اللوحة الأخيرة
أيعقل أن يزيد اليوم عن الأربع والعشرين ساعة ؟ لماذا تشكّل لديها
هذا الإحساس إذاً ؟ ومنذ متى ؟ ألأنها تُساهر منذ سنواتٍ بعيدة ليلاً
طويلاً أسودَ حارقاً ، تستمع خلاله إلى موسيقى حالمة ، أو تنظم الشِّعر ،
أو ترسم ؟ أم لأن جسدها يتقلّب في أرجاء السّرير خلال نهار طويل باهت وجافّ
؟؟
حين بدأت خيوط الفجر بمداعبة الأمكنة ، بدأ البلبل الكئيب بغناء
مواويل عزلةٍ كادت تجرح حنجرته ، وهو في قفصه المعلّق على أحد جدران القاعة
الكبيرة.بعد أن كان الليل يخلع عباءته السوداء قبل أن تموت شريكته ، كانت
موسيقاهما معاً تتغلغل في ثنايا الفجر ، فتشيع الفرحَ في غرف البيت التي
عمّتها الفوضى .
أما القطّة ، فقد ملّت اللّحم والحليب والنوم عند حافة السرير ،
لتتمسّح بها حين تستيقظ، وغادرت هذا البيت الموحش منذ مدةٍ بحثاً عن شيءٍ
آخر.
لمّا اكتمل وجه النهار تقريباً ، اخترق جفنيها طافحاً بصمتٍ قديمٍ
مترهّل فتحت النافذة ، لكنّ أشعة الشمس التي اندلقت منها دفعةً واحدة ، لم
تستطع أن تثير غباراً غطّى المكان .
لم تكن سعاد قبل سنوات تستيقظ في هذا الوقت ، فثمة أشياء كثيرة
تبدّلت في حياتها .
توقف البلبل عن غناء موشحه الحزين ، وأشاح بوجهه عنها ، وهي تضيف له
الطعام والماء ، لأنه ما يزال يتطلع إلى حياة أكثر حياة .
نظرت في مرآة تجعّد سطحها ، كان النهار يزداد تغلغلاً في شعرها ،
يداهم الباقي من ظلمته . ثم نظرت إلى عينيها الغائرتين في وجه مطبق على
قصائد الألم والندم ، وقالت في سرّها :
- " هذه المرأة التي تجاوزت الخمسين من عمرها ، وطحنها الحزن بعد
أفول الربيع وحلول الغروب … ليست أنا " .
خرجت كعادتها إلى حديقة البيت ، وجلست على أحد كرسييّن موجوديْن
فيها دائماً ، وراحت تأخذ رشفات قهوةٍ حزينة متباعدة بين اللّوعة والأمل ،
وتمجّ بعمقٍ ظاهر من لفافة أشعلتها برغبةٍ واضحة ، وهي تنظر إلى البرتقال
الذي تساقط على الأرض حزيناً عتيقاً متجعّداً مترباً ، وتتأمل شجيرات الورد
المتهالكة . لكم تمنّت أن يأتي الربيع يوماً على حصانه الأبيض فتهديه منها
قبل أن يرحل بها إلى حياةٍ لا زالت تحلم بها . دخلت الغرفة ، وضعت الفنجان
على مكتبها المغبرّ ، ثم تناولت خاتماً ذهبياً نقلته بين خنصريها أكثر من
مرّة قبل أن تعيده إلى علبته. تأخّر الربيع ، تأخّر كثيراً ، أتراه لن يأتي
؟ ربما كانت هناك شموس أُخر ، إذ أدارت آلة التسجيل على أنغامٍ تماوجت مع
إيقاعاتها ، لكنها كادت تتعثّر غير مرة ، فأخرستها .
حاولت أن تبتسم للبلبل لعلّه يواصل الغناء ، لكنه مثلها ، لم يكن
يحسّ بأُنس المكان . فتحت صندوقاً يحوي أعزّ ما لديها ، لم تحافظ على شيءٍ
مثل محافظتها عليه ، أخرجت منه رسائل قديمة وحديثة ، تتشرّف إحداها بدعوتها
للمشاركة في مهرجان الربيع الشّعري ، وتطلب منها الأخرى موعداً لإقامة
معرضٍ لرسومها بعد أن تمّت الاستعدادات لذلك ، وتهنئها الثالثة بفوزها
بجائزة المسابقة التي …
عزفت عن قراءة بقية الرسائل ، وتناولت أوراقاً قصّتها من بعض
الجرائد والمجلاّت ، لتقرأ مجدداً ما كتبه الصحفيون والنقاد عن رسومها
وقصائدها . كانت قد وضعت خطوطاً تحت رأي أجمعوا عليه ، وهو أنها تعبّر بتلك
الرسوم والقصائد عن رغبات أكيدة لديها ، وهي تعترف بذلك . وبحركةٍ انفعالية
أعادت كل ذلك إلى الصندوق ، فقد كانت تحسّ بأنها تكاد لا تتجاوز أبعاد نقطة
لا معنى لها في حياة باهتة .
نظرت إلى ساعتها ، ما زال الوقت مُبكراً على افتتاح معرضٍ لرسومها
الجديدة في صالة الفنون تحت رعاية مسؤول رفيع المستوى . مدّت يدها إلى
مكتبتها العامرة ، لم يكن فيها كتاب لم تقرأه ، ومع كلّ ذلك لم يأت الربيع
على حصانه الأبيض بعد ، فيرحل في تضاريس الصّدر المهشّم ، ويعطي القلب
جرعات الحياة ، وهمّت بسحب كتابٍ ما ، لكنها فضّلت ( ألبوماً ) للصّور راحت
تقلّب ذكرياته .
في هذه الصورة تلعب ( التِّنس ) مع صديقة قديمة ، حصلت على الطلاق
من زوجها الأول الذي أصرّت على أنه زنزنها في إطارٍ محدود الأبعاد . لا
تزال هذه الكلمات في ذاكرتها ، لكنها لا تعرف ماذا حلّ بهذه الصديقة في
زواجها الثاني .
وهذه لقْطةٌ نادرة في المسبح ، ترتدي فيها ثوباً للماء لاصق بجسدها
. هزّت رأسها بالأسف والأسى ، فكيف يتّسع هذا الثوب الآن لجسد فَقَدَ
نحافته ورشاقته ؟ كان الشبّان يحدّقون فيها ، لا تزال ( تعليقاتهم ) عن
مشيتها التي تتراوح بين الرّقص والطيران ترنّ في أذنيها . وكانوا يمتطون
الزوارق المتجهة إلى قلبها أو جسدها . لم يكن من السّهل أن تمنح قلبها
لواحدٍ منهم ، أما الجسد .. فكانت تداويه بالتّمني وصلاة الانتظار .
وهذه الصورة هي الأغلى عندها ، تتوسط فيها ( الشُّلّة ) ، في أثواب
وقبعات سود في حفل تسلّمهم شهادات الدراسة العليا . ( مااسم ابنك البكر يا
مازن ؟ صقر سافر للعمل في بلدٍ أجنبية وانقطعت أخباره ، لو تقابلنا يا صقر
.. فهل يعرف أحدنا الآخر ؟ سوسن تزوجت من محسن ، ولا زالا يدرّسان في
المعهد نفسه. وهذا محمود.آه يا محمود… أما زلت تبحث عن " ستّ بيت " ؟ وهذا
عزّت " الكربوج "،الذي رحل في حادث طائرة . وأنت يا مجد ! .. أشكرك على كلّ
اتصالاتك الهاتفية التي تجريها بين الحين والآخر لتطمئن عليّ رغم مشاغلك ،
ولكن هل أنا السبب فعلاً في أنك ما زلت عزباً ؟ ) .
تذكّرت خصومة لا تزال قائمة بين مجد وبين زميل آخر لمجرد أنه طلب
يدها . كانت تحبّهم جميعاً ، لكنها كثيراً ما كانت تردّد أمامهم بمداعبةٍ
ألِفوها أنها تعيش في زمن لم يأت إلى أحدٍ منهم بعد ، لكن كلامها كان
مقصوداً دائماً .عزّت قصير ، بشّار طويل ، عبد الله فقير ، وفريد عيناه على
غادة . ولهذا كفّ مجد عن مصارحتها بحبّه وأمله في الزواج منها بعد أن رفضت
ذلك أكثر من مرّة بلطفٍ وأدبٍ عُرفت بهما .
بدأت استعداداتها الأخيرة للذهاب إلى المعرض ، دخلت الحمّام ، أسبلت
رأسها على ظهرها ، وأسلمت جسدها مغمضة العينين لحزمة ماءٍ لعلها تهدئ من
غلوائه . وبعد خروجها فتحت باب القفص لتضع طعاماً للبلبل ، لكنها نسيت بابه
مفتوحاً ، فحرص البلبل على ألا ينبهها لذلك ، ثم خرجت تتفقد حديقة الخواء
والكآبة والانطفاء ، لم تكن تتوقع أن تجد القطّة مضطجعة في ركنٍ منها، وهي
تداعب صغاراً لها فرحة بهم ، وهي بين الصّحو والاغفاء . ابتسمت لهم ابتسامة
" جو كندية "، "حتى القطة عرفت طريقها وتركتني " .
امتلأت الصالة بالزوّار الذين كانوا يتنقلون بين اللوحات المعلّقة
على الجدران ، وكانت سعاد تتنقل بينهم أيضاً، يستوقفها أحدهم عند واحدة
منها ، فتشرح له موضوعها ، أو يلتقيها صحفيّ أربكتها أسئلته ، لأنها كانت
تبحث عن مجد بعينٍ خفيّة ، وكان مجد في المعرض فعلاً ، لكنه لم يكن يتفرّج
على اللوحات ، بل كان يتقافز خلفها مستتراً ببعض الزائرين ، وهو لم يكن
يحبّ الرّسم كثيراً . وفي ركنٍ من الصالة وقف بعض النقاد والمهتمّين
يناقشون اللوحات التي اختلفت في مواضيعها رغم مطابقتها جميعاً لعنوان
المعرض .. ( الاكتمال ) .
كان الزائرون مستمرين في التنقل بين اللوحة والأخرى، لكنهم وقفوا
جميعاً ، وتباعاً أمام اللوحة الأخيرة التي لم تضع عنواناً لها ، إذ بدت
لهم أصدق اللوحات . وكانت لبقايا امرأة ، تضغط ثديها بإصبعين ، فتدمع
حلمتُه حليباً دافئاً في فم طفلٍ رضيع
أضيفت في 12/12/2005 / خاص القصة السورية
/ المصدر: الكاتب
دائرة الموت
كانت الدقائق العشرُ الفائتة محرجةً لي ، جعلتْ بعض السيدات
يتساءلن عما يريد أخي وهو يسحبني من ذراعي إلى خارج الغرفة ليخبرني للمرّة
الرابعة أنك تطلب محادثتي ولو خارج باب المنزل .
غريبٌ أمرك ! .. أتظنني في حالة تسمح لي ؟
يلحّ أخي فأضع الشّال على رأسي وأخرج إلى الشرفة على مضض ، أنظر إلى
الشارع وأبحث عنك.
كنت تقفُ وحدك على الرصيف المقابل مستنداً إلى الحائط ، تنظر إلى
سيارتها وتحادثها دون أن تنتبه إلى من ينظر إليك بإشفاقٍ أو بسخرية،ماذا
تقول للسيارة ؟ هل جننت ؟
ثم تراني في الشرفة فتضطرب ، تصرخ عيناك رغبةً بمحادثتي فأومئُ لك
بالصعود . تحدثني لاهثاً ملخبطاً ، أرجوك ألا تتلعثم وأن تتمهّل في الحديث
، وبصعوبةٍ أفهم ما ترجوني به دموعك الحرّى فأحار بما تطلب .
كيف أسمح لك بالدخول لتوديعها ؟ أنت صديق .. صديق حميم ولكن ماذا
أقول لخالتي وبنات عمي والصديقات ؟ وماذا سيقول عمي وزوج أختي وجارنا الذين
يجلسون في الغرفة المجاورة؟
ترجوني كالأطفال .. أضع نفسي في مكانك فأومن بما تشعر به ، وأشفق
عليك ، أحسّ أن تلبية رغبتك هذه صارت حقاً لك في رقبتي ، ستكرهني طول العمر
إذا لم ألبّها لك ولا ذنب لي. ما بيدي حيلة ، وما تطلبه نوع من المستحيل .
ماذا أفعل لأجلك ؟ أكذبُ عليك ، أربت على كتفك وأطلب إليك النزول
ريثما أهيئ فرصةً لدخولك لتودّعها بعد أن أجد حيلةً مقنعةً لذلك .
تبكي بحرقة ، وكطفلٍ مطيعٍ تنزل ، لكنك ربما لم تصدقني فتستدير
ثانيةً وتتلعثم من جديد ، تطلب شيئاً آخر فتخفّفُ العبء عني فأعدك أن
أقبّلها نيابة عنك إذا لم أجد فرصةً لدخولك أنت، وأصدقُك القول بأنني سأفعل
.
أعود إلى الغرفة ، أنظرُ إلى وجهها الأبيض يعكس نورَه على الثياب
السود التي ارتدتها بعض السيدات . أضع يديّ على وجهي وأجهش بالبكاء ، ثم
أجلس إلى حافة سريرها وأضع رأسي على صدرها وأتلعثم في بكائي . تحاول بعضهنّ
إبعادي فأتشبث بها، أضمها إلى صدري وأهوي على وجهها فأقبّله وأقبّله ، أهمس
في أذنها بأن قبلاتي هذه هي رسائلك الأخيرة لها.
يُخيّل إليّ آنئذٍ أنها تعتب عليك ، فلقد فات الأوان ، وأنها تبتسم
ابتسامةً حزينةً ترتسم على وجهها البارد الذي راح يميل إلى الزّرقة .
بعد ساعةٍ نخرج إلى الشرفة ، أنظر بعينٍ إلى نعشها وأبحث عنك
بالأخرى ، أراك تدور حول نفسك يتقاذفك المشيعون .
وبعد عودته يحدثني أخي عن مراسم التشييع والدفن ، يحكي لي عن كل
تصرفاتك بدءاً من ركوبك في السيارة إلى جانب النعش حتى وقوفك بين أهلها لا
في طابور المعزّين .
كل المشيّعين تساءلوا عمّن تكون بالنسبة إليها وأنت تناول قلبك
للحفّار ليضعه وسادةً تحت رأسها .
ثم ينصرفون فتعودُ مع الأهل إلى القبر لتفكّ وِحدتها ، لكنك لم تفلت
من عيني أخي وهو يلمحك عائداً إلى القبر من جديدٍ بعد انصراف الجميع ،
فماذا فعلت هناك وحدك ؟ .
كنتَ من أوائل من جاؤوا إلى بيتنا مساءً وآخر من خرج تقريباً ، مع
توافد المعزّين كنتَ تنتقل من مقعدٍ لآخر حتى جلستَ بين الأهل أيضاً . بعضُ
أقاربنا استغرب ذلك ، وتساءل بعض الأصدقاء عن سبب بقائك بعد انصرافهم .
لم أستطع مجابهة إلحاح عمي بعد انصراف الجميع في أن نتناول بعض
الطعام ، هل أكلتَ أنت ؟ أتمنى لو بقيت لتأكل معنا ، أُجلسك في المكان الذي
كانت تجلس فيه ، وأسكب لك في الطبق الذي كانت تأكل منه ، تأكلُ بملعقتها
وتشرب من كأسها ، ألستَ من أهلها وناسها ؟ .
لقد أمضيت معنا يوماً كاملاً ، كانت سيارتك في شارعنا في أقلّ من
عشر دقائق بعد أن اتصلتُ بك في الثامنة ، لم أسمح لنفسي بعدم إخبارك ،
ستلعنني مدى الحياة..وستكرهني ، لكنك تحضر فوراً وتخفف كثيراً من ارتباكنا
في بعض المسائل والإجراءات الرسمية.
أحاول النوم ليلاً فلا أستطيع ، أبكي من ظلم الحياة لها ومن ظلمها
لنفسها أيضاً ، ثم تخطرُ في بالي وقد كنتَ خير عزاءٍ لها بعد طلاقها ولأجل
حبّها المكلوم .
أشعر بالحسرة ، فشيء في صدري يجعلني أحسّ بأننا لن نراك بعد الآن أو
نسمع صوتك ، فما كان يربط بيننا قد صار تحت التراب ، لكنك ستظلّ ذكرى
غاليةً لنا منها .
كثيراً ما قالت لي إنك كنت تناديها بالغالية ، في كل جملةٍ كنتَ
تقول لها ذلك ، ياغالية هذا صحّ وذلك خطأ ، هذا ممكن يا غالية وذاك مستحيل
.
أسمع أذان الفجر ولم أكن قد غفوتُ بعد ، نستقل سيارتين لتستقبلنا
المقبرة وهي تسلّم آخر خيوط الليل لنهارٍ يصادره ، ننتقل بين القبور فأعرف
قبرها قبل أن أصل إليه حين ألمحك عنده من بعيـد ، يا الله.. هل كانت تستحق
منك كل ذلك ؟
كنتَ تقرأ في كتاب ، أتوقفُ مشدوهةً ، أشعر بالخوف منك بادئ الأمر ،
ثم بالحيرة إذ تنقر قلبي أشياءُ لا أفهمها تماماً .
ثم ترانا فتطبق كتابك وتبتعد ، يتساءل أحد أقاربنا عنك ، ويسألك أخي
عن موعد وصولك .
أقف عند قبرها وأحاول ألا أبكي فلم تكن تحب البكاء رغم أن قلبها لم
يكفّ عن ذلك طوال عمره، ثم أبحث عنك فلا أجدك .
كان مساء الأمس كالمساءين السابقين ، تحضر مع أوائل المعزّين ،
تجلس بين أهلها ثم تنصرف مع الأواخر .
وكان هذا الصباح كالصّباحين الماضيين أيضاً، نصل بُعيْد الفجر فنراك
،أحادثك على انفراد، تذكرُ لي بعض ذكرياتك معها ، ثم تذكرُ آخرَ خصامٍ
بينكما وأنت تترحّم عليها ، أخبرك بأنها ظلّت تنتظر حتى ساعاتها الأخيرة
اتصالاً منك بقبول اعتذارها عن آخر أخطائها معك .
لا تقل لي إنها لم تكن تحبّك ، وإن ما كان بينكما من طرفٍ واحد ..
أنت لم تستطع أن تكشف حبّها لك بنفسك .
كانت تلفظ اسمك باستمرار ، وكلما رنّ جرس الهاتف قبل أن يسكت قلبُها
كانت تتوقع أن تكون أنت ، حتى صارت تتهمك بأنك قاسٍ وعنيد ، لكنها سرعان ما
كانت تعود لتشهد بطيبة قلبك وحنانك .
كان الموت أسرعَ منك فرحلتْ دون وداعٍ بينكما، لكنني قبّلتُها
نيابةً عنك ، صدقني لقد فعلتُ ذلك.
تهزّ رأسك بالأسف والأسى ، ثم تستمطر لروحها الرّحمات بينما أعود
إلى قبرها .
الآن ينتهي كل شيء ، لن نستقبل المعزّين بعد الآن ، ولن نخرج إلى
المقبرة صباح الغد .
يمضي جزء كبير من المساء فيلوح لي طيفك، أتذكّر أنك لم تعزّني بها،
ولم أفعل ذلك معك ، أتوقع أن تكون نائماً بعد عناء الأيام الماضية ، لابد
أن أشكر لك كل ما فعلت وما قدمت ، ولأشهدَ أنك كنت رجلاً متميزاً في حياتها
، خيرَ من وقف إلى جانبها في محناتها الكثيرة ، و آمَنَ على أسرارها إذ
كانت تحكي لك عن مكابداتها ما لم تقله حتّى لي أنا .
كنتَ أوسعَ صدراً لأحاديثها عن حبّها ، و أكبرَ قلباً لمصيرها بعده
و أكثرَ حناناً .
هل أصارحك بأننّي كنتُ أتهمكَ بألف تهمةٍ وتهمة ؟ و إننّي لم أصدّق
أن تكون صديقاً نبيلاً إلى هذا الحدّ ؟ هي نفسها لم تكن تصدق ذلك أيضاً
لكنها كانت تعترف لك به .
لكم تمنت أن تتزوجا ، يخيّل إليّ أنك كنت تتمنى ذلك أيضاً فلستَ
قادراً على عدم تلبية أي رغبةٍ لديها ، لكنك كنتَ صادقاً معها ومع نفسك
بسبب ظروفك المختلفة .
أتصلُ بك فأسمع صوتيكما معاً ، صوتك الحزين المتعب ، وصوت قارئ
للقرآن يصدح في غرفتك، أقدم لك العزاء فتشكرني على عجلٍ وتعتذر عن متابعة
الحديث بسبب ضيف لديك .
