العريس الهارب
في منتصف الليل، حدثَ ما لم يكن في الحسبان، فقد هرب والدي من عروسه،
وجاءني يلهث، ويقول:
ـ أريدُ أن أنام عندكم.
ـ لماذا؟!
ـ كرهتُ هذه المرأة.
ـ هل أساءت إليك؟
ـ ...
ـ ما لك ساكتاً؟!
ـ لا أشتهي الكلام.
ـ هيَّا معي، لأصلح بينكما.
قال والدي غاضباً:
ـ لن أجتمع معها، تحت سقف واحد!
ـ لماذا؟!
اربدَّ وجهُ والدي، وأعرض عنِّي..
شعرتُ أنَّني ضايقته، فكففتُ عن الكلام، وأعددتُ له فراشاً لينام، وبتُّ
مؤرَّقاً مسهَّداً، ووجهُ والدي الحزين، ماثل أمامي، يقلق نفسي، ويشغل
بالي.. سامحك الله يا والدي، لماذا تزوَّجْتَ، فأتعبْتَ وتعبتَ؟!
ليتني أعلم كيف نبتتْ فكرةُ الزواج في رأسك، وأخذتْ تنمو وتترعرع، شيئاً
فشيئاً، بعد مرور تسعة أعوام، على وفاة والدتي، رحمها الله.. كيف سوَّلتْ
لك نفسك الزواج، وأنت شيخ كبير، تجاوزَ السبعين، ضعيف البنية، أبيض اللحية،
تعرَّقَ الزمنُ عظمكَ، وحنتِ السنون ظهرك، فاستعنتَ على حملها بعكّاز، يسير
معك، حيثما تسير.. ماذا أصابك؟!
كنتَ تعيش عيشة راضية، لا تشعر بوحدة أو وحشة، فقد طلبتُ إليك، إثرَ وفاة
والدتي، أن تبيع دارك، وتعيش عندي، لأنَّني ابنك الوحيد، فاستجبتَ لي
مسروراً، واشتريتَ بثمن الدار، دكّاَناً صغيراً، تشغل به حياتك الخاوية،
وتكسبُ منه ربحاً يسيراً، أشدُّ به أزْرَ راتبي الضعيف، الذي أجنيه من
التعليم..
وسارت حياتنا ـ كما تعلم ـ هادئة هانئة، لا تشوبها شائبة.. زوجتي الطيِّبة،
تحوطك بالرعاية والعناية، وأطفالي الصغار، يغمرونك بالحبِّ والاحترام،
وحينما تسأم منّا، تذهب إلى غرفتك الخاصة، لتنام أو تستريح، فمن زرع فكرة
الزواج في رأسك، فعصفَتْ بهدوئك وصمتك، ولعبَتْ بعقلك وقلبك، فصرتَ تحفظ
أسماء الأرامل، وتتسقَّطُ أخبارَ العوانس، وأنت مشفق متعطِّف، كأنَّك مسؤول
عنهنَّ أمام الله، يوم يقوم الحساب..
وجاءك شيوخٌ تزوَّجوا حديثاً، وعرفوا ما يشغل بالك، فأخذوا يزيِّنون لك
الزواج، ويحضّونك عليه، فنزلتْ أحاديثهم على قلبك الذابل، كقطرات الندى
البارد..
لقد علمتُ ذلك، وعلمتُ أنَّك كنت تبثُّ العيون والوسطاء، في المدينة
والأرياف، يتحسَّسون لك أخبار الأرامل، وأحوال المطلقات، ويعطونهنَّ عنوان
دكّانك، فزارتك نساءٌ كثيرات، يتعلَّلن بالشراء، وينظرن إليك نظرة فاحصة،
ثم ينصرفن عنك خائبات يائسات..
أمّا أنت، فلم تعرف اليأس، بل ظللت تطوف وتبحث، وتتشمَّم وتسأل، وتردِّد
بمناسبة، وبلا مناسبة، قوْلَ أحد الصالحين (زوِّجوني فإنّي لا أحبُّ أن
ألقى الله عزباً).
وكان لا بدَّ لي أن أجالسك، وأُحاورك..
ـ هل قصَّرنا في خدمتك؟
ـ لا.
ـ هل أهملتك زوجتي؟
ـ لا.
ـ إذن لماذا تريد أن تتزوَّج؟!
وأحرجك هذا السؤال، وضيَّق عليك الخناق، ولكنَّك ما لبثت أن قلت محتدّاً:
ـ إذا برز لي دُمَّل في... فهل أكشفه لك، أو لزوجتك؟ أيجوز هذا في شرع
الله؟!
وظننتَ أنَّك قد أفحمتني، فرفعتُ رأسي، وقلت:
ـ منذ سبعين سنة، لم يظهر هذا الدمَّلُ، فلماذا تتوقَّعُ ظهوره الآن، وفي
هذه المنطقة ذاتها؟
وضقتَ بي ذرعاً، فقلتَ مغتاظاً:
ـ سأتزوَّج مثل غيري، ولن أطلب منك قرشاً، وإذا اعترضتَ عليَّ فسوف أغضبُ
عليك!
وأذعنتُ لك طائعاً، لم أعترض عليك، ولم أحرمك الفرح، في آخر عمرك القاحل،
وقلت لك راضياً:
ـ افعل ما تشاء يا أبي، ولكنْ هل وجدت العروس؟!
ـ لا تشغل بالك، لقد وجدتها.
ـ وهل وافقتْ؟
ـ نعم، وافقتْ، وهي تضحك.
وخطبتُ لك مَنْ رضيتَ بها، ورضيتْ بك، غير أنَّني حينما رأيتها، أشفقتُ
عليك منها، ألم ترَها؟.. إنَّها أرملة تناهز الخمسين، بادنة سمينة، يضيق
البابُ عنها!
وقد بعتُ لأجلها أساور زوجتي، وبعتَ أنت بضاعة دكّانك، وجمعنا مهرَها
المطلوب..
وفي ليلة الزفاف، رأيتك منهمكاً في تشذيب لحيتك، تأتيها من هنا، وتأتيها من
هناك، حتى برَدْتَها برداً، ثم خرجتَ إلى الناس، بجلباب فضيّ مخطَّط، لم
أرَهُ عندك قطُّ، ولم أدرِ من أين نبشتَه، وأظن أنَّك قد ارتديته يوم دخلتَ
بوالدتي، قبل أن أرى النور، فحسبتك وأنت تخطر فيه، كأنَّك خارج توّاً، من
متحف قصر العظم..
كان فرحك نقيّاً، كفرح طفل صغير، وكان فرحي مشوباً بالأسى، لحلول امرأة
غريبة محلَّ والدتي الحبيبة، واحتفل بك أصدقاؤك الشيوخ، وأحاطوا بك، وهم
يغنّون ويهزجون، فكانت أسنانهم الصناعيَّة تطقطق، وأيديهم المعروقة تصفِّق،
وحينما أدخلوك على عروسك، انصرفوا وهم يتغامزون..
وفي الصباح، تحلّقنا جميعاً، حول الفطور، فرأيتُ السرور يلمع في عينيك،
ففرحتُ لفرحك، وسلوتُ ما بذلت..
وفي الصباح التالي، ألفيتُ الأمر مختلفاً، فقد أبصرتك كئيباً حزيناً،
تتحاشى النظرَ إلى عروسك، وتوليها ظهرك، وأنت ناكس الرأس، كأنَّك اقترفتَ
ذنباً، وكانت عروسك ترمقك ساخرة، فأشفقتُ عليك منها، وسألتك عن الأمر،
فصددتَ عنّي، وأطرقتَ واجماً، لا تنبس بكلمة.. ابتعدتُ عنك، وقلبي معك،
وأمضيتُ نهاري، في حيرة وذهول، وفي منتصف الليل، حدث ما لم يكن في الحسبان،
فقد هربتَ من عروسك، وجئتني تلهث، وتقول:
ـ أريدُ أن أنام عندكم.
وهاأنت ذا نائم، وأنا ساهر يقظان، تتعاورني الهواجسُ والوساوس، أرتقب ضوء
الصباح، عسى أن تُظهر لي ما تخفيه عنّي، فيهدأ بالي، وأرتاح..
وأقبل الصباح، بعد ليل طويل..
تقَّلبَ والدي في فراشه، ثم فتح عينيه، فوجدني أمامه أرنو إليه..
التفتَ يمنة، والتفتَ يسرة، لم يجد مهرباً ولا مفرّاً، فقال لي وهو يائس
محزون:
ـ كان زواجي غلطة كبيرة.
ـ لماذا؟
قال وقلبه يتفطر:
ـ ما لي وللزواج، لقد ضاع عمري، وانتهيت.
بثَّ الحقيقة المرَّة، وأطرق واجماً صامتاً..
لم أرَ حزناً أفدح من حزنه، ولا صمتاً أبلغ من صمته.
حرتُ في أمري، واستغلق عليَّ الكلام!
وددتُ لو عاجلَّني الموت، قبل أن أراه على هذه الحال، فلم أتمالك أن انحنيت
عليه، وطوَّقته بذراعيَّ، أقبِّله راحماً، كأمٍّ رؤوم، فسكن إلى صدري،
كطفلٍ مذنبٍ يتيم..
التلاشي
كان أتباع رفيع المقام يعيشون عيشة راضية، يلعبون بالمال، ويتقلّبون في
النعيم..
دفعَتْني زوجتي دفعاً، لأعمل تحت جناحيه، وأنتشلها من الفقر.
قابلتُ رفيع المقام، وطلبتُ أن أعمل عنده.
رمقَني من علٍ، وقال:
ـ مَن يعمل عندي، يأتمر بأمري.
قال رجاله، بصوتٍ واحد:
ـ مَن يعمل عنده، يأتمر بأمرهِ
قلت:
ـ أنا مع الجماعة، ولن أشذَّ عن رأيها.
ضحكَ رفيعُ المقام، وقال ساخراً:
ـ الرأي الأوحد هو رأيي، وما على الجماعة إلا الطاعة.
قال رجالُهُ، بصوتٍ واحد:
ـ الرأي الأوحد هو رأيه، وما على الجماعة إلا الطاعة.
قلت ناصحاً:
ـ رأيان أحسنُ من رأي!
قال جازماً:
ـ لا رأيَ إلاّ رأيي.
قال رجاله:
ـ لا رأيَ إلا رأيه.
قلت مدهوشاً:
ـ أنتَ إنسان، والإنسانُ يخطئ ويُصيب!
قال غاضباً:
ـ أنا لا أُخطئُ أبداً.
قال أتباعُهُ:
ـ لا يُخطئُ أبداً.
قلت هامساً:
ـ الناسُ يتَّهمونكَ بالظلم، واختلاس المال!
عبسَ رفيع المقام.
عبس أتباعُهُ جميعاً.
سعل رفيعُ المقام.
سعل أتباعه جميعاً.
قال رفيع المقام:
ـ أنا لا أكترثُ بالناس، ولا بما يقولون.
أمسكتُ عن الكلام، وأنا حائرٌ مشدوه!
ابتسمَ رفيع المقام.
ابتسمَ أذنابُهُ جميعاً.
مال ذات اليمين.
مالوا ذات اليمين.
مال ذات الشمال.
مالوا ذات الشمال.
قال رفيع المقام:
ـ لن أقبلَ بكَ حتّى تصير مثل رجالي هؤلاء.
ـ أيَّ رجالٍ تقصد؟
ـ الرجالَ الجالسين حولي.
حملقتُ جيِّداً، وقلت مدهوشاً:
ـ لا أرى حولكَ أيَّ رجال!!
زوجة رجل آلي
كان الزوج مستغرقاً في حساباته، عندما صرختْ زوجُهُ في وجهه:
ـ أكرهكَ.. أكرهك!
وكانت هذه أوَّلَ صرخة، تمزِّق الهدوء المزمن، الذي يعشِّش في البيت، منذ
ثلاث سنوات عِجاف، مضتْ على زواجهما، لم ينجبا فيها ولداً، لأنَّ خطَّة
الزوج العتيدة، توجبُ تحصيل الثروة أوَّلاً، وإنجاب الأولاد ثانياً..
وقد حاولتِ الزوجة مراراً، أن تثني زوجها عن رأيه، وتحدث تعديلاً في خطته،
فلم تلقَ منه أذناً صاغية، وارتدَّتْ عنه يائسة خائبة، تقول في نفسها:
ـ قد يكون أعقلَ منِّي، فهو يكبرني بسبعة عشر عاماً.
وقنعتْ بهذا التعليل، وعاشت في البيت الهادئ، هدوء المقابر، وقد أحبَّتْ
هذا الهدوء، في بادئ الأمر، ولكنَّها مع مرور الأيام، أخذتْ تضيق به ذرعاً،
وتحسُّ بوطأته عليها، كأنَّه كابوس ثقيل، فالزوج يخرجُ في بياض الصباح، ولا
يرجع إلاّ في سواد الليل، وتبقى الزوجة في البيت، وحيدة موحشة، تنتظر إياب
زوجها..
وحينما يعود، يحادثها قليلاً، ويستريح قليلاً، ثم يُقبل على حساباته،
وقوائم بيعه وشرائه، فيغرق فيها حتى أذنيه، وتحاول الزوجة أن تنتشله منها،
وتجذبه إليها، فتأتيه من هنا، وتأتيه من هناك، تحادثه مرَّة، وتمازحه أخرى،
وهو صامت بارد، كأنَّه خارج من ثلاجة، فتسري برودتُهُ إليها، وتبرد
حماستها، فتنسحب مخذولة محزونة..
وتمكثُ أيّاماً طوالاً، تشحذ عزيمتها، وتجمع قواها، ثم تكرُّ عليه من جديد،
لتدكَّ حصنَ هدوئه، وتذيب جليد روحه، فتنحسرُ أمواجُ اندفاعها، حاملة هزيمة
جديدة، ويظلُّ الزوج صامداً جامداً، لا يشعر بانتصاره، ولا يشعر بانهزامها،
فصارت زوجته تنفر منه، وتكره هدوءَهُ وجموده، وتتوق إلى رؤية تعبير ما على
وجهه، أو تغيير ما في ملامحه، ولكنَّ شوقها طال، ولم تظفر بطائل، فزوجها
تمثال جامد، قسماته محفورة بالإزميل، لا تقبل التبديل ولا التحويل، وهي
قسمات باردة محايدة، لا تدلُّ على إحساس، ولا تنمُّ على انفعال، وهذا ما
كان يغيظها، فهي لا تميِّزُ بين فرحه وحزنه، ولا بين حبه وكرهه، فوجهه لا
يفصح عن شيء، إنَّه وجهٌ هادئ بارد، مَصوغ من شمع جامد!
وحارتِ الزوجة في أمره وأمرها، فغدتْ ساخطة على زوجها، ساخطة على نفسها،
لأنَّها قبلتْ هذا الزوج، وهي لا تعرف عنه شيئاً، سوى أنَّهُ غنيّ، فغلب
شعاعُ ذهبه شعاعَ عقلها، ومدَّتْ لـه عنقها راضية، فطوَّقها بسلسلة من ذهب
برّاق..
ومهما يكن الأمر، فقد حمَّلتْ عائشة نفسها، مسؤولية هذا الزواج، وبذلتْ ما
استطاعت، لتنقذه من الإخفاق، فها هي ذي الآن، في يوم عيد زواجهما، تلبس
ثوبها الأنيق الزاهر، وتكحلُ عينيها السوداوين، وتتعطَّرُ بعطر فاخر، ثم
تقف أمام المرآة، فتُبرزُ المرآة الصافية، فتاةً هيفاء سمراء، تناهزُ
الحادية والعشرين، لم تزدها الأيّام إلا حسناً وجمالاً، فتبسمُ مزهوَّة،
كعروس مجلوَّة، وتذهب إلى زوجها، تتهادى على أطراف أصابعها، لتباغتهُ
وتبهره..
كان الزوج يملأ الكرسيَّ بجرمه، وكان رأسه الكرويّ يتدلّى على صدره، فيحسب
مَن يراه أنَّه نائم، بيد أنَّ زوجته ـ وحدها ـ تعرف أنَّه يقظان، يجمعُ
ويطرح، ويرمق الأعداد، بعينين شاخصتين، لا تختلجان ولا تطرفان..
وقفتِ الزوجة طويلاً، والزوجُ لا يلتفت إليها، ولا يشعر بها، فقالت بغنج
ودلال:
ـ ما رأيك بهذا الثوب الجديد؟
رفع رأسه متباطئاً، وقال:
ـ جميل.
ونكس رأسه، يغازلُ حاسبته وأرقامه..
ـ ألا يذكّركَ تاريخُ اليوم بشيء؟
قال ورأسه ينوس:
ـ لا.
ـ إنَّهُ تاريخُ زواجنا!
ـ ...
ـ ألا تسمع ما أقول؟!
لم تلقَ الزوجة أيَّ جواب، فالزوج مكبُّ على الحساب!
شرعتْ تتأمَّلُ وجهه الهادئ البارد.. لم تجد فيه أيَّ أثر ينمُّ على إعجاب
أو انفعال، فهو كما عهدتْهُ مذ عرفته، أخذتْ تحدِّثُ نفسها مدهوشة:
(أيُّ رجل هذا؟!.. لم أسمع منه يوماً كلمة رقيقة، لم أرَ في عينيه ومضة
حبّ، أو شرارة كره، إنَّهُ لا يضحك، ولا يمزح، ولا يحزن، ولا يفرح، ولا
ينفعل، ولا يغضب.. إنَّهُ رجلٌ آليٌّ متزوِّج!)
طال وقوف الزوجة، والزوج مطرق، لا يرفع رأسه، ولا يفتح فمه..
تميَّزتْ عائشة من الغيظ، نترتِ الحاسبة من يده، وقذفتها بعيداً..
وسارقتْ زوجها النظرَ، فرأت وجهه هادئاً، كدأبه دائماً، فثارت ثائرتها،
وصرختْ في وجهه:
ـ أكرهكَ.. أكرهك!
نهض الزوجُ واقفاً، التقط حاسبته المرميَّة، وعاد إلى عمله، وبعد صمت ثقيل،
التفتَ إلى زوجته، وقال:
ـ ماذا قلتِ؟
ـ أكرهك.. أكرهك!
ـ لماذا؟
ـ أكرهك.
وانفجرتِ الزوجة باكية..
مدَّ الزوجُ يده، ليمسح لها الدموع، فأبعدتها بقوَّة..
ـ خذي هذا المنديل، وامسحي دموعك.
رمتِ المنديلَ بعيداً..
تركها زوجها، وعاد إلى حساباته، يراجعها ويدقِّقها، وهو مغلَّفٌ بالهدوء..
وشمَّ الزوجان رائحة طعام محروق!
قال الزوج:
ـ أطفئي الغاز، فالطعام يحترق.
ـ فليحترقِ الطعام، فليحترقْ كلُّ شيء.
ـ إيّاكِ أن تغضبي، فلقد قرأتُ في أحد الكتب، أنَّ الغضب نار تحرق الجسم
والعصب، وقد أودى بحياة أُناس كثيرين.
ـ كلّ ما قرأتَهُ كذب بكذب.
ـ ولكنَّ الأطباء يؤكّدون في أبحاثهم العلميّة، أنَّ الغضب ضارٌّ بالصحّة
ـ والأطباء كاذبون.
ـ إذا كنتِ مصرَّة على الغضب، فاغضبي بهدوء، لتحافظي على سلامة أعصابك.
ـ لم يبقَ عندي أعصاب.. حرقتَها ببرودتك!
ـ لو احترقتْ أعصابكِ لمتِّ فوراً.
ـ لقد متُّ منذ تزوَّجتك.
ـ وهل أنتِ ميِّتة الآن؟
ـ نعم.. أنا ميتة.
ـ كيف أفهم ما تقولين، وأنتِ تحادثينني؟
ـ إنَّك لم تفهم، ولن تفهم أبداً.
ـ كلامكِ هذا يثيرني.
ـ وماذا ستفعل؟
ـ سأطفئ الغاز.
همدتْ حماسة الزوجة، وشعرتْ بالخيبة والخذلان، فهذا الزوج يتحدّاها بهدوئه،
وإذا عجزتْ عن إثارته، ستنفجر مرارتها.. وجاءها زوجها، يحمل كأس ماء،
قدَّمه إليها، وقال:
ـ اشربي هذا الماء البارد.
ـ أنا أكره كلَّ بارد.
ـ هل أجلبُ لكِ ماء ساخناً؟
طاش عقلُ الزوجة، جذبتِ الكأس من يده، وقذفتها على البلاط، فتكسَّرتْ
وتبعثرت..
نظرتْ إلى زوجها خلسة، فألفتهُ هادئاً مثل ميِّت محنَّط!
قالت في سرِّها:
(أيُّ رجل هذا؟!، لمَ لا يغضب، لمَ لا يثور، لمَ لا يزجرني زجرة، أو يلوي
ذراعي مرَّة؟!)
نظر الزوج إلى الزجاج المكسور، والماء المراق، وقال بنبرة توحي بالحدَّة:
ـ لمَ فعلتِ هذا؟!
قالتِ الزوجة تحثه على الغضب:
ـ فعلته لأغيظكَ، أرني ماذا ستفعل؟!
ـ أتريدين إثارة أعصابي؟
ـ هذا ما أريده، إن كان عندك أعصاب!
ابتسم ابتسامة آليَّة، وقال:
ـ لن تفلحي أبداً.
خاب أملُ الزوجة، رمقتْ وجه زوجها، رأتْ ابتسامته الموقوتة، لم تقوَ على
احتمالها، أشاحتْ بوجهها، وابتدرتْ بابَ المنزل، وخرجتْ تهرول، على غير
هدى، في طريق مظلم مجهول..
الكهف
طويتُ القفارَ، وحيداً شريداً..
أنهكني المسير، وأضواني المرض.
وصلتُ إلى مدينة حديثة، يسكنها أناسٌ مثلي.
دخلتُ بين الناس، أرنو إلى وجوههم الناضرة..
أعرضوا عنّي، ولم يلتفتوا إليّ!
سخرَتْ منّي غُربتي وكُربتي.
تخاذلتْ رجلايَ، وخارتْ قواي..
وقعتُ على رصيف صُلب..
ارتضَّتْ عظامي الواهنة، صحتُ متألِّماً:
ـ آخ..!
أصمَّ إخوتي آذانهم، وتابعوا سيرَهم مسرعين..
جمعتُ قوايَ الضعيفة، ونهضتُ متثاقلاً.
خرجتُ من المدينة الحديثة، أجرُّ خيبة مريرة، وأقداماً متعبَة..
أويتُ إلى كهف صخريّ، قبعتُ فيه يائساً بائساً..
زفرتُ محزوناً:
ـ آه.. آه!
ردَّد الكهفُ محزوناً:
ـ آه .. آه!
فرحتُ بما سمعت.
أسندتُ ظهري إلى صخرة حانية..
سمعتُ نبضَ قلبها الرقيق!
نسيتُ أوجاعي وأحزاني.
أغمضتُ عينيَّ، وغفوت مسروراً..
