متعة الحياة
بقلم
الكاتب:
يحيى
الصوفي
تعبت
البذرة من البحث عن قطرة ماء، طافت الصحراء تزروها الرياح لأكثر من ألف عام،
فتأخذ بها ذات اليمين وذات الشمال، قطعت وهي معلقة بوبر الجمال المدن الكثيرة،
شاركت بمعارك الفرسان، وبأفراح العرائس وبالجنازات الملفوفة بالأكفان، سمعتهم
يتحدثون عن الحياة ...عن الحب...عن الموت ... عن الأحزان ؟ !
ملت
الترحال وهي تلتهم تارة مخلوطة بطعام القطعان....ليتخلصوا منها بعد ذلك مع
البراز في أرض جديدة خاوية من كل إنسان... سئمت حياة الترحال ...رغبت بتذوق طعم
الأمان... طعم الحياة، فاقتربت ذات صباح من نبتة صبار ترجوها قطرة ماء، هزتها
وهي أسيرة أشواكها صائحة:
-أرجوك
قطرة ماء؟...من الندى الفائض بين إبرك السمحة علني اعرف الاستقرار !
نظرت ثمرة
الصبار مستغربة منها وقالت:
-أتستعجلين
على الحياة ؟ ألا تعرفين بأنك ستلتصقين بعدها بالأرض وتفقدين حرية القرار
بالترحال عبر البوادي والتجوال بين الأمصار ؟ !
وقبل أن
تجيبها بالإيجاب سقطت فوقها قطرة من ندى فانزلقت بها إلى ثغرة بسيطة بين الحصى
والرمال وبدأت تشعر ببعض الانتفاخ، فضحكت من منظرها الغريب وقالت:
-أخيرا
سأستدل على أصلي ونوعي... أخيرا سأتذوق طعم الحياة !.
نظرت ثمرة
الصبار إليها بحزن وقالت:
-إنها
بداية النهاية يا عزيزتي فلا تتعجلي !
قاطعتها
البذرة وقد أخذت بالانفلاق و تخلصت من غلافها وبدأت تمد بالأرض جذورها بفرح:
-بداية أم
نهاية فأنت ولاشك تدركين تلك المتعة الفائقة التي تحل بنا ونحن نمر بتلك
المراحل من التحول... مررت بلا شك باللذة التي تحتكرين؟.
أجابتها
ثمرة الصبار مستغربة:
-لأجل هذا
تستعجلين ؟ إلى الموت بعد أن كنت تحتفظين بالحياة منذ آلاف السنين ؟ !.
أجابتها
البذرة وهي تمد سيقانها بافتخار وغرور:
-احتفظ
بالحياة ولكن لم أذقها !....لم أذق متعة التربة تحتضني بدفئها... لم أتمتع
بقطرات الماء تسري في الخلايا والعروق.... لم أتعرف على أنواع المعادن
والفيتامينات ولا ثاني أكسيد الكربون ولا الأكسجين... ولا بدغدغة الفراشات
تستثير زهوري البهية ولا بغناء الطيور... ولا حتى بدفء الشمس عند الشروق لتغمرني
بالحنان ولا بالنسمات العليلة تهز علي الأغصان... بكل بساطة لم أكن إلا بذرة
تافهة ؟.
تفاجأت
ثمرة الصبار من حماسها للحياة وقالت:
-ولكن أنت
تدركين بأنك بعد كل هذا ستذبلين وتموتين وما الحياة التي تأملين إلا بضع ساعات
لا تتجاوز دورة يوم واحدة هل فهمت ؟ ألا زلت بهذه التجربة تتمسكين ؟ !.
ابتسمت
البذرة وقد أصبحت نبتة كاملة تحمل بين أغصانها الزهور وبعض من الثمار التي عقدت
وقد حوت في بطنها البذور وقالت بغرور:
-أنها
الحياة يا عزيزتي... أنها بكل بساطة هي الحياة وبعد أن كنت بذرة بسيطة وحيدة لا
نفع منها ها أنا ذا استمتع بها وأطعم وانثر بعد موتي الحياة الجديدة محفوظة
ليوم موعود .
ثم تابعت
وهي تهتز بفرح وقد شعرت بأوصالها ترتخي وببعض أغصانها الذبول:
-أنا لم
أتذوق الحياة بكل عطائها فقط ها أنا اترك بعض مني للأجيال القادمة لأحمل لكل
جائع بعض من طعام... ولكل عاشق بعض من الفرح والسرور... أنها الحياة بكل ما
فيها أعيشها فلا عتب بعد الذبول ولا ندم مهما ضاع منا في بطون السحالي أو
الطيور... ومهما جمع منا في القبور... سيبقى بعض منا -مهما تعاقبت الأيام والسنين-
يعيش الحياة ثم يعطها بكل ما تحمله من أمل وشقاء وسعادة وحبور.
يحيى الصوفي/ جنيف في 18/04/2004
أضيفت في07/02/2006/ خاص
القصة السورية / عن
الكاتب (للتعليق
والمشاركة بالندوة الخاصة حول أدب الطفل)
صراع الحواس
بقلم
الكاتب:
السيد نجم
في المدينة
العجيبة البعيدة, مدينة الحواس, اشتد الصراع بين الملكة "عين" وبقية
الحواس(السمع, الشم, التذوق, واللمس). فقد زاد الإزعاج والضجيج فتألمت الأذن
وضعفت حاسة السمع, كما زاد الضوء الباهر والإشعاعات من الأجهزة الإلكترونية
فضعفت حاسة البصر ومرضت العيون. ولما أهمل الجميع النظافة تململت كل الحواس
(سكان المدينة). لم تكن حاسة اللمس آجرها, بل سبقتهم جميعا, فترك "الإصبع
الكبير" المدينة وانعزل وحده عند شاطئ البحر.
قررت الملكة
"عين" الذهاب إلى "الإصبع الكبير" لإعادته, ورافقتها كبيرة الأذن. فور أن
صافحهما قال:
"أعلم أن
المدينة لا تعيش سعيدة من غيري, لأنني أحس بالحرارة والبرودة, فأخبر سكان
المدينة لتلافى شرورها..حقا أنا أفضل من كل الحواس".
فقالت الملكة
بغضب:"انك حقا مغرور كما يقولون عنك, قد يكون في كلامك الحق, لكنه ليس كل
الحقيقة!"..
وبسرعة قالت
"الأذن":
" بل أنا
الأفضل, أسمع الضجيج فأحذركم من أضراره"!
ابتسمت
"العين" وهمست بصوت مسموع:"وماذا أقول عن نفسي, كم من مرة رأيت الأخطار وأنقذت
سكان المدينة كلهم!!"..
فضحك "الإصبع"
بصوت مسموع قائلا:
" حضرتما
لإعادتي, تشاجرتما معا.. دعوني أذهب إلى كوخ, كانصغير لأعيش وحدي سعيدا"!!
قبل أن يتحرك
أحدهم, كان المشهد المرعب المثير, ثعبان خبيث يتجه ناحية "الإصبع", صرخت الملكة
"عين":
"أسرعا فورا
بعيدا عن هنا..انه الثعبان الشرير"..
وبسرعة هب
ثلاثتهم واستقروا بعيدا. فورا ضحكت "عين" وقالت:
"لولا وجودي
معكما الآن لانقض عليكما الثعبان"..
فقال
"الإصبع":
" قد يكون في
كلامك الحق, لكنه ليس كل الحقيقة!".
لفترة قصيرة
هدأ الجميع وانشغل الإصبع في صنع شكل غريب من الطين, ثم قال لهما:
"سوف أجعل هذا
الشيء العجيب يخيف الثعبان, فلا يقترب منى أبدا. ما رأيكما أطلق عليه اسم
"وافى".
وانقضى بعض
الوقت وهم يشربون معا الشاي ويأكلون الكعك الذي قدمه "إصبع".
فجأة أخبرتهما
"عين" أنها رأت انحوه.الماكر يسرق بعض المأكولات من نحوه.خ إصبع, والكائن
الجديد أسرع نحوه..ونجح في اللحاق به. فقالت الأذن:
"ما جدوى
وجودك وحدك, لولا أن الملكة عين رأت ما رأت, وأنا سمعت المعركة بين الثعلب
و"وافى"..ما كنت أدركت المصيبة التي تتعرض لها "!
فهم "الإصبع"
ما تعنيه, فقال بتحد:
" هل تعرفين
الحكمة من تماثيل الفنان الهندي الذي صنع تماثيله على شكل القرود, منها ما يخفى
عينيه, وما يضع يده على أذنيه وفمه؟؟".
لم يسمع
أجابه, تابع وحده:
"معنى تلك
التماثيل..أن الشرور كلها بسبب العين والأذن واللسان!!"
في هدؤ وثقة
أرادت الملكة عين أن تلقنهما درسا, أخرجت جهاز الكمبيوتر الذي أحضرته معها, وهى
لا تسير يدونه.. ثم فتحت موقع المعلومات عن الحواس. بدأت تقرأ لهما وتقول:
"هل تعلما أن
كل الحواس توجد في الإنسان والحيوان, لكن حاسة البصر وحدها التي توجد في
الإنسان وأغلب الحيوانات والطيور والأسماك..بينما بقية الحواس توجد بأقل من ذلك
كثيرا!!"
اعترض "إصبع"
وأخبرهما أن "الإخطبوط" يملك عينين ولا يستخدمهما, بل يعتمد على عشر أذرع وعلى
حاسة اللمس أساسا!.
قبل أن ينتهي
الحوار أسرعت الأذن وأخبرتهما أنه لولا حاسة السمع ما عرف الإنسان الكثير من
الأمراض. وبدأت تقص غليهما قصة اختراع "السماعة الطبية" وكيف أن الدكتور
"رينيه" الفرنسي, نجح في تشخيص مرض الفتاة عندما صنع بوقا وضعه على صدرها ثم
سمع صوت دقات قلبها..وشخص المرض وأعطى العلاج المناسب!
فجأة صاحت
الملكة عين وصرخت قائلة: أرى البرق, أسرعوا بعيدا "..
تابعتها
الأذن:
"وأنا الآن
سمعت رعدا شديدا"..
فورا تابعهما
الإصبع:
" بل أحس
برذاذات المطر الآن.. هيا بنا فورا إلى داخل الكوخ".....
أسرعوا جميعا
إلى داخل الكوخ حتى انتهت الأمطار الغزيرة, وعادت السماء صافية, وأضاءت الشمس
الأرض, وانبعث الدفء في أجسادهم..فشعروا بالسعادة والفرح.
فورا قالت
العين:
"لولا أن
رأيت البرق وأنذرتكما لهلكتما بسبب المطر".. اعترضت الأذن:" بل لأنني سمعت
الرعد !!".. تابعهما "إصبع":" الحقيقة أنا الذي أنقذتكما, عندما أحسست
بالأمطار, أسرعتما إلى داخل الكوخ!!"
أسرعت الملكة
عين وأخبرتهما بأنها أرادت أن تشاركهما اللعبة, وأنها مقتنعة بشيء آخر..لا هي
العين وحدها, ولا الأذن أو الإصبع؟!
فانبرى
الإصبع:
" ماذا
إذن؟!!"
تابعت الملكة
قائلة:" الآن أخبرني الكومبيوتر..أن كل الحواس من أصل خلية واحدة, ثم تخصص جزء
منها في الرؤية, وآخر في السمع, وغيرها في الشم أو اللمس..وهكذا كل الحواس"
فقالت الأذن:
" إذن لا فضل
لحاسة على حاسة"
تابعها
الإصبع:
" إذن سوف
أعود معكما.. نتعاون معا من أجل أن نحافظ على بعضنا البعض, ولا نتصارع مهما
كانت الصعوبات"
وتعانق
ثلاثتهم فرحين بالعودة !!!
أسرار حرب الكائنات الدقيقة
- 1 -
شيد هذا
المعمل الغامض داخل بقعة صحراوية بعيدة.. خلف أسوار مرتفعة, والمزودة بكل أجهزة
الإنذار الإلكترونية, وشاشات المراقبة التصويرية, وغيرها الكثير من وسائل
التأمين التي قد لن يتعرف عليها أحد.وربما حتى لو اقتربت طائرة مروحية من أعلى
لاكتشاف عما
يدور داخله,
وقد شيد بالكامل تحت سطح الأرض؟؟
لقد شيد
الدكتور "حرب" هذا المعمل لدراسات الهندسة الوراثية, وأغلب العاملين فيه على
قلة عددهم من العلماء, مع عدد قليل جدا لأعمال الأمن وتجهيز الطعام وتنظيف
الموقع.
فالمعمل كله
يعمل بدوائر تليفزيونية, وبالأجهزة الآلية التي تعمل بالبعث الحراري للأفراد..
سواء في أعمال المراقبة أو تشغيل الأجهزة.
منذ حوالي
عشرة أعوام نفذت منظمة غامضة من الأشرار خطتها, وكلفت الدكتور حرب بمهمة إنشاء
وتشييد ذلك المعمل في الصحراء, وذلك لإجراء البحوث والتجارب على الكائنات
الدقيقة –وهى التي لا نراها بالعين المجردة, بل يلزم استخدام المجهر أو
الميكروسكوبات المتقدمة-
أما الدكتور
"حرب" فهو من القلائل المتخصصين في مجال علم الهندسة الوراثية, ولأن الجميع
يعرفونه بأفكاره الشريرة, لم يجد سوى تلك المنظمة التي تقدم له العون والدعم
المالي. فقد وعده رؤساء المنظمة بإعطائه منطقة كبيرة في أفريقيا, يسيطر عليها
ويقيم فيها كل ما يحلم بتنفيذه, خصوصا أن تلك المنظمة تسعى للسيطرة على كل
مساحة الكرة الأرضية, ويرددون في مجالسهم الخاصة أن هذا العالم يجب أن يسيطر
عليه العلماء من أمثال "حرب" هذا!!
-2-
وبعد كل تلك
السنوات في العمل الدائم والسري الغامض, نجح الدكتور حرب وأنتج قنبلة
جديدة..صغيرة الحجم جدا. داخلها بعض من تلك الكائنات الدقيقة, لم تكن سوى أصناف
من البكتيريا أو من الفطريات والخمائر. فقد نجح العالم الشرير بالعبث في شريط "الكروموزومات"
(وهو الموجود داخل كل خلية ويحمل الصفات الوراثية للكائن الحي) بها وجعلها
قادرة على إصابة أي إنسان أو حيوان أو حتى نبات بالأمراض الغامضة الخطيرة
فورا.شعر العالم الشرير بالزهو والانتصار, فقرر أن يقيم حفلا يضم كل العاملين
معه. وفى قمة سعادته, وسط الجميع اعتلى المقعد الذي يجلس عليه, ووقف فوقه موجها
حديثه إلى رجال المعمل, وأخبرهم بما أدهشهم, فقد قال:
" يسعدني أن
أعلن عليكم اليوم نجاح المهمة التي من أجلها إنشىء هذا المعمل...
نجحت أخيرا في
إنتاج سلاحا جديدا لم تعرفه البشرية من قبل...أعلم أنكم
معي, ولا
تعلمون أهداف هذا العمل, الآن أخبركم...
إذن فقد نجحت
في إمكانية السيطرة على هذا العالم بأسره, وقريبا سوف
أعلن نفسي
حاكما على مساحات كبيرة منه..."
ولما سمع بعض
الهمهمات, وعلامات الدهشة على وجوه بعضهم, صرخ فيهم:
"لماذا لا
تهللون؟ لماذا لا تهتفون بأسمى....؟!"
بدت الدهشة
على وجوه بعضهم من الشرفاء, يبدو أن حربا خفية قد بدأت.
-3-
علم الدكتور
حرب برفض بعض مساعديه لفكرته الشريرة..بدأ في إنشاء شبكة من آلات التصوير
الصغيرة جدا, وأجهزة التصنت, في غرف النوم قبل المعامل, وفى الأماكن المفتوحة
قبل الأماكن المغلقة, لرؤية ولسماع كل ما يدور بينهم في أي وقت وفى أي مكان.
فضل المساعدون
إعلان غضبهم في صمت خوفا من بطش رئيسهم الشرير, إلا أنهم انتهزوا فرصة تبادل
بعض التقارير العلمية حول تجاربهم وأعمالهم, وأضافوا بعض الكلمات التي تبدو
عادية إلا أنها لغة جديدة بدءوا يستخدمونها. وبتلك اللغة أو الشفرة الجديدة,
بدأ بعضهم يعبر عن غضبه من هذا العالم الشرير الذي نجح في خداعهم, جعلهم وسيلة
لنشر الشر والخراب في العالم.ومع ذلك بدأ بعضهم الآخر التفكير في مقاومة شر هذا
العالم الشرير.قرر بعضهم تحطيم تلك الأطباق الزجاجية التي تنمو فيها تلك
الكائنات الدقيقة. وفى منتصف الليل بينما اعتقدوا أن الدكتور حرب نائما, بدءوا
ينفذون خطتهم.
لم تطل فترة
المحاولة, فعملاء العالم الشرير استطاعوا السيطرة على هؤلاء المتمردين, بل
واستطاعوا القبض عليهم تحت تهديد السلاح.. كل ذلك بفضل الشبكة السرية التي لم
ينتبه إليها العلماء الشرفاء!
أمر العالم
بعزلهم في مكان بعيد بالمبنى, ثم قال بصوت عال وكل ملامح وجهه تعبر عن السعادة
الغامرة:
"إذن سوف نبدأ
بهؤلاء المتمردين....
من الآن سوف
نجرى التجارب الفعلية لمعرفة أثر ما صنعناه في تلك
الكائنات
الدقيقة..لعلنا نعرف شكل تلك الأمراض الغريبة التي ستصيب
البشر, وكل
الكائنات الحية. "!!
-4-
من جديد وبكل
الحرص بدأ الدكتور حرب في جمع بعض مزارع الكائنات الحية المختلفة. كان يحفظها
في الأطباق الزجاجية التي تحطمت بسبب العلماء الغاضبون.
فلما وضعها
ثانية في جهاز "الأتوكلاف" وهو الصندوق الحديدي المجهز بدرجات الحرارة والرطوبة
المناسبتين لنمو الكائنات الدقيقة. وما أن أغلق الباب حتى أسرعت "بكتيريوم"
منها(وهى مفرد بكتيريا) وهللت فرحة تقول:
"هذا المخلوق
العملاق المسمى الدكتور حرب, رجل طيب!"
وتابعت
البكتيريوم تهليلها وصراخها تعبيرا عن الفرح, فإذا ب"الأميبا" وهى ملكة
الكائنات الدقيقة تصرخ فيها وتأمرها بالصمت !
صمتت
البكتيريوم لكنها شعرت بالإهانة, فتمتمت في نفسها تقول: "لماذا غضبت الأميبا
الملكة؟ لقد عبرت عن سعادتي بعودتي إلى هذا المكان الدافئ, ومع هذا الغذاء
الوفير؟!!".
فشعرت الملكة
بقسوة ما فعلت مع البكتريوم الصغيرة, شعرت بالشفقة عليها, وأرادت أن توضح لها
الأمر, فقالت:
"يا صغيرتي
العزيزة, لابد أن تعرفي الحقيقة..إن هذا المسمى الدكتور حرب
رجل شرير
..انه يستخدمنا لإنتاج السلاح القاتل لكل الكائنات الحية..الإنسان
والحيوان
والنبات وحتى أهلنا من الكائنات الحية الدقيقة"
اعتذرت
البكتريوم عما بدر منها, وأنها فعلت ما فعلته لأنها لا تعرف الهدف الشرير الذي
يدفع هذا العالم. تابعت الملكة وقالت:
" لا تعتذري
يا صغيرتي...
فقط لا
تتسرعين في الحكم على أي شئ قبل التأكد من حقيقته."
ودار الحوار
طويلا بينهما, بينما تابعت أفراد المملكة الحديث وشارك الكثير منهم. فقال
بعضهم: "منذ قديم الزمان والحرب بين الإنسان والكائنات الدقيقة مشتعلة, ودائما
يسعى الإنسان إلى التخلص مننا, وحتى قبل أن يعرف أشكالنا ووظائفنا والتفاصيل
الكثيرة التي يعرفها الآن ومنذ قرن من الزمان تقريبا."
تابعت بكتريوم
أخرى: "بل نسى الإنسان انه ومنذ زمن بعيد وهو يستخدمنا في طعامه وشرابه, وحتى
قبل أن يرانا ويعرفنا.. صنع الكحول والخل والورق..وغيرها كثير, كل ذلك بفضل
عملنا معه"
تدخل الملكة
وحاولت أن تهدئ من غضبهم, إلا أن "الخميرة" صرخت وقالت:
"لن نهدأ قبل
أن نحاكم ذلك الإنسان.. الكائن العملاق الظالم!!"
فوافقت
الأميبا الملكة !
-5-
بوقار وقوة
أعلنت الملكة بدء جلسة المحاكمة, بعد أن حددت وظائف كل من الكائنات الدقيقة,
وبدأت بتلك البكتيريوم العجوز التي تعلوها الحكمة ورجاحة العقل, تقوم بعمل وكيل
النيابة. وبدأت النيابة في سرد تاريخ الصراع الطويل بين الإنسان والكائنات
الدقيقة:
"يبدو أن هذا
الكائن العملاق ولأنه لا يرانا بعينية المجردتين, من الغرور يظن
أننا ضعفاء..
وينسى أن بعض العلماء منهم قال أن الحياة بدأت على الأرض
بوجودنا نحن
عليها, وقبل أن يظهر هو على الأرض.
ثم كيف نكون
هكذا ضعفاء كما يقول, ونحن فقط نستطيع الحياة في كل بيئة,
وفى كل
مكان..سواء في البر أو البحر أو في الهواء. وأيضا نعيش في المناطق
الاستوائية
الحارة والمناطق الجليدية في القطبين الشمالي والجنوبي للأرض."
فجأة وقفت
البكتيريوم التي تقوم بدور الدفاع عن "الإنسان", وأكدت أن الكائنات الدقيقة
أصابت الإنسان طوال التاريخ بأمراض ومشاكل كثيرة..تصيبه وتصيب النباتات التي
يزرعها, والحيوانات التي يربيها.
لم تستطع
"الخميرة" (وهى تمثل الدفاع عن الكائنات الدقيقة) أن تصبر أكثر من ذلك, نهضت
وأخبرتهم جميعا عن قسوة الإنسان في حربه الشرسة ضدهم..سواء باستخدام المطهرات
والمضادات الحيوية.. بل قد يقوم الإنسان القاسي بحرق الأجزاء المريضة عنده وهى
عندنا المكان الذي نعيش فيه ونتغذى!
تابعت أخرى من
موقع المتابعين, وأقسمت أن أشعة الشمس وحدها كفيلة بقتل كل الكائنات الدقيقة لو
تعرضوا لها لفترات طويلة, ثم وصفت الكفاح من أجل الابتعاد عن تلك الأشعة
المهلكة القاتلة.
تدخلت الملكة
حتى تتابع الخميرة دفاعها, الذي وضحت فيه أن الكائنات الدقيقة ومنذ قديم الزمان
يستغلها الإنسان في إنتاج طعامه, وحديثا في البحوث العلمية.. مثلما يفعل
الدكتور حرب الآن!
عند هذا الحد
وقفت الملكة, وقد انتفخت وزاد حجمها بشكل لم يرها أحدهم هكذا أبدا. يبدو عليها
الانفعال والغضب, ثم قالت:
" يا شعب
مملكة الكائنات الدقيقة..أنا الأميبا الملكة أتحدث إليكم...
قررنا إعلان
الحرب على هذا العملاق العالم الشرير, وسوف نحاربه
بالسلاح الذي
ابتكره لقتل كل الكائنات الحية !!"
هلل الجميع
فرحا للانتقام من العالم الشرير.
-6-
لم يمض الوقت
طويلا.. بسرعة تجمع الحكماء من الكائنات الدقيقة, التفوا حول الأميبا الملكة
التي أعلنت بدء مناقشة الخطة العملية لبدء الحرب المنتظرة. كانت المشكلة
الأساسية هي الإجابة على السؤال: كيف تصل الكائنات الدقيقة إلى داخل جسد
الأشرار؟
طالت المناقشة
حتى انتهوا إلى وضع الخطة العملية في خطوتين أساسيتين..الأولى أحداث جروح
وإصابات في أي مكان بجسد الأشرار, والخطوة الثانية اقتحام تلك الجروح والوصول
إلى داخل جسد الأشرار عن طريق الدم.
وفى سرية تامة
بدأ كل منهم يعرض أفكاره وأرائه في حل هذه المشكلة أو تلك, وما هي احتمالات
النجاح والفشل في كل فكرة.. حتى انتهوا تماما من كل التفاصيل الصغيرة, ثم وقفوا
جميعا وأقسموا بالإخلاص لمبدأ القضاء على الشر والأشرار .
-7-
في صباح اليوم
التالي, وفى الثامنة تماما بدأ الأشرار في فتح "الحضانات" أو تلك الصناديق
الحديدية التي تعيش داخلها الكائنات الدقيقة من أجل البدء في متابعة العمال
اليومية العادية.
ما هي إلا
دقيقة واحدة حتى بدأت خطوة تنفيذ المرحلة الأولى.. فاندفعت الكائنات الدقيقة
وقذفت بنفسها نحو الدكتور حرب ورفاقه.. في البداية ركزوا أنفسهم نحو عيون
الأشرار.. لفترة قصيرة جدا لم يشعر الأشرار بشيء.. وبعد دقائق قليلة ومع متابعة
الكائنات لمهمتهم الانتحارية.. بدأ يشعر الأشرار بشيء ما غامض وغريب..!
فجأة احتقنت
عيون كل الأشرار.. بدءوا يشعرون بغشاوة وعدم وضوح الرؤية.. كثيرون منهم وعلى
رأسهم الدكتور حرب يشعرون بألم غامض.
وما هي إلا
لحظات حتى صاحت الملكة وأمرتهم بالاتجاه نحو أنف وأذن وفم الأشرار..إلى كل
فتحات أجساد الأشرار. فعلت أصوات العطس, والصراخ بوجود "طنين" في الأذن..بينما
علت ضحكات الاميبا الملكة وبقية أفراد جيش الكائنات الدقيقة.
ولما انشغل
الأشرار بإصابتهم الغامضة, من عدم الرؤية بوضوح وطنين بالأذن وعطس مستمر..
فقدوا القدرة على التحكم في خطواتهم, أو تحديد اتجاه حركتهم داخل المعمل..فسقط
منهم من سقط على الأرض, ومنهم من اصطدم بالحائط.. ومنهم من ارتطم بزميله..
وهكذا حتى بدأت تصاب أجسادهم بالجروح والخدوش التي هي ضرورية لتنفيذ الخطوة
الجديدة!!
-8-
انشغل الجميع,
كل بحاله, وهم يسبون رئيسهم الدكتور حرب. للمرة الأولى يصرخ أحدهم في وجهه غير
مكترث بغضب زعيمهم:
"ساعدنا يا
دكتور حرب.. أنا أشعر بالانهيار.."
عقب آخر:
" بل فسر لنا
أولا هذا الذي يحدث..؟
شرد زعيمهم ثم
قال:
"أنا لا أجد
ما أعقب به ولا أجد تفسيرا"
زادت الحيرة,
فزاد القلق.. وعمت الفوضى كل مكان في المبنى الغامض كله. وما هي إلا دقائق
قليلة حتى سمعوا صوت الدكتور حرب وهو يصرخ فيهم قائلا:
" أيها
الملاعين.. يا تلاميذي غير المخلصين.. أشكو من اضمحلال بصري..
أكاد لا أرى
شيئا.. ساعدوني!!"
رد آخر من
هناك:
" إنني أسمع
أصوات الصراخ في كل مكان بالمعمل.. أما أنا فقد أصبت بطنين في
أذني وألم
شديد بها.. يجب أن تجد لنا تفسيرا لحالتنا الغامضة تلك!!"
وتوالت
الصرخات والآهات, مع ضحكات الأميبا الملكة على رأس جيشها المتابع والمستعد
للخطوة التالية من الخطة.
-9-
حدث ما
انتظرته الأميبا الملكة وأصيب أغلب الأشرار بالجروح والخدوش, وبدأ تنفيذ الخطوة
الأهم والأخطر في الخطة.
بسرعة أمرت
الملكة بعودة كل أفراد المملكة, أعلنت فورا نجاح الهجوم على العملاق الشرير
ورجاله.. وتابعت قائلة:
" ليس لديهم
علاجا للأمراض المنتظرة في أجسادهم.. وليس لدينا وقتا نضيعه.
أطلب منكم
جميعا الاحتفال بهذا اليوم العظيم..يوم انتصارنا على قوة الشر.
لقد نجحنا على
العالم الشرير ورجاله باستخدام نفس السلاح الذي أعده للقضاء
على كل
الكائنات الحية!!"
وعندما طلب
أحدهم الكلمة قبل أن يتفرقوا..قال:
"أخبركم أنه
الآن فقط علمت أن منظمة الأشرار رفضت تقديم أية مساعدة إلى الدكتور حرب خوفا من
إصابتهم بالأمراض الغامضة التي انتشرت!!
فزاد السرور,
وعلت صيحات الانتصار, وعم الفرح.
النزهة المؤجلة
-1-
منذ سنوات
طويلة والدكتور علام يطلب من أستاذه أن يقضيا نزهة طويلة على شاطئ البحر الأحمر
فى مدينة الغردقة. فيوافق العالم الكبير وفى اللحظة الأخيرة يجدا جديدا يمنعهما
من الرحلة المنتظرة!
مرة تأجلت
الرحلة بسبب عطل فى جهاز من أجهزة البحث.. ومرة بسبب ضرورة متابعة دراجات
الحرارة والرطوبة لجهاز الحضانة الخاص بزراعة ورعاية أنواع معينة من
البكتيريا.. ومرة بسبب اكتشاف ظاهرة علمية جديدة لم تكن متوقعة.. وهكذا توالت
السنوات.
هذه المرة خطت
د.علام لكل تفاصيل الرحلة وهو على يقين بالقيام بها فى اليوم التالي من المؤتمر
الصحفي, حيث انتهت الأبحاث المعملية, وسجلت النتائج, ولا يبقى سوى إعلان ما
انتهيا اليه فى مؤتمر صحفي عالمي.
نجح د.مختار
عالم الهندسة الوراثية مع تلميذه د.علام فى إنتاج سلالات جديدة من البكتيريا
يمكنها زيادة إنتاج "البروتين", الذي هو أهم ما تبحث عنه البلدان الفقيرة
والغنية.
-2-
بعد تلك
السنوات الطويلة فى العمل والبحث, جاء وقت التأمل. جلس د.لشاي.على المقعد
المقابل لنافذة المعمل الكبير, وهو الشاي.لرشفة,شفة, رشفة, ببطء وسكينة. كان
يتأمل الأشجار المرتفعة البعيدة هناك, ولون الحديقة الأخضر الجميل. وكأنه لم
يره من قبل, فضل أن يبقى هكذا أكثر من نصف ساعة, حتى بعد أن انتهى من شرب
الشاي. وهو ما لم يعتده منه تلميذه..فقال له:
"وكأنك ترى
الحديقة تلك للمرة الأولى يا أستاذي؟"
فانتبه
د.مختار, أومأ برأسه, ثم طلب منه أن يجلس أمامه, وهو ما أقلق تلميذه مجددا:
" أراك تجهز
لفكرة جديدة..ليس قبل أن نسافر رحلتنا المؤجلة..أرجوك"
ابتسم العالم,
ثم عاد الى نظرته العميقة الى هناك فى شرود, وهو ما أقلق د.علام أكثر. فضل
التلميذ أن يفتح جهاز التسجيل معه, كما اعتاد مع أستاذه, ربما هناك فكرة جديدة
سيناقشه العالم ومازالت تحت البحث. فابتسم العالم وطلب من تلميذه أن ينتبه اليه
بأذنيه أفضل.
أخيرا نطق
قائلا:
"الحقيقة يا
ولدى المخلص أنا قلق...
تراودني أفكار
غريبة..لكنها محتملة الحدوث فعلا..!!"
لم يستطع
د.علام صبرا, قاطعه يرجوه أن يخبره بسرعة عما يشغله. فتابع د.مختار:
"ماذا يحدث
وتمكنت عصابة الأشرار من سرقة سلالات البكتيريا التى نجحنا
فى إنتاجها,
واستخدمتها بطريقة خاطئة.. سوف تضر الناس أكبر الضرر!"
علق د.علام
قائلا:
" معك كل
الحق..فقد أنتجنا سلالات جديدة من البكتيريا, لو أضيفت على عليقه
الحيوان ..زاد
وزنه, فذا أضيفت على التربة الزراعية..جعلت النباتات أكثر
غنا بالبروتين
..."
قاطعه د.
مختار قائلا:
" وإذا أسئ
استخدامها عمدا يمكن أن تتحول البكتيريا الى كائنات شرسة, يعلم
الله وحده
ماذا ستفعل فى الحيوان والنبات وحتى الإنسان..وهنا المشكلة"
تابع د.علام:
"وهنا المشكلة
التى تشغلك..أليس كذلك؟"
هز العالم
رأسه موافقا.. ومع ذلك نجح التلميذ فى إقناع أستاذه العالم بضرورة إتمام
المؤتمر الصحفي العالمي فى الغد, وتابع ضاحكا:
"ننتهي من
خطوة المؤتمر, وننفذ النزهة التى نرجوها من سنيين!!"
وضحكا معا.
-3-
......"أعطيك
جينا جديدا, تنتج بروتينا كثيرا"
بتلك الكلمات
بدأ د.مختار حديثه فى المؤتمر الصحفي, وأعلن عن إنجازه العلمي العالمي الهام,
وسط حفاوة وتقدير الجميع.
فقد امتلأت
قاعة المؤتمر بالصحفيين, وبكاميرا التصوير العادية والتليفزيونية, والسينمائية
أيضا. كما كان من بين الحضور مندوبين من كل المنظمات العلمية العالمية, وقد عرض
العالم الأفلام السينمائية لكل خطوات بحثه ونتائجه.
وفى إيجاز شرح
لهم جميعا ملخصا لفكرة أبحاثه قائلا:
" نعم..نعم..
لقد نجحنا فى بناء "جين" جديد ,اسمه "م.ر.ن." داخل البكتيريا
واستخدمنا فى
ذلك أنزيمات القطع والوصل التى أمكننا تحضيرها فى المعمل,
فى الأصل توجد
داخل البكتيريا والخلايا.."
وبدأ الصحفيون
فى أسئلتهم المتتابعة لكل التفاصيل:
.."ما فائدة
هذا الإنجاز عمليا؟"
.."متى سيتم
تطبيقه عمليا فى الإنتاج؟"
وقبل أن تكثر
الأسئلة, تابع د.علام إجاباته موضحا أن هذا الكشف العلمي سوف يحل مشكلة الفقر
فى العالم, ولن تكون هناك مجاعة بسبب قلة البروتين الحيواني أو النباتي..ثم
ابتسم وتابع:
"يكفى أن
أخبركم أن الأرنب سوف يصل الى حجم الخروف, والخروف سوف
يصل الى حجم
البقرة..وهكذا, كما رأيتم فى الفيلم السينمائي الذي عرض منذ
قليل."
صفق الجميع,
وهلل العلماء وقد تنازلوا عن وقار وهيبة العلماء تقديرا للكشف الجديد. لولا أن
وقف صحفي شاب وطلب الكلمة, لكان هذا اللقاء من أسعد أيام حياة د.مختار.
فقد ألح
الصحفي الشاب فى طلب الكلمة وعرض سؤاله الذي لا يحتمل التأجيل. وما أن وافقه
العالم, تحدث الصحفي بما دار برأس العالم منذ يوم سابق..!
سأل الصحفي
قائلا:
"سيدي العالم
د.علام..هل تتذكر المؤتمر العلمي العالمي عام 1975, وقد حضرته
أنت نفسك, مع
مائة وأربعة وثلاثين عالما؟"
وافقه د.علام,
وأشار بيده لأن يتابع , فقال الصحفي:
"كانت من
توصيات المؤتمر..ضرورة توفير كل إجراءات الأمن والتأمين مع
الحراسة
المشددة على مراكز البحوث, وبالخصوص أبحاث الهندسة الوراثية"
فهم العالم
مغزى السؤال, فنظر الى تلميذه, كأنه يذكره بما دار بينهما بالأمس..!
-4-
قضى د.علام
ليلته يفكر, وقد سرقته كلمات الصحفي الذي ختم بها المؤتمر الصحفي, سرقته من
فرحته, خصوصا أن تلك الفكرة راودته من قبل. حتى دخلت عليه زوجته قلقا عليه,
وطلبت منه أن يستريح تلك الليلة وربما من الأفضل أن يتابع عمله فى الصباح, ثم
تابعت وهى تبتسم فى مودة:
"والصباح رباح
يا زوجي العزيز.. أما أنا فقد تنازلت عن الرحلة المؤجلة
منذ سنوات!"
احترم العالم
رغبة زوجته, ونهض من حجرة مكتبه وهو يتمنى أن ينام نوما هادئا.
إلا أنه
استيقظ مبكرا على صوت جرس التليفون, فى السادسة صباحا. ما أن رفع سماعة
التليفون حتى جاء صوت المتحدث قلقا ومضطربا:
"أنت نائم يا
أستاذنا.. كمية كبيرة من السلالات الجديدة سرقت"
فلم يسمع
العالم تفاصيل أكثر. القى بالسماعة, وأسرع الى ملابسه وذهب الى المعمل. وكان فى
استقباله تلميذه د.علام الذي عاجله قائلا:
" حدث ما كنت
تخشاه يا أستاذي"
وصلت قوة
الشرطة, وبدأت التحقيقات فورا, مع معاينة مكان السرقة. لم يكن يردد سوى بضع جمل
يكررها بآلية وغيظ:
"لو سرقت كل
أموالي ما كنت أحزن هذا الحزن...
لو استخدمت
تلك السلالات بالخطأ سوف تحدث كارثة محققة...
افعل أي شئ يا
حضرة الضابط أرجوك..."
وانتهت كل
إجراءات الشرطة, والتحقيقات مع كل العاملين بالمعمل, ولم تنته الشرطة الى توجيه
التهمة الى أحد. كان آخر من تم التحقيق معهم هو د.علام نفسه.
سأله الضابط:
"فى
النهاية..هل تشك فى أحد بالذات يكون السارق؟"
رد العالم
بملل وضيق صدر:
"لا ..."
فتابع الضابط:
"إذن يقفل
التحقيق"
وقبل أن ينتهى
الضابط من إجراءات حقيقة, انتبه د.علام , صاح بصوت مرتفع: "الصحفي الشاب..نعم,
أريد التحقيق مع الصحفي الشاب". وعندما سأله الضابط عن سبب فتح التحقيق لسؤال
الصحفي الشاب, قال العالم:
"لقد رأيت فى
عينيه أنه يعلم أمرا ما, وربما كان يحذرني بسؤاله هذا"
لوى الضابط
شفتيه, وسأله:
"فقط نظرة
عينيه..!!
لا تكفى نظرة
العين للتحقيق مع إنسان, وهو صحفي ومن حقه أن يسأل وأن
يشارك بأى
رأى, وإلا لماذا هو صحفي؟؟!"
فشعر العالم
بخيبة أمل, وصمت.
-5-
انقضت الساعات
والأيام ود.علام لا يفكر إلا فى خطورة جريمة سرعة نتائج أبحاثه, وعلاقة الصحفي
بها. وكلما حاول الاتصال به فى الصحيفة التى يعمل بها, تهرب الصحفي منه, وهو ما
جعله على يقين بوجود علاقة ما بين السرقة وهذا الرجل؟
وبعد ثلاثة
شهور بالضبط, اقترب تلميذه منه, لعله ينجح فى إزاحة هذا الهم, وابعاد تلك
المشكلة عن رأس أستاذه. وقال له:
"لقد مضت
ثلاثة شهور, ولم نسمع أو نرى أو نقرأ أى جديد حول موضوع
السرقة..أقترح
عليك الآن أن تترك الموضوع نهائيا..وننتالعالم, العالم, لم يكن يعنى الموافقة,
كان يعنى مزيد من التفكير فى محاولة للبحث من جديد. إلا أنه ابتسم للمرة الأولى
عندما طلب منه تلميذه, أن يلغيا قرار النزهة المؤجلة, وتابع:
"ربما تكون
تلك الرحلة المنتظرة هي السبب !!"
ثم نجح د.علام
فى إزاحة اهتمام العالم الى موضوع أهم, أنه لاحظ بشائر التجارب التطبيقية التى
نفذت فى إحدى المزارع الكبيرة على حدود المدينة. فانتبه وسأله:
"ما الجديد ,
كيف الحال المزروعات والحيوانات؟"
بثقة وسعادة
قال د.علام:
"إن ذهبت الآن
الى هناك فلن تتعرف على الحيوانات التى زاد معدل نموها,
وفاقت كل
توقع.. ما رأيك نذهب معا الآن ونرى؟"
لم يتوقع
التلميذ موافقة أستاذه السريعالمزرعة.لال دقائق كانا معا فى السيارة,
الىالمزرعة..
ولم تكن
المفاجأة فى تلك المشاهدات التى أكدت النجاح الكامل للسلالات الجديدة, وقد
خلطها مع عريقة الحيوانات وفى التربة الزراعية.
كانت
المفاجأة, وهما فى طريق عودتهم, وفور أن اجتازت السيارة بوابة المزرعة, لمحا
الصحفي الشاب !!
كانت الظلمة
بدأت تزحف على المكان فى تلك الساعة من بداية الليل الشتوى من شهر يناير.فما أن
لمحهما الصحفى حاول الفرار بسيارته الصغيرة, ظنا منه أنهما لم يلمحانه. لكن
د.علام يجيد قيادة السيارات, بل ومن هواياته إصلاح سيارته بنفسه, واندفع بها
حتى حاصر الشاب بسيارته الصغيرة.
ما أن وقف
الصحفي أمام العالم, حتى فاجأه قائلا:
"أرجوك أن
تعذرني, لا تفهمني بالخطأ"
نالت الدهشة
من العالم:
"ماذا تعنى؟
هل أنت على صلة بالأشرار اللصوص؟..إذن أخبرني بكل
التفاصيل التى
عندك..والآن"
فما من الصحفي
إلا أن طلب من العالم وتلميذه أو يتبعانه, ثم أخبرهما أن الأشرار داخل تلك
المزرعة هاهنا, أمام تلك التى يطبق فيها العالم نتائج أبحاثه!!
-6-
ضوء القمر
الهين لم يكشف لهم الطرقات الوعرة التى ساروا عليها, يتقدمهم الصحفي الشاب, وقد
طلب منهما أن يتحركان بخفة وبحرص.
كاد د.مختار
أن يسقط أكثر من مرة فى الحفر الترابية التى لا يراها و تعثر فيها. أخيرا وصلا
بوابة خلفية للمزرعة.لم يستطع العالم أن يصمت, سأله:
"ماذا يحدث؟
أرى البوابة تفتح!! هل يعلمون بحضورنا؟!"
رد الصحفي
هامسا:
"أنت الآن فى
طريقك الى داخل مزرعة الأشرار...
لي صديقا
داخلها هو الذي أبلغني بكل التفاصيل, وهو الذي يتسلل كي يفتح
تلك البوابة,
ربما أحصل على تحقيق صحفي خطير وهام..."
ما أن اقترب
العالم من المزروعات ومن الحيوانات داخل الحظائر حتى صرخ:
"مصيبة..مصيبة
حقيقية..هل ترى ما أراه يا علام؟؟!"
وأكد علام أن
معدلات النمو تلك لو استمرت لأيام قليلة, سوف تصبح الحيوانات مفترسة, والنباتات
سامة ولا تصلح للحيوان أو الإنسان..تابع:
"والآن ماذا
ترى يا أستاذ..ماذا سنفعل؟"
كل ما طلبه
العالم, أن يخرجا فورا بعيدا عن تلك المزرعة.
-7-
لم أحدهم الى
منزله, توجهوا جميعا الى المعمل. وما أن وصلوا حتى قرر العالم قررا علميا:"يجب
أن نبدأ فورا فى إنتاج الأجسام المضادة لتلك البكتيريا المعدلة التى صنعناها فى
المعمل".
فضحك د.علام
وقال:"وضاعت النزهة المنتظرة لمدة لا يعلمها إلا الله"..وابتسم العالم. بينما
لم يكتفى الصحفي بالصمت, وشرح لهم كل التفاصيل التى يعرفها. دهش العالم من كل
تلك التفاصيل الخطيرة حول هذه الجريمة, فسأله:
"لماذا لم
تخبر الشرطة؟"
أجاب بأنه كان
يعلم أن الأشرار أخفوا السلالات فى مكان لن يعرفه أحد, ففضل أن يصمت حتى يبدأون
فى محاولة الاستفادة من جريمتهم, وهنا يكون الدليل المادي القوى.
أبدا كل من
العالم وتلميذه عدم اقتناعهما برأي الصحفي, وان بررا سلوكه هذا بأنه سلوك
مغامرة صحفية أكثر منه سلوك صحفي شريف, وهو ما أغضب الشاب, فخرج مهرولا الى
خارج المعمل.
لم يدم انقطاع
الصحفي طويلا, دخل عليهما ذات صباح وهو يلهث:
"مصيبة..مصيبة
يا دكتور مختار."
سأله عما يحمل
من أخبار, فأخبره بأن داء الافتراس ألم بكل حيوانات المزرعة, وبدأت تتقاتل معا,
بل ومع المربين. أما النباتات والثمار التى تعملقت هي الأخرى امتصت كل مياه
الآبار التى حفرها الأشرار من قبل للزراعة..وجفت الآبار!!
شرد العالم من
النافذة الجانبية للمعمل الكبير, ثم جلس على المقعد المجاور, وأخذ يفكر طويلا,
ثم قال:
" هذه هي
نهاية سوء استخدام السلالات, وقد استخدمها الأشرار عن طمع
وجهل...."
ولما تابع
الصحفي وأخبره أن الأشرار يعانون من أمراض غريبة, لم يتعرف عليها الأطباء بعد
!.. علق د.مختار وهو يحتسى كوب الشاي:
" وهذه أيضا
النتيجة الطبيعية لسرقتهم أبحاثي.. كل ما يهمني الآن أن نتابع
من أجل إنتاج
الأجسام المضادة"
وتابع التلميذ
مبتسما:
"ولتذهب
النزهة المؤجلة الى غير رجعة"
وضحكوا معا
طويلا.
أضيفت في02/03/2006/ خاص
القصة السورية / عن
الكاتب (للتعليق
والمشاركة بالندوة الخاصة حول أدب الطفل)
الــزرزور الـرمـادي
بقلم
الكاتب:
الطاهر شرقاوى
كان الزرزور
الرمادي ، يسكن في شجرة ليمون .
في يوم ، قال
لنفسه :
لا بد أن أبحث
عن مكان آخر ، إنها شجرة صغيرة ، على فروعها شـوك يضايقني ، كمـا أن الأولاد ،
الذين يـمسكون في أيديهم بنبلة ، سيرون عشي .
نعم ، لا بد
أن أبحث عن مكان آخر .
رفرف الزرزور
الرمادي بجناحيه ، وطار بين الأشجار .
حط على النخلة
. وأخذ يقفز من جريدة إلى أخرى ، ثم قال :
النخلة لا
تنفع ، لبناء العش ، الغربان والصقور ، ستراني بسهولة ، وأشعة الشمس الحامية ،
ستكون فوق عشي طول النهار
لا بد أن أبحث
عن مكان آخر .
هز الزرزور
الرمادي جناحيه ، وطار إلى فوق ... فوق ... ثم نزل على شجرة الجوافة .
ثم طار ، ولف
حولها مرتين .
قال بأسى :
رائحتها حلوة
، لكنها أيضا لا تنفع ، أفرعها قليلة ، ولا يوجد مكان لبناء العش .
لا بد أن أبحث
عن مكان آخر .
حرك الزرزور
الرمادي جناحيه ، حلق عاليا .. وبعيدا .. ثم حط على شجرة التوت ، الضخمة ، قال
الزرزور بفرح :
أنا أحب التوت
.
التوت طعمه
حلو ، سأبني عشي بين الأوراق الكثيفة ، والفروع المتشابكة ، هنا لن يراني
الأولاد ، ولن تراني الغربان والصقور ، كما أن الأوراق الخضراء ، ستحجب عنى
أشعة الشمس .
أنا أحب شجرة
التوت .
شجرة التوت ،
لا يوجد بها شوك .
في يوم ، حط
زرزور كبير ، على شجرة التوت ، قال : مكان جميل ، وتوت لذيذ .
نط الزرزور
الرمادي ، إلى جـواره ، وهـو يقول : تعال لتبنى عشك هنا .
ابتسم الزرزور
الكبير ، وقال : أنا لي عش ، على شجرة قريبة من هنا .
تكلم الزرزور
الرمادى ، بعد أن ابتلع توتة سمراء : أنا أيضا كان لي عش ، في شجرة الليمون ،
لكنى كرهت كل أشجار الليمون ، وجئت إلى هنا ، شجرة التوت أحلى مكان في الدنيا ،
ولن أغيره أبدا .
الزرزور
الكبير ، ابتلع هو الآخر حبة توت ، وقال : ليس هناك مكان جيد ، ومكان رديء ،
نحن الذين نجعل المكان ، جميلا ، أو قبيحا .
ثم هز جناحيه
، وقال قبل أن يطير : سلام يا صديقي ، بالتأكيد سنلتقي مرة أخرى .
في الخريف ،
بدأت الأوراق الخضراء تجف ، ثم تسقط ، مع أقل نسمة هواء ، ورقة بعد ورقة ، حتى
صارت شجرة التوت ، الضخمة ، مجرد أفرع بنية .
أخرج الزرزور
الرمادي ، رأسه من العش ، تلفت حوله ، وقال : ماذا حدث لشجرة التوت ، أين ذهبت
الأوراق الخضراء ، أصبح المكان غير مناسب لي ، الشتاء قادم ، وأنا لا أتحمل
البرد .
الزرزور
الرمادي ، طار إلى أعلى .
نظر من فوق
إلى عشه الصغير ، وشجرة التوت ، العارية ، وقال : انتظريني ، سأعود إليك ، في
الربيع القادم .
ثم رفرف
بجناحيه ، وطار بين الأشجار .
أضيفت في02/03/2006/ خاص
القصة السورية / عن
الكاتب (للتعليق
والمشاركة بالندوة الخاصة حول أدب الطفل)
لفائض القيمة معول أيضا
بقلم
الكاتب:
فارس سعد
الدين السردار
قال الرجل
للمرأة التي بدت مرتبكة بعدما أخفقت كلماتها المتعثرة في الإحاطة بحاجتها.
(إنها لم
تتجاوز الرابعة عشر ربيعاً)
_قالت:
دعها تعمل أرجوك
_قال: يا
سيدتي القانون يمنع
_ قالت
المرأة: نحن في حرب
_قال: أنت
تحرجيني
_قالت: لو
لم يكن الأمر ملحا
اجلسا ..
اجلسا، أنت قد لا تفهمين واقع الأمر . أني بحاجة لها، لكن القانون صارم. ابنتك
بحاجة إلى المدرسة. والعمل في الخياطة أمر يحتاج إلى جلد ،ونفس طويل، ربما تأتي
يوما إلى المشغل مع دميتها.
_هي لا
تملك دمية
كانت
الفتاة مطرقة الرأس، بدت له خارجة لتوها من المدرسة، ألقت صدريتها وجاءت على
عجل، الحذاء صحيح انه متعاف إلا انه مصنوع من قماش، قد يعجز عن درء شتاءنا
الموحل، وفستانها باد انه قد ضاق على جسمها منذ زمن.
_من أرسلك
ألي..
_الناس
تتحدث عنك بخير .
_هل عملت
سابقاً في مشغل
رفعت
الفتاة عيناها متطلعة بالرجل فبان في عينيها حور مفصحاً عن عينين جميلتين
،وملامح بريئة، وكمن يحاول أن يهجر مواطئ أقدامه متطلعاً لأفق ارحب. فهم الرجل
انه اصبح مدانا في نظرها ما دام يتحجج.
_لم تخرج
سوى إلى المدرسة
_في أي صف
هي
_الثاني
متوسط
_هل هي
فاشلة في المدرسة (قال الرجل وقبل أن تجيبه المرأة)
_قالت
الفتاة: بانفعال الأولى على صفي .
_ما دمت قد
تكلمت.. هل تعرفين شيئاً عن الخياطة.؟
_أستطيع أن
أتعلم ..
_ستجلسين
على ماكنة صناعية سرعتها فائقة.
_الفتيات
يساعدنني ..
كانت مفعمة
بالثقة والإصرار وهي تحاورني ، لمحت في عيني المرأة سحابة دمع حامت، مع ابتسامة
خفيفة تحاول أن تداريها وبدت لي تقاطيع وجهها آخذة بالاسترخاء.
طرق الباب،
ودخلت فوزية، حاملة الشاي،؟ ووضعته أمام المرأة وابنتها.. بعد أن حيتهما ووقفت
أمامهما .
_بعد أن
تشرب الشاي خذيها معك لتطلع على العمل ..
ارتجفت
يدها المطبقة على القدح وهي تنظر إلى فوزية، التي بدأت حديثها مع المرآة، عن
موقع البيت، وساعات الدوام
انشغل
الرجل بالمكتب المكتظ بلوازم الخياطة، المجلوبة من السوق والتي كان على وشك
توزيعها مخزنياً.. وهو يحاور نفسه: سيتحول المشغل يوماً ما إلى روضة أطفال..
ماذا عساي أقول.
خرجت
الفتاة مع فوزية. وثمة فرح طفولي يوشك أن يعربد .وبقيت المرأة جالسة.
_أتعلمين
انك تظلمين ابنتك.
_يا سيدي.
المعيشة صعبة
_ماذا يعمل
والدها.
_انه شهيد
.استشهد قبل أن تتم العشرة.
_قد أجد لك
مكاناً هنا ..
_يا سيدي
عندي أطفال صغار ، أرجوك الفتاة متحمسة
_لتأتي في
العطلة الصيفية.. أو عطلة نصف السنة.
_نحن بحاجة
لمورد ثابت
فتح الباب
مشيراً للمرأة أن تتقدمه، وقبل أن يدخلا إلى قاعة المشغل بدت غير متيقنة من
قراره، بعدما اجتازا الممر وجدا نفسيهما بمواجهة العاملات اللواتي كن أحطن
بالفتاة وكل منهن تشرح لها جزءاً من عملها، وعلامات الدهشة قد أخذت من الفتاة
كل مأخذ.
اقتربت
الفتاة من أمها.
_هل أعجبك
العمل
_كثيراً..
_قال
الرجل: سنشتري لك ماكنة .. ونضعها في بيتكم بعد أن تتعلمين على الخياطة، وسأوفر
لك العمل. على شرط واحد .
