المدينة تخرج من
أسوارها
وقف سامر وسط السهل الفسيح وأرسل نظره نحو المدينة. لقد غادرها صبياً،
وهاهو ذا يعود إليها شاباً قوياً وجميلاً. بدت لـه المدينة مثل قبة ضخمة
تلمع تحت أشعة الشمس الغاربة الواهنة. استغرب منظرها وخاطب نفسه: هل ضللت
الطريق؟ المدينة التي ولدت فيها وأحببتها لا تشبه هذه المدينة التي أمامي
في شيء!...
ثم نظر حوله وفكر: الجبل هو الجبل والكروم هي الكروم.. تلك هي غابة
السنديان وذاك هو التل الحبيب الذي كنت أمضي إليه عند غروب الشمس وأرقب من
فوقه رجوع الحصادين والرعاة وقطعانهم إلى المدينة.. كانت أغانيهم العذبة
تملأ السهل وتتسلق سفوح الجبل.
شعر سامر بغصة عذبة صعّدها صدره الشاب تنهيدة حارة وأحس كأن نسمة خفيفة
تحمله بيد سحرية إلى زمن طفولته العجيب الحبيب، فتنهد بحرقة هذه المرة وشعر
بالأسى، وتعالى من أعماقه صوت هتف به لائماً: كان ينبغي ألا تغادر هذه
الأماكن!
قال سامر بصوت مرتفع وكأنه يرد على الصوت الداخلي:
ـ لقد دفعت الثمن اشتياقاً كاوياً وحنيناً موجعاً وندماً شديداً وها أنذا
عائد لأصحح غلطتي تلك.
وتقدم سامر باسطاً يديه وكأنه يريد احتضان مدينته التي تلوح بعيداً في
السهل الفسيح مثل قبة لامعة.
صارت دهشة سامر تكبر وتكبر كلما مضى قدماً باتجاه المدينة. فالمدينة، هي في
الواقع، على شكل قبة ملساء مغلقة، الدروب التي كانت تصل إليها من الجهات
كلها صارت تدور حولها لتلتقي في درب عريض ينتهي إلى ما يشبه الكهف القاتم
ولـه أبواب حديدية مصمتة تغلق فلا يرى من في الداخل شيئاً خارجها ولا يرى
من في الخارج شيئاً داخلها.
حين اقترب سامر من ذلك الباب الضخم سمع صوتاً يهتف به:
ـ قف مكانك وارفع يديك عالياً!
وقف سامر مضطرباً من غير أن يرفع يديه فصاح به ذلك الصوت:
ـ قلت لك: ارفع يديك. ألم تسمع؟
قال سامر:
ـ بلى سمعت. ولكن ما الداعي إلى ذلك؟
ـ لا تتفلسف. الأوامر هي الأوامر.
رفع سامر يديه فتقدم منه شاب يحمل سلاحاً وفتشه جيداً ثم سأله:
ـ من أنت؟ وماذا تريد؟
ـ اسمي سامر وأريد الدخول إلى مدينتي.
ـ تقول مدينتك ولا تعرف القوانين التي تنظم الدخول إليها والخروج منها!
قال سامر:
ـ حين كنت في هذه المدينة لم تكن "القوانين" موجودة. كانت مدينتنا بلا
أبواب. لأنها كانت بلا قبة كهذه..
ـ هذا يعني أنك تعيش في الغربة منذ زمن بعيد جداً.
ـ أجل. لقد غادرت هذه المدينة منذ زمن بعيد.. ولولا ذلك الجبل وتلك الغابة،
وخاصة لولا ذلك التل، لما عرفتها ولعدت أدراجي وأمضيت حياتي غريباً.
سأله الحارس المسلح:
ـ ومن يثبت لنا أنك لا تكذب؟
ـ وما الذي يدعوني إلى الكذب!
ـ لا أدري. فقد تكون صادقاً وقد تكون كاذباً. قد تكون جاسوساً أرسله
الأعداء متنكراً أو قد تكون من أولئك الناس الذين يسمون الجنون حكمة.. لقد
تسلل بعضهم إلى مدينتنا وحاولوا إفساد عقول أهلها وتخريب أنظمتها المقدسة.
توقف الحارس عن الكلام وضحك ضحكاً صاخباً.
دهش سامر وسأله متلطفاً:
ـ ما الذي يضحكك؟
ـ تذكرت سحنة أحد هؤلاء. كان رجلاً يدّعي الوقار ويتظاهر بالمهابة.. ومع
ذلك كان المجنون الأكبر بين جميع المجانين الذين رأيتهم في حياتي... هه، هه،
هه... كان يتفوه بكلمات عجيبة غريبة يتحمس لها جداً فتجحظ عيناه وتتقدان
بلهب مخيف.. لقد عذبناه في قبو المجانين حتى الموت.. وقبل أن يلفظ أنفاسه
الأخيرة خاطب الحراس والجلادين قائلاً: "أيها الحمقى، يا أجراء الطغاة
المتوحشين، لقد أتيت لتحريركم من العبودية!" فتصور إلى أي حد وصل به
الجنون!
أطرق سامر مفكراً وترقرقت الدموع في عينيه... فهل صارت مدينته الحبيبة
قاتلة لأبنائها الأنقياء المخلصين!
كف الحارس عن الضحك ووقف مستعداً حين سمع صوتاً يصيح به من قرب الباب!
ـ إيه، أيها الحارس! ماذا دهاك؟ هيا، أحضر الغريب إلى هنا إن كنت قد فتشته
جيداً.
صوب الحارس سلاحه نحو سامر وأمره بقسوة:
ـ ارفع يديك وسر أمامي.. حذار، حذار من القيام بأية حركة مريبة.
نظر إليه سامر مستغرباً فصاح به:
ـ قلت لك: سر أمامي. هيا، لا تفتح فمك.
تقدم سامر رافع اليدين والحارس خلفه حتى وصلا إلى أمام باب السور. أحاط
بهما عدد من الحراس المسلحين وصوبوا إلى وجه سامر ضوءاً باهراً وسأله
أحدهم:
ـ من أنت؟ وماذا تريد؟
ـ اسمي سامر. ولدت في هذه المدينة وعشت فيها طفولتي ثم غادرتها. وقد عذبني
الحنين والشوق فعدت لأعيش فيها. وها أنذا بينكم وأريد الدخول إلى مدينتي.
قال أحدهم:
ـ حسناً، حسناً، سنغض النظر عن حنينك وشوقك الآن وسنشفيك منهما فيما بعد..
أما الآن فقل لنا من أي أحياء المدينة أنت؟
ـ أنا من الحي الشرقي. بيتنا قرب دغل الحور الذي قرب العين، مختار حارتنا
يدعى أبو ماجد.. في حوش بيتنا شجرة جوز وسنديانة و...
ـ كفى، كفى... هيا، أحضروا المختار القديم أبا ماجد...
وبإشارة من قائدهم عصبوا عيني سامر وقيدوا يديه ورجليه ثم أدخلوه إلى مكان
ما وأجلسوه على مقعد غير مريح.
عقدت الدهشة والخوف لسان سامر فلم يسألهم شيئاً. كان يفكر حزيناً: "أهكذا
صارت حال مدينتي الحبيبة التي تركت العالم لأعود إليها؟ إذا كان مدخل
المدينة هكذا فكيف هي الحال في داخلها؟ أتكون بوابة الجحيم أكثر هولاً من
الجحيم؟"
شعر سامر بالندم لأنه عاد إلى هذه المدينة.. لكن خيال الإنسان العجيب الذي
لا تستطيع أية عصابة أن تعصب عينيه، ولكن ذكريات الإنسان التي لا تستطيع
أية أسوار أن تحول دونها جاءت لتنجد سامر في ساعته العصيبة هذه.. فهاهي ذي
صورة الحي الشرقي ترتسم في مخيلته، وهاهي ذي شجرات الحور تميس بقدودها
الرشيقة. إنه يسمع حفيف أوراقها ويسمع خرير مياه النبع. وهاهو ذا يلعب
صغيراً مع أولاد الحي، وهاهي ذي الوجوه الإنسانية الطيبة تمر في خاطره
تباعاً وتحييه وهي تبتسم بحب حقيقي وترحب به بحرارة. وينتفض سامر بإباء
ويهمس بتصميم وحزم: "من أجلهم جميعاً أتيت ولن أبخل بأية تضحية في سبيل أن
أعيش معهم، فإما أن نتحرر جميعاً أو نموت معاً ونحن نكافح".
وعادت وجوه رفاقه القدامى تطل تباعاً.. وجوه حبيبة لا يستطيع أن ينساها...
وخطر لـه خاطر: "لقد كبروا جميعاً كما كبرت وصاروا شباناً كما صرت، فكيف
سمحوا بحدوث ما حدث ويحدث؟ هل كان ما حدث أقوى منهم جميعاً أم تراهم تغيروا
وحلت الفظاظة والأنانية محل الرقة والطيبة والشجاعة في نفوسهم؟ ليتني أعرف
فوراً ما حل بهم!"
تعالت في الخارج ضجة ووقع خطوات كثيرة وسمع سامر صوتاً يقول:
ـ أحضرنا المختار العتيق أبا ماجد يا سيدي!
ارتعش سامر لسماع الاسم وارتسمت في مخيلته صورة الرجل الأسمر القوي الذي
فرض مهابته على المدينة القديمة بطيبته وشهامته ورجولته وسأل نفسه: "ألم
ينسني العم أبو ماجد؟ لقد طالت غيبتي وكبرت وتغيرت ملامحي فهل سيعرفني؟"
ودخلت جماعة إلى المكان وسمع سامر صوتاً يسأل:
ـ هل تعرف هذا الشاب يا أبا ماجد؟ وهل كان حقاً من أهل مدينتنا؟
قال أبو ماجد بصوت مرتعش:
ـ الجبين الذي أراه هو جبين سامر ابن أبي الوفاء. لقد ضمدت الجرح الذي أصاب
جبينه صغيراً. هاهو ذا أثر الجرح إلى يمين الجبين. ولكن أرجو أن تفكوا
العصابة عن عينيه لأتيقن من ذلك.
أشار قائدهم إلى أحد الحراس ففك العصابة عن عيني سامر فالتقت عيناه عيني
الشيخ الحزينتين... فكر سامر "يا إلهي! كيف حل كل هذا الحزن في هاتين
العينين!" وأومضت إشراقة من فرح على وجه الشيخ ثم اختفت كالبرق.. أدرك سامر
أن في قرارة بئر أحزان هذا الرجل بقايا فرح إنساني أصيل ووميض أمل خافت..
وهمَّ سامر بالوثوب لعناق الشيخ فأعاقته القيود التي كبلوه بها.
تهدج صوت الشيخ وهو يقول:
ـ أجل، أيها السادة، إنه سامر ابن أبي الوفاء جاري وصديقي القديم، رحمه
الله! ثم أطرق الشيخ وغمغم:
ـ كنت أعرف أنك ستعود يوماً وقد أتيت فأهلاً وسهلاً بك يا بني!
سمع سامر في صوت الرجل المرتعش صخب أمواج هائلة، وولولة رياح عاصفة، وأنين
كرامة رجل حبيسة جريح تمضغ على مضض مرارات مهانات لا تطاق. وفكر سامر: "وهل
في الدنيا أبشع من ذلك وأشد هولاً"؟!
قال أبو ماجد مخاطباً رئيس الحراس:
ـ أنا أعرفه جيداً يا سيدي. وإن كنتم ستسمحون لـه بدخول المدينة فأرجو أن
تسمحوا لـه بالإقامة في منزلي.. فأنا ـ كما تعلمون ـ أعيش وحيداً منذ زمن
بعيد.
فكر سامر: "يعيش وحيداً.. ولكن كيف؟ كان بيته بيت الحي الشرقي كله، وكانت
بيوت الحي كلها بيته، ناهيك عن أبنائه وبناته!"
قال رئيس الحرس بقسوة:
ـ خذه يا أبا ماجد، خذه!
ثم توجه إلى الحراس وأمرهم:
ـ فكوا قيوده وليدخل إلى مدينتنا فنحن بحاجة إلى عبيد أقوياء.
فكر سامر مشفقاً: "عبيد أقوياء! هل هذا يعني أن أهل مدينتي صاروا عبيداً
وضعفاء!"
أومأ أبو ماجد لسامر فتبعه صامتاً. طرقات المدينة مبلطة تنيرها مصابيح
شاحبة.. الصمت شامل فلا صوت ولا حركة سوى وقع خطوات تتبع في الظلام الرجلين
اللذين يسيران صامتين.
***
فتح أبو ماجد باب منزله وأضاء المصباح وأشار إلى مقعد وقال لسامر:
ـ تفضل، اجلس يا ولدي!
جلس سامر على المقعد وسارع أبو ماجد إلى إغلاق الباب وإيصاده ثم اقترب من
سامر وقال:
ـ أرجو أن تخاطبني همساً وأن تصغي إليّ جيداً حين أكلمك كي تفهم ما أهمسه
لك فلا أضطر إلى رفع صوتي. كما أرجو أن تنتبه جيداً لكل حركة أو إشارة أو
رفة جفن تصدر عني أو أضطر إلى الصمت المطبق والسكون الأصم.
سأل سامر هامساً بخوف:
ـ لماذا، لماذا يا عماه! أنا لا أفهم شيئاً مما يحدث. افهمني كيف حدث ما
حدث ولماذا حدث؟ من أين أتى هؤلاء وكيف أذلوا المدينة وسيطروا عليها؟ لماذا
أحاطوها بهذا السور الرهيب وضربوا فوقها هذه القبة الخانقة؟
قال أبو ماجد بصوت يكاد يختنق:
ـ بعض هؤلاء كان بين ظهرانينا وجاء بعضهم الآخر من بلدان بعيدة. وكنا
غافلين عنهم وعما يدبرون. والأشرار دائماً يتحالفون على الشر والأذى بينما
يتجادل الأبرار حول العدالة المطلقة، وحين يفطنون إلى ما يجري حولهم يكون
الوقت قد فات وأفلت زمام الأمور من أيديهم فينتصر الأشرار وينهزم الأبرار
الطيبون.. أما عن بناء السور والقبة فيزعمون أنهما لحماية المدينة من هجمات
الأعداء!
قال سامر غاضباً:
ـ ولكن أسوار المدن الحقة هي أسلحة أبنائها الأحرار الذين يجمعهم الحب
ويسود بينهم التعاطف والتعاضد!
ـ أعرف ذلك يا بني، أعرف ذلك.. أخفض صوتك أرجوك!
ـ المعذرة يا عماه! لم أعتد بعد على الكلام همساً.
ـ أرجو أن تعتاد ذلك سريعاً فلا ندفع ثمناً باهظاً لكلامنا.
ـ أإلى هذا الحد وصلت الأمور؟
ـ حذار يا بني، حذار! إنهم على الأبواب كلها وعيونهم على النوافذ.
ـ وهذه القبة يا عماه، ألا تحجب الشمس عن المدينة وتعيق طيران الحمائم
والنسور في جوها؟
ـ الحمائم والنسور في الأقفاص والرجال والشبان في السجون والأقبية أو تحت
المراقبة المشددة الدائمة. الظهور التي ترتفع تحنيها السياط والعيون التي
تنظر إلى الأعلى تسمل. الريبة والحذر في كل مكان ومن كل شيء، فلا أخ يثق
بأخيه ولا أخت بأختها ولا زوج بزوجه. الجميع يسيرون ويعملون مطرقين
صامتين.. لقد نسي الناس الفرح وتغيروا. إنها الحياة يا بني تغير البشر وكل
شيء.
ـ الحياة تغير الناس يا عماه.. هذا صحيح.. ولكن ليس من المحتم أن تغيرهم
جميعاً نحو الأسوأ.. الحياة يا عماه تحول الناس نحو الأفضل والأسمى.. هزيمة
المخلصين إلى حين يا عماه.. لا بد من أن يفتح الشر عيون الناس للبحث عن
جذوره والعمل على اجتثاثها.
ـ يذكرني كلامك يا سامر بكلام الرعيل الأول من شهداء المدينة. لقد اندفعوا
بشرف إلى مكافحة الشر فسقطوا قتلى لأن المؤامرة كانت أكبر من شجاعتهم
ونبلهم. لقد شيعت المدينة أفضل أبنائها بحزن، كان موت الرجال أهون منه على
الرجال.. ولكن ما الحيلة! لقد أعد الأشرار العدة جيداً وحسبوا حساباً لكل
شيء...
ـ أشم في كلامك رائحة القنوط المطلق يا عماه.. أرى أنهم أقاموا سوراً
رهيباً حول المدينة وأقاموا أسواراً أرهب حول عقولكم.
ـ لو لم أكن أعرفك جيداً يا بني... لو لم أكن أعرف والدك من قبلك لما
تجاسرت على التفوه بكلمة واحدة أمامك.
ـ وكيف الخلاص يا عماه! يجب أن نعمل شيئاً من أجل خلاصنا وخلاص أهلنا..
