المناشف
(1)
وفي اليوم الذي رزقت فيه ميمونة بالمولود أطلقت صرخة..
بدا الطفل ببرودة أعضاءه صامتا وصلبا ومتيبسا كعمود الثلج ، نزل
الطفل دون أن يصرخ أو ربما نسى ذلك ، وعندما تزحلق من بين شحمة فخذيي ميمونه
رفع يديه المتغضنتين وحول عينيه نحو الجدار ونحو الباب ثم أرخى نظره الى أسفل
قدميه ، وكان منذ النظرة الأولى كمن يبحث عن شيء ضاع منه .
(اسمه بحر , وقد قلت لك قبل هذا أن أول ما ترينه من الطفل عينيه
الزرقاوين الشبيهتين بالبحر , لذى سيكون اسمه بحر)
حركت رأسي موافقة ، وقبلته على جبينه العريض ثم مسحت بأصابعي على
شعره.
كان سلام منشرحا ومنسابا في حديثة منقلا يديه على أعضائي وعلى جسدي
المتكور وسط السرير، وضعت رأسي على صدره العاري وثدييه الصغيرين يدغدغان أذني
وأنزلت بطني المنفوخ على فخذيه وكان ما بين حين وأخر يمسك بأصابعي بين يديه
ويسقطها واحدة واحدة ببطء شديد حاسبا الأيام المتبقية لمجي " بحر " .
كان الليل قصيرا جدا, وكان سلام يمسح على بطني ثم يقبل أطراف أصابعي
ثم يلصق شفتيه على شحمة أذني ويهمس (أنت الليلة وحدك ملكتي ميمونة وحدك
تخبئين الأسرار والمفاتيح تفتحين متى شئت وتغلقين بإحكام متى شئت في بطنك
المدور هذا الشبيه بالكرة الأرضية تخبئين بحري الأزرق) .
(نسميه بحر يا ميمونة وإن كان بنتا نسميها بحر أيضا وإن كانا ولد
وبنت نسميهما بحر , وبحر) ثم لفني بذراعيه الطويلتين ونمنا .
ميمونة بطفلها الأول تكون قد بلغت حدود رضا سلام, كانت الولادة سهلة
وسريعة , كانت ميمونه أثناء الحمل تكثر من المشي, وكانت تغفو بعد الظهر وتنام
بعينين هادئتين طوال الليل على أنفاس ومشاكسات سلام , وتحلم بالأردية والمناشف
التي سيلف بها مولودها، وكانت بداية كل صباح تطلق قبلة في الهواء تحية لليوم
القادم حيث سينقضي يوم من الأيام المتبقية لمجئ بحر , وكان سلام يفرش كفه على
بطنها ويقول : (ماذا تخبئ لنا هذه اللحمة المنتفخة , عرفت .. بحر ) وترد عليه
هي (إن أردت أن أجعله لك محيطا بأكمله ) (لا المحيطات واسعة جدا أنا يكفيني بحر
صغير يفصله لي بطنك بمزاجه) .
(2)
حتى الصرخات التي تنفلت بين حين وأخر كانت ميمونة تحاول إخفائها على
الرغم من الألم الذي يعصر بطنها لذلك أوصت الممرضتين اللتين في الغرفة بإغلاق
الباب جيدا , كما أنها طردت سلام فور إدخالها غرفة الولادة والذي كان حريصا
بمجرد أن ينزل الرأس على متابعة العينين الزرقاويتين لبحر وهما ترفان في السماء
( هذا الولد سيفتح عينيه وسينزل بعينين مفتوحتين وصافيتين كعينيك يا ميمونه ) .
التصق سلام بالجدار الذي يربط غرفة الولادة بالممر الداخلي وكان
الأنين يتعالى والصرخات تصطدم بالأبواب المغلقة في الغرف المجاورة ، كانت تجر
أسره وتخرج أسرة ، وكان لغط ، وصراخ ، وضحك ، وأردية ، ودماء ، وكان سلام ضامرا
على مفصل الممر الطويل.