_قالت
الفتاة: ما هو
_قال
الرجل: ؟أن لا تتركي المدرسة.
قفزة
الفتاة جذلى وهي تحتضن أمها... وتحلقت العاملات حولهن بينما خرج الرجل وهو يحدث
نفسه هكذا أوقف ماكنة هناك واهوي بمعولي على الرأسمالية. وتركهم يحتفلون.
أضيفت في02/03/2006/ خاص
القصة السورية / عن
الكاتب (للتعليق
والمشاركة بالندوة الخاصة حول أدب الطفل)
أين ينتهي البحر
بقلم
الكاتب:
د. طارق البكري
قصة علمية:
كان عقلي
الصغير يوهمني أن البحر ينتهي عند منتهى النظر، وكنت أظن واهماً أنّ الشمس وقت
المغيب تغسل وجهها بماء البحر، وتستريح بعد ذلك من عناء عملها طوال النهار
فتنام ليلاً حتى مطلع الفجر... اعتقدت طويلاً، ولم أسأل الناس متحققاً من صحة
اعتقادي، ربما لأنني أحب دائما الاحتفاظ بخيالاتي "المتحمسة" كيلا تدوسها خيول
الحقيقة.. اعتقدت - واهما أيضاً - أنّ خط نهاية البحر الوهمي في عقلي يسكن سداً
صلبا، يحول دون تسرب الماء من البحر فلا يتحول الى وادٍ سحيقٍ عميقٍ.. سداً يقف
كالجبل الشامخ، يحجز الماء عن تدفقه... ظننت أن العالم ينتهي عند هذه النقطة..
وأن الماء لو تسرب من فجوة ما لسال في الفضاء.. ياااه.. يا له من خيال مضحك..
ومع ذلك لم أكن أريد تغيير "الحقيقة".. لكني اكتشفت - غصباً عني - أنّ الأحلام
شيء و"البحر" شيء آخر..
***
عندما أصطحبني أبي برحلة بحرية بالحاح شديد مني..
نظرت الى بعيد بعيد.. وكلما أوغلت السفينة في أعماق البحر؛ ابتعد السد الوهمي
عني حتى كاد يتلاشى.. وكنت أظنني أقترب منه.. لم أجرؤ على البوح بهذا الوهم
"الحقيقة".. وددت الصراخ بأعلى صوت.. آمر البحارة بأن يقودوا السفينة نحو
"السد".. كانت ضربات قلبي تشتد بارتفاع السفينة وهبوطها.. صعدت الى أعلى مكان
في السفينة.. ساعدني أحد البحارة لأصل الى منارة السفينة... أعطاني منظاراً
كبيراً.. اعتقدت أخيراً أني سأشاهد نهاية البحر.. أعتقد البحار أنني سعيد بما
أراه من بحر عظيم.. صرت أبحث في كل اتجاه.. أبحث عن نهاية البحر، لا عن هيبته
وجلاله.. تخيّلت في عقلي الصغير كيف يمكن للبحر أن يتجمد في نقطة ما من الأرض،
ويصبح صلباً كالصخر.. وفيما بعد اكتشفت وهم طفولتي.. أحلام نهايات البحر..
وحزنت عندما اكتشفت: براءة الأحلام من حقيقتها..
***
لكن بعض أحلامي الطفولية
تحققت.. رضيت من بقايا الطفولة الساحرة.. علمت أنّ في الأرض قطعاً من بحر
متجمد.. رأيت بعينيّ كيف يصبح البحر جامداً كالصخر (حقا حقا)؟. عرفت أنّ هناك
مناطق شاسعة متجمدة تماماً.. وأنّ الحرارة عند طرفي الأرض في شمالها وجنوبها
وما يحيط بنقطة ارتكازها التي نراها في مجسمات أرضية، تهبط بشكل مخيف، ويصبح
ميزان الحرارة دائما تحت الصفر بعشرات الدرجات.. رأيت كيف يصبح هذا البحر
الهادر قطعة من الأرض..؟ وكيف يسير الناس بمراكب متزحلقة تجرها كلاب فوق ماء
متجمد.. وهناك يحفر صيادون "البحر".. نعم.. يشقونه بفأس أو منشار، لا ليغرسوا
شجرة بل ليرموا خيوط صيودهم الدقيقة وفي رأسها حديدة مسننة عليها شريحة سمك
شهية، تجذب رائحتها الأسماك من أعماق بحر متجمد في قمته.. سائل في قعره..
تخيّلت في عقلي - الذي مازال يحلم - كيف يستقرّ الجامد فوق متحرك؟ وكيف يحفظ
البارد الدافئ؟ ويثبت ناس ويسيرون بهدوء وسكون واطمئنان فوق جليد يخفي أمتاراً
من أعماق مائية المتحركة..
****
دهشت أكثر عندما رأيت جبالاً بيضاءً.. جبالاً
ناصعة.. ودهشت أكثر وأكثر عندما علمت أنّ هذه الجبال الضّخمة ليست سوى قمماً
لجبال مخفية.. وأنّ ما في البحر منها ما هو أضخم بمرات من قممها الظاهرة..
ولاحظت أنّ سكان القطب المتجمد بيوتهم من صخر مائي متجلد.. وكذلك أثاث بيوتهم..
عجبت كيف أنّ بيوتهم هذه مصنوعة من قطع ثلج مرصوصة بدقة بالغة، وبطريقة عجيبة،
تجعل البيت دافئاً من الداخل، فلا يتسلل برد الى ساكنيه.. وكأنهم يرددون قول
الشاعر العربي القديم: وداوني بالتي كانت هي الداء..
***
درست في مدرستي بعد
ذلك أنّ السّحب العظيمة التي نراها عادة في فصل الشتاء، عبارة عن ماء متجمع في
طبقات الجو العليا.. تنقله الرياح الى حيث أمرها الله.. لتُسقط الماء.. يبقى
على حاله أو يتحول برداً أو ثلجاً.. أدركت أشياء كثيرة لم أكن أعرفها.. وعلمت
أنّ الهواء الذي يدخل في رئتيّ يحوي هو أيضاً كمية كبيرة من ماء.. وأنّ جسمي
الذي أعيش فيه كان في الأصل ماءً وتراباً.. ذهب التراب بأصله وشكله وبقي الماء
المتغلغل في تفاصيل الجسد.. من لحم وعظم ودم.. فلا توجد خلية حية بغير ماء..
وقد كان العرب قديماً يقولون لمن مات: "ذهب ماؤه", وهذا يعني أنّ الماء سرّ
الحياة.. ألم يقل الله تعالى: (وجعلنا من الماء كل شيء حي)؟ وعلمت أن الماء هي
الحياة نفسها.. حتى الدماء التي تسري في أنحاء الجسم اذا جفت وذهب ماؤها لا
يبقى غير ذرات حمراء باهتة اللون.. وكنت ألاحظ ذلك إذا جرحتُ نفسي أثناء لعبي
مع أقراني الصغار.. ومثل هذه عصائر الفاكهة، لو تركتُ في كأس عصيراً حتى جف
تماماً لَمَا بقي غيرُ بقايا ملونةٍ في قعر الكأس.. وقد لاحظت أن أمي تضيف إلى
الحليب المجفف أضعافاً من حجمه ماء ليصبح حليباً سائلاً أشربه..
***
وعلمتُ أنّ الأنسان يستطيع البقاء حياً أسابيع طويلةً من دون أن يأكل لقمة واحدة، لكنّه
يموت إذا لم يشرب ماء لأيام قليلة وربما لساعات، كما أن الانسان يستطيع أن يحيا
على لقيمات بسيطة طوال عمره لكنه لا يستغني عن كمية وافرة من الماء ليشربها
يومياً.. ورأيت المريض الذي لا يستطيع تناول الطعام والشراب يقومون بحقنه بمصل
في شرايينه، وهذا المصل عبارة عن ماء وبعض المغذيات.. ورأيت أيضا حرص الناس
الشديد على الماء في البلاد التي ليس بها ينابيع وأمطار.. رأيتهم كيف يصنعون من
ماء البحرالمالح ماء حلواً طيب المذاق.. رأيت الينابيع على أنواعها.. الصافي
البارد الرقراق، الفوار الحار، المعدني الأحمر مثل حديد مهترئ.. علمت أن في
أعماق البحر ينابيع كثيرة، وفي جوف الأرض أنهاراً لا تعد، وفي الجبال بين
الصخور مخابئ مياه عجيبة..
***
لم أكن لأصدق أن مياه البحر التى أراها واحدة
متصلة قد تكون في بعض الأماكن من البحار أو المحيطات مياها متعددة.. وبحارا
منفصلة.. يحدها جدار مائي وهمي حقيقي،، لا يمكن للعين أن تراه بوضوح.. فالمياه
متلاصقة متلاحمة، ولهذا أسماك ولذلك أسماك.. للأول حرارة وللثاني حرارة
مختلفة.. ومواصفات مختلفة .. لم أصدق كما قلت في أول الأمر.. ولكنّها حقيقة
أقرب الى حلم.. وعلمت أن الكرة الأرضية هي في الواقع كرة مائية.. فالماء يشكل
أكثر من ثلثي الأرض.. واليابسة ليست سوى جزيرة تشكل الثلث فقط او أقل.. فأدركت
أن الماء هو الذي يحمل الأرض وليست الأرض هي التي تحمل الماء.. وعرفت أن عمق
الأرض يسيل.. وأن اليابسة تسبح على بحر ملتهب.. يخرج إلينا من حين لآخر من
فوهات براكين نراها في العالم..
***
ورأيت أيضا أن البحر في حقيقته ثائر.. لا
كما يبدو هادئاً وديعاً.. وقد شاهدت - وشاهد العالم مثلي - ما حدث في شرق آسيا
الجنوبي يوم اكتسح الماء أعالي الجبال، في مشهد قلما يتكرر، سمي حينها بكارثة تسونامي.. ورأيت فيضانات عجيبة في الفلبين وسيرلنكا والهند وأعاصير هوجاء في
أنحاء متفرقة من العالم، حيث تنقض رياح مصحوبة برعود ومياه جارفة تترك الأرض
خراباً ودماراً..
***
ليس هذه فقط.. بل علمت أنّ ماء في زمن بعيد بعيد تحول الى
فضاء أغرق الأرض كلها ولم يبقِ غير سفينة واحدة عليها بعض أجدادنا المؤمنين
الذين أبقوا على الأرض بشرا، ولولاهم لغرق الناس جميعاً، كما تقول قصة النبي
نوح عليه وعلى نبينا السلام... وبعد ذلك كله... ما زلت أحلم بأن للبحر آخر..
ركبت سفناً وقطعت بحاراً من شطآن الى شطآن.. لكني ما زلت أحلم بأنّ للبحر
نهاية.. لكن، أين ينتهي البحر؟؟ مازلت أحلم..
أضيفت في10/04/2006/ خاص
القصة السورية / عن
الكاتب (للتعليق
والمشاركة بالندوة الخاصة حول أدب الطفل)
الحصان المسحور
(حكاية
قديمة)
بقلم
الكاتب:
ميخائيل عيد
يحكى أنه
عاش في إحدى مدن الشرق رجل ثريٌّ مولع بالخيولِ ولعاً لا حدود له... كان الناس
يعرضون عليه خيولهم فإذا أعجبه حصان اشتراه وألحقه بما عنده... وذات يوم جاءه
من أخبره بوجود حصان لا مثيل لجماله في إحدى القرى النائية. ذهب الغني وأحد
خدمه إلى تلك القرية... أدهشه جمال الحصان فاشتراه وعاد به.
رُبط
الحصان في حديقة المنزل إلى شجرة باسقة...
جلس الثري
إلى مائدة أُعدت لـه قربه وراح يتأمله...
حين لم يبق
أحد من الخدم حوله رأى الحصان يصغر ويصغر ثم رآه يدخل في مزراب صغير تنسكب منه
المياه في بركة صافية... كاد صوابه يطير فصاح بأعلى صوته:
-الحصان،
الحصان!
أسرع الخدم
إليه وسأله أحدهم:
-ماذا جرى
للحصان يا سيدي؟
قال الغني:
-لقد صغر
وصغر ثم دخل في المزراب هناك...
قال الخادم
وهو يشير إلى الحصان:
-المعذرة
يا سيدي، الحصان موجود حيث ربطناه.
صاح
الثريُّ:
-لقد رأيته
بعينيَّ!
قال
الخادم:
-وها أنت
ذا تراه بعينيك في مكانه... يبدو أنك متعب يا سيدي...
صاح
الثريُّ:
-لستُ
متعباً، وقد رأيته وأنا بكامل قواي، هيا انصرفوا...
ذهب الخدم
إلى أعمالهم وجلس الثري إلى المائدة ونظر إلى الحصان... كانت عينا الحصان
واسعتين وجميلتين... ثم ها هو ذا يصغر ويصغر ويدخل في المزراب... دلك الغني
عينيه ورش بعض الماء على وجهه... وحين لم يتغير شيء حوله صاح بصوت غريب:
-الحصان،
الحصان!
وأسرع
الخدم إليه... وتكرر المشهد مراراً... وتكرر الجدال، وخرجت زوجته من القصر
ووقفت إلى جانب الخدم محاولة إقناعه بأن ما يقولـه مخالف للمنطق فقال لها:
- أعرف أنه
مخالف لكل منطق، لكنني رأيته...
حين قالت
له: أنت متعب، وعليك أن ترتاح، ضربها وضرب من وصلت يده إليه من الخدم... وكان
على زوجته أن تستدعي الأطباء خوفاً عليه... وقرر الأطباء أنه جُن فأخذوه وهو
يقاومهم إلى مشفى المجانين. قيدوا قدميه وربطوا يديه وتركوه على أرض غرفة قذرة.
رآه أحد
نزلاء المشفى فحمل كوب ماء إليه وسقاه ثم جلس قربه وواساه ثم سأله عن سبب
إحضارهم لـه إلى هذا المكان المخيف فحكى لـه حكاية الحصان فضحك المجنون حتى كاد
ينقلب على قفاه ثم قال له:
-أنا، على
جنوني، لا أفعل ما فعلت...
سأله
الثري:
-كيف؟
قال
المجنون:
-ألم تر ما
رأيتَ بعينيك، ألم يقتنع عقلك بما رأيت؟
قال
الثريُّ:
-أجل....
قال
المجنون:
-أتتحمل
هذا الأذى كله في سبيل أن تقنع الآخرين بصواب ما رأيتَ، وهو مخالف لمنطقهم...
المعذرة، أنتَ أكثر جنوناً مني..
ابتسم
المجنون لـه برفق وابتعد عنه وظل الثري في مكانه حتى الصباح..
دخل كبير
أطباء المشفى غرفة الثريّ وسلم عليه بإشفاق فسأله الثريُّ مستغرباً:
-من جاء بي
إلى هنا يا كبير الأطباء، ولماذا؟
ارتبك كبير
الأطباء وغمغم:
-أتوا بك
إلى هنا... بسبب، بسبب الحصان..
صاح الثري:
-الحصان،
ماذا أصاب الحصان؟
قال كبير
الأطباء:
-البارحة
كنت تؤكد أنه دخل في المزراب؟
قال الثري:
-هل هذا
معقول؟ أأنا أقول هذا؟ أنت تمزح أيُّها الطبيب.
صاح كبير
الأطباء مبتهجاً:
-الحمد لله
على سلامتك، أيّها السيد... هيا أعيدوه إلى البيت على الفور...
وعاد الثري
إلى المنزل... وأعدوا لـه مائدة في الحديقة قرب الحصان والمزراب... وحين ذهب
الآخرون نظر إليه الحصان ثم صغر وصغر واختفى في المزراب...
نهض الثري
واقترب من المزراب على رؤوس أصابع قدميه ثم همس:
-أخرج،
أخرج، لقد رأيتك، وأخاف أن أرفع صوتي فيسمعوني...
أضيفت
في09/03/2006/ خاص القصة السورية/ عن مجموعته المدينة تخرج من أسوارها الصادر
عن اتحاد الكتاب العرب (للتعليق
والمشاركة بالندوة الخاصة حول أدب الطفل)
المهرجان
بقلم
الكاتب:
خير الدين عبيد
في غرفة
رامي، وعلى طاولته الصغيرة، كان يوجد عرس بهيج. فقلم القصب يتراقص، والحروف
تنطّ على سطح الورقة كالأرانب، بينما تمايلت المحبرة، حتى كاد مدادها يندلق.
فلوحة
الخطّ، التي كتبها رامي، نالت المرتبة الأولى، على مستوى المدرسة.
في غمرة
هذا الفرح، قال قلم القصب:
- ما رأيكم
يا أصدقائي، أن نقيم مهرجاناً خطابياً؟
رحّبت
الحروف والمحبرة والورقة بالفكرة واتخذوا كتاب القراءة منصة.
صعد كلٌ من
المحبرة والقلم المنصّة، بينما جلست الأحرف فوق السّطور ممثّلة الجمهور.
افتتح قلم
القصب المهرجان بقوله:
- أبنائي
الحروف، إنّه ليسعدني، أن تنال لوحة رامي، التي كُتِبَت بي، المرتبة الأولى
ويسرّني أن أنتهز هذه الفرصة، لأعطي لمحة عن حياتي.
حكى لي
جدّي، أنّ أوّل لقاءٍ له، كان مع الخط الكوفي، غير المنقوط، ثمّ تتالت
اللّقاءات مع خطّ الثلث، والرقعة، والدّيواني وبعدها صارت أقلام القصب تكتب
الأشعار الحالمة، والقصص الممتعة بخط جميل، كخطّ رامي، الذي نحتفل بفوزه.
وقبل أن
أنهي حديثي، لا بدّ أن أشير، إلى أنّ الفضل في كلّ ما صنعته، يعود لصديقتي
المحبرة الجالسة بجانبي، فشكراً لها وأرجو من اللّه أن يزيد في مدادها.
تأثّرت
المحبرة لكلام صديقها، فبكت، ثمّ تنحنحت وقالت:
- بداية،
أشكر أخي وصديقي، القلم القصب، على عواطفه النّبيلة كما أشكر حضوركم، الّذي
ينمّ عن تعطّشٍ للعلم والمعرفة.
سأدخل في
الموضوع مباشرةً، كي لا أطيل؟
قديماً،
كنت وردةً جوريّةً، لا تستغربوا يا أحبّائي، لأنّ الخطّاط جاء وقطفني، ثمّ
وضعني في وعاء يحتوي حديداً صدئاً، وصمغاً شجرياً ثمّ غليت بالماء، وتحوّلت إلى
حبر، وبعدها، صرت أصنع من مواد مختلفة، أهمّها هباب الفحم.
وختاماً،
أعدكم أن أضحّي بآخر قطرةٍ من مدادي، كي تنتشر الثقافة بين النّاس.
صفقّت
الحروف بحرارة، وتعانقت على سطح الورقة، مشكّلةً لوحةً فنيّةً رائعة.
أعـــواد القصــب
صاح الديك،
فتحت حنان عينيها، وتمطّت كقطّة صغيرة.
كانت
الساعة تشير إلى السابعة، إنه موعد إعطاء الدواء لأمّها المريضة.
دخلت حنان
غرفة أمّها، فوجدتها مستلقية كعادتها، تئنّ وتتوجّع.
- صباح
الخير يا أمي.
- صباح
النور
- انهضي
قليلاً لتشربي الدواء.
حاولت الأم
النهوض، فلم تستطع، ساعدتها حنان، فلم تفلح.
حزنت حنان
كثيراً أدارت وجهها صوب النافذة، المطلّة على الحديقة، كي تخفي دموعها فلاحظت
أصيص الزنبق ذابلاً.
خرجت إلى
الحديقة، وجلست قرب أعواد القصب، كانت تبكي، واضعةً كفيّها الصغيرتين على
وجهها.
اهتزّ عود
القصب بجانبها، وقال بصوت مبحوح:
- اهدئي يا
حلوة، عندي فكرة للترويح عن والدتك.
- ما هي؟.
- اقطعي
مني ثمانية عقد، واثقبيني ستة ثقوب في طرف، وثقباً في الطرف المقابل.
- لكنّك
ستتألمين!
- لا يهم،
فقد كانت أمّك تسقيني كلّما عطشت كأحد أطفالها، لذا يجب أن أساعدها. قطعت حنان
القصبة، وثقبتها، ثمّ وضعتها بشكل مائل على فمها، وراحت تنفخ.
وما إن
حرّكت أصابعها الرشيقة، حتى خرجت من الثقوب أنغام عذبة شجيّة، امتزجت مع زقزقة
العصافير، مشكّلة لحناً ساحراً.
توقفت
الموسيقا فجأة، على صوت تصفيق ينبعث من النافذة.
نظرت حنان
إلى النافذة، فشاهدت أمّها تصفّق باسمة، وبجوارها تفتّحت زنبقتان حمراوان
جميلتان.
أضيفت
في09/03/2006/ خاص القصة السورية/ عن مجموعته حديقة الألحان الصادر
عن اتحاد الكتاب العرب (للتعليق
والمشاركة بالندوة الخاصة حول أدب الطفل)
الحاكم العادل
بقلم
الكاتبة:
نجاة حالو
في الدراسة
التي أجرتها إحدى المدارس الإعدادية عن مهنة المستقبل لطلابها.. كانت النتيجة:
60% طبيب
لأخفف آلام الناس /المهنة الرائجة اقتصادياً/
20% أستاذ مثل
مدرّسي فلان لأنه قدوتي ومثلي الأعلى /؟!!/
10% مهندس،
وتعددت الاختصاصات /الكل في النهاية موظف دولة/.
9% صيدلي
/تاجر يحمل شهادة، عصفوران بحجر/.
واحد فقط قال:
أريد أن أكون حاكماً عادلاً..
توقفت لجنة
الدراسة عند هذا الواحد!!
بعضهم توقع
أنه ابن مسؤول كبير.. وبعضهم الآخر توقع أنه ابن جامع أموال.. أو غاسل أموال..
أو مهرب رحيم يخفف أعباء الناس النفسية بتهريب ما يمتعهم.. ويريحهم من متاعب
العقل.
لكن الجميع
فوجئ بأن هذا الواحد هو ابن جامع قمامة..! يقوم كل يوم مساءً بتنظيف الشوارع
المحيطة بالمدرسة..
وبعد مناقشات
طويلة.. ودراسات عديدة حول وضع هذا الطالب ارتأت اللجنة أن تتقصى حاله..
وأحواله بعد أن نسيت الدراسة التي تم تشكيلها لأجلها..
استدعته
الإدارة أولاً وانبرت المديرة للسؤال:
-لِمَ تُحب أن
تكون حاكماً يا ولدي؟
أجاب الطالب
وكان اسمه (منسي): أرجوكِ التصحيح يا سيدتي لا أريد أن أكون حاكماً.. أريد أن
أكون حاكماً عادلاً..
-باستغراب:
وما الفرق (قالت المديرة)؟.
منسي: الفرق
شاسع يا سيدتي.. أي شخص يمكن أن يكون حاكماً لكن لا أحد سيستطيع أن يكون
عادلاً.
ارتفعت أصوات
اللجنة التي اختلط الأمر عليها وعلت الضحكات المستهزئة.
-هل بإمكان
أيّ كان أن يكون حاكماً؟ "قال رئيس اللجنة"
ردد منسي بثقة
ويقين.. أجل.. لِمَ الاستغراب؟
-تدخل عضو في
اللجنة: يا ولدي لا يستطيع أن يكون حاكماً إلا منْ كان أبوه حاكماً أو كان
شخصاً يمتلك مواصفات استثنائية تمكنه من القيام بانقلاب على الحاكم.
ضحك منسي
بصفاء وقال بهدوء: كل شخص في هذا الوطن يستطيع امتلاك مواصفات استثنائية...!
-اندفعت
المديرة تريد أن تكون موجهة كأم حانية:
-هذا خطأ يا
بني.. المميزون نادرون جداً في العالم..
قال منسي وهو
يتفرس الوجوه المحيطة به: أنا لم أقل مميزون يا سيدتي.. قلت مَنْ يمتلكون
مواصفات استثنائية.
-المديرة: هذه
نفس تلك يا بني...
زفر منسي
وكأنه أستاذ تعب من الشرح: سيدتي المميز هو مَنْ فاق الجميع بعمل فذ..
والمواصفات الاستثنائية كثير من الناس يدعي امتلاكها ويصدقه الآخرون.. أنتِ
مثلاً تمتلكينها (نفخت المديرة صدرها زهواً) تابع منسي: لأنك مديرة في مدرسة
فيها أساتذة ومعلمات أكفاء أقدم منك وأكبر سناً.
(احمرّ وجه
المديرة ثم أربد)..
تابع منسي:
رئيس اللجنة هذا يمتلكها مع أنه أصغر واحد فيها (وقف الرئيس غاضباً)..
تابع منسي:
أبو أحمد يمتلكها.. مع أن البلدية خصَّت أبي بشوارع عددها ضعف الشوارع التي
خصَّت أبو أحمد بها لتنظيفها، ومع أن أبي موظف قبله بعشرين عاماً على الأقل وهو
منضبط في عمله أكثر منه بكثير والأمثلة كثيرة.. أتريدين أن أتابع..
كفى (قالت
المديرة).. وأرادت إنهاء المقابلة التي وضح فيها تميز الطالب المنسي /ذي
الأعوام الخمسة عشر/ وقدرته على محاورة كبار السن واللعب على الألفاظ، لكن رئيس
اللجنة أراد أن يتفوق عليه.
لذا استمهل
وهو يسأل: لِمَ تجزم يا منسي أن لا أحد يستطيع أن يكون عادلاً..؟ أنا مثلاً
كمدرس وموجه تربوي كنت ولا أزال عادلاً في وضع الدرجات والنقاط..
ضحك منسي
بخبث: لهذا أقول لا أحد عادل.. وقبل أن تصل يد رئيس اللجنة إلى الطاولة لتضربها
غضباً تابع منسي: إن الكل يعتقد أنه وحده العادل وأن الدنيا بأكملها ظالمة ولا
أحد فيها يفهمه..
انبرى أحد
المخبرين المدسوسين كعضو في اللجنة مقاطعاً: هل تعتقد أن حاكمنا غير عادل يا
ولد..؟؟.
حدق منسيٌّ
إليه ملياً قبل أن يجيبه: مَنْ يسأل سؤالاً كهذا هو مَنْ يشكك..؟!
أسقط في يد
السائل.. واحمرّ خجلاً..
في اليوم
التالي كانت الحادثة قد انتقلت بكل تفاصيلها إلى دار الصحافة مما جعل أحد
الصحفيين الباحثين عن عمل يسرع إلى منزل منسي لإجراء حوار صفحي، قال الصحفي:
مَنْ زرع في نفسك هذا الأمل يا صديقي.. (وكان يأمل في أن يذكر اسماً مثلاً).
أجاب منسي:
أكوام القمامة التي يجمعها أبي..!!
الصحفي
(متعجباً).. ماذا؟ كيف؟..
أجاب منسي:
أبي يقوم كل يوم بتنظيف قاذورات الناس جميعاً.. يعرف أسرارهم من بقاياهم.. يعرف
مَنْ بات جائعاً.. ومَنْ بات متخماً. يعرف في أي البيوت كانت السهرة ماجنةً
وأصحابها مسرفين وفي أيها طويت البطون على الكفاف.. يعرف المرتشي.. من
المستقيم.. يعرف أن حاكمه /مديره في البلدية سارق ومرتشٍ/.. يعرف المنظم من
الفوضوي..