بعد يومين يخبرني بعض الأصدقاء ساخراً منك أنك قد فتحتَ بيتك لثلاثة
أيامٍ من أجلها تتقبل فيها عزاء المجانين من أمثالك، تزداد حيرتي فيك وأضحك
رغماً عني معجبةً بجنونك.
نذهب كلّ خميس إلى المقبرة فنجد في تربة قبرها وروداً لم نضعها
.تأخذني الحيرة منك ، كانت تدمي قلبك و يحتضنها ، و تحبّ قلمـك وهو يكتب
إليها، تطالبه بالمزيد و لم تكتب له بيتاً ، و كم خذلت حبـّك و احتفظتَ
بطيوبها ، كانت فجراً لصباحات غيرك و نجمةً للياليهم .
ثم تمرّ أيامٌ أشتاق خلالها إلى صوتك ، أتصل بك كثيراً فلا أجدك في
البيت ، و في مكان عملك يقولون لي إنهم لا يرونك غالباً .
وأخيراً يقولون لي إنك موجود في مكتبك ، لكنك لا تسمح لأحد بالدخول
إليك ، وإنك ترفض المكالمات الهاتفية ، و إنك على هذه الحال منذ فترةٍ
طويلة ، أسألهم عن السبب فيجيبون بأنك.... ميّت .
20/نيسان/2000م
السكّين
ما إن تسدل ستائر العينين الخاملتين ببطء شديد .. حتى تنفتح بسرعة
مذهلة . صحيفة تتماوج بين يديّ . خبر تهتزُّ سطورُه ، تتراقصُ فيها كلمات
لها رائحة الاحتراق .
كيف ذلك ؟؟ ( العثور على سكين حجرية ، يزيد عمرها على ألفي سنة ) ،
حُفرت على نصلها عبارة جعلت قلبي يسقط من أجفاني ، وشوشت عقلي ، فراح يسرح
بأفكارٍ لاأجسادَ لها.
غير صحيح ، فالقدس لنا .. لنا .
ثم تسدل الستائر على نومٍ مضطرب بعد عناء يوم شاق . لنا .. نعم ،
القدس لـ..نا .
أحلام مذهلة تسبح فيها أجنحة الدهشة .. تنتقل بنا إلى أماكن نتحرق
للوصول إليها . أليس هذا هو المسجد الأقصى ؟؟ إي والله ، هو ، لازال يعانق
كنيسة القيامة ، وتعانقه ، تتداخل تضاريس الواحد منهما بالآخر .
ماأعظمك يابيت الله . رفرفي أيتها الروح ، رفرفي والجسد في محرابه
العظيم ، وحول قبتها، حلّقي .. أكثر .. أكثر ..
ماذا أقرأ الآن ؟ عبارة مكتوبة في لافتة بالخط العريض يفهمها الجميع
:
"هنا الشمس .. أرض الحقيقة" .
تتلقفني الاتجاهات . هل أنا هنا فعلاً" ؟؟
كوكب متوهج بالحقيقة المفعمة بالسكون والحركة . سكونه بداية رحلتي
حيث انتهى غيري .
تجولت هنا وهناك . جلست على الأرض مكدوداً" هدني التعب . كان ثوبي
ممزقاً من مكان ما. فهممت برتقه ، إذ عثرتُ بالقرب مني على خيط ، ووجد إبرة
في مكان بعيد داخل كومة كبيرة من القش . لم يكن ادخال الخيط فيها ممكناً" ،
إذ تصاعدت من خرمها أبخرة كثيفة ، مازالت تتباعد وتعلك بعضها إلى أن انقشعت
عن مارد راح يضحك بعنف حين رآني . هرولت على راحة يده في الاتجاهات كلها ،
ضحك مرة أخرى وهو يضعني على الأرض قائلاً :
- ها . أنت جديد هنا إذاً ! ...
ولأنني جديد - ربما - أغلق يديه على لهاثي ، فتحهما بسرعة . ناولني
بطيخة أخذتها منه بيدين تؤديان رقصة خوف ، ووضعتها على الأرض . أوووه ،
الأرض .... التفت إليه حائراً" فلم أر غير ذيول أبخرةٍ تتلاشى .
جلست أتأمل البطيخة . كان لها بابٌ صغير ، ماإن نظرتُ إليه حتى
أنْفتحْ . لم يكن للشمس تأثير على فضولي ، دخلت .. وانصفق الباب ورائي ،
لكنني لم آبه لذلك كثيراً . دلفت إلى الداخل وقفت في طريق كبساطٍ منبسط ،
يفصل بين اللابداية واللانهاية . توغلتْ .. لاأعرف في أي اتجاه ، لم أستطع
أن أخلع عني ثوبَ الخوفِ والوحشة ، فقررت العودة ، لكنني لم أجدِ البابَ
الذي دخلت منه ، مع أنني بحثتُ عنه في الأرجاء كلها .
اقترب مني رجلٌ ، زادت رؤيته في ذهولي ، ماذا يفعل نابليون هنا ؟؟
ألم يدفنوه تحت أسوار عكا ؟ حاول تهدئتي ، سألني :
- هل أنت جديد ؟
تلفّتُ بكل عيوني علّي أجدُ البابَ الذي دخلتُ منه . لم تخف عليه
حالي ، فقال:
- تعال . نحن أصدقاء .
- منذ متى ؟؟
- لاتخف 0 نحن جميعا ً أصدقاء هنا .
سألته بلسان متلعثم:
- أحقا ُ ماتقول؟
- هناك واحدة فقط تسكن في عزلة منا 0 هيا بنا
تعرق جسدي ؛ احسست بشىء من النشوة 0 وصلنا إلى مكان يعج بالناس ،
كلهم متشابهون، وعرفتهم كلهم . قد مني اليهم 0 رحت أتجول بينهم إلى أن سمعت
أحدهم يناديني نظرت اليه بشيء من الدهشة ، كان يلبس قلبقا أسود في رأسه 0
سألني:
- متى جئت ؟
- لاأعرف 0 لم أعد أعرف شيئاً .
- ستعرف كل شيء 0 هنا أرض الحقيقة0 خذ مكانك بيننا ولاتئس أننا
جميعا أصدقاء هنا0
استدار يريد الابتعاد عني ، استوقفته سائلا:
- ألست جمال باشا السفاح ؟
- ليس بيننا باشوات هنا 0 ولست سفاحا كما تقول0
- وتلك المشانق ؟؟
- نحن هنا جميعا أصدقاء .
عم يتحدث هذا ؟ قلت في سري0 وتساءلت عمن تكون ؟ تلك التي تسكن وحدها
0 اقترب مني رجل وقال:
-هي تسكن هناك 0 ولابد انها تتلهف للقائك
كنت أحس خلال سيري باتجاهها ، بأن أحدا ما 00 يتبعني خلسة 0 وصلت
إلى قصر كبير تحيط به الأشجار وتجري من تحته الانهار 0 اجتزت السور حتى
وصلت باب القصر كانت تعلوه نجمة كبيرة تتألف من مثلثين متداخلين متعاكسين
وعلى الباب كان رجل يرنو الي0 صحيح أن رجليّ كانتا ترقصان على ايقاع سريع
حين رأيته ، لكنه ارتعد أيضا حين رآني 0 كان يلهو يغصن أرزة ، يثنيه حينا ،
يضغط ، يحاول كسره، لكن الغصن يقاوم 000 ويقاوم
حياني بأدب جمٍّ مفتعل، ودعاني بحركة لطيفة من يده للدخول 0 دخلت
متتبعا السهام الدالة . تسمرت في ممر ضيق وطويل حين شاهدت في آخره رجالا
يهرولون إلى قاعة ، تبينت حين وصلت اليها أنها خالية تماما ، الأّ منهم 0
كانوا يحملون حقائب غاية في الأناقة، عرفت فيما بعد أنها تحتوي أوراقا
بيضاء خلت الا من تواقيع وأختام 0 وفوق باب القاعة قرأت لوحة صغيرة كتب
فيها (غرفة الانتظار) .
تناهت إلى سمعي حينذاك أصوات احتجاج من وراء قضبان حديدية 0 كانت
تصرخ:
أيها المنزلقون ، تمهلوا00 حاذروا الأفعى، إنها بثلاثة رؤوس ، بسبعة
، سوف تلتهم لسانكم،
حاذروا00 حاذروا00
الغضب الساطع آتٍ اذا0
أسرعت الخطى في دهاليز وزقاقات ملتوية ، هطل السواد في أكثرها0
كثيرا ما أحسست خلالها بأيد تحاول خطفي ، وبعفاريت تريد أن تنتهشني 0 لم
أجد الاّي أتشبث به ، حتى انتهيت إلى غرفة كبيرة ، وقفت أرنو إلى أرجائها 0
سمعت أصواتا في الخارج تقول: جاءت العمة00 وصلت العمة 0 ثم سمعت
صوتا من ورائي أعرفه0 كانت صاحبته ترحب بي على عجل ، بصوت يفور ويغلي0
دعتني للجلوس إلى طاولة مستديرة 0 لم أفاجىء حين استدرت اليها ، وبالأصح ان
شيئا لم يعد يذهلني في هذه الرحلة حين رأيتها 0 إنها هي 00 العمة الشمطاء ،
طويلة الانف 0
ابتسمت ابتسامة تنم على فرح مختلط بالنصر ، ومشوبة بشيء لم أتأكد
منه بعد 0 قالت كلاما مجنونا لاانتماء له ، لايقوله عادل ومنصف 0 قلت
- لو كنت أعلم أنك هنا مادخلت 0
حاولت أن تضمني وهي تقول بدلع واضح :
- ياابن عم 0 تعال نختصر المسافات
ومدت الي يدها للمصافحة 0 كانت تتناهى إلى سمعي وقتئذ دقات طبول
رتيبة 0 ودون أن أمد يدي 00 وباستهزاء قلت :
- ياابن عم ؟ 00 ؟ 000
- تعال نختصر كل شيء0
- والأرض ؟؟؟
قالت بجدية وهي تدير ظهرها لي سائرة باتجاه الباب:
- لنا
علا قرع الطبول ، وبينما كنت أبحث من جديد عن الباب الذي دخلت منه ،
دخل الرجل الذي كان بباب القصر مسرعا 0 قال معاتبا :
- ترفض يدا امتدت اليك ؟ أنت لاتفهم للصداقة معنى
قلت بلهجة لاتقبل الجدل:
- أمد يدي اليوم لكف تطعنني غدا ؟00
غادر الغرفة 0 علا قرع الطبول أكثر ، وجنَّ، لمن تقرع طبول الحرب ؟
تعاقب في لحظة ليل ونهار أسود . وعلى بعد مني رأيت اثنين من أشقائي 0 كان
الاول منهما واقفا أمام مرآة يصلح وضع عقاله وكوفيته ، ويبتسم كأبله ، أما
الثاني فقد بدا منهكا ، يرنو الي وعيناه ترعفان ندما على شيء ناقص قام به 0
قالت لي عيناه:
- أحسنت الدخول 0 وان لن تحسن الخروج ، فتذكر 00 أن الأشجار تموت
واقفة .
ومن وراء ستار قليل الشفافية ، رأيت رجلين آخرين ، الرجل نفسه ،
ورجلا آخر لعله الذي كان يتبعني خلسة 0 كانا يتحاوران في أمر قدرت ماذا
يمكن أن يكون 0 لم أطمئن ، مع أنني وجدت لنفسي مخرجا من كل ذلك . سأبقى ..
سأبحث عن ورودي وعصافيري0 إيه ياطارق00 أُغرقت الزوارق، وأُشرعت البنادق0
تشبثت بنفسي ، وهيأتها لكل ماقد يستجد0
دخل أحد الرجلين وقال :
- سيكون لك ماتريد 0 كل ماتريد 0 وخرج0
تتفاذفني الاتجاهات 0 الشمس كوكب متوهج بالحقيقة المفعمة بالسكون
والحركة 0 أما الحركة 000فهي نهاية رحلتي التي سيبتدىء بها غيري0
دخلت طويلة الأنف مادة يدها للمصافحة ، بينما كانت يدها الثانية ،
واليمنى تحديدا ، خلف ظهرها ، وأكاد أجزم بأنها تخفي بها سكينا 0
خيط الدم
انتظر هذا اليوم طويلاً ، لقد انتهت الرّحلة ، وصار أخيراً في
الطريق. غمرته الفرحة حتى أعماقه ، فانفرجت أساريره . ازداد اتّساع حدقتيه
وشدقيه ، لابتأثير لهيب الشمس العمودية ، وإنما بسبب ما تنهبه عيناه من
مناظر يذكرها ، وأخرى يحاول أن يتذكّرها . بقي خلال الدقائق الأولى في
حالة شكٍّ من أن الحياة قد دبّت فيه من جديد ، مع أن جسده النحيل يعطي
مجرّد إيحاءٍ بذلك ، وظنّ أنها ستكتمل بعد نصف ساعة على الأكثر ، بعد مرور
عقديْن من الغربة والعلقم .
دفعته ذكرياته المتلاحقة إلى الإسراع،حتى إن حنينه اللاّفح سبق
خطواته اللاّهثة.
فجأةً توقف أمام هاتف للعموم ، وفكّر .. ربما كان من الأفضل أن
يسقيهما خبر عودته على جرعات ، وهذا بحدّ ذاته سيخفّف من نار اللقاء التي
اشتهاها ، وما تساءل عن قدرته على احتمال لهيبها .
لا يزال يذكر أبنيةً وشوارعَ وأرقاماً ، بإصبعٍ راجفة .. لامس
أرقاماً تحولت إلى نغمةٍ متقطعة تنقر حاسّة سمعه . ودون جدوى أعاد المحاولة
ثانية وثالثة، … وسابعة . انتظر على الرصيف ، وأشعل سيجارة راح يمجّها
مجّاً غليظاً . تقاذفته الأمواج والأفكار ، والأشخاص والأيام المقبلة .
أعاد المحاولة فسمع صوتاً فتيّاً لم يسمعه من قبل ، جعله يتلعثم ويرتجف ،
يبكي ويضحك معاً . كانت صاحبته قد أطبقت عينيها قبل لحظات بهدوءٍ واسترخاءٍ
شديدين على أحلامٍ ورديّة .
- آلو …
خانته الكلمات . حبس أنفاسه ، لكنه لم يُفلح في جمع قواه . ثم قال
بصوتٍ خفيضٍ متقطع :
- لعلّك أمل !؟..
قالت في توجّسٍ وخوف :
- من يتكلّم ؟
دارت في رأسه أفكارٌ وتلاطمت أمواج ، لكنه حافظ على هدوئه ، وقال :
- لا بدّ أنك أمل . أليس كذلك ؟ ثم أردف :
- كم تمنيت أن أراك قبل أن أموت .
لم تسمع نحيبه لأنها أغلقت السمّاعة بشيءٍ من العصبيّة والقلق .
وحين رنّ الهاتف ثانية تودّد إليها ، قال :
- أرجو أن تسمعيني .
- إذا اتّصلت ثانية فسأجعلك تندم .
وقبل أن تعيد السماعة سمعته يسأل :
- هل السيدة أمينة موجودة ؟
- آه .. إنه يعرفني ويسأل عن أمي . من أنت ؟
اختلطت دموعه بكلماته التالية :
- أحبُّكما . ما بقيت على قيد الحياة إلا من أجلكما .
تماسكت قليلاً ، وحاولت أن تستعيد هدوءها .
- أرجوك . من أنت إذاً ؟
- أظنّكِ في الرابعة والعشرين ، أليس هذا صحيحاً ؟
لم تسمح لصبرها أن ينفد ، لكنها قالت مهدّدة :
- إذا لم تخبرني من أنت فسأغلق السماعة.وصدّقني..لن تسمعني من جديد
.
- لحظة من فضلك . أليس هذا هو رقم بيت عماد ؟
شهقت فوراً ، تحشرج صوتها ، وسألته :
- عماد ! .. هل قلت عماد ؟؟
- نعم . إنني أحضر لكم رسالة منه . خلال دقائق سأكون عندكم .
- رسالة أيضاً ؟ قالت في سرّها متعجّبة .
أحست بدوار عنيف لم تحسّه من قبل، لكن كلماته أعادتها إلى بعض وعيها
. هرعت إلى صورة أبيها المعلّقة على الحائط في غرفتها بعد أن نقلتها من
غرفة أمها منذ سنوات ، ورنت إلى زرقة بحرٍ في عينيه ، وإلى ملامح في وجهه ،
فتذكّرت أياماً لا تنسى.أما هو،فقد اندسّ إلى جانب السائق في سيارة
أجرة،وترك عينيه الجائعتين تلتهمان كل ما تريانه من خلال زجاجها .
لم يرَ جديداً مما رآه من الشوارع والأمكنة . الناس فقط كانوا
يسرعون في مشيهم خلف اللاشيء ، وبدوا له كأنهم لا يعرفون بعضهم بعضاً . دخل
بنايةً لم يغب شكلها عن باله ، لكن باب الشقة لم يكن بهذا اللون .
قرع الجرس ففتحت له صبيّة بان من جسدها أكثر من نصفه ، لكنه رآها
طفلةً في حوالي الرابعة من عمرها ، حملتها عيناه فوراً فوق كتفيه ، وراح
يدور بها ، ويضمّها،يرفعها بكلتا يديه إلى الأعلى، وحين تهبط يأخذها بهما ،
ويقبّلها .
تجرّع وجه الصبيّة دفعةً واحدة ، وكان يرتجف ، لم يجد كلاماً يقوله
. أما هي .. فقد تسلّقته بعينين مبهورتين من " شحّاطته " إلى شعره الأشعثِ
مارّة بغابةٍ كثيفةٍ نبتت في لحيته ، لملمت بعض إشفاق عليه قدمته إليه
بكلمات :
- ليس لدينا شيء نعطيك إيّاه .
همّت بإغلاق الباب ، لكنها تريّثت قليلاً ، إذ رأت بحراً مُتعباً في
عينيه ، وأحسّت أن دمها يندفع فاتراً في عروقها ، لكنه سرعان ما صار حارّاً
، حارّاً جداً . أخفقت في أن تتماسك ، وربما أحسّت أنها خُلقت من غير لسان
، هوت على الأرض مثل ورقةٍ من أوراق الخريف ، فتلّقتها أيادي روحه وجوارحه
. أدخلها البيت ، اتجه من فوره إلى غرفة نومها ومدّدها على السرير ، وراح
يربت على خدّيها بيدين حانيتين ، ويقبّل ربيعها الذي تغلّف بالشحوب . أحس
أن أفراحه التي افتقدها بدأت تعود إليه . وبدأت هي تحسّ بأصابعه تغوص في
شعرها الذهبي الطويل ، وحين ملأ أركان عينيها بكت بحرقة ، فلم يستطع
تهدئتها تماماً ، لأنه كان مثلها ، إذ اشتعلت عيناه بالبكاء كما لم تشعلها
السنون الماضية . ضمّها إلى صدره ، وكاد أن يعصر رأسها فيه وهو يشمّ
رائحتها التي لم تفارق أنفه يوماً .
ثم سألها عن أمها ، فقالت بصوتٍ مخنوق :
- هذا موعد وصولها تقريباً . إنها تعمل في مكانٍ قريب . ولكن …
فغر عينيه وقال :
- ولكن ماذا ؟
- لا . لا شيء . لماذا لم تخبرنا عن قدومك ؟
- أنت مضطربة . ما الأمر ؟
- لا شيء صدّقني. إحك لي بالتفصيل ، كيف هوت بكم الطائرة في البحر ؟
تسائل بينه وبين نفسه عن أي طائرة تتحدث ثم قال لها :
- لم تجيبي عن سؤالي .
- قل لي أولاً ، كيف نجوت ؟
حين همّ بمتابعة الحديث فُتح الباب ودخلت الأم ، فركضت أمل باتجاهها
، أذهلتها رؤيته فوراً ، وانفغر فاها رغماً عنها ، مع أن روحها سُرّت
لرؤيته . كانت تحبّه ، ولم تشعر يوماً أنها أحبت أحداً من بعده . وضعت يدها
على صدرها وشهقت غير مصدقة :
- عماد ! .. ؟ ..
تقدم منها فاتحاً ذراعيه ، فأسلمت رأسها إلى صدره ، ولم تتمالك
نفسها فانهمرت دموعها مطراً سخيّاً حُلواً ومالحاً ، سرعان ما اختلط بما
جاشت نفسها به من منخريها . ثم تذكرت فجأة شيئاً في هذه اللحظة ، فارتدَّت
عنه ببطء ، وابتعدت قليلاً . وقالت :
- لقد فقدت كلّ أمل بعودتك .
قال مبتسماً :
- وها قد عدت .
