بيني وبينك
كم من مرة قطعت فيها هذا الطريق معك! ذراعك في ذراعي, فما شعرت أطويل طريقنا أم
قصير? أفي يومنا المسير أم في غد لم يأت بعد? أم هو في ماض من العمر قد ولى
وفات.
كان الطريق هو الذي يقبل إليّ. يأخذ بيدي, ويريني اتصاله بالأفق, بالسماء,
بالأفلاك... على جانبيه دور هادئة المأوى كصدور الحاضنات, ويمر بنا أناس كل
منهم شعاع من نور الله.
أما الآن, بعد اختفائك, فهذا الطريق بعينه أقطعه وحدي فلا ينتهي. المسير سخرة,
والأفق قيد, والسماء غطاء, والنجوم ترمق الأرض شزرًا. الدُّورُ سجون والناس
أطياف ذاهلة لا تدري ما القدر. وإن شكّت كفرت.
***
ما رأيت عاملاً في ترام أو في متجر أو في مقهى إلاّ سلّم عليك سلام الترحيب
والإعزاز, فالحياة المتدفقة من روحك تمسح عن النفوس جميعها صدأ الألم
والحزن, وتنفض عن الوجوه رماد البؤس والشقاء.
وأنتِ, لا تستقرُّ نظرتُك على وجه واحد ولا تتريث. تهبين, وما تُقدِّرين أيَّ مال
تَنثرين? أفأنت عمياء كأمك الغريزة وأبيك الحظ?
***
السينما مزدحمة وأنت لا تعبئين بأحد. المشهد مؤثر, والناس يبكون, وأنت ضاحكة:
- أأبكي من خيال?
يا أختاه! هلاّ بكيت أيضًا من حقيقة ما عشت...
ومن يدري?! لعلك قد انصرفت عني يوم اختفائك عابثة تقولين:
- أأبكي من خيال?.
***
نقلت إلى أن خالتك, أو تلك التي تزعمين أنها خالتك, حدثتك عني بالأمس وقد تركتكما
في العربة:
- أهذا الذي تذكرين? إنه ساذج, هو في يدك كالعجين فلتهنئي به.
ما آلمني هذا الوصف, بل رحبت به ورضيت. أَصَدَقتْ نظرتُك فيَّ أم لم تصدق, سيّانَ
عندي, إن الحب الذي يغمر قلبي هو كل ما أسألك عليه من أجر. فلا يهمني تصفيق
النظارة أو صفيرهم.
***
ما أظنك أحببت أحدًا أو شيئًا حبّك الثوب الجديد, هو حب صادر من قلبك, عائد إليه,
فأنت به قريرة العين, سعيدة ناجية من سيطرة الغير...
على لساني دعاء:
- ألا فليذلّك الحب يومًا...
ولكن قلبي يهمس:
- خيّب الله مُناك...
***
ماذا تظنين? أَحسبتِ يَومَ اختفائك أنني سآوى إلى عشنا فأمكث أترقب ميعادك, فإذا
مضى تشاغلت بكتاب أقرؤه ولا أفهم منه شيئًا, ونظرت إلى الساعة مرة وتثاءبت
أخرى حتى إذا ما انتبهت إلى مشاغلي التي أهملتها من أجلك, هبطت الدرج
سريعًا, وانطلقت إلى الدروب والمسالك, واختلطت بالناس?... أو يدور بخلدك
أنني عندئذ أنسى كل شيء? هيهات لخيالك, مهما سكر وعربد, أن يدرك ما فعلت...
لبثت أنتظرك ساعة, ثم ليلة, ثم يومًا ويومين, أسبوعًا وأسبوعين, شهرًا
وشهورًا وما زلت أنتظرك. وأنا أعلم أنك لن تعودي ولكني أخشى - إذا أنا لم
أنتظرك وشاء القدر أن تعودي أو أن ألقاك في الطريق - أخشى حينئذ أن تكون
لهفتي على رؤيتك قد طواها النسيان وأطفأ أوارها. ولست أريد إلاّ أن أقابلك
مشبوب العاطفة, واله القلب, ظامئ العين. فأنت لو تعلمين عزيزة عليّ, وهيهات
لي أن أبتذل قدرك عندي. فلأتحمل الألم طول الدهر خوفًا من إساءتك في لحظة
عابرة قد تأتي وقد لا تأتي.
***
اشتريت لها الحذاء فلبسته بعض اليوم ثم خلعته:
- حذرني الطبيب من الكعوب العالية.
وألقته عنها ميتًا في عنفوان الصبا. منعني كرهي لهذا الحذاء السخيف الذي هم
بأذاها من أن آسف على موته السريع.
***
أيتها الفتاة الغريرة! كيف لم يقو مكرك على ستر سذاجتك الكامنة في نظرتك? أأنت
ساذجة قد تعلمت المكر, أم ماكرة قد تعلمت السذاجة? كذبي ما شئت وامكري,
فليس أحبّ إلى قلبي من كذبك ومكرك.
***
هذا الأثاث اشتريته على عجل من أجل عشّنا. ما نقّبت ولا اخترت. ظل طول رفقتنا
أنانيًّا أبكم. لم تحيه نظرة فاحصة من عينيك. ما سمعتك راضية عنه أو ساخطة
عليه. وكنت إذا انتظرتك وفات - كالعادة - ميعادك, أتطلع إلى قطعه واحدةً
واحدةً, فما حنّت يومًا وأسعفَت تساؤلي بجواب. حتى إذا أشرقت شمسك تلاشى
كالظلام من حياتي.
ولكن ها قد حل يومك - ككل ظالم - أيها الأناني الأبكم. الآن بعد اختفائها نطقت,
بل ما عدت تطيق السكوت. لا ينقطع تساؤلك "أين هي?" "متى تعود?" يكاد ينشق
خشبك عيونًا جائعة تتلهف على نبسة من شفتي, وتكاد تتمزق منك أذرع تتشبث بي
وتستجديني الجواب.
أيها الثرثار! لجّ في الكلام ما شئت. فأنا اليوم - ولم العجب? - كما كنت أنت
بالأمس - أبكم! ولكن لا عليك أيها الوفي الأمين, أيحلّ لجريحٍ أن يعبث
بجريح? ليس من رباط بين القلوب أقوى من العاهة المشتركة. أنا أيضًا أيها
الرفيق الكريم لا أدري أين هي ولا متى تعود! فضم بلواك إلى بلواي لعلها
بهذا عليك تهون.
أيها الرفيق اللقيط! لأنت عندي الآن أعز من أطهر الأبناء.
***
أيتها الفتاة الغريرة... لم يكن لي أمل فيك, ولا بنيت من حبك أكواخًا ولا قصورًا.
لا يركن إلى الأمل إلاّ من قصُر يومه فاختلس من غده.
أما أنا فقد كان حاضري يفيض بي ويفيض عني.
كان! فكل ذلك قد ولى وفات. وكأن الذي أغدق على بالأمس غير مسؤول - يتقاضاني اليوم
ثمن الإسراف بالحرمان.
وكم من محروم مظلوم!
***
بعد أيام قلائل من لقائنا كنت قد قصصت عليك ماضيّ, وكل حادثة ساقتني إليك. أما
أنت فقد مر الحول وبعض الحول ولست أدري عنك شيئًا. ما هممت بسؤالك ولا شكا
قلبي من ظمإ. فليس الغموض الذي يحوطك إلاّ انبهار العين من نورك الوهاج.
وهل لك ماضٍ? إنك لست بنت الحوادث, بل أنت أم الحياة!
***
خَالَلْتُكِ عامًا وبعض عام. فما سمعتك تنطقين بفكرة أو تبدين رأيًا. ما تلوثت
شفتاك بالحكمة, ولا نضح لسانك بالفلسفة. ما دلست الحوادث عليك معاني موهومة
مزيفة ليهتز لها رأسك استعبارًا. ما سمعتك تذكرين ولا تأملين. لا ماضي لك
ولا مستقبل, بل كنت في كل لحظة كمال الحياة لتلك اللحظة. تنفجر منك الحياة
كمنابع الأنهار, لا يهمها أتبدد النهر أم اغتاله مستنقع. أتبخر هباء أم سار
لغايته إلى البحر البعيد. تثب الحياة الغضة من عينيك. تسيل على صدرك. تتدفق
من على جسدك وأنت لا تشعرين. وكنت أنهل من معينها الصافي فأجد فيه نشوة لم
أجدها من عتيق الخمور. وأنت - لشقائي - لا تشعرين; فليس أكبر الألم ألاّ
يشعر الحبيب بألمك, بل ألاّ يشعر بسعادتك.
***
ما من مرة احتضنتك بين ذراعيّ إلاّ شعرت بقسوة الموت وظلمه. هذا الجسد الغض
المتألق, تتفجر منه الحياة, يصبح يومًا ما أبخرة عفنة وعظامًا نخرة.
***
أَلبَستْها العاملة أمام المرآة كُلَّ ما لديها من معاطف, واحدًا بعد واحد, فإذا
بجمالها يطغى على التغيير والتبديل, تبدو لها في كل معطف فتنة جديدة.
وددت لو استطعت أن أشتريها لك جميعًا.
عادت إلى المعطف الأزرق, وجربته مرة أخرى, ودار جسدها أمام المرآة. وجهها ساكن,
ونظراتها ثابتة على توءميها.... "رفقًا بجيدك يا فتاتي!" ثم خلعته, وعادت
إلى بقية المعاطف فلبستها كلها واحدًا بعد واحد, ثم أشارت إلى المعطف
الأزرق وقالت متراخية:
- هذا!
وهكذا تشاء الصدف ألاّ يتعلق ذوقك إلاّ بأغلاها!
- تريثي! إذا لم يعجبك هذا المعطف فغيره كثير. تعالى أريك متاجر أخرى.
لمستهُ بطرف إصبعها وقالت:
- أقضي به هذا الموسم, وفي العام القادم أشتري غيره.
كم وددت لو أنك قلت: "تشتري لي أنت غيره".
دعوت الله أن يقسم لي شراءه, كما يدعو السقيم ربه أن يمنّ عليه بالشفاء.
***
كنت معك في أحضان الرذيلة من أتقى الناس, لا تذوق شفتاي الخمر, وما بيني وبين
الله عامر.
أما الآن, بعد اختفائك, فقد سكنتُ إلى الخمر, لا لأنساك, بل لأقوى على جر الماضي
إلى الحاضر. لأعيش معك من جديد. فأنا اليوم سكير صالح مطرود من رحمة الله.
***
لقيتك ذات يوم, على غير ميعاد, في منعطف طريق, أغلب الظن أنك تسكنين قريبًا منه,
وأنك خرجت عجلي لأمر. كنت عاطلة من الزينة, غير مسرحة الشعر, مهملة
الملابس, على كتفيك معطف لعله معطف أخيك, وفي يدك حقيبة لعلها حقيبة خالتك.
كنت لا تشعرين بنظراتي تعانقك من بعيد, وأنا واقف أتردد بين لذة اللقاء
وراحة التشفي. هذه التي أسرتني مضاعة بين الناس لا يشعر بها أحد. ملكة نزعت
عن عرشها! هذا هو الطير المحلق يهبط على الأرض. أين جمال جناحيه وهو صافٌّ
في السماء, من مهزلة اضطرابه وهو يحجل ويقفز?!
ولما ذهبت إلى عشنا. كنت أهدأ نفسًا. حسبتني أشد قوة على التخلص من سيطرتك, ولكنك
ما كدت تجتازين الباب حتى هتف قلبي: "هي والله"! كوني ما شئت, ليمسخ
الإهمال صورتك, ليقس الضنا على محياك, بل فليشوهك الزمن الذي لا يرحم, فأنت
أنت عندي. لأنت آخر علمي وذوقي ومنتهى تجربتي. لقد كملت بك حياتي وتم
وجودي, ولن أزيد بعدك شيئًا. حتى خيانتك لم يزدد بها علمي. هي تجربة أصبحتُ
بعدها أكثر فهمًا لألم الخلق وأشد سخرية من ألم الخلق. فهذا العطف الذي
أبذله باليمين, تسترده سخريتي باليسار.
***
ولكن صبرًا! سيأتي اليوم الذي أنساك فيه. حين يشيب شعري وتتساقط أسناني, وتنطفئ
عيوني, حين يحتضنني الفراش فلا أقوى على التخلص من ضمته, وأستسلم إليه
مضطرّا وأستريح, حين أفلح أخيرًا في جرّ رجلي جرًّا لأبحث عن الشمس, محدقًا
في الناس وهم حولي, تحديق المشنوق في جلاديه. حين لا أستطيع أن أرى شيئًا,
إذ يكون شبح الموت واقفًا أمامي. أعد أنفاسه قبل أن يعدّ هو أنفاسي.
عندئذ سأنساك! فليس أقوى من ذكراك عندي سوى الموت.
ولكن, ألا من يخبرني عندئذ كيف أمسيتِ? وكيف مرت عليكِ السنون?
***
هذه المخلوقات المنتشرة في الطريق, هاربة من الدور تارة, هاربة إليها مرة أخرى.
هذه الحثالة المتوسدة أرصفة المسالك...
هؤلاء الباعة الجوالون في الزحام, بعيدون بأنفسهم عن الزحام كالأرواح الضالة...
كلهم ينطق بالقدم والدوام. ما حلول جيل منهم محل جيل إلاّ كالثعبان يبدل جلدًا
بجلد...
هكذا كنت أراهم ... أما بعدك فهم لديّ الآن سياح يهبطون بلدًا غريبًا. وجوههم
بلهاء في جهلها. نظراتهم تائهة لا تستقر, ولا تقوي أرواحهم المهاجرة على أن
تقول عن شيء: "هذا لي!".
كل هذا لأنهم لم يسعدوا يا حبيبتي برؤياك.
***
عندما كنت أخرج معك في هدأة الليل, كنت أشعر بأننا وحدنا في هذا العالم! تناسينا
الأفلاك والنجوم, نسينا الليل, نسينا الناس.
وكان في نسيانها أكبر اللذة والسعادة.
أما اليوم. بعد اختفائك, فأسير والأفلاك والنجوم لم تتغير, والليل مغمض الطرف,
والناس هُم هُم.
فأجد في نسيانها أكبر الألم والعذاب.
***
ألف ألف فتاة مثلك عاشت, فلمعت عيناها لمعان عينيك, وافترت شفتاها عن مثل بارق
ثغرك, ثم طواهن الموت واندثر في التراب. قبلة واحدة منك لي كانت تكفي لبعث
هؤلاء الموتى الجائعات للحب بعد طول الرقاد. في قبلتك لهيب ألف ألف ثغر
ظامئ. أصبحت من أجلك أحب الموتى مثل حبي للأحياء.
***
وأغرب ما أعجب له أنني لا أسأل عن سبب اختفائك. وهل يستطيع من عاش معك معدوم
المنطق, أن يعود فيتفهم العلل والأسباب? سأسأل عن السبب حينما يهدأ قلبي.
إذًا فلن أسأل ما حييت. وإذا مات العالم معتزًّا بعلمه - فسأموت أنا
معتزًّا بجهلى.
***
قرأت بحثًا كتبه شيخ من شيوخ الدين يعتمد فيه على المنطق العقلي, ليثبت أن
الإنسان مسيّر لا مخيّر, فما اقتنعت وما فهمت أوله من آخره.
وتجيئين أنت, أيتها الفتاة الغريرة, فتكفيني نظرة واحدة من عينيك لأومن بالقدر
وبالجبر. لأنني ألغيت معك منطقي وعقلي, وقنعت بالروح فآمنت.
***
لجأت إلى الكتب المقدسة الطاهرة أستنبئها: أيجيب الرحمن دعوة العاصي? فإني أريد
إذا ما وقفت بين يدي الديان أن أسأله, قبل أن يغفر لي ذنوبي, أن يغفر لك
ذنبك.
***
العالم مضطرب. والمدافع تقصف, والدماء تسيل. الدور تخربت, والنساء ترملت, والأرض
أمنا العجوز في اللهيب. فماذا يكون شقائي باختفائك مع كل هذه الآلام? أأصرخ
ليخرب العالم ما دمت أنا غير سعيد? لا وألف مرة لا, بل أدعو الله أن يعيد
السلام حتى تنعمي يا حبيبتي أَنّى كنتِ بشبابك في ظلاله, وإن حرمني هذا
السلام لذتي الأخيرة: لذة التشفي!
***
في المساء أقول: الفرارَ الفرارَ يا نفس. عبثًا حاولت الاستقرار والاطمئنان للخلو
والعدم. من يلومك بعد أن ذقت معها طعم الوجود? عودي ارجعي أيتها النفس
الفطيم إلى ظلامك وأوهامك, فلست والله تدرين بعد اليوم, إذ تطوف بك أشباح
السعادة: أهي ذكريات الماضي أم آمال المستقبل? وفي الصباح أنتفض على بسمة
الفجر ونشوة الطير - أسمعها تقول: "أنت يا هذا الذي سعدت بالحب, قم! إنما
العيد لك!" مهلاً أيها الطير! إنك تعيش ملء لحظتك للحظتك, بَيْدَ أن نفسي
تتوقع عند الصباح قدوم المساء.
***
ودّعت القاهرة عهدَ السلام, فأطفأت أنوارها, وفاضت كالقدح أترعته يد مرتعشة لسكير
زائغ البصر. واكتظت طرقاتها بأغراب ومهاجرين ونازحين من ملل ونحل شتى, لم
يبق موضع لقدم في ترام, أو في سيارة أو في ملهى, رأيت الكثيرين في هذا
الزحام كالأسرى, على وجوههم علامات التأفف والكرب والاختناق, يودون الخلاص.
فلا شيء يضيق به الإنسان ضيقه بقرب أخيه الإنسان. أما أنت فكنت في الزحام
كالسمكة في الماء, تطبق عليك الجموع, ثم تنكشف وتطبق, وأنت ناعمة البال
قريرة العين, بل كنت أجمل ما تكونين وأنت رافعة الرأس في الزحام, تتلاطم
أمواج البَشر حول منارتك. ما سمعتك تشكين أو تتأففين. ما زاد تلفتك ولا
ضجرت نظرتك, بل كنت مرحة كأنك في مهرجان... وكما رأيتك سعيدة بالحياة رأيت
الحياة سعيدة بك.
***
يوم أن خرجنا من متجر الأزياء قبيل الغروب وأنت تقولين:
- ... أعجبني الثوب لولا أزراره.
ودوّت صفارة الإنذار, وهاج الخلق وماج. هل تذكرين كيف رأينا لابسي الجلابيب
والحفاة هازئين, والموسرين هاربين? رأينا شبابًا في شرخ الصبا غير عابئين,
وشيوخًا على حافة القبر زايلهم كساحهم فهم يجرون إلى المخابئ نشطين.
وقفت مكانك وتلفتِّ يمنة ويسرة, ثم قلتِ:
- أنا خائفة!
أخذتكِ إلى أول بناء لقيناه, وجلسنا مع بوابه النوبي كأن ثلاثتنا من أسرة واحدة
لم تفترق طول الحياة.
ولما ضجت السماء بأزيز الطائرات, واشتعلت بلهيب المدافع وانفجار القنابل. ولما
اهتزت النوافذ والأبواب, وعلا الصراخ, امتقع لونك, وعرقت يدك وطال صمتك.
ثم هتفت الصفارة بالأمان, فقمت واقفة, ووضعت ذراعك في ذراعي وخرجنا, وكان أول
حديثك:
- ... لأن طرف الزر الأوسط على الكم اليمين شبه مخدوش.
***
تنقلت بعدك بين نساء كثيرات. لم أزد مع كل منهن عن لقاء واحد, وفيهن من هي أجمل
منك وأشد سحرًا, ثم أفرّ ولا أعود, لماذا? أللحسرة? لا. فأنا أعلم أن
اختفاءك قد أذابك في يمّ الحياة, وهيهات أن تعودي, ولو عدتِ لعدتِ غير ما
كنت.. أللغيرة? هل تخشى روحي أن تكون كل امرأة جديدة بين ذراعي رجلاً
جديدًا أنت إذ ذاك بين ذراعيه? قد يكون هذا, ولكن هل لي أن أصارحك? إنني
أفرّ ضنًّا بنفسي على غيرك? فهذا الذي تحسبينه في انمحاء هو غاية الكبرياء
والاعتزاز. هو الحبّ!
***
أحببت قبلك اثنتين: واحدةً ثم أخرى. كم أقسمت صادقًا بين أيديهما أحرّ الأيمان
على الوفاء والإخلاص حتى الموت. ثم افترقنا. وهدأت. ولم أعد أذكر شيئًا.
غير أني كنت في غيبوبة النشوة أنادي الأولى بين ذراعي الثانية, وكم فاجأت
شفتيّ تتمتمان باسمٍ دفين وأنت بين ذراعي لا تشعرين, فهل الذي جرى عليهما
سيجري عليك أنتِ أيضًا? إن الزمن يلح عليّ بالخلاص فأعصيه, والمنطق يسخر
مني فأسخر منه, والحياة تتشبث بتلابيبي فأتملص من قبضتها وأفرّ. ولكن هل
أقوى على مغالبة كل هؤلاء الخصوم مجتمعين? سأنساك! سأنساك! ولكن هيهات لي
أن أنسى أنني نسيتك.
***
الآن بعد اختفائك, أقول وأنا وجل: هل أحببتها لأنها ذكرتني بمن مضى? أفي نظرتك أم
في صوتك أم في سذاجتك لقيت مَن خِلتُ أنني دفنته? ولكن لا! ما فات مات. مات
إلى الأبد. ولم نخدع أنفسنا? الذكرى إنما تجر من القبر هيكلاً نخرًا باليًا
في لون أغبر وكفن حائل, أجوف قد نُزع منه الكلام. نومئ فلا يفهم, ونشير فلا
يفطن. عدم متحجر, قائم ونحن نضطرب وندور, فلا نعرف إقباله من إدباره. إن
بصيصًا من نور خافت ينبعث من حي, كاسف جميع الشموس الغاربة! الآن أومن أنني
أحببت من سبقك, لأنهما كانتا تشبهانك أنت.
***
يا رب! يا أرحم الراحمين, وسعت رحمتك حنق المهزومين وثورة المحرومين وقد تاهوا في
ملكوتك. ما أجهلهم وإن كانوا مؤمنين!
وسعت رحمتك من أضلّتهُ بصيرته, فجحد, وأنكر, وكفر كفر الأعمى بالنور.
وسعت رحمتكَ من ركبه الجهل, وساقته الحماقة فتعالى وأبي السجود, آنفًا من أن يرسف
فيما توهم من قيود.
بل وسعت رحمتك من أغدقت عليه من نعمائك, فجدف وتمرد.
لا أقول بمثل قولهم: لماذا خلقت الشر? لماذا برأت الرذيلة? ولكني أسألك يا إلهي:
لماذا جعلت الحق على النفس ثقيلاً, والباطل هينًا? لماذا خلقت الفضيلة مملة
والرذيلة فاتنة? لماذا خلقت الحب روحًا هائمة لا تخضع لعرف أو لقانون:
طيرًا لا يحطّ إلا ليحوم? يفزعه الأمن والسلم والدوام, والحياة عنده وجْد
ووَلَه وهيام?
لا يستقر ولا يهدأ, لا تزيده العبرة إلاّ استهتارًا, ولا النصيحة إلاّ عنادًا. لم
جعلت السعادة سرابًا والوفاء محالاً, والنيات مقعدةً, والنسيان عداء?!
أنت مطّلع على الضمائر والقلوب, فاعطف اللهم عمن تثاقلت قدماه في الطريق السوى
فلم يقوَ على اللحاق بالقافلة تنفصّد عرقًا ومللاً, وانحرف إلى البيداء
ضالاًّ يناجي النجوم, وكلّ زاده نجواه لنفسه:
- ما ظنك بالله العلى القدير, الرؤوف الكريم!
***
أجوس بعدك خلال القاهرة, فأعود من أحيائها الأوربية بقلب فاتر كليل, وطعم بين
المر والحلو, كفقير يرتد عن زيارة ابنه الغني العاق, وإن عزّ على قلب أبيه.
يضيع مني شبحك في الأوبرا وجروبي . وبين شبرد والكونتنتال , فإذا قادتني
قدماي إلى سيدنا الحسين ومررت تحت البوابات الهرمة, ووقفت أمام الجوامع
العتيقة, هصر الشوق قلبي هصرًا...
فأنت عندي هذا التاريخ.
وإذا ما فاض بي الحنين إليك أبكّر إلى قصر النيل مترقبًا جموع الفلاحات قادمات من
الريف, على رؤوسهن سلال الخضر, ثيابهن سود, على أرجلهن الطين, معتدلات
القوام, في وجوههن المجهدة عيون صابرة. لا ينقطع تدافعهن, ولا ثرثرتهن.
عندئذ ألقاك; فأنت عندي هذا الوطن.
ويغلبني الوله على أمري يوم "طلوع القرافة" حين أتتبع بنظري عربات الفلاحين
البطيئة تحمل الأسرة كلها رجالاً ونساء, شيوخًا وأطفالاً, أمامهم
"السحّارة" المنحدرة من قبور الفراعنة, يهجرون مدينة الأحياء ليستقبلوا
العيد في مدينة الأموات.
فأنت عندي هذا العيد!
***
الآن أذكر, والآن فهمت.
في صباح اليوم الذي اختفيتِ فيه, كنت أجول في خان الخليلي , فنادتني من سجنها
الزجاجي مسبحة جميلة وأشارت إليّ أن خذني معك.
تناولتها بودّ, وانعقدت بيننا منذ اللمسة الأولى أواصر صداقة وثقت بأنها ستدوم.
تساقط حباتها كقطرات الماء على الغدير. حديثها الخافت إلي: عن الألفة بين
القلوب في عالم الوحدة, عن الطمأنينة في اللقاء المقسوم وإن طال الغياب, عن
الوجل من الفراق المحتوم رغم اللقاء.
عدت بها إلى عشنا, فلم أكد أدخله حتى انقطع من حيث لا أدري خيطها وتناثرت حباتها.
أهو نذير, أم شيطان يغار? جثوت على الأرض, وجمعت حبّاتها, وعددتها فإذا هي
تنقص حبّة. دسست يدي, ونبشت بأظافري تحت المقاعد والسجاد. ولكن عبثًا!
فحزنت وأسفتُ.
قد تسألين: أكلّ هذا العناء من أجل حبّة واحدة صغيرة, وفي يدك منها عشرات?
فأجيبك: هكذا مسبحتي! لا يحيا جمالها إلاّ بهذه الحبة الواحدة الصغيرة.. التائهة
[ 1940 ]
|