ـ الخلاص هو في الفرار من هذه المدينة التي حلت عليها اللعنة. ثمة نفق سري
لا يعرف مكانه غيري يمر تحت السور وينتهي إلى مغارة في الجبل. لقد ناضل
كثيرون من الفتيان الأشداء من أجل الخلاص فكان خلاصهم شنقاً وصلباً
وتمثيلاً فظيعاً بأجسادهم. لقد أخفقت الأساليب التي استخدمت حتى الآن
للخلاص منهم. وآخر محاولة للخلاص كانت تلك التي قام بها صديقي حمدان. لقد
دعا الناس إلى الثورة فلبى دعوته عدد غير قليل قاتلوا ببسالة حتى هلكوا.
وجرح صديقي فأخفيته وضمدت جراحه وأرشدته إلى النفق فهرب ونجا بنفسه.
ـ أنت ترشدني إلى النفق الذي يخرجني من المدينة ويبعدني إلى الأبد عن أهلها
الفقراء الطيبين. وأنا أريد أن نبحث عن نفق خاص يوصلنا إلى قلوب الناس
وعقولهم ويتيح لنا اجتذابهم إلى العمل معاً من أجل الخلاص العام وليس من
أجل الخلاص الفردي.
ـ نم يا بني نم. وسترى المدينة غداً فترى بعينيك ما تسمع بعضه مني الآن.
لقد أرسلوك معي تحدياً لنا وليفجعوني بك كما فجعوني بأبنائي. وقد يكون من
حسن حظك أنهم صاروا يستهينون بقوانا وقدرتنا على التحرك ضدهم. لقد أسكرتهم
انتصاراتهم علينا إلى حد ما.
ـ سأدرس الأوضاع جيداً يا عماه مستفيداً من تجارب كل الذين سبقوني إلى
العمل وسأتعلم من أخطائهم. تصبح على خير يا عماه!
أطفأ العم أبو ماجد المصباح فعم الظلام المكان.
***
استيقظ سامر باكراً، جرياً على عادته، لكنه لبث في فراشه بعض الوقت. كان
الحلم الذي رآه جميلاً عاد به إلى أيام طفولته الجميلة فلعب مع رفاقه
وتراشقوا بمياه العين وحفروا أسماءهم على جذوع أشجار الحور. وتذكر سامر أن
اسمه واسم صديقته الصغيرة هيفاء محفوران على جذع الشجرة التي فوق النبع
تماماً.. شعر سامر بحرقة في صدره فتنهد: "هل ما زالت تتذكرني؟ وهل تراها
كبرت كثيراً؟ أهي رشيقة القوام رائعة العينين كما كانت في طفولتها؟" ونهض
مسرعاً.
بادره أبو ماجد بتحية الصباح فرد التحية وانتعل حذاءه مسرعاً.
قال أبو ماجد:
ـ أراك مستعجلاً!
ـ سأذهب لأغسل وجهي بمياه النبع يا عماه وأمتع عيني بمنظر أشجار الحور
الباسقات.
ـ مياه النبع جُرّت إلى قصور الأغنياء يا بني، وشجرات الحور لم تعد موجودة
منذ زمن بعيد...
هتف سامر حانقاً:
ـ يا للقتلة!
ـ صدقت يا بني! لقد قتلوا كل ما يجمع بين الناس على الحب والمودة وأزالوا
من الوجود كل ما يمكن أن يذكرهم بذلك. لقد زرعوا الرعب في قلوب الناس، وحيث
يسري الرعب تزداد الريب والوساوس ويزداد الناس عزلة بعضهم عن بعضهم الآخر.
ويزدادون ضعفاً.
قال سامر مفكراً:
ـ لقد استفادوا من تجارب طغاة العالم في القهر والنهب وعلينا أن نستفيد من
تجارب المناضلين في مدينتنا والعالم لنتمكن من جمع شمل المظلومين والظفر
على الظالمين.
نهض سامر وهم بالخروج فسأله أبو ماجد:
ـ إلى أين؟
ـ أريد التجوال في بعض أحياء المدينة.
ـ لكنك لم تتناول طعامك.. ثم إن الثياب التي ترتديها تدل على أنك غريب. لقد
احتفظت بثياب ابني الشهيد ماجد وأظن أنها تناسبك. كل يا بني قبل أن تذهب
وسأحضر لك الثياب سريعاً.
ارتدى سامر الثياب التي أحضرها أبو ماجد وتناول بعض الطعام وخرج. الأحياء
خالية خاوية إلا من بعض الشيوخ والعجائز. حياهم سامر وقد عرف أكثرهم فردوا
على تحياته بفتور.. أحس وكأن العيون تقول له: "لماذا عدت أيها المغترب
المسكين!" وكان يفكر! "ولكني عدت حباً بكم ومن أجلكم أيها الناس!".
وخفق قلبه خفقاناً شديداً. إنهما عيناها، أجل عيناها الرائعتان. لقد لمحها
تختلس النظر إليه ورأى عينيها تضطربان بقلق. تبعها وهمس:
ـ هيفاء! مرحباً يا هيفاء!
ـ لماذا هجرت المدينة يا سامر!
ـ أجبرتني الظروف القاسية على ذلك وكنت صغيراً.
ـ عن أية ظروف قاسية تتكلم؟ هه، يا للعذر!
ـ هأنذا عدت يا هيفاء!
ـ ولكن ظروفاً أقسى من ظروفك تلك تجبرني على الابتعاد عنك وعدم الثقة بك.
ـ منذ متى أصبحت قاسية إلى هذا الحد؟ ألا تثقين بي؟
ـ علمتني الحياة أشياء كثيرة. ويبدو أنك لا تميز بين الخوف والقسوة. أنا
أخافك يا صاحبي وأرجو أن تكون موضعاً للثقة. وداعاً!
غابت هيفاء في الزحام ووقف سامر مرتبكاً. اقترب منه ثلاثة رجال أشداء
يحملون الهراوات وسأله كبيرهم:
ـ من أنت؟ لماذا كنت تكلم الفتاة؟
ـ اسمي سامر، وتلك الفتاة كانت رفيقتي أيام الطفولة.
ـ أيام الطفولة إذن؟ خذ!
وشاركه رفيقاه الضرب فلاذ سامر بالفرار.
أدرك سامر معنى قول أبي ماجد: "آذانهم على الأبواب كلها وعيونهم على
النوافذ" وتعلم درساً جديداً.
ذهب في اليوم التالي إلى سوق المدينة. رأى حمالاً يقع تحت حمله الثقيل
فأسرع لمساعدته. حين أنهضه ورفع معه الحمل إلى ظهره وهم بالمسير تقدم منه
ثلاثة رجال أشداء يحملون الهراوات وخاطبه كبيرهم:
ـ من أنت ولماذا ساعدت الحمال؟
ـ رأيته يقع تحت الحمل فأشفقت عليه وساعدته.
ـ تقول أشفقت إذن؟ خذ!
وانهال الثلاثة عليه ضرباً فلاذ بالفرار وتعلم درساً آخر. لقد أكد لـه
البريق الذي أومض في عيني الحمال حين ساعده أن قلوب الناس ما تزال تحتفظ
بكثير من الجمر تحت أكوام الرماد.. وأدرك أن مهمته الأولى تتجسد في إيجاد
وسيلة يذرّي( ) بها الرماد عن جمرات القلوب فتتوهج. وسأل نفسه: "ما هي تلك
الوسيلة، وكيف السبيل إليها؟"
عاد إلى بيت أبي ماجد حزيناً متعباً. رأى أبو ماجد آثار الضرب على جسده
فقال:
ـ إنهم أشرس مما تتوقع يا سامر!
ـ يجب أن نكون أصلب مما يتوقعون وأدهى. إن ما رأيته يزيدني إصراراً على
إيجاد الطريقة المثلى لمقاومتهم والخلاص منهم... قلت لي إن العم حمدان ما
يزال حياً وهو خارج السور. أليس كذلك؟
ـ أجل قلت ذلك. هل تريد الهرب والخلاص بجلدك؟ أتريد أن أوصلك إلى باب النفق
السري؟ هيا يا بني! اتبعني اتبعني! العين لا تقاوم مخرزاً يا سامر!
ـ الناس ليسوا عيوناً وحسب يا عماه! للناس زنود قوية تعرف كيف تحمل السلاح
وكيف تقاوم. المهم الآن أن نجد وسيلة نوقظ بها الناس ونعيد الثقة إلى
نفوسهم.
ـ ولماذا سألتني عن حمدان والنفق؟
ـ الخلاص الفردي انهزام يا عماه! بل هو انسلاخ عن الآخرين وخيانة لهم...