قالت في سرّها بلهجة مضطربة :
- يا إلهي ماذا أفعل الآن ؟ ثم قالت له :
- كيف أمضيت هذه السنين ؟
- إنها قصة طويلة،طويلة.لن نحكي عنها الآن، فلا تحرماني لذّة هذا
اللقاء .
ثم أردف يقول :
- سنحكي عن أيامنا المقبلة .
- أيامنا المقبلة ؟ قالت في سرّها .
تبادلت الأم وابنتها نظرات حيرى ، ومانعت الأم أن يضمها من جديد ،
فأحسّ بغصّةٍ في قلبه ، وبأن القدر لم يكمل سخريته منه بعد ، وبدأت فرحته
تتلاشى ، بينما ارتسمت على شفتيه ابتسامة ميتة ، وعلى وجهه أسئلة يبحث عن
أجوبةٍ لها .
انفتح الباب الخارجي ، ودخل منه رجل يعرفه تماماً ، جعل دمه يضطرب ،
وعينيه تتطاولان . هرع إليه ضاحكاً باكياً مشوشاً ، أخذه بين ذراعيه وقال
مندهشاً وفرحاً ، ومتسائلاً معاً :
- لا أصدق . أخي معين ؟؟! ..
كان أخوه في حالة ذهول أصابه لرؤيته ، توقف قلبه مشدوهاً ، لكنه
سرعان ما اتّحد فيه بكلّيته ، وامتزجت دموعهما ببعضهما بعضاً ، ثم جلسا ،
تعتمل في قلب كل منهما سخرية الزمن .
كان عماد ينقل عينيه بين الجميع،تلهّفت أذناه لسماع ما أخبره قلبه
عنه ، فلقد كانت مساماته تشعّ أنيناً مكبوتاً ، وأسئلة كثيرة أخرى ، أما
معين فقد كان ينظر من خلال ستائر عينيه المسدلة . ثم راح الأب يرنو إلى
ابنته بعينين واهنتين نائستين ، وكانت هي تنظر إلى زرقة بحرٍ هاج في وجهه ،
وتتمسك بأمواجه المتلاطمة . أما أمينة … فقد كانت تنظر بقلبها الحائر إلى
الأخوين وهما يتدافعان معاً نحو الباب الخارجي والدم يختلج في قلبيهما ،
وقد أمسك كل منهما بقبضة الباب بيدٍ متعرقة مترددة ، في حين كانت عينا معين
تخاطبان أخيه قائلة له :
- أخي … لو كنت مكاني ؟؟ .
جدران الصمت
تفتّحت الحياة في صدرها المتلهّف ، وأفرد عمرها جناحيه للكلام ، لكن
الكمان لا تصدر أصواتها دون وتر .
السّاعة تدق ، وقلبها يرفّ . يشتدّ خفقه عند الخامسة مساءَ كل يوم ،
وتتّسع حدقته . تختلج ، تذوب في بعضها ، وداخل الزمان والمكان تطير في
أبعاد لا نهائية . نشوةٌ حلوة جعلتها ريشة يحملها الأثير يوم رأته أوّل مرة
، يومها ولدت شجرةٌ باسقة .
السّاعة تمشي بصمت بينما تتسارع رفّات القلب ، وتتسارع أكثر حينما
تراه ، فيهجرها النوم . تحسّ مع دقّات الساعة بالعطش ، فتخرج متلهفةً إلى
الشرفة لتسقي الورد .
خرج للتّو. جلس على كرسيه في الشرفة الخالية إلا منه ، في بيته
المقابل الذي سكنه مؤخراً، ويفصله عن بيتها شارع عريض ممتلئ بالدكاكين
والسيارات العابرة ، ويتوسطه رصيف انتصبت فيه أعمدة النور .
بدأ يرتشف القهوة كعادته ، ويحدّق في أوراق غير عادية ، تشبه
الخرائط كما كانت تظنها ، وكلما سنحت له الفرصة 000كان يختلس النظر إليها
وهي تسقي ورودها المزروعة في أصص مصفوفة بشكل متناسق .
تساءل بينه وبين نفسه :
- " هل تفكر الصبيّة بما أفكرّ فيه ؟ وهل تقبلني بما أنا عليه ؟ . "
كانت تحدّق في وردة أطل منها قمرٌ يضيء ظلام الليل ، ورجولة تحيي
ربيع القلب انساب الماء بارداً وممتزجاً بالتراب بين أصابع قدميها
الحافيتين فارتعشت ، وتساءلت أيضاً :
-" كيف الوصول إلى تلك الشجرة ؟. "
جدار وهميّ ينصّف الشارع ، والمسافة شاسعة . كلاهما يحرص على دوام
ذلك البعد بينهما وإن تلاقت النظرات صدفةً فإن الواحد منهما يشيح بوجهه عن
الآخر عمود النّور بين الشرفتين داليةٌ يتدلّى منها فانوسٌ بلوري فراشتان
تطيران على جانبي ضيائه الساطع الحار ، كل في مجالها ، فالكبرياء حاجز
يمنعها أن تطير في مجال الأخرى ورْفّ عصافير يطير نهاراً بين الشرفتين جيئة
وذهاباً ، دون أن يحط على إحداهما .
مرّت أيام قليلة 0 كانت في الشرفة ، أحست بسرور بالغ وهي تنهزم
أمامه حين انفلتت من شفتيها ابتسامةٌ خفيفة سرعان ما ردّ عليها بشعور واضح
بالثقة والنصر 0 00 بإيماءة من رأسه .
الفراشة تكفّ عن الطيران داخل نفسها بحثاً عن شيء وجدته في الأخرى
فصارت تطير إليها أهو الحبّ ؟ ذلك الطفل الصغير الذي ظهر فجأةً واستأثر
بالقلب والعقل ؟ .
يتغيّر الزمن لديه .
صارت تركض قبل الخامسة خلف فراشات تحلّق بين الأزهار داخل حديقة
عينيه ، بينما يسير بين خصلات شعرها الفاحم ، حيناُ وفي دروب معبّدة في
جسدها الممشوق أحياناً أخرى ، دون أن يقول كلمةً واحدة .
- "بدأتُ أستقبل الحياة 0 لابدّ أن كلاً منا قد خلق للآخر 0 أفتح
جميع النوافذ ، وأشمّ عبق الحياة من الياسمين في شرفته ، ومن (الخميسة)
التي لوّنت جدرانها بالأخضر ، ومن الورود في أصص وزّعها في شرفته بشكل لافت
لنظري" .
كانت وحيدة في البيت ، تقف في مكان تراه منه أدارت قرص الهاتف :
"أترى صوته يشبهه؟". ألحّ الجرس برنينه ، لكنه ظلّ يحدق في أوراقه أعادت
المحاولة مرّات ومرّات في الأيام التالية ، وفي الظروف نفسها ، دون تغيير
في موقفه . "يتجاهلني عن قصد" . دهمها شعورٌ بالمهانة ، فقررت أن تستردّ
قلبها . لم تعد ترى إشارات يديه، وابتسامةً لازمت شفتيه ، حتى قمصانه
الملونة التي صار يرتديها .
تضطرب الشرفة أمام جدار أعادت بناءه بينهما لم تُجْد الإشارات
والابتسام نفعاً ، حتى بان عليه انتصارها ونفاذ صبره . وبعد أيام أجابته
بالنفي عن سؤال وجّهه بيديه حول إذا ما كانت خاطبة .
رقصت غرفة الضيوف فرحاً ، فهي تستعدّ للقاءٍ بينه وبين أبيها الذي
أخبرها عنه استقبلهما الأب ، هو- وفي يده صحيفة مطوية - ووجيهٌ من الحارة
شفف المطبخ بها وضعت (ركوة) القهوة على نار مضطربة ، وكانت تسترق السّمع
كلما استطاعت تملّكها شعورٌ غامرٌ بفرحٍ ينطلق من أعماقها 0 لبست (الطّرحة)
، رقصت وهو يخاصرها ، واكتحلت عيناها بالغوص في أعماق تلك الحديقة فتنهل من
جمالها الأخّاذِ .قال لها كلمات " ليست كالكلمات " ، تأبّطت ذراعه ، ومالت
على كتفه وهما يغادران الصالة إلى شهر العسل ردّ على المهنئين ، وهمس في
أذنها كلاماً جعلها تحبه وتحب الحياة معه وهدهدت لطفل جميل ملأ البيت فرحاً
وأملاً ، كان يغني لهما دائماً 000أجمل الأغنيات .
طافت (ركوة) القهوة ، قدمتها للضيوف . ودّعهما الأب وهو يرجو الله
أن يقدم ما فيه الخير .
حكى الأب لها قصته كاملةً . باغتها أمرٌ لم تكن تعرفه عنه ، فهبّت
ريح قوية نالت من قلبها وعقلها معاً ، ومن الحياة الباقية التي لم يمض منها
غير تسعة عشر ربيعاً اضطربت رؤى التلهّف ، وخطرٌ غلّف الزمان والمكان 0
أعاد الأب القصّة ، ومع أنه ترك القرار كلّه لها ، فقد نبّه إلى تردده
بالموافقة ، وناولها الصحيفة . قرأتها ، فتغيّر الزمن لديها .
القلب يرتعش أمام دقات الساعة ، ورودها بدأت بالذّبول ، وبدت
الفراشتان مضطربتين حول عمود النور من جديد ، حتى العصافير في طيرانها .
قالت لها البصّارة :
- أمامك طريقان .
في أي منهما تسير والسّير في أيسرهما صعب ! ؟ لم يرحم الأب اضطرابها
، ولا الأقارب والصديقات بعد أن عرفوا قصّته كاملةً ! .. فتحت الصحيفة من
جديد ، نظرت إلى صورته في إحدى صفحاتها وقرأت عناوين عريضةً تتقدم تحقيقاً
صحفياً عنه .
- ( شابّ يعيد الحياة لمعمل كامل بخبرته الفريدة ) .
-(صاحب المعمل يلغي طلب استدعاء خبير أجنبي لإصلاح عطل معقد في إحدى
ألاته) .
- ( ………) .
تضاءلت الفجوة بين الواقع والحلم . إنه يشارك في الحياة لا يتفرج
عليها ، ازداد إعجابها به ، وانطلقت فرحةٌ من أعماقها ، فالحياة معه لن
تكون سدىً . " سأكون سعيدة، سأكون معه خارج جدران الصمت " فقرّرت ، ولبّى
عقلها وقلبها النداء .