مرر سلام يديه المرتجفتين على وجهه بادئا من منابت الشعر في أعلى
الجبين وحتى أخر شعره في لحيته المصففة ثم أستسلم وهو ينظر إلى انعكاس الإضاءة
القوية لمصابيح السقف على فضة البلاط لسيل من المشاهد الغزيرة .
* * * * * * *
ليلة الولادة أكمل سلام وميمونة مشيهما على الشارع المحاذي للمنزل
والذي لا يبعد عن الشاطئ كثيرا وعينيهما باتجاه البحر ثم نزلا باتجاه الشارع
العام جنوبا ومن ثم إلى البقالة الوحيدة في الحي , كانت جلبة أقدامهما
وضحكاتهما تصطدم بجدران الأزقة والمنازل .
ليلة الولادة اتصل سلام بالجميع ، بمديره في الصحيفة ، برحمة بنت
ناصر والدته المطلقة والتي تقيم في الجنوب في مدينة ظفار، واتصل سلام بصديقه
سلطان بن راشد ، كما اتصل بمدير البنك الذي أخذ منه قرضا قبل اسبوع فقط .
* * * * * * *
وسط سيل المشاهد قاطعته الممرضة التي وجدها فجأة تلهث أمامه
بملابسها المنسجمة ووجهها المرتبك رافعة قفازاتها النايلون المنقطة بالدم (
بسرعه بسرعه الفوط البيضا الدنيا داخل كلها دمان ميمونه بخير والولد ماشي أغوى
عنه.. قلتلك تحرك) (كيف؟؟!...) وقبل أن ينهي تساؤله كان ظل الممرضة يختفي من
فتحة باب الغرفة والذي دفعته بقوة يدها ، وقف سلام متصلبا ثم ركض وقلبه يخفق
تحت رجليه مترنحا بين الممرات الضيقة التي انتهت به إلى سيارته التي أوقفها
تماما بمحاذاة بوابة الدخول الرئيسية ، فتح سلام باب السيارة الخلفي وسحب حقيبة
الفوط والتي كانت مرمية في الطرف الأبعد من الكرسي خلف كرسي السائق ، انتزع
سلام الحقيبة بسحابها المفتوح الذي لم يلتفت اليه ثم عاد وهو يركض بينما الفوط
والمناديل بدأت تسقط واحدا واحدة من الحقيبة الصغيرة المعلقة على قبضة يده
اليسرى .
فتحت " البشكاره " باب الغرفة حاملة بحر لحمة طرية تشع من وسط
اللحاف وزرقة عينيه تفيض من بين يديها لتاخذ البشارة من سلام بينما الممرضة
تندفع خلفها لتأخذ حقيبة المناشف الخاصة كان الممر مزحوما وكانت ثمة فوط
متساقطة على طول الطرقه ورداء طويل مفروش على الأرضية وكان ثمة جسد متصلب كعمود
الثلج وعينين عسلتين شاخصتين نحو السقف.
تلويحة الرّصيف
عند منتصف الليل أو قبله بقليل
بعد أن هدأت الشوارع من ضجيج المارة ودوران عجلات السيارات ومباغتات
رجال الشرطة وبعد أن طوى أصحاب المحلات دكاكينهم المَفروشة طوال النهار وأوصِدت
الأبواب والنوافذ وفتحات المنازل وصحت الأسرة في مشاكساتها الليلية ، في ذلك
الوقت خرج الرجل من منزله بعد نهار طويلٍ مليء بالسجائر والركض والأرصفة
والاشتباكات، خرج الرجل من منزله في الشقة رقم (8) بالدور الخامس للبناية التي
خلف الشارع الرئيسي تماما والمقابلة للمجمع التجاري الأكثر شهرة في المدينة...
في ذلك الوقت يبدو كل شيء منظما وهادئا عدى بعض الأصوات الليليية
العابرة التي كانت تتكاثر ببطئ أو تختفي بسرعة في الحانات والأزقة الضيقةِ
ومواقف السيارات ، في هذه المدينة المطفأة كل يمارس وحشته وأحاديثه وقهقهاته
كما يكره أو كما يكره.
كان الرجل قد تجاوز الشارع الفاصل بين منزله ومحل البقالة الملاصق
لمواقف السيارات الخاصة بالبناية وكان الشارع مطفأ بأكمله ، وكان كما لو أنّ
ماسًا ما قد عطّلَ الإنارة فالشّوارعُ والمَساراتُ الجانبية على امتدَادِها
بَدت مظلمة، وكان الرجل يمشي على الرّصيف، وكان أن قفز إلى الضِّفَّةِ الأخرى
من الشّارع ،ولم يمكث الرّجل في دورانهِ كثيرًا حولَ البنايةِ فأدار ظهرهُ
للمَدخلِ الرّئيسي وَمسحَ المَدى بِنظرةٍ سَريعةِ تجَاوزت سُمكَ الظّلمةِ الى
الشّارع العام الّذي يضُحُّ بالإنارة.
... ومَا كان من أمرِ الرّجُلِ أنَّهُ كان يَبرحُِ مَنزِلهُ في
نَفسِ التّوقيتِ يَمشي ملوحًا بيديهِ حَاملاً حَقيبةً مُعلقةً على ظَهرهِ
مُنتصفَ النّهارِ حَيثُ تَفرشُ الشّمسُ أشِعّتها على الأشجَارِ ورٌؤوسِ
المَارّة وأسطٌحِ البِناياتِ وعَلى صَلعةِ الرّّّجلِ المَلساءَ الّتي تَعكسُ
خَرائطَ المَدينةِ بكل انحِناءاتِها وخَباياهَا، يَمشي الرّجلُ ذَارعًا
الأرصِفةَ والمَحلاتِ والمَطاعمَ وَمواقفَ البَاصاتِ وسَياراتِ الأجرَةِ
لايَتكلّمُ أبدًا إلا عن الوَقتِ أو السّاعةِ أو البَوصلةِ وهوَ في كُلِّ هذا
لا يَتحدثُ إلا مع نَفسهِ وإذا تَصادفَ وكَلّمهُ أحدٌ يَرفعُ ثَوبهُ الى نِصفِ
سَاقَيهِ ويَجري تَاركًا غُبارًا من الأسئِلةِ وعُيونًا تَركضُ وَراءَهُ
وضَحكاتٍ تَتداخلُ مع ضَرباتِ نِعالهِ على اسمَنتِ الشّارعِ حيثُ ينَحني
الرّجلٌ أحيانًا فاتحًا ذِراعيهِ كالطّائرِ ثم يَركضُ على خَطّ التّشجيرِ
بِمحاذاةِ الشّارع ِمُلوحًا على السّياراتِ والمَارّةِ بِحديدةٍ طَويلةٍ تُشبهُ
حَديدةَ الحَفرِ ، يَقضى الرّجلُ نهَارهُ مُشاكسًا المَارةَ بِحديدتهِ ولا
يَعودُ الى مَنزلهِ إلا عند الغُروبِ حيث يَلبدُ على مَدخلِ البِنايةِ وبَعدها
الى مَنزلهِ في الدّور الخَامسِ .. كانت هذه المَرّةُ الأولَى الّتي يَخرجُ
فيها الرّجلُ في مُنتصفِ اللّيلِ ..
خَرجَ الرّجلُ لَيلاً ...
المَساءُ في المَدينةِ الليلة أطولَ من المُعتادِ وعلى الرُّغمِ من
هُدوءِ الطُرقاتِ والمِساحاتِ الشّاسعةِ للظُّلمةِ إلا أن الرّجلَ الذي كان
يَبرمُ الرّصيفَ بِقدميهِ كان يَشعرُ بِجَلبةِ خُطواتٍ تتدافع وراءه .
تَوقفَ الرّجلُ قَليلاً وانتصَبَ فَاردًا طُولَهُ ثُمَّ التفتَ الى
وَراءهِ " تفوو" وأدارَ ظَهرهُ الّذي كان مُتنملاً نحو الخَلفِ ثمّ نَحوَ
الأمَامِ ثُمّ وَاصلَ مِشيتهُ بِخطواتٍ مُتأرجِحةٍ وهو يُغنِّي أو يَضحكُ أو
يَبصق حتى انتهى الى الشَّارعِ الرئيسي ومن ثَمّّ الى مَواقف سَيّاراتِ الأجرةِ
على الخَطِّ المُقابلِ بعد أن عَبرَ الجِهةَ اليُمنى من الشّارعِ العَامِ
والَّذي بدا على امتِدادهِ نَاصعًا كمَا لو أنّهُ غُسلَ لِلتَّوِّ حيث كانت
الشّاحناتُ الكَبيرةُ الّتي مَسحت الشّارعَ ولمّعتهُ كمَا يُلمّعُ الحِذاءُ قد
مرّت لتوّهَا مُواصلةً سَيرهَا البَطيءَ وَتنظيفَها المُتقنَ باتِّجاهِ
النُّقطةِ الأخرى من الشّارعِ العَامِ تاركةً الشّارعَ يتلألأ كَصفحةِ المَاءِ
حيث سيمر المراقب في بِدايةِ الصّباحِ فَاحصًا الأسمنت والمساحاتِ الجَانبيّة
المُبلطة أو المُعشّبة لِيرفعَ تَقريرهُ لرئيسٍ البَلديّةِ .
كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل بكثير هذهِ المرة وذلك كما أشارت
دَقات السّاعةِ المثبتة على تمثال إسمنتي وسط باحة الحي التجاري المُجاورِ ،
كانت السّاعةُ الثَالثةُ والرّبع صَباحًا عندما انتَصبَ الرّجلُ بِمحاذاةِ
الشّارعِ بعد أن أخرجَ من مَلابسهِ عَمودَهُ الحَديديّّ غَيرَ عابئ بِطولهِ
وَلا بِغلظتهِ وَلا حتّى بِجانبيهِ الحَادّينِ وبدأ كَعادتهِ في السّاعاتِ
النّهاريةِ أيضا التَلويحَ بِيدهِ تَارةً وبالعَمودِ الحَديديّ تارةً أخرَى .
وبعدَ فَترةٍ من التّلويحِ ومن اللّيلِ ومن الرّكضِ نَجحَ الرّجلُ
هذه المَرُة على الرّغمِ من الهُدوءِ الُذي يَعمُّ المَكان في تِلكَ السَّاعةِ
من إيقاف مَجموعةٍ من سَياراتِ الأجرةِ وخَمسةِ أشخاصٍ آخرين تَصادفَ خُروجُهم
من حَانةٍ بإحدى الفَنادقِ المُجاورةِ كانو يَمشونَ باتجاه مَحطّةِ البَاصاتِ
وَسطَ ضَجّةٍ من الانتشاء والسُّّعالِ والضّحكِ حيث وَقفوا أمَامَ الرّجلِ
الّذي كان مُنتصبًا على أحدِ الكراسي المَوجودةِ باستراحةِ المَواقف:
(هيه اس سسسسسسسس ...اجلسوا جَميعُكم... لا اقتربوا أنتم سَأخبركم
اللّيلةَ سرًّا ولكن تفو... أنتم لاتفهمون) كان أحَدُ سَائقي سَياراتِ الأجرةِ
يَلعبُ بِميداليةِ سَيّارتهِ الّتي كانت على شَكلِ تِمساحٍ زُجاجيٍ بِداخلهِ
سَائلٌ زِئبقيٌّ وَكراتٌ مُلونةٌ وفُقاعاتٌ تَسبحُ في فَضاءِ الزّجاجِ ، قَذفَ
السّائقُ الميداليةَ في الهَواءِ ثُمّ التَقطها بِحركةٍ بَهلوانيةٍ من خَلفِ
ظَهرهِ بينما كان الأخرُ قد بدأ يُشعلُ سيجارةً سَحبها من أُذُنهِ اليُمنى ،
حَاولَ السّائقُ إشعال السّيجارةِ بَعد أن كَشطَ بِعودِ الثقاب على عُلبةِ
كِبريتٍ صَغيرة من نوع " المقص " ولَم تَشتعِل ولكِنّهُ عَاودَ مَرّة أخرى
بِكشطةٍ مُعاكسةٍ للاتجاه فأشتعَلَ عودُ الثّقابِ حتى كاد الفَتيلُ أن يُلامسَ
شَعرَهُ المَتروك بإهمال على مُقدّمةِ رأسِهِ وبدأ يَنفِثُها باتجاهِ الرّجلِ
الّذي صَرخَ:
(أقول لكم أن الملك سيموت الليلة في الدقيقة الأخيرة من هذا
المساء....اييه.. لا تقلقوا أبدا سيأتيكم ملك آخر)
كان الرّجلُ يَتكلمُ وَعينيه للأعلى كمَا لو أنّه كان يُشيرُ الى
شَيءٍ ما في الأدوارِ العُليا للبناياتِ المُجاورةِ وكان يَصرخُ على سائقي
الأجرَةِ الّذين كانو مُتشاغلينَ عنه، والأشخاصِ المُترنحين والُذينَ تكوّمُو
على المِقعدِ المُقابلِ للرّجلِ تحديدًا قريبًا من صَفيحةِ االقمامة المُعلّقةِ
على الحَائطِ الجَانبيّ لاستراحةِ المَواقفِ والّتي كانّت بِلونٍ يَتناسبُ
تمامًا مع اللّونِ الأصفرِ الّذي صُبغت به مِظلّة الاستراحةِ. قَفزَ الرّجلُ من
المِقعدِ الّذي كان يَقفُ عَليهِ وبصق ثم صرخ:
(أنتم أيها العاطلون ستكونون رعايا الملك الجديد ، أما انتم هناك
سائقو الأجرة فد يبصق الملك على رقابكم تفو ..قلت..سيموت الملك الليلة بعد آخر
مضاجعة له هذا المساء)
انتفَضَ الجَميعُ بعد أن شَاهدوا دَوريّةً للشُرطةِ قَادمةً
تُلوِّحُ من بَعيدٍ وقَفزوا فَوقَ السّياراتِ الّتي اختفَت في لَمحِ البَصرِ
تاركينَ الرّجلَ يَصرخُ وَيلوِّحُ في الهَواءِ بِعمودهِ الحَديديِّ الّذي
يُشبهُ أداةَ الحَفرِ.
* * * * * *
( لَم تَكن مَلامحهُ دَقيقةً تمَامًا ، جَبينهُ كان مُلتويًا
ومَليئًا بالخُطوطِ والنّدوبِ الجِلديّةِ ، يَدهُ اليُسرى أصبحَت بِثلاثِ
أصابعٍ فَقط، كمَا أنّ شَعرهُ الّذي كان طويلاً صارً أطول لكنّني استطعت
مُؤخرًا معرفةَ أنّ المَجنونَ الّذي يَمشي بدونِ صِبيةٍ يَركضونَ وَراءهُ
بِمحاذاةِ الشّارعِ ذارعًا الأرصِفةَ على امتدادِ المَدينةِ طيلةَ النُهارِ كان
حامد)
خليفة أحمد الصديق الأقرب لحامد حمد في الفترة من( 1972-1976)
(... كُنتُ عَائدةً الى المَنزلِ حينما لاحظتُ أن شيئًا ما يُشبهُ
الشّبح قد قَفزَ نحو الشُارعَ العام وكانَ بِيدهِ عَمودً حَديديًّ ولأنه كانَ
دائمًا يَلبسُ نَعالاً أشبهُ " بالقبقاب " وكان خَفيفًا كمَا لو أنّه كان
دائمًا يَستعِدّ للرّكضِ، وكان يُلوِّحُ بِيديهِ الضّيئلتينِ اللّتينِ
عرَفتُهما جَيّدًا حيثُ لا يَزالُ الخَاتَمُ بِيدهِ اليُمنى، و...)
زينب سليمان خطيبة حامد التي عادت معه من الدراسة عام 1971
(كنت أنتظر أن يغرس آلته الحديدية على جبيني حيث كان قد صوبها بين
عيني عندما كنت أمر وحيدا في الرابعة عصرا بمحاذاة الرصيف الجديد الذي كان
مفروشا بالبلاط ثم أصبح مقسما الى أحواض زراعية وكان ذلك باتجاه جسر المشاة
ولكنه أنزل حديدته وضرب بها على مفترق قدميه ثم رفع ثوبه وركض)
أحد المارة عام 1996 بالقرب من جسر عبور المشاة
في الشارع المنتهي إلى لسان البحر ومن ثم إلى الحي التجاري.
حمدون أو حديقة الشّمس
بعد قليل سوف يرتفع هلال الشمس عن الشاطئ الرملي الموصول بلسان مائي
ينحشر تحت الشارع المعبد الذي يمتد بمحاذاة البحر كالمسطرة .
في أعلى الخور والذي يشكل المدخل البحري للمدينة التي تقع في ذيل
العاصمه تتناثر مجموعة من المقاهي الخشبية تأخذ أشكالا مختلفة ولكنها بنفس
الدهان الأبيض، والسقف الخوصي الذي يشبه سقف العرشان.
أثناء مرور حمدون على جسر الخور كانت الكراسي مقلوبة على الطاولات
في المقاهي على المساحة التي بين اللسان المائي والشارع بعد أن أكمل المرتادون
ما تبقى من علب "المعسل" تاركين الخراطيم تتدلى كالأفاعى على رؤوس الكراسي
بينما تظهر على المساحة المعشبة أمام المقاهي الخشبية أشكالا مختلفة رسمتها
أكواب الشاي المدلوقة على الطاولات البلاستيكية البيضاء.
السماكة يصلون الآن ، عائدين من مراميهم الصباحية فاتحين صدورهم في
جو الشاطئ الرطب للهواء الذي يمر أو يتوزع بالقطارة قبل أن ترتفع كرة الشمس
الملتهبة ويختلط العرق بروائح الأسماك المنشورة على رمل الشاطئ على أكياس
بلاستيكية شفافة تصف كما اتفق. يتجمع بخار السمك على القوارب فيجمع حوله التجار
القادمين بثلاجاتهم وكروشهم ونواياهم المبيته ليستلموا القوارب وفقا لما تتسع
له حيلهم المالية قبل أن تصل إليها أيادي المنتظرين على السطح الأسمنتي بالقرب
من سوق السمك .
عند التهاب كرة الشمس كان حمدون يمر في المساحة الفاصلة بين سوق
السمك والمحلات التجارية الموصولة بسوق خضار ينفتح على الجهة الأخرى من الشاطئ
في يده مفاتيح سيارته ومسبحة زجاجية بطربوش أزرق كان يدليها من بين أصابعه،
سيجلس بعد خمس دقائق على مصطبة في الذراع الأيسر من السوق يراقب الطفل الذي كان
يجر عربة خضار صغيرة ثم سيخرج نحو الشاطئ.