والآخرون هم أنت وهيفاء وكل الأهل والوطن! أريد أن أرى الثائر القديم حمدان
لأتبادل معه الرأي حول ما ينبغي أن نفعله معاً. أنا واثق من أنه استخلص
الكثير من الدروس والعبر من فشل التمرد الذي قاده، وقد يكون توصل إلى وضع
خطة جديدة للعمل.
ـ بل أظنه الآن يتلمس جراحه القديمة ويتلوى ندماً على الحماقة التي
ارتكبها.
ـ لماذا تحاول أن تسد جميع المنافذ في وجهي يا عماه! لا أصدق أن الأيام
غيرتك إلى هذا الحد.
ـ لقد أدبتني الحوادث فتأدبت. وأنا أخاف عليك مما أنت مقبل عليه... ثم إنني
لا أسد في وجهك المنافذ.. لقد أخبرتك بأمر النفق وأنا مستعد لإرشادك إلى
مكانه فهيا بنا!
ـ يجب ألا نخرج معاً فيتبعنا الحراس ويكتشفون النفق.
ـ النفق تحت ذلك الصندوق الخشبي لن يتبعك أحد ولن يكتشفه أحد. لقد وثقت بك
وها أنذا أرشدك إلى مكانه. اذهب يا بني وبلغ تحياتي إلى صديقي حمدان...
***
كان النفق ضيقاً ومظلماً وطويلاً وكثير التعرجات. زحف سامر وزحف حتى كاد
التعب يضنيه. كان يزحف ويفكر: "حياة الاستبداد ضيقة ومظلمة وقد تكون طويلة
ولكنها ذات نهاية كما لهذا النفق".
ولمح من بعيد بصيص ضوء فهتف لاهثاً: "هي ذي نهاية النفق تلوح هناك فمتى
تلوح نهاية الاستعباد والظلم؟"
كانت أمام مخرج النفق صخرة كبيرة تحجبه عن مدخل الكهف الذي هي فيه. دار
سامر حول الصخرة واتجه نحو مدخل الكهف فسمع صوتاً يقول:
ـ عمن تبحث أيها الشاب؟
التفت سامر إلى مصدر الصوت فرأى شيخاً يجلس على صخرة في إحدى زوايا الكهف
فأسرع نحوه وقال:
ـ السلام عليك أيها الشيخ! هل أنت الثائر القديم حمدان؟
ـ يبدو أن صديقي أبا ماجد قد أخبرك بكل شيء فأتيت إليَّ! أهلاً وسهلاً بك
يا بني! كنت أظن أنني سأضطر إلى العودة للنضال وحدي ولكن الحياة تبرهن لي
كل يوم أنها أكرم بالرجال مما نظن.
ـ المدينة في حال لا تطاق أيها الشيخ! يجب أن نسارع إلى العمل على إنقاذها.
لقد أتيت إليك لأستفيد من تجربتك وحكمتك.
ـ تجربتي وحكمتي تحتاجان إلى قوتك وعزيمتك يا بني.
ـ قلت لي إنك كنت ستعود للنضال وحدك فهل أعددت العدة للعودة والنضال؟
ـ أجل يا بني. لقد أعددت سلاحاً لا يخطر لهم على بال. لقد حاربتهم بالسيف
في نفر من الفرسان فغلبونا.. فلتبق ذكرى رفاقي ممجدة ومقدسة! كانوا فعلاً
رجال سيف نادري المثال.. أما الآن فسأبدأ المعركة الجديدة ضدهم بهذه
القصبة.
أخرج حمدان شبابة من قصب من عبه وقدمها إلى سامر وقال:
ـ هل تجيد العزف على هذه الشبابة يا بني!
قال سامر محتداً:
ـ أتسخر مني يا شيخ حمدان!
ـ أنا لا أسخر يا بني بل أنا على أقصى درجات الجد.. ولو لم أكن على ثقة
كاملة بك ما أطلعتك على سلاحي. أنا أثق بأبي ماجد ثقة كاملة، ولا يصل إلى
هنا إلا من يثق به.. وأنا أثق بالذي يثق به أبو ماجد.
ـ هل تريدني أن أصدق أننا سنهاجم قلاعهم الحصينة وندحر جنودهم المدججين
بأحدث الأسلحة بالنفخ في هذه القصبة؟
ـ لقد وصلت إلى هذه النتيجة بعد تفكير دام شهوراً قاسية وطويلة.
ـ إذن أنت لا تمزح يا شيخ حمدان!
ـ قلت لك ذلك من البداية. لقد ساعدني مجيئك على إكمال الخطة التي رسمتها
وسهَّل عليَّ تنفيذها.
سأل سامر:
ـ هل أستطيع الاطلاع على خطتك؟
ـ أجل. سيعود أحدنا إلى المدينة
قال سامر بحزم:
ـ سأعود أنا.. أظن أن الجميع يعرفونك هناك وسيكتشفون أمرك سريعاً فأنت ثائر
معروف.
ـ صدقت يا بني. ستعود أنت إلى المدينة وتتنكر في زي شاب فقير وتقف في أكثر
الأماكن ازدحاماً بالناس وتستعطي وستعزف الألحان التي سأدربك على عزفها.
ستعزف لهم ألحاناً حزينة في البداية. اجعلهم يشعرون بالحزن فدموع الحزن
تجلو العيون فترى وتبحث عن الفرح. وسيدعونك إلى حفلات أفراحهم الصغيرة
لتعزف لهم، وهنا تقع على عاتقك مهمة أكبر: عليك أن تثير في قلوبهم الشوق
إلى الأفراح الكبيرة.. وحين يتفتح الفرح الكبير في قلب الإنسان تتفتح في
أعماقه أزهار الكرامة.. وحيث تنمو هذه الأزهار يتلاشى الذل والخنوع وتنتصب
قامات الرجال والنساء. وكلما رأيت قامة تنتصب أرسل صاحبها إليّ عبر النفق
السري وسأقوم هنا بتدريب القادمين على حمل السلاح.. وحين تبدأ المعركة
الفاصلة ستعزف على هذه الشبابة ألحان الحمية والثورة وستردد آلاف الأفواه
الثائرة أناشيدنا المجيدة. هيا خذ هذه الشبابة يا بني وهلمَّ أدربك على
العزف فنحن في سباق مع الزمن..
تناول سامر الشبابة بأنامل مرتعشة وراح يعزف ما كان قد تدرب على عزفه أيام
طفولته. هتف الشيخ حمدان معجباً:
ـ أنت تجيد العزف يا بني وتعرف جيداً من أين تبدأ!
***
بعد أيام عاد سامر إلى المدينة. صار ينزل نهاراً إلى الأسواق في زي شحاذ
فقير وينفخ في شبابته فتنوح وتحرك أشجان صدور الناس فتدمع عيونهم.. وفي أول
الليل يجلس على مكان مرتفع ويرسل ألحانه الشجية فتهب أنسام وتترقرق ينابيع
وتتماوج حقول وترفرف أجنحة. وذات مساء رأى نافذة تفتح ثم رأى أخرى وأخرى
فخاطب نفسه: "كنت على صواب يا شيخ حمدان، لقد بدأ الناس يفتحون نوافذهم
للهواء النقي وسيطرد الهواء العفن من بيوتهم ومن قلوبهم.. وعما قريب سوف
تنتصب قامات الرجال".
وفي ليلة تالية أتت هيفاء وجلست قربه وهو مستغرق في العزف. قالت لـه حين
أنهى معزوفته:
ـ سلمت يداك يا سامر. لقد فعلت ما لم يفعله سواك.
ـ هيفاء! كيف عرفتني!
ـ وهل تظن أني نسيت أيام طفولتنا يا سامر؟ لقد عزفت على شبابتك هذه ألحان
أغنيات تلك الأيام فأثرت شجوني وعرفتك فأتيت إليك.
ـ أثير أشجان الماضي وأفراحه كي نصحو على الحاضر ونعمل للمستقبل.
ـ لقد تجسد أجمل ما في الأزمنة في عزفك. إن الفن النابع من أعماق الإنسان
هو دائماً ابن الحاضر المنبثق من الماضي وهو دائماً يتطلع إلى المستقبل
ويحمل بشائره.
ـ وهل صرت موضع ثقتك يا هيفاء؟
ـ من يفعل بنفسه كما فعلت بنفسك من أجل إيقاظ الناس هو أهل لثقة الناس
وحبهم، أنا أثق بك يا سامر وأحبك أيضاً.
ـ كنت واثقاً من أنك لم تتغيري. أنا فخور بك يا هيفاء. أنت تستطيعين الحركة
بين الناس أكثر مني. كوني صلة الوصل بيني وبينهم. يجب أن تعملي بحذر ويقظة
يا هيفاء!
