امرأتان
أمام دكان الخضري، وقفتْ شابة، كان أكثر ما يميّزها
أنها تلبس قميصاً أبيض.. وراحت تسأل البائع:
"بكم كيلو الخيار؟ بكم كيلو الكوسة ؟.."
والرجل يجيبها.. وهي تطلب منه:
"زن لي من هذا كيلو واحداً، ومن ذاك اثنين.. وهذه
البندورة بكم؟".
- بليرة، يا خانم.
- زن لي منها كيلو واحداً، ولكني أريدها متماسكة
للسلطَة!
تناول البائع كيساً، وراح يملؤه من الخيار الرفيع
الذي يحاكي الأنامل دقة واستواء، وملأ كيساً آخر بالكوسة الغضّة اللّماعة
التي تغري ربة البيت بحفرها وحشوها.
* * *
في هذه الأثناء، توقّفت أمام الدكان، امرأة تتجلبب
بالملاءة السوداء وتسدل على وجهها منديلاً بلون الليل.
كشفت المنديل عن جانب من وجهها، وأخذت تبحث بعينيها
عن ضالتها، ألقت نظرة سريعة إلى سحّارات الخُضر المعروضة في مقدمة الدكان،
ثم أرسلت ناظريها إلى ما دونها.
لمحت هناك تحت رف الميزان، قفّة صغيرة، قد جمع فيها
البيّاع كل ما تخلّف عنده من أسقاط البندورة.. سألته، بصوت خفيض، وهي تشير
إلى القفّة:
"بكم الكيلو من.. تلك البندورة؟"
نظر إليها البائع، وهو يتابع ملء الكيس بحبات
البندورة المنتقاة للسيدة ذات القميص الأبيض، وأجاب:
"القفّة كلها.. بليرة واحدة!"
- طيّب، هاتها لي"
- معك "وعاء"؟
من تحت ملاءتها، أخرجت المرأة، ذات المنديل الأسود،
حقيبة مهترئة، فيما كانت عيناها تتابعان البحث عن.. أشياء أخرى، لمحت، في
ركن من الدكان، قفّة ثانية، فيها حبات من الكوسة، المكسورة والمشقوقة
والمبيضّ لونها.
- وتلك الكوسة.. بكم؟
- خذيها كلها بـ.. نصف ليرة!
* * *
اهتم البائع بوضع الأكياس الثلاثة في الشبكة
النايلونية ، التي فتحت له فوهتها الشابة ذات القميص الأبيض، وترك المرأة
الأخرى، التي جلست القرفصاء، تفرغ في حقيبتها ما في القفتين الاثنتين.
كانت السيدة الشابة تتلقّى مساعدة البائع، وعيناها
إلى المرأة المقرفصة: كيف دلقت، في حقيبتها، الكوسة، ثم فرشت فوقها رُقاقة
من نايلون كانت معها، وبعدئذ راحت تنقل حبات البندورة، المبعوجة
والمتعفّنة.. والتي يسيل منها ماؤها!
أحسّت الشابة في حلقها غصّة، ودّت لو تفعل شيئاً من
أجل هذه المرأة، التي يبدو البؤس في ملبسها، وفي بحثها عن لقمتها، ثم في
ترتيبها مشترياتها المتعفّنة في حقيبتها الناصلة اللون.
وقبل أن تدفع للخضري ما ترتّب عليها، اقتربت من
المرأة، وانحنت عليها، لتقول موشوشة:
"هل تسمحين لي، يا أخت، بأن أدفع ثمن أشيائك هذه،
وثمن كل ما تحتاجين إليه من خضر أنتقيها لك؟"
رفعت المرأة، الكاشفة منديلها عن جانب من وجهها، إلى
السيدة المنحنية فوقها، عينين سوداوين، متألقتين، وإن بدتْ حولهما تغضّنات
حفرتها يد الزمن.. أجابت، وهي تهزّ رأسها يمنة ويسرة، وقد ارتسمت على
محيّاها ابتسامة ما:
"لا، شكراً لك، يا بنتي!"
لم تفاجأ السيدة الشابة بهذا الردّ، لا ولم يخالجها
أي شعور بالأسف. على العكس، لقد نزل "الاعتذار" الأبيّ، على قلبها برداً
وسلاماً. انقلب عطفها إلى إكبار، و زايلتها غصّتها وكلّ ما شعرت به من
المرارة.
* * *
قبل أن تمضي السيدة الشابة، وقفت ترقب المرأة، التي
أسدلت، الآن، منديلها على وجهها كله، وهي تمشي الهوينى تحت وطأة حقيبتها
الثقيلة.
تمنّت لو أنها كانت تستطيع، لحظة تلّقت منها
اعتذارها، أن تقبلها من جبينها الوضّاء، من عينيها، اللتين لم تشفّا عن
أيما أثارة من ذلّ البؤس أو الانكسار، بل كانتا متألقتين بالكبرياء، وبمضاء
العزم على اجتياز فلوات الحياة بالاعتماد على النفس وحدها.
وأحسّت أنّ شيئاً ما، ساخناً، يترقرق في عينيها.
عيون ملونة
في أحد الشوارع الخلفية كان يمشي الهوينى، وهو يحسّ
امتلاءً بعد وجبة دسمة فرغ للتو من تناولها.
فجأة، رأى سيارة سوداء تتسمر بجواره، تُطل عليه منها
عينان واسعتان. نزل منها رجل، و اتجه نحوه. حاول أن يهرب منه. و لكن الرجل
بدا حاذقاً في اقتناص أمثاله ممن ينفصلون عن أمهاتهم بعد الفطام. جلس أمامه
القرفصاء، يغريه، يستألفه، ثم التقطه من رجله، وإذا هو في قبضته و حمله
بيديه الاثنتين، في قرف بادٍ ، وعاد به إلى سيارته. جعله إلى جانبه. و
الرجل، ذو العينين المتفرّستين، يُطل عليه من المقعد الخلفي. أمره بأن
يقلِبه ظهراً لبطن وتلمس موضعاً من جسده، ثم أن يرفعه بيديه ليتأمل عينيه..
قبل أن يعلن بفرح:
- يا له من قطٍ أبيض، وذي عينين كل واحدة بلون!
كان القط الصغير يعرف أن فروته بيضاء، وهو يعتني بها
لعقاً بلسانه على الدوام، هكذا تعلم من أمه. و لكنه لم يكن يعلم أن العينين
عنده يختلف لون كلٍّ منهما عن الأخرى، فذلك ما لا تُعيره القطط اهتماماً،
وهو يلاحظ الآن أن ذلك ميزةٌ تَسُر بني البشر!
في انطلاق السيارة به من شارع إلى آخر، وفي حديث
الرجل إلى سائقه، استطاع أن يعلم أنه ظل يحلُم، منذ زمن طويل، بأن يحظى بقط
أبيض وذي عينين ملونتين، ليضمه إلى مجموعة القطط في بيته! إنه يفهم ما ينطق
به البشر ، ذلك شأن القطط الأليفة ، ومن عجبٍ ألا يفهم هؤلاء معنى لمُوائهم
، وإن صدر بمختلف النغمات والنبرات ! حاول أن يموء محتجاً: "أنا لا أريد أن
يضمني بيتك، أيها السيد المحترم! الحرية عندي أغلى. لا أريد أن تُفرض عليّ
صداقةٌ حتى إن كانت لواحد من أبناء جنسي. أنا حر في اختيار الأصدقاء !"...
وتذكر أمه، و رعايتها، و حنانها.
أهاب الرجل، المتصدِّر، بتابعه:
- خذه إلى الطبيب البيطري حالاً !
- حاضر، يا "باشا".
ولماذا الطبيب، بيطرياً كان أو غيره ! إنه لا يشكو
وجعاً، مثل بني البشر الذين يتوجعون من أوهى الأسباب. ما يشكو. ولكن الرجل
تركه للسائق وغادر السيارة. و ما هي إلا جولة حتى وجد نفسه محمولاً ليرمى
بين يدي رجل يرتدي حلّة بيضاء. و ما وعى إلا وماءٌ يُدلق عليه يكاد يُغرقه،
و فروته تُدلك بقوة، ومع الماء صُبت مواد ذات رائحة... و غُسل و غُسل، و هو
يموء و يموء كُرهاً بالماء، وليس من يرحم. بعد التغسيل نُشف جسمه، و جُفف
بهواء ساخن، و مررت عليه فرشاة تسُل من فروته الشعر المتساقط. وبعدئذ خاطبه
غاسله:
- الآن... أصبحت قطاً يُشهّي البوس، جديراً بأن تدخل
بيوت الأكابر!
و طبع، الغليظ ، على رأسه قبلة، أتته منها رائحة
أنفاس غير طيبة.
- و من أين جئتم بهذا القط المدهش؟
أجاب السائق متحذلقاً:
- وجدناه خارجاً من... المزبلة !
و ما كان هذا الحوار ليعنيه كثيراً. و لكن الرجلين
تناولا كلمة لم يفهم معناها، و تحدثا عن "عملية جراحية" تتعلق بذلك، و عن
موعد، و عن و عن.. أقلقه هذا الكلام كثيراً حتى إنه ظل ، طول الطريق ، يفكر
في هذا الذي سمع.
على الباب، باب الحديقة العريض، رأى حرساً ذوي أحذية
ثقيلة فارتعش، و هم يحملون بنادق فارتعب. وفي داخل البيت استقبله الأولاد
فرحين. كان الخبر قد سبقه إليهم. و أخذوا يتخاطفونه، يحتضنونه، ويقبّلونه ،
ويلاعبونه ، وهو يضيق بهم . وأقبلت الأم تقول بغضب:
- ألن يشبع، حضرته، من القطط! أربعة و هذا الخامس!
و إذن، فإن هنا أربع قطط، رآهم وقوفاً حوله، و قد
شالت ذيولُهم ، يرسلون إليه نظرات تجمع بين الاستغراب و الاختيال!
لفت الولد الأكبر نظر أمه:
- انظري، يا ماما، إن عينيه مختلفتا اللون!
- هاتِ لأرى.
تأملته و ابتسمت.. ثم أخذت تمسح ظهره بيد حنونة،
مدغدغة رقبته:
- ما شاء الله! عين خضراء و عين عسلية اللون. هذا
حُلمُ أبيكم القديم.
ثم إنه ترك لشأنه، يَسرح، في هذا البيت الفسيح، مع
القطط الأربعة، و قد انقاد لهم: أسود، و أشقر، و مرقش بالأبيض و الأسود، و
الرابع رمادي غريبٌ في توزع لونه. رآهم يدخلون غرفة صغيرة فيها ما يأكلون:
تلمس بشاربيه ، تشمم و تذوق، ثم أقبل يشاركهم الأكل دون منازعة. و بعد
الأكل أحس عطشاً. و كانوا يشربون من وعاء فيه الماء يجري، فلعق منه حتى
الارتواء. في المكان أسرّة، لكل واحد منهم سرير، من الإسفنج اللين المتموج
سطحُه، قد جُلل بقماش. و في الزاوية هناك ما يشبه "صندوقاً" ذا كُوة، في
قاعه تربة من نوع ما، يدخل القطط إليه ويخرجون، ففعل مثلهم.
و لقد ود التحدث إلى هؤلاء القطط. و لكنه أحس أن
مسافة ما تفصل بينه و بينهم: هل مردّ ذلك إلى أنهم يرون فيه وافداً جديداً
غريباً، فهو الارتياب ! أو قطاً صغيراً قليل الشأن، فهو الاحتقار ! أم على
العكس من ذلك: لاحظوا فيه عينيه الملونتين، فهي الغيرة إذن !.. أم ماذا يا
ترى؟ إن في نفسه أن يسألهم عما إذا كانوا سعداء حقاً و هم يعيشون في هذا
البيت الأنيق، أم أنهم يحنون إلى عالم الحرية ، هذا الذي انتُزع منه صباح
هذا اليوم ؟
في المساء احتضنه الباشا، داعبه و لاطفه، ثم قال
لأولاده:
- هذا القط نحن محظوظون به ، يا أولادي. و هو أيضاً
محظوظ بنا: من الرصيف، إلى الطبيب، إلى بيتنا. سأسميه "محظوظ"، و لكن
باللفظ الإنجليزي "لاكي"!
وخلال مناداة الأطفال له بهذا الاسم الأعجمي، لم
يَفُته أن يسترق السمع إلى ما بدأ يدور بين الزوجين من حوار. الرجل يردد
اسم لاكي مقروناً بكلمة "إخصاء" (ويا لها من كلمة غامضة!)، و المرأة تصر
على ما تُسميه "نزع المخالب" (و يا لها من كلمة غامضة أخرى!). و قد ردد
الاثنان رقماً أو رقمين عدة مرات: ثلاثة أشهر، ستة أشهر... و هو لا يفهم
مما يسمع شيئاً أي شيء!
فلما آن لأهل البيت أن يناموا، رأى الخدم يقومون
بمهمة البحث عن القطط الأربعة، و هو خامسهم، في أرجاء البيت الكبير، و
القبض عليهم ، و إيداعهم فيما يسمونه "بيت القطط". و هو لم يُتعِب أحداً في
الإمساك به، قبل أن يجد نفسه يُرمى في ذلك المكان فوق سرير إسفنجي جديد
مجلل بقماش زاهي الألوان.
وفي هدأة الليل، و وراء الباب المغلق، رأى لاكي
المسافة تضيق بينه وبين أصدقائه الجدد. تعرف عليهم واحداً واحداً: "عنبر" ،
"حمّور" ، "هارون"، و "سيام".. وعرّفهم بنفسه:
- في الصباح كنت أمشى الهوينى على الرصيف، في أحد
الشوارع الخلفية، حراً طليقاً.. سيارة توقفت.. نزل السائق.. لم أستطع
الإفلات منه..
ضحك القطط الأربعة:
- إنه "أبو كركور"، هذا يأخذنا ليحلِق لنا فِراءنا
كلما طال شعرنا!
وانفتحت السِّير و كرت الحكايات: "عنبر" الأسود،
التُقط من قارعة الطريق ، كما التقطه هو أبو منصور.. "حمور"، دخل البيت
ضيفاً في غياب أصحابه في سفر، ثم لا يعرف لِمَ لم يستردوه... "هارون"، وُجد
ضالاً بعد خروجه من بيت أصحابه، فاقتنصوه.. "سِيَام، هذا الرمادي اللون،
الأسود الأنف، يدّعي أنه جيء به بالطائرة من بلاد بعيدة، و أن له أوراق نسب
و جواز سفر!
أما الفِراء المحلوقة، فقد عرف أنه يُحلق لهم كلما
طالت شعورهم. و قد كانوا يَحلِقون، بين الآونة و الأخرى، للأربعة دفعة
واحدة، فغيروا العادة بأن أخذوا يحلقون لاثنين فقط دون الآخرين، و لكن
الباشا رأى أن ذلك يُظهر الحليقين و كأنهما أجربان بالقياس إلى القطَّين
المؤجلة حلاقتهما، فقرر توحيد يوم الحلاقة!
***
وكما جرى لاكي على أن يستقي المعلومات من أصدقائه و
هم في "بيتهم" ليلاً يسمُرون، فقد وجد أن المعلومات من نوع آخر يمكنه أن
يستمدها من بيت الأسرة، و خاصة ما بات يستمع إليه من أحاديث يتداولها
الباشا مع ضيوفه في اجتماعهم في ذلك الصالون، تعلو منهم الأصوات وتفرقع
الضحكات، و في الأيدي كؤوسٌ ترتفع إلى الأفواه ، و بعدها تُلتقط حباتٌ من
صحون في متناول الأيدي!
إنهم يتناقشون، و يُطيلون النقاش فيما عَرَف أنه
"السياسة": كيف يسوس الحاكم الرعية؟ كيف يسوق القائد مرؤوسيه ؟ كيف يصل
أحدهم إلى ما يصبو إليه ؟ و لم يكن يُسمح للقطط الأربعة، أو الخمسة،
بالدخول إلى الصالون دائماً، و لكنهم يتسللون في غفلة من العيون أحياناً. و
قد وجد لاكي نفسه، في البداية، ينتقل بين الأحضان، بصفته قطاً جديداً
صغيراً جميلاً، يصغي إلى عبارات الاستحسان بألوان فروته وعينيه. و قد سمع،
في ليلة، أحدَهم -ذاك الأعلى صوتاً - يخاطب ربّ البيت في مباسطة فاضحة:
- كأننا نراك، يا باشا، تجعل من هذه القطط في بيتك
"حقل تجارب"، تتمرن بها على سَلّ قوة الرعية، و تطويعها، و تدجينها !!
ويا له من ضحك، صدر عن الجميع، صاخباً معربداً، قبل
أن يُسكتهم رفعُ الكؤوس إلى الشفاه.
سَلُّ قوة، تطويعٌ وتدجين.. ماذا يعني هذا!
ثم كان لا بد من أن يعرف لاكي من أصدقائه، أن عملية
الإخصاء تعني أن يفقد القط فحولته.. ذلك ما حل بهم واحداً بعد آخر، لدى
دخولهم هذا البيت أو قبل قدومهم إليه.
مرة سأله صديقه عنبر، الذي بدا أقرب القطط إليه،
وهما معاً في شرفة في البيت تطل على شرفة للجيران:
- أترى إلى تلك "القطة" هناك، الجميلة، المتأنقة، في
عنقها طوق ذو جلاجل!
أجابه لاكي:
- أراها، وإنها ترنو إلينا من بُعد.
- هل تهفو نفسك إليها؟
- جداً.
- بعد الإخصاء، الذي سيجري لك عما قريب، لن ينتابك
هذا الإحساس. ذلك ما أنا فيه منذ عدت من عند الطبيب وفي أسفل بطني ضِماد !
و لم يَطل الأمر كثيراً بـ لاكي، بعد هذا الحديث.
فذات صباح، منعوا عنه الأكل تمهيداً لعمل شيء. وبأمر من الباشا، حمله أبو
كركور إلى الطبيب ذي الحلة البيضاء (بئس اللون الأبيض!). و بدلاً من أن
يتناوله هذا بالغسل والتطبيب كالمرة الأولى، غرز في ساقه إبرة، فغلبه
النعاس، و أغفى إغفاءة ما أفاق منها إلا وقد انتهى كل شيء ! و لم يحزن عليه
من أصدقائه إلا عنبر.. و أما الباشا، و الأولاد و الخدم و الحشم، فقد
استقبلوه فرحين و كأنه زُف إلى عروس ! و تخيل، هنا، أمه: كم كانت تحزن عليه
لو أنها إلى جواره!
خسر لاكي حريته، ثم فحولته.. و ماذا بعد ذلك ؟ "نزعُ
المخالب". و هو لا يكاد يدرك حقيقة الأذى الذي سيحيق به من جراء ذلك، فقد
وجد نفسه منذ وعى مزوداً بمخالب تمكنه من الدفاع عن نفسه. و لكن بدا له
الآن أن لها منافع أخرى. فقد رأى أصدقاءه القطط، و هم في جريهم على الأرض،
إن هموا بالتوقف انزلقت قوائمهم على البلاط، فإن نهاياتها لا تعدو أن تكون
قطع لحم قد نُسِل منها ما يَنشب في الأرض و يعين على الثبات.
و لكنه لاحظ، في ذلك كله، أن الباشا، رب هذه الأسرة
الثرية التي تُدعى "القواديسي"، لم يكن يحظى بمحبةٍ حقيقية من قبل زواره
المحترمين هؤلاء. ذات ليلة تسلل، مُقعِياً بين أقدام اثنين من الضيوف كانا
متجاورين حتى الالتصاق فسمع طرفاً من حديثهما، الذي كانا يَنفَسان فيه على
الباشا ما تملك، في غفلة من الدهر، من ثراء و نفوذ و صولجان. أحدهما قال
للآخر هامساً:
- ابن القواديسي، باتت له صولة و جولة ! رَحِم الله
أباه في سوق النجارين ، يا للي بعد اعتماد المزارعين على الآبار الارتوازية
في سقاية أراضيهم، استغنوا عن استخدام "الغَرّاف"، فكف عن صنع "القواديس"،
حتى كاد يموت من الجوع ! و اليوم ابنه يملك ، - قولة الكذاب - ، نصف البلد!
فرد عليه الآخر، مدارياً فمه بيده:
- اسكت ! و الله لو سمعك لألقى بنا نحن الاثنين في
غيابة سجن و ما سمع بنا أحد !
و لقد سمع لاكي مرة الباشا ينادم زوجته، و رأسها على
صدره ، فيقول:
- إني لأعجب من انصرافك عن حب القطط، يا زوجتي
الحبيبة! يقولون إن المرأة تحب القطط لتشابه المزاجين، فكلتاهما تتلقيان
الدلال ثم تتنكران له في لحظة غضب ! و أما الرجال، فإنه يقال أن مزاجهم
أشبه بمزاج الكلاب، فالرجل و الكلب يصبران ويتحملان طويلاً قبل أن يستبد
بهما الغضب العاصف !
و قبل أن تظهر بوادر الغضب على الخانم، رأى لاكي يد
الباشا تربت خد زوجته واعداً إياها بعقد يُطوق هذا الجيد الرائع !
و كما لاحظ لاكي أن الباشا يُتقن فن الكر و الفر، و
الهجوم و المداراة فقد رآه - كذلك- لا يكف عن التباهي بحبه لقطط البيت و
بمبادلتهم هم له هذا الحب. فهو يقول أن سِيام - في تسلله إلى غرفة النوم -
يفضل أن ينام في سرير الزوجية، في الشق الأيسر منه حيث اعتاد هو الهجوع فيه
! و هارون لا يُرى - إذا دخل هذه الغرفة- إلا مستلقياً فوق بيجامته المرمية
هكذا على الكرسي، فكذلك يطلب من الخدم أن يتركوها! و حمور يتمدد على
البنطال فوق الكرسي الآخر مسترخيا ! و أما عنبر، فإنه يحلو له - بزعم
الباشا- أن يغفو بجوار حذائه الثقيل، دون أن يفوته أن يرسل إحدى قوائمه إلى
داخل فردة منه قبل أن يستغرق ! و قد ود لاكي لو يسأل صديقه عنبر عما إذا
كانت هذه حقاً عادة فيه، لولا أن سمع الباشا يقول: و سوف أُعلم لاكي غداً
كيف يتولع بحذائي الجديد!
و قد حدّث لاكي في أمره أصدقاءه، فما اهتزت فيهم
شعرة من فِرائهم المختلفة الألوان. يراهم يأكلون، و يشربون، و يلعبون، و
يلعقون أجسادهم بألسنتهم الرطبة، و يتناومون متمددين على الأرائك و الطنافس
والبلاط، تحت أشعة الشمس أو قريباً من المكيفات، يتثاءبون خاملين، و
يتمطَّون، بأن يُباعد أحدهم ما بين قوائمه الأمامية والخلفية حتى يمس بطنه
الأرض، أو هو يُقارب ما بينهما مقوساً ظهره... و في ذلك يعبر الباشا عن
منتهى إعجابه بما يُسميه "هذا التشكيل البديع" ! و إن ليُسمي بَركة أحدهم
على الأرض، باسطاً قائمتيه الأماميتين ومضمراً الخلفيتين، بأنها قعدة "أبو
الهول"... و من هو هذا القط المهول؟
أخذ لاكي، و هو يقضي لياليه في بيت القطط، يفكر بصوت
عال:
- الباشا، يا أصدقائي، يأسرنا، يُدجننا، يستأصل
أعضاءنا، يُغير طبيعتنا الحيوانية، و يحاول أن يُنسينا حتى المواء. ذلك من
أجل أن يستمتع بمشاهدتنا قائمين نائمين، متثائبين متمطّين، و يرى في ذلك
تشكيلات تروق له.. و لا ينسى أن يُرضي الخانم، بأن لا يُبقي لأحدنا مخلباً
في قائمة، حفاظاً على أثاث بيتها!
و لم يكن لهذه المقولات أن تفعل شيئاً في نفوس
أصدقائه، هؤلاء الذين خسروا الحرية و الفحولة و القدرة على النضال. إنهم
يستمعون إليه بأعين ناعسة، و قد اعتادوا أن يأكلوا مما يُقدم إليهم من طعام
لا يتغير مذاقه، أين هو من تلك "الموائد المفتوحة"! و ما زالوا يشربون من
هذا المنهل العجيب ! و يتبرزون داخل الصندوق، فلا يحفرون بمخالبهم في
الحدائق و يطمّون ! مفتقدين الحنين إلى قارعة الطريق، متهيِّبين السعي في
مناكب الأرض.. إلا عنبر، الذي سأله مرة:
- و ماذا تتوقع منا أن نفعل؟
- نستسنح الفرصة، و ننطلق إلى الحرية.
- جربتها، يا لاكي.. فلما نزلوا إلى الشارع يبحثون
عني تعمدت ألا أغيب عن أنظارهم. خشيت أن يقذفني الأولاد الأشقياء بالحجارة،
و عَدْوي - مع سِمنتي- لم يعد سريعاً. كما أني فقدت المقدرة على التنازع مع
القطط حول لقمة الأكل. و أما رغبتي الجنسية، فقد ماتت من يوم أن غرزوا في
ساقي تلك الإبرة اللعينة، التي عرفتها أنت مرة وذُقتها أنا مرتين!
ودّ لاكي الصغير لو يبكي حزناً على ما آل إليه صديقه
الصَّدوق من اليأس الفظيع، و أن يبكي - قبل ذلك - حزناً على حاله هو و على
ما سوف يؤول إليه. و تملكته، منذ الساعة، عزيمة صادقة على أن يغادر هذا
البيت هارباً، قبل أن يبلغ الأشهر الستة من عمره، فيتأبطه أبو كركور، ثم
يعود به وقد ضُمدت قوائمه الأربع. ورسم لنفسه أن يتسلل من الباب إن أمكنه
ذلك، و إلا رمى بنفسه من إحدى شُرُفات البيت إلى الحديقة، يعلق بين أغصان
الشجر يستقبله المرج الأخضر، يتحطم على أُصص الزَّريعة، ينجو، يموت.. إنه
يريد التحرر بأي ثمن من هذا النعيم الكاذب، الذي يفقد فيه كل مقومات
الحياة. سماه "محظوظ"، و من قال له أنه سعيد بالعيش في بيته؟!
* * *
فُتح الباب على مصراعيه مرة. كان لاكي قربه، مُقعياً
على قائمتيه و كأنه يتفرج على ما يَعتلون إلى الداخل. و لم يصعب عليه أن
يتسلل من بين الأقدام، قافزاً على الدرج بخفة، مستعيناً بمخالبه التي لم
يئن لهم أن ينسُلوها من قوائمه، مجتازاً الحديقة، منسرباً من الباب
الخارجي، على مرأى من الحراس الذين لم يبادروا إلى استعمال بنادقهم ضده !
جعل يركض ويركض. يقوده شارعٌ إلى شارع. لا يتلفت
خلفه ليرى ما إذا كان أبو كركور في إثره، أو كانت تانك العينان المتفرستان
تطلان عليه من شباك السيارة.. حتى وصل إلى ذلك الشارع الخلفي الذي كان قد
انتزع من على رصيفه... وأخذ يموء طالباً أمه.
أحس بلسع البرد. لطا في مكمن. و ما هو حتى وافته
أمُه الحنون، ثم لحق بها إخوته. أقبلت عليه بلهفة. كان يلهث، و كان متعرق
الجسم. و فيما هي تشمه من هنا وهناك، اكتشفت أنه قد..
- فعلوها، بني الإنسان ! إنهم لا يحترمون حيواناً!
شكا إليها:
- و كانوا يستعدون لنزع مخالبي، يا أماه!
قالت في أسى:
- الإنسان يظل إنساناً!
و جعل يتخيل، و هو في مكمنه، أن الأولاد هناك قد
خرجوا من البيت يبحثون عنه في أرجاء الحديقة.. ثم أولئك ينطلقون إلى
الشوارع القريبة، و النداءات منهم تتلاحق: "لاكي! لاكي!"، و قد ظنوا أنه
خرج من البيت خطأ، و أنه ضلّ طريق العودة إلى بيتهم المترف!
على النوع، كان القط المسكين ينزوي في ركن، و يأسى
على نفسه.
إلا أن كثيراً من حزنه يتبدد، عندما يُنشب مخالبه في
الأرض، محدثاً نفسه:
لي مخالب، فأنا قادر على البقاء!"
الأشباح
"وراجت الشائعات بأنّ بعضهم شاهد، على مقربة من جسر
كالينكين، شبحاً –هو "أكاكي أكاكيافتش"- جعل يظهر ليلاً باحثاً عن معطفه
المسروق، وينزع المعاطف عن أكتاف الرائحين والغادين".
رفع عن الكتاب عينيه، وقد تراءى له أن يبوح لشريكة
حياته:
"بات يساورني اعتقاد، يا زوجتي العزيزة، بأني أمتلك
قوة خارقة تجعلني قادراً على أن أجلد أولئك الذين قد يسوقهم قدري إلى جلدي
وتعذيبي!"
ارتسمت على المحيّا الوديع بسمة ارتياب:
"ما الكتاب الذي تقرأ، الليلة، يا حبيبي؟"
تشاغل عن الإجابة. و قبل أن يتابع التعبير عما نجم
في عقله وهو يستعيد قراءة هذه الرواية، كانت زوجته قد التقطت بناظريها
عنوان الكتاب:
"المعطف"! ألم تقرأه في مثل هذه الأيام من العام
الماضي؟"
- وأستطيع أن أضربهم ضرباً مبرّحاً يُفضي بهم إلى
الموت!
- لماذا تتكلم على هذا النحو؟!
- ولكن.. من المؤسف، يا عزيزتي، أنّ ذلك لا يتحقق لي
إلا إذا استحلت إلى روح شاردة تتعذّر معها عودتي إلى الحياة!!!
وعند الفجر، طُرق باب البيت. هبّت زوجته من رقادها،
وسبقته إلى الباب. مدّت بصرها عبر "العين"، وعادت لتهمس في أذنه:
"إنهم هم.. جاءوا مدجّجين!"
قال لها:
"اعتني بالصغار"
وإلى الأسر مضى.
- أنتَ قلتَ!
- لم أقل.
- أنتَ فعلتَ!
- لم أفعل.
- أنتَ تفرّجتَ صفّقت، هتفتَ..
- ..! .. ! .. !
- أنتَ كتمتَ معلومات، وتستّرت على مطلوبين!
- .. ! ... ! ... !
_ أنتَ تآمرتَ!!
من أعماق أعماقه صرخ:
"بريء! بريء! إني بريء من كلّ ما تدّعون!"
- كفَّ عن عنادك واعترف بالحقيقة: كيف تواطأت مع
الأعداء؟
- كلّ ما هناك، أيها السادة، أني متجاوب مع
المواطنين، أشاركهم مشاعرهم وأومن بما يؤمنون.
- هأنتذا تعترف!
- إن كان هذا منّي اعترافاً، فلستُ أنفيه!
- وضّح لنا: ما يحمل الناس على الهِياج؟
- إنها معادلة بسيطة.
- اشرحها..
- المارد يُحشر في قمقم. سيارات فارهة، عمارات
باذخة، نساء، و جاهات، قلة على كثرة، والحرية منحة من السلطان، قابلة
للاسترجاع في كل لحظة من نهار أو ليل. اختلال، وتنطلق الفلينة من فوّهة
القمقم. قمع، و إسقاط عيوب، ثم مزيد من القمع والسحق، فإنّ الحياة، هي
أيضاً، مما يمنح السلطان.. تلك هي المعادلة، باختصار، أيها السادة
العادلون!!
- بالألغاز نراكَ تتكلم!
- حين تمسي بدائية الأمور ألغازاً، تتعاظم دواعي
التغيير.
- إن لم تكفَّ عن الجمجمة وتتكلم بوضوح، وضعناك في
"الدولاب" اعترف: ما حدود العلاقة بينك وبين الأعداء؟
- أراكم في حواركم معي، بما في رؤوسكم، تريدونني أن
"أعترف"!
وانتصب أمامه دولاب سيارة.
- سنقعدك فيه، ثم نذرع بك المكان!
احتلّت وجهه بسمة عريضة:
- جولة ممتعة، في هذا الجو الشاعري، أيها العادلون!
ولكن الدولاب لا يستوعبني!
- لا عليك. نحشرك فيه حشراً. وعندئذ، تعترف بكلّ ما
يطلب منك.
لم تلامس قلبه ذرّة من خوف:
- حذار! إن شرعتم في تعذيبي فعلت مالا يخطر لكم على
بال!
وما عساك تفعل؟
في قرارة نفسه، كانت تجيش تلك القوة الكامنة:
- أُهلك نفسي!
- كيف تهلكها، وأنت لا تملك سلاحاً ولا أداة، ويحيط
بك عشرة منّا؟!
- أقطع تنفّسي!
وجموا لحظة، ثم رآهم يغمغمون:
"يقطع تنفّسه! يقول: يقطع تنفسه!! (و انطلقت
قهقهاتهم) هيا افعل، لنرى كيف يخنق امرؤ نفسه على مرأى منّا، إن كنت
تقدر!".
- إنْ فعلت ذلك، مات جسمي بين أيديكم وتحوّلت روحي
إلى.. شبح.. يسومكم العذاب!
جرّحت قهقهاتهم أرجاء الزنزانة:
"مجنون! مجنون! إنه مجنون! هيا افعل ما تهددنا به،
أيها الأبله!".
- زيدوا في تحدّيكم لي!
- خذ، أيها المجنون الظريف!
بعد اللكمة، التي استقرّت بين عينيه، دارت به
الأرض.. دارت به السماء.. بَعُدَ.. طاف.. و شبحاً عاد إليهم، وفي يده هراوة
أثيريّة.
رآهم يتفحّصون جسده، ترك أحدهم يده تسقط:
"مات!"
علَّق آخر:
"مات بأسرع مما كان يتصوّر!"
"بضربة واحدة مات".
"هشّ! ما كان يصمد أمام شيء"،
"مات المجنون مات"،
"ويتفلسف: قمقم، سيارات، فلّينات! ويسخر منا: "تلك
هي المعادلة، أيها السادة العادلون!".
"وفّرنا عليه الجهد في إزهاق روحه!"
أحدهم أعلن:
"اذكروا وعيده بأنه عائد إليكم شبحاً!"
وقبل أن تجرح قهقهاتهم أرجاء الزنزانة، مرة ثانية،
كانت الهراوة في يده، قد استقرّت بين عينين، انطرح لها صاحبهما أرضاً.
- مَن الضارب؟
- أنا !!
انعطفوا فوق صاحبهم، فعالجهم بالهراوة ينزلها على
مؤخراتهم. هرج و مرج. ذعر. يحاولون اتّقاء ضربات غير مرئية تنهمر عليهم من
كل صوب.
- مَن ذا الذي يغدر بنا؟
- أنا! أنا من يجلدكم، أيها الجلاّدون!
أدرك أنّ صوته، أيضاً، لا يسمعونه.
- خذوا، يا أولاد الـ... !
أعمل هراوته، الأثيرية، في الجباه، الأقفية، الجنوب،
المؤخّرات، كيفما اتفق. ينطرحون تحته، يستغيثون. يتحاملون على أنفسهم،
واقفين زاحفين، متلمّسين طريق النجاة.
بالمرصاد، وقف لهم على الباب، يسقيهم من الكؤوس التي
طالما جرّعوا الناس من ثمالاتهم. آه، ما أمتع أن ينتقم المقهور من مضطهديه،
أولئك الذين جفّت شرايين قلوبهم فعاد لا يسري فيها إلا التلذّذ بتعذيب
الأبرياء والتفنّن في قتلهم!
لم يكلّ أو يملّ. حتى جعلهم، في الباب، كومة من وحوش
جريحة عاوية. يئنون، ويستصرخون الضمائر طلباً للرحمة!!
حمل جسده على ذراعيه. اجتاز به الدهاليز والساحات.
يشاهدون الجثمان معلّقاً أمام أبصارهم في الفضاء، وهو يتحرّك قدماً، فتتسع
دوائر الدهشة في العيون البلهاء، و تنفسح الطرق. كل الأبواب أُشرعت
لجثمانه.
وفي ركن من بيته، سجّاه،
زوجته ناحت:
"قتلوك، أخيراً، أيها المسكين! وأي أذى يمكنك أن
تنزل بهم، أيها المقهور في وطن ليست الغلبة فيه إلا لذوي القبضات
الفولاذية! واهاً، يا فقيدي الغالي!".
و لكني انتقمت لنفسي منهم! ليتكِ ترينهم وهم مكوّمون
في باب الزنزانة يئنّونّ! وثقي أني قادر على أن أعيد الكرّة. كنت صادق
الإحساس في ما أعلنت لكِ ليلة أمس.. ولكن، هل تسمعينني، يا أرملتي العزيزة؟
لا عين تبصره. وليس يسمعه حتى أقرب الناس إليه.
في بيته "يقيم" وبين أولاده وزوجته يسري. وبأمّ
عينيه يشهد أحزان اليتم والترمّل والقهر.
إلى الغياهب المعتمة يمضي كل يوم، يعبر الدهاليز،
ويتسلّل إلى الزنزانات. يشهد، يراقب، ويصغي إلى سيل الأسئلة الغبيّة.. حتى
إذا شرعوا في ممارسة هوايتهم الوحشيّة، مارس هو الهواية التي أصبح لها
ميسّراً.
اكتشف أنه ليس وحيداً في عالمه الفريد هذا. التقى بـ
"أشباح" آخرين، يجوسون الغياهب، وفي أيديهم مثل ما في يده!
تعارفوا. تنظّموا. وتوزّعوا العمل. أمسوا لا يتخلّون
عن أصدقائهم المأسورين. يمنعون عنهم. ما استطاعوا، أذى التعذيب: فكلما بوشر
ضدّهم، أسرعوا هم يُعملون هراواتهم الأثيريّة.
ذات مساء، تناول ذلك الكتاب.
وعلى هامش تلك الصفحة، كتب،
وما لبثنا، نحن الأشباح المجنّدين لخدمة العدالة، أن
خرجنا إلى الشوارع العريضة، نلاحق أولئك الجلادين الذين يغلظون في معاملة
المأسورين، فننزل بهراواتنا على أمّ رؤوسهم. وفي الليل، نغشى بيوتهم ونقضّ
مضاجعهم. تلك حقيقة واقعة، وليست من قبيل ما أشيع عن "أكاكي أكاكيافتش"..
لقد أفلحنا في زرع الرعب في قلوبهم، مثلما نشروه هم في قلوب العباد. وسوف
نظل نؤدي هذه المهمة.. ولكن، أليس على الأحياء أن يتحركوا..؟!
ووضع الكتاب في متناول زوجته والأولاد.
|