وهو يترك مدخل السوق سيصطدم" بالشايب" الذي كان يحمل على رأسه
ثلاث ربطات من البرسيم :
" ود أم الصروم كسرتلي ضلوعي وطيحت القت خاطف تقرز برجولك "
يقفز حمدون فوق ظهر الشيبة المغطى بربطات البرسيم ويواصل خروجه نحو
الشاطئ.
في محلات الدواجن المحاذية لسوق السمك يتقافز الدجاج داخل الأقفاص
الحديدية المحكمة بينما يشحذ الباعة الهنود سكاكينهم على شريط جلدي مربوط بمسار
مثبت خلف الأقفاص وكلما تطايرت شرارة من تحت شفرة السكين رقصت دجاجة في القفص
وكلما رقصت دجاجة انتفض قلب الزبون الواقف أمام القفص كالمارد فيشير إليها
ليمغطها الهندي بعد ذلك على طبل معدني يختلط فيه الدم والماء وشهادات الذبح
وأختام البلدية التي تلمع وسط بركة من الأرواح المتكدسة في قاع الطبل .
كان حمدون يمر أمام المحل حينما بدأت الشمس تصعد بين أكتاف الدكاكين
وأثناء عبوره سمع زبونا يطلب أربعين دجاجه ويشير الى الهندي:
" صلح ، قطع ، خلي سيم سيم عشره كيس "
هز الهندي رأسه وشرع في سحب الدجاج من داخل الأقفاص وعزل أربعين
دجاجه في قفص خاص وبدأ يسحبها واحدة واحده يجزرها بالسكين ثم يرمي بها في الطبل
، الدجاجة الأولى ، الدجاجة الحادية عشره ، الدجاج يتراقص ويرتعش في الأقفاص
والهندي يهز السكين في يده كالسيف ، الدجاجة الثامنة والثلاثون ، الدجاجة
التاسعة والثلاثون وقبل أن تصل يده إلى داخل القفص كانت الدجاجة الأخيرة قد
نفقت من الخوف
" يالله سرعه ، سرعه ، يشحي كلش دجاج ..... انا يجي بعدين " صرخ
الزبون وهو يغادر بوابة المحل .
تناثر رماد السجائر التي كان يحملها حمدون بين أصابعه على الدشداشة
فانتبه حمدون ورمي السيجارة بجمرتها المشتعلة على الأرضية وقبل أن يضع قدمه
عليها سبقته قدم الزبون وهو خارج من محل الدواجن مسرعا فسحقت السيجارة وقدم
حمدون معا. هز الهندي رأسه في الداخل وهز حمدون قدمه في الخارج وواصل سيره وهو
يشعر أن الشمس تهطل على الأرضية.
في الجهة الأخرى القريبة من المدرسة التي لايفصلها عن سوق السمك سوى
رصيف عريض من " الانترلوك " المزين وأحواض حشرت فيها بعض الشتلات التي تبدو
الآن متغضنة من رطوبة البحر ودوران قرص الشمس في درجات مئوية عاليه، في تلك
الجهة تصطف حافلات الطلبة متلاصقة على طول الشارع البحري باتجاه المدرسة
فتبدوا أشبه بعربات قطار متراصة. بمحاذاة رتل الباصات كانت ثمة خيول بأعراف
بيضاء جملية منتشرة على الخط الرملي للشاطئ ذارعة المسافة بين المقاهي وانكسار
الأمواج جهة الخور حيث تمتزج روائح السمك برائحة الخيول ورائحة عوادم الحافلات
مكونة رائحة رابعة تفوح مع رطوبة البحر يعرفها الساكنون بالقرب من الشاطئ
وتعرفها المدرسات اللاتي يتبارزن بفساتينهن المطرزة ووجوههن التي تتكدس عليها
طبقات الماكياج والنظارات الشمسية بماركاتها المختارة من الإعلانات
التلفزيونية وهن يدخلن بأقدام متاكسله المدرسة القريبة من شاطئ الكورنيش الجديد
على امتداد سوق السمك حيث بعد قليل ستفض أحاديث السهرات مع أكياس وطناجرالوجبات
المحمولة التي ستفرش في غرفة المعلمات قبل بدء طابور الصباح .
