أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 15/08/2024

الكاتب الكبير: يحيى حقي / 1905-1992

       
       
       
       
       

 

يحيى حقي... الأديب والأنسان

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

ولد يحيى حقي (1905 - 1992) لأسرة من أصل تركي تقطن حي السيدة زينب بالقاهرة, وهو الحي الذي قضى فيه سني طفولته, فكانت الولادة والنشأة سببًا لارتباط لازمه طوال حياته بالأحياء القاهرية الشعبية القديمة وبأهلها وبتقاليدهم.

 

ويتضح هذا الارتباط الوثيق في كثير من قصصه وكتاباته.

 

عمل يحيى حقي بعد تخرجه, في مدرسة الحقوق العليا عام 1925, محاميًا ثم معاونًا للإدارة بصعيد مصر, الذي قضى فيه عامين قبل أن يلتحق بالسلك الدبلوماسي.

 

وفي عام 1955, اختير مديرًا لمصلحة الفنون (النواة الأولى لوزارة الثقافة فيما بعد), فكان له دور مؤسس في النهضة الثقافية التي عرفتها مصر في تلك السنوات وما بعدها.

 

وفي عام 1962, تولى يحيى حقي رئاسة تحرير مجلة (المجلة) الشهرية لثماني سنوات, نجح خلالها في تحويل تلك الدورية إلى منبر ثقافي مؤثر, قدم من خلاله الكثير من المواهب الجديدة في ميادين القصة القصيرة والرواية والشعر والنقد.

 

خلال دراسته للحقوق, كتب يحيى حقي القصة القصيرة متأثرًا بالأدب الروسي.

 

وصدرت مجموعته القصصية (قنديل أم هاشم) كأول كتاب ليحيى حقي عام 1944, فقد نشر في الصحف والمجلات منذ أواسط العشرينيات, وخاصة في صحيفة "الفجر" لسان حال "المدرسة الحديثة" وليدة ثورة 1919 الوطنية, ولهذه "المدرسة الحديثة" فضل كبير بتعريف البيئة المصرية بالقصة في مفهومها الحديث, التي كان يحيى حقي من أوائل مَنْ كتبوها بالعربية.

 

وإلى جوار القصة والرواية, أسهم يحيى حقي في كتابة المقال الأدبي, والنقد الأدبي والفني, والدراسات الأدبية, والسيرة الذاتية. وله ثمانية وعشرون كتابًا, غير القصص والمسرحيات والكتب التي ترجمها.

 

وطوال سنوات الغربة التي عمل فيها خارج وطنه, كانت الحياة في الحي القاهري الشعبي, وفي قرى ومدن الصعيد, والروح الشعبية الصابرة لأهلها, ما تزال تشغل تفكيره, وقد كتب عن نفسه: [ كنت دائم الحنين إلى تلك الجموع الغفيرة من الغلابة والمساكين الذين يعيشون على رزق يوم بيوم ]... [ وحين عدت إلى مصر سنة 1939, شعرت بجميع الأحاسيس التي عبّرت عنها في"قنديل أم هاشم".

إن بطل القصة شاب يريد أن يهز الشعب المصري هزّا عنيفًا ويقول له: "اصْح: تحرك, فقد تحرك الجماد!" (....) ].

 

[ إن اسمي لا يكادُ يُذكر إلاّ وتُذكر معه "قنديل أم هاشم" كأني لم أكتب غيرها. وكنت أحيانًا أضيق بذلك ].

 

ويكتب حقي في مقام آخر:

[أما الظاهرة الغريبة التي أحار كثيرًا في تحليلها وأنا أتأمل حياتي وإنتاجي, فهي أني, وإن كنت من أصل تركي قريب, أحسّ بأني شديد الاندماج بتربة مصر وأهلها, وفي بعض الأحيان يرجّني هذا الشعور رجّا عنيفًا. ومعرفتي باللغة العامية المصرية وتعبيراتها تفوق ما حصّلته منها مباشرة. وقد يكون ذلك راجعًا إلى الفطرة والحدس والإحساس غير الواعي.

 ولعل هذا الحب هو الذي يميل بي إلى استخدام بعض الكلمات العامية في كتاباتي رغم أني من المهووسين بالفصحى ].

 

يحيى حقي.. الأديب والإنسان

 

بقلم: سمير حلبي

يعد الأديب المبدع يحيى حقي رائد فن القصة القصيرة العربية؛ فهو أحد الرواد الأوائل لهذا الفن الذي يدين له بالكثير مما وصل إليه من نضج، وما بلغه من انتشار واسع، وقد خرج من تحت عباءة ذلك الرائد المبدع الذي كان يعمل في صمت ويكتب في هدوء كثير من الكتاب والمبدعين في العصر الحديث، وكانت له بصمات واضحة في أدب وإبداع العديد من أدباء الأجيال التالية.

 

المولد والنشأة

ولد "يحيى محمد حقي" في [1 من ذي القعدة 1322هـ=7 من يناير 1905م]، ونشأ في "درب الميضة" بحي "السيدة زينب"، وكانت عائلته ذات جذور تركية قديمة، وقد استوطنت مصر نحو عام [ 1282هـ=1865م].

 

وشب "يحيى حقي" في جو مشبع بالأدب والثقافة، فقد كان كل أفراد أسرته يهتمون بالأدب مولعين بالقراءة، فخاله "حمزة بك" كان يشغل وظيفة رئيس القلم العربي في ديوان الخديو إسماعيل، وله نماذج من الإنشاء حواها كتاب "جواهر الأدب"، وعمه هو "محمود طاهر حقي" الذي امتلك في شبابه مجلة "الجريدة الأسبوعية"، وكان أحد رواد فن الرواية، وقد كتب عدة روايات منها: "عذراء دنشواي"، و"غادة جمانا".