- "أورقت الحياة طفلاً تحققت مع مناغاته كلّ أحلامي . لم يكن يغنّي
له ، بل كان يداعبه كثيراً ، كثيراً جداً . أما أنا …فلم يقل لي كلمةً
واحدة في حياته ، ولم يهمس في أذني مرّة .
اعتدت محادثته .. وأحببت لغته الجميلة التي يحادثني بها ، بالإشارات
.. وبالعيون .. بأي طريقة .. إلا النطق" .
نيسان / 1995
قبِّلني
رغم الرّطوبةِ والعفونة ، ورغم رائحة البول النافذة ، وقف إلى أحد
الجدران يرسم عليه وجه طفلٍ بقطعةٍ من الطّبشور وجدها مرميّةً إلى جانب
بقايا شمعةٍ في ركنٍ من الزنزانة .
كان رجراجاً في وِقفته ، محكوماً بسطوة المكان. لكنه أكثر انسجاماً
مع تعاقب الحياة بعد أن استعاد شيئاً من قوّتهِ وبدأ بالتكيّف مع ما هو
عليه .
وهادئاً ... إلاّ من إحساسٍ ممزوجٍ بالغضبِ والقهرِ اللذيْن ينهشانِ
من صدره .
وكانت الزنزانة مكاناً لا يعلم إلاّ الشيطان ما يدور فيه . ضيّقةَ
الأفق ، تحتلّ مصطبةٌ طينيةٌ نصف مساحتها ، ويخترق شعاع ُ شمسٍ رفيعٍ فتحةً
صغيرةً في سقفها فيبدّد قليلاً من ظلامها ، فإذا غاب تتخذ الظلمة أمام
عينيه شكل دوائر هلامية تتداخل حينا إلى أن تتوحّد ، ثمّ تتباعد وتتناثر
حتى تتجمّع من جديد .
وكان ذلك أهون عليه من رؤية السّجّان ذي الهيئة الغليظة ، الذي
تدلُّ ملامحه القاسية على أن الشّفقة لم تدخل قلبه يوماً .. وأجمل من
طريقةِ وضع الطعام والماء اللذيْن بدأ يحضرهما له صباحاً منذ أوّل الأمسِ
حين أودِع الزنزانةَ فبدأت الحياةُ تفلت من يديه ثانيةً بعد ثانية ، ومن
تعليقاته التي تجعل العرق السّامّ ينـزّ من مساماته فتأكل جسده .
طوال اليومينِ الماضيينِ كان يدور على غير هدىً ويقول للجدرانِ إنه
بريء ، ويتساءل عن زوجته التي صرخت في قاعة المحكمة حين تصلّبَ كالحديدِ
الساخنِ وهو يوضع في الماء الباردِ بين أيدي رجال الشرِطة ِ الذين اقتادوه
إلى هذه الزنزانةِ بأنها ستثبت براءته. ذلك جعله فاقدَ القدرةِ على النوم،
فإذا نام مرغماً فإنه يكون غير قادرٍ على الاستيقاظ .
والوقت لا يزال يمرُّ بطيئاً ، ويمتدّ في نفسه عذاباً أكثر وخزاً من
أيّ شيء ، إذ تخيّل أكثر من مرّةٍ عدّة رصاصاتٍ تطرّز جسده أو حبلاً يلتفّ
حول عنقه .
دخل السّجّان كعادته يحمل له الطعام والماء ، فراحت تغلي في نفسه
خواطر محمومة ، وفي دماغه صورٌ مجنونةٌ جعلت ملامحه الرّقيقة لرؤيته أكثر
عنفاً .
- تبدو هادئاً اليوم . قال السّجّانُ بغلظة ، وباللهجة نفسها أردف
يقول :
- الأفضل أن تبقى كذلك دائماً .
أثارت هذه الكلمات في داخله زوبعةً وإعصاراً جعلاه يهمّ بالصّراخ،
لكنّ رعباً خفيّاً أوقف الصّرخة في حلقه .
- أنا بريء . لستُ القاتل .
- هذا ما يقوله كلّ المجرمين .
نظر السّجّان إلى الصّورة فسأله :
- ما ذا ترسم ؟
- ابني الذي لم يولد بعد .
فقال السّجّان دون اكتراث :
- هل تدخّن ؟
وأخرج من جيب سترته علبة سجائره وعلبة كبريت وضعهما على المصطبة ،
وهمّ بالخروج حين كان السّجين يسأله :
- هل تعرفُ متى وكيف ستكون نهايتي ؟
فردّ السّجّان بطريقةٍ لم تخلُ من بعضِ اللباقة والهدوء :
- اهتمّ بنفسك ، وكن شجاعاً دائماً .
- هل يمكن أن أطلب منك خدمة ؟
- اطلب ، ولكن دون أن أعدَك بشيء.
فقال :
-هل توجد طريقة لإحضار زوجتي ؟
لم يردّ السّجّان ، وانصرف مبتسماً بطريقةٍ هازئة .
بدأ الظلام يحتلّ الزنزانة ببطء ، في هذه الأثناء سمع وقعَ أقدامٍ
غير معتاد ، نظر من شبك النافذة الحديديّ فرأى وجه ضابطٍ جاء لتفقده وجزءاً
من وجه السّجّان ، ثم تواريا عن النافذة والضابط يهمس في أذن السّجّان
كلاماً غير مسموع .
فوجئ مساءاً وهو يكمل رسم الصّورة على ضوء الشّمعةِ بصوت المفتاح
يدور في القفل قبل أن يدخل السّجان وخلفه امرأةٌ شابّةٌ لم يخلُ وجهها من
مسحةٍ من الجمال .
قال له السّجّان بصوتٍ خفيض :
- يمكنك أن تمضي ساعةً معها . ساعة واحدة، مفهوم ؟
ثمّ خرج .
نظر إليها مشدوهاً ، أما هي فقد كانت تنظر إليه بإشفاق .
كانت ترتدي ثوباً أبيض وتلفّ رأسها بشالٍ من اللون نفسه . ساد
الصّمت بينهما لحظاتٍ طويلة قبل أن يشير إلى المصطبة ويدعوها للجلوس ، وبعد
أن جلست رفعت الشّال عن رأسها ، وفاحت منها رائحة عطرٍ رخيصٍ تسللت إلى
أنفه رغم الروائحِ المنتشرة .
كانت هذه المرأة مركباً صغيراً من المراكب التي أُفلت رباطها وضاع
وسط بحرٍ تتقاذفه أمواج الرّذيلة .
- لماذا أنت هنا ؟ سألها ، فأجابت :
- أحضَروني إلى هنا لا أعرف لماذا . كنتُ في الشّارع .
- أقصد لماذا أنت هنا .. في زنزانتي ؟
فقالت :
- رئيسة سجن النساء طلبت مني أن أحضر مع سجّانك .
نظر إلى شعرها المنهمر على ثوبها الأبيض فبدا له مغرياً لأنه أكثر
إظلاماً من الفضاء الذي يحيط به .
ناولها سيجارةًَ وهو يعتذر لها عن ضيافةٍ لا توجد لديه ليقدّمها
إليها، أشعل عود ثقاب فبدا وجهها أكثر إشراقاً . ثمّ قال :
- ماذا يجبرك على المجيء ؟
- لم يجبرني أحد . تبرّعتُ من تلقاء خاطري.
- لماذا ؟
فتنهّدت وقالت وهي تمجُّ من السيجارة كما لو أنها كانت تجلس مع أحد
زبائنها :
- لأنهم قتلوا حبيبي في السّجن دون أن أراه .
ساد الصمت من جديد ، ثمّ جلس إلى جانبها وسألها أن تحكي له قصّتها ،
فمدّت يدها إلى الزّرّ العلويِّ لردائها وهي تقول :
- بدأ الوقت يمرّ .
لكنّه سرعان ما وضع يده على يدها ومنعها من ذلك .
فقالت وهي تخفض رأسها :
- الوقت يمرّ !...
وضع يده تحت ذقنها ورفع رأسها إلى الأعلى فرأى في وجهها عينين
مغدورتين مظلومتين. وسألها من جديد :
- ما حكايتك ؟
فسألته قائلة :
- ما هو جرمُك ؟
فقال :
- أنا بريء . استنفدتُ كلّ ما لديّ من البراهين .
- ومحاميك ؟
- رمى آخر ورقة في يده ولم تثبت براءتي .
وتابع يقول بانكسار:
- كنت أرى في وجوه القضاة أنهم قرّروا مسبقاً أنني مجرم.
وأعاد سؤاله :
- وأنت ؟؟
نظرت إلى وجهه فرأت فيه عينين لامعتين منكسرتين، وقالت:
- ليس لديك الوقت الكافي .
ألحّ في الطلب ، فقالت :
- أحببتُ رجلاً وعدني بالزّواج ، فأخذ طهارتي ورماني .
- أتخافين الموت ؟
دهشت لسؤاله ، ظنّت أنه يعرف مصيره القادم بعد ساعات .
ومنعها ثانية من فكّ زرّها العلويّ ، فنهضت واتجهت صوب صورة الطفل
ووقفت أمامها كتمثالٍ جميل ، راحت تتأمل الصورة ملياً قبل أن تسأله عنها ،
فقال :
- إنها صورة ابني الذي لم يولد بعد . هل تقولين له يوماً إنني كنت
بريئاً ؟
وضعت يديها على وجهها ، وبكت . فنهض إليها وأحاطها بساعديه فاستدارت
إليه وأخبرته وهي تضع رأسها على صدره أنها أجهضت أوّل طفلٍ حَمَلتْه .
- أنتِ حلوة . خسارة أن يضيع جمالك وسط تلك الأمواج .
فقالت وهي تنشج في بكائها :
- كانت لديّ مُثُلٌ وأحلام ، لكنّها سُحقت جميعاً .
ضغط رأسها على صدره ، فسألته :
- هل أنت خائف ؟
- سأذكرك دائماً ، فلن تطول إقامتي هنا .
فبكت من جديد وهي تمدّ يدها إلى الزّرّ العلويّ في قميصه وتفتحه،
ثمّ قالت :
- الوقت يمرّ بسرعة !..
ضغط بيده على يدها وأبقاها على صدره إذ أحسّ بدفءٍ لطيفٍ أنساه أكثر
مما هو فيه ، ثمّ قال :
- أرجوك ، لا أريد أن أزرع بذرةً سيّئة .
ثمّ راح كلّ منهما يداعب بيده شعر الآخر ونظراته تتغلغل في وجهه ،
وضمّها بعنفٍ إلى صدره ، وكذلك فعلت هي ، ثمّ أخذت رأسه بين يديها وقالت:
- إذاً قبّلني .
فنظر إلى وجهها مليّاً وراح يعبّه جرعةً جرعة ً خلال فترة صمتٍ
طويلةٍ ما لبثت أن قطعتها خطوات السّجّان .
ت2/2000م
أنا ... وصديقي بـــاش
آااااخ ........
فأسند ظهري إلى جذع كرزةٍ و أنظر إلى آخر المدى .
أقلّب أحلامي فلا أعثر على واحدٍ يرفرف بأجنحة من ضياء يملأ النفس
نوراً ليطرب الفؤاد .
هكذا أمنياتي ..تتحوّل كلّها إلى هباءٍ تذروه الرّياح .
من بين برقٍ و رعدٍ تومض غيمة في مساء يجيء من طين حزين، تثقبه
حبّات مطر تنهمر خفيفة من خلف ستائر السماء فتثير غباراً تفوح منه رائحة
الأرض.
أودّع الأشجار في ثوبها الأخضر ، تلوّح لي شاكرةً كلّ قطرة من عرق
الجبين سقيتها بها منذ زرعتها .
أجرّ جسداً ضعيفاً في طريقي إلى غرفتي الصغيرة قرب باب المزرعة ،
ملأته القروح و استحكمت بهيكله الهزيل العلل ، لا أرى غير قدميّ الثقيلتين
.
أتفقده في بيته الخشبي الصغير و لا أجده . لقد أحضرت له هذه المرّة
وجبة دسمة أرسلتها له السيدة ، لا تزال بقايا لحم يشتاق إليه منذ مدّة
عالقة عليها .
أرمي ما بيدي أمام بيته و أنادي :
- باش .. يا باش . .
أدخل غرفتي ، أغسل صحن عشاء الأمس لآكل فيه . ثمّ أسمع حركته ،
فأخرج إليه ضاحكاً لأنني أعرف من أي مكان جاء .
كان قاعياً أمام بيته الذي تلفعه فيه شمس الصيف و يقرصه برد الشتاء
، يشمّ العظمة فيخيّل إليّ أنه سيخبئها إلى يوم أسود، و ما أكثر أيامنا
السود معاً، لكنه يركلها غير عابئ بها.
إنه ليس جائعاً بالتأكيد ، فعدا عن جسدها .. فإن صديقته في المزرعة
المجاورة تقدّم له كل ما تسرقه أو تصطاده.
أقرفص أمامه ، أمسح فوق رأسه و أمازحه :
- تبدو مسروراً يا باش ، يجب أن تجلد مائة جلدة .
يهرّ فيّ كأنه يضحك ، ثم يهز رأسه محولاً هريره إلى همهمة أفهم
معناها . فهو مثلي ... لا يزال يهوي على ضفاف أحلام وصلت إلى مرافئ جريحة .
في هذه الأثناء كان ابنه الصغير في غرفة السيدة بعد أن خرج زوجها
إلى سهراته الماجنة . إنه أحسن حالاً منه ، فهي تدلّله منذ طفولته و تحرص
عليه ، تمشّطه و تغسله بالماء و الصابون ، و تطعمه لحماّ حقيقياً لقاء ما
يقوم به من مهمّات خاصة درّبته على القيام بها .
هكذا كان الجدّ حتّى كبر فرمته السيدة في البيت الخشبي الصغير إلى
أن قتله السيد حين لم يعد قادراً على القفز من سطح بنايةٍ إلى سطح بنايةٍ
مجاورة.
كان باش يحفر باحثاً عن شيءٍ لا يجده ، وكان ينظر في الوقت نفسه إلى
المزرعة المجاورة التي يسمع منها بين الحين والآخر نداءً لا أسمعه ، لكنه
يجعلني أعرف ما يجول في خاطره ، فأقول له :
- إيّاك يا باش . إن من تعرفه أحسن ممن تتعرّف إليه . إذا ذهبت
سيقول عنك السيد ما قاله عني يوماً، سيتّهمك بالخيانة .
يهرّ فيّ ثانيةً بطريقة مختلفة ، فأقول :
- معك حق . الجوع طريقٌ للرحيل .
يتحول هريره إلى نوعٍ من الزّمجرة ، أربت على رأسه و أدغدغ رقبته
قائلاً :
- أعرف ... أعرف يا صديقي . لقد خدمتَه و كنتَ له مخلصاَ وفياَ ،
وفي رفقته كنتَ عيناَ متربّصة ، ولم تتمسّح بجوخه يوماً .
ثمّ أردفُ قائلاً :
أما أنا... فتعرفُ أني كنتُ شريكاً له في أحزانه ومغتبطاً في
أفراحه. ألا تذكر؟ وفي النهاية كما ترى .." العشا خبّيزة " ، أو بقايا من
مائدته التي أترك لك ما فيها من عظامٍ إذا وُجد .
وأتابع قائلا :
- أقول لك سرّاً لا تعرفه ياباش ؟.. حين استولى على المزرعة كُنت
على موعدٍ بأن نكون شركاء فيها ، حتى لو كان هو السيّد وأنا مجرّد عامل.
لقد قتلتُ نفسي منذ ثلاثين سنةً يا باش حين حوّلني إ لى مجرّد أجير
لا يعرف ماذا عليه أن يفعل. لم أكن أطمح إلى شيء ، ولم تكن لديّ أحلام .
لكن .. أكثر من مجرّد خادمٍ على كلّ حال .
يكاد باش يبكي لحالنا معاً ، فأخفّف عنه :
- اصبر ياباش . قدرُك أن تُسرع خلف قمامةٍ أنقلها من البيت آخر
النهار لأرميها خارج المزرعة ، تحشر أنفك فيها باحثاً عن عُظيماتٍ أو عن
علبةٍ من التَّنَك لا تزال رائحة لحمٍ تفوح منها . ولهذا تضطرّ للقيام
بأعمالٍ إضافيةٍ، كأن تسرق عصفوراً رماه صيّاد أو تكمن لجرذٍ في مكانٍ ما .
يرنو إليّ بعينيه المستديرتين خلال فترة صمتٍ سادت بيننا ، يسحرني
بريقهما الذي لا يخلو من بأسٍ ومراوغة . كان كأنّه يسألني عما أفكّر فيه
هذه الأثناء.
- ليتك تفهمني يا باش. إنني أتسائل فعلاً : أيّنا هو الآخر ؟.
ثمّ يهدّني التعبُ ويخزُني النُّعاس ، فأنبّهه:
- كن يقظاً يا باش .. مزرعتنا صارت محفوفةً بالأفاعي والخناجر.
أدخل غرفتي معتمداً على مابقي لديه من الشّجاعة والذّكاء ، إذ لا
تمرّ عليه حيل اللصوص السّود ، لكنّني خائفٌ عليه ، فهو لم يعد قادراً
أيضاً على الهجوم وحده .
أخلع جزمتي ، أرمي جسدي المنهك فوق طرّاحةٍ مددتها على لوحٍ خشبيّ
منذ ثلاثين سنةً أو ما يزيد .
وسط صرصرةٍ تنبعث من هنا ونقيقٍ يأتي من هناك.. أنام . أظنّني لم
أغفُ تماماً ، فلقد كنتُ أسمع من وقتٍ لآخر عواء ذئبٍ بعيد.
يباغتني السيد بعد جهجهة الضّوء . أنهض واقفاً من أوّل ركلةٍ من
رجله وهو يصرخ قاذفاً إيّاي بأقذع الشتائم المصحوبة برائحة خمرٍ نافذةٍ
تفوح منه.
- إنهض أيّها العجوز المترهّل ..لا يكفيك نوم النّهار . بابُ
الحظيرة مفتوحٌ وأنت تشخر .
ألبس حذائي - أو ما يمكن أن أسمّيه حذاءً - كيفما كان . أخرج مسرعاً
باتّجاه الحظيرة تسبقني أقسى كلماته التي يذكّرني في بعضها بأنّ لحم كتفيّ
الهزيلتين من خيره ، ويشير في بعضها الآخر إلى أنّ نهايتي في هذه المزرعة
قد اقتربت بطريقةٍ أو بأخرى ، إذ قال لي أكثر من مرّة :
- ابحث لك عن مكانٍ يطعمك ويؤويك .
كان باب الحظيرة مفتوحاً فعلاً ، ربما نسيتُ أن أتفقّده بسبب التعب
و النعاس ، أو بسبب أشياء أخرى. أما الحظيرةُ فقد كانت قائمةً وقاعدة .
أجول بعينيّ بحثاً عن باش ولا أجده, بل أرى في الأرض بقعاً من دمٍ متخثّر
.
أغلق الباب و أخرج متلفّعاً بتقريع السيّد الذي يتبعني مترنّحاً .
ثمّ يلتقط السيّد حجراً ويقذف به جسداً يصرخ من عمق أعماقه إذ يصطدم الحجر
به . إنه صوت باش . أركض متتبعاً استغاثاتٍ يطلقها آهاتٍ مجروحة .
بين العشب كان جسده متوحّلاً، وكان وجهه ملطّخاً بالدّماء , وكذلك
كانت مخالبه ، وإلى جانبه يرقد ذئبٌ ضخمٌ لفظ أنفاسه .
أساعده على النّهوض، أبحث عن السيّد ليكافئ البطل الذي ظنّه السيّدُ
نائماً . لعلّ السيّد قد دخل غرفته إذ أرى الكلب الصّغير يخرج منها بعد أن
أمضى فيها ليلةً لزجة .
- أصيل يا باش .
أقرفص أمامه وأضمّه . أخلع قميصي الدّاخليّ الوسخ وأضمّد جراحه .
تتحرّك عواطف أحدنا نحو الآخر ، وتتمايل تأثّراته مجسّمةً نظراته كلاماً
متعارفاً بين البشر ، وأنظر إليه لأجد في عينيه الذّليلتين دمعةً حرّى .
لا تنظر إليّ هكذا يا باش .
يزمجر غاضباً ، فأحاول تهدئته :
يكفيك أنك لا تلعق اليدين اللتين تضغطان حول عنقك .
ينظر إلى المزرعة المجاورة ليرى صديقته اللطيفة إلى جانب سيّدها وهو
يمسك بفرخٍ من السّمك يلوّح له به .
- تماسك يا باش . لا يغريك أنّ ذلك السيّد كان يرمي لزميلك قبل أن
يُقتل في ظروفٍ غامضةٍ رأس دجاجةٍ كاملاً ، أو قطعةً من لحمٍ يكاد أن يفسد.
إيّاك يا باش.. " زيوان بلدك ولا قمح الغريب".