يعرف كل شيء
ويعرف معه الصمت، ثم تابع بأسى: لكنه لا يعرف العدل..
إنه في المنزل
حاكم متسلط.. غير عادل.. يخص نفسه ببقايا العلب الدسمة.. ويترك لنا الفتات..
أحياناً يخص
أمي.. أو أخي الصغير ببعض العطايا.. حسب حاجته ومزاجه ويعتقد أنه عادل.. وأن
الآخرين كلهم ظالمون.
إنه بالفعل
مظلوم.. فالكل ينظر إلى عمله على أنه أسقط الأعمال مع أنه وبحسبة بسيطة.. لولاه
وأمثاله لكانت الأمراض قتلت الجميع.. إنه يخدم الآخرين ويخفف آلامهم أكثر من
الطبيب والصيدلي.. ما يحتاجه أبي ليكون كاملاً.. العدل.. فقط العدل.
لم يعد بإمكان
الصحفي طرح سؤال آخر.. فسؤاله الوحيد كان جوابه محاضرة كافية وشاملة..
بعد أيام..
كانت الإذاعة على موعد مع منسي لإجراء لقاء إذاعي مطول..
قال المذيع
سائلاً بعد مقدمة طويلة شرح فيها للمستمعين ذكاء منسي وسرعة بديهته...
المذيع: يا أخ
منسي.. هل تعتقد أن العدل ممكن على الأرض..؟
هرش منسي رأسه
بأصابع يده.. وهزه وهو يحاول (تذكر بيت من الشعر قديم.. نسي مؤلفه).
والعدل في
الأرض يضحك الجن إن سمعوا به
ويستصرخ
الأموات.. إن نظروا.
المذيع: هل
تعتقد أنك لو صرت حاكماً..!.. تستطيع أن تقيم العدالة..
ضحك منسي
بهدوء وهو يجيب: لو قدر لي أن أكون حاكماً.. لغيرت ميزان دائرة الأرض حولي..
-ماذا
ستفعل..؟
منسي: أجعلك
أنت بائع بطاطا.. وأجعل رئيس البلدية صبي حلاق وأجعل رئيس لجنة الدراسة التي
أوصلتني إلى هنا قارع طبل.. و..
-المذيع
"مقاطعاً" وقد اشتد غيظه: كفى و.. وأنهى البرنامج بموسيقى صاخبة.
اعتذر بعدها
للمستمعين عن متابعة الحوار بعطل فني طارئ.!
لم تمضِ
أيام.. حتى كان منسي على باب الحاكم مطلوباً للقاء خاص معه.. بعد أن ترك كل ما
لديه من أعمال واجتماعات قومية ووطنية لصالح الشعب /كان الله في عونه/ وقرر
استقبال منسي.. قال الحاكم وهو يمد يده مصافحاً:
-لقد سمعت عنك
كثيراً يا ولدي..
-أجاب منسي
دون أن يرفع نظره: الحاكم المقتدر يسمع دبيب النملة في مملكته..
-الحاكم: أنت
ولد مميز يا منسي..
-منسي: لست
مميزاً يا سيدي.. إني فقط صادق.
-ابتسم الحاكم
بإعجاب: وهذه ميزة كبرى يا ابني.
-زفر منسي
بقهر مخزون: لكنها لا تعجب أحداً يا سيدي.
-همهم الحاكم
متقرباً: تعجبني أنا يا ولدي.. ليت شعبي كله على شاكلتك.
-منسي: هذا
ليس في صالحك يا سيدي..
-الحاكم
"ضاحكاً وقد ابتلعها": هل تعتقد أن هناك مَنْ يصلح أكثر مني لقيادة هذا الشعب
يا منسي..؟
-منسي بصدق
ودون أن يرفع رأسه: أجل يا سيدي.
-احمرّ وجه
الحاكم.. لكنه تمالك أعصابه وهو يضغط على أسنانه..: مَنْ يا منسي..؟
-رفع منسي
وجهه ليلاقي وجه الحاكم الضاغط على شفتيه: الحذاء يا سيدي..!
-ضحك الحاكم
بجلجلة.. فقد فطن للمزحة /إنه لم يكن إنساناً عادياً أبداً/.
-قال وهو يضع
يده على كتف منسي بلطف متماشياً معه في مزحته: على الرأس أم في القدم يا
منسي..؟
-منسي ببديهة
حاضرة أبداً: الحذاء المناسب في القدم.. يقيها من التشوهات وعلى الرأس يا سيدي
يصلح تشوهات الدماغ.
-فكر الحاكم
لحظة ثم سأل وقد وضح إعجابه بمنسي: هل تقبل أن تكون مستشاري يا بني..؟؟
-انتفض
منسي..: لا.. لا يا سيدي.. الآن لا..
-الحاكم
متعجباً: لِمَ يا منسي؟
-منسي: لأني
لن أكون عادلاً بنظر أحد يا سيدي.
-الحاكم:.
وبنظر نفسك؟
-منسي: أنا
مواطن مقهور يا سيدي وكل مقهور يرى العدل كاملاً بإزالة قهره.. ثم إن كل شخص
يعتقد نفسه العادل الوحيد على الأرض..
-الحاكم:
لنتخيل أنك صرت الحاكم بدلاً مني ما الذي ستفعله أولاً؟.
-منسي:
أولاً.. أقيل رئيس الحكومة وأعين بدلاً عنه أبي لأنه يعرف مشكلات الناس أكثر
منه.. وبالتالي سيرسل أبي كل وزرائك وحاشيتك إلى بيوتهم على أحسن تقدير..!
وسيشكل وزارة
جديدة كلها من جامعي القمامة لأنهم جميعاً قادرون على القيام بأعمال مفيدة..
وهذا.. على ما
أعتقد سيثير نقمة الشعب بأكمله.
-الحاكم: ما
دمت تعرف أنه سيثير النقمة لِمَ تقوم به..؟
-منسي: إن
الشعب بحاجة إلى تغيير جذري.. حتى ينهي موته يا سيدي بحاجة إلى مَنْ يصفعه..
-الحاكم: لكن
الجميع لن يفهم الأمر هكذا.. سيعتقدون، أنك لا تهتم إلا لأقربائك ومعارفك.
-منسي متفرساً
في الوجوه التي حوله.. هل تعتقد أن أحداً يفعل غير هذا يا سيدي..؟
-الحاكم
ضاحكاً: لن تكون بهذا حاكماً عادلاً يا منسي..
-نظر منسي إلى
القصر الفخم وإلى الجدران الممتلئة إلى الأسقف المثقلة.. نقل بصره إلى وجوه
المحيطين بالحاكم، إلى بطونهم المنتفخة.. وعيونهم الناعسة.. وإلى ياقاتهم
وثيابهم المنشاة.. تفرس في وجه الحاكم هذه المرة دون أن يزيح عينيه عنه... زفر
بحزن مسكون في الأضلع: كان حلماً يا سيدي.. أنا لن أكون حتى حاكماً في يوم منسي
كاسمي فأبي ليس بالحاكم.. وأنا لا أملك مواصفات استثنائيه.. يا سيدي!
14/8/2003
أضيفت
في09/03/2006/ خاص القصة السورية/ عن مجموعتها سر الحياة الصادر
عن اتحاد الكتاب العرب (للتعليق
والمشاركة بالندوة الخاصة حول أدب الطفل)
بـحيرة الأزهار
بقلم
الكاتب:
آصـف عبد الله
أحسَّتْ
"عُلا" بالضِّيق، فالانتظار صَعْبٌ وقاسٍ، كانت تنظر من زجاج النّافذة إلى
باب الحديقة؛ لعلّه يُفْتَحُ وترى أباها قد عاد من السَّفر!
كانت كلّ
دقيقة تمضي ببطء بالغ، قالت لها أمُّها:
ـ "مابك،
تبدين منزعجة".. أهكذا تستقبلين والدك؟!!"..
ارتاحت لكلام
أمّها، ثم نظرتْ حولها في أرجاء الغرفة، خطرت لها فكرة؛ جرت مسرعة لتنفيذها،
قالت في نفسها: "سأجمع طاقة من أزهار المرج الجميلة… أضعها في إناء على طاولة
والدي؟..".
خرجت "عُلا"
بعد أنْ أخبرتْ أمّها، كانت الأزهار البيضاء تبدو مثل بحيرة من الثلج النّاصع!
خفق قلبُ "عُلا" بفرحٍ وهي تقترب من المرج، شدّها هذا المنظر الرائع.. صارت
الأزهار واضحة أمام "عُلا" كانت تتلألأ كعقد من اللؤلؤ!! خطرت أفكار كثيرة في
ذهن "عُلا":
ـ "سأجعلها
تظهر مثل كرةٍ جميلة من الأزهار"..
"سيفرح بها
أبي كثيراً… سأصنع منها عقداً.. عقداً من الزّهر وأطوّق بها عنق أبي".
وقفت "عُلا"
بجانب أزهار المرج.. كانت أزهار كثيرة متفرقة تحيط مكان وقوفها! جلست لتقطف
بعضها… وحين مدّت يدها لتقطف أول زهرة رأت زهرة أخرى أكبر وأجمل.. قالت:
ـ "تلك
الزّهرة أجمل من هذه…".
ثمّ نهضت ودنت
من الزّهرة الثّانية، لكنها لم تقطفها لأنّها شاهدت أجمل منها أيضاً.. وهكذا
كانت تمضي من زهرة إلى أخرى!! تعبت ولم تقطفْ أيّ زهرة! هاهي عند الطرف الغربي
من بحيرة الأزهار، ألقتْ نظرةً طويلة عليها، كانت عيناها تلمعان بفرح واضح..
رأت الأزهار أجمل من قبل.. نَقّلَتْ عينيها فيما حولها، وعادت تحدّق في بحيرة
الأزهار، كلّمت نفسها بصوت واضح:
ـ "هذه
الأزهار مثل الأسماك ستموت إذا خرجت مِنْ مرجها"..
عادت "عُلا"
دون أن تقطف أيّة زهرة… وبينما كانت تمشي في طريق العودة؛ أدهشتها رؤية الأزهار
البيضاء الجميلة على طول الطّريق.. رأَتْها "عُلا" وكأنّها تمشي خلفها!! كانت
مسرورة جداً وتساءلت: "هل تمشي الأزهار حقّاً؟!"..
شيء واحد كان
يدور في ذهنها.. أن تدعو أباها لزيارة بحيرة الأزهار.
أضيفت
في10/03/2006/ خاص القصة السورية/ عن مجموعته لو كنت حصانا الصادر
عن اتحاد الكتاب العرب (للتعليق
والمشاركة بالندوة الخاصة حول أدب الطفل)
لعبة مسلية
بقلم الكاتبة:
حنان درويش
في إحدى ليالي
الصيف المقمرة، وبينما كان القمر بدراً يسطع، فيغمر نوره الكون... قرّر أفراد
الأسرة مجتمعين السهر على سطح الدار، كما اعتادوا أن يفعلوا في مثل هذه
الليالي.
طوت خولة
البساط المخصّص للجلوس فوق السطح. أخوها أحمد فعل مثلها، وشارك في نقل الوسائد
الصغيرة. الأم والأب أعدا العشاء ورتّبا أمور المائدة.. أما الجدّة، فلم يكن
بمقدورها أن تحمل سوى طبق القش الذي باشرت بجدل عيدانه، وتنسيق ألوانه.
هرة البيت
الأليفة كانت على مقربة من أفراد الأسرة تلهو بكرة صوفية بيضاء.
حالما انتهى
الجميع من تناول العشاء... قال أحمد:
- الحمد
للَّه.. لقد شبعت.
- هذا غير
معقول.. إنّك لا تشبع على الإطلاق.
قالت الجدّة
ضاحكة.. فضحك الجميع.
اقترح الأب
على والدته وزوجته وولديه أن يقوموا بلعبة مسلية.
- ماذا بوّدكم
أن تلعبوا؟...
سألت الأم.
احتار
الجميع.. تبادلوا النظرات... ابتسم القمر وهو يسمع كلامهم ثم قال:
- ما رأيكم...
لو راح كلّ منكم يشبّهني بشئ يحبّه، ومن يعجبني تشبيهه سأكافئه بهديّة لطيفة..
وافق الكبار
والصغار على اقتراح القمر، وكانوا جميعاً فرحين لأنّه يحادثهم ويراهم.
صاحت خولة:
- سأبدأ أنا
أوّلا..
أجابها أحمد:
- لا.. لا..
أنا أوّ لاً.
- موافقون.
هتف الجميع
قالت الجدة:
- طبق القش
الملوّن الذي أصنعه، سيكبر، ويكتمل ويصبح كاستدارتك أيّها القمر.
قال الأب:
-مقود سيارتي
الذي تلامسه يداي كلّ يوم بحبّ وحنان يشبهك أيّها القمر.
قالت الأم:
- كعكة العيد
التي تصنعها أصابعي بمهارة، قريبة من شكلك أيها القمر.
قالت خولة:
- وجه لعبتي
الجميل مثل وجهك أيها القمر.
قال أحمد:
- إنَّك
كالرغيف المقمّر اللذيذ.. هم.. هم.. أيّها القمر.
قفزت الهرة
وماءت..
- مياو.. مياو..
ها هي كرتي الصوفيّة البيضاء أمامي، ولا تختلف عنك أيّها القمر.
ابتسم القمر،
وقد بدت على وجهه علامات الحبور والسعادة:
- لقد أعجبني
كلّ ما قلتموه.. ولذا سأكافئكم جميعاً، بأن أزوركم من وقت لآخر، لنلعب اللعبة
نفسها.. ولكن ضعوا في حسبانكم، أن شكلي لن يبقى على حاله.. وإنّما سيتغير عندما
أدخل مراحل جديدة.
الدجاجة الشجاعة
جاءت الدجاجة
إلى جارها الديك باكية، شاكية، تخبره بأنّ الحدأة تستغلّ ضعفها كدجاجة وحيدة
لاعون لها، وتنقضّ على صيصانها الصغيرة، مختطفة صوصاً كلّ يوم.
انزعج الديك
من الحال، وانتصب عرفه غضباً وهو يصيح:
- كوكو.. كوكو..
سآتيكِ غداً في الموعد الذي تُقبل فيه الحدأه لتخطف صوصك.
- وماذا
ستفعل؟
- سأوقفها عند
حدّها، وأضع نهاية لأعمالها العدوانيّة.. لاتخافي.
ارتاحت
الدجاجة لكلام الديك، ولموقفه الإنساني الجميل، وانصرفت تُؤمّل نفسها بالخلاص
من الظلم الواقع عليها.
في اليوم
التالي.. انتظرت الدجاجة قدوم الديك، لكنّه لم يأتِ بسبب مرض مفاجئ ألمَّ به،
فوجدت نفسها وحيدة من جديد في مواجهة الحدأة التي انقضّت على الصيصان لتخطف
واحداً منها.
في هذه
الأثناء، قرّرت الدجاجة الدفاع عن صغارها بنفسها دون معونة من أحد.. وبعد كرّ
وفرّ، وبعد عراك دام وقتاً طويلاً، استطاعت الدجاجة أن تفقأ عيني الحدأة،
وتحرمها من نور عينيها، لكنّها في الوقت نفسه سقطت ميّتةً، ونجا الصغار.
أضمومة ورد
بينما كان
المعلّم العجوز الذي أُحيل إلى التقاعد منذ سنين طويلة جالساً وحيداً حزيناً
يفكّر في رحلة العمر التي قضاها في سلك التعليم، حيث أعطى خلالها جهده وشبابه
ونور عينه لتنشئة الأجيال وتعليمهم، طُرق بابُ داره... هتف من الداخل بصوت
ضعيف:
- من؟
- نحن أستاذ.
فتح الباب،
وإذا به وجهاً لوجه أمام عدد من الرجال يلقون التحية واحداً واحداً.
قال:
- من أنتم؟..
تفضّلوا
أجاب أحدهم:
- نحن جماعة
من تلاميذك القدامى، تذكرناك في هذا اليوم "يوم المعلم العربي"، وجئنا نتفقّد
أحوالك، لما لك علينا من فضل كبير.
ابتسم العجوز.
رحّب بضيوفه، بينما دمعتان سخيّتان تترقرقان في عينيه.
عرّف الرجالُ
بأنفسهم ومهنهم الحالية..
قال الأول:
- أنا
محمّد... أعمل طبيب أسنان.
قال الثاني:
- أنا
توفيق... أعمل مهندساً
قال الثالث:
- أنا جميل...
أعمل تاجراً.
قال الرابع:
- أنا سعيد...
أعمل موظّفاً في إحدى الشركات.
انفرجت أسارير
المعلّم، وأحسّ أن الدنيا تضحك له من جديد، لأن ما قدّمه لم يضع سدى.
أخذ من بين
يدي تلاميذه أضمومة الورد التي أحضروها، فرأى الفل والقرنفل والياسمين
والزنابق، كأنّها تغني وتقول:
"كل عام وأنت
بخير يا مربيّ الأجيال".
رنده تصبح كاتبة
رنده طفلة
ذكيّة مهذّبة وشاطرة.. كلّ يوم وحين تعود من مدرستها ظهراً، تساعد أمّها في
أعمال المنزل، وتحضّر دروسها، ثم تجلس للمطالعة.
موضوع التعبير
الذي أعطتهم إيّاه المعلّمة البارحة كان يقول:
"اكتب موضوعاً
إنشائيّاً تتحدّث فيه عما تريد أن تصبح في المستقبل".
كتبت رنده
أشياء جميلة في هذا المجال.. قالت إنّها تحبّ أن تغدو كاتبة مهمّة، معروفة.
قرأت رنده
موضوعها أمام زميلاتها وزملائها في الصف.
أُعجبت
المعلّمة بأسلوبها الجميل، وعباراتها الرشيقة، وإلقائها الجيد... قالت لها:
- أُهنئك على
هذا يا رنده، وأتمنّى أن تَصِلي إلى ما تريدين.
فرحت رنده
بعبارات المعلّمة وبقيت تسائل نفسها:
- ولكن كيف
يتحققّ حلمي؟.
نامت رنده،
وفي المنام رأت نفسها أديبة كبيرة تقف أمام حشد من الناس، وتلقي ما كتبت، بينما
الأصابع تشير إليها بإعجاب:
- انظروا...
إنّها الكاتبة "رنده سالم".. هذا ما شاهدته في الحلم.. وعندما استيقظت كانت
سعيدة، وحكت لأمها كلّ شيء.
سُرّت الأم..
شجعّت ابنتها قائلة:
- لابأس عليكِ
يا ابنتي.. إن الكتابة هواية رائعة... ولكن عليك بالمطالعة المستمرة.. إقرئي
كلّ ما هو مفيد وممتع، وعندما تشعرين أنّك بحاجة للتعبير عما يجول في ذهنك،
انهضي إلى دفترك، واكتبي عليه.
استمرّت رنده
تقرأ في أوقات فراغها كلّ ما تختاره لها أمها من كتب وقصص علميّة وتاريخيّة
وأدبيّة، وعندما تشعر بالرغبة في التعبير عن شيء ما، كانت تركض إلى دفترها
الخاص، وتسجل فيه ما تشاء.
أسلوبها راح
يتحسّن، وعباراتها الجميلة تلفت نظر المعلّمة التي باتت تعتبرها من الأوائل..
فتخاطب التلاميذ بين الحين والحين:
- افعلوا مثل
رنده.. نمّوا هواياتكم بالمثابرة والجدّ والاهتمام.
بعد عام.. كان
دفتر رنده الخاص قد مُلئ بالكتابة من أوّله إلى آخره، فاقتنت واحداً آخر، وصارت
تخطّ فوق سطوره أشعارها وقصصها وخواطرها.
زميلتها
"منال" كانت تحبّها، وتطلب منها على الدوام أن تعلّمها كيف تكتب بهذا الأسلوب
الجميل... وكانت رنده تجيب:
- الأمر ليس
تعلّماً فقط.. إنّه هواية قبل كلّ شيء.. فهل هوايتك هي الكتابة؟.
- لا أنا أحبّ
الرسم.
- حسناً
بالجدّ والمتابعة تصبحين رسّامة ممتازة.
وأنت يا أحمد
-التفت إلى زميلها- قائلة:
- ستغدو
عازفاً ممتازاً لو اهتممت بعزفك على العود، ونميّت موهبتك.. وكذلك سمير "زميلك"
بإذن اللَّه سيصبح لاعب كرة مشهوراً، لأنه يتدّرب يومياً.
كانت رندة
سعيدة لأنّها سمعت نصيحة أمّها ومعلّمتها، ولأنّها رأت نتيجة التزامها بأقوال
من هم أكبر منها... فقد غدت فيما بعد من الكاتبات الشهيرات، تنشر في الصحف
والمجلاّت، ويقرأ الناس قصصها وأشعارها، ويفتخر بها أهلها وجيرانها، وأبناء
بلدها... قال لها أبوها رافعاً رأسه
- بارك اللَّه
بك يا رنده.. لقد أصبحت عنصراً فعّالاً في المجتمع.
الفأر يحلّ المشكلة
سار الخروف في
المزرعة يلهو ويلعب ويتنقّل من مكان إلى مكان، جارّاً وراءه حبله المربوط
بعنقه، وبينما هو في حالته تلك، وإذا بالحبل يعلق في جذع شجرة.
شدّ الخروف
الحبل فلم يستطع الإفلات، وصار كلّما دار حول الجذع محاولاً تخليص نفسه، قصر
الحبل، وازدادت الأمور تعقيداً.. صاح الخروف مستغيثاً:
- ماع.. ماع..
أيّها الحصان.. أيّتها البقرة.. أيّها الكلب الصديق.. تعالوا إليّ.. أنقذوني.
جاء الحصان
وأمسك بالحبل، وصار يشدّ. أقبل الكلب ينبح ملبيّاً النداء، وصار يشدّ. قدمت
البقرة متثاقلة، متسائلة:
- ماذا حلّ
بالخروف؟.
وعندما عرفت
الخبر، بادرت إلى تقديم مساعدتها وصارت تشد.
كلّ الحيوانات
القوية لم تبخل ببذل الجهد.. لكن دون فائدة.
خرج الفأر
الصغير من وكره مستطلعاً الخبر.. قال:
- ما هذه
الجلبة؟.
قالوا:
- إنّ الحبل
المربوط إلى عنق الخروف قد لُفَّ حول جذع الشجرة، ولم تستطع عضلاتنا القوية
قطعه.
أجاب الفأر:
- أنا أحلّ
المشكلة.
قهقه الجميع
باستخفاف:
- ها.. ها..
ها.. أنتَ؟ ..أنتَ؟..
ابتسم الفأر،
ثم قفز إلى الحبل يقرضه بأسنانه.
وبعد لحظات
كان الخروف يسير برفقة الحصان والبقرة والكلب، عائداً إلى المزرعة.
وفاء كلب
خرج قطيع
الأغنام من القرية في الصباح الباكر قبل صياح الديكة. انطلق وسط البراري
الواسعة والأراضي الخضراء وراح يرعى، وهو مطمئن البال، هادئ الطبع. فقد سمع
صاحبه يقول للراعي قبل الإنطلاق:
- هذا القطيع
أمانة في عنقك يا حسن.. لا تغمض عينيك عنه، ولا تغفل عن مراقبته.
- لاتقلق يا
سيدي.. فأنا سأهتم به، وأرعاه، وأحافظ عليه محافظتي على نفسي.
أجاب حسن، ثم
راح يصغي إلى تتمّة كلام الرجل:
- وأنتَ أيّها
الكلب الطيب.. وصيّتي أيضاً موجّهة إليك.
هزّ الكلب
رأسه بالموافقة.. لكنّ فكرة ما كانت تراوده منذ زمن، وتلحّ عليه بالهروب، وترك
العمل.. قال في نفسه:
- لقد تعبت..
تعبت جداً، وآن لي أن أرتاح، في المرعى.. كان كل شيء حسناً وبديعاً.. السماء
صافية. الماء عذب. العشب وفير، والخراف سعيدة بعد أن أخذت كفايتها من الكلأ
والماء، وبعد أن أطمأنّت على وضعها... فالراعي يهتمّ بها، والكلب يحرسها، ولا
خوف عليها أبداً.. لكنّ الكلب كان في حال غير طبيعية.. فعندما انتصف النهار،
وصارت الشمس في قبة السماء، عاد يحدّث نفسه:
- أنا نعسان..
أريد أن أنام.. لقد أتعبوني بالحراسة والسهر.
غافل الكلب
الراعي، وانطلق يعدو إلى مكان فيه شجر كثيف.
- الجوّ هنا
لطيف، ومناسب للقيلولة.. يا سلام!
تحت أغصان
شجرة كبيرة استلقى، أغمض عينيه وراح يحلم بالأيام القادمة التي سيغدو فيها
طليقاً دون أوامر، ودون مراقبة من أحد، ودون عمل يتعبه.
ساعة. ساعتان.
خمس ساعات.. الكلب لم يرجع.. قلق الراعي عليه قلقاً كبيراً... حزن لغيابه، وأخذ
يفتّش هنا وهناك.. هتف في كلّ مكان:
- أيّها
الكلب.. يا صديقي، ورفيق عمري.. تعال أنا بحاجة إليك.
عندما استيقظ
الكلب من نومه، كانت الشمس قد غابت، والعتمة تغلغلت في المرعى شيئاً فشيئاً..
قال:
- عو.. عو..
لن أعود إلى الحراسة بعد اليوم، ليحضروا كلباً سواي إن أرادوا، أو تعتمد الخراف
على نفسها في الذهاب وفي الإياب.. لقد أصبحت عجوزاً، ولا قدرة لي على العمل.
من قلب
الليل.. من سكونه المخيف، خرج الذئب يتسللّ كالعادة، يفتّش عن "دجاجة حرش" أو
عن "أرنب بريّ" أو عن أيّ صيد يملأ به معدته الخاوية.
- ماذا
أرى؟... إنّه قطيع غنم بكامله! يا لسعادتي!
اقترب الذئب
من القطيع كاللص. مشى بحذر وحيطة شديدين، كي يستطلع الوضع، ويعرف كيف يتصرف.
وعندما تأكّد
من عدم وجود الكلب برفقة الخراف، قهقه عالياً، ثم انقضّ عليها بشراسة، مصدراً
صوتاً أفزعها:
- سأكتفي
اليوم بهذا الحمل الصغير، وسأعود غداً.
بين لحظة
وأخرى كان الذئب يعدو وفي فمه الحمل، بينما الخراف تطلق ثغاء خائفاً يملأ
المكان.
نهض الكلب من
رقدته.. هب ينبح:
- عو.. عو..
إنّه صوت الأغنام.. ماذا جرى؟!.. ماذا هناك؟!..
ودون أن يفكّر
بما قررّه من قبل، انطلق صوب القطيع، وهو يكاد يسابق الريح.
أضيفت
في10/03/2006/ خاص القصة السورية/ عن مجموعتها حكمة الهدهد الصادر
عن اتحاد الكتاب العرب (للتعليق
والمشاركة بالندوة الخاصة حول أدب الطفل)
لمـسة حـنان
بقلم
الكاتب:
سامي محمود طه
البيت مرتب
نظيف، يتوزع في أرجائه أثاث أنيق.. وعابد ذو السنوات السبع يجلس منزوياً على
إحدى الكنبات المواجهة لجهاز التلفاز.. على الطاولة أمامه مجموعة أجهزة تحكم
آلي.. جهاز تحكم بالتلفاز، وجهاز تحكم بالمكيف، وجهاز تحكم بستائر البيت وجهاز
تحكم بألعابه الإلكترونية.. ويقف إلى جواره مطيع، فهل تعلمون من هو مطيع؟! مطيع
هو رجل آلي (روبوت) أكثر الأجهزة طاعة وتنظيماً. اشتراه أبو عابد الذي يمضي
أكثر وقته مسافراً بسبب ارتباطه بأعمال تجارية في بلد بعيد.. وأم عابد هي
الأخرى، طبيبة مشهورة تمضي أكثر وقتها في ممارسة مهنة الطب، وحضور ندوات،
وحالات تستدعي حضورها.. وعابد!
قال مرة
لأبيه: أريدك إلى جانبي لتعلمني ممارسة الألعاب الإلكترونية.
فقال أبوه:
بسيطة
قال عابد:
أريدك إلى جانبي لأستفيد من علمك
فقال أبوه:
بسيطة
قال عابد:
أريدك إلى جانبي لأستمتع برؤيتك
قال أبوه:
وهذه أيضاً بسيطة!
ثم قال عابد
لأمه: أريد أن تقدمي لي الطعام الشهي، والحلوى.
قالت أمه: لك
ما شئت من أطايب الطعام والشراب والحلوى.
قال: وأريدك
أن تبقي إلى جواري لتغني لي وتقصّي على مسامعي حكاياتك الجميلة قبل أن أنام.
قالت أمه: ولك
هذا أيضاً. فرح عابد كثيراً، فقد نال وعوداً بتنفيذ كل أمنياته..
لكنه فوجئ بعد
أيام قليلة وهو يرى صندوقاً كرتونياً كبيراً يُحمل إلى داخل البيت، ويُفتح
فيتَبدّى فيه رجل آلي له هيكل البشر.. يتحرك ماشياً بخطوات منتظمة.. وأكثر من
ذلك فقد اكتشف عابد أن هذا الرجل الآلي له قدرة على النطق والمحادثة.. إنما
بكلمات متقطعة.
قال أبو عابد
وأم عابد: هذا مطيع.. كل ما يطلب منه يلبّى. يعلمك ممارسة الألعاب الإلكترونية،
ويريك صور من تحب، حين تريد. وهو مبرمج بحيث يوقظك صباحاً ويمضي إلى المطبخ
فيعد لك الوجبات الشهية.. وينظف البيت، ويذكرك بمواعيد الدراسة واللعب.. ويقيس
حرارتك كل يوم للاطمئنان على صحتك.. ويقص على مسامعك حكايات شيقة في مواعيد
محددة. ويسمعك إذا شئت أغنيات مسجلة، ويجيب على أية أسئلة تطرحها.. باختصار إنه
خادمك الأمين يا ولدي.. سيساعدك على تحمل غيابنا عنك..
سُرّ عابد
كثيراً بهذا الخادم الأمين.
صباح اليوم
التالي سافر أبو عابد.. وعادت أم عابد تمضي معظم وقتها بعيداً عن ساعات عمر
ولدها.
بداية:
أخذ عابد يصدر
أوامره، فينفذها مطيع في الحال.. ضحك كثيراً لحديث الرجل الآلي الذي كان ينطق
كلمة كلمة.. وأعد مطيع وجبات طعام شهية ثم وقف إلى جانب الطاولة بانتظار أن
يفرغ عابد من طعامه ليعيد تنظيف الأواني وترتيبها. مرة، دعاه عابد ليشاركه
طعامه فرد مطيع: لا شكراً -سيدي- أنا- أتناول- كل سنة وجبة- واحدة" ضحك عابد
لهذا الرد.. وهزّ رأسه ساخراً. فأيّ رجل يبقى دون طعام سنة كاملة؟!
بعد مضي
أيام.. إسبوع.. بدأ الضجر يتسلّل إلى نفس عابد.. وأخذ يمقت وجود مطيع، ويحاول
إجهاده بإصدار أوامر لا جدوى منها.. ومطيع ينفذ كل الأوامر ومرة ركض عابد
باتجاه مطيع أخذ يركله برجله.. وبقي مطيع جامداً لا يتحرك. رنّ جرس الهاتف..
أسرع عابد يرد، كان على الطرف الآخر والده.
سأله: الأب
مالي أسمع صوتك حزيناً.. هل يقصر مطيع في خدمتك؟
عابد: لا..
إنه ينفذ كل ما أطلب.
الأب: إذاً ما
الذي يحزنك؟
عابد: لا أريد
مطيعاً.. أريد أبي.. مطيع ليس أبي.. أريده أن يقبلني ويمسح على وجهي بعطف وحب..
الأب: فهمت..
أعدك أن أختصر أسفاري وأمضي بين حين وآخر وقتاً طويلاً إلى جوارك.. إلى اللقاء
يا ولدي.. وبعدها رن جرس الهاتف أيضاً.. كانت على الطرف الآخر أم عابد..
قالت الأم:
عابد حبيبي.. هل تتمنى شيئاً يعجز عنه مطيع؟ إنه مبرمج لتلبية كافة رغباتك.. رد
عابد بحزن أجل يا أمي.. أتمنى أن أغفو ويدك تداعب شعري، أتمنى لمسة حنانك التي
اشتقت لها كثيراً. مطيع ليس أمي.. أريد أمي.
قالت أم عابد:
ولدي الحبيب.. لا تحزن أرجوك.. أعدك أن أعطيك من وقتي زمناً أكبر أمضيه إلى
جوارك.. سامحني يا حبيبي..
وضع عابد
سماعة الهاتف مكانها.. أحس بفرح كبير لأنه نال هذه المرة وعوداً أكبر.. إنه بلا
شك يحب مطيعاً.. لكنه الآن يجلس منتظراً أن ينال ما عجز عن تقديمه خادمه
الأمين.. مطيع..!!!؟!
سالم.. وبـلاد العباقرة
"ما أقسى أن
يتألم الذين نحبهم، ونحن عاجزون عن تقديم ما يخفف آلامهم" ردّد الولد سالم هذه
العبارة، ودموع حزن تغادر عينيه.. تمشَّى مبتعداً عن بيت أهله، حيث يرقد والده
مريضاً يئن من الألم.. لقد حضر أكثر من طبيب لمعالجته.. قدّموا النصح والأدوية
ولا جدوى.. اجتمع إلى جواره الأهل والأقارب.. وما يزيد الأمر سوءاً بكاؤهم عند
سريره.. أبو سالم يتألم، وسالم يتمنّى لو يقاسم والده آلامه ومرضه.. إنما
الأمنيات أمر، وتحقيقها أمر آخر.. بين خواطره وأمنياته غاب سالم في شرود.. وما
أفاق من شروده إلا عند مشارف الغابة المجاورة.. كان الوقت غروب الشمس.. والغابة
المكونة من عشرات أشجار السنديان المتماسكة بدأت تخلع ثوب النهار لترتدي حلة
الليل السوداء..
فجأة بدا
لسالم أمر غريب مدهش.. رأى إبهاراً نورانياً عند مشارف الغابة.. خاف.. أراد أن
يصدر لساقيه أمر الهروب بعيداً. إلا أنه فوجئ بمخلوقين غريبي الشكل يقفان
أمامه، لكل منهما قامة قصيرة لا تتجاوز المتر تقريباً. ورأس كل منهما خالٍ من
الشعر تماماً، وملامحهما تكاد تتطابق.. ويغطي جسد كل منهما ثوب أخضر.. لم يعرف
سالم الخوف كما عرفه حينها. حتى إنه بدا عاجزاً عن الحراك والبكاء والكلام. صدر
عن أحدهما ما يشبه الكلام، إنما بسرعة كبيرة جداً، لم يتسنّ لسالم معها فهم أي
كلمة فلم يرد.. عندها أدرك أحد المخلوقين السر، وبسرعة كبيرة غاب ثم عاد، ومعه
جهاز صغير جداً.. وعندما تكلم من جديد كان حديثه مفهوماً واضحاً..
خاطبه الكائن
الغريب: عرّفنا على نفسك..
قال سالم بخوف
شديد: من أنتم أولاً؟ وماذا تفعلون هنا؟
ردّ الكائن
الغريب: اسمي ت 8، ورفيقي ت9.. نحن من كوكب العباقرة.. كان أجدادنا على الأرض
منذ زمن بعيد، واستطاعوا بفضل عملهم أن يصلوا إلى الكوكب الذي نعيش عليه الآن..
وهو كوكب غني جداً بكل شيء.. بثرواته، بطبيعته باستقراره.. أجدادنا كانوا أصحاب
حضارة متفوقة على الأرض وعندما تعرفوا ميزات كوكبنا الجديد، وآلمهم ما يحدث على
الأرض من كوارث وحروب ودمار، بنوا سفينة فضاء وانطلقوا بما يحتاجونه من معدات..
وكان عددهم قليلاً.. عشرة رجال وعشر نساء.. أقاموا مختبراتهم على كوكبنا
البعيد، وبفضل علمهم أصبحنا على ذلك الكوكب أصحاب حضارة تفوق تلك التي على
الأرض مرات ومرات.. علماً أن كوكب العباقرة ما كان مسكوناً قبلهم.. بالمناسبة،
لن أكمل قبل أن تخبرني لماذا تبدو مضطرباً؟ من أنت؟
-رد سالم:
اسمي سالم- عمري أربعة عشر عاماً.. أقيم مع أهلي في ذلك البيت الحجري القديم،
ويحزنني مرض أبي.. إنه يتألم.. يتألم ولم نستطيع تقديم ما يخفف ألمه.. أرجوكما
هل بإمكاننا مساعدته؟ قلتما حضارتكم تفوق مرات ومرات حضارة أهل الأرض.. لا شك
أن بإمكانهم مساعدته.. حاولا من أجلي أرجوكما..
قاطعه ت8: لقد
استطعنا هناك التخلص من الأمراض.. لا آلام ولا علل على كوكبنا.
تابع ت9:
بالتأكيد نستطيع مساعدة والدك.. إنما لنا شروط.
قال سالم
بلهفة: أوافق أياً كانت الشروط.. المهم أن يتخلص من آلامه ويعود سليماً معافى..
وتعود البسمة إلى وجهه الحبيب.. أرجوكما، إنني مستعد للتضحية بعمري من أجله..
تبادل ت8 وت9
النظرات، ثم نزعا الجهاز الصغير الذي يجعل حديثهما واضحاً وأخذا يتخاطبان بسرعة
هائلة.. وقف سالم حائراً. وبعد قليل أعيد تشغيل الجهاز.
قال ت8: إن
أعدنا إلى والدك عافيته وستمضي معنا إلى كوكبنا.. وتقيم في ضيافتنا ثلاثة
أشهر.. ماذا قلت؟
قال سالم:
ماذا؟ أمضي معكم ثلاثة أشهر؟ ولكن ماذا ينفعكم وجودي؟!
رد ت9: قلت
إنك مستعد للتضحية.. أم أنك نسيت آلام والدك..
وبلهفة كبيرة
قال سالم: أمضي معكم حيث تشاؤون.. لكن أرى أبي أولاً سعيداً بشفائه..
قال ت8: لك ما
تريد.. أخبرنا الآن ما هي الآلام التي يعاني منها والدك ثم امض إليه وأحضره إلى
طرف الغابة.. ولا يأتي معه سواك.. وبعد لحظات يعاد والدك إلى البيت وقد تخلص من
آلامه إلى الأبد.. هيا، تحدث عن مرضه وألمه ثم انطلق وعُد به فوراً. لا تتأخر..
وإياك أن تخبر أحداً بوجودنا.. قص سالم على مسامعهما قصة مرض أبيه، والآلام
التي يعاني منها وما قال الأطباء حول حالته. وبعدها انطلق بسرعة قصوى نحو
بيته.. وحين وصل اقترب من والده.. ورجاه أن يقبل بالمضي معه إلى طرف الغابة
بمفرده.. وحين بكى سالم، أحس والده برغبة في تحقيق ما يريد.. فطلب من الجميع أن
يتركاهما يمضيان وحدهما، مدعياً أنه يريد أن يتمشى قليلاً برفقة ولده سالم..
سار أبو سالم
متكئاً على ذراع ولده.. وحين وصلا إلى طرف الغابة، أجلسه سالم على صخرة..
وبسرعة خاطفة تقدم منه ت8، حتى أن أبا سالم لم ينتبه لوجوده.. نظر إليه ت8 وغاب
قليلاً ثم عاد، وقدم لسالم زجاجة صغيرة.. وأمره أن يسقيها لوالده في الحال..
بدوره قدم سالم الزجاجة لوالده، وتوسل إليه أن يتجرعها ففعل الأب.. وما هي إلا
لحظات قليلة حتى أحس أبو سالم بالقوة تسري في جسده وغادره الألم.. وقف.. نظر
إلى نفسه. ثم عاد إلى ولده سالم. أحس بفرح كبير.. وأخذ يصيح الحمد لله.. لقد
شفيت. شكراً لك يا ولدي.. ولكن أرجوك أخبرني ما السر؟.. ما الذي حدث..
لم يجب سالم.
إنما ارتسمت ابتسامة كبيرة على وجهه، وانتهز فرصة انشغال والده بحيويته
الجديدة.. وتركه وحيداً ومضى. كان الليل حل، وسالم اختفى وسط عتمة الغابة.. أحس
الوالد باختفاء سالم، فناداه بصوت خفيض بداية: سالم.. سالم فأتاه صوت ولده من
بعيد: وداعاً يا أبي، وداعاً..
خاف الأب
كثيراً.. أراد أن يجري داخل الغابة، غير أنه سمع هديراً مختلفاً عن صوت أي
مركبة يعرفها.. ثم ارتعد وهو يرى ظلام الغابة يتحول إشعاعاً وهاجاً.. وبعدها
أخذ يرقب جسماً كروياً متوهجاً انطلق من طرف الغابة الآخر وأخذ يعلو بسرعة
خاطفة.. حتى أن أبو سالم لم يستطع تبيان ملامح هذا الجسم الكروي الغريب.. إلا
أن إحساساً بالحزن والأسى راوده وقد تيقن أن ولده على متن ذلك المركب الغريب
فأخذ يعدو باتجاه بيته مذعوراً. وحين وصل سأل الحاضرين: ألم يعد سالم!؟
***
تجاوز المركب
مسافات كبيرة جداً خلال زمن قصير. كان ت8 وت9 يراقبان من حجرتهما تصرفات سالم
الذي بدا مضطرباً خائفاً وهو في حجرته المستقلة المغلقة. وصله صوت ت 8: ليس
المهم أن تراني.. اسأل ما بدا لك. فقد بتنا على وشك الوصول..
قال سالم:
أريد أن أعرف كيف تمكنتم من علاج والدي بهذه السرعة؟ ثم لِمَ اصطحبتموني معكم؟
ماذا يفيدكم وجودي؟.. وهل سأعود فعلاً لأرى أهلي من جديد؟
أجاب ت8:
بالنسبة لعلاج والدك.. لقد تمكنا على كوكبنا من التخلص من الأمراض كما سبق وقلت
لك، فنحن نمنح جهاز المناعة في الجسم قوة تساعده على التخلص من المرض.. لا شك
أنك تعلم أن في جسم كل كائن جهاز مناعة يحارب المرض، عندكم أحياناً يتغلب المرض
على هذا الجهاز فيصاب الجسم أما نحن فنمنح القوة -كما قلت لك- لهذا الجهاز
فيغدو قادراً على قهر أي مرض حالاً.. إنه دواء اكتشفه أحد علمائنا ومنه أعطينا
والدك.. فنحن نعطي كل جسم مقداراً يتناسب مع قدرته على التحمل..
أما عن وجودك
فهو يفيدنا كثيراً يا سالم.. ولو لم نحضرك لأحضرنا غيرك.. نحن على كوكب
العباقرة، ورغم تقدمنا الذي لا مثيل له نريد أن نتعلم منكم أمراً مجهولاً
تماماً لدينا. وأما عن عودتك فنحن دائماً ملزمون بأية وعود نقطعها.. ستعود أجل.
قال سالم
مستغرباً: ما الذي يمكنني تعليمكم إياه؟
رد ت 9: نريد
أن نتعلم معاني التضحية.. الحب الفرح.. الحنين.. لقد عمد أجدادنا إلى إحداث
تغييرات في طبيعة تكويننا، في بناء أجسادنا.. فقاموا بتعطيل المراكز والخلايا
المسؤولة عن الأحاسيس والمشاعر منذ القديم وأصبحت أجيالنا تنشأ كالآلات دون
أحاسيس.. لقد تعرفنا على هذه الأحاسيس من خلال وفد زار كوكبكم منذ سنتين،
فتدارسنا إمكانية وأثر إدخالها إلى عالمنا من جديد، وتأكد لنا أن الأحاسيس ركن
هام وجميل من أركان الحياة.. ستجري عليك بعض الاختبارات، علنا نستطيع التوصل
إلى ما يبعث مشاعرنا وأحاسيسنا..
كان سالم ينصت
باستغراب، وسأل: هل ستجرون على جسدي تجارب؟ اسألوني إن شئتم وأنا أجيب على أي
سؤال.
تابع ت 9:
نعدك ألا تصاب بأذى.. سنراقب علمياً تفصيلياً خلايا جسدك.. وأنت، استسلم
لمشاعرك.. افرح لشفاء والدك، واحزن لفراق أهلك، واغضب لأنك هنا بلا أصدقاء،
واشعر بالشوق لأهلك جميعاً، لأنك ضحيت من أجل من تحب.. نحن سنراقب أحاسيسك..
ومركز الإحساس والخلايا المسؤولة عنها.. سنراقب دماغك ونخاعك الشوكي للتعرف على
الأحاسيس منذ تكونها وحتى اكتمال نضجها.. ثم نقوم بانتزاع خلايا من جسدك، علنا
نتمكن من معالجتها واستكثارها بما يضمن إدخالها من جديد إلى أجيالنا المقبلة.
قال سالم:
ولكن قلتم أن أجدادكم كانوا على الأرض.. أي أنكم بشر مثلنا. فلماذا عمد أجدادكم
إلى إلغاء المشاعر والأحاسيس من حياتكم؟!
رد ت 8:
برّروا ذلك بأن المشاعر هي المسؤولة عن الكوارث والدمار والحروب التي حدثت على
الأرض.. واعتقدوا أننا بذلك سنحقق ثورة علمية وحضارة لا تفوقها حضارة ونعيش بلا
متاعب على كوكبنا الجديد.. والحقيقية توصلنا إلى هذه الحضارة إلا أننا أصبحنا
كالآلات.. الحياة المتكاملة، وعندما يلغى جانب منها يؤثر سلباً على النواحي
الأخرى.. الآن عليك أن تستعد.. منها نحن على وشك الهبوط على كوكبنا. سأفتح إلى
جوارك نافذة يمكنك أن تلقي نظرة إن شئت.. فجأة، فتحت نافذة صغيرة عند رأس
سالم.. نظر من خلالها فبدا له كوكب العباقرة صغيرا، جميلاً.. مختلف الألوان..
وعندما اقترب أكثر شاهد نماذج أبنية لم ير مثلها من قبل.. كانت كل مجموعة من
البيوت محاطة بسور ضخم.. أما داخل السور فلها أشكال المثلث والمربع والدائرة
وثمة أشكال هندسية أخرى..
لم ينتبه سالم
لتوقف المركبة.. لقد حطت على برج عال بكل هدوء وأمره ت8 بالاستعداد للمغادرة..
وحين غادروا المركبة انتقلوا بسرعة خيالية إلى منزل بعيد.. كان سالم يشعر برغبة
كبيرة في النوم، فتركه ت8 وت9 ومضيا نحو مختبر كبير، استعداداً للبدء بالعمل.
وبسبب حالة النعاس الشديدة التي أصابت سالماً فقد استمر في إغفاءته ست ساعات،
لم يكن سالم يعلم أنها تعادل يوماً كاملاً على كوكب العباقرة.. فاليوم على هذا
الكوكب لا يتجاوز ست ساعات..
حين استيقظ
جاءه صوت ت8: المنزل مجهز بما يلزم، كل ما تحتاجه. أما عن الطعام فستجد علبة
أقراص على الطاولة.. تناول كل يوم قرصاً واحداً..
قال سالم:
ماذا؟.. الطعام أقراص! ثم فتح العلبة، وضحك سخرية.. فجاءه صوت ت 8 من جديد:
تناول أحد هذه الأقراص الآن وبعدها أخبرني إن كنت بحاجة للطعام. هز سالم رأسه
غير مقتنع، تناول قرصاً وابتلعه.. بعد قليل انتابه شعورٌ غريبٌ.. أحس كأن معدته
امتلأت بأشهى المآكل التي يحبها..
خاطبه ت 9:
والآن ما رأيك بوجبة دسمة؟
قال سالم:
لا.. لا: إنني ما عدت جائعاً.. لقد شبعت...
دخل سالم
الحمام، واغتسل ثم عاد وجلس على كرسي مثبت..
حدثه ت 8: قبل
أن تباشر العمل، سنريك عالمنا.. ستطلع على كوكبنا بالتفصيل وأنت في مكانك. تبدت
أمام سالم شاشة عرض، أخذت الصور تتلاحق.. رأى بداية مشهداً للمجرة الكونية
وإشارتين ، إحداهما إلى الأرض والأخرى إلى كوكب العباقرة.
قال ت8: إن
كوكبنا ينتمي إلى المجرة التي تنتمي إليها الأرض.. لا زال هناك الكثير من
الأجرام الفلكية لم تكتشف بعد، وتحتاج جهداً كبيراً.. إلا أن المسافة التي
تفصلنا عن كوكب الأرض بعيدة، فنحن في الجهة المقابلة لها بعد الشمس.. والآن
سترى حياة كوكبنا بالتفصيل.
تتابعت الصور
أمام عيني سالم.. رأى صوراً لكوكب العباقرة خلال صيف وشتاء وهما الفصلان
الوحيدان المعروفان على هذا الكوكب.. ورأى حلول الليل والنهار ثم صور مختبرات
ضخمة تنتشر على أرجاء الكوكب، وحركة الكائنات عليه.. لم ير أسواق بيع وشراء،
فوضح له ت8 أن احتياجات الكائن هنا تصله إلى مكان إقامته علماً أن الطعام
اليومي لكل كائن قرص كالذي تناوله سالم.. الجميع هنا يفكرون، يعملون.. ومما
أثار فضول سالم رؤية مبان عملاقة مصنوعة من الزجاج، تبين له أنها ليست معدة
للسكن، إنما هي أحواض زراعات، وحظائر حيوان.. لاستخراج المواد المكونة للأقراص
المغذية.. وتوفير مصدر الأكسجين..
دهش سالم
كثيراً مما رأى، وبعد زمن قصير جاءه صوت ت8، عليك الاستعداد للبدء بالعمل..
سيفتح أمامك باب، ادخله.. واجلس على كرسي ستجده أمامك داخلاً.. ثم سيهبط ببطء
جهاز كالخوذة يحتضن رأسك.. لا تخف لن نسبب لك أي أذى.. فقط استسلم لأفكارك بعد
أن يحل الجهاز على رأسك.. فكر بشفاء والدك، إنه معافى والبسمة رفيقة وجهه، ربما
كان حزيناً لأجلك، إنما سيزول حزنه عندما تعود قريباً إليه.. لقد وعدناك أن
إقامتك ثلاثة أشهر.. وهي تعادل أقل من شهر على كوكب الأرض.. هيا نفذ.
أطاع سالم
الأوامر.. نفذ ما طلب منه بدقة.. حتى أن الخوف بدأ يغادره رويداً رويداً..
وعندما كان الجهاز يحتضن رأسه أخذ يتذكر السبب الذي من أجله أتى إلى هنا إنها
الآلام التي كان والده غارقاً بها.. لقد وفر لوالده الشفاء بفضل تضحيته.. سر
كثيرا بهذه التضحية..
في اليوم
التالي أعيد سالم إلى الكرسي ذاته.. بل إلى الوضع نفسه تماماً.. ويومها استحضر
صور أهله وأحبته.. ثارت أشواقه إليهم.. أحس بحزن كبير لفراقهم وتمنى لو يحل
اليوم الذي يعود ليلتقيهم من جديد..
وتتالت
الأيام.. اعتاد سالم وضعه على ذلك الكرسي.. وكما أراد ت8 وت9 تبدلت أحاسيسه بين
فرح وحزن، وشوق، وغضب.. وكل المشاعر التي يمكن للإنسان أن يعرفها.. وفي الأيام
الأخيرة أخذ يبكي دموع اشتياق لأمه وأبيه واخوته وأحبته..
قبل اليوم
الأخير من إقامة سالم على كوكب العباقرة فوجئ بصوت ت8 يبلغه: لقد انتهى العمل
سترحل غدا عائداً إلى الأرض.. أما اليوم فقد أعددنا برنامجاً ختامياً لزيارتك
استعد. سيأتيك من يحضرك إلينا.
وخلال لحظات
قليلة، فتح الباب، الخارجي للمكان الذي يقيم فيه سالم.. ورأى مركبة كروية
صغيرة.. أشير إليه أن يدخلها ففعل.. كان لهذه المركبة نوافذ بحيث أمكنه رؤية
مركبات كثيرة مثلها تنتقل في الهواء بسرعة كبيرة، وكأنما تسير على طرق ومسارات
دون أية حوادث.. اقتربت مركبة سالم من نافذة إحدى الأبنية العملاقة، فُتحت
النافذة وتوقفت المركبة عندها.. ثم خرج منها جسر انزلق داخل المكان، فغادر..
أخذوا ينظرون إليه بعيون مسددة، ويتبادلون أحاديثاً لم يستطع فهم أي كلمة منها
وقف في الصدارة ت8 وكأنما هو قائد الجميع أشار إليهم أن ينصتوا ثم قال
مستخدماً.
جهاز الإبطاء:
لقد تمت التجربة بنجاح.. نفذتَ ما طلب منك بشكل جيد.. ونحن سنحاول أن ندخل
تعديلاً على أجيالنا القادمة بحيث يعرفون ما خفي عنا.. ويحسون ما لم ندركه من
مشاعر.. بالتأكيد ستكون حياتهم أروع من حياتنا فنحن رغم ما ننعم به من تقدم إلا
أننا نفتقد جزءاً نعتقد أنه كبير جداً.. وسنحاول إعادته إلى تكوين أجساد
أجيالنا من جديد.. والآن: ما الذي لفت انتباهك أكثر في حياتنا؟
أجاب سالم: كل
شيء.. كل شيء.. رأيت كل جديد.. ما أثار استغرابي السرعة التي تتميز بها
حياتكم.. سرعة في الحركة، في الكلام، في تنفيذ ما ترغبون به.. حتى أن يومكم
سريع.. وأردت أن أسألكم: كيف تعيشون؟ أليس لكل منكم أب وأم وأخوة.. أسرة؟
رد ت8: أما عن
السرعة، فهي أحد الأدلة على تطورنا وحضارتنا الكبيرة.. علماً أن هذه السرعة
منتظمة.. فالوقت هام جداً ويجب أن يحسن استغلاله ما أمكن.. وأما من حياتنا
والروابط الأسرية، فأقول قد يحدث هذا عندما تعود إلينا المشاعر.. الحقيقة لا
توجد أية روابط أسرية تجمع بيننا.. فالحمل والولادة، وكل شيء يتم في المراكز
العلمية.. يربى الواحد منا حتى يغدو قادراً على الانتقال إلى المرحلة الثانية
في الحياة.. ثم المرحلة الثالثة.. وهكذا.. المهم.. لا تشغل بالك بنا.. ستحسن
حياتنا بالتأكيد.. هيا، استعد.. فبعد زمن قصير ستنطلق في رحلة العودة إلى
الأرض.. تقدم منه ت9 قائلاً: حتى أسماؤنا.. كل منا يُلقّب بحرف وعدد مرافق..
هذه هي أسماؤنا هذا ف1 وهذا ف4 وهذا س6.. وهكذا.. والآن لقد اتفقنا على تقديم
هدية لك مكافأة على ما قمت به من أجلنا..
قال سالم: لقد
نلتُ مكافأتي قبل حضوري.. أريد العودة فقط.
خاطبه ت 8: لا
بد من قبول الهدية.. شريط صغير عليه تسجيل لطريقة تحضير علاج وتقوية جهاز
المناعة في الجسم. فهذا سيساعدكم كثيراً في التخلص من الآلام. وسأعلمك طريقة
الاستفادة من هذا الشريط.. تعلم سالم كيفية الاستفادة.. وتسلم الهدية..
وفي الصباح
كانت المركبة بانتظار سالم.. وحين استقر داخلها انطلقت بسرعة كبيرة، متخذة مسار
العودة، مجتازة الملايين من الأجرام والنيازك والشهب. وحين دخلت المركبة مجال
الأرض كان سالم يجلس منتبهاً.. بعد قليل، جاورت المركبة حدود الغابة.. ثم حطت
عند طرفها بسلام، وفتح بابها فغادرها سالم فرحاً..
وعندما انطلقت
المركبة عائدة أخذ سالم ينظر إلى نفسه كأنه غير مصدق ما حدث ثم ما لبث أن جرى
نحو بيت أهله.. دخل البيت.. كان عدد كبير من أهل القرية يجتمعون في بيت الأسرة
كأنما يعزون أبا سالم بولده.. وعندما رأوه، استغربوا جميعاً. حتى أن أمه أغمي
عليها.. أسرع والده يتلمسه ويقبله.. كان سالم مجهداً فقال: إنني بخير.. بصحة
جيدة.. كل ما في الأمر أنني متعب.. أرجوكم اتركوني أخلد الآن للراحة.. بعدها
أحدثكم بما جرى.. رافقه والده إلى غرفته، أجلسه على السرير.. ثم قال له: ربما
كنت أعرف شيئاً مما حدث.. لكن أرجوك يا ولدي، قبل أن تحدث أحداً بشيء أطلعني
على ما ستبوح به فهناك الكثير من الأمور الصادقة علينا ألا نتفوه بها لأحد..
لأنها أمور غريبة قد يتهم قائلها بالجنون.. أو الكذب.. وأعتقد.. أعتقد أن
حكايتك من هذه الأمور..
قال سالم:
يهمني أن تعرف أنني غبت من أجلك.. من أجل آلامك، والحمد لله ها أنت عدت سليماً
معافى.
قال أبوه:
فكرت في هذا.. علماً أنني ما استطعت تفسير ما حدث.. والمهم أنك عدت والحمد لله
على سلامتك.. إنما هل تعدني بما طلبته منك؟
رد سالم: أعدك
يا أبي.. ولكن معي هدية من المكان الذي كنت فيه. أعتقد أنه سيكون لها شأن كبير
بين الناس.. ويجب علينا تقديمها لمركز علمي، أو لطبيب قال أبوه: سنتفق على
هذا.. أجل سنتفق.. المهم الآن اخلد للراحة.. نم واسترح وعندما تستيقظ تذكر أنك
وعدت والدك أن يكون مفتاح سرك..
ابتسم سالم..
وابتسم أبو سالم.. تعانقا من جديد.. وأخذ الأب يمسح بحنان رأس ابنه سالم الذي
استسلم لنعاسه وكاد يغفو.. ثم سار متثاقلاً نحو سريره.. وما هي إلا ثوان حتى
كان يغط في نوم عميق عميق..
البذور العجيبة
كان بائع
الصحف اليومية، يتجول، وهو ينادي بأعلى صوته: "اقرؤوا صحيفة اليوم.. صحيفة
اليوم.. أخبار العلم.. جديد العلم.. البذور العجيبة -جديد العالم نزار" ثمة
أناس اشتروا الصحيفة وآخرون يتجمعون بغية الإطلاع.. بينما مضى بائع الصحف نحو
شارع آخر يطلق صيحاته المعلنة..
"حقاً، إنه
خبر يستحق الانتباه" قال بعضهم.. وسرى حديث البذور العجيبة بين الناس بسرعة
فائقة.. فالعالم نزار ابن مدينتنا.. وما زاد اهتمام الناس إعلانه أنه سيجري
تجارب على هذا الاكتشاف على مرأى من الناس في الحدائق العامة..
"ما الحكاية
البذور العجيبة؟" سألني والدي.
فقلت:
الأقاويل تدّعي أنك بعد أن تغرسها تنمو بسرعة خيالية فلا يمر يومٌ واحدٌ على
زراعتها حتى تنمو وتزهو وتثمر..
قال أبي: يا
إلهي.. أيعقل هذا!! وهل يتعلق الأمر بنبات محدد؟
قلت: الأقاويل
أيضاً تؤكد أن بذور أنوع أي نبات إذا عولجت كما يريد العالم نزار يمكن أن تحمل
هذه الصفات.. على كل حال غداً موعد التجربة سيعرض للناس اكتشافه مجرباً على
بذرة بندورة.. سيحضر أناس كثير غداً لا شك.. فالجميع متلهفون للرؤية بعد أن
سمعوا..
قاطع أبي
حديثي: اطمئن.. سنكون من الحاضرين..
صباح اليوم
التالي، تجمع مئات من البشر في الحديقة العامة، المكان الذي اختاره العالم نزار
لتجريب بذوره العجيبة وكان من بين الحضور علماء مهتمون.. توقفت سيارة تكسي قرب
مدخل الحديقة.. ترجل منها العالم نزار يحمل حقيبة صغيرة بيده ويتقدم واثقاً..
اخترق جموع الحاضرين حتى توسطهم.. ثم طلب أن يفسح المجال له لبدء العمل.. وحين
أصبحتْ أمامه فسحة كافية. فتح حقيبته وأخرج علبة زجاجية صغيرة.. فتحها واستخرج
من داخلها بذرة.. غرسها بيده في تربة الحديقة وطلب إلى الناس أن يراقبوا ما
سيحدث في زمن قياسي. لم يطل انتظار الناس فبعد قليل نمت فوق التراب نبتة
البندورة وراحت تنمو أكثر فأكثر والناس بين مؤمن بالعالم مصدقٍ لما يرى، وبين
مشككٍ فيما يرى.. وبين مدّعٍ أن هذا ما هو إلا سحر وما هي إلا ساعتين حتى تبدت
على النبتة براعم سرعان ما تفتحت وأصبحت أزهاراً ولم تلبث أن تحولت ثمار بندورة،
بدأت صغيرة ثم أخذت تكبر حتى اتخذت حجماً طبيعياً. وبعد مضي ثلاث ساعات حصل
العالم على ثلاث حبات بندورة ناضجة، قطفها، واقتلع.. نبتة البندورة من جذورها
بصعوبة فائقة حيث وضعها في كيس أحضره -ربما- لهذا الغرض صفق الناس بإعجاب
شديد.. وأخذت تعليقاتهم تشيد بالعلم والعلماء.. وخصوصاً نزار الذي يجب أن يلقى
كل تشجيع لمتابعة بحوثه... ثلاثة رجال فقط، من بين جموع الحاضرين ما صفقوا..
وحين بدأ الناس ينصرفون بقوا هم في أمكنتهم.. إنهم العلماء: بسام -وسعيد-
وإياد.. وحتى بعد أن غادر العالم نزار مزهواً وعلى وجهه ابتسامة النصر تبادل
الرجال الثلاثة نظرات حذرة وتساءل بسام: ما الذي حدث؟ ما الذي رأيناه؟
رد سعيد:
علينا أن نتريث في أي حكم.. وفي النهاية كل جهد علمي مشكور..
أضاف إياد:
نحن أصحاب خبرة في مجال علم الأحياء.. علينا التريث -كما قلت- في أي حكم لكن في
أعناقنا مسؤولية مقارنة فائدة الإختراع الجديد وضرره. فإن كان الضرر أكبر من
النفع يجب أن نجتهد في تطوير هذا المكتشف وتخفيف ضرره، أو إلغائه قطعاً.. أما
إن كان نفعه أكبر فنشد على يد العالم نزار ونبارك جهوده.. المهم الآن بين
أيدينا ابتداع، وعلينا تقصي نتائجه..
قال بسام:
لنبدأ بالمنافع الاقتصادية. لا شك أن هذا الاكتشاف سيوفر للناس حاجاتهم من
النبات في زمن قياسي.. فيمكن للمرء أن يحوي في منزله بذوراً من أي نبات يشاء.
وإذا أراد ثماراً طازجة يزرع على الفور هذه البذور فيجني ما يريد.. إنها إحدى
الإيجابيات.
رد سعيد: وما
يدريك أنها إيجابية؟ ألم تتساءل عن المواد التي يعالج بها بذوره حتى تمتلك هذه
القدرة العجيبة على النمو؟
وبينما كان
بسام وسعيد يتجادلان.. صرخ العالم إياد انتبها.. انتبها.. أعشاب الحديقة
والنبات المجاور لمكان زرع البذور أخذت تصفر وتذبل.. بل إنها تكاد تموت، لا شك
إن هذا من أثر البذور العجيبة.. انتبه العالمان بسام وسعيد وإياد لملاحظة
صديقهما، وبعد قليل انطلق بسام نحو المختبر الذي يجري فيه بسام وسعيد وإياد
تجاربهم.. وعاد بأجهزة كشف، ومواد اتفق الثلاثة على إحضارها. اجتهد العلماء في
البحث.. اقتلعوا بعض الأعشاب التالفة، وتفحصوا جذورها، ثم اختبروا تربة من مكان
زراعة البذرة العجيبة.. وبعد وقت قصير قال إياد: يا إلهي.. إنها كارثة.. هل مضى
نزار ليجرب بذوره في مكان آخر؟ يجب إيقاف نشاطه حالاً..
قال بسام:
أجل.. بذوره مزوده بمواد كيماوية تمنحها قدرة على سحب خيرات الأرض التي تزرع
فيها.. إنها تمتص النسغ من جذور النباتات الأخرى في مساحة خمسة أمتار مربعة
انظر التلف الذي أصاب النباتات المحيطة.. علينا اللحاق به ومنعه من إجراء
المزيد من التجارب.. فمن المؤكد أن أي أرض تزرع فيها بذرة كهذه ستبقى فقيرة
زمناً طويلاً ولن تستطيع تزويد جذور أي نباتات أخرى بالمواد العضوية اللازمة
لنموها.. أسرع العلماء الثلاثة نحو السيارة التي أوقفوها خارج الحديقة..
وانطلقوا يبحثون عن العالم نزار.. وفي السيارة تساءل إياد الذي يتولى القيادة:
لا شك أنه استحوذ على اهتمام الناس.. كيف نستطيع إيقاف اكتشافه دون أن نثير سخط
الناس؟
رد سعيد:
ببساطة، نطلب إلى نزار أن يغرس بذرة في أرض لا نبات فيها وعندها لن يتمكن من
إبهار الناس..
تابع بسام: أو
ندعوه، ومن يحضر تجربته للبقاء قليلاً بعد إتمام التجربة وملاحظة ما شاهدناه.
لا شك أن هذا سيحول إعجاب الناس بهذا الاكتشاف الخطير. لم يكن عسيراً أمر
التعرف على مكان نزار.. فجمهرة الناس توحي بوجوده في حديقة عامة أخرى.. أحس
نزار بالضيق، وهو يرى تقدم العلماء الثلاثة وقد ارتسمت على وجههم علائم غضب..
إنه يعلم أن إعجابهم لا يولد فوراً.. لكنه ما توقع أن يكتشفوا أمره بهذه السرعة
كان نزار يمسك بيده بذرة، ويكاد يغرسها حين جاء صوت العالم بسام: نزار.. توقف!
انتبه الجميع
للنداء.. قال نزار: لِمَ أتوقف؟ الناس ينتظرون تجربة بذوري العجيبة.
أجابه العالم
سعيد: يا نزار، كلنا نحب العلم.. نبارك أي جهد علمي نافع. إنما اكتشافك هذا
سيؤدي إن انتشر إلى كارثة.. وأنت تعلم ذلك.
رد نزار
غاضباً: إنه الحسد.. أجل. الحسد بدل أن تحاولوا منعي من إجراء تجاربي وإثبات
نجاحي، امضوا إلى مختبركم.. علكم تتمكنون من فعل شيء.. هيا هيا.. لا تضيعوا
الوقت.
تقدم العالم
إياد وقال: نزار.. أمام الجميع أتحداك أن تزرع بذورك العجيبة في أرض لا نبات
فيها.. وإن غرستها في مكان مخضر، فإنني سأدعو الناس للبقاء بعد التجربة بعض
الوقت ليروا بأعينهم ما الذي سيحدث .. اضطرب نزار لهذا التحدي.. وتظاهر بأنه
سيغادر مغضباً.. إلا أن أحد الحاضرين أصر على منعه من المغادرة قبل إجراء
التجربة.. فانصاع نزار لهذا الإصرار، وغرس بذرة باذنجان.. وراح الحاضرون يرقبون
ما يجري.. أبدوا إعجابهم الشديد بداية وبسرعة نمو مراحل النبتة.. إلا أنهم بقوا
ساعة بعد انتهاء الاختبار، حيث جاء دور الثلاثة في إظهار الأثر السلبي لهذا
الاختراع.. فتحول إعجاب الناس إلى غضب وسخط على العالم نزار.. أما الرجل الذي
أصر على إجراء التجربة، فقد تقدم واثقاً من نزار وأخرج بطاقة تثبت أنه ضابط
شرطة.. وطلب من نزار والعلماء الثلاثة بسام وسعيد وإياد مرافقته إلى مركز
القسم. ركب العلماء الأربعة سيارة الشرطة.. وحين وصلوا مكتب الضابط المرافق
لهم، سمح لهم بالتحاور علمياً في الاختراع الجديد.. وكان يسجل حوارهم على شريط
كاسيت.. بدا نزار ضعيفاً، وخجلاً أمام خبرة وحرص رفاقه الثلاثة.. وأقر أن ضرر
اختراعه أكبر بكثير من فائدته.. وإنه إن انتشر فسيؤدي إلى إفقار التربة في
المكان التي تزرع فيه عندما طلب ضابط الشرطة أن يوقع نزار تعهداً بعدم إجراء
أية تجارب على اكتشافه الجديد إلا بعد تفادي ضرره وتسليم كامل الكمية من البذور
المعالجة، والمواد المستخدمة في منحها هذه إلى قسم الشرطة ليتم إتلافها. فرضخ.
خرج العلماء الأربعة من قسم الشرطة.. كان نزار يسير مطأطئ الرأس فحدثه بسام: لا
بأس عليك يا نزار.. كلنا نحاول البحث والاكتشاف.. بذورك قد تصبح يوماً ما ذات
جدوى وفائدة قصوى.. المهم في أي كشف علمي ما يقدمه للناس من نفع.. فعلمنا
وبحثنا في النهاية لخدمة الناس.. تابع بحثك.. وإن احتجت نصحنا ستجدنا إلى جانبك
حتماً.. واعلم أننا أكثر من يسر بأي إنجاز جيد.. ولسنا أبداً كما تصورت حاسدين.
قال سعيد:
إننا ندعوك لزيارة مختبرنا.. ومشاركتنا أية تجارب مخبرية..
وأضاف إياد:
لنكن أصدقاء.. لنتعاون.. فأربعة عقول مجربة مجتهدة خير من جهد فردي.
نظر إليهم
نزار وكأنما يعتذر عما أقدم عليه، وقال: هل تقبلونني صديقاً؟ أجاب الثلاثة بصوت
واحد: بل نحن ندعوك لصداقتنا ستكون صداقة نافعة بإذن الله. ابتسم الأربعة
وساروا بضع خطوات، بينما كان حشد من الناس يجتمعون عند باب قسم الشرطة وينادون:
البذور العجيبة.. نريد البذور العجيبة..
فخاطبهم نزار:
أعدكم أن أعود إليكم بها.. ولكن بعد تعديلات لا بد منها.. وسيساعدني رفاقي بسام
وسعيد وإياد في ذلك.
ردد الناس:
إننا ننتظر.. إننا معجبون بكم.. حياكم الله أيها العلماء.. أنتم زينة هذه الأرض
ونعمتها.. وبينما كان الناس يتابعون مدحهم وتشجيعهم .. كان العلماء الأربعة
يسيرون مبتعدين.. متجهين إلى مختبر سيضمهم ويستقبل تجاربهم المشتركة منذ الآن.
المنقـــذون
قال جدي: آه
يا زمن البساطة، زمن العيش الهانئ. أتدري يا حفيدي العزيز! كنا نسقي دابة من
الماء أضعاف الكمية التي يحلم بها الواحد منا الآن.. آه.. الماء سر الحياة.. ها
نحن على مشارف العام 2050 تجاوزنا مخاطر الأمراض والعلل، ويكاد العطش يفتك
بنا.. آه لو تزول حضارة الأرض كلها، ونعود لنتناول أوراق الأشجار.. بل وحتى
التراب، على أن نتجاوز أزمة المياه هذه.. قال جدي، وقال جد صديقي.. وقال والدي
وكل الآباء.. وأمي وجميع الأمهات.. كل الناس أصبح حديثهم، بل وهم يومهم العطش
الذي أخذ يفتك بأعداد كبيرة من البشر والحيوانات.. والحرارة التي تكاد تشوي
أجساد الناس بلا رحمة.. وكاد الجفاف يقضي على النسبة العظمى من الغابات
والأشجار.. وأكثر من ذلك فقد ردّد العلماء أن المخاطر والكوارث المقبلة أقسى
بكثير.. فأي ذعر؟ وأي خوف؟ وأي دمار يكاد يفتك ببني البشر وبالحياة على سطح
الأرض؟! مصادر المياه جفّت أو تكاد.. ودرجات الحرارة تصل في بعض الأماكن إلى
سبعين درجة لم يبق من حل سوى جهود العلماء.. في مركز علمي عملاق، اجتمع خمسة من
كبار علماء العالم وهم: عبد الله، راجيف، جان، إيفانوف، أوليفر.. حتى إن أنظار
العالم توجهت إليهم بالأمل والترقب..
أبدى كل عالم
رأيه، ناقشوا بحثاً قدمه الخبير أوليفر.. تحدث عن إمكانية استمطار كميات كبيرة
من الماء.. ومضاعفة البحث عن مصادر المياه الجوفية، ودراسة ظاهرة ارتفاع درجة
حرارة الأرض فضائياً من خلال رحلة فلكية، يحاولون من خلالها الاقتراب من الشمس
ما أمكن.. أما إيفانوف فقد اقترح البحث عن كوكب بديل لكوكب الأرض يمضي إليه من
استطاع من سكان الأرض عبر رحلات فضائية منتظمة.. وعبد الله تحدث عن أسباب
الكارثة، إنه الاستهتار بنعم الله.. فاعترض جان على هذا الحديث.. إلا أن عبد
الله أكد أن دراسة الأسباب والسعي إلى إزالتها جوهر الحل.. بعد مضي ساعات على
مناقشة طروحات العلماء، اتفق الخمسة على القيام برحلة استكشافية فضائية بغية
تعميق الأفكار.. وزيادة فرص الحل. وبعد ذلك بأيام، كانت مركبة الانطلاق جاهزة..
تولى العالم عبد الله قيادة الرحلة، وانطلقت المركبة نحو الفضاء الكوني.. كانت
حالة الناس على الأرض تزداد سوءاً.. فالموت بات في كل زاوية، وفرق المتطوعين
تقوم -ما استطاعت- بدفن الجثث، والتخفيف من الآلام.. أما الحيوانات فقد انتشرت،
هي الأخرى في الطرقات وراحت تصدر أصوات الاستغاثة.
مركبة العلماء
اتخذت مساراً لها بمحاذاة الغلاف الجوي للأرض.. وراح فريق العمل يراقب انتشار
الحرائق في أمكنة كثيرة.. عندها اتفق العلماء الخمسة على ضرورة البحث عن كوكب
بديل بسرعة قصوى لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من بني البشر..
انطلقت
المركبة في مسار بحثها الجديد كالبرق.. متحررة من أغلفة الأرض..
الترقب والحزن
والخوف.. عناوين كتبت بوضوح على وجوه العلماء.. وهم يناقشون أي طرح جديد..
ويتخذون مساراً لهم كوكب الزهرة.
وبعدما
اجتازوا مسافات طويلة تنبهوا لإشارات ترتسم على شاشة الاستقبال، كانت هذه
الإشارات تزداد وضوحاً.. ثم بدا أن مصدرها صحن طائر أخذ يقترب رويداً رويداً من
المركبة.. سارع العلماء للتحاور في أمر هذا الصحن الطائر..
قال جان: أرى
أن الإشارات التي نتلقاها تشابه تلك التي سجلتها مراصدنا على الأرض ودرسنا
دلالاتها كثيراً..
قال إيفانوف:
بكل الأحوال لدينا تسجيل لتلك الإشارات ودراستنا لها حينذاك.. والآن يمكننا
تزويد الكمبيوتر بهذه المعلومات لنرى ما يمكن فعله..
تابع عبد
الله: تعلمون أنني كنت الأكثر شغفاً بدراسة الإشارات القادمة من سكان الفضاء..
سأتابع الآن علني أستطيع محاورتهم..
اتفق العلماء
على إسناد الأمر إلى قائد الرحلة عبد الله.. فزود الكمبيوتر بتسجيل ودراسة
الإشارات السابقة.
كان الصحن
الطائر يقترب ولا تزال شاشة الاستقبال تتلقى الذبذبات الصوتية التي يرسلها..
وخلال زمن قصير جداً جاء صوت عبد الله فرحا: وجدتها.. وجدتها.. بمقدرونا فهم
أية إشارات نتلقاها. بل ويمكنني برمجة الكمبيوتر بحيث تحول هذه الإشارات إلى
لغتنا المنطوقة.
فوجئ العلماء
بهذا الإنجاز السريع.. تبادلوا نظرات الدهشة.. فقطع عبد الله دهشتهم.
وقال: تذكروا
أن الحاجة هي أم الاختراع.. ليس هذا وقت الشرح والتفصيل ولكن دعونا نتلق
الذبذبات الصوتية.. سأدخل نظام البرمجة الجديد إلى الكمبيوتر.. بدت السعادة على
وجه عبد الله، وهو منهمك في إعداد برنامج جديد لتفسير الإشارات.. وبعد زمن قصير
جداً جاءهم إعلانه السعيد: بات الكمبيوتر جاهزاً لتفسير أية إشارات قادمة..
حولوا الذبذبات الصوتية.. ازدادت سعادة عبد الله ودهشة العلماء الأربعة الآخرين
وهم ينصتون لصوت مصدره جهاز الكمبيوتر.. يقول: "حاولوا -تفسير- إشاراتنا- نحن-
استطعنا- فهم- لغتكم- منذ- زمن- بعيد- أجيبوا- إن- كنتم- قادرين- على- استيعاب-
ما- نقول"
أرسل عبد الله
الرد فوراً: "أجل، يمكننا التخاطب. مرحباً بكم". جاء الصوت من جديد "علمنا
-بالمأساة- التي- يعاني- منها- سكان- الأرض -شح- المياه- وارتفاع- الحرارة-
ارتفاعاً- كبيراً- لدينا- أجهزة- رصد- لأية- تطورات -على- الكواكب- الحية".
قال عبد الله:
وهل يوجد الكثير من الكواكب الحية؟
جاءه الرد:
"اكتشفنا- حياة- على- ثلاثة- كواكب- حتى -الآن- المهم -سوف -نتخذ-مدارا- حول-
مركبتكم- للتحاور-في- مشكلتكم"
بدا الصحن
الطائر على شاشة استقبال مركبة العلماء. تحولت دهشة العلماء إلى أمل وترقب..
فحديث الكائن الفضائي يظهر حسن نية، ورغبة في المساعدة.
بعد انقطاع
قصير، عادت الشاشة تستقبل الذبذبات الصوتية من جديد.. فتنتقل فورا إلى جهاز
الكمبيوتر الذي يترجمها وفق البرمجة الجديدة إلى حديث منطوق واضح..(هل- جئتم-
تبحثون- عن-حل- لمشكلة- الأرض؟"
رد أوليفر:
أجل -فهل لديكم ما تساعدوننا به؟
قال الكائن
الفضائي: "الكارثة -على -الأرض- وحلّها- لا- يكون- إلا- على -الأرض"
تحدث عبد
الله: هذا ما فكرت به- ولكن الحياة ستصبح مستحيلة بعد فترة على الأرض.
تابع الكائن
الفضائي: "حاولنا -تنبيهكم- منذ- وقت- طويل- وما- استطعتم- فهم- رسائلنا- لقد-
أسأتم- إلى الأرض- كانت- من- أفضل- الكواكب- الحية".
قال راجيف:
نفكر في إمكانية انتقال البشر إلى كوكب آخر؟ فجاءه صوت الكائن الفضائي: "هراء-
عودوا- إلى كوكبكم- أزيلوا- أسباب- المأساة- فالحل- مازال- ممكنا".
قال إيفانوف
متلهفاً: نتوسل إليكم ما هي الحلول التي نستطيع من خلالها تجنب استمرار
الكارثة؟
أجاب الكائن
الفضائي: "ما فائدة- الحلول- إن- لم- تنفذ؟"
قال عبد الله:
أي حل جدير سينفذ إن شاء الله..
تابع الكائن
الفضائي: "إذاً- إليكم- مجموعة- بنود- لا بد- من تكاملها- كي- يكون -الحل-
ناجحا- لا شك- أنها -خطرت- في- بالكم- إنما - هي- الحل- الأجدى:
1-أوقفوا-
جميع-المعامل- التي- تلوث- البيئة- مدة- عشر- سنوات- على- الأقل- أيا- كان-
إنتاجها.
2-أوجدوا
-الحل- لتعويض- الغلاف- الأوزوني-ما -أصابه- من تلف- فهو- المسؤول- عن- ارتفاع-
درجة- الحرارة- إلى هذا- الحد.
3-جندوا -كل-
من- يستطيع- العمل - في -زراعة- الأشجار -والغابات- وحاولوا- تأمين -قدر- ولو-
ضئيل- من الماء- لها- واعلموا- أن- تدني- نسبة- الخضرة- كارثة.
4-حاربوا-
الهدر- بكل- أشكاله- ووجهوا- عقول -الناس - إلى -حتمية -تعاظم- أمر- الكارثة-
إن- استمرت- واحرصوا- على-كل -قطرة- ماء.
5-حاولوا-
محاصرة - الحرائق- ما استطعتم- ومنع- امتدادها.
6-أقيموا
-معامل- تحلية -لمياه- البحار - على -أن- تستخدم-في -الحدود- الدنيا.
7-نفذوا
-فكرة-الاستمطار- بعد- أن تفرغوا - من غرس- الأشجار- هذه- الأفكار- نواة-
حل-المشكلة- واعلموا- أن- الأرض- التي -تعيشون- عليها - أروع- وأجمل- الكواكب-
في- الكون- الواسع - فلا- تدمروها- باستهتاركم- والآن- عودوا- إلى الأرض-
فالناس- هناك- بحاجة- لمن- لديه- الحل".
كان العلماء
الخمسة منصتين لحديث الكائن الفضائي الذي انتهى من إرسال إشاراته، وغاب اتصاله
عن شاشة الاستقبال.. ثم اختفى أثر الصحن الفضائي الطائر.. تبادل العلماء من
جديد نظرات دهشة.. فقال عبد الله: إن هذا وقت العمل، إنني أرى صدق كل ما ورد في
تعليماتهم.. فلنعد إلى أرضنا، عّلنا نستطيع إنقاذها..
بعد قليل،
كانت المركبة تتجه نحو الأرض.. وأمام العلماء الخمسة ورقة طبعت عليها أفكار
الحل.. وبدأت أذهانهم تعد تصورات التنفيذ.
كان الخبر
الأكثر أهمية على سطح الأرض وصول مركبة العلماء الخمسة.. فالحالة تزداد سوءاً
وبعد مضي ثلاثة أيام فقط.. وضعت تصورات التنفيذ، وبدئ العمل بها.. استجاب الناس
لأفكار الحل..
والأمل
يراودهم في رؤية اخضرار الأرض من جديد، وتجرع كؤوس الماء حتى الارتواء.. فتوقفت
فوهات معامل إنتاج المواد الملوثة للبيئة عن إرسال سحب دخانها المقيت نحو
الفضاء.. وأخذ الناس يتبارون في غرس كميات كبيرة جداً من الأشجار في كل مكان..
في الحدائق.. أمام البيوت.. على أطراف المدن.. وما زاد العمل روعة وبهاء انهمار
مطر غزير من غير حاجة للاستمطار، وكأنما يد الله تبارك هذا التعاون المثمر من
أجل الحفاظ على الأرض.. بدا المشهد رائعاً مؤثراً.. لم يتأخر عن العمل أي قادر
عليه فغدا الكوكب الأرضي ورشة عمل متكاملة.. حتى العلماء الخمسة الذين أرسوا
بنود الحل ووضعوا تصورات التنفيذ كانوا يشرفون على العمل في مواقعه من بعيد..
من بين النجوم التي تلألأت في السماء.. أخذ يدنو ذلك الصحن الطائر..
وعندما أصبح
بمقدوره مخاطبة مركز المختبرات على سطح الأرض أرسل إشارات سجلتها أجهزة الرصد-
حيث تمكن عبد الله ورفاقه من تفسيرها فكانت رسالتهم: "بوركتم- هذا -سبيل-
إنقاذ- الأرض- ولكن- حذار- من- تناسي- ما حدث- فالمأساة- حينها- ستتكرر- وربما-
لا يجدي- عندئذٍ- جهد- منقذين- أمثالكم".
تبادل العلماء
الخمسة ابتسامات الرضى.. وسعدوا كثيراً وهم يستمعون لقطرات المطر تضرب بقوة
زجاج النافذة والرصيف.
لأول مرة أرى
دموع جدي كان يبكي فرحاً.. الحمد لله.. قُدّر له أن يعيش زمناً يرى فيه اخضرار
الأرض من جديد.. ويشرب ماء عذباً حتى يرتوي..
أضيفت
في10/03/2006/ خاص القصة السورية/ عن مجموعته سالم وبلاد العباقرة الصادر
عن اتحاد الكتاب العرب
ألحان وألوان
أتَمنى أن
أسمِعَكُم لحناً من الألحانِ التي ألَّفتُها وأعزفُها على أوتارِ عودي. أثقُ
أنني سأفعلُ ذات يومٍ، فألحاني ستجدُ طريقها إلى كلّ أذنٍ تحسنُ تذوقَ
الموسيقى، ولكن دعوني الآن أحكي لكم قِصتي التي بدأت مع ولادتي وترافقُ أيام
حياتي.
اسمي
إبراهيم الغساني، عمري أربعةَ عشرَ عاماً. أدرسُ في الصفِ السابعِ لستُ متأخراً
بسببِ رسوبٍ أو تقصيرٍ، ولكن تأخرتُ في الانتسابِ إلى المدرسة.
وأنا
كفيفٌ! هل تدرون ما معنى ذلك؟! الكفيفُ لا يرى من الدنيا إلا اللونَ الأسود. كم
كنتُ حزيناً بادئَ الأمرِ، وكم بكيتُ حين كنتُ في السنوات الأولى من عمري.
مراتٍ كثيرةً سمعتُ بكاء أمي وأبي، ورغم ذلك بقيَ رفيقي اللون الأسود وسيبقى.
فالأطباءُ الذينَ اصطحَبني أبي إليهم على مدى خمسةِ أعوامٍ أكدُوا أنني لن
أتمكنَ من الرؤيةِ مدَى الحياةِ. بعدها بدأتُ أحلم وأتمنى. أمورٌ كثيرةٌ حلمتُ
برؤيتها، منها ثيابي الجديدة التي تحضرُها لي أمي، وألعابي التي أحبُّها كثيراً
والعصفورُ الذي يُسمعني أعذبَ الألحانِ، وبرامجُ الأطفالِ التي يضحك لها شقيقي
عادل ووجهُ أمي الحنون، ولكن لا جدوى... لهذا كنتُ أمضي معظمَ وقتي في الغرفةِ
المخصصةِ لي ولشقيقي عادل لا أغادرها، وإذا علمتُ بزيارة ضيوفٍ إلى بيتنا
أتظاهرُ بالنوم فقد مللتُ من سماع كلماتِ الشفقةِ.
يكبرني
شقيقي عادل بعامٍ واحدٍ، ولهذا فدخوله إلى الصف الأول من المدرسة أعادني إلى
أمنياتي. سمعتُ أبي يحثه على الاجتهادِ، وقال لـه مراتٍ عديدة: العلمُ نورٌ يا
بني. وأنا أحبُّ النور، وأحبُّ العلم.
الأشهر
الأولى لدوامِ شقيقي في المدرسةِ كانت صعبةً، فهو يحبُ اللعبَ كثيراً، ويفضلهُ
على التعلمِ، وأبي يبذلُ كلّ المحاولاتِ لتعليمهِ، يقرأ لـه الدروسَ، ويعلمُهُ
تركيبَ الجملِ ويبسطُ لـهُ تمارينَ الحسابِ ويلحنُ لـه الأناشيدَ المدرسيةَ، كل
ذلك في غرفتنا وأنا أُصغي إلى دروسِ أبي وأعجبُ حينَ يعجزُ شقيقي عادل عن
الحفظِ. التزمتُ الصمتَ مراتٍ عدة لكنني أخذتُ بعدها أعيدُ ما يقرأ أبي بمجرد
سماعي لـهُ، لفتَ ذلك انتباه أبي فأخذ يشجعني، يسمعني النشيدَ فأعيدُه، يسمعني
درسَ القراءةِ فأرددُه كما سمعتُ، وأجري لـه بعض العملياتِ الحسابيةِ البسيطة
حين يطلبُ. وكم تنهدَ أبي وقالَ: ليتَني أستطيعُ إرسالَك إلى المدرسةِ.
فكرتُ
كثيراً: لماذا لا يستطيعُ؟ أليسَ ما أسمعهُ من أبي هيَ الدروسُ التي يشرحونها
في المدرسة؟ إنني متأكدٌ من قدرتي على المتابعةِ.
مرَّتِ
الأيام، وعادلُ اجتهدَ ونالَ إعجابَ معلمهِ، وتوقفَ أبي عن شرحِ الدروسِ لـه،
ولهذا طلبتُ من شقيقي أن يقرأ أمامي بعضَ دروسِ القراءةِ والنشيدِ والحسابِ
التي يأخذونها في الصفِ. اصطحبني أبي وأمي في زياراتٍ إلى بيوتِ الأصدقاءِ رغمَ
اعتراضيَ الدائم فأنا لا أحبُ مغادرةَ غرفتنا. كان يحزنني حديثُ أبي عن إعاقتي
التي لا تمكِّنني من القيامِ بأي عملٍ، وحرصُ أمي الزائد عليَ، ومع دخولي عامي
السادس أصبحَ شقيقي عادل في الصفِ الثاني، أناشيدُه أجملُ ودروسُ القراءةِ أكثر
متعة. لقد أسمعني وحفظتُ منها الكثير، ومساءَ أحدِ الأيامِ سمعتُ أبي يقول
لأمي: ما رأيكِ أن نرسلَ إبراهيم ليتعلم في مدرسة القرية؟ إنه طفلٌ ذكيٌ وقادرٌ
على التعلم. فبكت أمي وردَّت: لا... إننا هنا نُراعي مشاعره ولا أريده أن
يتعرضَ لما يثيرُ حزنَهُ. وتابعت أمي: يمكنكَ أن تعلّمه بعضَ الدروسِ من كتبِ
عادل. لكن انشغالَ أبي معظمَ الأوقاتِ أبعَده عن مهمةِ تعليمي.
طلبتُ من
عادل أن يصحَبَني في لقاءاتِ لعبهِ مع رفاقِه فرفضَ. قالَ إنَّ الألعابَ التي
يمارسونَها ستسبب لي الأذى، فقررتُ ألا أطلبَ منه ذلك ثانيةً أحسستُ أن هذه
الغرفةَ عالمي وعليَ أن لا أزعجَ أحداً بطلباتي بعد الآن. اللونُ الأسود يشتدُ،
ألعابي مللتها، وأنا سجينُ غرفتي.
ومساءَ
يومٍ ربيعي هبت فيهِ نسمات لطيفة سهرَ في بيتنا عَمّي راشد وزوجته. لقد عادا من
السفر منذُ أيام، سمعتُ ترحيبَ أبي وأمي بهما وحديثاً جميلاً عن حبِ الوطنِ.
سألَ عمي عنّي فأخبره والدي بحالتي. شدَّ انتباهي اهتمام عمي بي، وبعدَ قليل
طلبَ أبي منهُ أن يعزفَ على أوتارِ عودِه الذي أحضرَهُ معه، فانطلقتِ الأنغامُ
الشجيةُ الرائعةُ. ما تمالكتُ نفسي فخرجتُ إلى حيثُ يجلسونَ في حديقةِ بيتنا.
توقفَ عمِّي عن العزفِ ليرحِّبَ بي قائلاً: حبيبي إبراهيم! كنتَ نائماً؟
فابتسمتُ
وقلتُ لـهُ: أرجوك تابع العزف.
عادَ عمي
يطلقُ أعذبَ الألحانِ. كانت سهرةً من أجملِ أيامِ عمري، وحين أرادَ الانصرافَ
قالَ: سأزوركَ يا إبراهيم لأسمعكَ النغماتِ التي تحبها.
أراكَ
تحبُّ الموسيقى.
وكرر عمّي
زياراته إلينا. وما انقضَى شهرٌ إلا ونشأت صداقة رائعة بيني وبينه.
قال لي
يوماً بحضورِ أبي: ما رأيُكَ أن أعلِّمكَ العزفَ على العودِ؟
ضحكتُ،
فتابع عمي: إنني جادٌ في ما أقول. عدم قدرتِكَ على الرؤيةِ لا يعني أنك عاجزٌ
عن القيامِ بأعمالٍ ممتعةٍ. الكثيرُ من المكفوفينَ يقدمون خدماتٍ كثيرةً
لأوطانِهم، ويفعلونَ الكثيرَ من أجلِ أن يتمتعُوا بحياةٍ سعيدةٍ عنوانها العمل
والعطاء.
قلتُ لعمي
متعجباً: وهل أستطيعُ تعلمَ العزفِ حقاً؟
أجابَ:
أجل. المهم أن تكونَ لديكَ الإرادة القوية.
وضعَ
العودَ في حضني، وعلّمني كيفَ أمسكهُ، ثمَّ وضعَ الريشةَ بينَ أصابعي وطلبَ مني
أن أداعبَ الأوتارَ بالريشةِ فأصدرتْ صَوتاً جَعلني أبتسمُ. قال عمي: ستتعلم.
أنا واثقٌ.
تحدثَ أبي:
سيكونُ هذا رائعاً. وأمي سألتْ راشد: هل صحيحٌ أنَّ إبراهيم سيتمكنُ من ذلك؟
ردَّ راشد:
أجل.
أخذتُ
أنتظرُ زيارةَ عمي، وهو يحضرُ إلينا ويعلمني، وشيئاً فشيئاً بدأتُ أداعبُ
الأوتارَ برقةٍ كما يوصيني. بدأتُ أعزفُ ألحاناً شبيهةً بما أسمعُ عبرَ
الإذاعةِ، وعمي يرافقُ عزفي ببعضِ الأغاني العذبةِ، وما مضى الصيفُ حتى قطعتُ
شوطاً كبيراً في تعلمِ العزفِ على العودِ.
أنتظرُ
زياراتِ عمي بشوقٍ كما قلتُ، لكن حينَ زارَنا مع زوجتِه مودعاً أبكاني. أحسستُ
أنّ اللونَ الأسودَ يعود من جديدٍ ليحتلَّ كل أيامي وسأفقدُ اللحظات الجميلة
التي أعيشُها بوجودِه. لكنَّه فاجأ الجميع حينَ قال لأبي وأمِّي: لي عندكما
رجاء.
قالَ أبي:
تفضل..
تابعَ عمي:
أرجُو أن تَسمحا لي باصطحابِ إبراهيم معي. ففي المدينةِ حيثُ سأسكنُ يوجدُ
معهدٌ لتعليمِ المكفوفين وأثقُ إنه سيكونُ مثالَ التلميذِ المجتهدِ المتفوقِ.
سأهتمُ به، وستتعززُ صداقتي معه. وأخذَ يتحدثُ عن عباقرةٍ مكفوفينَ تميزُوا في
مجالاتٍ شتى كالشعر والموسيقى واللغة والعلوم وذكر أسماءَ (طه حسين عميد الأدب
العربي وأبي العلاء المعري الشاعر الكبير والموسيقار سيد مكاوي وغيرهم).
قالت أمي
باكية: لا يمكنني قبول بعده عني، إنني أتابعُ شؤونَه وأهتمُ به. فسألَني أبي:
ما رأيُكَ يا إبراهيم؟
أجبتُه: إن
كان عمي راشد سيبقى قريباً مني فأنا موافق. إنني أحبُّ التعلمَ كثيراً، وسأتقنُ
العزفَ على آلةِ العودِ أكثرُ بوجودِ عمِّي، وسأعودُ حين أكملُ تعليمي، كما
أنكم ستزورونني في المدينة أليس كذلك؟
اقتربَ
عمّي راشد واحتضنَني وقالَ: ستكون أغلى وأعز صديق.
وبعدَ
أيامٍ كانتْ رحلَتي الأولى نحَو المدينةِ برفقةِ عمي. سجلَّني في مدرسةِ
المكفوفين، وكم كانت سعادتي كبيرةً وأنا أتقنُ تعلمَ القراءةِ والكتابةِ بحروفٍ
مخصصةٍ لحالتَنا بسرعةٍ كبيرةٍ. وسرَّني أكثر اهتمامَ مدرستِنا بأصحابِ
الهواياتِ حيثُ أتاحوا لي فرصةَ متابعةِ تعلمِ العزفِ على العودِ. أصبحتُ حياتي
أكثرَ متعةً وسروراً، واللون الأسود لم يعدْ ذلك العدوَّ المخيفَ لي.
زارني أبي
وأمي وشقيقي عادل مرات في المدرسة، وكانت سعادتهم كبيرةً حينَ تأكدُوا من
تفوقِي في الدروس والعزفِ على العودِ، وزرتُ قريتَنا كثيراً برفقةِ عمي. أصبحَ
لديَّ عُوَدٌ خاصٌ بي أعزفُ عليه ألحاناً جميلةً، حيثُ يجتمعُ الكثيرُ من
أصدقاءِ عادل وأصدقائي ـ أجل أصبحَ لديَّ أصدقاء أحبّهم ويحبونني ـ ونتبادل
الأحاديث الشيقة.
في مدرستنا
تميَّزَ صديقي نبيلُ بصوتٍ عذبٍ رائعٍ، فاقترحَ معلمُ الموسيقى أن أعزفَ لـه
ويغنّي فشكلنا ثنائياً مُوسيقياً ونلنا إعجابَ جميعِ من سَمعنا.
وخلالَ
أشهرٍ قليلةٍ أخذَ عمي راشد وأصدقاؤُه يساعدُونا على إقامة حفلاتٍ خيريةٍ تقدُم
أرباحُها للأسرِ الفقيرةِ، وهذا ما زاد حماسِتي واندفاعي لتقديمِ الأفضلِ
باستمرار.
اجتزتُ
صفوفَ الدراسةِ بتفوقٍ صفاً تلوَ آخر. أنا الآن في الصفِ السابعِ تعلمتُ الكثير
من علومِ الموسيقى وألفْتُ العديدَ من الألحانِ التي نالتِ الإعجابَ، كما أنني
كتبتُ أبياتاً من الشعرِ بعد أن شجَعني مدرسُ اللغةِ العربيةِ.
أحلامي
كبرت وأصبحتْ حياتي أجمل. سأكون في المستقبلِ معلمَ موسيقى وسيكون اسمي
(إبراهيم الغساني) كاسم الكثيرِ ممنْ تعلمُوا إن الحياةَ تحلو بالعملِ
والعطاءِ، والوطنُ يحتاجُ جهودَهم ولو كانُوا مكفوفينَ. بقيَ عليَ أن أخبركم:
لم يعد اللون الأسود رفيقَ حياتي الوحيد بل أصبحت الموسيقى والدراسة والصداقة
والعطاء كلها ألواناً جديدةً جميلةً زاهيةً تزينُ أيامي.
شجرةُ الأحلامِ
جَلستْ أمُ
باسم تقرأُ الرسالةَ التي وصلت للتوِّ من زَوجها حسان، وإلى جوارِها ولدها باسم
الَّذي أخذَ يُراقبُها بعينيه. لا شكَ في أنَّ كلمات الرسالةِ تحملُ التحيةَ
والمحبةَ والشوقَ من الأبِ الغائبِ منذُ أكثرَ من خمسِ سنواتٍ. ولأنَّ الأم
تدركُ ما يشغلُ بالَ ولدها الأخرس فقد كانت تقرأ الرسالةَ وتمسحُ بحنانٍ على
شعره. وحين انتهت من القراءةِ نظرتْ إليه، وأَشارتْ بيدها ما يعني أنَّ والدهُ
سيعودُ إن شاءَ اللهُ.
ضمتهُ إلى
صدرها وبكتْ. أَعطتهُ الرسالةَ ليقرأَها فأخذَهَا ودخلَ غرفتَهُ. مسحتْ الأمُ
دموعَها وهي تسرعُ نحوَ البابِ لتفتحهُ بعد أنْ سمعتِ الجرسَ يرنُّ. إنها
صديقتُها ميساء جاءتْ لزيارتِها. جلستا، وسألتها الصديقةُ: ما بكِ يا أم باسم؟
فردتْ: ولدي باسم. أشعرُ بحزنِهِ الدائم بسببِ غيابِ والدِهِ. يرى اهتمامَ
الآباءِ بأبنائِهم فيسألني بالإشارةِ: متى يعودُ أبي؟ ولماذا أنا أخرس؟ وأجيبه
بالإشارة أيضاً: والِدُكَ سافرَ ليعملَ وإصابتكَ بالخرس هي إرادة الله. كما
أُحاولُ أن أوضح لـه أنَّ العلمَ يتطورُ، وقد يستطيعُ يوماً معالجةَ حالتهِ.
باسمُ ذكيٌّ وحساسٌّ.
قالت
ميساءُ: طالَ غيابُ زوجكِ. عليهِ أن يعود ليشاركَ في تحملِ مسؤوليةِ ورعايةِ
ولدكما.
تابعتْ
أمُّ باسم: رسالتُه التي وصلَتْني قبلَ قليل تؤكدُ أنَّه سيعودُ بعد عامٍ.
ميساء:
كانَ عليكِ أن تأخُذي ولدكِ وتسافري
مع زوجكِ.
أم باسم:
حاولَ حسانُ كثيراً، إلا أنني لا أحتملُ مجرَّدَ التفكير بالسفر.
ميساء:
وكيفَ ترينَ استجابةَ باسم للتعلمِ في المدرسةِ؟
أم باسم:
أصبحَ يجيدُ القراءةَ والكتابةَ، ويتابعُ قصصَ ومجلاتِ الأطفالِ، ومنذُ أيامٍ
كتبَ لي أنَّهُ سيُصبحُ كاتباً في المستقبل. قطعَ حديثَهُما صوتُ جرسِ الباب.
هذه المرة كانَ أصدقاءُ باسم (رافع ونجيب وسعد) رحبتْ بهم ودعتْهُم للدخول، إلا
أنهم شَكروها، وَرَجوها أن تُرسلَ باسم ليخرُجُوا سوّيةً للعبِ.
وبعدَ أن
انضمَّ إليهِم غادروا وعادتِ الأمُّ إِلى صَديقتِها.
ميساء:
ربَّما كانَ من الأفضلِ أنْ تُرسلي باسم إلى مدرسةِ الصّمِ والبكمِ.
أم باسم:
لا توجد في قريتِنا مدرسةٌ متخصصةٌ لهم، ولا يمكن أَن أُرسلَهُ إلى المدينةِ.
ثمَّ إنهُ يتعلمُ هنا، فكما قلتُ لكِ هو طفلٌ ذكيٌ، وأصدقاؤُه الثلاثةُ الذين
حَضروا الآنَ يحبونَهُ، وهو يحبُّهُم. إنهم يتعلمونَ في صفٍ واحدٍ، ويلعبونَ
سويةً لقد تخلّوا عن صديقٍ آخرَ لهم لأنهُ سَخرَ من باسم، رغمَ أنَّ ولدي
رجاهُم بالإشارةِ أن يسامِحُوه. إنهم يخرجونَ للعبِ في الحديقةِ قربَ بيتنا
مُصطحبينَ معهُم أوراقاً. وأقلاماً وذلك بعدَ أن يُتمُوا واجباتِهم المدرسيةَ.
ميساء:
وُجودُ الأصدقاء والأحبة خيرُ تعويضٍ ومواساةٍ.
* * *
في
الحديقةِ، كانَ الأصدقاءُ الأربعةُ (باسم ورافع ونجيب وسعد) يَجلسونَ قربَ
شجرةٍ زيتونٍ خضراءَ فتيةٍ بعدَ أن مارسُوا ألعابَهم البَسِيطةَ التي ابتكرَ
أغلبَها باسمُ وقد اعتادُوا أَن يُمضوا بعضَ الوقتِ في أحاديثَ شتَّى تتعلقُ
بالمدرسةِ، بمعلميهِم وبرفاقِهم، بِأَحلامِهم.. الأحلامُ التي لا يملّونَ
الحديثَ عنها. ويُرفق الأصدقاءُ أحاديثَهم بإشاراتٍ ليتمكنَ باسمُ مِنْ فهمها،
وأحياناً يكتبونَ حِواراً على أوارقِهِم. وباسمُ الطفلُ الذكيُّ الذي أتمَّ
العاشرةَ من عمرِه يُدركُ الكثيرَ من أحاديثِهم عبرَ حركاتِ الشفاهِ.
كتبَ سعدُ:
إننا نتحدثُ كثيراً عن أَحلامِنا.
ضحكَ وكتبَ
نجيبُ: لا أحدَ يعرفُ بأَحلامِنا إلا نحنُ وهذهِ الزيتونةُ الخضراءُ.
ورافعُ
كتبَ: حديثنا الدائم عنِ الأحلامِ يَجعلُنا نصمّمُ على تحقيقِ ما نستطيعُ
مِنها.
وكتبَ
باسم: أحلامُنا ستكبُرُ كما تكبُر وتنمو هذه الشجرة. ما رأيكُم أن نُسمِّي
شجرةَ الزيتونِ الخضراء التي نُحبها شجرةَ الأحلامِ ويختارُ كلُّ منا غُصناً من
أغصانِها ويكتبَ أحلامَهُ على ورقةٍ ويخبّئَ هذه الورقةَ على الغصنِ الذي
اختارَهُ وكلما كبرتِ الشجرةُ تكبُرُ أحلامنا.
هتفَ نجيبُ
وسعدُ ورافعُ: شجرةُ الأحلام! هذا رائعٌ. ستكونُ أغلى شجرةٍٍ على قلوبِنا.
بعدَها فكَر سعدُ وكتبَ: وإذا هطلَ المطرُ وبللَ أوراقَ أحلامِنا؟
ردَ عليه
رافعُ كتابةً: نعيدُ كتابتَها من جديد.
كتبَ
باسمُ: حينَ يهطلُ المطرُ هذا يعني أنَّ الشجرةَ ستنمو، وأحلامُنا ستكبرُ. وكل
حلمٍ يتحقق سنرسمُ إلى جانبهِ ابتسامةً.
نجيبُ قالَ
وكتبَ: ليتركَ كلُّ منا ورقةً بيضاءَ ليُضيفَ عَلَيها أحلاماً جديدةً. ومع
سعادتِهم بالفكرةِ كانَ الأصدقاءُ الأربعةُ يقفونَ، ويُمسكُ كلٌ منهم بيدِ
الآخر مشكلين حلَقَةً، وهُم يغنونَ ويَمْرحونَ والابتساماتُ تزيِّنُ وجوهَهم
وباسمُ يحركُ شفتيه كأنّما يُشاركُ أصدقاءَه الغناءَ. وبعدَ قليلٍ جلسَ كلٌّ
مِنهم وأمسكَ بقلمِه وأخذَ يكتبُ أحلامَهُ. حينَ عادَ باسمُ إلى البيت لفتَ
انتباهَ والدته سعادة تهللَ بها وجهُهُ. سألتْهُ بإشارَتِها وابتسامَتِها،
فكتبَ لها عن شجرةِ الأحلامِ. ومنْ كلماتِهِ التي كتبَها شعرتْ أنهُ يعيشُ
لحظةَ الفرحِ الكُبرى في حياتِهِ.
* * *
وتوالتِ
الأيامُ، وهَطلَ مطرٌ، وكُتِبَتِ الأحلامُ على أوراقٍ كثيرةٍ، وانضمَّ إلى
الأصدقاءِ الأربعة صديقٌ جديدٌ هو عمار يماثلُهم سناً وفي صفهم ذاته، ويكاد
يتفوقُ على الجميعِ باجتهادِه. غيرَ أن شللَ الأطفالِ تسببَ في ضمورِ عضلاتِ
رجلَيه وحدَّ من قُدرتِهِ على الحركةِ.
أم باسم
تلقَتْ رسائلَ أُخرى، ومَع كلِّ رسالةٍ كانتِ الابتسامةُ تكبُر. فالغائبُ
سيعودُ قريباً.. ما هي إلا أيام وأحدُ أحلامِ باسم التي سطَّرها وحَمَلَتْها
شجرةُ الأحلامِ سيتحققُ. ومَع إطلالةِ صبحٍ جديدٍ أيقظَتْ أم باسم ولدها
وإِشاراتها جعلتهُ يُدركُ أنَّ عليهِ الاستعداد للانطلاقِ نحوَ المدينةِ، ثم
إلى المطارِ لاستقبالِ والدِهِ الحبيب العائد. في المطارِ ابتساماتُ لقاءٍ،
ودموعُ وداعٍ. كانت عينا باسم تجوبانِ أرجاءَ المطارِ وأمه تقفُ إلى جوارِهِ.
فجأةً: رَبتت على كتفهِ وأشارتْ بفرحٍ كبيرٍ نحوَ بوابةِ العبورِ حيثُ كانَ أبو
باسم يحملُ حقيبةً صغيرةً بيدِهِ ويتقدمُ نحوهما.
أسرعَ
باسمُ يستقبلُ والدَهُ الذي احتضنَهُ بحنانٍ غامرٍ. طالَ عناقَهُما حتى تدخلتِ
الأمُّ مرحبةً بزوجِها وبعدَ قليلٍ انطلقتْ بهم سيارةُ أجرةٍ نحو قريتِهم
البعيدة.
* * *
بدأَ أهلُ
القريةِ يتوافدون إلى بيتِ أبي باسم مهنئين بالسلامةِ، وباسمُ أمضى معظَمَ
وقتهِ إلى يسار والدهِ وبسمتُهُ تحكي لكلِّ من يراهُ مدى سعادته، بينَما كانتْ
أمُّ باسم منهمكةً بإعدادِ الضيافةِ للزوارِ، نظرَ باسمُ إلى الساعة. إنها
الرابعةَ عصراً. قبّلَ والدَهُ وأشارَ إليه ما يعني أنه سيخرُجُ للعبِ مع
رفاقِه.لم يدركْ والدُه ماذا يقصدُ. لكنَّ الأم ابتسمت وأشارتْ ما فَهمَ الولدُ
منهُ أنَّ بإمكانِه الخروج وأَخذتْ تَحكي لزوجها عن صداقةِ باسم ورفاقِه وموعدِ
لعبهم والفرح الذي يحتلُّ كيانها كلما رأتْ سعادةَ ولدِها بأصدقائِهِ، فَهُمْ
جعلوهُ يعيشُ حياةً طبيعةً متناسياً أمرَ الإعاقةِ التي ألمتْ بهِ، وأكثر من
ذلك فهمْ يُشعروهُ بحاجتِهم لوجودهِ بينَهُم. أبدى الأبُ ارتياحَهُ لما سَمِعَ،
ولكنّهُ قال: بكلِّ أسفٍ الكثيرُ من هذهِ الأمور ستتغيرُ بعدَ انتقالِنا للسكنِ
في المدينةِ. استغربتِ الأمُّ قولَ زوجِها. إلا أنَّ جرسَ البابِ قطعَ
دَهْشتها، فأجلَّتْ بحثَ الأمرِ.
وفي
الحديقةِ قربَ شجرةٍ الزيتون الخضراء الفتية كانَ الأصدقاءُ الخمسةُ يجتمعونَ
والفرحةُ باديةٌ على وجوهِهِم. إنَّها الفرحةُ بتحقُّقِ أحدِ أحلامِ صديقِهم
باسم الذي أحضرَ ورقةَ أحلامِهِ منَ الشجرةِ ورسَمَ بجوارِ حُلمهِ الأول
ابتسامة. صفقَ الأصدقاءُ، وباسمُ فتحَ يديهِ متضرِّعاً ـ دونما حديثٍ ـ أن
تتحققَ أحلامُ أصدقائِهِ أيضاً. ومن إشاراتِ باسم فهم الأصدقاءُ أن عليهمِ
مرافقتَهُ ليسلِّموا على والدِهِ فانطلَقُوا فرحينَ. وفي البيتِ استقبلَهُم
الأبُ ورحَّبَ بهم وقدمتِ الأمُّ لهُم الضيافةَ غيرَ أنَّ اضطراباً لم يلحْظهُ
باسمُ من قبل بدا على وجهِ أمهِ وحينَ أشارَ إِليها: ما الأمرُ؟ رَبَتتْ على
كتفهِ وأشارتْ: لا شَيء.
* * *
جلسَ أبو
باسم وزوجتُهُ وابنهما مساءً. كانَ الولدُ يشيرُ بحركاتِ يَديه ووالداهُ
منتبهان جَيداً وعلى كلٍّ منْ وجوهِ الثلاثةِ ابتسامةً. فسَّرتِ الأمُّ ما
فهمتْهُ من إشاراتِ ولدها. إِنهُ اجتهَد كثيراً بفضلِ أمّهِ وأصدقائِه، ومعلمُه
يحبُّه كثيراً ويشجعُه، وهو مصممٌ أن يكونَ في المستقبلِ كاتباً. ثم إنَّ
أصدقاءه يفعلونَ دائماً ما يقولُ لهم. بعد أن أنهتِ الأمُّ تفسيرَ إشاراتِ
ولدِها تابعتْ: ماذا كنتَ تعني حين قلتَ: إنَّ الكثيرَ من الأمورِ ستتغير؟
أجابَها:
آن لنا أن نرحلَ من هذهِ القريةِ النائيةِ. في المدينةِ كلُّ ما يمكنُ أن
يحتاجَهُ المرءُ من خدماتٍ، ثم إن مجالاتِ العملِ فيها أكبر، وسيلتحقُ باسمُ
بمدرسةِ الصمِّ والبكمِ ويتعلمُ فيها. أنتِ تعلمين أنني أحضرتُ مالاً وفيراً
يمكّننا من تحقيقِ حياةٍ رغيدةٍ هناك.
قالت أم
باسم: أرى أنك اتخذتَ قراراً ولم تسألنا. نحنُ لا نريدُ سكنَ المدينةِ.
الخدماتُ متوافرةُ هنا بصورةٍ جيدةٍ، والمدرسةُ في القريةِ تتكفلُ بتعليمِ
ولدِنا باسم
أما عن
مجالاتِ العملِ فيمكنُكَ استثمارُ أموالِكَ في الزراعةِ أو في أيِّ مشروعٍ آخر
هنا. ثمَّ إن السعادةَ التي يحياها باسمُ هنا لن تُعوضَ لـهُ في أي مكانٍ آخر.
حسان:
أَعلمُ أنكُما تحبانِ القريةَ، ولكن ستعتادانِ الحياةَ في المدينةِ أيضاً
وستجدانِ الفرقَ الكبيرَ بعدَ انتقالنا. لقد اتخذتُ قراري وانتهى الأمر. تعبتُ
في الغربةِ ولن أضيّع ما جنيَته هنا. كان باسمُ يراقبُ ما يدور بين والديهِ.
صحيحُ أنهُ لم يفهم كل ما دار ولكنَّه أدركَ أن ثمةَ خلافاً سيؤثرُ على صفوِ
حياتِهم. وقفَ وعلى وجههِ علائمُ قلقٍ وحزنٍ، ثم اتجهَ نحوَ غرفةِ نومِهِ.
صباحَ
اليومِ التالي اتجهَ الأبُ إلى المدينةِ لشراءِ مسكنٍ مناسبٍ، ولقاءِ صديقهِ
المحامي عادل للتفكيرِ في مجالٍ يمكنّهُ من استثمارِ أموالِه. بينما أعدتِ
الأمُّ طعامَ الفطورِ لولدِها. على مائدةِ الطعامِ لاحظَ باسمُ حزنَ أمهِ
فأشارَ إليها بيدِهِ مُستفسراً وأخذَتْ تُشيرُ أن والدَهُ قررَ اصطحابَهُما
للسكنِ في المدينة حيثُ الخدماتُ والعملُ والمدرسةُ المناسبةُ. حاولت إقناعَ
وَلدها بما لم تَقتنعْ نفسَها بهِ، ولكنَّها فشلتْ وهاهي علاماتُ الغضبِ تبدو
جليةً على وجهِ باسم. أشارَ أنه لن يغادرَ القريةَ، وحينَ أكدتْ بالإشارةِ أن
والدَهُ مصممٌ على ذلكَ، دخلَ غرفتهُ وما خرجَ منها إلى أنْ حانَ موعدُ لقاءِ
الأصدقاءِ عندَ الساعة الرابعة عصراً. وقربَ شجرةِ الأحلامِ اجتمعَ الأصدقاءُ
الخمسةُ. كتبَ باسمُ أنَّ والدَهُ مصمّم على الرحيلِ. فسأل رافع: ما الذي
يمكننا فعلَهُ؟
قال وكتبَ
نجيبُ: نزورُ أبا باسم، ونحاولُ إقناعَهُ بالبقاءِ هنا. هزَّ باسمُ رأسَهُ
يائساً، فهو أدركَ أنَّ والدَتهُ بذلْتُ جهداً في هذا السبيلِ ولم تفلحْ.
أشارَ
سعدُ: سنحاول. ومساءً، حينَ عادَ الأبُ من المدينةِ واجَهَ الأصدقاءَ الخمسةَ
عند باب البيتِ. ابتسمَ، فحدثُوهُ راجينَ أن يُلغيَ فكرَة السفرِ. فتبدلتْ
علائمُ وجهِهِ من ابتسامةٍ إلى غضبٍ. وصرخَ: ما كان ينقصُني إلا تدخلّ الصغارِ
في حياتي. طأطأ الأصدقاءُ رؤوسهُم.
وغادَروا
المكانَ. حاولَ باسمُ مرافقتهم إلا أنَّ والدَهُ أمسكَ بيدهِ، وشدَّهُ إلى
الداخلِ رأتْ أمُّ باسم المشهدَ وقد سمعتْ صراخَ زوجِها فأدركتْ ما حَصَلَ.
قالتْ لـهُ: ما كانَ عليكَ أن تعامِلَهمُ بهذه القسوة. إنهم أصدقاءُ باسم
الأوفياءُ.
ردَّ أبو
باسم: لا أريدُ أن أسمعَ مَن يحاولُ تعديلَ قراري. سفرنا إلى المدينة سيكون بعد
ثلاثةِ أيامٍ فقد اشتريتُ مسكناً واتفقتُ مع صديقي عادل على إقامة مشروعٍ
تجاريٍ مناسبٍ. أفلتَ باسمُ من يدِ والدهِ واتجهَ نحو غرفتهِ حزيناً.
فتابعتْ
أمُّ باسم: إنكَ لا تهتمُ بمشاعرِ ولدنا الذي أحببْتُ أن أقدمَ كلَّ ما أستطيعُ
لإسعادهِ، وفرحتُ وأنا أراقبُ تآلفَهُ وانسجامَهُ مع أصدقائهِ.
قالَ
حسانُ: ما أفعلهُ هوَ في مصلحتهِ أيضاً، فمدرسةُ الصم والبكمِ ستعلِّمُه ما
تعجزُ مدرسةُ القريةِ عنه. توقفَ الحوارَ عندَ هذا الحدِ، فالأبُ العائدُ منَ
المدينةِ متعبٌ وعلى الأمِّ أن تهيئ لـهُ طعامَ العشاءِ.
* * *
وفي اليوم
التالي وقربَ شجرةِ الأحلامِ وقفَ سعدُ ونجيبُ ورافعُ وعمارُ. قالَ سعدُ: أرى
أنَّ الحلمَ الذي تحققَ سيسببُ لنا الحزنَ. تابعَ نجيبُ: بما أنَّ أمرَ السفرِ
مؤكد فلنتحدثْ إلى صديقِنا باسم عن جمالِ الحياةِ الجديدةِ التي سيعيشُها.
لنحاولَ
مواساته ما استطْعنا. لنخبَرُه أننا سنبقَى أصدقاءَهُ المخلصين وسنكتُب لـهُ
الكثيرَ من الرسائلِ.
وعامرُ
قال: لماذا يريدُ أهلنا أن نعيشَ حياةً مختلفةً؟ نحنُ مع أصدقائِنا وأَحبتِنا
نستطيعُ أن نكوَن مثل كلِّ الناسِ. إنني أنسى إصابتي بالشللِ وأنا بينكُم.
وعندَ بابِ الحديقةِ بدا باسمُ يتقدمُ وعلاماتُ حُزنهِ جلَيةً. أسرعَ الأصدقاءُ
الأربعةُ نحوَهُ.
أشارَ
إليهم أن يومين يفصلانه عن السفرِ إلى المدينة ولنْ يتمكَن من لقائِهم بعدَ
اليومِ وعندما بدأ الأصدقاءُ يشيرونَ بأيديهم ما يُوحي أنَّ المدينةَ جميلة
وأنهُم سَمِعُوا الكثيرَ عنها كانَ باسمُ شارداً. ومع محاولاتِهم رَسم
الابتسامةِ على وجهِه إلا أنه ظلَّ كئيباً، وقبلَ أن ينقضي وقت لقاءِ الأصدقاءِ
انطلقَ الخمسةُ نحوَ أغصانِ شجرةِ الأحلام وأحضرَ كلٌّ منهُم ورقةَ أحلامهِ
ليضيف حلماً جديداً إشاراتُ باسم أوضحت لأصدقائه رغبته أن تبقى ورقةُ أحلامهِ
وغصنُ أحلامِه بانتظارِ عودتِه.
بعدَ قليلٍ
كانت الدموعُ تُعبّرُ بوضوحٍِ تامٍ عن حالةِ الحزنِ التي سبَّبها قرارُ والدِ
باسم وانطلقَ كلُّ منَ الأصدقاءِ الخمسة نحوَ منزلِ أسرتهِ كئيباً. إنَّهُ حزنُ
الوداعِ.
* * *
حينَ كانَ
سائقُ السيارةِ يهمّ بالانطلاقِ كانَ الكثيرُ من أهلِ القريةِ يلوحونَ تلويحةَ
الوداعِ لأسرةِ حسان، ومعلمُ باسم أحضرَ تلاميذَهُ رفاق باسم ليقولوا لـه
بابتساماتٍ ودموعٍ: معَ السلامةِ.. إلى اللقاءِ يا باسم. وتابَعُوا جَميعاً
السيارةَ بعيونِهم حتى أخْفتها الطريقُ. أصدقاءُ باسم (نجيبُ وسعدُ ورافعُ
وعمارُ) اتجَهُوا نحوَ شجرةِ الأحلامِ. لم يلعبوا هذهِ المرة، إنما وَقَفوا
قُربَ غصنِ أحلامِ باسم. وبعدَ قليلٍ عادَ كلٌّ منهُم إلى منزلِ أسرتِه.
وتمضي
الأيام.. مرَّ أسبوعٌ على وجودِ أسرةِ حسان في المدينةِ، والابتسامةُ لا زالت
غائبة عن وجوهِهم. رغمَ أن حسان اصطحَب زوَجتَهُ وولدَهُ لمشاهدةِ معالمِ
المدينةِ الجميلةِ، والتعرُّفِ على مدرسةِ الصمِ والبكم القريبةِ من منزلهم
الجديد.
لكنَّ حزنَ
باسم أثارَ قلقَ والديهِ. حاولتْ أمه أن تصَحَبُهَ للقيام بزيارة إلى السوق
ورفضَ. وحاولَ والدُهُ ثانيةً دون جدوى، وباسم بقيَ حبيسَ غرفتِهِ. وصباحَ
اليوم التاسعِ استيقظَ حسانُ وزوجتُهُ. أُصيبا بالذهولِ فسريرُ باسم فارغٌ. لقد
اختفى. انطلقَ الوالدانِ في رحلةِ البحثِ التي طالت كلَّ الأماكنِ القريبةِ،
ثمَّ شملتِ المشافي وأقسامَ الشرطةِ ولم يظفرْ أحدهما به، فعادت الأمُ وتبعها
الأبُ واليأسُ بادٍ على وجههِ. أطرقَ قليلاً ثم قالَ: سنعلنُ عبرَ وسائلِ
الإعلامِ عن فقدانِ ولدنا. فهزتِ الأمُّ رأسَها ثم قالت: تُرى هل بمقدورهِ
العودة إلى القرية؟ ردَّ حسانُ: مستحيل. إنه لا يعرفُ مكانَ مركزِ الانطلاقِ
وليسَ بمقدورهِ أن يسألَ ولا يملكُ مالاً.. ولا يمكنُه العودةَ. وبَسَطَ الليلُ
جناحَ العتمةِ. أنوارُ البيوتِ أخذت تنطفئُ.. وحسانُ أغفى، لكنَّ زوجتهُ جلستْ
عند طرفِ السريرِ تفكّرُ في غيابِ ولدِها باسم. مرَّ الليلُ بطيئاً، ومع قدومِ
الصباحِ انطلقَ حسانُ مْنَ جديدٍ في رحلةِ البحثِ وزوجتهُ اختارتْ طريقاً آخر.
وفي القريةِ، قربَ جذعِ شجرةِ الأحلام أمضى باسمُ ليلتَهُ. ومع إطلالةِ الفجرِ
شاهَدُه صديَقه نجيب. لم يحضرْ إليهِ إنما أسَرعَ مُتلهفاً يخبرُ بقيةَ
الأصدقاءِ. وبَعد قليلٍ كانَ الخمسةُ يضمُّهم عناقُ شوقٍ ولهفةٍ. ثم مدَّ كلُّ
منهمُ يده إلى ورقةِ أحلامه، فأخرجَها ورسَم ابتسامة إلى جوارِ آخرِ حلمٍ
كتبَهُ. أخبَر باسمُ أصدقاءَهُ بالإشارةِ أنَّه لن يعيشَ حياتَهُ بعيداً عنهم..
عن القريةِ.. عن شجرةِ الأحلامِ. بعد أن جلسُوا حاولَ الأصدقاءُ مواساته
والتخفيف عنه. ورغمَ إلحاحِهم أن يرافِقَهُم إلى أي بيتٍ من بيوتهم إلا أنه
أصرَّ أن يبقى إلى جوارِ الشجرةِ. فلديه الكثيرُ من الأحلامِ التي يجبُ عليهِ
كتابتها. أحضرَ الأصدقاءُ لباسمَ الطعامَ والماءَ، ورجاهُم ألا يخبرُوا أحداً
بوجودِه خشية أن يُرسلُوا في طلبِ والدهِ الذي سيصحبهُ من جديد إلى المدينةِ
وهذا ما يرفُضُه أبلغهم أنه سيبقى في الحديقةِ فالجّو الربيعي سيساعدُهُ. وما
انقضتْ ساعاتُ النهارِ حتى وصلت أم باسم إلى القريةِ. انتقلتْ إلى الحديقةِ. لم
تُفاجأ وهي تراقبُ ولدهَا المتكئ إلى جذعِ شجرةِ الأحلام.. أسرعتْ إليهِ. حاولَ
أن يهربَ، إلا أنها أخذتْ تشيرُ إليهِ أنها لن تعودَ إلى المدينةِ بعد الآن،
ضمتهُ إلى صدرها. وفي المدينةِ، حينَ عادَ حسانُ إلى بيتهِ قرأ رسالةً كتبتها
زوجتهُ قبلَ أن تغادرَ قالت فيها:
(إنني
واثقةٌ من و جودِ ولدي في القريةِ حيثُ الأصدقاءُ الذين يحبهم ويحبونه وحيثُ
شجرة الأحلام التي لا يمكن لباسم أن يعيشَ بعيداً عنها. إنني اخترتُ البقاءَ
إلى جانبِ ولدي في القريةِ وسنكونُ سعيدين إن قررتَ اللحاقَ بنا.. إننا
ننتظركَ) فكرَ حسانُ، حدثَ نفسه
(ما الذي
جعلَها واثقة من وجودِه في القريةِ؟.. ثم ما حكايةُ شجرةِ الأحلام؟ يبدو أنني
تصرفتُ بأنانية). بعد قليل أخذَ يجمعُ بعض الأوراقِ في حقيبتهِ، واستقلَّ
سيارةَ أجرةٍ سارت به في طريقِ العودةِ إلى القريةِ وحينَ وصلَ كانت ابتسامتُه
تقولُ لزوجتِه: لقد قررتُ أن أكونَ معكم.
سأَلَها:
أين باسم؟ فردتْ: إنهُ نامَ بعد أن أحسَّ بالأمانِ. وروتْ لـه كيفَ تَمَكَّنَ
باسمُ من العودةِ إلى القريةِ. إنه كتبَ اسمَ قريتِه على ورقةٍ وأخذَ يُريها
لأناسٍ ساعدُوه حتى وصلَ مركزَ الانطلاقِ، ثم ركبَ إحدى الحافلاتِ التي ستنطلقُ
إلى القرية بعدَ أن أشارَ للسائقِ أنَّهُ لا يملكُ نقوداً، فسامَحَهُ السائقُ.
قال حسانُ: وما حكايةُ شجرةِ الأحلام؟
أم باسم:
إنها شجرةُ زيتونٍ خضراءَ فتيةٍ عندَ طرفِ الحديقةِ اختارَ باسمُ وأصدقاؤُه
أغصانَها مخبأً لأحلامِهم.. قال حسانُ: أريدُ أن أراها الآن.. أريدُ أن أتعرفَ
إلى أحلامِ ولدي ورفاقِه.
أم باسم:
وأنا معك.
وعندَ
شجرةِ الأحلامِ وقفَ حسانُ وإلى جوارهِ زوجتُه. فتشَ عن أوراقِ الأحلامِ وحينَ
وجدها قرأَ بدايةَ الورقةِ التي سطرَ فيها ولدُه باسمُ أحلامَهُ. كان في
مقدمتها حُلمٌ بعودةِ الأبِ سالماً من بلاد الغربةِ، ثم حلم أن يتمكنَ يوماً من
التحدثِ والسمع مثل الناس، وحلم باستمرار صداقتهِ مع نجيب وسعد ورافع وعمار
وآخرين وأن تتحققَ أحلامُ الأصدقاءِ، وأن تعودَ عافيةُ صديقهِ عمار وأن يكونَ
كاتباً في المستقبل، وقرب النهاية سجلَ حلَمهُ أن يغيرَ والدهُ قرارَ الانتقال
إلى المدينةِ. انتقلَ بعدَها لقراءةِ ما كتبَ أصدقاءُ ولدهِ. لفتَ انتباهَهُ أن
أحلامَهُم جميعها تبدأ بحلمِ عودةِ والدِ باسم، ثم قرأ أحلاماً ترسمُ صُورَ
البراءةِ، فسعدُ حَلُمَ أن يرى والده وقد وجدَ عملاً مريحاً يخففُ من متاعبهِ،
وحَلُمَ رافعُ أن يرى أسرَتهُ تنتقلُ إلى مسكنٍ جديدٍ يكونُ ملكاً لهم
ليرتاحُوا من التنقلِ من منزلٍ مستأجرٍ إلى آخر. أما نجيبُ فقد حلم أن يتمكنَ
شقيقُهُ من متابعةِ دراستهِ الجامعيةِ وهو الطالبُ المجدُ حيثُ يقفُ المالَ
عائقاً في سبيلهِ، وعمارُ حلم أن يتمكنَ والده من إجراءِ عمليةٍ جراحيةٍ
لوالدتهِ التي تعاني من مرضٍ في القلب. أعادَ حسانُ أوراقَ الأحلام إلى
أغصانِها، وعادَ برفقةِ زوجتهِ إلى البيتِ. وحينَ قدمتْ لـه فنجاناً من القهوةِ
انتبهَتْ لشرودِهِ.
قالت لـه
مبتسمةً: هل أعجبتكَ فكرةُ الأحلامِ؟
ردَّ
عليها: أجل. وأفكرُ كيفَ سأدخلُ السعادةَ إلى قلوبِ هؤلاءِ الأطفال. لقد حلمتُ
كثيراً حين كنتُ صغيراً مثلهم. جميع الأطفالِ يحلمون. سأفعلُ ما بوسعي لتحقيقِ
ما أستطيعُ من أحلامِهم.
* * *
زارَ حسانُ
المدينةَ من جديدٍ، وقررَ أن يوكلَ أمرَ المشروعِ التجاري لصديقهِ عادل فهو
سيبدأُ العملَ في مشروعٍ زراعي في القريةِ. بعد ذلك تحدث حسانُ عن حلمهِ في
إسعاد الأطفال وفكرته في إنشاءِ جمعيةٍ ترعى أحلامهم وتعملُ على تحقيقها يسميها
(جمعية أحلام الأطفالِ). استمعَ عادلُ إلى حديثِ حسان، أبدى إعجابَهُ الشديد
وتأييدَهُ المطلق لَفكرتِه، واتفقا على دعوةِ بعضِ الأصدقاءِ للمساهمةِ في
تأسيسِ الجمعيةِ.
مضتْ أيامٌ
قليلةٌ استعادَ خلالَها باسمُ وأصدقاؤهُ ألقَ صداقتِهم وعادُوا لِلهْوَهِمْ
ومَرَحِهِمْ.
بعدَ
شهرين، وخلالَ اجتماعِ الأصدقاءِ الخمسةِ قربَ شجرةِ الأحلام بدتِ السعادةُ
والدهشةُ على وجهِ سعدٍ. قالَ وكتبَ: لقد وجدَ أبي عملاً مُريحاً وبأجرٍ ممتازٍ
وذلك بفضل جمعيةٍ اسمُها جمعيةُ أحلامِ الأطفال.
وقالَ
نجيبُ وكتبَ: تلقَّى شقيقي رسالةً من جامعةِ الأمانةِ تبلغه أنَ عليهِ
الالتحاقَ بالجامعةِ لمتابعةِ تحصيلهِ العلمي، وحينَ زارَ شقيقي مقرَّ الجامعة
أخبَرُوهُ أنَّ جمعية أحلام الأطفال سددتْ عنُه رسوم التسجيلِ والدراسةِ،
ودفعتْ ثمنَ الكتبِ.
تفاوتتْ
مشاعرُ الأصدقاءِ بين الدهشةِ والفرح وعادَ كلٌّ منهم إلى بيتِ أسرته. كان
باسمُ سعيداً، أخذَ يُشيرُ أمامَ والدَيْهِ ما يعني أن ابتسامات أصدقائِه بما
تحققَ أروع ما كان يَحلمُ برؤيته. تبادلَ والدا باسم النظرات والابتسام،
واحتضنا وَلدهما، وحينَ أفلتَ منهما ودخلَ غرفتَهُ قالت أم باسم: ما تُقدمُ
عليهِ مع أصدقائِكَ رائعٌ يا حسان.
فأجابها:
ما زالَ لدْينا الكثير. سنحاولُ فِعل أيّ شيء يُسعدُ الأطفالَ، ليسَ أصدقاءُ
باسم وحسب إنما الكثيرُ من الأطفالِ غيرهم. فأنتِ تعلمينَ أنّ عددَ أعضاءِ
الجمعيةِ يزداد، وقدرتُنَا على زرعِ الابتساماتِ على وجوهِ الأطفالِ تكبر.
* * *
ومرت
الأيامُ. المشروعُ التجاريُّ الذي يديُرُهُ عادل شريكُ وصديقُ حسان تألقَ،
ومزرعته أخذتْ تنتجُ أجودَ الثمارِ، وتحقُق الكثيرَ من أحلامِ الأطفالِ.
كبرَ باسمُ
وسعدُ ونجيبُ ورافعُ وعمارُ.. كبرتْ شجرةُ أحلامهم، وبقيت رفيقتُهُم الدائمة،
وبعد مضيِّ ثلاثِ سنواتٍ، أي عندما تجاوزَ الأصدقاءُ الرابعةَ عشرةَ عَلم باسمُ
أنَ من أسعدَ أصدقاءَهُ وأطفالاً كثر آخرين هو والده من خلال تأسيسهِ جمعيةَ
أحلام الأطفال. فرَح كثيراً لكنَّه لم يُخبر أصدقاءَهُ، وصمَم أن ينضمَ حين
يكبر إلى جمعيةِ أحلامَ الأطفال وسيكتُبُ قصةً عن والدهِ وهذه الجمعية وأصدقائه
وشجرةِ الأحلامِ. أجل.. فمن الأحلام التي قرَّرَ أن يحققَها بنفسه ودون مساعدةٍ
أن يُصبحَ كاتبَ قصةٍ، وسيبدأ العمل من أجلِ ذلك منذُ الآن.
أضيفت
في10/03/2006/ خاص القصة السورية/ عن مجموعته شجرة الأحلام الصادر
عن اتحاد الكتاب العرب (للتعليق
والمشاركة بالندوة الخاصة حول أدب الطفل)
|