 

أما والده "محمد حقي" فقد كان موظفًا بوزارة الأوقاف، وكان محبًا للقراءة والثقافة، وكان مشتركًا في عدد كبير من المجلات الأدبية والعلمية والثقافية، وكانت أمة كذلك حريصة على قراءة القرآن الكريم ومطالعة الكتب الدينية.

 

في هذا الجو الديني الذي يظله الحب ويشع فيه التفاهم وترفرف فيه السعادة نشأ "يحيى حقي" لتتشبع روحه ووجدانه بالقيم الدينية الأصيلة، وتتشرب بالأخلاق الفاضلة، والقيم الإنسانية النبيلة والمثل العليا.

 

أسماء الأنبياء

وكان "يحيى حقي" ثالث سبعة إخوة: خمسة ذكور، وبنتان، وكان إخوته الذكور يحملون جميعًا أسماء أنبياء؛ فأكبرهم "إبراهيم" الذي بدأ حياته بالكتابة الأدبية في مجلة "السفور"، وثاني إخوته "إسماعيل" الذي عمل بالتدريس في بعض المعاهد المصرية وجامعة الملك سعود، وترجم كتبًا في الفلك والفضاء، ثم "زكريا" الذي عمل طبيبًا، و"موسى" الذي تخرج في كلية التجارة ثم حصل على ماجستير في السينما، أما الأختان فهما "فاطمة"، و"مريم".

 

في هذا الجو نشأ "يحيى حقي" متأثرًا بالأدب القديم والحديث، فقرأ لعدد كبير من أدباء العرب القدامى كالجاحظ وأبي العلاء، كما تأثر بعدد من الكتاب الغربيين مثل "فرجينيا وولف"، و"أناتول فرانس".

 

يحيى حقي في صعيد مصر

عمل "يحيى حقي" معاونًا للنيابة في الصعيد لمدة عامين من [1346هـ=1927م] إلى [1347هـ=1928م]، وكانت تلك الفترة على قصرها أهم سنتين في حياته على الإطلاق، وهو يفسر ذلك بقوله: "أتيح لي أن أعرف بلادي وأهلها، وأخالط الفلاحين عن قرب، وأهمية هاتين السنتين ترجع إلى اتصالي المباشر بالطبيعة المصرية والحيوان والنبات، والاتصال المباشر بالفلاحين والتعرف على طباعهم وعاداتهم".

 

وقد انعكس ذلك على أدبه، فكانت كتاباته تتسم بالواقعية الشديدة وتعبر عن قضايا ومشكلات مجتمع الريف في الصعيد بصدق ووضوح، وظهر ذلك في عدد من أعماله القصصية مثل: "البوسطجي"، و"قصة في سجن"، و"أبو فروة".

 

كما كانت إقامته في الأحياء الشعبية من الأسباب التي جعلته يقترب من الحياة الشعبية البسيطة ويصورها ببراعة وإتقان، ويتفهم الروح المصرية ويصفها وصفًا دقيقًا وصادقًا في أعماله، وقد ظهر ذلك بوضوح في قصة "قنديل أم هاشم"، و"أم العواجز".

 

في السلك الدبلوماسي

والتحق "يحيى حقي" بعد ذلك بالسلك الدبلوماسي، وقضى نحو خمسة عشر عامًا خارج مصر، وقد بدأ عمله الدبلوماسي في جدة، ثم انتقل إلى تركيا، ثم إلى روما، وعندما عاد إلى مصر إبان الحرب العالمية الثانية عين سكرتيرًا ثالثًا في الإدارة الاقتصادية لوزارة الخارجية، وظل بها نحو عشر سنين.

 

وفي تلك الفترة تزوج من السيدة "نبيلة" ابنة "عبد اللطيف بك سعودي" عضو مجلس النواب، وكان ذلك في [ذي الحجة 1362هـ=ديسمبر 1943م].

 

وبدخوله هذه الأسرة وجد "يحيى حقي" نفسه في غمار التاريخ، يقول: "دخلت في هذه الأسرة فإذا بي أدخل في بحر خضم لا شاطئ له من تاريخ مصر وأجيال مصر منذ حكم إسماعيل إلى الفترة التي أعيش فيها، تروى لي بأدق التفاصيل وبأدق الأسرار من حمايا المرحوم الأستاذ عبد اللطيف سعودي.. فكان لهذا الرجل فضل كبير علي في أنه بصرني بأشياء كثيرة لا يعلمها إلا هو في تاريخ مصر الحديث".

 

ميلاد ووفاة

تعرضت السيدة "نبيلة" لمتاعب شديدة في شهور حملها الأخيرة، وكانت قد أصيبت في صغرها بحمى روماتيزمية، فأثرت عليها في شبابها، وقد نالت منها في شهور حملها؛ وهو ما أجهدها، خاصة وقد تبين إصابتها بالتهاب عضلة القلب الذي لم يكن له علاج، حتى ظهرت تباشير علاج جديد اسمه "البنسلين"، وكان علاجًا نادرًا يصعب الحصول عليه إلا عن طريق وزارة الخارجية أو قوات الحلفاء، كما أن سعره كان مرتفعًا للغاية، ولكن استطاع يحيى حقي –من خلال عمله بوزارة الخارجية- الحصول على هذا الدواء، ولكن بعد فوات الأوان، فقد وصلت حالة الزوجة إلى مرحلة حرجة خطيرة لا تستجيب معها للعلاج، وما لبثت الزوجة أن ماتت بعد أن وضعت مولودتها "نهى" بستة أشهر.

 

وبالرغم من زواج "يحيى حقي" من السيدة "جان" الإنجليزية بعد وفاة زوجته الأولى بفترة طويلة فإنه ظل يذكر تلك السيدة التي عرف معها السعادة ولم تجنِ غير الألم، وكان كلما تذكرها بكى بحزن وتأثر، وكأنها لم تمت إلا في تلك اللحظة.