القطرات الأربع
كان في قديم الزمام، ملكٌ كبيرٌ حكيم، اسمه حسَّان.. وكان الملك
حسان، يحبُّ الأذكياءَ، ويرفعُ قَدْرَهم، فهو يُقيم مُسابقةً، بينَ حينٍ
وآخر، يطرحُ فيها سؤالاً واحداً، ومَنْ يجبْ عنه، يقلّدْهُ وساماً ملكيّاً
رفيعاً.
واليوم. هو يومُ المسابقةِ الكبرى..
الملك حسان في شرفةِ القصر، وحولَهُ الوزراء والقُوّاد..
والساحة الواسعة، تغصُّ بالبشر ،من رجالٍ ونساءٍ وأطفال، وكلُّ
واحدٍ يقول في سِّرهِ :
- ماسؤالُ اليوم ؟!
لقد حضر الناسُ، من أقصى المملكة، ليسمعوا السؤالَ الجديد ...
- ما أَغلى قطرةٍ في المملكة؟
- ومتى الجواب؟
- في مثل هذا اليوم، من العام القادم .
***
وانصرف الناسُ، يفكِّرون في السؤال ...
قال طفلٌ لأبيه :
- إذا عرفْتُ أغلى قطرة، هل أنالُ وسامَ الملك؟
ابتسمَ والدهُ، وقال :
- نعم يابني!
قال الطفل :
- قطرة العسل .
- لماذا؟
- لأنها حلوةٌ ولذيذةٌ.
وقالتْ طفلةٌ لأُمِّها :
- أنا أعرفُ أغلى قطرة..
- ماهي؟
- قطرة العطر..
- لماذا؟
- لأنَّها طيِّبةُ الرائحة .
***
وشُغِلَ الناسً بالقطرات، فهذا يقول :
- إنَّها قطرةُ الزيت..
وذاك يقول :
- إنَّها قطرةُ النفط ..
وأكثرهم يقول :
- سؤالُ الملكِ، ليس سهلاً، كما تظنّون !
فما القطرةُ التي يريد ؟!
***
قال عقيل :
- لن أهدأَ حتى أعرفَ الجواب ..
وأقبلَ على مطالعةِ الكتب، ومصاحبةِ العلماء
تارةً يقرأُ في كتاب ،وطوراً يصغي إلى عالم...
مضتْ عدَّةُ شهور، ولم يصلْ إلى مايريد!
وذاتَ يوم...
زار عالماً كبيراً، فوجدَهُ مُنكباً على تأليفِ كتاب ...
المحبرةُ أمامه والريشةُ في يده..
وفجأة ..
لمع في ذهنه الجواب :
- إنها قطرةُ الحبر!
رمزُ العلوم والأدبْ
لولاها ضاع تراثنا ..
لولاها ماكانتْ كُتُبْ
***
وفي مكانْ آخرَ من المملكة، كان ربيعةُ يمشي تعِباً، في أرضٍ قاحلة
جرداء ..
اشتدَّ به العطش، ولم يعثرْ على ماء!
ظلَّ يسيرُ حتى وهنَتْ قواه، وأشرفَ على الهلاك .
- ماذا يعمل ؟!
وقف يائساً ، ينظرُ حوالَيه ..
شاهدَ بقعةً خضراء !
لم يصدِّق عينيه، وقالَ مُستغرباً :
- الأرضُ الميتةُ، لا تنتجُ خضرة!
ومع ذلك ..
سارَ نحو البقعة الخضراء، يدفعه أملٌ جديد...
وعندما وصل إليها ،وجد الماء !
أقبل عليه فرِحاً، يشربُ ويشربُ، حتى ارتوى تماماً..
حمد الله، وقعد يستريح، ويتأمَّلُ المياه،
وما يحيط بها، من عشبٍ غضٍّ، ونبتٍ نضير...
وتذكرَّ سؤال الملك، فنهض واقفاً، وقال :
- لقد عرفتُ أغلى قطرة !
إنَّها قطرةُ ماء
فيها أسرارً الحياة
إنَّها قطرةُ ماء
***
واختلط الحارثُ بأصنافِ الناس ...
شاهدَ البنَّاءَ الذي يحوِّلُ كومةَ الأحجارِ إلى قصر جميل، وشاهد
النجارَ الذي يصنعُ من جذعٍ غليظِ خزانةً أنيقة...
وشاهد الفلاح الذي يحوِّلُ أرضه البَوار إلى جنَّةِ أشجارٍ وثمارٍ
شاهد وشاهد كثيراً من العمال، الذين يعمرون الوطن، ويسعدون البشر
وشاهد قطرات العرق، تزين جباههم السُّمر.. عادَ مسروراً ،وهو يقول :
- عرّفْتُها.. عرَفْتُها ... إنَّها قطرةُ العَرَق !
رمزُ النشاطِ والعملْ
تكرهُ كلَّ القاعدينْ
كأنَّها لؤلؤةٌ
تهَوى جِباهَ العاملينْ
***
أمْا طارق ، فقد وصلَ في أسفارهِ، إلى جنوب البلاد...
وجد الناسَ في هرج ومرج...
سأل عنِ الخبر، فقيل له :
- لقد اجتاز الأعداءُ حدودَ مملكتنا..
دخل السوقَ، فسمع كلماتٍ غاضبة:
- الأعداءُ يقتلون ويحرقون !
- إنَّهم يخربون مابناه العمال !
- ويفسدون زروعَ الفلاحين !
- ويلقون كتبَ العلماءِ في النهر!
- مياههُ تجري سوداء!
- حياتنا أشدُّ سواداً !
- هيّا إلى الجهاد !
- هيّا إلى الجهاد !
انضمَّ طارقٌ إلى المجاهدين، وانطلقوا جميعاً إلى الحرب، يتسابقون
إلى الموت، ويبذلون الدماء، حتى أحرزوا النصر، وطردوا الأعداء ...
عادت الأرضُ حرَّةً ..
وعادتِ الحياةُ كريمةً
وعادَ الناسُ فرحين، يحملون شهداءهم الأبرار..
سقطَتْ على يد طارق، قطرةُ دمٍ حمراء ،نظر إليها طويلاً، وقال :
أنتِ أغلى القطرات
أنتِ رمزٌ للفداء
أنتِ عزٌّ للحياة
أنتِ روح للضياء
***
مضى عامٌ كامل، وحانَ موعدُ الجواب ..
الملك حسان في شرفةِ القصر، وحولَهُ الوزراءُ والقُوّاد..
والساحة الواسعةُ، تغصُّ بالبشر، من رجالٍ ونساءٍ وأطفال ...
وكلُّ واحدٍ يقول في سرِّه :
- مالجوابُ الصحيح ؟!
لقد حضر عقيل، ومعه قطرةُ حبر .
وحضر ربيعة، ومعه قطرةُ ماء .
وحضر الحارث، ومعه قطرةُ عرق .
وحضر طارق، ومعه قطرةُ دم..
إنَّهم أربعةُ رجال، يحملون أربعَ قطرات ..
والسؤالُ الآن :
- مَنْ سيفوزُ بالوسام ؟!
رَجُل من قَشّ
في قريتنا كَرْمٌ فسيح ، يملكه " سحلول " البخيل ..
حلَّ فصلُ الصيف، وأينعتْ عناقيدُ العنب ..
فرحتِ العصافيرُ كثيراً، وطارتْ مسرعةً إلى الكرم ، وعندما صارتْ
قربه.... قال عصفورٌ مُحذِّراً
- ها هوذا رجلٌ يقفُ وسطَ الكرم!
قال آخر :
- في يده بندقية!
قال ثالث :
- يجب ُ ألاّ نعرّضَ أنفسنا للخطر ..
خافتِ العصافيرُ، وولَّتْ هاربةً..
في اليوم الثاني ..
استفاقتِ العصافيرُ باكراً، وهرعَتْ إلى الكرم،
آملةً أنْ تصله، قبلَ الرجل المخيف ..
وهناك.. فوجئَتْ برؤيةِ الرجلِ واقفاً، لم يبارحْ مكانه!
رمقَتْ بندقيته خائفةً وانصرفتْ حزينةً ..غابَتْ أيّاماً.. ملَّتِ
الصبرَ والانتظار، ازداد شوقها إلى الكرم، قصدَتهُ من جديد..
وكم كانتْ دهشتها عظيمةً ، وحينما شاهدَتِ الرجلَ منتصباً، في مكانه
نفسِهْ، كأنَّهُ تمثال!
لم تجرؤ العصافيرُ على دخولِ الكرمِ..
لبثتْ ترقبُ الرجلَ عن بُعد..
مرَّ وقتٌ طويل..
لم ينتقل الرجلُ من مكانه ..
قال عصفورٌ ذكيّ :
- هذا ليس رجلاً !
قال آخر :
- أجل ... إنَّهُ لا يتحرَّك!
قالتْ عصفورة:
- عدَّةُ أيامْ مضتْ، وهو جامدٌ مكانه !
قال عصفورٌ جريء:
- سأمضي نحوه ،لاكشفَ أمره
وقالتْ له أمُّهُ :
- أتُلقي بنفسك إلى التهلكة ؟!
قال العصفور الجريء:
- في سبيل قومي العصافير، تهونُ كلُّ تضحية ...
ثم اندفعَ بشجاعةٍ تجاه الرجل ..
نزلَ قريباً منه ..تقدَّم نحوه حذِراً.. لم يتحرَّكِ
الرجل ... تفرَّسَ في بندقيته.. ضحكَ من أعماقه ..
إنَّها عودٌ يابس!
حدَّقَ إلى وجههِ، لم يرَ له عينين ... اطمأنَّ قلبه ..
خاطبه ساخراً :
- مرحباً يا صاحب البندقية!
لم يردَّ الرجل..
كلَّمهُ ثانيةً ..
لم يردَّ أيضاً ..
قال العصفورُ هازئاً :
- الرجلُ الحقيقيّ، له فمٌ يُفتّحُ، وصوتٌ يُسمع!
طارَ العصفور.. حطَّ على قبعةِ الرجلِ.. لم يتحرَّك.. نقرَهُ بقوّةٍ
... لم يتحرَّك.. شدَّ قبعته، فارتمت أرضاً ...
شاهدتْ ذلك العصافيرُ، فضحكتْ مسرورةً، وطارتْ صَوْبَ رفيقها، ثم
هبطتْ جميعها فوق الرجل ...
شرعتْ تتجاذبه بالمخالبِ والمناقير.. انطرحَ أرضاً.. اعتلَتً صدره،
تنقره وتهبشه ...
انحسرَ رداؤهُ ,... تكشَّفَ عن قشِّ يابس !!
قالت العصافيرُ ساخرة :
- إنَّهُ محشوُّ بالقَشّ ...
قالتْ عصفورة :
- كم خفنا من شاخصٍ لا يُخيف!
قال آخر :
- لولا إقدامُ رفيقنا، لظللنا نعيشُ في خوف .
قال عصفورٌ صغير :
- ياللعجب.. كان مظهره يدلُّ على أنَّهُ رجل!
قال له أبوه :
- لن تخدعنا بعدَ اليومِ المظاهر ..
غرَّدت العصافيرُ، مبتهجةً بهذا الانتصار، ثم دخلَتْ بينَ الدوالي ،
فاحتضنتها الأغصان بحبٍّ وحنان ..
ثَور السّلطان
في قديم الزمان.. عاشَ ذلك السلطان ..
وكان عنده، ثورٌ أسود، ضخمٌ كبير، كأنَّهُ البنيان!
رأسه كالصخر، قرونه كالحديد ..
إذا سارَ، هزَّ الأرض ..
وإذا خارَ، غلبَ الرعد..
وكان ذلك السلطان، لا يشبعُ من النظرِ إليه، ولا يملُّ من الحديث
عنه، وقد جعلَ له خدماً كثيرين، يعنونَ به ويحرسونه ..
خادمٌ يطعمهُ ، وخادمٌ يسقيه .
خادمٌ ينظِّفُهُ، وخادمٌ يداويه ..
خادمٌ ينزِّههُ، وخادمٌ يحميه ..
السلطانُ يحبّهُ كثيراً، والناسُ يكرهونه كثيراً..
لماذا ياترى ؟
تعالَ لنرى ..
***
الشارع مملوءٌ بالناس..
مابينَ شارٍ أو بائع، مابينَ ماشٍ أو قاعد ..
هذا يعمل، ذاكَ يضحك
ولدٌ يجري، بنتٌ تلعب
شيخُ يمشي على عكّاز
أمٌّ تحملُ طفلاً يرضع
أخرى تمشي، تسحبُ طفلة
حلوة حلوة، مثل الفلَّة
الشارعُ مملوءٌ بالناسِ.
وفجأة ...
جاءَ الصوت، مثل الموت :
- خرجَ الثورُ.. خرجَ الثورُ ..!!
دبَّ الرعبُ بينَ الناسِ ..
هذا يركض، ذاك يركض ..
يهربُ يهربُ كلُّ الناس ..
وقعَ الشيخُ على العكاز
مرَّ الثورُ، وداسَ الشيخ
تركَ الشيخَ، ونطحَ الطفلة
لكنَّ الطفلةَ ما ماتتْ، فاللَّهُ رحيمٌ بالأطفال
ومضى الثورُ إلى البستان.
كسرَ الغرسَ، أكلَ الزرع َ
خرَّب اسوارَ البستان
حلَّ الليلُ.
وعادَ الثورُ إلى السلطان.
حلَّ الليلُ ...
وباتَ الناسُ مع الأحزان ..
***
هكذا كان يفعل الثور ..
يخرجُ مهرولاً كالغول، فيختفي الرجال، وتتوقَّفُ الأعمال، ويتركُ
الأطفالُ ألعابهم، ويهربون إلى البيوت، فتحضنهم أمهاتهم خائفات
ويغلقْنَ دونهم الأبواب .
وتنظرُ العيونُ من الشقوق ..
- هل أوقفه أحدٌ عند حدِّهِ ؟
- لا ...
- لماذا؟
- خوفاً من السلطانِ وجندهِ..
وصبرَ الناسُ محزونين، ينتظرون رحيلَ الظلم..
قال الشيوخ :
- الظلمُ لن يرحل
- لماذا؟
- لأنكم تقبلونه
- ومالعمل ؟!
- إذا رفضتم الظلم، لن يبقى ظالمون
***
ذاتَ يوم، والعيونُ غافلة ..
أسرع رجالٌ شجعان، وقبضوا على الثور ألجموا فمه، وعصبوا عينيه
ربطوا قوائمه بالحبال، وصاروا يشدُّونها بقوَّة.
غضبَ الثورُ وهاجَ، مدَّ رأسه وقرنيه، واندفعَ..
كالبركان، فاصطدمَ بالجدار، وسقط على الأرض ...
هجمَ عليه الرجال، ووقعوا على رقبتهِ، يذبحونه جاهدين..
الدمُ الأحمر، يدفقُ ويدفق ..
نهضَ الثورُ قويّاً، واندفعَ يجري، ثم وقعَ كالتّل، وسكنَتْ حركته،
وفارق الحياة..
تركه الرجال، واختفوا في الحال
***
علم السلطان بمقتل الثور، فجنَّ جنونه، واستدعى جنودّهُ وخاطبهم
قائلاً :
- أيُّها الجنود!
لقد جاء يومكم، فابحثوا عن المجرم اللعين إنْ كان في الأرض فاخرجوهُ
،وإنْ كان في السماء فأنزلوه، والويل ثم الويل لكم إن لم تجدوهُ..!
انتشر العساكرُ والأعوانُ، في كلِّ بقعةٍ... ومكان..
يطوفونَ ويبحثون ..
يراقبونَ ويسألون ..
ومرَّتِ الأيام، تتبعها الأيام ..
وأخفق الجنود، وعادوا للسلطان
لم يحصلوا على خبر، أو يعثروا على أثر!
***
في اليوم التالي ، كان منادي السلطان، ينتقلُ من مكان إلى مكان،
وينادي بين الناس :
جائزةٌ كبيرة
ألف دينار
يأخذها من يخبر السلطان عن قاتل الثور
جائزةٌ كبيرة ..
ألف دينار ..
بُحَّ صوته، والناسُ ساكتون ..
وانصرفَ المنادي، وضاعَ النداء
***
اغتاظ السلطانُ كثيراً، فجمع وزراءه وقال :
- هل تعلمون أحداً يكرهُ ثوري؟
- الرعيَّةُ كلُّها تحبّهُ يامولانا!
- هل أوقعَ ضرراً بأحد؟
- ثورُ السلطان لا يعرفُ الضرر.
- هل كان أحدٌ يتمنَّى هلاكَه؟
- الناسُ جميعهم يدعون له بالحياة
- ألَمْ يفرحْ أحدٌ لموته ؟
- الرعيةٌ جميعها حزينةٌ لفراقه.
جُمِعَتِ الرعيّةٌ، أمامَ القصر، وخرجَ السلطانُ، فخطبَ وقال:
- أيُّها الشعبُ الطيِّب!
لقد بلغني حبّكم للثور، وحزنكم على فراقه، فعزمتُ على شراءِ ثورٍ
آخر، لا مثيلَ له بين الثيران، في جميع الممالكِ والبلدان ، و.. وصرخ
الأطفال :
- لا نبغي ثوراً يرعبنا
- لا نرضى العيشَ مع الثيران!
وصرخ الرجال :
- إنْ جاءَ الثورُ سنقتله
- إنْ جاءَ الثورُ سنقتله
واشتعل الغضبُ، وماجتٍ الحشود، كالبحر إذ يموج، وارتفع الهتاف،
يدوِّي كالرعود، فارتجفَ السلطان، ودخل القصر ،وغلَّق الأبواب ..
***
في الصباح الباكر ..
شاع النبأْ العظيم، كالنارِ في الهشيم :
- لقد اختفى السلطان !
- لقد اختفى السلطان !
فقامَتِ الأفراح ،وزالَتِ الأحزان، وعادتِ الحياة، تسيرُ في أمان
هذا يعمل، وذاك يضحك
شيخٌ يمشي على عكاز.
وأمٌ تحملُ طفلاً يرضع ..
أخرى تمشي تسحبُ طفلة
حلوة حلوة، مثل الفلَّة .
تنقزُ في فرحٍ وأمان.
فالثورُ الأحمقُ لن يظهر .
والظلمُ ولَّى مع السلطان .
***
مضى زمانٌ وزمان، وقصةُ ثورِ السلطان، تنتقلُ من جيلٍ إلى جيل ..
يحكيها الآباءُ للأبناء
وتحكيها الأمهاتُ للبنات ..
الصغارُ ينصتون ، والكبارُ يقولون :
في قديمِ الزمانِ ..
عاشَ ذلكَ السلطان ..
الأجرّة العجيبة
كانَ رجلٌ فقير، يعولُ أسرةً كبيرةً ..
كثرَتْ نفقاتُ أسرتهِ.. وقلَّ العملُ في قريتهِ، فعزمَ على السفرِ،
بحثاُ عن الرزقِ..
ودَّعَ زوجته وأولاده، ومضى ينتقلُ من بلدٍ إلى آخر..
وصلَ إلى مدينةٍ على ساحلِ البحرِ.. وجدَ رجالاً ينقلون صخوراً،
وعلى رأسهم رجلٌ مهيبٌ، يشجّعهم على العمل، ويحثَّهم على السرعة ..
وقفَ عندهم، وسأل أحدّهم:
- منْ هذا الرجلُ ؟
- إنَّهُ حاكم البلد..
- لماذا يقف هنا؟
- ليراقبَ العمل ..
انضمَ الرجلُ إلى العمال، ينقلُ معهم الصخور، دون أن يعرفَ الأجور..
صارَ يسرعُ إلى الحجر الكبير، فيحمله على كتفه ’، ويضعه في المكان المراد،
فإنْ لم يجدْ حجراً كبيراً، حملَ حجرين صغيرين، بينما رفاقه لا يحملون إلا
حجراً واحداً، ينتقونه من الأحجار الصغار ..
رأى الحاكمُ نشاطَ الغريبِ، فأُعجبَ به أيَّما إعجاب، ولاحظ الغريبُ
نظراتِ الحاكم، فأيقنَ أنَّهُ سينال أجرةً وافية، تفوقُ أجورَ الآخرين،
فضاعفَ جهودهُ، وزادَ سرعتهُ ...
انتهى النهار، وحانَ وقتُ استيفاءِ الآجار ..
اصطفَّ العمالُ، بعضهم وراء بعض، وانتصبَ الحاكمُ أمامهم، فشرعوا
يمرُّون أمامه، وكلَّما جاءه واحدٌ، أثنى عليه، وقال له :
- عافاك الله
وربّما قالها لبعضهم مرّتين ..
وجاءَ دورُ الغريبِ، فصافحه الحاكمُ بحرارة..وقال له :
- عافاك الله، عافاك الله، عافاك الله ..
فرح الغريبٌ، وقال في سرِّهِ :
- سأحظى بأجرةٍ وافرةٍ .
انتهى الثناءُ والكلام، وانصرفَ الحاكم، وبقي العمال..
سألَ الغريب ُ :
- متى سنأخذُ الأجرة؟
- لقد أخذتَ أجرك
- لم آخذْ شيئاً!
- بل أخذتَ أكثر منّا جميعاً ..
- كيف ؟!
- الحاكمُ قال لك " عافاك الله " ثلاث مرّات!
- وهل هذه هي الأجرة ؟!
- نعم ..
- هذا كلامٌ وثناء!
- حاكمنا يوزِّعُ مدحه بحسبان، ولا يُظلَمُ لديه إنسان ..
أطرقَ الغريبُ يفكِّر.. إنَّهُ جائع، وليس معه نقود .,. خطرَ له
خاطر ..
نهض مسرعاً، وتوجَّهَ إلى السوق..
دخلَ مطعماً، وطلبَ طعاماً ..
أكل حتى شبع، ثم قام لينصرف..
أمسكه صاحبُ المطعم، قال :
- أين ثمنُ الطعام؟
- مدَّ يدَكَ ..
مدَّ صاحبُ المطعمُ يده، فصافحه الغريبُ بحرارة، وقال له :
- عافاك الله، عافاك الله، عافاك الله ..
دُهشَ صاحبُ المطعم، وقال غاضباً :
- أريدُ نقوداً .
- لقد أعطيتك
- لم تعطني شيئاً!
- أعطيتك عُملةَ الحاكم
- هل أنتَ مجنون ؟!
- لستُ مجنوناً ..
- هيّا معي إلى الحاكم.
أخذ صاحبُ المطعم الغريبَ، وذهبا إلى حاكم البلد، وحينما وقفا بين
يديه، قال صاحبُ المطعم :
- هذا الرجلُ أكلَ طعامي، ولم يدفع الثمن
- نظرَ الحاكمُ إلى الغريب فعرفه.. قال له :
- لمَ لا تدفعُ له ثمنَ طعامه ؟
- لقد دفعت
- ماذا دفعت
- دفعتُ له عملتك
- أيَة عملة ؟
- عملة " عافاك الله " التي أعطيتني إياها.
ضحك الحاكمُ طويلاً، ثم أعطى صاحبَ المطعم، قيمةَ وجْبَتهِ، وأبطلَ
تلك العادة، كي لا تشيع الفوضى في مملكته ..
|