الأولاد بدشاديشهم البيضاء وعيونهم التي ما زالت مليئة بالنعاس
وأجسادهم المرتخية ينتشرون أمام المدرسة الملاصقة لشارع الكورنيش ويتقافزون وسط
الضباب المتكوم الذي يربط المدرسة بالمساكن المتراصة في الخلف على طول الشاطئ.
الطالبات بتنوراتهن الضيقة وظفائرئهن المتدلية من خلف المناديل
وصدورهن الصغيرة الشبيهة بالليمون البلدي المكتنز يتسارعن في الدخول إلى
المدرسة قبل جرس طابور الصباح بينما يبقى الأولاد في انتشارهم خارج حوش المدرسة
ولا يدخلون إلا على صراخ مدرسة الرياضة الذي ينفجر كالمدفع في مكبر الصوت
ثاقبا صداه التجمعات الطلابية مرورا بجلبة المحلات التجارية ليصل إلى آخر بيت
في المساكن المحاذية للبحر.
يختلط صياح المدربات في طابور الصباح بأصوات السماكة في السوق
القريب ، الأولاد الذين كانوا يتقافزون حول سور المدرسة يتثائبون الآن في
الطابور بينما ينظر حمدون إلى الألوان المتراكمة على فستان المدرسة المنقوش
بلون فستقي والتي كانت تعبر الشارع متأخرة باتجاه المدرسة.
تختلط جلبة الباعة بروائح السمك والعرق الذي يمسحه السماكه من
جباههم العريضة وزنودهم المبللة ويرشقونه بأصابعهم في الهواء فيتساقط على
الأقدام المتكومة فوق بعضها في انتظار القوارب القادمة وقد يتطاير بعضه على
الوجوه المتكلسة من ملوحة البحر , ولأن المشهد يبدو في تلك اللحظة استثنائيا
ومتشابكا لا يشعر أحد بشيء ولا يلتفت أحد إلى شيء سوى إلى السمكات الممدة على
القوارب التي بدأت تلامس رمل الشاطئ .
اقتربت سيارات التبريد , اقتربت القوارب أكثر ، تدافع الجميع باتجاه
الشاطئ ومن بينهم صرخ رجل:
( تواحيوله الهسس ) ثم قفز فوق رؤوس الجميع ليحتضن القوارب
المتراصة على الشاطئ : ( وينكم بياعة , فلوسكم جاهزة؟ ) .
تراجع الجميع , اشترى الرجل القافز بكرشه الذي يشبه حوضا من الأسماك
جميع الأسماك التي في القوارب وصرخ من جديد :
( وين الشرايه وين البرادات ) وقبل أن يكمل قفزت قطة على أحد
القوارب وسحبت سمكة صغيرة قريبة من أقدام الرجل الذي ترك القارب وركض وراء
القطة التي أخذته بين الأزقة المنحنية للمنازل المطلة على الشاطئ تراكض الجميع
على القوارب , دق جرس الحصة الأولى في المدارس المجاورة ، ذبح الهندي دجاجة
أخرى كانت ترقص داخل القفص ،انتشرت أشعة الشمس ،على طول الشاطئ ذهب أصحاب
القوارب باتجاه عرشانهم, عاد الرجل ذو الكرش العريضة بسمكته الوحيدة المفتته .
وبينما كانت أقدام الموج المتسارعه تصطك على حاجز الشاطئ والشمس
تخنق اسمنت الرصيف كنت أنا اجلس على أحد الكراسي الاسمنتية أرقب انحدار الصباح
منذ أوله.
|