 

بين يحيى وشاكر

كان "يحيى حقي" متواضعًا أشد ما يكون التواضع، عطوفًا على أصدقائه مخلصًا في صداقته لهم، وقد ربطته صداقات وطيدة بعدد كبير من أعلام عصره، من أجيال مختلفة واتجاهات متعددة، ولكن كان الحب دائمًا هو الرباط الذي يجمع بينهم، والأدب هو الصلة التي تضمهم، ومن هؤلاء: محمود محمد شاكر، وعثمان عسل، ومحمد عصمت، وفؤاد دوارة، ومصطفى ماهر، وعطية أبو النجا، ونعيم عطية، وسامي فريد، وسمير وهبي، وأحمد تيمور وغيرهم.

 

وكان شاكر من أكثرهم قربًا منه فقد عرفه منذ عام [1358هـ=1939م] واستمرت صداقتهما لأكثر من (53) عامًا.

 

فقد كان لشاكر أكبر الأثر في الارتقاء بلغة يحيى حقي، وتحويله من رجل تتعثر يده لم يتعمق علمه بالعربية إلى ذلك الأديب المبدع الذي تشي كتاباته بأسرار العربية في تمكن واقتدار، ويكشف "يحيى حقي" بحب وتواضع عن جوانب خفية في علاقته بصديقه "شاكر" فيقول:

"من سنة 1939 إلى الآن هذه الصداقة متصلة، بل له علي فضل كبير، فهو الذي يدفع لي فاتورة التليفون، وهو الذي يدفع عني كثيرًا من الديون، وإذا تعثرت في الفلوس يعطيني لوجه الله".

 

ويقول عن تأثيره فيه وتأثره به:

"أثناء عملي بديوان وزارة الخارجية توثقت صلتي بالمحقق البحاثة الأستاذ محمود شاكر، وقرأت معه عددًا من أمهات كتب الأدب العربي القديم ودواوين شعره. ومنذ ذلك الحين وأنا شديد الاهتمام باللغة العربية وأسرارها، وفي اعتقادي أنها لغة عبقرية في قدرتها على الاختصار الشديد مع الإيحاء القوي".

 

وقد أشاد "شاكر" بموهبة حقي الأدبية وبراعته وحسه الأدبي المرهف "وتنبهه إلى جمال العبارة العربية، واكتشافه المبكر لأسرار بلاغة العرب، وقدرته الفائقة على اختزان كل ما يعرف وتمثله فيما يكتب بأسلوبه وعباراته بغير محاكاة أو تقليد، وإنما باقتدار وفن. براعة جعلته لا يقع فيما يقع فيه غيره من النقاد والأدباء، وهو ما أكسبه شخصية متميزة ومستقلة قائمة بذاتها.

 

ريادة فن القصة القصيرة

وبالرغم من قلة الأعمال القصصية ليحيى حقي فإنه يعد بحق هو الرائد الأول لفن القصة القصيرة، كما أثرى فن اللوحة الأدبية في مقالاته الأدبية العديدة التي لا تقل فنًا وبراعة عن القصة.

 

وقد صدرت الأعمال الكاملة ليحيى حقي في (28) مجلدًا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وقام بإعدادها ومراجعتها الناقد "فؤاد دوارة".

 

وقد ترجمت بعض قصصه إلى الفرنسية، فترجم "شارل فيال" قصة "قنديل أم هاشم"، وترجم "سيد عطية أبو النجا" قصة "البوسطجي"، وقدمت تلك القصة الأخيرة في السينما وفازت بعدد كبير من الجوائز.

 

ومن أشهر أعمال "يحيى حقي": مجموعته القصصية "دماء وطين"، و"قنديل أم هاشم"، و"يا ليل يا عين"، و"أم العواجز"، و"خليها على الله"، و"عطر الأحباب"، و"تعالى معي إلى الكونسير"، و"كناسة الدكان".

 

يحيى حقي.. نبض للحياة

كان "يحيى حقي" أكثر أدباء جيله تأثيرًا على الأجيال اللاحقة من الكتاب، فقد كرَّس حياته لإرساء القيم الأدبية والفكرية والأخلاقية، وظل يرسي تلك المبادئ والقيم ويبثها في تلاميذه من خلال إبداعاته حتى آخر لحظة في حياته.

 

ولقد كان "يحيى حقي" ذاكرة حية لواقع الحياة المصرية، وقد سجلت كتاباته نبض الحياة المصرية، وعكست أنماط الحياة والتقاليد الاجتماعية في صعيد مصر وريفها، كما حرص على نقد الواقع الاجتماعي للأمة.

 

واستطاع كذلك أن يرسي أسس الدرس النقدي منذ وقت مبكر، فكان كتابه "فجر القصة المصرية" – على صغر حجمه – تأصيلاً مبكرًا للأسس الفنية للنقد الأدبي لفن القصة.

 

وكان للإبداع الأدبي لدى "يحيى حقي" قيمة فنية وفكرية وجمالية، فقد كانت لديه قدرة عجيبة على استشراف آفاق المستقبل الأدبي، كما كان متمكنًا من الأداة اللغوية، عارفًا بتراث أمته وتاريخها، وهو ما أضفى على أدبه سحرًا فريدًا.

 

فهو يجمع بين جمال الصياغة وروعة الفكرة والإحساس المرهف، مع الاهتمام بالقيم الدينية والأخلاق السامية وإعلاء المثل العليا.

 

وقد خرجت كتاباته في لغة قصصية متميزة في إيقاعها وتراكيبها، متوهجة بالمشاعر والأحاسيس، متدفقة بالحركة، نابضة بالحياة، ذات قدرة فائقة على الإيحاء والتجسيد، والتأثير في المتلقي.