يشيح بوجهه عن السّمكة أكثر من مرّة ، يتردّد، ينظر إلى الأرض التي
يقف عليها تارةً ، و أحياناً إلى السّمكة .
ثمّ يجهش ببكاءٍ مرٍّ وهو ينظر إلى الأرض للمرّة الأخيرة . أرجوه
وهو يهرول باتجاه السّمكة :
- لا تتركني يا باش !..
ثمّ أصرخ و أنا أزرّر حذائي ناظراً إلى الأشجار:
- اصبر يا بااااش ...." زيوان بلدك ولا قمح الغريب يا باااااااااش"
.
لكن الجوع كان أكبر من كلماتي .
آب 1999م.
رجــلٌ يخــافُ النــوم
1- ريــاحٌ ونبيــذ:
كان القمر متوارياً خلف سحب داكنة ، تتلاعب بها ريح قوية جعلت مدرّس
التاريخ يضع بطانية على ظهره وهو يجلس وحيداً إلى طاولته أمام نافذة غرفته
الضيّقة التي تئنّ معه بديمومة الخوف 0
وكان – وهو يرشف من كأس نبيذ – يقرأ إحدى الأساطير من كتاب قديم ،
حيث وقفت
" هيرا " زوجة الإله " زيوس " - في إحدى صفحاته الأولى – تعطي
أمرها للتيتان ليقتلوا زوجها مدفوعة بغيرتها 0
رفع المدرّس رأسه ببطء ، والتفت إلى صورة معلّقة على أحد جدران
الغرفة لا يزال يحتفظ بها بسبب ذكريات جميلة لا ينكرها 0
راح يتأمل نفسه وهو يخاصر زوجته الكلثومية الخدين وهي تقف مبتسمة في
ثوب زفافها الأبيض الذي استعارته يوم الزفاف من إحدى صديقاتها
رشف رشفتين متقاربتين قال بينهما والقهر ينزّ من عينيه :
-خائنة 0
بعد صفحات 0000 وكان قد أحسّ بحاجته إلى النوم ، عرف أن " زيوس "
كان مظلوماً ، وأن عليه أن يفعل شيئاً ما 000 ليبقى على قيد الحياة ، وأن
هناك من يساعده على ذلك ، خاصة حين وصل في قراءته إلى صفحة مطلعها :
-انهض 0000 انهض يازيوس 0
وكان لابدّ من النبيذ ، لأنه يشعره بدوار يسهّل تسلّل النوم إلى
نفسه 0
بعد أن شرب أكثر من نصف الزجاجة 000 نفر القلق من مساماته وعرّش
على قسمات وجهه ، لأنه رجل يخاف النوم لأنه يغلبه محمّلاً بكوابيس تعاوده
كلما أوى إلى فراشه فتريه أشباحاً مختلفة تطارده وتحاول التخلص منه 0
هناك كائن مجهول يقودها لم يعلن عن نفسه بعد ، لا بكلمة أو إشارة 0
لابدّ أنه موجود في مكان ما في البيت ، فوق السقف أو تحت الأرض ،
وربما خلف أحد الجدران ،وحين يظهر له ينشر في نفسه خوفاً يجعله يحسّ بالخجل
من نفسه عندما يفيق
بعدما جرع ثمالة الكأس أحسّ بدوارٍ عنيف ، فاتّكأ على الكتاب وأطرق
برأسه فوق زنده 0
2- قبعة ونظّارة سوداوان
سرعان ما رأى نفسه طفلاً شمّر ساقي بنطاله في يوم حارّ إلى ركبتيه
وهو يلج ماء البحر حيث تتلاشى مويجاته الهادئة عند قدميه 0
من الطرف المقابل رأى " بابا نويل " يتقافز فوق صفحة الماء
باتجاهه ، وكان هذا يضع على رأسه قبعةً سوداء غير لباسه العادي ، وعلى
عينيه نظارةً سوداء أيضاً ، لكنها كبيرة كالقناع تغطي نصف ملامحه ، ولما
وصل إليه أخرج من كيسه علبةً لفّت بشريط أحمر ، ناوله إياها واختفى دون أن
ينبس بكلمة واحدة 0
فتح الطفل العلبة فانفجرت في وجهه قنبلة شوّهته ، وجعلت الطفل يصرخ
بأعلى صوته :
-أمي 000 يا أمي 000
فهرعت إليه سيدة عجوز ضمّته إلى صدرها وهي تبسمل وتحوقل 0
نظر إليها وقال :
-المرحومة الحاجّة خديجة !! 0000
3- المرحومة الحاجّة خديجة:
في ليلة عاصفة ، وكان طفلاً لم يبلغ الحُلم بعد ، استيقظ على طرق
قوي على باب الدار التي يسكنها مع أبيه وحيدين ، ليرى أباه مذعوراً 000
مرتبكاً ، يبحث عن مكان يختبئ فيه قبل أن ينفتح الباب عنوةً ويداهم الدار
عدة رجال ملثمين متنكبين بنادقهم ويحملون الهراوات ، وعلى رأسهم رجل يضع
نظارة كبيرة على وجهه تغطي نصف ملامحه 0
من فتحة ثوبه جرّوا أباه حافي القدمين كالكلب إلى سيارة تقف خارجاً
، وكان صامتاً من شدة الرعب 0
بعد أن انطلقت السيارة خرجت الحاجّة خديجة من بيتها ونادته بعد أن
كانت تراقب ما يجري من فرجة الباب0
أدخلته بيتها المؤلف من غرفة صغيرة أمضيا فيه عدة سنوات معاً ، كانت
الحاجة خديجة خلالها أمّاً عرف منها تاريخ أسرته 0
4- على شاطئ البحر:
سألته المرحومة الحاجّة خديجة بلهفة عمّا به ، فأحاطها من شدة خوفه
بذراعيه ، وسألها عن أمه :
-أين أمي يا خالة ؟؟
فوضعت رأسه على صدرها وقالت :
-ألم أخبرك يا ولدي إنها ماتت يوم ولدتك في الزريبة ؟
هزّ رأسه وقال :
-في الزّريبة يا أمي ؟!00 ضاقت بك الدنيا فلم تجدي مكاناً غيرها
تسقطينني فيه ؟
فقالت المرحومة :
-" يا عيني عليها " لقد فرّت إليها من أزيز الطائرات ورعب الحرب ،
أصيبت يومها بنزيف حادّ حرمها لارؤيتك فقط ، بل حياتها أيضاً 0
وتابعت تقول وهي تنشج :
-لم تضمّك إلى صدرها كباقي الأمهات 0
ثم سألته :
-ألم يُفرجوا عن أبيك ؟
فقال باكياً :
-يوم رأيتِه كان آخر يوم أراه فيه 0
ثم تابع يحادث نفسه :
-في الزّريبة يا أمي ! 000
ذكّرته المرحومة بما قالته له سابقاً قائلةً :
-المجرمون 0 قالوا انه عدوّ لهم ، وصادروا أرضه وداره 0
-00000
ثم أردفت تسأله :
-وماذا فعلت بعدي يا ولدي ؟
فتنهّد وقال :
-ماذا أحكي لك يا خالة ؟! 0000
5- ماسح أحذية في كاراج الباصات:
بمجرد موت الحاجّة خديجة طرده أقاربها من البيت وأسلموه إلى زمن
أسود 0
كان كاراج الباصات في المدينة ملجأه ومورد رزقه ، لكنه أفنى فيه
أعزّ سنوات صباه وهو يكابد الشجون والعذاب ، لكن كل ذلك لم يفقده عشقه
للقمر والقراءة حين يجد وقتاً لها ، خاصةً قراءة التاريخ الذي صار مولعاً
به ، والذي كان يخصص جزءاً من الليرات التي يدّخرها من مسح الأحذية ليشتري
كتبه ، بل انه بعد سنوات كان قد ادّخر مبلغاً من المال مكّنه من استئجار
غرفة في حيّ شعبيّ ، وراح يعدّ العدّة لدراسة التاريخ دون أن يترك مهنته
والكاراج الذي استهلك عشر سنوات من عمره إلى أن تعرّف إلى لبنى 0
6- لبنــى:
ذات ليلة صافية ينيرها القمر البدر ، رأى في الزحام صبيّة تكبره
ببضع سنوات ترتدي لباساً يوحي بالفقر ، شغلته حيرتها واضطرابها فلم ينتبه
إلى جمالها ولا إلى وجهها الطفوليّ وخديها الكلثوميّين ، وكان من الصعب أن
يرى ما يخفيه وجهها هذا 0
أثارت فيه الشفقة ، فاقترب منها وسألها عن حاجتها ، فأخبرته بأنها
تريد السفر إلى أي مكان هرباً من سكين أخيها 0
بعد أيام قليلة صارت تشاركه الرغيف والسرير بعد أن عقد عليها ، ومع
الأيام صارت محبو بته لحرصها على سعادته وراحته ودراسته الجامعية
لكنها سرعان ما تغيرت وبان وجهها الشرير بسبب فقره ، كان يحتمل منها
كل ذلك إلى أن رأى كلباً ينام في فراشه إلى جانبها ، فطلقها 0
7- القبّعـة والنظّـارة :
سمع صوت حذاء ثقيل يشي بخطوات متوعّدة يعرفها جيداً ، ثم ظهر ذو
القبعة السوداء والنظارة إياها كالثور ، وسأله :
- لازلت هنا ؟
-0000 !!
راح الثور يقلب الحقائق فاتهمه بأنه إرهابي وبأنه يزوّر التاريخ
000
سأله المدرّس عما يريد ، فردّ الثور قائلاً :
-الأرض والماء والهواء 0
كانت الريح في الخارج تحرّك المحارات الساكنة في أعماقه ، وتبذر في
نفسه بذرة من الرجولة والإرادة الحقيقيتين ، وبعدما أنتشت ذلك كله راحت
تستنهضه 0
انقضّ مدرّس التاريخ عليه ودارت بينهما معركة غير متكافئة جعلت
الثور يفرّ منه ، فلحق به ، ظلّ يهرول خلفه ليجهز عليه ، لكن المسافة
بينهما بدأت تزيد وتزيد حتى اختفى الثور عن ناظريه 0
8- الزجـاجة والكتـاب :
الزجاجة تملي عليه أن يمسك بها ويضرب الصورة المعلقة على الجدار ،
لكنه لا يفعل ، لأن رأسه يثقل على الكتاب هامداً ساكناً كصخرة
كان المدرّس ميتاً ، ولبنى تنظر إليه مبتســمة 0
|