موعد مع شخصية هامة
- لا تقلق يا هذا ، أنت على الأقل ودعت أهلك و
ذويك .
- ما يحزنني هو عدم معرفة سبب وجودي هنا ...
- ومن منا يعرف سبب وجوده هنا أو هناك إلا الله
يا بني .
فتح عيناه على هذا الحوار فإذا به يجد نفسه وسط
غرفة صغيرة
بدون تهوية ، حوالي عشرين رجلا منهم الجالسون و
النائمون وآخرون
خلف الباب يسترقون السمع .
تبدو على وجوههم علامات الحزن و التساؤلات
العديدة والقاسم المشترك
الوحيد بينهم هو اللحية ، غير أنهم يختلفون في
شكلها وحجمها ن فهناك من أطلقها بقوة في حين تعمد آخرون التقليل من
كثافتها و تنظيمها .
-مرحبا يبدو أنك من مجموعة ليلة أمس ، هل أنت معني
بالحملة الأخيرة ؟
-كنت سائرا في طريقي ، أوقفوني وأركبوني سيارتهم
و قالوا لي لديك موعد مع شخصية هامة ...
-وهل تعتقد بأن هذه هي قاعة الإنتظار ؟ أي لقاء
هذا الذي يرمي بك هنا أنت واحد من الجميع و جهز نفسك لما هو آت ، أنت
تعيش الحلقة الأولى من مسلسل غير منتهي .
أراد أن يرد عليه و يبعد عنه هذا التشاؤم ، نظر
حوله و لم يرى ما يبعث على التفاؤل أو الأمل ، هذا هو المكان الذي
يطلقون عليه الحضيض .
ومازاد في دهشته هو طبيعة الوجوه التي لا توحي بأي
خطر على المجتمع
يبدو أن أغلبهم من قطاع التعليم ، فاللغة العربية
حاضرة بقوة في أحاديثهم
الأقلية المفرنسة تحبذ مقولة اللغة الوطنية لكي
تفك أي إرتباط مع العرب و المشرق .
إستوعب الحقيقة المذهلة ، إنه في مـأزق كبير و من
الواضح أنه ضمن مجموعة من المعتقلين السياسيين و عليه أن يكشف للسلطات
هذا اللبس
و لكن أنى له ذلك ، و هل هؤلاء الأشخاص لا يحبون
الوطن ؟ بالتأكيد كل واحد يعشق وطنه بطريقته الخاصة ، حتى من يقوم
بإنقلاب يرفع شعار الوطنية و ينادي بالحفاظ على المصالح العليا لبلاد ، و
من يسفك دماء
الأبرياء يعتبر الأمر ضريبة الحرية و جسر ضروري
للمرور نحو الإستقرار
القاتل و المقتول كلاهما يرفع سلاحه بإسم المبادئ
و المثل و التضحية و الحفاظ على مكاسب الأجداد و مستقبل العباد .
مرت الأيام رتيبة و مملة و لم يسأل عنه أحد ، نفس
الأحاديث و الوجوه و الأكل ، المتغير الوحيد هو الزمن ، في البداية كانت
تأتي بعد الأخبار عن الأوضاع المتقلبة في البلاد ، ثم نظرا لعدم وصول أي
معلومات ، أضحت الإشاعات محورا للنقاش ، غير أنه تفطن لتلك اللقاءات
المتكررة بين مجموعات معينة ، فدخل في إحداها ، فعرف حقيقة الأزمة و فهم
خلفيات الإنسداد السياسي و خبايا اللعبة الديمقراطية ، لأول مرة يجد نفسه
وسط مناضلين من الطراز الرفيع ، حاول تبادل الآراء و التأثير عليهم ة
لكنه
وجد نفسه ينساق إليهم نظرا لكثرة الحجج و
البراهين لديهم على فساد الأنظمة و ضرورة الرجوع الى الأصل و أن لا
صلاح لهذه الأمة إلا بما صلح به أولها .