 

وتأثير "يحيى حقي" واضح على القصة العربية ليس فقط في مصر وحدها، وإنما في الأدب العربي عامة، ودوره في إرساء تقاليد هذا الفن الأدبي وإنضاجه هام وكبير بالرغم من قلة أعماله، وذلك لا يعني ضيق عالمه أو محدوديته، وإنما على العكس فقد كان يحيى حقي مدرسة لكثير من الأدباء، وعالمًا رحبًا حلق فيه العديد من الأدباء ينهلون من فنه وأدبه.

 

وتوفي "يحيى حقي" في [سنة 1412هـ=1992م] عن عمر بلغ سبعًا وثمانين سنة، بعد رحلة معاناة مع المرض، ولكنه كان دائمًا ثابت الجنان راضيًا مستسلمًا لقضاء الله.

 

من مصادر الدراسة:

رسائل يحيى حقي إلى ابنته: نهى حقي – إبراهيم عبد العزيز، الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة: [1422هـ=2001م].

سيناريو فيلم البوسطجي: صبري موسى، الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة: [1422هـ=2001م].

كناسة الدكان: [كتاب الهلال]، يحيى حقي، دار الهلال – القاهرة.

وصية صاحب القنديل: صلاح معاطي، الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة: [1415هـ=1995م].

نماذج من أعمال الكاتب

سارق الكحل

قنديل أم هشام

رسائل يحيى حقي

 بيني وبينك

دماء وطين

 

 

بيني وبينك

 

 

كم من مرة قطعت فيها هذا الطريق معك! ذراعك في ذراعي, فما شعرت أطويل طريقنا أم قصير? أفي يومنا المسير أم في غد لم يأت بعد? أم هو في ماض من العمر قد ولى وفات.

 

كان الطريق هو الذي يقبل إليّ. يأخذ بيدي, ويريني اتصاله بالأفق, بالسماء, بالأفلاك... على جانبيه دور هادئة المأوى كصدور الحاضنات, ويمر بنا أناس كل منهم شعاع من نور الله.

 

أما الآن, بعد اختفائك, فهذا الطريق بعينه أقطعه وحدي فلا ينتهي. المسير سخرة, والأفق قيد, والسماء غطاء, والنجوم ترمق الأرض شزرًا. الدُّورُ سجون والناس أطياف ذاهلة لا تدري ما القدر. وإن شكّت كفرت.

 

***

 

ما رأيت عاملاً في ترام أو في متجر أو في مقهى إلاّ سلّم عليك سلام الترحيب والإعزاز, فالحياة المتدفقة من روحك تمسح عن النفوس جميعها صدأ الألم والحزن, وتنفض عن الوجوه رماد البؤس والشقاء.

 

وأنتِ, لا تستقرُّ نظرتُك على وجه واحد ولا تتريث. تهبين, وما تُقدِّرين أيَّ مال تَنثرين? أفأنت عمياء كأمك الغريزة وأبيك الحظ?

 

***

 

السينما مزدحمة وأنت لا تعبئين بأحد. المشهد مؤثر, والناس يبكون, وأنت ضاحكة:

 

- أأبكي من خيال?

 

يا أختاه! هلاّ بكيت أيضًا من حقيقة ما عشت...

 

ومن يدري?! لعلك قد انصرفت عني يوم اختفائك عابثة تقولين:

 

- أأبكي من خيال?.

 

***

 

 

نقلت إلى أن خالتك, أو تلك التي تزعمين أنها خالتك, حدثتك عني بالأمس وقد تركتكما في العربة:

 

- أهذا الذي تذكرين? إنه ساذج, هو في يدك كالعجين فلتهنئي به.

 

ما آلمني هذا الوصف, بل رحبت به ورضيت. أَصَدَقتْ نظرتُك فيَّ أم لم تصدق, سيّانَ عندي, إن الحب الذي يغمر قلبي هو كل ما أسألك عليه من أجر. فلا يهمني تصفيق النظارة أو صفيرهم.

 

***

 

ما أظنك أحببت أحدًا أو شيئًا حبّك الثوب الجديد, هو حب صادر من قلبك, عائد إليه, فأنت به قريرة العين, سعيدة ناجية من سيطرة الغير...

 

على لساني دعاء:

 

- ألا فليذلّك الحب يومًا...

 

ولكن قلبي يهمس:

 

- خيّب الله مُناك...

 

***

 

ماذا تظنين? أَحسبتِ يَومَ اختفائك أنني سآوى إلى عشنا فأمكث أترقب ميعادك, فإذا مضى تشاغلت بكتاب أقرؤه ولا أفهم منه شيئًا, ونظرت إلى الساعة مرة وتثاءبت أخرى حتى إذا ما انتبهت إلى مشاغلي التي أهملتها من أجلك, هبطت الدرج سريعًا, وانطلقت إلى الدروب والمسالك, واختلطت بالناس?... أو يدور بخلدك أنني عندئذ أنسى كل شيء? هيهات لخيالك, مهما سكر وعربد, أن يدرك ما فعلت... لبثت أنتظرك ساعة, ثم ليلة, ثم يومًا ويومين, أسبوعًا وأسبوعين, شهرًا وشهورًا وما زلت أنتظرك. وأنا أعلم أنك لن تعودي ولكني أخشى - إذا أنا لم أنتظرك وشاء القدر أن تعودي أو أن ألقاك في الطريق - أخشى حينئذ أن تكون لهفتي على رؤيتك قد طواها النسيان وأطفأ أوارها. ولست أريد إلاّ أن أقابلك مشبوب العاطفة, واله القلب, ظامئ العين. فأنت لو تعلمين عزيزة عليّ, وهيهات لي أن أبتذل قدرك عندي. فلأتحمل الألم طول الدهر خوفًا من إساءتك في لحظة عابرة قد تأتي وقد لا تأتي.