ـ لم نتعلم شيئاً في هذه المدينة كما تعلمنا الحذر واليقظة. ثق بي يا سامر
فأنا أثق بك كل الثقة.
نهضت هيفاء ومضت رشيقة جميلة.. تماوج في جنبات الليل صوت الشبابة تغريدة
فرح فأمطر الليل أزهاراً تتراقص نشوى. أطلت من النوافذ رؤوس صبايا وشبان
واشرأبت من الأقبية أعناق متعبة.. كان فرح اللحن يغسل أسى القلوب ويفتح
فيها نوافذ للأشواق والأحلام. حين تنبه الحراس واندفعوا ليبحثوا عن مصدر
اللحن المفرح كانت مئات الشبابات في أرجاء المدينة تعزف اللحن الذي فتح
نوافذ الفرح في أسوار الليل. لقد نفض مئات الناس الغبار عن شباباتهم
المنسية وشرعوا يعزفون فجن جنون الحراس الذين لم يكونوا قد تدربوا على
مصاولة مثل هذا العدو الخطير.
***
في الأيام التالية صار الشبان يختفون من المدينة بكثرة فظن الناس، أول
الأمر، أن الحراس يخطفون الشبان ويخفونهم كما جرت العادة.
وحين خرجت المدينة من أسوارها أدرك الطغاة أن الأسوار كانت وهماً ظنوا أنه
يحميهم من غضب الشعب ويكبت ذلك الغضب.
حكاية يعرب
يعرب رجل أسمر اللون، طيب القلب، مفتول الساعدين جمع بين القوة والحكمة...
الفروسية والكرم والشعر والشهامة هي بعض صفاته الكريمة. عاش عهد شبابه
الأول في بادية رحبة الأرجاء تمتد فلا يجد الطرف لها نهاية، إلا حيث يخيل
للرائي أن السماء انحنت حناناً وشوقاً لتعانق الآفاق وتبثها الصفاء والألق.
عاش يعرب فترة طويلة يرعى الغنم والإبل، يجوب أرض بلاده الواسعة طلباً
للماء والعشب، يرافقه السيف والرمح والرباب. يقاتل حين يمسه الضيم ويقاتل
حين يمسه الجوع ويغني حنيناً إلى الأماكن التي أمضى فيها بعض الوقت وألفها
أو كانت لـه فيها ذكريات جميلة.
كان يحل بأطراف البادية فتزدهر المدن وتعلو السدود وتسمق الأبراج وتُعلّقُ
الحدائق وتصير إحدى عجائب الدنيا. ولم تكن أمجاده في البادية أقل شأناً من
أمجاده عند أطرافها. وعلى الرغم من امتداد البادية لم ينعزل فيها عن بقية
أرجاء العالم.
لقد أطمع موقع أرض يعرب الهام وغناها الفائق الكثيرين من الأعداء بها
فحاربوه حروباً كثيرة. كانت قوى يعرب موزعة بين أرجاء البادية وربوع
أطرافها... فما أن يمسه الأذى حتى يجمع تلك القوى فتصير باتحادها قوة خارقة
تدحر الأعداء والطامعين وترد كيدهم إلى نحورهم.
وأدرك الأعداء سر قوة يعرب فعملوا على تقطيع أوصال أرضه وإقامة الأسوار
المنيعة بين أقطارها. وكانوا في كل معركة يشنونها ضده يظنون أنهم قضوا عليه
القضاء المبرم. ولكنهم كانوا في كل مرة يصابون بخيبة الظن. فما كانت كل
قواهم الشريرة تقدر على القضاء عليه. فقد ضربت جذور يعرب الفتية عميقاً في
تربة بلاده وكانت هجمات الأعداء عليه مثل هجمات الرياح التي تهز الشجرة
القوية لتقتلعها فتضرب جذورها عميقاً في الأرض وتزداد رسوخاً.
جاءت إحدى الساحرات إلى أعداء يعرب وأخبرتهم أنهم لن يستطيعوا القضاء عليه
ما لم يعرفوا سر قوته الحقيقي والتمكن من ضربه.
وسألها الأعداء:
ـ وما سر قوته الخارقة؟
قالت الساحرة:
ـ سر قوته الخارقة هو قلبه الكبير النبيل. أنتم تقطعون بعض الجذور التي
تربطه بأرضه فيدفع قلبه الدم النقي الحي فتنبعث آلاف الجذور.
سألها الأعداء:
ـ وماذا نفعل كي نقضي على ذلك القلب؟ وأين أخفاه يعرب؟
قالت الساحرة:
ـ تقول الكتب القديمة إن الفتى يعربا قد أحب فتاة اسمها دمشق فأهداها قلبه
الكبير وأطلق اسم تلك الحبيبة على مدينة مجيدة.
قال أحد شيوخ الأعداء:
ـ إذاً، أنت تظنين أن قلبه الكبير الذي يمد جذوره بالدم الحي موجود في
دمشق؟
قالت الساحرة:
ـ ليس الأمر مجرد ظن بل هو حقيقة ظاهرة. إن أحداث التاريخ تشير كلها إلى
هذه الحقيقة. ألم تر أن دمشق كانت دائماً المشعل الهادي إلى سبل الخلاص من
الأعداء والنداء الداعي إلى جمع الشمل والنهوض كفاحاً في وجه الغاصبين.
صرخ أحد فتيان الأعداء بالساحرة:
ـ ويحك يا هذه! تبدين شديدة الحماسة لدمشق! فهل نسيت المحن التي لحقت بهذه
المدينة التي لا تختلف عن بقية مدن العالم بشيء.
قالت الساحرة:
ـ تبدو قليل الحكمة أيّها الفتى. صحيح أن مصائب كثيرة قد لحقت بدمشق. ولو
نزل بعض تلك المصائب على جبل لتضعضع وانهار.. لكن دمشق ما تزال شامخة
صامدة. فبماذا تفسر شموخها وصمودها؟
صمت الفتى وراح يفكر وقد شعر بشيء من الخجل. قال أحد الشيوخ بعد أن فكر
طويلاً:
ـ نحن مدينون لك بالشكر الجزيل أيتها الساحرة. لقد أرشدتنا إلى مقتل عدونا.
قالت الساحرة:
ـ لقد أرشدتكم إلى مكان القلب من بلاد يعرب وأخشى أن أكون قد أرشدتكم إلى
حتفكم وهلاككم.
ثم تنهدت الساحرة وأردفت:
ـ قلب يعرب في دمشق حبيبته تحنو عليه قلوب أرق من ماء بردى وتحميه صدور
أصلب من صخور قاسيون الخالد. وكم من رؤوس حاقدة قد تفلعت على تلك الصدور
وتلك الصخور. فحذار! حذار!
حلم مزعج
الريح تعول بين الصخور البيض دافعة الضباب في الوادي فيبدو مثل نهر صاخب من
السحب يسير من الأسفل إلى الأعلى. السماء ملبدة بغيوم داكنة. يشقها شريط من
البرق المتعرج فكأنه صدوع خاطفة تزعزع جبال الغيم، ثم يدوي الرعد هادراً
فترتعش الغابة وتخشع. ينهمر المطر غزيراً فتلمع أغصان البلوط والبطم
العارية وكأنها حوريات رشيقات يغتسلن ويرتعشن في صخب. أما أشجار السنديان
فتقف صامدة بأوراقها الخضر وكأنها تقول للعاصفة: "أنا باقية هنا، وأنت
عابرة. سلي هذه الصخور كم رأينا من عواصف وكم واجهنا من رياح. "وتصفق أجفان
الغار بأكفها الخضر الصغار مسرورة بأغنيات الريح والمطر.
كان الحطاب الفقير قد جمع بعض الأغصان اليابسة ولاذ بأحد الكهوف حين رأى
نذر العاصفة. أشعل ناراً، وحين أحس بالطمأنينة راح يفكر: "في الحكايات يجد
الكثيرون من الفقراء كنوزاً مدفونة في الكهوف ويصبحون أغنياء. ليتني أجد
كنزاً فأصبح غنياً وأرتاح من الجوع والبرد، والعمل الشاق. ليتني أجده
اليوم. ولكن كيف سأتصرف لو وجدته؟ سأشتري بيتاً كبيراً قبل أن أقوم بأي عمل
آخر. إن كوخنا يكاد ينهار فوقنا، ثم سأشتري أحسن الأطعمة لأولادي، وسأشتري
لهم ولزوجي أجمل الملابس.
أحس بالدفء فعدل جلسته، ثم شعر بالنعاس يداعب أجفانه فأغمض عينيه. ارتاح
قليلاً وفتحهما.. رأى السيل يتدفق إلى عمق الكهف وينحدر هادراً في هاوية
عميقة جداً. كانت المياه تحفر في جنبات الكهف، فرأى الحطاب الفقير طرف
صندوق قديم، كالذي تصفه الحكايات الشعبية، يظهر قرب الصخرة التي في طرف
الكهف الآخر. دلك عينيه بيديه، وأمعن النظر فزادت رؤيته وضوحاً. أذهلته
المفاجأة فظل كالمشدوه فترة. ولكنه استعاد وعيه وقفز إلى حيث الصندوق،
أمسكه بيديه القويتين وشده بقوة. سحبه إلى قرب النار ورفع الغطاء، فشع من
الصندوق بريق يبهر النظر. كانت الجواهر والأحجار الثمينة والحلي الذهبية
أكثر مما يستطيع خيال الأغنياء تصوره. انحنى الحطاب فوق الصندوق وشده إلى
صدره بقوة.
ظل منحنياً فوقه زمناً، ثم فطن إلى أن الزمن يمضي سريعاً، وأن عليه أن يقوم
بعمل ما. هل يترك الصندوق في الكهف أم يأخذه إلى بيته؟ ألا يأتي أحد ويأخذه
إذا تركه؟ ألن يراه الناس ينقله إلى بيته؟ ألن تراه زوجه وأولاده؟ هل
يستطيعون كتمان السر؟ ألن تخبر زوجه أهلها وأهله، وكلهم فقراء مثله؟ ألن
يطلبوا منه العون والمساعدة؟ أيتركهم يعانون أم يقاسمهم كنزه؟
وتضاربت الأفكار في رأسه حتى شعر أنه لم يعد قادراً على فهم أية فكرة.
وراحت الصور تمر بخياله وهي على أشد ما تكون من التشابك والاختلاط.
عاد ينظر إلى الصندوق. كانت في إحدى زواياه قطعة من الحرير الأحمر، مصرورة
على شيء ما. مد يده وتناول الصرة، ثم فكها فوجد داخلها قطعة من الجلد، كتب
عليها بحروف مذهبة: "كنزت هذا الكنز، وها أناذا على فراش الموت. بقيت طوال
عمري أفكر في مسألة لم أجد لها جواباً مقنعاً: هل أُنفقه فيما ينفعني وينفع
الناس أم أبقيه لزمن الشدة، فأنجو به بنفسي وأبعد عني أنياب الفقر؟ لقد
أخفيته في هذا الكهف، وعشت حياتي فقيراً، لأنني كنت أخاف الفقر. وأنت يا من
وجدت كنزي، ما أنت فاعل به؟ هل ستنفقه الآن أم ستتركه لأيام الشدة؟ لقد
متعت نظري بأحجاره الثمينة زمناً طويلاً، وها أنا ذا أفتح عينيّ فلا أرى
أمامي سوى شبح الموت... فلتكن حياتي وموتي موعظة لك."
رفع الحطاب عينيه عن قطعة الجلد، وخاطب نفسه: "ولكنه لم يقل لي كيف ينبغي
أن أتصرف.. هل يريدني أن أنفق الكنز فيما ينفعني وينفع الناس؟ ولكن، ماذا
سيكون مصيري حين ينفد الكنز"
سقطت قطرة ماء من سقف الكهف على جبين الحطاب فأجفل. كانت شعل النار تلوي
أعناقها وتنطفئ الواحدة بعد الأخرى. دلك الحطاب جبينه بيده وتمتم حين لم
يجد الصندوق أمامه:
ـ أواه، كان حلماً مزعجاً حقاً.
ثم نهض وخرج من الكهف. كانت العاصفة قد مضت، وكادت السماء تصفو تماماً. نظر
إلى شجرة يابسة وقال:
ـ سأحصل من حطبك على ما أطعم به أسرتي غداً.
ثم شرع يحتطب بنشاط وعزم.
عملية بسيطة
كانت ميسون في الخامسة عشرة من عمرها يوم وقعت وأصيب أنفها الجميل إصابة
شوهته قليلاً. أراد والدها أن يأخذها إلى المستشفى ليجري لها الأطباء عملية
تجميل فرفضت. ألح والدها، وأصرت على الرفض. ظن والدها أنها تخشى خطر
العملية، فراح يوضح لها أنها عملية في منتهى البساطة، وأن أنفها سوف يعود
بعد إجرائها إلى جماله السابق، وظلت مصرة على الرفض.
أكملت مرحلة الدراسة الثانوية، وانتسبت إلى الجامعة. كانت تقوم بواجباتها
المنزلية على أحسن وجه، وظلت بين المتفوقين في الدراسة، وما كانت تبخل على
أحد من زملائها أو زميلاتها بأية مساعدة ممكنة، ولم يعرف أحد عنها سوى
الصدق والاستقامة حتى صارت مضرب المثل بالعطف على الضعفاء وبعزة النفس
والإباء أمام المغرورين والمتكبرين.
وكان زميل دراستها الجامعية "علاء" أحد الشبان العصاميين الجادين، وأحد
الذين ينافسونها على المراتب الأولى في المواد الدراسية كلها، وكان هو
الآخر كريم الخصال وشهماً عزيز النفس.
كانا يتبادلان التحية حين يلتقيان، وكثيراً ما اتفقت وجهتا نظرهما بشأن
المسائل التي تناقش في الوسط الجامعي. وحين أنهيا امتحانات السنة الجامعية
الأخيرة جاء إليها علاء باسماً وقال:
ـ الآن صار في وسعي أن أفاتحك في أمر حاولت أن أكتمه طوال سنوات دراستنا.
قالت ميسون: ـ ما هو هذا الأمر يا علاء؟
قال علاء: ـ أنا شديد الإعجاب بك يا ميسون، وأرغب في أن لا تفرقنا الأيام
إلاّ بعد عمر طويل.
أطرقت ميسون حياء، ثم أشارت إلى أنفها.
عرف علاء قصدها، فابتسم وقال:
ـ ومن يضيع كنزاً ثميناً من الجمال والفضيلة والذكاء لأن الصدأ أصاب طرفاً
يسيراً من غطاء الصندوق الذي فيه الكنز؟
رفعت ميسون رأسها وقالت بتواضعها الجم:
ـ أشكرك يا علاء على هذا الثناء الذي لا أستحقه..
ثم أطرقت وقد احمرت وجنتاها.
قال علاء: ـ بل أنت تستحقين أكثر مما أسعفني لساني بقوله.. أنت أثمن من أي
كنز مادي يا ميسون.. وأنا راغب في طلب يدك.
ابتسمت ميسون، وقالت:
ـ وهل تطلبها مني أم من أهلي؟
صفق علاء ابتهاجاً، وقال:
ـ اليوم مساء سيأتي والداي لطلب يدك من والديك. كنت طوال سنوات الدراسة
أحدثهما عنك حتى صارا يعرفانك كما أعرفك.
وتمت الخطوبة، ثم عقد قرانهما.. وبعد ثلاثة أيام من زواجهما قالت ميسون:
ـ سأذهب إلى المستشفى لإجراء عملية تجميل لأنفي.. فأنا ما عدت أطيق هذا
الأنف المشوه.
قال علاء:
ـ هل تريدين إجراءها من أجلي يا ميسون؟ ألا تعلمين أنك الأجمل في نظري؟
قالت ميسون:
ـ سأجريها من أجلي ومن أجلك يا علاء. لقد رفضت بعناد أن تُجرى لي العملية
لأنني كنت أنتظر الرجل الحكيم الذي يهمه الجوهر ولا يأبه بالقشور، ولقد
وجدته.. فلماذا أمانع بعد ذلك في أن تُجرى لي مثل هذه العملية البسيطة؟
حكاية الملك
الذي احتكر الهواء
"إنهم يحاصرون المخيمات والمدن والقرى ويمنعون عنها الماء والغذاء والدواء"
عاش في قديم الزمان ملك من قساة الملوك لا يعرف قلبه رحمة ولا شفقة. كان
طماعاً جداً تزداد ثرواته وأملاكه فيزداد طمعاً على طمع ويسفك المزيد
والمزيد من دماء الأبرياء فيزداد طغياناً وقسوة وجبروتاً.
جعل أرض مملكته بكاملها ملكاً شخصياً لـه فصار الفلاحون والعاملون في الأرض
عبيداً لـه يحرثون ويزرعون ويحصدون وتذهب الخيرات التي أنبتتها الأرض
بعرقهم وجهدهم إلى مستودعاته. وكان حراسه يوزعون على الناس يوماً بيوم ما
يردّ عنهم خطر الموت جوعاً.
كان الفقراء الذين لا يعرفون الشبع يذهبون إلى الغابة ليسدوا جوعهم بثمارها
البرية ونباتها. فأخبر الجواسيس الملك بذلك فأمر بوضع حراس يحرسون الغابات
ويمنعون الناس من الدخول إليها إلا بأمر خاص. وأصدر أمراً بمصادرة كل ما
يؤكل في الغابة من عشب وثمر وحيوانات وجعلها ملكاً خاصاً به يعاقب بالموت
من يعتدي عليه.. فأملاك الملك الخاصة مقدسة لا يجوز المساس بها.
كان رجال الملك من الجلادين الطغاة فنفذوا أوامره بقسوة فزاد بؤس الناس
وعذابهم فاتجهوا إلى الينابيع العذبة يملؤون بمائها بطونهم الجائعة. أرسل
أحد جواسيس الملك تقريراً إلى الملك يقول فيه: "إن الناس يشربون الكثير من
الماء يا صاحب الجلالة وهذا يثقل بطونهم ويجعلهم كسالى في العمل وفي ذلك ما
فيه من خسارة تلحق بأموال جلالتكم."
غضب الملك غضباً عارماً وأرسل أقسى جنوده ليبعدوا الناس عن الينابيع.
وانهالت السياط والهراوات على ظهور الناس شيوخاً ونساء ورجالاً وأطفالاً
فلاذوا بالفرار باكين مولولين.
وأصدر الملك أمراً جاء فيه: "بأمر جلالة الملك المعظم! تصادر جميع الينابيع
والآبار والأنهار والبحيرات وما يتجمع في الحفر والبرك وعلى الأسطحة من
مياه الأمطار وتصبح ملكية خاصة بصاحب الجلالة يوزع منها رجاله ما يرونه
ضرورياً على الذين يعتبرونهم بحاجة ماسة إليه! ينفذ الأمر فوراً!".
وطاف الجنود على بيوت الرعية وصادروا الجرار والخوابي والأواني الكبيرة كي
لا يخزن فيها الناس بعض الماء خلسة. عطش الناس وتفشت بينهم الأمراض
والأوبئة بسبب ازدياد القذارة وصاروا يموتون بالعشرات.
وذات يوم أتى إلى الملك أحد مستشاريه وهمس في أذنه: "المعذرة يا صاحب
الجلالة! يبدو أن رعيتك قد تعودوا حياة الإسراف والتبذير. إنهم يستنشقون
الكثير من الهواء وينفثون فيه الكثير من أمراضهم وأوبئتهم..".
صاح الملك متجهماً:
ـ ماذا تريد أن تقول أيّها المستشار؟
ـ أخشى أن ينفد الهواء أو يفسد يا مولاي فلا يعود لدينا ما نتنفسه!
ـ فهمت، فهمت!
وأصدر الملك أمراً بمصادرة الهواء واحتكاره.
واقترح الخبراء المختصون أن توضع في أقبية القصر وفي غرفه وصالاته الزائدة
أوعية مطاطية كتيمة تتصل بأجهزة خاصة تشفط الهواء من الأجواء وتضغطه فيها.
وصنع الناس الأوعية المطاطية المطلوبة وجهزت بها الأقبية والغرف والصالات
وراحت الأجهزة الشافطة تعمل وتعمل والأوعية المطاطية تنتفخ وتنتفخ، وزاد
شفط الهواء وزاد ضغطه على جدران أقبية القصر وغرفه وصالاته حتى لم تعد
تحتمل فانفجر القصر وتطايرت حجارته.
ومنذ ذلك الحين والشعوب تتناقل من جيل إلى جيل الحكمة القائلة:
كثرة الضغط تولد الانفجار.
الغراب العاشق
وأحزان الحمامة البيضاء
« إلى سيدة الأحزان الجليلة »
كان غراباً هرماً.. لا سِربَ لـه ولا رفيق. حط على أحد أغصان السنديانة
الضخمة... ثم أغفى متعباً مرهقاً بالهموم.
أفاق مع إشراقة الشمس على هديلها الرتيب الحزين.
تأوه ملتاعاً ودمعت عيناه. كانت وحيدة تنادي رفيقها الذي ذهب إلى حيث لا
يرجع أحد.
تملّى جمالها البهيّ فارتعش... صار قلبه ألطف من فراشة تعانق برعماً
نديانَ.
سمعت تأوهاته فالتفتتْ نحوه حانية...
ناجاها بلطف لم تعهد مثله في غراب فحكت لـه شيئاً من حكاية حزنها... حاول
مواساتها والتقرب منها فنفرت وذكرته بما بينهما من فرق...
لوى عنقه وبكى.
حين لامست دموعه التراب بزغت أزهار ساحرة.
هتفت إحدى حوريات الغاب:
-ما أجمل أزهار دموع الغراب!
وحملت النسمات عبقاً مسكراً..
تأوه الغراب فصدحت جوقة البلابل بأغنية مدهشة.
ترجّع في الغابة صدى موجع: إنه رجع حنين الغراب العاشق.
هتف الغراب بصوته الغليظ وقد رأى وجهه المنفر في مرآة الغدير:
-إلهي! إلهي! لماذا خلقتني غراباً؟
أدركت الحمامة الحزينة أنها لن تجد، بعد الهديلِ رفيقها، من يحبها مثل هذا
الحب.
وتألمت...
أدهشه أن يوجد في العالم قلب يتسع لهذا الألم كله...
لكن حبها الهديل( ) ظل أقوى.
وما زالت تهدل فتخفق القلوب خاشعة... وما زال الغراب العاشق يذرف الدمع
فتتفتح الأزهار، ويتأوه فتشدو البلابل.
وسيبقيان قريبين متباعدين إلى الأبد...
هو لا يقوى على سلوانها... وهي لا تقوى على حبه.
الربيع
وأحزان العصفورة الجميلة
جاء الربيع إلى الغابة حافياً، بعثت أنفاسه الحارة الدفء في الأغصان
والجذور فتمطت وشرعت تعمل. حطَّ عصفور ملوّن الجناحين على شجرة الزيزفون
وزقزق فاستيقظت الزيزفونة وأزهرت. ملأ العطر فضاء الغابة.. استنشقت
الكائنات العطر الزكي وانطلقت في الدروب مبتهجة. زارت الطيور أعشاش الصيف
الماضي وبدأت تعمل على ترميمها أو تبني أعشاشاً جديدة.
ومضى الربيع إلى الحقول المجاورة فشقَّ العشب الترابَ النديَ ثم هز رؤوسه
الكثيرةَ الخضراء. مرت النسمات بأصابعها الطرية على شعر العشب الأخضر، ماج
الحقل خضرةً وطراوةً، طارت قبرة من بين العشب، وطارت أخرى، وأخرى، وامتلأ
جو المرج بالأغنيات الطروب وثغت الأغنام في المراعي القريبة.
حطَّتْ قبرة طروب على جفنة شوك وسألتها بدالَّة الصديقِ على صديقه: هل
تسمحين لي أن أبني عشاً قريباً من جذعك الأملس أيتها الجفنة الشجاعة؟
هزت النسمات فروع جفنة الشوك فهتفت القبرة:
-أشكرك يا صديقتي على كرمكِ ونبلك وحسن ضيافتك..
ثم أطلقت نفير العمل.
حطت عصفورة خضراء الجناحين على غصن مزهر وغردت تغريداً لا مثيل لعذوبته...
هتف الغراب طرباً: ما أعذب صوتك يا أختاه! غردي، غردي، أيتها الجميلة بين
الطيور. لقد منحتك الحياة جمال المنظر وعذوبة الصوت، فليكن تغريدك صلاة شكر
للحياة على جميل عطاياها.
نشرت العصفورة ريش جناحيها الجميلين تحية للغراب وأطلقت تغريدة عذبة.
نظر الغراب إليها مبتهجاً ثم راح يقفز فوق الأعشاب حبوراً.
في تلك اللحظات الرائعات قذف صبي بارع في الصيد شبكته على العصفورة المغردة
فاضطربت المسكينة وانقطعت الأغنية الساحرة.
طار الغراب مذعوراً وراح ينعب باكياً مصير العصفورة الجميلة.
قالت البومة الحكيمة وهي ترفرف بجناحيها الملونين:
-ما أقبح أن يصير الجمال مصدر عذاب وشقاء لصاحبه!
أَنَّتِ العصفورة الجميلة والدموع في عينيها:
-قدري أن أكون جميلة وأن أتعذب.
لم يفهم الصبي ما قالته الطيور، فوضع العصفورة في قفص وقفِل راجعاً إلى
بيته مسروراً بصيده الثمين.
قبل فوات الأوان
كيف حدث ما حدث؟ إنه الآن جالس قرب فراش أمه العجوز المريضة، والناس يدخلون
ويخرجون فلا يعرفه أحد، ولا يعرف أحداً، أمه وحدها هي التي تنظر إليه بحنان
وحب، وهي وحدها التي عرفته وأبدت المزيد من الحرص عليه... وشرع يفكر: ما
أعظم الحكمة التي تقول:
"الدنيا أم"!
إن ذهنه مشوش جداً. يحاول أن يتذكر ما جرى فيخيل إليه أنه كان في حلم
مزعج... الواقع الوحيد الذي يحسه الآن بكل كيانه هو أنه جالس قرب أمه
المريضة. أما الأيام التي مضت فأمرها مختلف.
يبدو أنها كانت واقعاً لكنها لم تعد كذلك.. هي الآن ذكرى تطلع من ضباب كثيف
ثم تتلاشى في ضباب شفيف يتكاثف ويتكاثف إلى أن يصير جداراً قاتماً لا يشف
عن شيء...
تدخل امرأة مسنة من الجارات وتجلس قرب فراش الأم، تكلمها بحب وود ثم تلتفت
إليه، وهو الجالس غريباً في بيته، وتسأله: كيف حالك يا بني؟ ألم تعرفني؟
لقد غيرتك الأيام كما غيرتنا جميعاً.. أنا جارتكم أم ماجد...
وتوهجت ذاكرته، تلاشى الضباب الكثيف وبزغت شمس أخرى.. أجل.. كان لـه أصدقاء
وكان ماجد منهم، وكانت لـه مودات وعداوات.. مرت في خاطره ذكرى أيام الطفولة
كسحابة ملونة وشفافة.. لقد هربت منه الطفولة، ولا يعرف كيف هربت... يتذكر
الآن أنه وجد نفسه شاباً جم النشاط، جم الطموح، كثير الأحلام، وكانت
الرياضة البدنية هوايته المفضلة، وكان تحصيل العلم والمعرفة شغله الشاغل.
وصار محط أنظار أهل المدينة.. الناس ينظرون إليه باحترام وتقدير، ويتوسمون
فيه الخير...
وكثرت معرفته وظل متواضعاً.. جاب السهول والغابات المحيطة بالمدينة، صعد
القمم العالية، وتأمل الصخور الضخمة، وسمع حفيف أوراق الغار والبطم واكتسب
فضيلة التواضع والصمت. قرأ تاريخ البشر فتجسد أمام ناظريه ما لاقت البشرية
من ويلات وحروب وشرور كثيرة...
كان مكان جلوسه المفضل كهف واسع صعب المرتقى.. لقد صنع سلماً من الحبال
يرقى عليه إلى ذلك الكهف الذي يقع فوق صخرة بيضاء رابضة فوق كتف الوادي
الذي تتراكض الجداول نحوه لتشكل نهراً يتدفق بمزيد من القوة، ملتوياً بين
التلال حتى يصل إلى البحر.
راح يجلس هناك ساعات وساعات.. يقرأ ويسجل ما يخطر لـه من أفكار ورؤى.. صار
يؤلمه ما يراه في الناس من عيوب، وكبرت في عينيه شرور العالم بعد أن صار
يقارنها بسلام الطبيعة ووداعتها.
وقرر أن يعتزل الناس كي يتاح لـه البحث عن وسيلة يخلص بها البشر من الشر
والفساد، وتساعدهم على إقامة مجتمع إنساني يسوده العدل والمحبة والسلام،
مجتمع ينمو فيه ما هو جميل ونافع ويندثر القبح والأذى.
وشرع يعد العدة لتنفيذ قراره. راح يعمل بجد وصبر حتى صار الكهف صالحاً
للإقامة صيفاً وشتاءً. جر إليه الماء في ساقية من نبع جبلي، وأعد أماكن
للمؤنة والنوم والعمل. أعد رفوفاً للكتب وغيرها من اللوازم ومضى إلى أمه
وأطلعها على قراره...
قالت الأم:
-في الإنسان كثير من الشر يا بني.. هذا صحيح، لكن الإنسان ليس شراً كله.
أنت لا ترى سوى الجانب المظلم منه.. إنّ في الناس كثيراً من الخير والرحمة
ولولا الخير الذي فيهم لما بقيت منهم بقية.
قال لها:
-أنا لا أكرههم يا أماه! أنا أريد لهم المزيد من الخير... لكنني أكره أن
أراهم يزحفون على الأرض زحفاً، أريدهم أن يحلقوا عالياً جداً يا أماه، أن
يتأملوا كوكب الأرض الجميل بعيداً عن صخب المطامع والأهواء..
قالت الأم:
-الزاحف على الأرض والمحلق عالياً جداً فوقها لا يستطيعان رؤيتها جيداً..
وإذا كنت قد كرهت زحف الزاحفين فلا تزحف بل سر عليها واهبط إلى أوديتها
واصعد إلى ذراها ولا تنفصل عن الناس وعنها. إنَّ عمق الوادي قد يظهر المزيد
من جلال الجبل، وكذلك حال النظر من أعلى الجبل إلى الوادي. فابق معنا يا
بني.. واعمل الخير للناس بين الناس لا بعيداً عنهم. وليكن شعارك: مع الناس
ومن أجلهم.
قال منفعلاً:
-حسبتك جناحاً أطير به عالياً وهل أنا ذا أراك قيداً يمنعني من الطيران..
أريد أجنحة يا أمي، لا أريد قيوداً.
نظرت أمه إلى عينيه فرأت فيهما الحزم فقالت بأسى:
-ليس الكائن جناحين وحسب يا بني!
ودخلت بيتها حزينة... ومضى إلى الكهف غير متردد.
كان شاباً شجاعاً ومؤمناً بقضيته فشرع يعمل بجد. يقرأ الكتب والقوانين..
راح يرسم الخطط المثلى مسترجعاً في ذاكرته أفضل النظم من دنيوية وما أتت به
الشرائع الدينية من سماوية ووثنية. ومرت الأيام والشهور.
كان رفاق شبابه يأتون في الأماسي إلى قاعدةِ الصخرةِ ويليحون لـه
بمناديلهم... وكان يرد على تلويحهم أحياناً ثم صار يتجاهل تحياتهم فنقص عدد
الذين يأتون ونقص حتى لم يعد يأتي أحد.
ونسيه الجميع.. وانهمك في عمله حتى نسي الجميع. مر الصيف والخريف وجاء
الشتاء بلياليه الطوال الباردة، وأقبل الربيع وهو منكب على عمله، يبني على
الورق مدناً وينشئ مزارع نظيفة، ويقيم المصانع العملاقة الرائعة ويطيع
القوانين ثم يعيد النظر في ما أنشأ وأقام... وأعادت الفصول دورتها وتوالت
الأعوام. وكان قد أقام حقلاً صغيراً قرب الكهف، وربى بعض الدواجن وزرع في
أرجاء الكهف بعض الخضار فكفاه ذلك وسد حاجاته المتواضعة.. وشغله العمل
الدائب عن كل ما عداه فلم يفطن إلى أن تراكم الثلوج شتاء، وانهمار الأمطار
ربيعاً، وحرارة الشمس صيفاً، وجنون الرياح خريفاً قد فعلت فعلها في الحبال
التي صنع منها السلم الذي صعد عليه إلى الكهف فاهترأت وتقطعت كما وهت ثم
انقطعت الحبال العاطفية والروحية التي كانت تربطه بالأهل والأقرباء
والجيران والأصدقاء..
وأفاق ذات صباح على هدير صاخب فنهض مذعوراً ليجد طائرة مروحية تحط على
الفسحة التي أمام الكهف، ثم رأى رجلين يخرجان منها ويتجهان نحوه. حياه
الرجلان باحترام وأخبراه أن أمه مريضة وتريد أن تراه.
ارتعد كمن يفيق من كابوس.. لقد نسي أن لـه أماً وأن لـه مدينة.
وعاد مع الرجلين فوجد المدينة قد تغيرت، ووجد الناس قد تغيروا.. لقد هرم
بيتهم كثيراً وهرمت أمه المسكينة.. وحين نظر إلى المرآة رأى الشيب يغزو
شعره.
وعلى الرغم من ذلك لم يقنط بل قرر أن يستدرك ما فات، وأن يبدأ من جديد،
وقرر أن يكون كالنسر يعود إلى الأرض بعد تحليق فيفيد الناس بما اكتسب
ويستمد القوة منهم.
|