بعد شهور عديدة أدرك بأنه يقيم بمدرسة و ليس
سجنا ، فهناك مواعيد
للنقاش و التشاور و أخرى للعمل ، هكذا إجتمع رجال
مع بعضهم كان من الصعوبة بمكان جمعهم في الخارج ، وجد قناعاته تتغير
شيئا فشيئا ، ليس ثمة حكم بل نادي خاص يدير شؤون الناس ، و ليس هناك
قانون بل كل ما في الأمر ديمقراطية شكلية إرضاءا للغرب .
الأمر الوحيد الذي لم يكن معروفا ، ساعة الإفراج
و كيف سيكون هناك إطلاق سراح بدون محاكمة ؟ لم يظهر أي شيء يوحي بعودته
الى عائلته و بدا و كأن إقامته ستطول الى وقت غير معلوم ، أصبح متيقن
بأن الذين قرروا إدخاله الى هذا الجحيم ، منشغلين بأمور أخرى .
ذات صباح لاحظ أن ساحة السجن يسودها نوع من
السكون على غير العادة و الوجوه تبدو متحفزة لشيء ما ، حتى تحركات
الحراس يسودها
شيء من الحذر و الغرابة ، كل شيء يدل على إمكانية
حدوث أمر طارئ
وفيما هو مستلقي على فراشه ذالك المساء ، سمع
صراخا و ضجيج و طلقات نارية ، أسرع بالخروج فأبواب الزنزانات مفتوحة
على مصراعيها
إنه تمرد داخلي كبير و الصراع بالأيدي و المعدات
متواصل و الرصاص
يتهاطل من كل الجهات و الأجساد تتهاوى و تسقط في
دماءها ، في حين أخذ بعض الجرحى يحاولون النهوض عبثا ، و يصرخون من الألم
، أخذت مجموعة أخرى تهلل و تكبر ، اللون الأحمر يملأ المكان و المشهد لا
يقارن سوى بأفلام الرعب الدموية ، شاهد أحد الحراس يفتح الباب الكبير ،
أسرع العشرات من المساجين بالهروب في حين فضلت القلة البقاء في
زنزاناتهم
وقف يتأمل المجزرة مندهشا ، قدماه في حالة تجمد
تام و تفكيره مشلول
وجد صعوبة في إختيار وجهته و فجأة داهمه تيار
الوعي فلاحظ أن أغلبية الأحياء توجهوا نحو البوابة الكبيرة ، هرع
نحوهم و هو مدركا بأن يد الله مع الجماعة .
خلف الأسوار كانت الفوضى عارمة ، سيارات و آليات
عسكرية و قوات مكافحة الشغب ، كل الأسلاك الأمنية موجودة و الناس الذين في
الخارج لم يفهموا شيئا ، المهم أن كل شخص يسعى الى الفرار بجلده ،
المساجين يجرون نحو كل الإتجاهات و الرصاص يعزف كل أنواع الألحان .
وجد نفسه مع مجموعة يعرفها ، من حسن حظهم كانت
الغابة قريبة ، ساروا عبر الوهاد و الجبال ، لا ينظرون خلفهم و لا يتوقفون
و من حين لآخر كانوا يسمعون أزيز المروحيات ، فكانوا يختبئون ثم يواصلون
المسير ، المنحدارت الجبلية تتطلب الحذر الدائم في حين تبدو الوديان
الجافة أقل خطورة .
بعد يوم من المسير وصلوا الى منطقة آمنة و معزولة
و دخلوا وسط كهف شاسع ، أخذ كل واحد جانبا منه و بقي أحدهم في الخارج
يحرس .
-لقد نجح الهروب الكبير و نجحت الخطة ، ستتكلم
وسائل الإعلام المحلية و الدولية عن هذا الإنجاز البطولي المميز .
-ولكن الى أين نتجه ؟ و متى ستتوقف ملاحقتنا ؟
-لا تقلق يا أخي ، أنا إبن المنطقة و أعرف كل
خباياها، سنصل الى مبتغانا قبل حلول الفجر .
إستمع الى كلامهم و إقتنع بما لا يدع مجال للشك
بأن الأمر مجرد نهاية حلقة و أن المسلسل ما يزال مستمرا .
في إنتظار الوزير
كل شيء كان يبدو عاديا تلك الليلة ، بعد سهرة
راقصة مع رجال الأعمال و أعيان المدينة في نزل القمر الأحمر ، غادر صالح
المكان على الساعة الثالثة صباحا نحو قصره في حي المترفين ، بالرغم من
حالة السكر التي كان فيها
فقد إستطاع الوصول بسلام الى حيث يريد .
بعد نصف ساعة من إستلقاءه على السرير بكل ثياب
السهرة أحس بأنغام
الحفل تتهادى الى أذنيه ، و لكن الغريب أنها لم تكن
صاخبة بل هادئة و مميزة
فتح عيناه و شغل أذناه ، إنه صوت الهاتف ، بعد جهد
إستطاع أن يقترب من حافة السرير ، سمع صوتا مألوفا لديه يخاطبه ...
-صديقي صالح ، بدون مقدمات ، هناك خبر سار أود أن
أزفه إليك .
-لست بحاجة الى عملة صعبة و لا مشاريع و لا نساء ،
ماذا تريد
يا سمير ؟
-لو تسمع الخبر ستفقد رشدك و تنهض في الحال .
-هيا إسرع إنني جد متعب ..
-سيستقيل غدا خمس وزراء من الحكومة ...
-وماذا يعنيني حتى لو تستقيل الحكومة كلها ..
-ستكون وزيرا يا صالح ...
نهض صالح دفعة واحدة من فوق سريره و كأنه لم يشرب
قطرة كحول واحدة.
-هل صحيح ما تقول ؟ و كيف حدث ذالك ؟
-لقد إتصل بي أحد الرجال المهمين ، فإقترحتك عليه ،
يجب أن تكون غدا في العاصمة لكي تقترب من مصدر القرار .
-إنه أسعد خبر سمعته في حياتي ، لقد جربت كل شيء و
ملكت كل ما أريد و لم يبق لي سوى أن أجرب الوزارة .
-لكن أي وزارة تريد أن تقودها ؟
-المهم أن أكون وزيرا و لو ليوم واحد ..
-إذن غدا سأنتظرك ، فلا تتأخر لأن الحسابات كثيرة
و الطامحون الى السلطة أكثر ..
-لا تخش شيئا غدا سيكون عنك الوزير .
بعد المكالمة الوزارية ، قضى صالح ليلته يوقع
القرارات و يمنح التفويض بالإمضاء لكل المديرين العامين من أجل تسهيل
العمل و المبادرة الفردية
ويستقبل في مكتبه مبعوثي السفارات الأجنبية ن و فجأة
سمع رنينا قويا ، أكيد
رئيس الحكومة على الخط ، وضع يده على السماعة
بسرعة فتحول الهاتف بقدرة قادر الى منبه ، لقد إستقيظ من حلمه الجميل ،
إنها الحادية عشر صباحا
على كل حال سيتجسد الحلم الى واقع قريبا ، و
يمكن إعتبار ما وقع له في المنام بمثابة تربص تحضيري للعمل الفعلي .
بعد حوالي ساعة ، كان صالح المرشح للوزارة في كامل
إستعداده لمغادرة قصره ، بأناقته الكلاسيكية و حقيبته الدبلوماسية سيكون
وزيرا بمجرد
مروره أمام مبنى قصر الحكومة ، فإذا أطل رئيس
الحكومة على الشارع
من خلال ستائر نافذته المزركشة ، لن يجد أجدر من
صاحبنا ..
أوصله سائقه الخاص الى المطار ، كانت الأنظار منصبة
نحوه ليس لكونه سيصبح وزيرا و لكن لأنه بكل بساطة أكبر رجل أعمال في
المدينة ، الجميع يقدمون له أخلص التحيات و هو يرد بنصف إبتسامة مصطنعة ،
كيف لا ؟ و وده لا يقاس بأموال ، نفوذه يسبقه لأي مكان ، ما إن تجاوز
ردهة المطار حتى هرع نحوه المدير قائلا :
-مرحبا بالسيد صالح ، لك تذكرة محجوزة على أي خط
داخلي أو خارجي تصله طائراتنا ، درجة أولى طبعا .
-شكرا تذكرة الى العاصمة فقط ..
-حاضر موجودة و ستنطلق الطائرة و لو بنصف الركاب ،
تعال إنتظر ثواني في مكتبي حتى أعطي أمر الطيران ..
عندما كانت الطائرة تشق أديم السماء ، كان صاحبنا
يجول بذهنه عبر آفاق المستقبل القريب ، سأصل العاصمة في الموعد المحدد
قبل التعديل الحكومي
كل ما أتمناه أن تكون المناصب الوزارية المقترحة
في مستوى تطلعاتي
ما يهمني هو الإشراف على وزارة فاعلة تصب فيها كل
المصالح ، لن أرضى
عن وزارة الإقتصاد أو الصناعة بديلا ، إذا ظهرت
معطيات أخرى سأقبل وزارة الخارجية أو الداخلية بكل تحفظ و لكن لن أقبل
بأي حال من الأحوال
بكتابة الدولة للصيد البحري أو الغابات أو وزارة
المجاهدين .
أثناء إنشغاله بخياراته المختلفة ، أيقظته المضيفة
من إغفاءته مقدمة له فنجان قهوة و الجريدة المسائية ، المضيفات يضربن عرض
الحائط طلبات الركاب الآخرين في حين أنهن يسارعن الى تنفيذ أي طلب لم
يطلب للوزير الموعود
تأمل صالح العناوين الإفتتاحية للجريدة ، ما أثار
إنتباهه عنوان بارز و بالخط العريض – خمس وزارء يقدمون إستقالتهم دفعة
واحدة - و كتب تحته مباشرة – إنهيار خمس مساكن بحي شعبي - تساءل صالح في
أعماقه....
هل سقطت البيوت حزنا على ذهاب الوزراء الخمس ؟
قرأ الخبر الذي يعنيه مليا ، و لكنه لم يجد فيه ما
يشفي غليله ، حيث لم يتم ذكر طبيعة الحقائب الوزارية التي تم التخلي
عنها بل كل ما كتب كان عبارة
عن كلمات جافة من نوع مصدر مطلع و آخر مأذون ،
الصحافة عندنا آخر من يعلم ، أعرف هذا الخبر قبل نزوله الى المطابع ،
هؤلاء المعربون لا يخرجون من مكاتبهم و دائما يشتكون و لا يحسنون سوى
اللعب على أوتار الماضي و مكاسب الأجداد ، أجزم بأنهم لا يعرفون شيئا
إسمه المهنية ...
بعد دقائق خرج صالح من الزوبعة التي أثارتها
الجريدة في فنجانه ، فقد كان متأكدا بأنه سيعرف كل شيء حين يصل الى
العاصمة ، فصديقه سمير يعشش
في دواليب الإدارة منذ زمان ، إنه مقتنع بان تلك
الهالة التي كانت تحيط حول الوزارة و المناصب السامية قد زالت عند كل
المواطنين ، فمنصب الرئاسة لم يعد يثير الإكتراث فما بالك الوزارة و
عليه فقد ترسخت في ذهنه
فكرة واحدة ضرورة إغتنام فرصة مكوثه في الوزارة
لتحقيق كل مآربه الشخصية ، فلابد أن يخلق شبكة من المعارف في أجهزة
السلطة ، حتى يضمن تواصل نفوذه و أقصى شيء يتمناه صاحبنا أن ينفى سفيرا
الى الخارج
المهم في الوقت الحالي هو ضمان البداية ...
تأمل صالح حقيبته الدبلوماسية ، و من خلالها يفكر
في حقيبته الوزارية
سيقوم بإرساء دعائم وتقاليد جديدة ، لن يغير مدخل
الوزارة كما يفعل
الآخرون بل سيغير كل المديرين العامين الموجودين
بوزارته .
فجأة إنتبه جميع الركاب لصوت قائد الطائرة
معلنا عن حدوث خلل تقني
بأحد محركات الطائرة ، وعليه طلب من الجميع التأكد
من ربط الأحزمة و أخد كل التدابير و إلتزام الهدوء ، أخذت إمرأة مسنة
تبكي و أخرى تصرخ
في حين أخد الرجال يرددون آيات و تسابيح ، الكل في
رهبة و وجل ، ماعدا صالح الذي أقنع نفسه بتفكيره الحضاري بأن المشكل
طفيف و سيحل لا محالة .
بعد دقائق أعلنت المضيفة خطورة الموقف و طلبت من
الجميع إلتزام الهدوء
صعق صاحبنا في مكانه ... أيعقل أن أموت بهذه الطريقة
من الجو الى الأرض .. يا لها من ميتة فظيعة ... أين أنا من رحمة الله ؟
لم أفعل في حياتي
ما يستوجب رحمته ...
بعد لحظات أعلن القائد بأنه سيلجأ الى الهبوط
الإضطراري في أي مطار قريب و عليه فقد طمأنت المضيفة الركاب من جديد و
أعلنت بأن قائد الطائرة
يتمتع بخبرة طويلة في الطيران.
-تبا لهذا القائد ... سوف يحقق الشهرة على حسابنا
... قال أحد الركاب .
في هذه اللحظات لم يكن صالح رجل أعمال و لا وزير
بل مجرد راكب طائرة مهدد بالموت بين الفينة و الأخرى ، تمنى من صميم
ذاته النجاة فهو مستعد للتخلي عن منصب الوزارة و كل أمواله مقابل
الحياة ، لو يقترح عليه في هذه اللحظات أحقر منصب عمل في العالم ن سوف
يقبله بدون تردد
فهو بالـتاكيد أفضل من مكانه في العالم الآخر.
في اليوم الموالي فتح أحد القراء صحيفته ، ليثير
إنتباهه عنوان بارز في الوسط- الرئيس يعين خمس وزراء جدد- و في زاوية
أخرى عنوان أقل إثارة
-بسبب هبوط إضطراري في مطار مهجور : قتيل و عشر
جرحى - و جاء في تحليل الخبر الأخير / و قد أستدل على هوية القتيل
الوحيد بحقيبته
الديبلوماسية و هو رجل أعمال مشهور /
فرصة العمر
-لسنا بحاجة الى عمال خلال هذه الفترة .....
-ومتى أعود إليكم ؟
-سننشر إعلانا في الجرائد ..
لقد تعود على هذه المواقف المتكررة و أحيانا يخيل
إليه بأن نفس الشخص
يستقبله في كل الأماكن و يعطيه نفس الإجابة ، هل
البطالة قدره المحتوم ؟
و متى ستأتي فرصة العمر ؟
عاد الى حديقة الثورة ، التي يدل كل شيء فيها على
الإستسلام ، المقاعد عرجاء و الأزهار بدون روائح و الأشجار مكسوة بالغبار
و إزدادات إنحناءا
وكأنها ترغب في تقديم إستقالتها لهذه الطبيعة
الجاحدة ، النافورة أضحت مياه راكدة يغطي سطحها الأوراق اليابسة و
أعقاب السجائر ، حتى الحمام الذي بقي يعد على الأصابع و لفرط سكونه يخيل
للمرء بأنه تماثيل صغيرة
ليس لهذا المكان من ميزة سوى توسطه المدينة ، إنه
المكان المفضل للبطالين و المتقاعدين و المشردين ، الكل ينتهون الى اللاشيء
، من عملوا طوال حياتهم و من لم يعملوا يوما واحدا ، الجميع يحدقون في
السماء و ينتظرون الغيث .....
- محمود... محمود
إنتبه الى مصدر الصوت ، و إذا به يلمح صديقه سمير
-أهلا... أين أنت ؟
-بخير ، بحثت عنك في الحي و لم أجدك و سرعان ما
تذكرت بأنك تدمن الجلوس في هذه الحديقة .
-مرحبا ، هل من جديد ؟
-نعم هناك الجديد ، لديك فرصة عمل في التلفزيون ..
-يبدو أنها فرصة العمر ..
-هيا ، لا تضيع وقتي ،إركب معي و سآخذك الى المكلف
بالتوظيف .
قفز محمود في السيارة و هو لا يصدق ما يحدث له ،
إنه منعطف تاريخي كبير في حياته و كل المعطيات تبشر بخير وفير .
جلس في قاعة الإنتظار ، و بعد لحظات دخلت فتاة شبه
عارية تمشي بطريقة إستعراضية .
-هل أنت معني بالتوظيفات الأخيرة .
-لا أدري ربما أكون محظوظا اليوم .
تأمل محمود الفتاة مليا ، تبدو و كأنها خرجت لتوها
من الفضائية اللبنانية
فكل شيء فيها إصطناعي و تساءل عن حظوظه في التوظيف
مع هذه الحسناء
التي لن تصمد أمامها أي لجنة توظيف ، و حتى و إن
كانت هناك وظائف شاغرة فلا مجال للمقارنة بين مؤهلاته العلمية و
إمكانياتها البارزة .
بعد دقائق خرج المكلف بالتوظيف من مكتبه ، في حين
كانت القاعة تضم كوكبة من المترشحين و المترشحات .
-لقد وصل الجميع يا سيدي ... قالت السكرتيرة .
-هذه المجموعة تدخل في إطار توظيف خاص و إستعجالي ،
خذيهم الى الطابق الثالث و بالضبط الى مكتب العمليات الخاصة.
-تفضلوا معي ، من هنا ، أيتها السيدات و أيها
السادة .
طقوس الإستقبال مميزة و الأمر يوحي بجدية التوظيف
و مدى حساسية المرحلة و ربما للأمر علاقة بالخطاب الأخير للرئيس و الذي
أكد فيه على
ضرورة تسليم المشعل للشباب .
أروقة المبنى تعج بالصحفيين و التقنيين و كل
المظاهر تدل على النشاط و الحيوية ، لو كلف كل واحد بحصة لفاض
التلفزبون و غرق فيه المشاهدين
ولكن يبدو أن هناك أيادي سحرية تتعمد تكريس
الرداءة و إلا بماذا يفسر نجاح كل من عملوا في الفضائيات العربية ؟
كل هذه التساؤلات دارت في ذهنه و هو ينتقل من طابق
الى آخر و بعد لحظات وجدت المجموعة نفسها أمام مكتب فخم يطل منه رجل
أصلع قصير ، لقد إجتمعت كل الصفات التي تجعل المرء يقتنع بأن الرجل أقحم
إقحاما في هذا المنصب ..
نهض ناقص الأوصاف من مكانه و توسط كتيبة البطالة .
- أيتها السيدات و السادة ، نشكركم على حضوركم ،
نظرا لمتطلبات العمل التلفزيوني و الأهمية القصوى التي توليها إدارة
الإنتاج للحصص الفنية و وفاءا لتراثنا الكبير ، قررنا إنشاء فرقة رقص
شعبي تؤدي كافة الطبوع
وعليه أنتم ستكونون النواة الأولى لهذه الفرقة ،
المهمة صعبة و لكنها ليست مستحيلة و صدقوني لا أشك في قدرتكم على الرقص
و تشريف الوطن ..
الدهشة إرتسمت على كافة الوجوه و لكن سرعان ما
إبتسمت الفتيات و ساد نوع من العبوس وجوه الرجال ، تأثر محمود كثير بهذا
العرض و كاد يغرق في البكاء و الضحك في آن واحد ، أيعقل أن تكون هذه
فرصة العمر ؟ بعد سنوات من البطالة يتحول الى راقص طبوع شعبية ، سيكون
مفخرة العائلة و الحي و هو يرقص و يتمايل وراء كل من هب و دب ، سينتشر
عبر الفضائيات و يصبح مرافق النجوم ، يا لها من مهزلة ؟
- أيتها السيدات و السادة ، لا تستغربوا الرقص ليس
عيب ، إنه فن راقي يعبر عن أصالة المجتمع ، هناك لجنة فنية خاصة متكونة
من خيرة راقصي و راقصات هذا الوطن ، سوف تدرس إمكانيات كل مترشح و تحدد
القائمة النهائية و أعلمكم مسبقا بأن الفائزون سوف يستفيدون من دورة
تدريبية خاصة في مصر برعاية الراقصة العالمية الفنانة نجوى فؤاد ،
التي بالرغم
من برنامجها المكثف ، إلا أنها أصرت على المساهمة
و هذا من أجل ترقية الأخوة و التعاون العربي و حتى و إن إعتذرت في
آخر لحظة سيتم تعويضها بالفنانة فيفي عبده ، أقولها و أكررها إنها
فرصة العمر و أتمنى أن لا تضيع منكم .
إنتفض محمود عندما نفذ صبره ...
-الأمر معقول ربما للفتيات و لكن ماذا عن الرجال
؟
- و ما المانع ، الفن لا يعرف حدود ، نحن في عصر
العولمة و أنت ما زلت تفرق بين الجنسين ، أنت بطال و ليس لديك خيار ...
- أنا لست بحاجة الى هذه الوظيفة الملعونة ، أنتم
ترقصون على جراحنا و مآسينا ، أنت نموذج الرداءة الشاملة .
- نعم إنه على صواب ، أنتم لا تعرفون معنى الرجولة
و لا تعرفون معنى الشرف و تستغلون مأساتنا ، تبا لكم ، أنتم وباء مسلط
على هذه البلاد ، و هل إيجاد هوية للتلفزيون مرتبط بالضرورة بهز البطن ؟
خرج أغلب المرشحين و لم يبقى سوى شبه رجل و أربع
فتيات ، وقف ناقص الأوصاف بمحاذاة صورة الرئيس و إبتسم قائلا :
-لقد أحسنتم الإختيار ، بإنسحاب هؤلاء الأوباش
سوف تزداد حظوظكم
إن هذه الذهنيات المتخلفة هي سبب الأزمة التي
نعيشها ، إنهم يقفون كحاجز منيع أمام تطوير العلاقات الأورومتوسطية و
الحوار مع المجموعة الأوربية
-ومتى يبدأ الرقص ، سيدي ، سألت إحداهن بطريقة
إغرائية .
تأملها بأعين الذئاب من شعرها الى أخمص قدميها
.....
-إجلسي هنا أيتها الموهبة الشقراء ، و أنتم
إنتظروني بالخارج .
عاد محمود الى حديقته المفضلة ، قطف زهرة ذابلة و
أخذ يداعب حمامة مهملة ، رأى عن بعد موكب عرس حيث إختلط الغناء بالرقص
، أراد أن يخبرهم بوجود فرص عمل جديدة و لكنه فضل البقاء في مكانه ،
فهو مقتنع بأن الراقصون الحقيقيون لن يجدوا صعوبة في إيجاد البديل .
|