 

***

 

اشتريت لها الحذاء فلبسته بعض اليوم ثم خلعته:

 

- حذرني الطبيب من الكعوب العالية.

 

وألقته عنها ميتًا في عنفوان الصبا. منعني كرهي لهذا الحذاء السخيف الذي هم بأذاها من أن آسف على موته السريع.

 

***

 

أيتها الفتاة الغريرة! كيف لم يقو مكرك على ستر سذاجتك الكامنة في نظرتك? أأنت ساذجة قد تعلمت المكر, أم ماكرة قد تعلمت السذاجة? كذبي ما شئت وامكري, فليس أحبّ إلى قلبي من كذبك ومكرك.

 

***

 

هذا الأثاث اشتريته على عجل من أجل عشّنا. ما نقّبت ولا اخترت. ظل طول رفقتنا أنانيًّا أبكم. لم تحيه نظرة فاحصة من عينيك. ما سمعتك راضية عنه أو ساخطة عليه. وكنت إذا انتظرتك وفات - كالعادة - ميعادك, أتطلع إلى قطعه واحدةً واحدةً, فما حنّت يومًا وأسعفَت تساؤلي بجواب. حتى إذا أشرقت شمسك تلاشى كالظلام من حياتي.

 

ولكن ها قد حل يومك - ككل ظالم - أيها الأناني الأبكم. الآن بعد اختفائها نطقت, بل ما عدت تطيق السكوت. لا ينقطع تساؤلك "أين هي?" "متى تعود?" يكاد ينشق خشبك عيونًا جائعة تتلهف على نبسة من شفتي, وتكاد تتمزق منك أذرع تتشبث بي وتستجديني الجواب.

 

أيها الثرثار! لجّ في الكلام ما شئت. فأنا اليوم - ولم العجب? - كما كنت أنت بالأمس - أبكم! ولكن لا عليك أيها الوفي الأمين, أيحلّ لجريحٍ أن يعبث بجريح? ليس من رباط بين القلوب أقوى من العاهة المشتركة. أنا أيضًا أيها الرفيق الكريم لا أدري أين هي ولا متى تعود! فضم بلواك إلى بلواي لعلها بهذا عليك تهون.

 

أيها الرفيق اللقيط! لأنت عندي الآن أعز من أطهر الأبناء.

 

***

 

أيتها الفتاة الغريرة... لم يكن لي أمل فيك, ولا بنيت من حبك أكواخًا ولا قصورًا. لا يركن إلى الأمل إلاّ من قصُر يومه فاختلس من غده.

 

أما أنا فقد كان حاضري يفيض بي ويفيض عني.

 

كان! فكل ذلك قد ولى وفات. وكأن الذي أغدق على بالأمس غير مسؤول - يتقاضاني اليوم ثمن الإسراف بالحرمان.

 

وكم من محروم مظلوم!

 

***

 

 

بعد أيام قلائل من لقائنا كنت قد قصصت عليك ماضيّ, وكل حادثة ساقتني إليك. أما أنت فقد مر الحول وبعض الحول ولست أدري عنك شيئًا. ما هممت بسؤالك ولا شكا قلبي من ظمإ. فليس الغموض الذي يحوطك إلاّ انبهار العين من نورك الوهاج. وهل لك ماضٍ? إنك لست بنت الحوادث, بل أنت أم الحياة!

 

***

 

خَالَلْتُكِ عامًا وبعض عام. فما سمعتك تنطقين بفكرة أو تبدين رأيًا. ما تلوثت شفتاك بالحكمة, ولا نضح لسانك بالفلسفة. ما دلست الحوادث عليك معاني موهومة مزيفة ليهتز لها رأسك استعبارًا. ما سمعتك تذكرين ولا تأملين. لا ماضي لك ولا مستقبل, بل كنت في كل لحظة كمال الحياة لتلك اللحظة. تنفجر منك الحياة كمنابع الأنهار, لا يهمها أتبدد النهر أم اغتاله مستنقع. أتبخر هباء أم سار لغايته إلى البحر البعيد. تثب الحياة الغضة من عينيك. تسيل على صدرك. تتدفق من على جسدك وأنت لا تشعرين. وكنت أنهل من معينها الصافي فأجد فيه نشوة لم أجدها من عتيق الخمور. وأنت - لشقائي - لا تشعرين; فليس أكبر الألم ألاّ يشعر الحبيب بألمك, بل ألاّ يشعر بسعادتك.

 

***

 

ما من مرة احتضنتك بين ذراعيّ إلاّ شعرت بقسوة الموت وظلمه. هذا الجسد الغض المتألق, تتفجر منه الحياة, يصبح يومًا ما أبخرة عفنة وعظامًا نخرة.

 

***

 

أَلبَستْها العاملة أمام المرآة كُلَّ ما لديها من معاطف, واحدًا بعد واحد, فإذا بجمالها يطغى على التغيير والتبديل, تبدو لها في كل معطف فتنة جديدة.

 

وددت لو استطعت أن أشتريها لك جميعًا.

 

عادت إلى المعطف الأزرق, وجربته مرة أخرى, ودار جسدها أمام المرآة. وجهها ساكن, ونظراتها ثابتة على توءميها.... "رفقًا بجيدك يا فتاتي!" ثم خلعته, وعادت إلى بقية المعاطف فلبستها كلها واحدًا بعد واحد, ثم أشارت إلى المعطف الأزرق وقالت متراخية:

 

- هذا!

 

وهكذا تشاء الصدف ألاّ يتعلق ذوقك إلاّ بأغلاها!

 

- تريثي! إذا لم يعجبك هذا المعطف فغيره كثير. تعالى أريك متاجر أخرى.

 

لمستهُ بطرف إصبعها وقالت:

 

- أقضي به هذا الموسم, وفي العام القادم أشتري غيره.

 

كم وددت لو أنك قلت: "تشتري لي أنت غيره".

