرة. ولذلك عندما أنجب الفنجري وجاءت  السرة إلى الحياة ,داعبه عهده القديم, فقرر الوفاء به . فزوج ابنه الفنجري من السرة , ضاربا عرض الحائط .,بكل أحلام الابن الذي تدنف في عشق "العازة", وأحبها كما لم يحب والده أم السرة ذاتها من قبل .

فقد نشأ الفنجري والعازة معا . يرعيان الأغنام في طفولتهما الباكرة .يلهوان معا وظل يتبعها حتى إلى "عد "الماء عندما تكلف بالورود, بعد أن صارت صبية , وينتهز فرص اللقاء بها في سوق الاثنين من كل أسبوع , وكثيرا ما يتسللان إلى الدغل ,على شفة الوادي ,يمكثان معا دون حجاب . فانعقدت بينهما المودة., التي لا تبلى على مر السنين .

كان يغار عليها ,ولا يرضاها تحادث احدا غيره .رمى والده بكل ذلك خلف ظهره .واجبره على الزواج من السرة  .. التي ليست كحبيبته العازة .. السرة التي شهدت والدته على ختانها , عندما جاءت عجائز البلدة يحملن شفراتهن الحادة ,و يوثقن فخذيها حتى لا تتحرك , يستأصلن فرجها وبظرها .

ويقمن بضم الجزءان المقطوعان ,ويخطنهما بالسعف ,بعد أن يدخلن ريشة النعام., ليظل مجرى البول مفتوحا .ثم يضعن العجين على الجرح النازف .

 شهدت والدته ختانها وحكت له لإقناعه :

- العازة ليست كالسرة .العازة غلفاء بنت غلفاء , وهم أغراب عوا يدهم ما زينا .اسمع كلام أبوك وأخير ليك السرة .

ولم تمض سوى أيام قلائل, حتى سمع أن العجوز الخبيرة ,.كانت في بيت أهل السرة ,لتفتح لها عضوها بالموس الحاد . فأدرك أن والديه قد اتفقا مع والديها وقضي الأمر .

ففتح الخبيرة لعضو السرة ,ما هو إلا تمهيدا لزواجها منه ,حتى يتمكن من الاتصال بها .وتأكد له ذلك أكثر ,عندما أمره والداه بأخذ الهدايا., التي كانا قد أعداها إلي بيت السرة . (فقد أصبحت خطيبته ابتداء من هذه اللحظة المنسية).فاقسم امامهما بأنه لو تزوجها., لن يدخل عليها .,إلا في الليلة التي يتمكن فيها من الدخول على عازة, التي كان أهلها قد لموا عزالهم., ورحلوا من البلدة ,على أمل العودة مرة أخرى .,ما أن يفرغوا من الأمور التي دعتهم للرحيل  .

وهكذا ظل ينتظر تلك الليلة المتمناة لوقت طويل . وقد تداعت إلى ذاكرته .,كل الذكريات الحميمة مع العازة ,بجنون سباحتهما معا في مياه الوادي الباردة , وتسلقهما الأشجار , وركضهما متسابقين حتى ينال منهما التعب , فيستلقيان على الرمل منهكين .

وهو في انتظاره المرهق لعودة العازة و الليلة المتمناة , كان  طيفها يخطر في ذاكرته , خارجا من ادلهام ليال الانتظار الموحشة , وهي تميد كالأرض . ليتبدى عنها هياج الشجن والذكريات . فيتعرق ويتأوه مرددا اسمها كترانيم لم تحظى بالتقديس الكاف .

وفي تلك الأمسية., التي اجتمعت فيها دار الريح كلها في  الحاضرة , تحتفل بزواج ابنة العمدة . كانت العازة قد عادت وأهلها  . فعرج على دارها  , ثم مضى إلى العرس .

كانت دار الريح كلها  تحتفي بعرس ابنة العمدة , والناس ملتفون حول الذبائح والشراب, اللذان سرعان ما قدما إليهم  . وضربت النساء على الطبول يمدحن العروس , وتزين الرجال والشباب والنساء والفتيات, وبدت العازة بينهن جميعا ,في أبهي صورها , تخطف الأنظار بسحرها .

تقدمت العازة صف البنات , اللائي استوين في صف واحد .,بمواجهة صف الشباب , وهي تهز رأسها نحو الفنجري , حتى اقتربت منه فضربته بضفائرها وهي تهمس :

-  سأنتظرك في الدار .

ثم تراجعت تهز رأسها وهو يهز حربته خلفها .

وما أن بدأت النساء والفتيات .,يزففن العروس بالدلوكة , ملتفات حولها , في طريقهن إلى دارها , حتى انصرف الشباب والرجال , إلى دار العريس , الذي هتف فيهم :

- ليمض كل إلى محبو بته .

في ذات الوقت كانت العروس , قد صاحت بالفتيات ,أن يأتين بعشاقهن للقاء في ضيافتها . فخرجت العازة تمضي إلى دارها مسرعة . تعد نفسها لحبيبها الفنجري.,الذي كان في أثرها , وذاكرتها تتكشف عن شظايا ساكنة وخالدة : فالزمن في الواقع لا يمر بينها , فكل ما كان بينهما منذ الطفولة الباكرة يتكثف الآن , مصطفا كلحظات دافئة., تتراص إلى جانب بعضها البعض , كلحظة واحدة عارمة .. تتكثف كبوتقة., تسحبها للمضي لإعداد نفسها له . قبل أن يلحق بها .

بقى الفنجري عندها ولم يخرج .,إلا بعد أن غاب البدر خلف سحابة كثيفة , ومكث طويلا قبل أن يتسلخ منها .

 كان سعيدا ويشعر بنوع من الهدوء., لم يسبق أن شعر به .,منذ افتقدها برحيلها المفاجيء .

وما أن وصل إلى داره, حتى وجد السرة تنتظره., هي الأخرى في كامل زينتها ,وقد طالت وحشة فراشها , فتآكلها الجمر .

 في تلك الليلة التي اكتمل فيها البدر .كان الفنجري في أوج نشاطه وحيويته .فبكت السرة فرحا ولذة , وهو جاثم على صدرها , ويديه تطبقان عليها .

 كان بداخله شعور متناقض يدفعه للسيطرة على ذراعيها , وإخضاعها . اقترب بوجهه أكثر فأكثر , عضها على شفتيها ,وهي تصرخ من شدة الألم الحميم .انكفأت على نفسها وتلمست فمها بيدها .فركت شفتيها ثم ركضت خارج الدار , حتى وصلت الوادي . سبحت بعيدا بعيدا . كانت قد تركته وراءها , غارقا في نوم عميق .

ولم تمض سوى اشهر قلائل .,حتى اكتشف أن السرة والعازة قد علقتا منه .,في تلك الليلة الحميمة . فأنجبت السرة بنت مسيمس , وأنجبت العازة أم حجل , وحاصرتاهما بنبؤات جدتيهما التي لا أول لها ولا آخر , إلى أن دهم جند الأرباب دار الريح فلاذتا بالفرار .

عندما نالهما تعب المسير وإعياءه , صادفتا شابين أشرمين , انقبضت نفسيهما من رؤيتهما . حاول الأشرمين التقرب منهما لكنهما نفرتا منهما . كان الشابين قد دلاهما على قهوة عند نهاية الدرب , ليستريحا فيها . فمضتا باتجاه القهوة ..

كانت القهوة ملك لامرأة في منتصف العمر . هي والدة الأشرمين ذاتهما .اللذان كانا قد سبقا أم حجل وبنت مسيمس إلى أمهما , وقد اصابهما من حب الفتاتين ما لا طاقة لهما به . فقد وقعتا على قلبيهما موقع السهام .

همسا لأمهما بهذا الحب المباغت , حتى تأخذ في التفكير والتدبير .

حبلت مسك النبي بالأشرمين من أبي جريد ,عندما كان شابا .هاربا  .,من دياره في دار صباح , ووصل إلى هذا المكان فوجد فتاة كالبدر., ترعى أغنامها في الخلاء , لاشيء يحميها سوى كلبها , ولا معزي لوحدتها سوى أغنامها وقتها عرف, إنها يتيمة وهاربة من أرباب نعمتها , ووجدت أن هذا المكان أكثر أمانا لها . ولم تمض سوى أيام قلائل حتى انعقدت بينهما أواصر الصحبة فالود والحب , فشيد لها ابوجريد منزلا بغرفتين., وزريبة للأغنام وقهوة عند منتهى دريب الريح .,أمام المنزل ,لخدمة السابلة وعابري الطريق .

وهكذا استقر أبو جريد مع الفتاة الصغيرة مسك النبي, التي ستعرف فيما بعد بوقت طويل ب"العرافة العجوز صاحبة القهوة والدة الأشرمين (استقر معها بمخطوطاته وكتبه العتيقة , التي ما أن أكمل بناء المنزل ,حتى أخرجها من الجراب الكبير ,الذي كان يحمله عندما التقاها) .

في الأوقات التي لم يكن لديهما فيها عمل في القهوة, كان يحاول أن يعلمها من مخطوطاته وكتبه العتيقة , فاكتشف فيها عقلا وقادا, قادرا على التهام المعارف واجترارها.,بسرعة مهولة ,إذ سرعان ما تعلمت فك الحرف وربطه .وأصبحت حوارا متقدما بوعيه في طائفة أبو جريد(التي كانت هي كل أعضائها في ذلك المكان القفر الموحش) ...

كثيرا ما كان يتركها في القهوة, ويمضي للصيد أو جني الثمار, في الأماكن التي تحيط بالقهوة . أو يمضي ميمما شطر تلك المنطقة البعيدة., من شبه الجزيرة , عند منتهى دريب الريح , حيث "عرين الوحوش" .ليختلي بنفسه ويقيم طقوس طائفته متوحدا في وحدته ووحشته المهيبة  .

كانت مسك النبي والدة الأشرمين ,قد فقدت والديها في إحدى غارات دار الريح على الصعيد ,وهي بعد لم تتعلم الكلام ,فتبناها خالها . وما أن أصبحت تدرك ما حولها وتستطيع المشي والكلام ,حتى أخذ خالها وزوجته يرهقانها في عمل البيت ,دون أن يهتما لطفولتها الجريحة ,وعندما كبرت قليلا, أصبحا يكلفانها بالمضي بالأغنام للمراعي القريبة .,من بلدتهما في قلب الصعيد . فتمضي تهش الأغنام في الصباح الباكر, ولا تعود إلا عند الغروب . وما أن تعود حتى تكلفها زوجة خالها بطحن الذرة لطعام اليوم التالي .

كانت طفولة مسك النبي تهرب منها, بين ضغط المرعى وطحن الذرة .,الذي يكاد يقسم ظهرها نصفين .

وهكذا بدأت تخطط للهرب من هذا المكان, الذي يمزق فيها كل شيء , إلى أن اتخذت قرارها ذات يوم .,بدا مكفهرا منذ بدايته . ينذر بعاصفة غاضبة في الطريق .وما أن لجأ جميع من في الدار إلى مراقدهم ,قبيل حلول العاصفة بقليل , حتى كانت مسك النبي الصبية الصغيرة ,قد فرغت من ربط  ثلاثة من الأغنام وتيس .,من أعناقهم بحبل طويل. وقادتهم إلى خارج البلدة, ومضت لا تلوي على شيء .

حاصرتها العاصفة من "القِبَل الأربعة" , وهي تغذ في المسير لاترى ما هو أمامها أو حوليها ,حتى كفها المربوطة إلى حبل الأغنام ,لم تكن تراها . وبعد ساعات طوال من المسير المضني ,هطلت أمطار غزيرة , ووجدت مسك النبي نفسها ,في دغل يفضي إلى طريق طويل , ظلت تمشي فيه لأيام وليال ,حتى انتهى بها عند دريب الريح , فقررت أن هذا هو المكان., الذي ستبقى فيه .

عاشت مسك النبي على لبن غنماياتها الثلاثة,( التي صارت مراحا بمرور الأسابيع والشهور) . وجني الثمار .إلى أن رأت رجلا يغذ في السير, قادما من اتجاه شروق الشمس , فخافت في البداية ,ثم أمسكت بتلابيب شجاعتها ,وعندما وصلها كان منهكا. يبدو عليه الإعياء والتعب .فأطعمته قليل من الثمار ,وشيء من لبن الأغنام ,وهكذا بدأت حكايتها مع أبو جريد., والد تؤميها الأشرمين .

كانت الصراعات التي عاشها أبو جريد في دار صباح , بسبب طائفته "الزبلعية" , والتي انتهت به مطاردا ومطلوبا بشدة , لا تزال أصداؤها تدوي في ذاكرته . وبين حين وأخر يدهمه الحنين لمكان محتشد بالناس, يستطيع فيه إحياء طائفته., مرة أخرى من جديد . مكان غير هذا المكان القفر. المحصور بين دريب الريح., وشبه الجزيرة .

وظل الحنين يشتغل داخله مقضا مضجعه .,ومضعضعا أفكاره .,إلى أن اختفى ذات يوم , تاركا فتاته مسك النبي , حاملا في تؤمه الأشرمين , دون أن يعلم.

ومضى إلى دار الريح ,دون أن يترك خلفه أثرا يدل فتاته , على الدرب الذي سلك .

 في البدء حنت إليه , والمخاوف تعتريها أن يكون قد قتل , وما أن جاء تؤميها إلى الحياة .,حتى نسيته أو تناسته ,ولم يعد يداهمها الحنين إليه,اصبح بالنسبة لها ,كورقة شجر جافة ,سقطت عن حياتها المخضرة .. ولم تعد تتذكره إلا بشرمتي تؤميها, فيخطر على ذهنها :أنه ربما قتل في عرين الوحوش .الذي لم يكن ثمة من يجرؤ, للدخول فيه للبحث عن أي شيء!!.

كان أبو جريد والد الأشرمين في طفولته صبيا شقيا , مغرما بالنظر تحت ساقي النساء والفتيات . أرسلته أمه ذات يوم إلى جارتها ,ليجلب لها بعض الحطب , وبينما مضت الجارة لجلب الحطب, اختبأ تحت جذع شجرة ملقاة في باحة الدار . وحين جاءت الجارة صاحبة أمه., ترفع ساقيها لعبور الجذع , تمكن من النظر إلى أعضاء هما , ولم يكتف بذلك إذ غمزها باصابعه . فثارت فيه وضربته بعصا .,شطرت شفتيه شطرين . و عندما أنجبت منه مسك النبي تؤميها , ولدا أشرمين , يحملان شيئا من كيانه., الذي لم تتبق منه في ذاكرتها., سوى هذه الشرمة. والتؤام اللذان يرثان عنه أيضا غرامهما, بأعضاء النساء .

اللذان عندما رأيا بنت مسيمس وأم حجل ,وهما في إعياء السفر , دهمتهما رغبة عارمة في النظر إلى اعضاءهما , وصار يتعثران في بعضيهما البعض كالمخمورين .

(5)

سألا أمهما , التي كانت لا تزال تفكر وتدبر :

-إذا كره من نحب لقاءنا, وتجنب قربنا فما نصنع ؟.

-تسعيان إليه وان كره .

-لكننا نؤثر هواه على هوانا , ومراده على مرادنا , ولو كان في ذلك الحتف .

-اشد من الموت وسيلته , واعز من النفس ما بذل في سبيلها اختيارا. سأدبر لكما أمرهما , فاسمعا وأطيعا .

وصلت أم حجل وبنت مسيمس إلى القهوة , وحكتا قصتهما لأم الأشرمين التي استضافتهما ,التي كانت قد  علمت منهما أنهما هاربتان لا تلويان على شيء .

أعدت لهما مسك النبي ركنا ترتاحان فيه , واتتهما بطعام وشراب ..

وأخذت تنزوي خلف "الصريف" حيث لا يريانها , وتتمكن من سماع حديثيهما خلسة.,  في ذات الوقت , إلى أن تطرقتا في حديثيهما .,إلى نبؤة جدتيهما . فمضت إلى ابنيها الأشرمين وحدثتهما بما سمعت .

وعندما مضت تلك الليلة , واقبل الفجر ينير الوادي . تقدمت الفتاتان للمراة تشكرانها ,وتستاذانانها في مواصلة سيراهما .

حاولت أم الأشرمين اقناعهما بالمكوث عندها بشتى السبل , فرفضتا بلطف, وأصرتا على موقفيهما , فأذنت لهما بالرحيل .وهي لا تخفي استياءها . وما أن خرجتا إلى دريب الريح ,وقبل أن تبتعدا كثيرا ,حتى لاح لهما الأشرمين , وعلى كتفيهما حمامتين .,متظاهرين بانهما يمضيان في هذا الطريق مصادفة .

توقفا عند الفتاتين .,وأخذا يحكيان لهما نبؤة مزعومة., أورثها لهما جداهما , عن زوجتيهما المرتقبتين :

-كل الصفات تنطبق عليكما .

فأجابت الفتاتان بعد تردد, وهما تنظران إلى بعضيهما :

-حكت لنا والدتينا نبؤة مشابهة .

-تصدقاننا إذن؟ .

فنكستا رأسيهما في خجل .وعادتا مع الأشرمين .,وهما تستحضران النبؤة في ذاكرتيهما مرة أخرى., وطوال الطريق .

ظلت الفتاتان مع الأشرمين سحابة اليوم., في بيتهما خلف القهوة , ووالدة الأشرمين تخدمهما بهمة عالية., وحب لا مثيل له .. كانوا ما أن تتركهم الأم وتمضي إلى مقهاها .,حتى  يتآنسون ويتداعبون , ويتركون اعضائهما لعبث الأشرمين, اللذين كانا في غاية سعادتهما(وهما يبديان ضروبا من العبقرية الفذة .,في العبث بشرمتي البنتين) , ولا يكفون عن اللهو والمرح, إلا عندما تعود الأم مرة أخرى, وهي تحمل إليهم طعاما أو شرابا . وعندما حل الليل , اخذ كل منهما واحدة من الفتاتين, ومضى مختليا بها بعيدا عن الأخر . ليقضيان الليل معا .

كانت روح كلاهما من أعماق الجسد الذي تسكنه , تحاول أن تلامس روح الأخر , لتئد النفور الذي قابلته به في البدء . وفي خضم ثورة اللحم والدم , تحاول روحيهما أن تسمع الروح الأخرى, الموجودة على الجانب الآخر من الهاوية نداءها .

 ولكن محاولة التواصل تلك التي انتهت إلى صيحات يائسة , كانت تبدأ مرة أخرى , تبدأ من اللحظة التي سبقت الأزمنة والأمكنة : ليس بالمداعبات والملامسات التي يتبادلانها فحسب, بل بمحاولتهما الوصول., إلى صدق النبؤة في هوس الأشرمين, بتحسس ولحس اعضائهما . وفي تلك اللحظة الفاصلة .,التي ارتعشتا فيها رعشة عظيمة ,(وانتفضتا كمن أيقظهما نفخ الصور), ودواخلهما تسيل لتبلل الفراش تحتهما .. في تلك اللحظة الفاصلة, خالط اللذة شعور خفي بالانقباض . لكن , مع ذلك تكرست متعتيهما , كذكرى خابية تشعلها أيام قادمات.

عند شروق الشمس . عندما أفاقت كل منهما , ولم تجد رجلها إلى جوارها , نهضتا تتجولان في الدار . تبحثان عن الأشرمين , وعندما لم تجداهما ,مضتا متسحبتين تجاه القهوة ,فطرق سمعيهما ,حديث الأم مع ابنيها ,حول خدعة الحمامتين.فدهمهما شعور بالحزن والأسى ,وأدركتا لحظتها ذلك الشعور بالانقباض., الذي خالط انتشائهما .

(6)

واجهتا الأشرمين بخدعتهما .,ومضتا مضطربتين , مصدومتين ,لا تلويان على شيء , ولم يتمكن الأشرمين من فعل شيء إزاء صراخهما., واصرارهما على الرحيل .

كان الأشرمين قد اسقط في يدهما , فنكسا رأسيهما., يشعران بحزن واسى عميق , دون أن يأبها لتحريض أمهما بتقييد الفتاتين ,كان كل ما قالاه لأمهما هو :

-الم نقل لك إننا نؤثر هواهما  على هوانا , ومراد هما على مرادنا , ولو كان في ذلك الحتف . ليتنا لم نخدعهما .

مضت الفتاتان , تقودهما خطاهما, إلى الطريق المفضي إلى بلدة الأرباب , وعندما وصلتاها ,واستشرى خبر جمالهما البديع., استشراء النار في الهشيم , أمر العمدة الأعمى رجاله باحضارهما إليه , وما أن رآهما, حتى اختار أم حجل زوجة له في الحال .

وعندما علم الأرباب بالأمر ,غضب غضبا شديدا , لكنه كظم غيظه , واكتفى بالزواج من بنت مسيمس , وفي نفسه شيء من العمدة ,لاعتقاده انه اختار أجمل البنتين, مفضلا نفسه عليه, هو ربيب نعمته .

أنجبت بنت مسيمس مرج البحرين والدة ود النمير ,و أنجبت أم حجل أمونة والدة فاطمة السمحة .(وكان أبناء العمدة الأعمى,بعد أن قتل الأرباب والدهم ,وتزوج أم حجل., قد تكرست لديهم قناعة ,أن مرج البحرين شقيقتهم )وكان الأرباب يعتقد أن امونة من صلبه ,فأم حجل وبنت مسيمس ,لم تأتيان أبدا على ذكر تلك الليلة .,التي قضتاها مع الأشرمين , كما أن أم حجل تمكنت من إقناع الأرباب .,بأنها لم تمكن العمدة الأعمى., من نفسها أبدا .

 وهكذا تظل هذه العلاقات المتشابكة ,من الأسرار الزائفة .,دفينة في مكان قصي من خزانة الأسرار.,( إلى جانب نبوءة جدتي أم حجل وبنت مسيمس ,بانهما ستهربان بحثا عن زوجين ,تتعرفان عليهما بحمامة في الكتف,تمنحهما هديلها), التي لا تفرجان عنها أبدا .

لم ينسى الأرباب أبدا .,ما اعتبره إساءة صريحة .,وجرأة غير مسبوقة من العمدة .

ولذلك بعد أن قام  بقتل العمدة الأعمى ,عمل على تشييد نظام رقابي صارم , على أساليب الإنتاج في البلدة  وحواضرها .وسيج التشكيلات الاجتماعية , والطوائف , بحيث لم يكن ثمة من يجرؤ للحديث عنها , نتيجة لذلك أخذت الأرباب تتحول على نحو متزايد , إلى مكان موحش في وحدته .

فالأرباب لم يكتفي بتغييب الواقع الفعلي عن وعي الناس فحسب , بل جعلهم لا يتمكنون من العمل على تغيير هذا الواقع .,الذي حاصرهم به من كل الجهات . هذا الواقع الكثيف والكتيم والمستقل بذاته .,عن كل ما حوله من ديار . كان منيعا بحيث يقاوم ما يرسم من مخططات لتغييره من الداخل . فالداخل كان الشغل الشاغل لبال الأرباب., أكثر من الخارج , إذ كانت قد تولدت لديه قناعة تامة, أن لا خطر فعلي يحدق بالأرباب من خارجها .

هذا الواقع المغلق على ذاته , جعل أهالي الأرباب يشعرون بأنفسهم كذوات مهدرة , لا سبيل أمامها لتتطابق مع نفسها.  بالتالي لا يمكن أن تكون لديها القدرة الكافية على التغيير .وتقرير مصيرها .

إذن كان الاختلاف واللا – هوية هو لسان حال بلدة الأرباب (رغم كل شيء) , الأمر الذي عنى أن لا وضع محدد , هو هذا الوضع الذي يعيشونه في الأرباب (لكن مع ذلك) لم يكن ثمة احد يملك تصورا واضحا , للوضع الذي يتعين عليهم الحياة فيه ,بالتالي قبلوا بالعيش في الأرباب كما هي , قانعين بالتذمرات السرية الهامسة بين آن وآخر.

وعلى الرغم من كل هذه المشاغل الوجودية العصية,التي سبقت وتلت قتل الأرباب للعمدة الأعمى  .,ظل قلبه.,متعلقا بأم حجل , منذ كانت دون علم لديها  بحبه لها ,وحتى بعد أن أتى بها إلى داره العامرة بالنساء..

قبل أن يجيء الأرباب بأم حجل., كان غمه قد كثر و أسفه قد طال . , إلى أن ضنى بحبه., وهي بغرارة الصبية العذراء لا تشعر , ويمنعها من التجول في البلدة .,سطوة العمدة وغيرته عليها من دون نساءه أجمعين , إلى أن عيل صبر الأرباب , فزار دار العمدة ولمحها , ومضى يتدبر مع خاصته أمر لقاءها , فلم يمسك نفسه., حتى قبلها .ومن ثم مضى يرسل إليها حمامته الزاجلة ,طاويا غرامه على قدميها ,يبثها مواجده وأشواقه .

اعتبرت أم حجل الحمامة الزاجلة,إشارة لنبؤتها القديمة , لكنها لم ترد , ولم يتوقف الأرباب عن مكاتبتها , حتى أخذت كلماته الدافئة., تزحف رويدا رويدا , تحاصر أحلامها , وتصيب منامها بالبلل , فتصحو خدرة , فاترة كالمعطونة في مياه البحر المالح , في الصيف الغائط .

تبدى الأرباب في أحلامها صبوحا , فحلا , كفارس يمتطي صهوة جواد أشهب , على كتفه الأيسر عقاب , يهيمن على جسدها, ويجعلها ترتعش في كبد الليل., حتى مطالع الفجر . دون أن تشعر بشخير العمدة .,وغطيطه الذي يملأ الدار . فأصبحت أم حجل بمرور الوقت كالمسلوبة., إلى أن أطلقت الحمامة الزاجلة., بأمانتها في الشوق واللوعة .

فانطلقت بينها وبين الأرباب , الحكايات., التي حملتها الحمامة .,في المساءات الندية , وهكذا اتفقا على الخلاص من العمدة .,ليئدا حدة الحنين الذي يتقد داخلهما , ويقض عليهما المضاجع , ويجعل كل شيء حولهما مسيخا لا طعم له .

"الحوار المهاجري" الذي علقت منه امونة بفاطمة السمحة , كان يخبيء  بين جوانحه سرا لا يعلمه سواه ف(هو اصغر أخوة الأرباب., في دياره البعيدة ,التي هرب منها بسبب تآمر إخوته على قتله .

فإخوته الذين تآمروا على الأرباب يوما , كانوا قد تآمروا عليه هو الآخر .فقابلهم بقسوة وألب والده ضدهم , فلم يتمكنوا منه .,بسبب حماية أبيه له .الذي كان لا يزال يعاني., حسرات فقده للأرباب , رغم مضي السنوات الطوال . ولشعور الحوار المهاجري بالحماية المسبوغة عليه من أبيه, اخذ يعيث في البلدة فسادا .

 فقد كان مغرما بالسلطة وممارستها , وما إن مات الأب., حتى هرب يستجير بالعمدة الكبير , الذي أمنه على حياته., وزوجه من ابنته .,ورده إلى بلدته غانما حاكما من قبله , فقد كان بين والده العمدة وعمدة عموم دار الريح ود كبير وحبل من الصداقة والوفاء .

عندما استقر المقام بالحوار المهاجري , اعمل سيفه في أعناق إخوته , حتى لم يبق منهم إلا من نجا بنفسه . حتى إخوته الأطفال العديدين , اضطرت أمهاتهم أن تلبسهم "الكنافيس" حتى يتشبهوا بالفتيات , فينجون من الموت .

كانت دواخله تمور بنوع غريب من القلق , الذي يدفعه للقتل وسفك الدماء , إلى أن مضى به الحال., إلى قتل زوجته , لإثواء هذا القلق .,الذي يعتمل داخله كمرجل .بتقديمها قربانا للغربة التي تتملكه., وتعمل فيه أنيابها "كما أشار عليه الفقير الفلاتي يعقوب., الذي خلفه أبا جريد وراءه قائدا للزبالعة" .

لكن تقديم زوجته قربانا., لم يئد حدة تعطشه للدم , فقد كان يبحث عن شيء غامض بالنسبة له .. شيء لا يدري أين يجده , فأوعز له يعقوب., بأنه إنما موعود ب"نبؤة الحكم الغامضة" التي يبدأ تحققها من اتصاله برحم صبية كالبدر , وهو في غربة مشردا وطريد .

هوية الحوار المهاجري., كانت مزيجا غريبا من القلق والتوتر , كان منقسما بين ولاءه لدار الريح كما هي عليه , وولاءه لحلم ظل يغذيه فيه الفقير الفلاتي يعقوب, فيدفعه لسفك الدماء . فقد اشرف يعقوب, على تعليمه منذ نعومة أظافره , محطما الآراء المحلية التي صاغته., في مخدع والديه ,. فاتحا أمامه أبواب النبؤات الغامضة , لعالم لم يره . عالم واسع.. مدخله إليه "طائفة الزبالعة" التي يقودها يعقوب., على نحو بالغ السرية .اتقاء لضربات عمدة دار الريح الكبير .

وعندما أحكم أعداؤه حوله الحصار , تآمر على معلمه يعقوب, وقدمه ككبش فداء لسلطاته المتنامية .

اعتقل الأهالي يعقوب . اقتادوه مقيدا وعلى وجهه آثار التعذيب., والإعياء الشديد , وشنقوه على مدخل البلدة , دون أي محاكمة . بعد أن فشلوا في انتزاع اعترافاته .,بأعضاء طائفته الآخرين .

كان العمدة الكبير وقتها يتأهب للثأر لابنته , يتآكله الحزن عليها . ومع توالي صعود الحوار المهاجري في سلم المجد , بالاستيلاء على البلدات حوله .كان العمدة الكبير وإخوته غير الأشقاء.,الذين نجوا من مذابحه. قد احكموا الحصار حوله , فلم يجد ملاذا سوى الهرب .

وقتها خرجت الأغاني والشائعات., القائلة باعتقاله ومقتله .حتى أن الحكامات ألفن أغنية شاعت في مشارق ومغارب البلاد الكبيرة .منتشرة انتشار الريح في الأرض الفضاء :

ود العمدة ويعقوب مسكو  * للحبس ودو

ود العمدة ويعقوب مسكو * متل الكبش قادو

جريتو جيتو  * متل القديم تاني وين تلقو .

هرب المهاجري من دار الريح كلها., لا يلوي على شيء , إلى أن وجد نفسه في بلدة الأرباب , فقصده وصار حوارا له , دون أن يكشف له عن سره أبدا .

ولحظة رأى أمونة أدرك إنها هي ذاتها , ما قالته نبؤة الفقير الفلاتي . أنها ذاتها الشيء الذي يبحث عنه .

ذلك القلق الذي لطالما استبد به , إنما كان من نداءها له . هو النداء ذاته الذي يراه الآن في عينيها , في ضرباتها الخفيفة الناعمة للدلوكة , في انثناءات جسدها., الذي يتلوى كأفعى .,تحت الغلالات الشفافة ,راميا ظلاله بين ألسنة النيران.. تربط منديلها الحريري على خصرها الناحل , وتخطر كالنسيم .

كان يرى طيفها وهي ترقص .,كساحرة تخرج من أعماق ذاكرته العاشقة . يرى طيفها في كل مكان . وهو في الحقول . عند عرديبة الدود . وعندما يسبح في مياه الوادي الباردة .ويخرج منهكا , يستلقى على الرمل .

 يرى طيفها في كل شيء حوله . مياه الوادي . هدوء المكان . حفيف الشجر . يراه حتى في دواخله . كان كالذي تتقاذفه الأمواج , لتلقي به منهكا., إلى هذا الطيف , لكن متقد الجذوة لا يزال .. هذه الجذوة التي تمضي .,مع الطيف يعتليان معا .,صهوة السمندل , أو يتفتقان عن الظلمة .,و الأعشاب المتشابكة كالعنكبوت., و الجافة .. تشعلها الجذوة كنار عظيمة ..

 كانت تتراءى له حتى في كبد البدر., والنجيمات البعيدة , فلم يعد يحتمل . فقد شعر بالحصار ينهكه , الأمر الذي دفعه إلى الأرباب , يطلب يدها منه .

كان الحوار المهاجري قائد طائفة الصيادين ., في الوادي العميق البوح واللهفة .,وكانت زوجته امونة ,عادة لا تأكل إلا عندما يحضر من عمله , فتطعمه ثم تأكل بعده . هكذا مضى بهما الحال , إلى أن تأخر الحور المهاجري في أحد الأيام , فقلقت عليه أمونة .,وحملت الطعام .,إلى حيث اعتاد أن يرمي شباكه وسناراته . تلفتت حولها على امتداد الوادي , فرأته يبتعد في طوفه الخشبي , فاطمأنت , واستلقت على حافة الماء , مستظلة بشجرة جميز كبيرة .

كانت الطيور تغرد مسبحة بحسن امونة , فاعتراها خدر لذيذ . تجردت من ثيابها ونزلت إلى الماء . غطست حتى نال منها التعب , فعادت إلى الشاطيء , وعندما همت بارتداء ملابسها , وقع بصرها على زوجها الحوار المهاجري . الذي كان يحدق فيها مذهولا . فتناولت ورقة جميز., تستر بها عورتها , وألقت بنفسها مرة أخرى في الماء., حتى اختفت .

كان قد اعتراها خوف شديد , وكأن قوة مجهولة تسحبها .,إلى أعماق الوادي , فتوسلت قائلة :

-يا سيدي الأرباب , أنقذني من الغرق , حتى لو صيرتني سمكة .

واستجاب الأرباب دعائها .

فأخذت تسبح باتجاه زوجها , وكلما سبحت تجاهه , تجد أن اتجاه سباحتها قد تغير للاتجاه المعاكس . فأخذت تبكي وذراعيها تضربان في الماء بعيدا , بعيدا عن المهاجري , الذي كان لا يزال مذهولا في وقفته ,كالمسمر إلى الأرض , إلى أن شهق شهقة عظيمة , انتفض لها جسمه كله ومات واقفا . وتحول جسمه إلى شجرة جميز ضخمة , ممتلئة الجذع . ولم تمض سوى اشهر قلائل , حتى خرجت امونة من مياه الوادي . ربطت حبلا من ليف القمبيل المجدول, في أحد أغصان الجميزة ممتلئة الجذع , تساعدها الحوريات ...

 باعدت بين ساقيها ,وهي ممسكة بالحبل , لتلد طفلتها ( التي ستصبح فيما بعد فاطمة السمحة . عندما يجدها الحيران عند خيوط الفجر الأولى , في خلوتهم مغطاة بمنديل امونة الحريري , الذي كانت تربطه في صلبها .,عندما تضرب على الدلوكة , وقربها مشيمتها وحبل سرتها الذي لم ينفصل عن المشيمة بعد) ..

هتف الحيران بالأرباب , الذي جاء مبتسما وهو يقول :" إنها فاطمة السمحة طفلة امونة ضرابة الدلوكة" .

أمر الأرباب بعد ذلك النساء , فمضين في موكب احتفالي إلى الوادي , يرمين في مياهه الخبز , بعد أن وضعن مشيمة فاطمة السمحة., في قدح خشبي , غطينه بمنديل أمها الحريري , وقذفن به مع الخبز .,ورمين خلفه الحجارة , وهن يرقصن , ويغنين فرحا بالمولودة .

عزل الأرباب فاطمة السمحة مع جدتها أم حجل , في دار مقتطعة من داره الكبيرة , حيث لا يراهما أحد., ولا يرين أحد , سوى الذين يقومون على خدمتهما .

كبرت فاطمة واشتد جمالها , حتى ملأ خبرها بلدة الأرباب., ودار الريح والصعيد والسافل .

في الليالي الخريفية المقمرة , كانت فاطمة السمحة تذهب إلى الوادي , تخلع ثيابها وتغطس في الماء , فتأتي أمونة وصديقاتها الحوريات . يحادثنها ويلاعبنها .,ويأخذنها بعيدا إلى أعماق الماء .,حيث المدن المغمورة وحيث البحيرات تحت مياه الوادي , تتفجر في مجرى واحد عميق , تفضي عيونه إلى البحر الكبير .

كان ود النمير لا يقل وسامة عن جمال فاطمة الساحر . نساء كثيرات دعونه إلى فراشهن , لكن قلبه لم يخفق لإحداهن أبدا . كان وحيدا كفاطمة .عندما يمل عمله , في تأمين بلدة  الأرباب من الخونة والمارقين والجواسيس و الثورات والتمرد (طبعا كان كل ذلك مفترضا ومحتملا فقط , إذ لم تكن ثمة مقاومة تستدعى كل هذا), يخرج من منزل جده الأرباب . ويمضي هائما على وجهه ..

يغيب الليالي الطوال , متجولا في الوديان والغابات , وعندما يعود يتجول في البلدة,يحاول أن يتأكد مما تنقله إليه العيون . فتتبعه الفتيات العاشقات , ولكن لا يستجيب لهن . إلى أن غضب منه الأرباب ذات مرة :

- أنت لست زبلعيا حقيقيا .

ودعا عليه قائلا :

-  أتمنى أن تقع في شراك حب., لا تخرج منه فائزا .

أول مرة رأى فيها ود النمير فاطمة السمحة , في تلك الظهيرة الحارقة , وقف مأخوذا , يهيمن عليه سحرها , وقلبه قد انتفض بشدة . وعلامات نبؤة الأرباب .,تومض في ذاكرته كبرق خاطف . انتابته حالة أشبه بصحوة جبارة , تتخلل زوايا ذاكرته ووجدانه , لتحاصره بعالم طفولته المنسية .

كان شارد الذهن في حلم موغل القدم . أسير لإيقاع .,يحاول النفاذ إلى أعماق لا وعيه . يلامس جانبا حساسا .,ومهملا في حياته اليومية , الزاهدة في النساء .

كبرق البلدة الخلب عند, قبة الفكي الأرباب , في الليالي الحالكة , انتفض وجدانه , فتبع فاطمة مسلوبا , مغيرا دربه . وكانت هي الأخرى., قد ألم بها ما ألم به . وعندما وصلت مكانها المعتاد , عند ضفة الوادي , تحت شجرة الجميز الكبيرة , توقفت تسأله :

-  مالك تمشي ورائي ؟!.

فاخبرها عن حبه لها . فصمتت ساهمة ,. وقلبها يدق كحجر الرحى . كانت تشعر بشعور لم يخالجها .,من قبل أبدا . دنى ود النمير منها . وهي كالمجمدة . احتضنها وهي كالمصبوبة على إتكاءاتها .,على الجميزة ممتلئة الجذع .

تملكها الحب., وانتقلت النار التي أشعلها جسده إلى جسدها . استلقيا على العشب . كان طائر السمندل أعلا الشجرة .,يزقزق إلى رفيقته , يتداعبان بمنقاريهما . وكانت فاطمة توغل في رائحة عرق ود النمير .

 توحدا وتحولا إلى كتلة من النار ..

 وقع طائر السمندل في مياه الوادي . فتطاير رشاش الماء . ضرب بجناحيه وخر واقعا , ضرب بجناحيه وخر واقعا . ضرب بجناحيه وخر واقعا . ضرب بجناحيه فرفرف .. تمكن من التحليق مرة أخرى , فحط قرب رفيقته .,في أعلا الجميزة . مداعبا بجناحيه المبتلين., جسمها الذي همد في عش أحد الطيور .

شعر ود النمير بالعطش , فنهض عن فاطمة., التي راحت في خدر لذيذ .. انحنى ليشرب من مياه الوادي . فرأى صورته., تنعكس على صفحة الماء .

 في البدء حسب صورته : فاطمة قامت من خدرها . تلحق به .. هفا إليها مرة أخرى مسلوب الإرادة . وفاطمة واقفة خلفه ,وقد تملكها الحب من جديد . حاول تقبيل وجهه المنعكس .,على صفحة الماء , وضم خياله ..

 بكت فاطمة وهي تحاول رده إليها .. بكت بنواح حزين , فالتفت إليها غاضبا . ودفعها بعيدا عنه بقوة ..

كانت شمس الظهيرة قد اختفت . ادلهم الليل فجأة , وانفتقت السماء عن قمر مشوّه . وكان ود النمير لا يزال .,محاصرا بالحر والرطوبة . والقمر بهالته المتقشعة عن السحب العمياء., والهواء العطن , يبعثان داخله شياطين الجحيم من مراقدهم ..

 نذر عاصفة أوحى بها الجو ,تدفعه لمقاومة الإحساس المفاجيء .,بكل ما حوله ..

 استلقى عاريا يمد عنقه للمياه . كان وجهه قد اختفى . وليس ثمة انعكاس سوى لقمر حزين , ملطخ ببقعة سوداء , في مياه الوادي .,التي بدت على غير العادة قاحلة .

وكانت فاطمة لا تزال تتقلب على الرمل باكية . مغمورة في العشب . وكل حياتها تمضي أمام ناظريها . والقمر المفاجيء يسقط ضوءه., على تعرجات جسمها الحزين ., يتحسس بكائها . يتلمس فخذيها . خاصرتها . أشرميها اللذين سال منهما.,الندى والدمع غزيرا ..

 كانت ترتعش., كقطة بللها المطر والبرد .ودوا خلها تغلي كمرجل هائل  , لم يشهد له تاريخ الغضب., في بلدة الأرباب مثيل .

نهضت فاطمة, وأمعنت النظر مليا في ود النمير, الذي كان لا يزال , منكفئا يحاول رؤية وجهه المنعكس , ثم رمت بنفسها في أعماق الوادي , الذي سحبها إلى أعماقه السحيقة .

(7)

في إحدى الليالي المقمرة, خرجت فاطمة من أعماق الوادي . وضعت طفلتها تاجوج من ود النمير , تساعدها أمها وحورياتها . فتحت شجرة الجميز , ووضعت طفلتها بجوفها , ومضت بصحبة أمها وحورياتها .

بعد مضي وقت ليس بالقصير  , انشق جذع شجرة الجميز الضخمة , وخرجت تاجوج , بوسامة ود النمير ,وجمال فاطمة الوضاح .. كانت الخالق الناطق نسخة منهما . كأن ثلاثتهم فولة واحدة وانقسمت إلى نصفين متطابقين .

وقتها كان ود النمير قد أصيب بصدمة.,ضعضعت كيانه . كان كالذي يفيق ,من حلم كثيف الحجب . , أخفى عنه لبرهة خاطفة .,حقيقة حبه لفاطمة ., فشغله بصورته المنعكسة على صفحة الماء , لبرهة فحسب , برهة كانت كافية .,كي تتلاشى فاطمة , أمامه في لجة الماء .. بعد أن أفاق من تسمره.,وهو يراها تسبح مبتعدة ,وتغوص عميقا . سبح خلفها . قطع مياه الوادي من أطرافها إلى أطرافها , بحثا عنها . لكن فاطمة كانت., كفص ملح ذاب في أرخبيل عريض .

أصبح ود النمير يجلس كل يوم على الشاطيء , تحت الجميزة التي اتكأا عليها .,واستلقيا تحتها .. يستعيد محاولتهما معا ,في خضم هيمان الروح وهيجان الجسد وثورته العارمة, عبور الجانب الأخر .,من الهاوية التي تفصل بينهما .

يبكي بصوت حزين , حينا ويغني حينا آخر , مع نواح السمندل والقماري., في أعلا الجميزة ..

 لم يلبث السمندل أن أشار عليه ,بالمضي في دريب الريح , حيث العرافة العجوز مسك النبي صاحبة القهوة ,فهي الوحيدة التي, ستشير عليه بما يفعل .وقبل كل ذلك عليه أن يقصد الأرباب , يطلب صفحه , ويشكي له مواجده .

فقصد ود النمير الأرباب , شاكيا متاعبه :

-  إنها دعوتك علي يا الأرباب . أصبت بالحب., الذي خرجت منه مهزوما .

ابتسم الأرباب واطرق برهة من الوقت , ثم قال في صوت عميق :

-لن تعود فاطمة سيرتها الأولى , إلا إذا تمكنت من تهريبها عبر هذه المرآة , مرآة حجر كوتو المقدس . إنها صفحي عنك .

كان الأرباب قد أدخل يده في تلا فيف جلبابه المرقع . اخرج المرآة . فقد كان يرغب في رؤية حفيدته مرة أخرى . مد المرآة لود النمير وهو يستطرد :

-عند غروب الشمس . وإذا تأخرت لحظة واحدة عن الغروب , تختفي فاطمة مرة أخرى . تأخذها مياه الوادي هذه المرة دون عودة .

اخذ ود النمير المرآة ومضى باحثا عن فاطمة, في الوديان . متنقلا من واد إلى أخر . إلى أن ذكره السمندل والقماري., التي على الجماميز والقمبيل., في امتدادات الوديان., بهديلهم وغنائهم  مرة أخرى., بالعرافة العجوز مسك النبي . صاحبة القهوة . والدة الأشرمين .فعرج على دريب الريح ,ومضى إلى أن انتهى إلى قهوة مسك النبي .

في الصباحات العديدة., التي تكشفت عن مسيرة بحثه المستميت ,عن فاطمة السمحة .. بحثه الدائم عنها في الأودية والشعاب , كانت دائما من بين كل الصباحات , ثمة صباحات مثل نبع خفي في الذاكرة . صباحات خالية من العكرة , تتسم بصفاء غريب., يتخلله طيف يعرفه ولا يعرفه . طيف لعجوز محدودبة الظهر , لها عيني فاطمة . يحاول القبض على ملامحها كلها . اعتقالها .خوفا من صيرورة النسيان الحتمي , فتفلت عبر شراك هديل السمندل., وفخاخ زقزقة عصافير الجنة الملونة., التي تملا الوادي .. كان يفشل دائما في تلك الصباحات المخصوصة ., في القبض على ملامح العجوز .,التي كانت تعبر عن نفسها في محض احدوداب., وعينين فتيتين هما عيني فاطمة ذاتها ..

الصبيحة التي وصل فيها .,إلى قهوة مسك النبي , كانت أشبه بتلك الصباحات الهاربة., التي أفلتت من مطارداته .

 برؤيته لمسك النبي.,رأى الوادي يأتي إلى فراشه بفاطمة , ليتلاشيان معا في عيني العجوز واحدودابها .

إذ ما أن رأى العرافة العجوز مسك النبي., حتى أصيب بما يشبه الصاعقة., تتخلل سريان دمه . أحس بشيء غامض يربطه بها . وخطر في ذهنه لبرهة خاطفة , لحظة رأى ابني مسك النبي الأشرمين , فرج فاطمة الأشرم ,كأنه فرجين , أو كما تخيله بتحسسه إياه .,في تلك الظهيرة., التي انقلبت فجأة ليلة ليلاء .

أخبرته مسك النبي :انه لو أراد لقاء فاطمة مرة أخرى حقا., لما بارح المكان الذي فقدها فيه ..

عاد ود النمير مرة أخرى., إلى الوادي ووصل., إلى شجرة الجميز .. جلس حيث اتكأ وفاطمة واستلقيا .. جلس حيث تلاعبت بثيابها أنفاس لهاثه الحار .. جلس وهو يتحسس مرآة كوتو بين لحظة وأخرى , يقاوم النعاس .

في هذا الوقت كان مشايخ دار الريح .,قد انهوا أعمال تصفيتهم لكل من تبقى من طائفة أبو جريد , واتصلوا بالصعيد والسافل , يعلنون مخاوفهم المتنامية من بلدة الأرباب .. هذا الخطر القادم من أزقة تاريخ دار صباح , ودهاليزها ضاربة القدم . ويرسلون إلى كل الديار المجاورة بان يبعثوا لهم., بكل من يشتبه في انتماءه .,لطائفة أبو جريد حتى ينالوا لذة التمثيل بجسده .

فأرسل لهم عمدة الصعيد والسافل: انه لم يبق لديهما .,من المنسوبين إلى طائفة أبو جريد أحد على قيد الحياة ...

وكانت هذه الأخبار المتواترة., قد بدأت تقلق الأرباب .,وتقض مضجعه , الأمر الذي كان يدفعه., لمزيد من إجراءات التأمين للأرباب وحواضرها ..

 

القسم الثاني:

(1)

بلدة الأرباب : أشبه بتلك الحواضر السحرية , القابعة في رحم التاريخ الوسيط . أو هي جزء من الجنة الأرضية., كما يتصورها مراهق أعمي مستبد .. بالثياب الملونة لسكانها . ورائحة القمبيل العطرة .,التي تتنفسها الأشجار., على شطي أوديتها الثلاثة , فتملأ رئة البلدة وخياشيمها , التي تزفرها للريح , لتحملها بدورها .,إلى دار صباح والصعيد والسافل .

رائحة القمبيل المنعشة الباردة ., تبعث في نفوس العشاق., مزيجا من الأحاسيس اللاهبة , فيهتاجون ويمضون لتوهم (عندما تلامس رائحة القمبيل ,أحاسيسهم وأخيلتهم )يبحثون عن حبيباتهم الظمئات , اللائي يكن لحظتئذ , قد سرت فيهن., رائحة القمبيل كطيف عاشق , يزحف ويدنو ببطء , يشم الخياشيم ويلثم الأفواه , ويحاصرهن بنوع من الخدر اللذيذ , حتى إذا اجتمع العشاق إلى حبيباتهم , يصمت كل شيء .,وتبقى العيون وحدها ورائحة القمبيل., وبوح السمندل , غلالة سرية تحيطهما في ارتفاع أنفاسهما الحارة , وانخفاضها المنتظم .

بلدة الأرباب ذاتها., تشبه أنثى منفرجة الساقين , فالوادي الكبير الذي يتوسطها , بمثابة البطن والرأس في تعرجاته البارزة , وعريه المجنون , الذي يمنح عشاق البلدة., متكأ للوجد والمواجد., في ليال الصيف الغائظة . وواديها الشرقي والغربي ( الأشرم ) كفرج مزدوج ,تنهض فيه عرديبة الدود., التي نمت في هذا المكان , الذي كان أرضا جرداء , دفن فيها الأرباب.,جمجمة أبا جريد .عندما فشل في تحنيطها .,والاحتفاظ بها ,مخفية قريبا من مخدعه .

 لم تلبث هذه الجمجمة ,أن دودت الأرض .,ثم انفتقت عن عرديبة خضراء ..

 كانت عرديبة الدود ,بمثابة كرامة إضافية .,في رصيد الأرباب .ولهذا السبب., أصبحت مكانا رسميا., لكل الإجراءات ذات البال., بدء من عقد القران., وانتهاء بالإعدامات , مرورا بالاحتفالات الموسمية .. كل هذه الأمور يتم إجرائها ,تحت عرديبة الدود .

وهذا الوادي الأشرم ,بمثابة الردفين والساقين . تسكن أشجاره طيور السمندل , التي تضرب بجناحيها في أعماق الخواطر اللاهبة , تستخرج الحكايات الميتة ,وتبعثها من جديد للحياة : حكاية لاهثة مجنونة متوترة تلو أخرى . ولا تصمت .,إلا بعد أن يقضي العشاق أوطارهم , وهم يستنزفون مشاعر بعضهم بعضا . وقد نال منهم الخور . وتخلل زنخهم برائحة القمبيل .,والد عاش القادم من جوف الوادي المبتل . لتبدأ هذه الرائحة الباردة في الانخفاض ,مع حرارة الجو وبوح عرقهم المنداح , كدوامات تتبدى عنها الحكايات المذكرة والمؤنثة ., للسمندل الخنثى . عند هذا الحد تهدل القماري , ويضرب السمندل بجناحيه الهواء , فيشقه نصفين , يجذبان بعضهما بعضا., للالتئام مرة أخرى , ولا يخفض السمندل جناحيه.,إلا عند الوادي الأوسط .,في قلب أشجار الجميز والقمبيل .

تلك بلدة ,شيدها الأرباب من تلا فيف أسرار معلمه أبو جريد , ومن بوحه لعشيقات بعضهن في الذاكرة , وبعضهن في القبر . وبعضهن ظللن محض خيال., أو طيف يراوده., لكنه لم يلتقيه أبدا , إلى أن قتل في هجوم القوات المتحالفة على بلدته .فقط أطيافهن تلاحق استمناءاته الحارة.,في ليال عزوفه المتعمد عن نساءه التسعين ..

 من كل ذلك .,ومن ذكريات هروبه من دار الريح طفلا , وكراماته في شعب بلدته , شكل الأرباب هذه البلدة المزيج., من شجن وبوح وغفران .,وصفح وغدر . فكانت الأرباب بلدة ذات تضاريس., ليس كمثلها تضاريس. برمالها الذهبية, حيث تشرق الشمس , وأرضها الطينية القردود .,عند الغروب الشقي .

وتربتها المزيج من الدم والدموع .,في صعيدها وسافلها .. يأتيها الناس عابرين . يحطون رحالهم لأيام , يفعلون كل ما تمنوه يوما , ويشعرون بسعادة غامرة , ولكن يخالط هذه السعادة ., نوع من الخوف والشعور بالغربة , التي تقود الإنسان إلى القبر , إلى أن يتمكنوا من المغادرة بصمت وسرية تامة(هذا إذا نجحوا في المغادرة) . وعندما ينجح بعضهم في ذلك ينسى أين كان . كأنه حلم !!!. لكن يظل شيء واحد فقط , يتذكرونه , هو : عرديبة الدود , التي في مفترق الأودية الثلاثة , بالتحديد مفترق الوادي الأشرم . لكن حتى هذه العرديبة التي تهيمن على خيالاتهم , لا يتذكرون أين رأوها بالضبط!!! .

قبل أن تصبح هذه البلدة., بهذه السيرة , كانت خاوية , لا يسكنها سوى ثعبان أبو الدرق وأبو الدفان., الذي يخبيء نفسه في رمال الوادي . وطيور السمندل والقماري .,وطيور الجنة الملونة ,والحمام الوحشي, الذي سكن أشجارها مع هذه الطيور , جنبا إلى جنب , كأنهم جميعا فصيلة واحدة .. حتى الخنزير البري, الذي يختبيء بين أشجار الوادي المتكاثفة , كان يشعر بألفة وحميمية غريبة .,مع هذه الطيور .

لكن ما أن اهتدى أبو جريد إليها , حتى استعان بخبرة هروبه الطويل , عندما كلف بتهريب الأرباب , ابن عشيقته , زوجة العمدة التي لم يكن يرفض لها طلبا .

وما أن اقترب أبو جريد ,من شبه الجزيرة (وقتها) التي أصبح اسمها فيما بعد : (بلدة الأرباب) , حتى هاجه شجن بعيد إلى مسك النبي , التي تركها ذات فجر بعيد., عند منتهى دريب الريح , ومضى خلسة إلى دار الريح , دون أن يخلف وراءه اثر ..

 كثيرا ما تساءل وهو يعتني بالأرباب., في موطنهما الجديد بشبه الجزيرة : ترى كيف هي مسك النبي الآن ؟!.. وماذا فعل الدهر بها ؟!. أهي ذات الصبية الغندورة .,التي تركها ذات يوم , أم أصبحت امرأة ناضجة , وتخطت حبهما., الذي لم يمضيا فيه طويلا .. ترى كيف هي الآن بعد كل هذا الوقت ,أهي حية أم ميتة ؟؟!!..

لكن لم يجرؤ أبدا على البحث عنها في دريب الريح .

 كان قد تركها خلفه , منشغلا بمهام بناء طائفته , في دار الريح, حتى أصاب شهرة واسعة .,كفقير يعالج المرضى بحجر كوتو السحري , ويرى ما لا يرى , الأمر الذي قربه من العمدة.

كان أبو جريد يلتقي أتباعه في الليالي المقمرة , في الفضاء خارج البلدة . يقيمون طقوسهم التي لطالما اشتاق إليها , وهو وحيدا في عرين الوحوش , لا أنيس له سوى مخطوطاته .,وكتبه العتيقة .

عندما طلبت منه زوجة العمدة .,حماية الأرباب. والهرب به بعيدا , إلى حيث لا يعثر عليهما أحد ..

 لم تخبره أبدا أن : الأرباب إنما ابنه هو . الذي حبلت به منه , عندما كان يواقعها في تلك الطقوس, التي كانوا يقيمونها في الفضاء .,خارج البلدة .وأن العمدة يظن انه ابنه , بعد أن أقنعته هي بذلك , حتى تأمن شره . وزواجها منه إنما سند قوي يحمي الطائفة., من أعدائها . فليس ثمة سند أقوى من السلطة ذاتها .

وظل هذا سرها., الذي لم تبوح به لأحد أبدا . فأبو جريد.,لم يكن يعلم شيئا . لكنها كانت واثقة , ثقة المراة بحدسها الخفي .أن الأرباب ابن أبو جريد , وليس سواه , خاصة أن الشرمة التي في غلفته , هي شرمة أبو جريد ذاتها .( وان أبو جريد سيقوده حدسه ,حتما لمعرفة ذلك , وسيرعاه كابن بطنه)..هذه الشرمة., التي كانت تخشى أن يراها العمدة .,فيدرك إنها علامة لم ترد., في كتاب علامات أسرته .,ذات الدم النبيل . فمن دون كل أبناءه منها ومن سواها , لا يحمل شرمة في غلفته, سوى الأرباب. وكل أبناءه الآخرين منها , يحملون علامات أسرته., التي توارثتها جيلا بعد جيل , وهي علامات لا تخطئها عين الأسرة أبدا .

فحرصت منذ ولادته على إخفاءه عنه , إلى أن بلبل أشقاءه البلدة(كما شاع وقتها), فأقنعت العمدة بان إخوة الأرباب ,لا محالة قاتلوه . وما لم يدركه العمدة., إنها هي التي كانت وراء هذه البلبلة , وذلك لان وقت ختان الأرباب قد حان , ولا محالة أن أمر غلفته الشرماء سينكشف , فلا تستطيع حينها دفع شكوك العمدة .

خشيت أن تفقد الأرباب , وتفقد كل شيء معه , فدفعت به إلى أبو جريد دون أن تخبره بأسبابها السرية .

فمضى أبو جريد إلى طائفته , تاليا وصاياه الأخيرة على يعقوب . دون أن يفصح له بغرضه الحقيقي., من هذه الوصايا الخاصة بالطائفة وتمددها . .

لوقت طويل بعد اختفاء أبو جريد والأرباب . ظل أتباعه ينتظرونه كغائب , سيعود يوما وينقذ البلاد والعباد .,ويحرر كل البلاد الكبيرة , واضعا أعمدة دولته المباركة,من (عالم الأفكار) الأزلي .

كان أبو جريد يشعر برابط خفي , يربطه بهذا الطفل , منذ احتضن يده في كفه الواسعة , فقرر لحظتها أن يحتضنه كأب., ويمنحه من أسرار أسلافه الزبالعة , ما لم يمنحه لأحد أتباعه يوما . وهكذا تعهد الأرباب بالرعاية, إلى حد أن منحه حجر كوتو ومرآته السحرية .

كان أول عهد أبو جريد بدار الريح , عندما مضى تاركا خلفه مسك النبي في ريعان شبابها .مخلفا وراءه الطريق المفضي إلى دريب الريح , دون أن يعلم أنها كانت حاملا منه .

مضى دون أن يعود, ودون أن تعثر له على اثر .,حتى نسيته أو تناسته  ..

 وقتها كان قد تمكن من العمل عند عمدة دار الريح., كخفير لدار نساءه الكبيرة . وحاجبا لديوانه . فقد صدف انه الوحيد., الذي يعرف فك الحرف وربطه , كما أن تجربة غربته الطويلة المؤلمة,وتشرده منذ غادر دياره., في دار صباح طريدا ومطلوبا .. زودته بميزات لم تكن متوافرة في الاخرين .. ميزات هي أول ما يلحظها محدثه . وهو ينظر إلى وجهه الهاديء, الذي وخطته التجارب المريرة ..

 وهو الأمر الذي لاحظه عمدة دار الريح , فمنحه ثقته . وأصبح أبو جريد كاتم أسراره ,ومرسال شوقه لحبيباته العديدات , وهكذا تعرف أبو جريد إلى أم الأرباب , فجندها  إلى طائفته .,بعد أن نشأت بينهما علاقة سرية حميمة., من خلف ظهر حبيبها العمدة .

من دم أبو جريد ,عجن الأرباب طين البيت الذي سيكون مقره., في البلدة .لعشرات السنين القادمة . ومن أحلام أبو جريد, صاغ الأرباب بلدته السرية المعلنة , عند تقاطع الأودية الثلاثة , ومفترقها, في دريب الريح .مضيفا إليها من أحلامه الشخصية , الخاصة جدا , كل تطلعاته في الهيمنة على العالم حوله .

كانت هذه الأحلام والتطلعات ,استيحاء من سؤال مركزي واحد .,يكمن  في استيعاب التحول الذي جعل من الجريدية كطائفة مهمشة , في السابق . تيارا مهيمنا الآن له أجندته وتطلعاته ,وفي خضم هذا السؤال اكتشف الأرباب., السبب الرئيسي لهذا التحول: وهو أن الطوائف .,التي كانت نشطة في سنار والفاشر, وانطوت عليها تجربة أم درمان والخرطوم من قبل, كفت عن العمل ,ولم تعد نشطة كما كانت , وهكذا انطلق يخطط لإنجاز مشروعه الكبير .

(2)

عندما تمكن الأرباب من استرداد  أم حجل من العمدة الأعمى , الذي كان (كما يعتقد) قد سلبه إياها , هيمنت عليه لعدة أيام وليال .,صورة أبو جريد ..

 كان كلما دنا من أم حجل ليلا في خدر النساء , يجردها من ثيابها , تنهض صورة أبو جريد .. كأن طيفه يضاجعها معه . فيخرج مكروبا , مغموما .,وهو يتحسر على ما فعله بمعلمه .

وعندما أنجبت له أم حجل أمونة . شعر بأنها ثمرتهما المشتركة – هو ومعلمه – فاقسم تكريما لذكرى أبو جريد أن يعتني بها .,عناية خاصة , ما بقى حيا .. إذ اعتقد أن أبو جريد ,ما اصطفى أم حجل عبثا .,دون كل نساءه التسعين , وما اصطفاءه لها., إلا نوع من الصفح والغفران (لما قابله به من غدر وجحود ) يمنحه له الآن .,حتى يتمكن من مواصلة مشوار حياته., المليء بالمتاعب والصعاب . وتأكيدا على حرصه على أم حجل وابنتها , عزلهما بعيدا .,عن متناول مؤامرات ودسائس بنت مسيمس , التي كانت الغيرة تتآكلها .. فمنذ أن جاء الأرباب بأم حجل , بعد أن قتل زوجها العمدة الأعمى , لم يعد يجيء إلى فراشها .,كما كان يفعل في ايامهما الخوالي .

 في الليالي الطويلة , التي يغيب فيها الأرباب عن فراشها  , غارقا في حبه لأم حجل , تدهم بنت مسيمس .,كل ذكريات حياتها المنصرمة , فتجيئها العازة , تحدثها عن حبيبها., الذي كانت تنتابه رؤى ونبؤات : الفرج الأشرم , في الليالي المقمرة , حيث تنتصب العازة والسرة بين شرمتي الفرج . وضؤ البدر الساقط عليهما ,يلقي بطيف غامض., يتخلل ظليهما , هاتفا :

-  من سلالتيكما يأتي الملوك.

لم تصدق العازة تلك الرؤى والنبؤات أبدا , إلا عندما ولدت بنت مسيمس وأم حجل., بفرجيهما الأشرمين . حينها فقط أدركت :أن ما بينها وبين حبيبها .,مقدر ومكتوب منذ الأزل . ولا يمكن تفاديه , فدست هذا السر وحرصت عليه . أخفته عن كل الناس ,ولم تسمح للعجوز الخبيرة., بختان ابنتها بنت مسيمس . حتى لا يتسرب أمر فرجها الأشرم , وهو ذات الشيء الذي فعلته السرة والدة أم حجل , منتهكة عوا يد القبيلة , وتقاليدها العريقة .

كانت العازة بكل كثافة وحدتها .,في الليالي الموغلة الوحشة , وبكل ما يضج به جسد بنت مسيمس .,من عرم لاهب .تدهمها بطيفها .لتعيد لها ذكرى ذلك اليوم .,الذي حبلت فيه بها , عندما دخل عليها حبيبها الفنجري خلسة , لا يطيق صبرا , فاحتضنها , وارتمى بها على رمل الدار .

 

وقتها كانت كلبة العازة ,قد جاءت بكلب الجيران, الذي أخذ يمهمه ,ويلف حولها في دائرة متوترة ,وهي تحاوره وتداوره .. تتمنع عليه إلى أن انقض عليها , واعتلاها في غفلة دلالها (ربما).. كانت الكلبة تعوي ,والعازة تشهق شهيقا معذبا.,ولذيذا كخروج الروح . وظل احليل الكلب ملتفا في أحشاء الكلبة., كثعبان أبو الدفان .كلما يجذبه يشتد تمسكها به أكثر .

راحت في إغماء عميق , تخللته رائحة القمبيل القادمة من دريب الريح , تحملها رياح الصعيد النديانة., إلى دار الريح .لحظتها كان الكلب  يفلت نفسه مجهدا ويبول , فتملا الرائحة الزنخة فضاء الدار .. تشمها العازة فتستفيق ,وهي تكح وتتأوه., آهة عميقة الشجن واللوعة , فيمضي حبيبها الفنجري., إلى داره مهدود القوى .

عندما التقت السرة بعد أيام وليال عند رهد الماء , تبادلتا الحديث الملغز  , ثم كشفتا عن الأحاسيس الخفية .,التي ظلت تلاحقهما منذ تلك الليلة , فحبيبها الفنجري منذ وصل إلى دارها , اتكأ وتجشأ ما يمور في أمعاءه .,من وليمة عرس ابنة العمدة., الشهية وقواه تسترد شيئا فشيئا ..

جلست السرة إلى جواره , فاحتضنها بين ذراعيه , نظرت إليه مطولا (كانت قد أدركت إنها الليلة الموعودة , ولابد انه بر بقسمه ).. احتضنها فتمنعت وكلها شوق . هي التي ظلت تنتظره, منذ فتحتها الخبيرة بالموس الحاد . كانت كلما تلمست العجين على الجرح النازف , تشعر بان أصابعه., هي التي تتحسس الجرح .. هي التي تندفع عميقا, لتصنع جرحا في الجرح . هي ..

 نظرت إليه طويلا ,وعينيها تضجان بالشوق والعذاب . فنهض عليها كمن يخوض حربا , وقد ركبته شياطين البلدة, والوديان المجاورة .,بعفاريتها الحمر والزرق , واحتلها كما يحتل جند الأرباب .,بلدة مغلوبة على أمرها .

في وحدتهما الكثيفة .,بعد وقت طويل .,في دار الأرباب , تتذكران معا : بنت مسيمس وأم حجل , تلك الليلة التي قضتاها مع الأشرمين , ابني مسك النبي , صاحبة القهوة التي عند منتهى دريب الريح . فتختلط عليهما الأحاسيس والمشاعر ..

أحيانا تندمان على فراق الأشرمين , فتلك الليلة التي قضتاها معهما ,كانت ليلة مميزة., لم تخطر على احساساتهما المتنامية على بال , إذ لم يذقن طعما كذاك الطعم ,ولا إحساسا بتلك القوة , بمشاعرها الناهبة., ودفقها الذي خلن انه لن يتوقف أبدا , فقد ابتلت ثيابهما بمزيج لزج, من الدم والعرق والرطوبة , وابتل الرمل تحتهما ,في دائرة كبيرة , فما شعرتا بملامسة الأشرمين , لاحشائهما(التي ارتجت ) فحسب. بل كأن مسمارا دق في رأسيهما , فحفر عميقا حتى أخمص القدمين . اللتين تشنجتا وتوترتا توترا لا حد له .

في وحدتهما الكثيفة , بعد عشرات السنين , تظل تلك اللحظة العارمة., تلاحقهما بعذوبتها الملتاعة .,محمولة على سواعد اللحظة .,التي رآهما فيها ,أتباع الأرباب., والعمدة الأعمى. في منتهى دريب الريح, عند مدخل البلدة ,وثغرها من جهة الوادي الأشرم .

كثيرا ما حاولت بنت مسيمس., تشكيك الأرباب في أبوته لأمونة بنت أم حجل :

- ألا تلاحظ إنها ولدت في ذات اليوم., الذي ولدت فيه ابنتي مرج البحرين ؟!.

-إنها مني ومن معلمي أبو جريد . فكفي يا امرأة , لن تنجحي في مسعاك . فلن اشك في أم حجل أبدا . أنا الأرباب . أتفهمين ماذا يعني أن أكون الأرباب ؟!..

فتكظم بنت مسيمس غيظها ,وتداري أحقادها المحزونة .

كان الأرباب يعتقد أن مرج البحرين , ابنته من بنت مسيمس , قد أنجبت ابنها ود النمير., من ابن العمدة الكبير , الذي هرب بعد  وقت قصير., من بداية ونهاية علاقتهما , وانقطع أثره . ظلت مرج البحرين تنتظره .,وتحلم به .,في لياليها المضنية , إلى أن نحل جسمها., وأصابها مرض خفي , فشل حكماء الصعيد والسافل, ودار الريح ودار صباح في علاجه , حتى حجر كوتو المقدس, لم ينجح في علاجه . فماتت مرج البحرين .,من الحنين والإحساس بالفقد . ذات ظهيرة شاحبة , ودفنت في مناحة كبيرة .,تحت جذع عرديبة الدود ,التي تتوسط البلدة .

ومنذ كان ود النمير , في رحم مرج البحرين( بعد لم يولد) . كان الأرباب لا يكن له عطفا أو ودا , لان دم ابن العمدة الكبير .,يجري في عروقه (كما ظل الأرباب يعتقد ) لكنه لم يقوى على قتله , فدمه أيضا كان يسري في عروق ود النمير .

ومع ذلك عندما شب ود النمير عن الطوق , اتخذ الأرباب قرارا .,بدا لكل الطوائف (وطائفة العميان على وجه الخصوص )غريبا . إذ جعل ود النمير., رئيسا لطائفة العيون , التي كانت في ذلك الوقت, قد أنهت بناء الكثير من المخابيء, تحت أرض البلدة وحواضرها, (لتعذيب الناس ,الذين يحتمل أن تكون لديهم اتجاهات مناوئة., في المستقبل) ,كانت قد شيدت هذه المخابي في سرية تامة , ولم يعلم أحد بوجودها ,سوى الأرباب والمعنيين بها مباشرة .

وكانت دهشة الطوائف الأخرى .,وطائفة العميان على وجه الخصوص .,مصدرها علمهم التام .,بأن الأرباب قبل أن يتخذ هذا القرار , كان قد أبدى لأكثر من مرة .,انه سيلعن ود النمير ذات يوم . لعنة لن تقوم له بعده قائمة . وظل الجميع بانتظار هذه اللعنة , التي عندما أخرجها الأرباب من طياته ,لم يلبث ود النمير., أن اخذ يهيم من واد إلى واد , بحثا عن فاطمة السمحة .

(3)

في وحدتها الكثيفة .,بعد عشرات السنين , يتوقف تيار الزمن : عند أم حجل .,في لحظة واحدة ..هي تلك اللحظة., التي اتخذت فيها قرارها., بأن ليس ثمة بعلا جديرا بها .,سوى الأرباب , الذي جدد فيها لظى ليلتها اللاهبة مع الأشرم ..تلك الليلة اللاهثة المتناقضة , التي ظنت إنها لن تتكرر أبدا ,رغم الانقباض الذي خالطها.

تسللت أم حجل خلسة من دار العمدة , تتبع الحمامة الزاجلة إلى الوادي , حيث دغل القمبيل . تركتها الحمامة في الدغل ومضت , وكلما حاولت اللحاق بها , يهبط السمندل من أعلا الشجرة , يضرب بجناحيه , فتتراجع إلى الدغل الكثيف , إلى أن أدركت أن السمندل يخبرها :أن تنتظر مكانها . ولم تلبث إلا قليلا .,حتى أطلت الحمامة يتبعها الأرباب .

حملها الأرباب بين ذراعيه., كما يحمل طفلا صغيرا , وأشار إلى السمندل بيديه , فجاء الهدهد والقماري .,والطيور. يحملون ورق الشجر الأخضر والليف , ويسوون فراشا وثيرا .

وضعها الأرباب على فراش أوراق الشجر., واخذ يداعبها بلطف ولين ..

 كان كلاهما صامتا , ما يفصل بينهما مقدار رجفة .,بمثابة هاوية لا قرار لها .

عندما عادت أم حجل إلى دار العمدة , كانت ملتبسة الفكر , لا تدري هل حدث ما حدث حقا , أم أن أحلام قيلولاتها جنحت بعيدا., إلى ليلتها مع الأشرم . فقد شعرت وهي بين أحضان الأرباب , كأنها بين أحضان الأشرم : ذات القوة والعنفوان . ذات التلاشي في بؤرة واحدة , يتجمع فيها هلاك الروح ,وغليان الدم  والهياج والفوران ..

 كانا يغرزان اظافرهما في لحم بعضيهما , وينشبان اسنانهما  احدهما في الأخر , ويكزان على اسنانهما بهوس . حتى يكاد الدم يخرج من ألسنتهما المتعانقة .

كان الصمت قد عم الوادي , وليس سوى حفيف أوراق متساقطة , ووقع خطى على سكة لا متناهية . انه ذات الشعور الذي انتابها .,عندما أفاقت من نومها, تتفقد رجلها الأشرم . لكنها لحظتها .,تمكنت وأختها من التغلب ,على هذا الشعور , فهربتا .

تدرك الآن, أنها لن تستطيع .,مقاومة سطوة الأرباب , الذي أيقظ فيها ذكرى ليلة بائدة , ظنتها نسيا منسيا .. لحظة منصرمة, انطفأت مع الأشرم . اللحظة التي جاهد العمدة لإشعالها ,أو إخماد طيفها إلى الأبد , ففشل ..

وظلت أم حجل., تحكي لابنتها أمونة ,عن هذه اللحظة بالذات , كأنها تتلو تعاليما مقدسة., من كتاب أبو جريد . فتشعر أمونة ,بقوة اللحظة تحاصرها . تتخلل شرمتي فخذيها , بعنفوان طيف غامض الملامح, يأتيها في الصباحات الباكرة , قبل أن تتسلل خيوط الفجر الأولى , لتنعكس على قبة الفكي الأرباب , فتملأ دروب البلدة .,وأزقتها وحواريها ..

لذلك عندما رأت الحوار المهاجري ,رأت فيه ملامح ذلك الطيف الغامض ,الذي يزورها في منامها., ويجعلها تصحو في البواكير الباردة: متعرقة. ساخنة, كالخارجة من فرن .. يحمل مروره رائحة القمبيل والجميز.ويحلق بها, خافقا كجناحي السمندل , فتغيب في رعشته ..

منذ رأته غادرها وقارها .,وتمنعها الذي اشتهرت به ..

 أومأ لها .فأومأت له. وصارا يلتقيان في المفترق الأشرم للوادي الأوسط . يتوغلها بهمسه, ويحتلها محاطا بنكهة غامضة , مصحوبة بهديل القماري والسمندل .فتفتح عينيها .. يختفي الوادي والسمندل والجميز والقمبيل , ولا ترى سوى عرديبة الدود شاهقة , في منتصف المسافة بين السر والجهر ., والشك واليقين ..

تنبعث كطيف يتوحد في جسمه الفارع, الذي يدب فيها كله شيئا فشيئا . مخترقا شرمتها اليسرى . فتسحب ساقيها وتغيب في زمان ومكان آخرين . خارج حدود بلدة الأرباب . فلا ترى سوى طيور الجنة الملونة, والسمندل يتبختر أمامها كطاؤوس .. ترمي بنفسها في الماء . وهي تراه .. حبيبها , يشهق ميتا , فتكفنه الحوريات بكسوة من ريش الطاؤوس , وشيئا فشيئا .,يستحيل إلى جميزة ضخمة.. جميزة أضخم من عرديبة الدود .

كان التحول التاريخي .,الذي شهدته البلاد الكبيرة ,صوب شكل مختلف من الهيمنة .,عن تلك الهيمنة(التي كانت في السلطنة الزرقاء أومملكة دار فور ,أودولة المهدية, أو خرطوم الانجليز الممتدة كمفهوم متحول في الزمن والمكان) قد أنتج نموذجا مشوها سريع التبدد والزوال, في البلاد الكبيرة, ,سواء على عهد الأتراك., أو إبان الثورة المهدية , أو بعد أن تمكن الإنجليز من الاستيلاء .,على دار صباح والهيمنة على العقول إلى أجل غير مسمى , أو بعد خروجهم وإفساحهم المجال ,لدار صباح لتكرس لذات المعادلة.. لدولة موحدة محتشدة الموارد ,متمركزة في دار صباح, والتي شكلوها من عناصر دولة تتسم بالفناء , تنطوي على تجاريب التبدد والزوال في سنار والفاشر على وجه الخصوص .

فجاءت التجربة الجديدة., لعمد ومشايخ وزعماء طوائف دار صباح , بمثابة شبكة من السياسات التي ترتبط بقضية الهوية .وعندما حاول أبو جريد اختراق هذه الشبكة ,جعلت منه دار صباح فزاعة للطيور ,أو خيالا للمآتة , كانت قد شوهته على نحو ممسوخ , وهكذا ظل الصراع والصراع المضاد ,هو ما يحكم العلاقات البينية ,التي كانت تؤكد على الدوام, أن شبكة العلاقات التي تمت صياغته.,ا في دار صباح, تنهض في الانتهازية بدلا عن الحقيقة , وشكل ذلك., أساسا مشتركا ,تقاسمته مع دار صباح ,كل من دار الريح والصعيد والسافل, وفيما بعد ,مثل مرتكزا نهضت عليه بلدة الأرباب .,التي كان مؤسسها يتوقع زيادة في الاهتمام بهوامش البلاد الكبيرة وصدوعاتها . الاهتمام  بتلك البقع المبهمة والملتبسة , حيث تبدو قوة دار صباح كنظام هيمنة : مهتزة لا رسوخ فيها ..

 تلك الهوامش الظليلة ,حيث تسحب دار صباح زيلها في صمت , فإذا ما كان من المتعذر اختراق دار صباح ,فان من الممكن انتهاكها لحظيا على الأقل . وهو ما كان تحاول حملات الغزو التي تقوم بها بلدة الأرباب : أن تقوله لدار الريح والصعيد والسافل ..انه من الممكن سبر النظام (الدار صباحي) وجسه, بحثا عن تلك النقاط الحساسة للألم, حيث تبدي سلطته علائم الانحلال والتداعي ..

 لكن مع تكرار الغزوات تأكد تماما للأرباب, أن عدم وجود مركز يعني عدم وجود هوامش أيضا , بالتالي إدراك كئيب للتواطؤ بين المركز والهامش , والقوة والانحلال , وللعبة القط والفأر الجارية خلسة بينهما , بالتالي لا معنى للاحتفاء بكل ما هو هامشي أو أقلوي ,بوصفهما ايجابيين ,فما هو هامشي أو أقلوي, وفقا لتجربة دار الريح ودار صباح ينطوي على انتهازية مقيتة .

(4)

كانت فاطمة السمحة منطوية على نفسها , كحوصلة داخل شرنقة .,من حكايا أم حجل ونبؤاتها , وذكريات أيامها الخوالي . كان كل يوم يمضي من حياتها ,بمثابة سنوات طويلة ,من حكايا تغذيها بطيوف غامضة , مصبوغة بالحنين والحمى , تسبقها نكهات من روائح أشجار مجهولة , لا مثيل لها .,بين روائح أشجار الوادي . وتدهمها الحكايا بالرؤى الملونة, التي تأخذ شكل فارس يأخذ بمجامع قلبها .

 وكانت قوة الروائح ونفاذها , يشتدان بمرور الوقت, الذي تشعر به خاطفا كلمح البصر , وكلما كبرت فاطمة قليلا . كان طيف الفارس يدخل, في هالة من الضوء .تبدأ في الانقشاع عنه تدريجيا . وما أن تكاد ملامحه تبين , حتى يختفي مرة أخرى .

وعندما اكتملت أنوثة فاطمة., وأخذت الجدة لا تستر إلا بارزا , كان قد سبق هذا الاكتمال, تغيرا عاداتها , تبعه تغيرا في مناخ الوادي وطبيعته .

إذ ثارت الوديان والشعاب الكثيرة , التي تغذي أودية بلدة الأرباب الثلاثة . في تلك الليلة ,التي اكتشفت فيها فاطمة., لأول مرة دما بين فخذيها . وتحسست صدرها , فوجدته ممتلئا .,ومتألما على غير العادة ..

 في تلك الليلة .,كانت الوديان تدمر كل ما حولها , إلى حد أن قطعت الطريق بين الأرباب والبلدات الأخرى , ولم تترك حتى الطريق, المؤدي إلى الأرباب من دار الريح والصعيد والسافل ودار صباح ..

انمحى دريب الريح بغضبة المياه الهائجة ,كأنه لم يكن موجودا يوما . إذن شكل بلوغ فاطمة : (نضج الأنوثة) نقطة تحول مركزية ,استوقفت حتى الأرباب ذاته كثيرا . فقد استشعر., كما استشعر الجميع ,من غضبة الوادي .,مخاوف لا حصر لها , فقد تحول بلوغ فاطمة إلى كابوس,يجسم الذعر والهواجس والظنون ..

وعندما انجلى الموقف , ولملم الناس شتات أفكارهم , وهم يتفقدون بعضهم البعض , متغاضين عن غباينهم وعداواتهم . كان لحظتها الألم في صدر فاطمة قد توقف , وقل دم دورتها ,ولم يعد يسيل فائرا كما الأمس . وكانت الشمس قد أشرقت .,وبدت بلدة الأرباب خضراء ممتلئة بالفراشات وطيور الجنة الملونة على غير العادة..

 كأن ما جرى لم يحدث على الإطلاق , فتغيرت هواجس الأرباب إلى نبؤة جميلة , وابتسم وهو يزور فاطمة , وظل مبتسما حتى خرج منها . كان مبتسما طيلة اليوم , على غير عادته .

كان جسم فاطمة قد بدا نافرا كغزال ,فصارت للجدة عادة يومية .,ففي كل مساء عندما تفرغ فاطمة من لهوها ومرحها ,وتعلن الدار مجيئها . تأخذها الجدة إلى ركن قصي .. بعيدا عن نظر الخدم , تفك عنها كنفوسها., وتبدأ في تفتيشها . تتلمس أشرميها , وتغور أصابعها عميقا .,تتحسس مواطن القلق والتوتر الأزليين .حتى تطمئن ويهدأ بالها تتركها .

في البدء كانت فاطمة ترفض الخضوع للتفتيش , ثم أخذت تقبل على مضض , وهي في ضيق شديد , فكانت الجدة تحكي لها ,عن فارس يدهم خلوتها .,ويفتت وحدتها .,ويحيل وحشتها إلى جمر لا ينطفيء , ولا يتركها إلا و هي مفلوقة القلب., كحبة فول قسمها نقر الطير .

فتسخر منها فاطمة . فهي كانت على رغم إحساسها بالخدر الذي يعتريها , لحظة تتسلل إلى منامها تلك الروائح مجهولة المنشأ , معلنة عن اقتراب فارسها الغامض . على الرغم من هذا الخدر,الذي يسكن كل خلية في جسمها , تقاوم وتغذي نفسها .,بمزيج من الشعور المضاد والرفض .

كانت فاطمة تخبي في داخلها ناسكة , زاهدة في الرجال . تعتزل حتى ذلك الإحساس .,الذي تشعر به .,وهي تغسل اشرميها في الوادي . فما أن تلامس كفها ذلك الموطن ,حتى يسري فيها شعور غامض , لا تدري كنهه , فتقاومه بالانقباض .,وهي تمسك الأشرمين بسبابتيها وإبهاميها , كأنها تعاقب فتى صغير بشده من خديه .

ورغم إدراك الجدة .,لطبع فاطمة السمحة الوحشي, إلا إنها كانت تدرك, فيما يشبه النبؤات الخفية, أن مآلها لا محالة إلى استسلام , عندما يحين الوقت , الذي تكاد ترى اقترابه, رؤية العين العادلة .

 فكانت تحذرها بتلك الحكايات( التي يبدو أن مردودها كان عكسيا ), إذ ملأت خيال فاطمة ,وعبأته بالروائح المجهولة., والطيوف الغامضة , والمشاعر المتداخلة , المربكة . والأحاسيس الملتبسة , التي أخذت تشعر بها , إزاء الفتيان .,الذين يلاحقونها منذ لحظة خروجها من الدار , حتى عودتها مرة أخرى .

كانوا يلاحقونها وهي تستحم في الوادي , مختبئين خلف أشجار القمبيل والقنا والجميز . كانت تحس بوجودهم الغامض الطاغي , الخفي ولا تراهم . يلاحقونها في كل مكان , حتى في الطريق إلى الحقل . وما أن تلتفت خلفها, حتى يتبخرون في الهواء , فلا تجد شيئا . لكنها تشعر بهم يختبئون .,في تلك الأكمة .,أو خلف هذا الجذع الملقى , أو تلك الجميزة على شط الوادي .. حتى باتت تشك في الطيور حولها , تشعر بالعصافير والقماري وطائر السمندل , يتجسسون عليها , يتحسسون بهديلهم وزقزقتهم وغنائهم, تكويرات جسمها المتحفز , فتقذفهم برشاش الماء, أو حفنات الرمل المبتل .غاضبة , ولا تعود تواصل استحمامها, إلا بعد أن تطير الطيور مفزوعة .

فتنة الفتيان بفاطمة السمحة ,مردها جمالها الأخاذ., الذي اخذ بألبابهم , وصرع أفئدتهم . مردها .,صوتها الساحر الذي انتزع دهشتهم , من محجريها . وجعل قلوبهم تنتفض ..

 كانت فتنتها كالموت الأحمر (تحيل أحلامهم .,إلى نوع من الوجع., والاشتياق .الممزوج في الشقاء .,والعذاب والألم ) فيتقلبون مضطربين في أسرتهم ,وهم يهمهمون بلغات عدة , لا يذكرون منها شيئا عندما يفيقون من النوم .

تجرأ بعضهم واقترب منها فصدته بقسوة . لم تلن أبدا , فقد كانت قوية الشكيمة , قوة جمالها "الجني" ..

في الليالي المقمرة , عندما تخرج فاطمة إلى الوادي, كانت تحس بخطى مختلفة تتبعها, و غير تلك الخطى . خطى ذات جرس خاص : مزيج من هديل اليمام والسمندل .,وخرير الماء في الماء .. مزيج من رائحة القمبيل ونكهة السعات البري .. مزيج من ضربات قلبها .,وطيف فارسها الخفي الذي لم تراه , إلى أن تكشفت لها تلك الخطى, عند اكتمال البدر في احد الليالي الماطرة عن ود النمير , الذي كانت قد سمعت عنه كثيرا , مثلما سمع عنها .

فود النمير كان مثلها . فتى وسيما , متقوقعا في ذاته ,و لا يأبه لنساء البلدة وفتياتها , اللواتي لطالما ارتمين عند قدميه , يرجين وصاله . وظللن يلاحقنه أينما مضى . الأمر الذي كان يدفعه للاختباء في تلك المخابيء السرية , منهمكا في تعذيب معتقليه , أو الخروج بعيدا عن البلدة , متخطيا وديانها الثلاثة, إلى حيث لا يكسر احد طوق عزلته ..

ورغم الجمال الفتان لفاطمة , الذي لطالما طرق سمعه , لم تحدثه نفسه أبدا ,بالترصد لها ورؤيتها . إلى أن رآها في ذلك اليوم البعيد مصادفة , فتبعها مسلوبا ..

هو الذي لم يظن أبدا, أن تدهم وحدته أنثى., فتحدث فيه كل هذه البلبلة و الارتباك . وتطلق جنونا مخزونا في أعماقه , لم يكن يعلم عنه شيئا , فقد كان قد تحصن منذ وقت بعيد., بالسياج الذي شيدته حول وجدانه بنت مسيمس , بحكاياتها المعذبة عن أمه مرج البحرين , التي أحبت ابن العمدة الكبير , في غفوة من غفوات عقلها . غفوة كانت كافية لان تصيبها بالألم ..

إذ لم تدر أن ابن العمدة .,إنما أحبها فقط انتقاما لدم أبيه القتيل . إذ سرعان ما هجرها وهرب, تاركا البلدة .,دون أن يقع له احد على اثر . تركها وهي حبلى بود النمير . نسي كل الحكايا التي بذلها لها وهرب ( كان يقول لي :

-يا فلذة كبدي , وجرح فؤادي . يا مليكتي وقمر دنيتي )..

 تقول مرج البحرين , فيتقطر الدمع غزيرا .,من عيني بنت مسيمس . تمسح بالخرق الباردة جسمها الملتهب , بحمى الهجر , تحاول مواساتها . لكن كانت نيران الهجر قد تآكلتها , فلم تلبث أن ماتت محسورة .

هذه الحكاية وحكايات أخرى .,سيجت وجدان ود النمير., فلم يقع في براثن عدوه الحب أبدا . عدوه الذي قتل أمه .,في ريعان صباها . وجعله يتيما دون أم أو أب . سوى الأرباب بمشاعره الغامضة , التي لطالما أحس بها تبعث على الخوف., أكثر مما تبعث على الارتياح .

ولذلك عندما رأى وليدته الصغيرة تاجوج, اشتد بكاؤه وحرص على استرداد أمها .,مهما كلفه الأمر .

فكان يقف قبالة الوادي كل يوم , معملا بصره  , مواجها ذلك الموضع الذي غرقت فيه فاطمة . يحدق في المياه المترامية .,بين القمبيل والقنا والجميز , الذي يحد الوادي من كل جانب . حتى يلتقي عرديبة الدود . حيث يطلق هناك سراحه , فيرتد بصره لتتغور عينيه مرة أخرى في المدى , إلى الجهة الأخرى., من وجنات بلدة الأرباب . يمزق بعينيه الغسق المكفهر , وخياشيمه تتماهى فيه , يزفران معا أشعة الشمس الهاربة . في انتظار فاطمة السمحة .

فيشهق , أصبحت لديه أحلام مختلفة عن أحلام بلدة الأرباب , أحلام جديدة بان يجد فاطمة ويمضي معها ليعيشان وطفلتهما تاجوج بعيدا عن الأرباب .

وهكذا .. ظل كل يوم يقف قبالة الوادي , ينتظر بصبر على شطه , حذاء الشجرة ممتلئة الجذع , شجرة الجميز التي اتكأا عليها .,واستلقيا تحتها , في ذلك اليوم البعيد ..

لزم مكمنه لأيام وأسابيع وشهور., إلى أن خرجت فاطمة من الموضع ,الذي وقعت فيه من الوادي .,عند الغسق تماما , والشمس توشك., أن تلم أخر خيوط تنورتها الذهبية , الزاهية . فمد المرآة بسرعة , بمواجهة وجه فاطمة , التي ما أن نظرت إليها .,حتى أغمى عليها , فسبح يرفعها من الماء ...

عندما أفاقت فاطمة , قطبت وجهها , وكان ود النمير يقبلها وهو يبكي بكاء مرا , حفرت دموعه الرمل., وسالت جداولا., لتمتزج مع مياه الوادي .

(5)

عندما تزوج ود النمير من فاطمة السمحة, كان حبه لها قد أخذ يتنامى., أضعافا أضعافا يوما بعد يوم , كان حبا عظيما يقترب من العبادة . وكان لا يزال ملاحقا بتلك اللحظة, التي رمت فيها بنفسها ,في الماء.فتوقف بصر ذاكرته., في جسمها البديع .,الذي لم يره أبدا.. حتى وهما مستلقيان تحت شجرة الجميز , في ذلك المساء البعيد . فقد كانت فاطمة., حريصة على ستر ما برز من جسمها .. هذا الإخفاء لمحاسنها .,جعله مشغول الفكر .

حتى أن حلقه كان دائم الطقطقة والاحتلاب , كلما نظر إليها .,وتخيل ما تخفيه., تحت هذه الثياب .

كان في وحدته الناعمة وهو معها , يتخيل عريها , ملمس اشرميها , نعومتهما , فتجوس أصابعه أدغالا.. تتسللها ببطء , لتندس في مواطن دافئة , تفوح برائحة المسك والقمبيل .,والقرنفل والزنجبيل والقرفة .. مزيجا مخدرا .,يجعل رعشا ته الهائمة., لا تتوقف عند حد .و فتمضي, وتمضي ..و حتى يتقطر منه الدم .

وهو لا يزال يذكر بحثه عنها ,في كل الديار : الصعيد والسافل .. دار الريح ودار صباح ,عبر الشعاب بين وديان البلدة.. الطرق الصخرية التي حفرتها الإرادة الصلبة للأرباب , ومواطنيه العابرين بين الجبال والسهوب., والانهيارات .,التي تتشظى عبر أشكال من خرافة القوى التاريخية .,التي تقف خلف كل., أحزان ومواجد البلاد الكبيرة ..

 القوى التاريخية التي تتصور دار صباح إنها تمثلها .. هكذا مضى يساءل عنها الطير والشجر., والزمن المخفي بعناية., في ذاكرة اليوم والمكان.. مضى يبحث عنها في كل مكان به واد ,من الصعيد إلى السافل حتى دار صباح ودار الريح وأودية الأرباب الثلاثة .وعندما وجدها اخذ يحس بها , بابا من اللظى .,كلما ناما معا متصالبين ...

عرى فاطمة .,حصنا منيعا لم يستطع تجريده , فظلت رؤية جسدها في الكنفوس على صلبها ,والمئزر على نهديها , شغلا شاغلا حرمه النوم .

كان يتوقها عارية من كل سؤ. ينعكس ضوء النهار على جسدها , وينكسر عند عجيزتها , يرتد عند نهديها , ويتغور عميقا., ليرجع كالصدى ليصدمه , ويستعيده ,إلى تلك الحالة من الحمى .,التي تركز فيها تفكيره .

جسم فاطمة واشرميها . ركزا حياته . كل حياته في نقطة واحدة , ظل يقاومها , كما تقاوم محاولاته تجريدها . إلى أن نطق بحدة وقد طفح به الكيل :

-      أريدك أن تمشي متجردة أمامي . إنها رغبتي الوحيدة., التي دونها أموت .

فأبت فاطمة وقالت :

-إذا أجبت إلى طلبك , فماذا تفعل في المقابل لي ؟..

قال:

- كل ما تريدين ؟..

قالت :

- اقسم على ذلك .

فاقسم لها , فتجردت فاطمة., ومشت أمامه ذهابا وإيابا .

كانا عند الوادي , تحت شجرة الجميز ذاتها ..

مشت فاطمة أمامه ذهابا وإيابا .. عزفت أشجار القمبيل , وشجيرات السعات .,وأشجار الجميز الهرمة , حفيفا ناعما , وأطلقت عبيرها . .

مشت فاطمة ذهابا وإيابا .. أصبحت السماء , كل السماء بلون الغروب , ورزاز لطيف يلامس ارض الوادي ,دون غيم . كأنه معلقا في الهواء , وكان ود النمير ينظر إلى صدرها المتحفز , المجنون . وعجيزتها الفاتنة . يتحسس ببصره اشرميها ويدخل في حالة .,من الجذب كالدراويش , في حضرة الأرباب . خرير الجدول ومهرجان الفراش , واحتفاء الشجر والطير ., كل ذلك , كأنما توحد في صرخة واحدة :

- كفى ...

توقف تيار الزمن , ولملمت فاطمة كنفوسها ومئزرها , وران الصمت على كل شيء . حتى الوادي ما عاد له صوت .

قال ود النمير :

- الآن اطلبي ما تشائين .

فردت عليه وهي تزم شفتيها بحزم :

- طلقني في الحال .

لم يكن ما جرى بين فاطمة وود النمير , هو أول العلاقات التي تنهض في غمار التاريخ , فتذروها رياحه العاتية , وتعصف بها إلى قيعانه . فهو أمر معتاد , مثل كل الأمور .,التي تحدث في بلدة الأرباب , وذلك لأنها بلدة مسمومة الروح , في جوهرها . غير راسخة , كالرمال المتحركة , تخنق من يمشي عليها . أو هي كالأرض الزلقة , التي يصاب بالكسور., أو الرضوض كل من يطأها , أو يتحرك فيها . ولذلك وسمت الأرباب .,حياة سكانها بالهشاشة والرقة , حتى أن البصمة يمكن أن ترى واضحة .,في كل شيء يلمس فيها .

ومن هنا كانت حياة الناس .,وعلاقاتهم الحميمة, وإرادة تمتعهم بالجمال., واستيعاب هذه الإرادة /الرغبة , موضع التباس ...

إذ ينهض كل ذلك في سطح تراب البلدة , دون أن يمد جذوره .,إلى أعماق الرمل , وصولا إلى طبقات الأرض , حيث الجانب الأخر من البلدة . إذ أن الأرباب كانت مجرد طيف , انعكاس لبلدة أخرى , في عالم آخر . عالم متعال , كأنها محض صدى لصوت خفي .وربما كان ذاك بالتحديد., سبب أزمتها التاريخية والوجودية .

وما كانت الأرباب بهذه الهشاشة , إلا لأن مؤسسيها أبو جريد و الأرباب , دون أن يدريا (ربما كانا يدريا) شيداها في الزعزعة , وعدم الاستقرار , الأمر الذي أفضى بالناس ., الذين جاءوها من "القبل الأربعة " بالحنين إلى تلك القبل الاربعة., التي جاءوا منها , رغم أنهم يجدون كل المتع التي يحلمون بها., في الأرباب . لكن خوفهم الدائم (ربما ) من عيون ود النمير .,والجثث التي يجدونها ملقاة خارج البلدة , أو تحت عرديبة الدود., وهي تحمل من آثار التعذيب ما تحمل .. والخازوق الذي يهيمن على ذاكرتهم , حتى يشعرون بآلام بشعة في مؤخراتهم . هذه الأشياء وأشياء أخرى , ربما كانت هي .,ما يقف وراء شعورهم, بأنهم لا ينتمون إلى هذا المكان , فينهض الحنين داخلهم , حيث يرون وطنهم المفتقد , في طفولاتهم الهاربة . يمنحهم الدفء والحماية .,من كوابيس الأرباب . وبالطبع كان هذا الوطن الذي يلتمسونه لا وجود له , فهو افتراضي , مجرد تصور ذهني , استلهموه من تاريخ لا ينتمون له , ولا يعرفون عنه شيئا , فهو ليس تاريخ أسلافهم , انه مجرد تاريخ تم نقله إليهم .,عن طريق التواتر , جيلا بعد جيل .ومع ذلك يلتمسون فيه ., في أوقات الوحدة والبرد القارص., الذي ينهض في هشيم علاقاتهم . الدفء والحماية. التي لم تتمكن الطوائف التي شيد الأرباب., على أساسها مجتمع البلدة أن تمنحهم إياه .

فالأرباب كان لا يفتأ يقسم البلدة إلى العديد من الطوائف , حتى جعل (أخيرا طوائف ظل للطوائف الأساسية) طائفة للحدادين , وطائفة للجند , وطائفة الحيران , وطائفة المزارعين (وعندما رفض الصيادون., أن يكونوا طائفة واحدة ,مع المزارعين وجانيي الثمار , قمعهم الأرباب , واعتبر أن ذلك تمرد , فوجد الصيادون ,في اليوم التالي لاحتجاجهم , قيادتهم كلها "مخوزقة" تحت عرديبة الدود ..

 لم يكن الأرباب يأبه لرغبة احد , فقد كان الرجل ظلا لله ,في ارض البلدة . يفعل بأهلها ما يشاء . كما فعل مع الصيادين , رغم وجهة نظرهم الوجيهة . إذ كانوا يرون ضرورة وجود طائفة تخصهم وحدهم , وذلك لاختلاف نشاطهم عن المزارعين , وجانيي الثمار , والعاملين بالبستنة عموما . الذين يتعدى نشاطهم ذلك, إلى نصب دناقل العسل في الأشجار .. لكن الأرباب أُلّهم بحل المسألة : خوزقة قيادتهم تحت عرديبة الدود .

كل أموال تلك الطوائف .,تأتي إلى بيت مال البلدة , فلا يأخذ أي شخص إلا قدر حاجته,مهما كان مقدار المال الذي أودعه,أو المجهود الذي بذله . فالأرباب ,كان مهموما جدا بمركزة الموارد , في سبيل استقرار البلدة .

جعل الأرباب من أصفيائه العميان, طائفة للعمد والشيوخ , يعين على رأسها من يشاء . فقد كان الرجل مطلق اليد .,وجبارا عتيا . ولم يغفل أمر الاهتمام بالأدب., فجعل هناك طائفة., من المتأدبين , وفقا لمنهج أبو جريد . وكان هؤلاء هم ذاتهم., الذين يقع على عاتقهم., أمر التعليم .

وكان لكل طائفة , من هذه الطوائف., قانونها الخاص. فهي محكومة بما يشبه الفدرالية , التي صاغها الأرباب ذات نفسه , ولذلك لا تلجأ إليه ,في مشكلاتها البينية الصغيرة , ولا يتدخل الأرباب, إلا في مشكلاتها الكبيرة الشائكة, والعويصة . وقضاياها المعقدة المتشابكة , التي تعجز عن حلها وحدها ,دون الاستعانة بحكمته البارعة.

كانت طائفة المتأدبين, وبائعات المريسة في بلدة الأرباب ,من أكثر الطوائف ذات الحظوة والنشاط , إذ أعطاها الأرباب عناية خاصة , ومنحها امتيازات., لم تحظى بها أي طائفة من الطوائف الأخرى . إذ كان يسمح لهاتين الطائفتين., عند توريدهما للمال., بالاحتفاظ  بشيء يسير منه., للترفيه به عن نفوسهم .,فيما يرونه مناسبا .

ثمة طائفتين معزولتين عن المجتمع , لكنهما تجدان العناية الكافية  من طائفة الحكماء , فهما من اكبر طوائف بلدة الأرباب., والحواضر التابعة لها . هما طائفتي النساء المطلقات ,والأرامل وطائفة الرجال المجانين . وهما الطائفتين اللتين انضمت اليهما فاطمة السمحة وود النمير مؤخرا.

لكن فاطمة السمحة كانت معزولة حتى عن طائفتها . تعيش نفيها الوجودي, على ذكريات ماضية , محمولة على سواعد الفراشات المحترقة , بنار لا توصيف لها . نار غامضة . غامضة ومبهمة فحسب , فهي نار تحرق ولا تقتل , تحرق ولا تأكل ..

عندما تفيق فاطمة لنفسها , خارجة من السنة هذه النار المتأججة , تلاعب طفلتها الصغيرة تاجوج, علها تنسى كل ما مر بها , تحدق في وجه تاجوج,  فتنساب أمام عينيا أخيلة وصور, متداخلة , لا تنبي بخير . فتنقبض نفسها , ويرتجف قلبها , وجسمها يرتعش كالمقرورة . ببرد الشتاء المجنون . الذي يحرق أشجار الوادي بالزيفة ..

ولم تكن فاطمة وحدها التي تعيش مثل هذا العذاب . فقد كان ود النمير متآكلا بالندم , يشعر بالحسرة كالصديد ,تملأ جسمه قروحا ودمامل , تنفتح ولا يخرج منها قيح , فتظل تعذبه بالنقحان ..

 كأن لعنة سوداء أصابته وشوهت وسامته , وجعلته لا مفطور الفؤاد فحسب( من فراق فاطمة له)  بل من إحساسه أيضا., ببلوغه النهايات .

انقشعت عن خواطره كل تلك الأحلام المجيدة , بالمضي مع فاطمة والطفلة الصغيرة ,للعيش بعيدا عن بلدة الأرباب . لكن تلك الرؤى الملعونة, التي حاصرته وجعلته يجبر فاطمة على التجرد , جردته هي الأخرى من هذه الأحلام . فقد كل شيء وصار مذهولا , مسكونا بالوحدة والوحشة والحزن الأبدي ..

حاول إقناع فاطمة بالعدول عن رغبتها في الطلاق , لكن فاطمة (رأسها وألف سيف ) أصرت أن يبر بوعده ..

كانت عنيدة كالفرس "المكادي" . يابسة كالحجر الصوان . وكان رقيق الفؤاد عذب المشاعر, لا يحتمل الصدمة ومشاهد الأسى واللوعة (هل هذا هو ود النمير حقا !!) ود لو عاد الزمن إلى الوراء , ليتمكن من مقاومة تلك الرغبة , فلا يدع فاطمة تتجرد أمامه , وضوء النهار يسقط على تضاريس جسدها المتناسق., بكل ما أوتي الضوء من فجاجة . يتسلل منعرجاته , فجاجه , وتحفزاته . يا لذلك الجنون الذي أودى به (يا لهذا العذاب الذي ليس كمثله عذاب ) ..

كأن تلك الأمطار التي هطلت 40 عاما على الجد الأول لابو جريد .,وهو بعد محض طين صلصال  , تهطل عليه الآن .. أمطار الحزن تهطل عليه الآن., لا أربعين عاما فحسب , بل منذ تلك اللحظة, التي هطلت فيها على أبو جريد , وهو بعد مجرد فكرة .,في خاطر الغيب , لم يتكون كتصور كامل , ثم جسم من لحم ودم اسمه : ود النمير . منذ لحظة الخاطر تلك في تفكير الجد , يشعر ود النمير., أن أمطار الحزن تعجنه وتصوغه , كفكرة للأسى, وموضوع للألم والعذاب .

مضى ود النمير للأرباب كي يتوسط له عند فاطمة , حتى تقبل وتعود إليه . مضى إلى بنت مسيمس . خاطب روح الجد أبو جريد , والجد الأول في الحضرات . لكن كل ذلك لم يجدي نفعا مع فاطمة السمحة . حتى طوب الأرض نفسه .,ونجوم السما وطيور السمندل ودعا ش الوادي ,والقماري وأشجار الجميز , عجزت كلها عن إقناع فاطمة بالعدول., عن قرارها . فاعتزل ود النمير الناس, ولم يعد يذهب إلى عمله ليعتقل أحدا أو يعذب أحدا . اعتزل اعتزالا لا يشبه عزلته السابقة , قبل أن يتعرف فاطمة ,ويغرم بها . دخل في نوع غريب من العزلة , ليس له اسم سوى : الجنون ..

 

عزلة جعلته في همس البلدة ,محض عبارة راثية وآسية :

- ود النمير جن ..

 فقد كان يمضي في دروب البلدة., وشوارعها منكفئا على نفسه , يلتقط الحجارة والاغصان الجافة.,وبقايا الجلود .وهو يحادث نفسه., بصوت يسمعه كل المارة :

- أنا مكتول بفاطمة السمحة . رجعوا لي فاطمة السمحة ..

 حاول الأرباب تحت ضغوط بنت مسيمس .,مداواته (وانطلقت وقتها شائعة أن الأرباب., أطلق عليه واحدة من أسوا لعناته الزرقاء , وذاك هو السبب الحقيقي لجنونه , لا ترك فاطمة له .,كما اعتقد هو شخصيا .,وكما روج الزعيم الجديد لطائفة العميان., بترتيب خاص من الأرباب, وأكد بعض الخبثاء: أن الأرباب لم يشأ مداواته , فهو لا يفشل في علاج احد ) .. هكذا ملأ الهمس بيوت البلدة وشوارعها . أكد الأرباب :

- أن علاجه ليس بيدي . ليس أمامه سوى استرداد فاطمة .,طوعا أو الموت .

(6)

كانت فاطمة .,في لحظات وحدتها الكثيفة , تستعيد ذكريات تبدو لها قريبة , بقدر ما هي بعيدة , حيث تتكثف تلك اللحظة بالذات أمام ناظريها (كأنها تراها الآن رؤية العين) .. اللحظة التي دفعها فيها ود النمير بقسوة , وبكت وهي ترمي بنفسها في الوادي العميق اللهفة , لتتلقفها ذراعي أمونة أمها , وصديقاتها الحوريات . يسبحن بها بعيدا عن مفرق الوادي , قريبا من شط عرديبة الدود , على البر الغربي .

لتحملها أمونة بعد ذلك., إلى بيتها المخبأ .,في عرين الوحوش بعناية .. في قلب دغل من أشجار القنا والجميز , في مكان غير مطروق.  فبلدة الأرباب كانت تخشى هذا المكان., الذي عرفته بعرين الوحوش .,وارض الجن الكافر , ولم يجرؤ أحدا من الأهالي لهذا السبب .,من الاقتراب منه أبدا (بعد عشرات السنين القادمة .,سيكتشف بعض الأثريون والمؤرخون الخواجات , مخطوطة بهذا المكان , هي من الآثار التي تركها أبو جريد  , عندما كان في أول عهده مع مسك النبي , حيث يعتزل في هذا المكان., ليقيم طقوسه , وحيدا يعاني أفكاره الكبيرة ) .. ستجد أمونة هذه المخطوطة., التي لا تفهم منها شيئا , لكنها مع ذلك .,تحفظها بعناية فائقة , وتعيدها إلى مخبأها .,إلى أن تقع في يد الأثاريين والمؤرخين مصادفة , ككل شيء يحدث في البلاد الكبيرة .

(7)

كانت أمونة قد اكتشفت منذ وقت بعيد ,أن هذا المكان ليس عرينا للوحوش والجن ,كما يدعي الأهالي . إذ وجدته أكثر الأماكن أمانا .,وبعدا عن الأنظار , فشيدت فيه كوخا  من القنا والقصب , لم يدخله احد سواها .

بقيت فاطمة مع أمونة ,في وحدة لا تخلو من الألوان الزاهية , والروائح الغامضة ,والأحاسيس المخدرة .,التي توحي بها أرض"عرين الوحوش", ولم تكن تخرج سوى في الليالي المقمرة . تتنكر , وتذهب إلى البلدة., لتسمع ما يدور من همس: عن ود النمير وفاطمة السمحة .

 وتأتي لفاطمة بالأخبار , إلى أن تمكنت من إقناعها بالظهور ,عند الغسق حتى تتمكن., من العودة إلى حبيبها , فهي ليست مثلها منذورة للوحدة والوحشة., في عرين الوحوش .

ولم تمض سوى فترة قصيرة , منذ عادت فاطمة إلى بلدة الأرباب., حتى جرى بينها وود النمير ما أدى لطلاقها وجنونه .

كان الأرباب , بعد أن قال كلماته الأخيرة .,حول عجزه .,عن شفاء ود النمير .قد اعتزل الناس ,على نحو غامض ومريب ..

 وظل أهالي البلدة لعدة أيام ,يتساءلون عن سر اعتزاله , حينما شاهدوه بعيدا , فترددوا في الاقتراب منه .,وقلق خفي ينتابهم على نحو مفاجيء ,إلى أن حسموا أمرهم., واخذوا يقتربون منه ببطء شديد .

 كان سبب قلقهم: أن العزلة لم تشمل الأرباب فحسب , إذ فجأة اختفت العيون , وطائفة العميان , وبدا واضحا أن جو من الاضطراب, قد ساد في أوساط الجند . لكن لم يكن ثمة., من يقول لهم عما يجري , فالجميع لا يعرفون شيئا , كأن الأمر سرا  خطيرا . ولذلك تعاظم إحساسهم باعتزال الأرباب , فلأول مرة منذ تاريخ تأسيس البلدة وحواضرها , لم يسد مثل هذا المناخ, الذي ينذر باقتراب خطر وشيك .. خطر يحسونه ولا يعلمون عنه شيئا .

كانوا قد اقتربوا من الأرباب الذي كان يقف وحيدا كصنم .,تحت عرديبة الدود, وقفوا حوله .,دون أن يجرؤ احد على محادثته .. لساعات طوال ظلوا واقفين...

 خيم جو من التوتر والاضطراب  , عندما عانقت أشعة الشمس الغاربة ,بلدة الأرباب وبدت وسط الأجمة كشمعة مشتعلة ,وهم في وقفتهم الطويلة تلك, بدا لهم الزمن بطيئا .,كأنه لا ينقضي , إلى أن أطلت أولى خيوط الفجر .,دون أن يتزحزح الأرباب من مكانه ,ودون أن يجرؤ احدهم على سؤاله, أو مغادرة المكان ..

إلى أن  اشتعلت نيران عظيمة بالفعل, في كل أركان البلدة  .فراح الجميع يهيم على وجهه .,على غير هدى , وهو في حالة من الهياج ..

 كانت الجيوش تدهم بلدة الأرباب , وبدت البلدة كشمعة مشتعلة...

 خوزق الجند الأرباب تحت شجرة الدود , بعد أن اقتلعوا عينيه من رأسه., واحرقوا قبته , التي كانت ترقد فيها تاجوج., دون أن يأبهوا للصرخات الثكلى لأمها ,وهي تحاول إنقاذها ,واحرقوا عرديبة الدود, بعد أن اجتثوها من عروقها .وردموا الأودية الثلاثة , ولم يبقوا على شيء حي, بمنجاة من القتل والحريق ,سوى النساء..

أصبحت فجأة ارض البلدة جرداء , ساخنة , يتساقط الرماد على ترابها المسود .كأنها لم تكن خضراء يوما . تم كل ذلك بسرعة مدهشة ,كأن الجيوش المتحالفة .,لم تكن تحارب وحدها . كأن جنودا من الجن تقتل وتحرق معهم .

(8)

وهناك عند منتهى دريب الريح , حيث ضريح العرافة العجوز., مسك النبي  ومقامها , أوقفوا حشودهم لتقسيم الأسيرات, بين جيوشهم المتحالفة.  فاختلفوا على فاطمة السمحة, لجمالها الفتان .,الذي لم يرو مثيلا له أبدا ..

 كان كل فريق منهم يريدها لنفسه , حتى كادوا., أن يسفكوا دماء بعضهم البعض . لكن كان لعمدتا الصعيد والسافل., رأي مختلف :

-فاطمة ليست من نصيب احد .

كانا قد طعنا فاطمة بحربتيهما في الفؤاد , طعنة رجل واحد . فعلا هرج  الجند ومرجهم . وتعالى عويل النساء الأسيرات .

لكن ..

 وعلى نحو مباغت . خيم على الجميع الصمت , وهم يرون فاطمة, تنهض من جديد كطائر السمندل .,ترفرف بذراعيها وتحلق عاليا في الفضاء , تكمل دورة كاملة حولهم , ودمائها تنقط في الوجوه التي ألجمتها الدهشة , وقد انتزع الخوف عيون الجميع من محجريها , كانوا يتتبعونها بأبصارهم, إلى أن اختفت في عمق الفضاء الرحيب .

عندما حاولوا استرداد رباطة جأشهم , ونظروا إلى الموضع., الذي كانت فيه فاطمة ملقاة., موشحة بنزيف,جرح طعن عمدتا الصعيد والسافل , رأوها موجودة في موضعها , كأنها لم تكن تحلق قبل قليل ..

 سألوا بعضهم البعض, ودعكوا عيونهم "علهم نائمين " ..

بدا لهم الأمر برمته غريبا !!!!...

اندثرت بلدة الأرباب., التي أبدا لم تكن في يوم من الأيام .,مكانا دافئا يأوي إلى حضنه الأهالي .

 فهي بلدة مضعضعة, شيدت من الدم والدموع ,والأوهام والغربة والحنين, إلى وطن متوهم .

وبعد عشرات السنين, ستنهض مكان الأرباب بلدة أخرى , تستمد أسباب وجودها., من ذاكرة المكان . حيث كانت الأرباب يوما .

القاهرة يناير 2006

 

أضيفت في 05/02/2006/ خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية