.. أيام تحت الصفر... !
كانت درجة الحرارة الخارجية اثنين تحت الصفر ، والساعة الثانية والنصف ظهرا
من يوم الخميس، لو كنا في بلد الإقلاع ، كان يجب أن تكون الساعة العاشرة
والنصف مساء ، وفي مواجهة هذا الفرق أحسست بالكسب... فثمة ما يقارب عشرة
ساعات أضيفت إلى عمر نهاري .. ولكن ليس المهم هذا الكسب ولكن المهم في
ماسأنفقه فيه ، فكم من كسب يضاف إلى حياتنا كل يوم ، ثم ننفقه في الانتظار
.. في انتظار ما قد لا يكون . أو في إضاعة الفرح ، منا ومن وجوه الآخرين ..
نحن في الأرض لا نحب بعضنا بما فيه الكفاية ، ولا نعرف أن نبتسم في وجه
بعضنا بعضا ، ونفشل في أن نفهم حدودنا ، أو حقوقنا ، وأهدافنا ، كما نفعل
على الطائرة ... هذا ما أحسسته وانا اجمع حقائبي عند سير الأمتعة .
مطار تورنتو الدولي، أنيق في بساطته ، يشدك بهدوئه ، وفي إطار هذا لا
يمكنني الحديث عن سلاسة الإجراء ، فهو أمر معتاد ، ولا عن الترتيب والنظام
، فهو أمر ضروري ، ولكن سأتحدث عن هذا البرد ، الذي لسعني بمجرد خروجي من
مبنى المطار وانا متوجهه إلى سيارة الأجرة التي ستقلني الى الفندق ، ورغم
أن المسافة لم تكن طويلة ما بين المطار والسيارة ، إلا أنها كانت كافية لكي
تعطني درسا عن البرد الذي تشهده هذه المنطقة ، التي تغرق وسط هذا البياض
الذي يكسو كل شي ، وهو مايسمونه بالاسنو ، أو الجليد ، أو التصحر الأبيض
البارد ، وفي السيارة همست محدثا نفسي : إن كل ذلك سهل في مواجهة تصحر
العلاقات بين البشر ، والاسنو ، والجليد الذي يغطي مساحات المشاعر بيننا ،
فانه وحتى في الشرق ، حيث دفء المناخ فانك تشعر بذات الجليد الذي يجمد
مشاعرنا ويغطي مساحات الولف بيننا ، ويجعل كل شئ تحكمه المصلحة والانتفاع
حتى الحب عندنا يقدم على طبق من المصلحة يعلو كلما كانت المصلحة اكبر .
ووكالات الإنباء تتحدث عن تغير المناخ في الكرة الأرضية ، ويحيرني صمت
علماء التاريخ ،والاجتماع ، والأديان إزاء التغيرات الحادثة ، والمتوقعة
في تركيبة العقل البشري ، وفي منظومة وجدانه الخاص ، حيث اختفاء قيم الروح
والمحبة والإخاء وعلو قيم المادة والمصلحة والدولار تحت غطاء وحجة ظروف
العمل والبزنس ومقتضيات المحافظة على الثروات تلك التي صارت أهم من الإنسان
الذي يملكها ..
عندما قضت ظروفي بالهجرة إلى خارج الوطن ، منذ أكثر من اثنتي عشر عاما كانت
لدي رؤية مختلفة تماما ، عن إطارات العمل ، والحياة ، والبقاء ، كنت انظر
إلى الحياة من ناحية تبادلية ، لا يضير فيها الاختلاف ، فانا أعطي من يحتاج
، وان ظهرت لي حاجة لفكرة ن أو عمل ، أو كلمة طيبة فلا محال أني واجدها إذ
لا سبب لغير ذلك ، ولكن بدا لي الأمر مختلف حيث أصبحت أري من يكذب من اجل
بضعة دولارات ثم يستطيع وبكل بساطة مواجهة أطفاله والنظر في أعينهم حين
يعود إلى منزله.
دعوني أعود بكم إلى تورنتو ، إلى هذا الطقس البارد من ديسمبر ، حيث كانت
المباني تبدو لي صامدة ، وصامته ، ومصرة على تحمل قسوة البرد ، وتورنتو رغم
هذا تعتبر من أجمل مدن العالم ، وهي تضم أكثر من خمس مدن صغيره فهم عندهم
فلج أي قرية ، ثم ستي أي مدينة ، ثم تاون، فتورنتو تاون تضم أكثر من خمس
مدن ( ستي ) مثل هاملتون ، ومسس ساقا ، داون تاون .... وكل مدينة لها
حكومتها المصغرة ، وشرطتها، وأول ما لفت نظري في تورنتو ، هو انك لا تلحظ
وجودا للحكومة ، بل تشعر بالفعل أن الشعب هو الذي يحكم نفسه ، وحتى هذه
المعدات التى تجرف الجليد ، فانه تديرها شركات خاصة ، أما الصفحات الأولى
من الصحف ، فإنها لا تتحدث إلا عن الجليد ، وإخبار المجتمع ، والانتخابات
إن كان وقتها ، ولا شئ يجعلك تشعر بالقلق ، أو الخوف فمشاكل الحكم تدار في
أروقة الحكم ، والشعب يمارس التحكم في حياته ، وظروفه ومستقبله ، وحبه
لوطنه .. انه عالم متقدم بالفعل، ديمقراطي في كينونته ، نصف دخل الفرد يذهب
الى الضرائب ، فان كنت تكسب دولارين في الدقيقة فهذا يعني أن احدهم للحكومة
، ولكنك ستدفعه عن حب ، وغير نادم ن فالحكومة أنت تمثل همها الأول فهي توفر
لك الأمن ، والأمان ، والعلاج ، والتعليم ، والحرية ، والخصوصية ، والضمان
الاجتماعي . إن الحكومة تأخذ نصف دخلك ، لكنها تعطيك صك ضمان لكل حياتك ،
وهو صك موقع مسبقا ، يؤكد بأنك ستحقق أحلامك في الحياة ، لان المسافة التي
ستفصلك عن أحلامك ن ستكون بمقدار جدك ، واجتهادك ، وصبرك ، وتعلمك ..
قلت إلى صديقي الذي يصطحبني في جولاتي : أنني لا أمانع أن ادفع ثلاثة
أرباع راتبي على أن أجد مثل هذه العناية ، حتى ولو في القمر .
والقمر في تورنتو رايته مرة واحدة ، ورغم إن اليوميين التاليين لوصولي كانا
مرهقين ، حيث كان جدول العمل يشتمل على ثلاث اجتماعات في كل يوم وقد
تتخللهما برامج طارئة ، وكنت أنا أقاوم فرق التوقيت فمنذ السادسة مساء اشعر
بالنعاس يداهمني على نحو لايقاوم ، وإذا ما اسملت نفسي للفراش عند السابعة
مساء ، أجد نفسي قد استيقظت صحيحا عند الثانية صباحا ، ثم احتار فيما افعله
حيث لا يمكنني الخروج ، ولا البقاء نائما، وقديما عندما كان معلم الإحياء
يحدثني عن الساعة البيولوجية ، كنت أتخيل إن حديثه ترفا علميا ، ولكن
حقيقتها تظهر لي كلما كنت في مكان يكون الاختلاف الزمني فيه كبيرا .ولا
أريد أن أحيل الموضوع الى تأمل ديني ، ولكن الله كحقيقة أزلية دوما يفرض
على عقلنا الاوب والعودة إليه ، إن كل هذا الزخم العلمي الكبير
والتكنولوجيا نتاج الى جهود العقل البشري ، والدهشة ليست فيما أنتجه العقل
البشري ، بجده ، وصبره ، واجتهاده ولكن الدهشة فيمن اوجد العقل البشري نفسه
، ثم دعمه بكل هذه الإمكانيات الهائلة فلولا هذه الاماكانات لما استطاع
الإنسان أن يجوب العالم ، والآن يمكن لطيار صبور أن يقطع الكرة الأرضية الى
نصفين في اقل من أربع وعشرين ساعة ، حينما قديما كان الرجل منا يحيا في
رقعة ارض لا تتجاوز الدار ، والسوق ومدينته المجاورة ، لقد كانت الحياة
ضيقة بالفعل ، والآن شاسعة كبيرة جدا ومفعمة ، ولكن يحيا فيها رجال قلوبهم
لا تتسع لأكثر من مصالحهم ، ونساء لا يتعدى تفكيرهم حجم شفاههم التى يجب إن
تكون مكتنزة وملونة ولا يهم مضمون العبارات التى يمكن أن تخرج عبرها .
شئ لا يمكنك تجاوزه أبدا وأنت في تورنتو .. ليس هو السي إن تاور رغم انه
أطول مبنى في العالم قبل برج دبي ، وليس هو شلالات نياجرا ، رغم إنها تعتبر
من أكثر المساقط المائية ، جمالا ، وقوة ، وارتفاعا ، ولكنه هو ملمح الحرية
والشخصانية العزيزة ، التي تلمحها في وجوه كل شخص كندي حتى أولئك المهاجرين
الذين يعانون أحيانا في صمت .. ففي كندا لا يوجد شخص غير مهـم فالكل مهم
بدأ من (الناطور) أي الحارس و( الأوفس بوي) أي الفراش أو خادم المكتب ، حتى
المدير العام ورب المال .. كل شخص مهم بدوره الذي يصنعه، وعمله الذي يؤديه
، وهذا التساوي لا يفسد أبدا الاحترام ، ولا يمنع من أن تعطي الأماكن
حقوقها، ففي حفل العشاء الذي أقامته لنا احدي الشركات الكندية ، لاحظت كيف
إن صاحب المال حريص على التواصل مع الجميع ، حتى مع ذلك الشاب الأعرج الذي
كان بالأمس يطلعنا على بعض الشقق الذي يتولي هو نظافتها وحراستها ، ثم رغم
كل هذا التواصل الحميم لا تلحظ تخليا للاحترام او تجاوزا للأولوية.
إنها أيام تحت الصفر بمعيار الطقس الجوي ، ولكنها دافئة ، حميمة ، مشوقة
بمعيار التقدم الإنساني .
أضيفت في
05/02/2008/ خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب
نيودلهي ..
المدينة التي أبكتني
مجموعة من القناديل الخافتة تضئ ، وفيما بينها يظهر وميض متناثر
يجعل المشهد وسط الظلام كجمهرة من الحباحب ، تلك الكائنات الطائرة التى
تتكاثر في المناطق الاستوائية وتصطاد بضوئها ووميضها ماقد تكاثر وتناثر من
بعوض وما في حكـمه .
هذا هو منظر نيودلهي من على مقعدي في طيران الامارات الانيق ، وعلى
ذكر طيران الامارات دعوني اقر بأن الحياة في الامارات عبارة عن ورطة .. لا
تكتشفها إلا عندما تحلق خارجها فاذا كنت في دبي فلاشئ سيرضيك في خارجه ..
كل شئ ستشعر به متأخرا وبطيئا ولا يرضى طموحك .. فقبل ان اجلس على مقعدى
هذا بيومين كنت بمدينة عربية عدت منها مرهقا من مطاراتها وطيرانها
وتعقيداته التي كلفتني ثلاثة ايام وحقيبة، نعم ثلاثة ايام ضاعت منى دون سبب
وكذلك حقيبة ، ليس هذا فحسب بل انه بدلا من الإقلاع صوب دبي كانت نهايتي
مطار ابوظبي بعد المرور الإجباري بعاصمة عربية اخرى.
المهم ان دلهي جميلة ومودل ، نساؤها مودل ، وأشجارها مودل ، وأنت
فيها لابد من شعور جميل ينساب في داخلك كانسياب شعور نسائها ، ولكنها أيضا
قد لا ترضيك مائة في المائة ، فانك ان وجدت الخدمات فلن تجد ذلك الاتساق
والتصنيف الجميل لسلوك الذين يعبرون الطرقات ، أو يتحدثون ، أو يطرقون
نوافذ سيارتك يسألونك العطاء ، والهندي يتميز بإلحاح وإصرار ممتاز ... ففي
احدى الشوارع الجانبية للسوق الكبير الذي في وسط دلهي وقف احد الباعة الى
جواري وظل يعرض لي فرشاة هزازة لتمشيط الشعر ثم يؤكد لي بكل السبل انها
تنفع للمساج ثم يدلك بها ظهري ، وراسي ، وحواسي ، وانا اقول له اني غير
راغب بها ولكنه يتبعني ثم أحاول التلطف معه ولكنه يصر ويتبعني ثم اختفيت
منه وسط الزحام وسرت لمسافة طويلة وفجأة وجدته أمامي وهكذا قررت عندها ان
انقده عشرة دولارات ليريحني ولكن صديقي الهندي الاصل والقادم معي من دبي
تولى الموقف في اخر لحظة وأقنعه بانه لا جدوى من محاولاته وانه يجب عليه ان
يغادر طريقنا فورا ورغم ذهابه عنا لكني تبعته بنظري طويلا وكأنما شدني فيه
هذا الإصرار الذي قد يكون مفيد في بعض الاحيان .
ثلاثة أيام عمل في دلهي قررت بعدها ان اتذوق المدينة فليست من عادتي
أن أكون في مدينة ثم لا أتذوقها .. أقصد ان أتلمس معاناة أهلها واعرف
فنونها في إتعابهم ، وان لا اكتفي بالنظر لها من خلف نوافذ الفنادق ولا من
خلال زجاج سيارات اليموزين ، لذلك طلبت من سائقي ان يركن سيارته في مكان
آمن ثم يأخذني راجلا إلى دلهي القديمة وان نركب المترو معا وسط الزحام ورغم
استغراب السائق لطلبي الا انه أعجبته الفكرة ونفذها معي بحماس ..
ومن دلهي القديمة خرجت بقناعة مفادها أن التعاسة لا تخلقها السياسة
وحدها ، بل تخلقها المسافة التي قد يصنعها الإنسان فيما بينه والسماء ،
انها ليست حكمة دينية مني في بلد غاندي ولكن هذا ما بدأ لي ، فالأكثرية
يظهر عليها الجفاء للسماء وللروح ولبعض سماحة غاندي ... الجميع يبدون
لاهثين خلف رغبة مادية ما، ففي إحدى البازارات أو الأسواق الشعبية احترت
وانأ أرى إلف من الباعة يسوقون بتنافس رهيب بضائع تافه لا يتعدى رأس مالها
قيمة وجبة متواضعة ! ما الذي خلف هؤلاء الناس ؟ انهم مرهقين ، والإرهاق
المادي لا يصيب قاع المدينة فقط ، وإنما لاحظته في قمتها أيضا فطوال أيام
تواجدي كانت أجهزة الإعلام تتحدث عن عدنان ابن الرجل الثري الذي قتله
أصدقاؤه لسبب مجهول قالت فيه الصحافة : لأنه ثري أو لأنه يتميز عنهم ، أو
لأنه يحتقرهم فالصورة لم تتضح بعد ، وعدنان عمره 16 سنة تظهر في ملامحه
رغد النعيم ، ولسبب أو آخر اغتالوه أصدقاؤه الأربعة وحين مغادرتي لدلهي تم
القبض على ثلاثة منهم ونشرت صورهم ، وفي الحقيقة لم انظر إلى صورهم المعلنة
في الصحف ولكن انشغلت بالتفكير في المسافة التي يصنعها الإنسان دوما فيما
بينه وبين السماء تلك التي تجعل الصداقة بلا معني والفقر بلا غاية والثراء
بلا هـدف ، اليست هي التعاسة بعينها !
وفي دلهي القديمة قد تجد المترجل والذي معه ركشة ( دراجة عادية غير
بخارية ركب من خلفها مقعدا يسع لشخص واحد وأحيانا لشخصين وتستخدم للنقل
والمواصلات ، أما ما نسميه نحن في السودان ركشة أو رقشه فهو (الاوتو) أو
(التكتك) كما يسمى في اليابان وهو عبارة عن دراجة بخارية بثلاث عجلات مع
غطاء يسع لثلاث أو أربع أشخاص )، كما تجد الدراجة البخارية العادية
والتاكسي ، وفجأة يصبح الشارع إمامك عبارة عن قدر متحرك قد يتخذ قرار مفاجئ
في أي لحظة وبالتالي أنت وحظك .
عندما وقفت أمام بوابة الهند سألت سائقي ولماذا بوابة الهند في دلهي
خاصة وفي وسطها لا عند مدخلها ، فقال لي : أن هناك أخرى في مومباي ، وبوابة
الهند عبارة عن مبنى مرتفع كمبنى من عشرين طابق أو أكثر وعندما تقترب منه
تجده ملئ بالأسماء .. إنها أسماء الجنود الهنود الذين ماتوا أو قتلوا في
الحرب العالمية الثانية لقد ماتوا ولم يجد الإحياء غير أسماؤهم ليكتبوها في
هذا المبنى الذي يزار من قبل كل من يصل إلى الهند وفي اللحظات التي كنت
أزوره فيها كانت التجهيزات جارية لزيارة رئيس وزراء اليابان هذا الشاب
النحيل الذكي . قال لي سائقي هامسا وهو سعيد بحضوره لهيبة التجهيزات : أن
تحت هذا المبني يوجد أهم مكتب عسكري في الهند ولا ادري أهو صادق أم لا
،غير اني لم انكر عليه خبريته فهي بأي حال لا تهمني أكثر من الإنسان الذي
مات ثم لم يبقى غير اسمه معلقا هنا ، لقد مات ثم شنقنا أسمه هنا ولم نتعلم
كيف نحب بعضا البعض في سلام .
أما عند مدخل الجامع الكبير فقد كانت لى تجربة مختلفة ، فقد صعدت
درج باب عبد الغفور حتى شعرت بالتعب لعلو المدخل ثم وانأ على رهقي وجدث
ثلاث رجال متحلقين حول صحن الطعام لقد كانت الساعة الثانية عشر ظهرا ، أنه
الغداء فيما يبدوا وانهم هم المسؤلين عن هذا المسجد الكبير، ولما رآني
احدهم ترك الطعام وتقدم نحوي ، ان الرجل في لحيته وملابسه شبه لي أحد أبناء
قبيلة البني عامر الذين يسكون عندنا في شرق السودان ويقال أنهم قد اتو إليه
من أرتريا ، ولما دنا مني الرجل الهندي تكلم معي ولم افهم منه سوى عبارة
مائتان روبية ، ولكن عندما طالعت لوحة الدخول فهمت ان كل من يدخل المسجد
وفي يده كميرا تصوير عليه أن يدفع مائتان روبية ، وبالتالي نقدته المبلغ
وخلعت حذائي ، وحاولت التوجه إلى داخل المسجد ، ولكن الرجل منعني واخذ
حذائي في يده ، أنه لم يعر دهشتي اهتماما بل أصر أن يصاحبني إلى المتوضأ
فتخليت عن دهشتي وشعرت بالامتنان نحوه خاصة عندما حمل مسقط الماء بيده
ليسهل لي عملية الوضوء ، ولكن لم يكتب لامتناني ان يكتمل ، فما إن فرغت من
وضوئي حتى طالبني بقيمة خدماته فأدخلت يدي في جيبي وسارع هو يؤشر إلى
النقود التي خرجت من جيبي ليطالبني أن امنحه فئة معينة من النقود وتحت عودة
الدهشة والاستغراب وانتهاء الامتنان منحته ما طلب ولا إداري كم هي أو لماذا
اختارها بالذات لكن قطعا أنها أجود له من غيرها على الاقل في تصوره هو .
ودخلت إلى صحن المسجد الجميل .. شاهدت الحمائم مثل تلك التي نراها
في الحرم المكي أو عند أسوار البقيع ورغم جمال النفحات الروحية التي صادفني
في فناء المسجد إلا أن بالي كان مشغولا بمواقف الرجل الذي تلقاني عند
المدخل لماذا هو لم يتعفف ؟ لماذا هو لم يتركني أتوضأ من الوضوء المجاني
المتاح في صحن المسجد ؟ ولماذا أحرز حذائي ؟ اهو خوفا من السرقة ؟ أم
محاولة منه لكسب بعض الروبيات ؟ ولماذا الناس يسرقون أصلا وخاصة في أمكان
لم تعد للهوى دعك من السرقة ، وعندما خرجت من المسجد طالبني الرجل بمقابل
إحرازه للحذاء فلم اعره اهتماما وامتلأت مقلتاي بالدمع ليس لما فعله الرجل
معي ولكن حزنا على ضعفنا لقد صرنا ضعافا لاننا لا نعرف لماذا نحن على هذه
الأرض .
أضيفت في 12/01/2008/ خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب
كم منا من يجب
أن ينام من جديد..
أحمد ابن السوق ، حتى انه عندما احتلم أول مرة كان نائما تحت تربيزة
الميزان في دكان والده حكمت الذي توفي بعد ذلك بسعة شهور تاركا له الدكان ،
والناس ، والحياة ، وتجارب السوق ليقوم احمد بدوره في استحلاب الدنانير
منها ليصرف على نفسه وإخوته ..
لقد كان احمد شجاعا إلا في أشياء منها مشاعره وماله..
فهو مثل سفينة تحركها رياح المصالح ويرسيها قانون العرض والطلب على
شطان المنفعة ، وعلى الرغم من ذلك فانه محبوب فهو له جاذبية خاصة تعززها
تلك الابتسامة التي لا تفارق محياه وصوته المبحوح والمعبأة بالفرح ..
أول ما فكر احمد في الحب بحث عن فتاة تعمل ولها راتب ، وشقة ،
وسيارة .. وكان عندما يخابرها تلفونيا أول ما يسألها عن صيانة الشقة ،
وتأمين السيارة ورصيدها في البنك ، ثم لا تدري هناء هذه الفتاة الجميلة
والرقيقة أيهم أحب إلى أحمد السيارة أم الشقة فهي فحتما ليست من بين ذلك
.. وابتلعت هناء هذا الحب الملوث بالدنانير على أمل أن ينصلح حال احمد يوما
ما ..
غير أن احمد بقى على حالته هذه ثم ازداد قناعة بفلسفة أخرى وهي أن
الذكاء الحقيقي هو الذي يجعلك تفهم كيف توظف موارد الذين من حولك لصالحك..
فكان في كل مرة يتصل على صديقه اللطيف فيحكي له عن رحلته الطويلة مع الألم
وظلم والده والقدر له بان خلفه على أربعة أخوه وأم قد أكل عظامها المرض
وانه... وانه ... وانه ....
وكان صديقه اللطيف يبعث له ببعض المال وهو يدرى عن فلسفة احمد ما لا
يدريها احمد نفسه..
ثم تمضي الأيام..
ويكتشف احمد أن لديه في رصيده البنكي مليون دينار .. غير انه في
رصيده النفسي لا يوجد لديه أدني مقدار من احترام للذات .. احترامه هو
لذاته هو .. فبكى احمد ثم نام لعله يبلغ الحلم من جديد.
كم منا من يجب ان ينام من جديد ..
أضيفت في 12/12/2005/ خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب
لن تصرخ كوثر بعد اليوم
الكاتب أسامة رقيعة
أصوات رهيبة تزمجر ..
كأن أبواب الجحيم قد أخذت تصطك لتنفتح على مصرعيها ، وكوثر لا تدري
ما يجري حولها فقد كانت دون السابعة في عالم لم يبلغ الحلم بعد .
كثيرا ما سألت كوثر أخيها محارب.. ما هذه الأصوات ؟ .. لماذا تمطر
السماء نارا ؟ لماذا تتهدم البيوت وتتناثر الأشلاء ؟
فيقول لها محارب وهو يهدي من روعها : لا يا صغيرتي إن السماء لا
تمطر نارا ، ولكن الكبار يلعبون ، فيصمت محارب وتصمت كوثر وهي لا تفهم
لماذا يلعب الكبار بكرات من نار ؟ ويزمجرون كالجحيم ؟ أهم يعشقون الموت ؟!
واليوم وفي خضم الخوف لم يكن أمام كوثر الصغيرة سوى سريرها الخشبي
المتهالك ، لتختبي تحته من أصوات الجحيم ، فقد غاب عنها محارب منذ أيام و
سكتت عنها أمها قبل لحظات بعد أن انقلعت عليها قطع من دخان وخشب فتسربل
جسمها بلون قاني لا يعترف بالأمومة .
أخذت كوثر وهي تحت سريرها ترتعد من الخوف وهي تصرخ ..أنقذونا ..
أنقذونا .. أنقذونا
ولكن لم يكن هناك من مجيب ..
وتعبت كوثر من الصراخ ..
وتجمد إحساسها بالخوف ..
وغابت عن الوعي فترة ثم نامت ..
وفي النوم كانت تحلم ، بان هناك رجال بيض الملامح ، والملابس ،
والقلوب يأخذونها و يربتون على قلبها ويقولون : لا تخافي سوف تسكت زمجرة
الجحيم ، فتضحك كوثر ملء فيها في منامها .
غير ان عالم كوثر مازال لا يرضي لها الفرح الطفولي حتى وهي في
المنام فقد تهدم عليها السرير بعد إن انقلع عليها البيت بأكمله فماتت كوثر
الطفلة متسربلة بلون الدم لأن الكبار مازالوا يلعبون .
أضيفت في 18/11/2005/ خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب
الحلم المستحيل
كانت حورية تبكي من الألم ، وهي تحرك رجلها يمنة ويسرى في الفراش
بحثا عن مكان داقي لعله يسكت هذا الألم اللعين الذي صار يعلن عن نفسه كل
يوم .. وكلما حان المساء..
ثلاثة أطباء قالوا لحورية انهم لا يجدون مبررا لهذه الآلام ، خاصة
وأن الفحص الطبي لا تشير إلى احتمال علة أو خلل ...
واحتارت حورية ..
وصار الليل عندها كابوسا مخيفا لا سكن فيه .
ان حورية بدأت حياتها مثل كل فتاة فقيرة ..
في مدينة كان بها رجل ثري ...
رجل .. يمتلك ثلاث مصانع ، وتسع سيارات فارهه ، ومحلات تجارية بعدد
لافتات الضوء المشعة في سوق المدينة .
وعقب تخرج حورية من الجامعة تطلعت للعمل مع الرجل الثري لعلها تحقق
بعض أحلامها..
كانت حورية فقط تحلم بان تشتري أسورة من ذهب.. اسورة كبيرة ترتديها
كتلك التي شاهدتها ذات مرة في الأفلام ، ولم تكن حورية تحلم بأكثر من ذلك
ولكن كان دخلها لا يكفيها فما تجنيه بالكاد يكفي مصروفها ومصروف اخوتها
التسعة الذين تعولهم ..
واستمرت حورية تعمل باجتهاد غريب مع هذا الرجل و لسبعة سنوات من
عمرها كانت خلالها لا تشعر بشي غير حلمها الذي يتراءى لها ثم يخبو ويبدو
مستحيلا ....
ولما بلغت حورية السابعة والثلاثين من عمرها فكرت أن تتزوج ، وان
تعلق حلمها البسيط على زوجها ولكن لما تقدم لها حارب كانت لا تستطيع أن
تجلس معه للسمر عند المساء لتحكي له عن حلمها حيث كان يشتد بها الألم ..
فأصر حارب أن يعرضها على طبيب مختص عرفه في مدينة أخرى .. وبعد
الفحص المتقدم تأكد انه سرطان العظام ... فسال حارب عن السبب... لقد سال
نفسه ... وسأل القدر ... لماذا حورية ؟ وفي هذا السن بالذات ؟ فدلت له
الإشارة إلى أن عملها مع الرجل الثري في مصنع الكيماويات ولساعات طويلة من
اجل حلمها البسيط قد عرضها لإشعاعات غير منتظمة أثرت على مكونات العظام ...
عاد حارب حزينا ..
وعادت حورية تبحث عن مكان دافئ في فراشها لعله يسكت عنها هذا الألم
العين .
ولما توفيت حورية كانت هي مستغرقة في حلم ضبابي وسط عاصفة من الألم
المستبد.. وقد كان الحلم مفاده أن حارب قد البسها اسورة حلمها ... ولكن
حورية قد فارقت الحياة ... وفارقت حارب وهي تحتضن حلمها البسيط والصغير ..
وعندما كانت حورية تدفن في مقابر الفقراء كان الرجل الثري قد عين حسنيه
مكانها ..ولكن حسنيه كانت لا تحلم بأكثر من أن تموت .
|