 

دعوت الله أن يقسم لي شراءه, كما يدعو السقيم ربه أن يمنّ عليه بالشفاء.

 

***

 

كنت معك في أحضان الرذيلة من أتقى الناس, لا تذوق شفتاي الخمر, وما بيني وبين الله عامر.

 

أما الآن, بعد اختفائك, فقد سكنتُ إلى الخمر, لا لأنساك, بل لأقوى على جر الماضي إلى الحاضر. لأعيش معك من جديد. فأنا اليوم سكير صالح مطرود من رحمة الله.

 

***

 

لقيتك ذات يوم, على غير ميعاد, في منعطف طريق, أغلب الظن أنك تسكنين قريبًا منه, وأنك خرجت عجلي لأمر. كنت عاطلة من الزينة, غير مسرحة الشعر, مهملة الملابس, على كتفيك معطف لعله معطف أخيك, وفي يدك حقيبة لعلها حقيبة خالتك. كنت لا تشعرين بنظراتي تعانقك من بعيد, وأنا واقف أتردد بين لذة اللقاء وراحة التشفي. هذه التي أسرتني مضاعة بين الناس لا يشعر بها أحد. ملكة نزعت عن عرشها! هذا هو الطير المحلق يهبط على الأرض. أين جمال جناحيه وهو صافٌّ في السماء, من مهزلة اضطرابه وهو يحجل ويقفز?!

 

ولما ذهبت إلى عشنا. كنت أهدأ نفسًا. حسبتني أشد قوة على التخلص من سيطرتك, ولكنك ما كدت تجتازين الباب حتى هتف قلبي: "هي والله"! كوني ما شئت, ليمسخ الإهمال صورتك, ليقس الضنا على محياك, بل فليشوهك الزمن الذي لا يرحم, فأنت أنت عندي. لأنت آخر علمي وذوقي ومنتهى تجربتي. لقد كملت بك حياتي وتم وجودي, ولن أزيد بعدك شيئًا. حتى خيانتك لم يزدد بها علمي. هي تجربة أصبحتُ بعدها أكثر فهمًا لألم الخلق وأشد سخرية من ألم الخلق. فهذا العطف الذي أبذله باليمين, تسترده سخريتي باليسار.

 

***

 

ولكن صبرًا! سيأتي اليوم الذي أنساك فيه. حين يشيب شعري وتتساقط أسناني, وتنطفئ عيوني, حين يحتضنني الفراش فلا أقوى على التخلص من ضمته, وأستسلم إليه مضطرّا وأستريح, حين أفلح أخيرًا في جرّ رجلي جرًّا لأبحث عن الشمس, محدقًا في الناس وهم حولي, تحديق المشنوق في جلاديه. حين لا أستطيع أن أرى شيئًا, إذ يكون شبح الموت واقفًا أمامي. أعد أنفاسه قبل أن يعدّ هو أنفاسي.

 

عندئذ سأنساك! فليس أقوى من ذكراك عندي سوى الموت.

 

ولكن, ألا من يخبرني عندئذ كيف أمسيتِ? وكيف مرت عليكِ السنون?

 

***

 

هذه المخلوقات المنتشرة في الطريق, هاربة من الدور تارة, هاربة إليها مرة أخرى.

 

هذه الحثالة المتوسدة أرصفة المسالك...

 

هؤلاء الباعة الجوالون في الزحام, بعيدون بأنفسهم عن الزحام كالأرواح الضالة...

 

كلهم ينطق بالقدم والدوام. ما حلول جيل منهم محل جيل إلاّ كالثعبان يبدل جلدًا بجلد...

 

هكذا كنت أراهم ... أما بعدك فهم لديّ الآن سياح يهبطون بلدًا غريبًا. وجوههم بلهاء في جهلها. نظراتهم تائهة لا تستقر, ولا تقوي أرواحهم المهاجرة على أن تقول عن شيء: "هذا لي!".

 

كل هذا لأنهم لم يسعدوا يا حبيبتي برؤياك.

 

***

 

عندما كنت أخرج معك في هدأة الليل, كنت أشعر بأننا وحدنا في هذا العالم! تناسينا الأفلاك والنجوم, نسينا الليل, نسينا الناس.

 

وكان في نسيانها أكبر اللذة والسعادة.

 

أما اليوم. بعد اختفائك, فأسير والأفلاك والنجوم لم تتغير, والليل مغمض الطرف, والناس هُم هُم.

 

فأجد في نسيانها أكبر الألم والعذاب.

 

***

 

ألف ألف فتاة مثلك عاشت, فلمعت عيناها لمعان عينيك, وافترت شفتاها عن مثل بارق ثغرك, ثم طواهن الموت واندثر في التراب. قبلة واحدة منك لي كانت تكفي لبعث هؤلاء الموتى الجائعات للحب بعد طول الرقاد. في قبلتك لهيب ألف ألف ثغر ظامئ. أصبحت من أجلك أحب الموتى مثل حبي للأحياء.

 

***

 

وأغرب ما أعجب له أنني لا أسأل عن سبب اختفائك. وهل يستطيع من عاش معك معدوم المنطق, أن يعود فيتفهم العلل والأسباب? سأسأل عن السبب حينما يهدأ قلبي. إذًا فلن أسأل ما حييت. وإذا مات العالم معتزًّا بعلمه - فسأموت أنا معتزًّا بجهلى.

 

***

 

قرأت بحثًا كتبه شيخ من شيوخ الدين يعتمد فيه على المنطق العقلي, ليثبت أن الإنسان مسيّر لا مخيّر, فما اقتنعت وما فهمت أوله من آخره.

 

وتجيئين أنت, أيتها الفتاة الغريرة, فتكفيني نظرة واحدة من عينيك لأومن بالقدر وبالجبر. لأنني ألغيت معك منطقي وعقلي, وقنعت بالروح فآمنت.

 

***

 

لجأت إلى الكتب المقدسة الطاهرة أستنبئها: أيجيب الرحمن دعوة العاصي? فإني أريد إذا ما وقفت بين يدي الديان أن أسأله, قبل أن يغفر لي ذنوبي, أن يغفر لك ذنبك.

 

***

 

العالم مضطرب. والمدافع تقصف, والدماء تسيل. الدور تخربت, والنساء ترملت, والأرض أمنا العجوز في اللهيب. فماذا يكون شقائي باختفائك مع كل هذه الآلام? أأصرخ ليخرب العالم ما دمت أنا غير سعيد? لا وألف مرة لا, بل أدعو الله أن يعيد السلام حتى تنعمي يا حبيبتي أَنّى كنتِ بشبابك في ظلاله, وإن حرمني هذا السلام لذتي الأخيرة: لذة التشفي!

 

***

 

في المساء أقول: الفرارَ الفرارَ يا نفس. عبثًا حاولت الاستقرار والاطمئنان للخلو والعدم. من يلومك بعد أن ذقت معها طعم الوجود? عودي ارجعي أيتها النفس الفطيم إلى ظلامك وأوهامك, فلست والله تدرين بعد اليوم, إذ تطوف بك أشباح السعادة: أهي ذكريات الماضي أم آمال المستقبل? وفي الصباح أنتفض على بسمة الفجر ونشوة الطير - أسمعها تقول: "أنت يا هذا الذي سعدت بالحب, قم! إنما العيد لك!" مهلاً أيها الطير! إنك تعيش ملء لحظتك للحظتك, بَيْدَ أن نفسي تتوقع عند الصباح قدوم المساء.

 

***

 

ودّعت القاهرة عهدَ السلام, فأطفأت أنوارها, وفاضت كالقدح أترعته يد مرتعشة لسكير زائغ البصر. واكتظت طرقاتها بأغراب ومهاجرين ونازحين من ملل ونحل شتى, لم يبق موضع لقدم في ترام, أو في سيارة أو في ملهى, رأيت الكثيرين في هذا الزحام كالأسرى, على وجوههم علامات التأفف والكرب والاختناق, يودون الخلاص. فلا شيء يضيق به الإنسان ضيقه بقرب أخيه الإنسان. أما أنت فكنت في الزحام كالسمكة في الماء, تطبق عليك الجموع, ثم تنكشف وتطبق, وأنت ناعمة البال قريرة العين, بل كنت أجمل ما تكونين وأنت رافعة الرأس في الزحام, تتلاطم أمواج البَشر حول منارتك. ما سمعتك تشكين أو تتأففين. ما زاد تلفتك ولا ضجرت نظرتك, بل كنت مرحة كأنك في مهرجان... وكما رأيتك سعيدة بالحياة رأيت الحياة سعيدة بك.

 

***

 

يوم أن خرجنا من متجر الأزياء قبيل الغروب وأنت تقولين:

 

- ... أعجبني الثوب لولا أزراره.

 

ودوّت صفارة الإنذار, وهاج الخلق وماج. هل تذكرين كيف رأينا لابسي الجلابيب والحفاة هازئين, والموسرين هاربين? رأينا شبابًا في شرخ الصبا غير عابئين, وشيوخًا على حافة القبر زايلهم كساحهم فهم يجرون إلى المخابئ نشطين.

 

وقفت مكانك وتلفتِّ يمنة ويسرة, ثم قلتِ:

 

- أنا خائفة!

 

أخذتكِ إلى أول بناء لقيناه, وجلسنا مع بوابه النوبي كأن ثلاثتنا من أسرة واحدة لم تفترق طول الحياة.

 

ولما ضجت السماء بأزيز الطائرات, واشتعلت بلهيب المدافع وانفجار القنابل. ولما اهتزت النوافذ والأبواب, وعلا الصراخ, امتقع لونك, وعرقت يدك وطال صمتك.

 

ثم هتفت الصفارة بالأمان, فقمت واقفة, ووضعت ذراعك في ذراعي وخرجنا, وكان أول حديثك:

 

- ... لأن طرف الزر الأوسط على الكم اليمين شبه مخدوش.

 

***

 

تنقلت بعدك بين نساء كثيرات. لم أزد مع كل منهن عن لقاء واحد, وفيهن من هي أجمل منك وأشد سحرًا, ثم أفرّ ولا أعود, لماذا? أللحسرة? لا. فأنا أعلم أن اختفاءك قد أذابك في يمّ الحياة, وهيهات أن تعودي, ولو عدتِ لعدتِ غير ما كنت.. أللغيرة? هل تخشى روحي أن تكون كل امرأة جديدة بين ذراعي رجلاً جديدًا أنت إذ ذاك بين ذراعيه? قد يكون هذا, ولكن هل لي أن أصارحك? إنني أفرّ ضنًّا بنفسي على غيرك? فهذا الذي تحسبينه في انمحاء هو غاية الكبرياء والاعتزاز. هو الحبّ!

 

***

 

أحببت قبلك اثنتين: واحدةً ثم أخرى. كم أقسمت صادقًا بين أيديهما أحرّ الأيمان على الوفاء والإخلاص حتى الموت. ثم افترقنا. وهدأت. ولم أعد أذكر شيئًا. غير أني كنت في غيبوبة النشوة أنادي الأولى بين ذراعي الثانية, وكم فاجأت شفتيّ تتمتمان باسمٍ دفين وأنت بين ذراعي لا تشعرين, فهل الذي جرى عليهما سيجري عليك أنتِ أيضًا? إن الزمن يلح عليّ بالخلاص فأعصيه, والمنطق يسخر مني فأسخر منه, والحياة تتشبث بتلابيبي فأتملص من قبضتها وأفرّ. ولكن هل أقوى على مغالبة كل هؤلاء الخصوم مجتمعين? سأنساك! سأنساك! ولكن هيهات لي أن أنسى أنني نسيتك.

 

***

 

الآن بعد اختفائك, أقول وأنا وجل: هل أحببتها لأنها ذكرتني بمن مضى? أفي نظرتك أم في صوتك أم في سذاجتك لقيت مَن خِلتُ أنني دفنته? ولكن لا! ما فات مات. مات إلى الأبد. ولم نخدع أنفسنا? الذكرى إنما تجر من القبر هيكلاً نخرًا باليًا في لون أغبر وكفن حائل, أجوف قد نُزع منه الكلام. نومئ فلا يفهم, ونشير فلا يفطن. عدم متحجر, قائم ونحن نضطرب وندور, فلا نعرف إقباله من إدباره. إن بصيصًا من نور خافت ينبعث من حي, كاسف جميع الشموس الغاربة! الآن أومن أنني أحببت من سبقك, لأنهما كانتا تشبهانك أنت.

 

***

 

يا رب! يا أرحم الراحمين, وسعت رحمتك حنق المهزومين وثورة المحرومين وقد تاهوا في ملكوتك. ما أجهلهم وإن كانوا مؤمنين!

 

وسعت رحمتك من أضلّتهُ بصيرته, فجحد, وأنكر, وكفر كفر الأعمى بالنور.

 

وسعت رحمتكَ من ركبه الجهل, وساقته الحماقة فتعالى وأبي السجود, آنفًا من أن يرسف فيما توهم من قيود.

 

بل وسعت رحمتك من أغدقت عليه من نعمائك, فجدف وتمرد.

 

لا أقول بمثل قولهم: لماذا خلقت الشر? لماذا برأت الرذيلة? ولكني أسألك يا إلهي: لماذا جعلت الحق على النفس ثقيلاً, والباطل هينًا? لماذا خلقت الفضيلة مملة والرذيلة فاتنة? لماذا خلقت الحب روحًا هائمة لا تخضع لعرف أو لقانون: طيرًا لا يحطّ إلا ليحوم? يفزعه الأمن والسلم والدوام, والحياة عنده وجْد ووَلَه وهيام?

 

لا يستقر ولا يهدأ, لا تزيده العبرة إلاّ استهتارًا, ولا النصيحة إلاّ عنادًا. لم جعلت السعادة سرابًا والوفاء محالاً, والنيات مقعدةً, والنسيان عداء?!

 

أنت مطّلع على الضمائر والقلوب, فاعطف اللهم عمن تثاقلت قدماه في الطريق السوى فلم يقوَ على اللحاق بالقافلة تنفصّد عرقًا ومللاً, وانحرف إلى البيداء ضالاًّ يناجي النجوم, وكلّ زاده نجواه لنفسه:

 

- ما ظنك بالله العلى القدير, الرؤوف الكريم!

 

***

 

أجوس بعدك خلال القاهرة, فأعود من أحيائها الأوربية بقلب فاتر كليل, وطعم بين المر والحلو, كفقير يرتد عن زيارة ابنه الغني العاق, وإن عزّ على قلب أبيه. يضيع مني شبحك في الأوبرا وجروبي . وبين شبرد والكونتنتال , فإذا قادتني قدماي إلى سيدنا الحسين ومررت تحت البوابات الهرمة, ووقفت أمام الجوامع العتيقة, هصر الشوق قلبي هصرًا...

 

فأنت عندي هذا التاريخ.

 

وإذا ما فاض بي الحنين إليك أبكّر إلى قصر النيل مترقبًا جموع الفلاحات قادمات من الريف, على رؤوسهن سلال الخضر, ثيابهن سود, على أرجلهن الطين, معتدلات القوام, في وجوههن المجهدة عيون صابرة. لا ينقطع تدافعهن, ولا ثرثرتهن. عندئذ ألقاك; فأنت عندي هذا الوطن.

 

ويغلبني الوله على أمري يوم "طلوع القرافة" حين أتتبع بنظري عربات الفلاحين البطيئة تحمل الأسرة كلها رجالاً ونساء, شيوخًا وأطفالاً, أمامهم "السحّارة" المنحدرة من قبور الفراعنة, يهجرون مدينة الأحياء ليستقبلوا العيد في مدينة الأموات.

 

فأنت عندي هذا العيد!

 

***

 

الآن أذكر, والآن فهمت.

 

في صباح اليوم الذي اختفيتِ فيه, كنت أجول في خان الخليلي , فنادتني من سجنها الزجاجي مسبحة جميلة وأشارت إليّ أن خذني معك.

 

تناولتها بودّ, وانعقدت بيننا منذ اللمسة الأولى أواصر صداقة وثقت بأنها ستدوم. تساقط حباتها كقطرات الماء على الغدير. حديثها الخافت إلي: عن الألفة بين القلوب في عالم الوحدة, عن الطمأنينة في اللقاء المقسوم وإن طال الغياب, عن الوجل من الفراق المحتوم رغم اللقاء.

 

عدت بها إلى عشنا, فلم أكد أدخله حتى انقطع من حيث لا أدري خيطها وتناثرت حباتها. أهو نذير, أم شيطان يغار? جثوت على الأرض, وجمعت حبّاتها, وعددتها فإذا هي تنقص حبّة. دسست يدي, ونبشت بأظافري تحت المقاعد والسجاد. ولكن عبثًا! فحزنت وأسفتُ.

 

قد تسألين: أكلّ هذا العناء من أجل حبّة واحدة صغيرة, وفي يدك منها عشرات?

 

فأجيبك: هكذا مسبحتي! لا يحيا جمالها إلاّ بهذه الحبة الواحدة الصغيرة.. التائهة

[ 1940 ]

 

أضيفت في 14/06/2006/ خاص القصة السورية

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية