أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 14/08/2024

الكاتب: تاج الدين الموسى

       
       
       
       
       

 

 

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

المواليد: قرية كفرسجنة- ريف محافظة إدلب 2/10/1957

الدراسة: معهد نفط.

العمل: موظف بشركة محروقات –فرع إدلب-

 

مؤلفاته:

1-مسائل تافهة –الهيئة المصرية العامة للكتاب- 1992، مسائل ط2 –دار الينابيع- دمشق 1993

2-الشتيمة الأخيرة –وزارة الثقافة- دمشق- 1995

3-حارة شرقية وحارة غربية –اتحاد الكتاب العرب- 1996

4-سباق بالمقلوب –دار الينابيع- دمشق 2000.

أعد مجموعة خامسة للصدور بعنوان آخر الرقصات

فاز بعدد من الجوائز على الصعيد العربي والمحلي منها جائزة سعاد الصباح- المركز الأول- دورة عام 1992

يمارس العمل الصحفي بالإضافة إلى كتاب القصة والسيناريو وقد عرض لـه التلفزيون مؤخراً

(2003) تمثيلية بعنوان "الكرسي".

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتب

الصحفي الجريء

موت الابن

البحر كويس

 آخر الرقصات

عزف منفرد على خيط

 

 

آخر الرقصات

 

في أي مكان كنت تخبئين تلك الرقصة يا أمي؟ أفي جسدك النحيل الذي حنته الأيام، ولم تبق منه سوى العظام؟ أم في جيبٍ سري من جيوب ثيابك التي فرغت من الفرح لعشرين عاماً؟

صليت العصر، ثم شرقت بصحبة عكازك، الذي يرافقك أينما توجهت، وعدت بعض نصف ساعة، بقامة منتصبة، دون عكاز، تتأبطين ذراع أخي العائد..

كل شيء بدا عفوياً يا أمي.. فحين دخلت الدار، وأنت تزغردين، وتهنهنين، أخذ أهل الضيعة يتراكضون إلى دارنا.. وبعد دقائق لم تعد غرف دارنا تتسع، ولا أرض الدار، ولا سطحنا، ولا أسطح دور الجيران، ولا الزقاق المقابل.. كأن أهل الضيعة، كلهم، حضروا، ليفرحوا معنا بعودة أخي..

أنا، حتى هذه اللحظة، لا أعرف كيف وصلت الدربكة إلى حضن خالتي حنيفة.. نحن ما عندنا دربكة.. أأنت تسمحين لدربكة أن تدخل بيتنا؟! وما هي حاجتنا إلى الدربكة أصلاً، إذا كان الفرح قد رحل من دارنا، في اليوم نفسه، الذي اختفى فيه أخي، قبل عشرين عاماً؟ حتى الضحك، يا أمي، نسيناه، وإذا ما صادف، ونسي أحدنا، فابتسم، فإن لكزة واحدة من يد المرحوم أبي اليابسة، أو زورة واحدة من زوراتك المخيفة، تجعله يتمنى أن تنشق الأرض، وتبتلعه.. وكأنكما تودان أن تقولا له: كيف تبتسم يا قليل الناموس وأخوك الكبير غائب؟!

أم أنك اشتريت الدربكة سراً، وأخفيتها في دارنا، أو في دار قريب أو جار، لتكون جاهزة في ساعة كساعة البارحة؟ إن إيمانك بعودة أخي لم يضعف في يوم من الأيام.. عشرون عاماً مرت وأنت تنتظرين عودته، وما مللت من الانتظار.. عشرون عاماً لم يبتعد فيها عن بالك مسافة ذراع..

(لا تكبروا على الأكل يا أولاد، أخوكم فاخر كان يأكل من الموجود.. أفيقوا من النوم يا أولاد، أخوكم الكبير كان يفيق قبل علام الضوء.. لماذا لا تدرسون؟ أخوكم ما كان يرفع رأسه من الكتاب.. تتركون شغل البيت كله لي، أخوكم كان يساعدني بكل شغلة.. تتعبون من تعبئة قادوس ماء من الجب.. فاخر كان يحصد الحنطة معنا بالمنجل..).

على المائدة تضعين له صحناً وملعقة، وحولها تتركين له مكاناً فارغاً.. على المصطبة تمدين فراشه في الصيف، وعلى التدريبة، في غرفتنا الغربية، تمدينه في الشتاء.. تخرجين صرة ثيابه من الدولاب، في صباحات أيام الجمع، فتفوح الروائح الطيبة من أوراق الزيزفون، والورد الجوري، وعروق الحبق، والعبيتران التي تدسينها بين الثياب.. أكثر القطع محبة إلى قلبك كانت بذلته الجامعية الزرقاء..

أنا أعتقد أنك من اشترى الدربكة مؤخراً، لأن معنوياتك، في الأيام الأخيرة، وصلت إلى السماء.. شفيت فجأة من آلام المفاصل، التي لم تكن تتركك تنامين الليل.. استقام ظهرك... صرت، بدلاً من أن تتوكئي على العكاز، حين تخرجين من الدار، تضعينه على كتفك، وتمشين.. ظهر اللون الأحمر الذي تركه أثر الحناء على شعرك... حورت الدار.. غسلت الملاحف، ووجوه المخدات... أخذت تهتمين أكثر من السابق بأحواض الورد، والحبق، والعبيتران.. صرت تكنسين أرض الدار مرتين في اليوم؛ صباحاً، وعصراً، وترشين عليها الماء، كي تمنعي الغبار من الثورة، إذا ما هبت نسمة هواء، وبعد صلاة العصر، تحملين عكازك على كتفك، وتشرقين لمراقبة الطريق، عند أول الضيعة، من تحت شجرة تين، أو زيتون، أو من تحت شجرة البلوط الهرمة، التي تستقبل زوار الضيعة.. خفنا على عقلك يا أمي.. تساءلنا.. همست لنا: أشم رائحة أخيكم في هذه الأيام يا أولاد...

همسنا لك: وهل وصلك خبر ما من أحد؟

ـ نعم.. وصلني..

هجمنا عليك بصوت واحد: ممن؟ ومتى؟

ـ من هنا.. من قبلي..

وأضفت، بعد خيبة الأمل التي لاحت على وجوهنا: إذا خرج من عندهم صباحاً، فمتى يصل الضيعة؟

ـ يصل بعد الظهر..

ـ وإذا خرج بعد الظهر؟

ـ يصل في الليل.. لكن لماذا تعذبين نفسك بالذهاب والانتظار عند أول الضيعة؟

ـ لأن الضيعة كبرت كثيراً بغيابه، وتوسعت، وأخاف ألا يعرف دارنا..

ست ليال انقضت، ما نمت فيها لساعة على فراش، أو تمددت على أرض.. تغفين للحظات وأنت مقعية، أو مقرفصة، أو متربعة عند باب الدار، تبددين الليل بالتسبيح، والدعاء، والتضرع، وقبل حلول الليلة السابعة، صدقت حسابات قلبك..

كنت أعتقد أن وردة ستكون أول من يرقص، بعد أن رندحت الدربكة في حضن خالتي، وأن وداد ستكون أول من يشاركها الرقص، فور وصولها.. لكنك أنت من بدأتِ الرقص أولاً، واستمرتْ إلى النهاية..؟

لا أعرف، حين عانقت أخي، ما الذي جعلني أتذكر حرارة قبلاته، عندما كان يجيء خميساً وجمعة، قبل عشرين عاماً، وأكثر، ويصيح حين يصير بأرض الدار: يا أهل البيت.. فأصرخ من قلبي: جاء أخي فاخر.. وأقفز لملاقاته قبلكم جميعاً، فيأخذني بحضنه، ويقبلني، ثم يقذفني للأعلى، ويتلقاني بيديه، ويعضني من خدي، فأصيح من الألم، وأبكي.. كنت تقولين له، حين ترين أثر أسنانه على خدي: أنت مثل الكرِّ يا فاخر تغير من الأطفال..

وما الذي جعلني أيضاً أستعيد دفء حضنه، حين كان يجلسني فيه، ويغني لي طلعت يا محلا نورها.. ويا بحرية هيلا هيلا.. ويحفظني أسماء بعض الدول، وأسماء عواصمها.. كنت أظن، أيامئذ، أني حفظت أسماء دول الدنيا كلها، وأسماء عواصمها كلها.. وما أدراني أن أخي لم يكن يذكر لي سوى أسماء الدول التي أحبها، وأحب عواصمها؟ لقد اكتشفت، حين كبرت، وصرت من تلامذة المدارس، أن هناك دولاً أخرى كثيرة، ولها عواصم أيضاً، ما كان أخي الكبير يجيء على سيرتها..

ـ من تكون هذه المرأة التي ترقص؟

ـ مؤكد أنها واحدة من قريبات فاخر...

أنا سمعتهم يتساءلون همساً.. ومن كان يصدق أن تلك الرقصة لك؟ من كان يصدق أنك رجعت أكثر من عشرين عاماً إلى الوراء، وصرت ترقصين رقص الصبايا؟

ـ يوجد شبه كبير بين المرأة التي ترقص وبين أم فاخر..

ـ قد تكون إحدى بناتها..

ـ أنا أعتقد أنها هي...

ـ مستحيل.. امرأة عجوز، تجاوزت الستين، وتتوكأ على عكاز، لا يمكن أن ترقص مثل هذه الرقصة..

وهكذا.. حين بدأ أهل الضيعة يكتشفون أنك من كانت ترقص، أخذت أبصارهم تشخص إليك تاركة أخي العائد لي وحدي في البداية، ولي ولابنة عمي وردة، وأختي وداد، بعد قليل...

لو رأيت وداد حين وصلت.. لقد شقت جموع الناس وهي تركض، وتصرخ: أين أخي فاخر؟ أين حبيبي؟

وداد ما كانت لتتعرف على فاخر لو لم أشر لها عليه.. كلنا لم نعرفه حين وصوله.. قبلته وداد على مهل من جبينه.. من خديه.. من رقبته.. كأنها كانت تستنشق رائحته لتتأكد أنه هو.. ثم، بعد دقيقة، أو أقل، ضمته بقوة، وشرعت تقبله بشكل محموم، وتهمس له: أنا وداد يا فاخر.. أنا أختك وداد.. كأنها أحست أن أخاها لم يعرفها.. أيعقل أن ينسى فاخر وداد؛ أخته، التي كان يقول لها، قبل أن يختفي: سأعلق شهادة الهندسة في صدر بيتك، وسأمنحك نصف راتبي، لخمس سنين، مدة دراستي بالجامعة..

أختي تستحق من أخيها أكثر من تعليق شهادة الهندسة في صدر بيتها، وأكثر من نصف راتبه لخمس سنين.. أصلاً لولاها من أين كان سيصرف على نفسه خلال دراسته الجامعية التي انقطعت باختفائه قبل شهرين من تخرجه؟ لقد عملت وداد، منذ أن كانت طفلة في الثانية عشرة، في ورشات قلع البطاطا، وحواش القطن، ونبش البصل، وقطاف الزيتون، وحصاد الكمون، والعدس، والحمص، من أجل المساهمة بتأمين مصروف أخيها.. حتى في أيام الجمع؛ أيام الاستراحة، كانت تعجن، وتخبز، وتساعدك بتجهيز زوادة فاخر...

تذكرين يا أمي أن وداد كانت في عامها السابع عشر يوم اختفى أخي، وأنها أجلت موعد عرسها، أكثر من مرة، على أمل أن يعود الغائب، ويحضر العرس.. ولو لم تجبروها على الزواج، بعد مرور سنة من التأجيل، و الانتظار، ربما كانت عملت مثلما عملت وردة، وانتظرت عشرين عاماً..

حين وصلت أختي من دار زوجها، كان المجتمعون في دارنا يوسعون لك الدائرة، لأن أرض دارنا لم تعد تتسع لرقصتك.. تميلين.. وتنحنين.. وتقرفصين.. وتقومين.. وتتخوصرين.. تدورين حول نفسك، وتقتربين من أخي العائد، تلامسينه بأطراف ثوبك، فبرؤوس أصابع يديك، فبشفتيك، ثم تطيرين إلى صالح، ابن خالتي الذي كان يغني لك: شيلي يا عمتي شيلي.. تقتربين منه بصدرك، وتفقسين له بأصابعك، وتهزين بجسدك، وحين يقترب بجذعه منك، تفرين بعيداً عنه....

أذكر، في صغري أني كنت أرافقك إلى بعض الأعراس، وأذكر أنك كنت تغنين بصوت عذب، كأكثر نساء الضيعة.. بعد اختفاء أخي لم يبق من صوتك سوى بحة الحزن فيه، حين كنت تتلين ما تيسر لك من الآيات، والسور، بعد أدائك صلاة الصبح حاضرة.. أو حين كنت تغنين العتابات الحزينة، عند رؤوس الأحبة من الراحلين من أهل الضيعة قبل دفنهم.. ألا تذكرين ماذا فعلت عند رأس أبي، الذي ضاق صدره من هم انتظار عودة أخي، فتركنا، ورحل، قبل نحو خمس سنين؟ يومها أبكيت الناس والحجارة...

وأذكر أن رقصك لم يكن مميزاً كصوتك.. كان مثل رقص أي امرأة في الضيعة، ولا أعلم متى تدربت على رقصة البارحة، ولا أين كنت تخبئينها.. أمس رقصت بجنون يا أمي.. بحركات كأنها ما كانت معنية بإيقاع الدربكة بين يدي خالتي، ولا بغناء صالح، أو بتصفيق الناس.. رقصت رقصاً ما رأيت امرأة في ضيعتنا، أو غير ضيعتنا، ترقص مثله.. كنت أمهر من النوريات اللواتي كن يزرن قريتنا في المواسم، ويغنين على البيادر، ويرقصن..

أختي ما شاركتك الرقص بعد وصولها، ولا وردة ابنة عمي رقصت، فبعد ثوان من وصول زغاريدك دار عمي، كانت وردة قد صارت في دارنا.. وردة تدرك أنك لن تزغردي قبل عودة أخي.. عمي محمود، وأفراد عائلته، جاؤوا ركضاً من باب الدار، إلا وردة، فقد قفزت عن الجدار الفاصل، بين دارنا ودار أهلها، من المكان نفسه الذي كانت تقفز منه قبل عشرين عاماً، لتلتقي فاخراً، أو يقفز منه فاخر، ليلتقي وردة.. أنا، ابن السنوات الخمس أيامها، كنت شاهداً على أكثر لقاءاتهما..

يدس فاخر في جيبي، فور وصوله من المدينة، ربع ليرة، ورسالة، فأركض إلى بيت عمي محمود، أسلم الرسالة لوردة، وأنتظر بضع دقائق، إلى أن تقرأها، وتكتب جواباً عليها تدسه في جيبي، مع ربع ليرة، فأركض إلى دارنا، أسلم الرسالة لفاخر، ومساء، حين يلتقيان وراء بوابة دارنا، أو و راء بوابة دار عمي، أقرفص على قبة تنورنا، أراقب لهما الموقف، وأستمع إلى زقزقاتهما.. هكذا كنت أمضي الوقت بعد وصول أخي من المدينة: بين دارنا، ودار عمي، وقبة التنور، ودكان الحاج مصطفى، أشتري بأرباع ليرات فاخر ووردة...

بعد سنتين من اختفاء أخي، علمت أن الشيخ سلوم، إمام جامع قريتنا، همس في أذن عمي محمود: ابنتك صارت بحكم المطلقة، لعدم عرفة مصير ابن عمها.. لقد كتب كتابه عليها واختفى، ومن حقها الآن أن تتزوج شخصاً غيره... اليوم صارت في العشرين، وغداً لن تجد شاباً يطلب يدها..

 

من كان يجرؤ على مفاتحة وردة بموضوع كهذا؟ لقد ربطت البنت مصيرها بمصير ابن عمها وانتهى الأمر.. عاشت مثلك، على أمل أن يظهر في يوم من الأيام، وهاهو قد ظهر.. لكن متى؟ بعد أن صارت في الثامنة والثلاثين...

حين قفزت وردة عن الجدار، وركضت إلينا، توقعت أنها ستهجم على أخي، وتغمره بشوق عشرين عاماً من الانتظار.. لكن ما الذي أصاب وردة وقتها؟ أتكون أدركت، ما أدركته أنا، فور وقوع نظرها على أخي؟ أم تكون قد خجلت من معانقته أمام الناس؟ مستحيل! أتخجل امرأة من معانقة زوجها، أمام الناس، بعد سفرة استمرت عمراً؟ صحيح أنهما لم يعرّسا، لكن كتابهما مكتوب، وهي بحكم زوجته، على سنة الله ورسوله.. لقد تحول ركضها إلى هرولة في البداية، ثم مشت، فتمهلت حين اقتربت منه، وأطرقت حين وصلت، وبعد نظرة خاطفة، مدت إليه يداً خجولة، وصافحته....

ـ اليوم اثنين، والخميس القادم سأعمل لكما عرساً ما عرفت الضيعة مثله...

عن أي عرس تحدثت مع فاخر ووردة يا أمي؟ وهل كنت ستعودين صبية، فيما لو أقمنا لهما عرساً، وترقصين مثلما رقصت البارحة؟ لو تعرفين أين وجدت وردة، التي اختفت فجأة، بعد سلامها الخجول على أخي؟ ظننت في البداية أنها راحت تتفقد جهازها، بعد أن حددت لهما موعد العرس.. كنت أبحث عن أختي وداد، التي اختفت هي الأخرى، بعد انتهاء عناقها لأخيها.. لقد وجدت الاثنتين متعانقتين تنتحبان عند الجدار الفاصل، بين دارنا ودار عمي محمود، في المكان نفسه الذي كانت تقفز منه وردة، أو يقفز منه فاخر، قبل عشرين عاماً..

قاومت دمعتي، واستدرت إليك؛ كنت تؤدين حركات راقصة، من وضعية القرفصاء، أمام أخي.. فجأة تباطأت حركات يديك.. اقتربت بوجهك من وجهه، وبقيت تقتربين، إلى أن تلاشت المسافة بين وجهيكما.. حملقت فيه لثوان، ثم سقط على الأرض....

أهي السكرة كانت ذهبت يا أمي، وجاءت الفكرة؟ أم هو الفرح الذي أعمى بصرك، وباصرتك؟ إن أخي لم يكن أخي يا أمي.. أخي كان ممشوقاً، باسماً، شاباً، ممتلئاً، وكان شعره مسترسلاً، يغني وقت الغناء، ويرقص وقت الرقص، ويدبك وقت الدبكة، ويحكي إذا حضر الحديث.. أما الشخص الذي جاءنا البارحة، فقد كان ضئيلاً، هرماً، محني الظهر، على رأسه بضع شعرات بيض، لم يعبأ برقصك، ولا بدربكة خالتي، أو بغناء صالح، أو بفرح الناس من حوله بعودته.. كان ساهماً طوال الوقت، ينظر إلى لا شيء، لم ينطق بكلمة واحدة منذ وصوله.. حتى من الأحاسيس لم يكن عنده شيء.. فلو كان عنده شيء منها، لوجدنا لقبلاته حرارة.. لحضنه دفئاً.. لبقي معي هنا، عند قبرك، ولو لدقائق، بعد انتهائنا من مراسم دفنك..

 

 

البحر كويس

 

ما كنا انتبهنا لغياب الطاهر من بيننا، نحن الذين اجتمعنا على شرفة الشاليه، نتفرج على النساء بثياب البحر، لو لم نكن صرنا في حاجة لسؤاله عن موعد الغداء، إن كان قد آن، لنباشر بإعداد الطعام...

قلت للشباب: مؤكد أنه في الحمام يزيل عن جسده أثر المياه المالحة...

لأول مرة ينزل الطاهر إلى الماء برغبته.. فيما مضى من رحلاتنا التي قمنا بها إلى الشاطئ، نحن المعلمين في مدرسة ضيعة المركونة الابتدائية، عند اشتداد الحر في شهري تموز أو آب، في عطلة الصيف، كان يبقى وحيداً، بعيداً عنا، لا يقترب من الماء، إلا حين يتأكد من أننا قد ابتعدنا في البحر، كيلا يمكننا من أية فرصة للقبض عليه، وإنزاله إلى الماء مرغماً.. فمرة يتعلل بعدم معرفته السباحة، وأخرى يتحسس جسده من الماء المالح... وفي الحقيقة لم يكن يمنعه سوى الخجل.. أينزل إلى الماء، بثياب البحر، أمام الناس، وهو الذي يخجل من ارتداء قميص بنصف كم؟ أو من فتح ولو زر واحد من أزرار قميصه العلوية؟ من لبس بنطلون جينز، أو من أي طراز آخر ضيق، أو على الموضة؟

وحين نذهب بعيداً في الماء، يقترب من الشاطئ، إلى أن تلامس قدماه زبد الموج، ويتوسل إلينا بحركات من حنون رأسه، و يديه، كأب، ألا نبتعد أكثر... ألا نغامر.. ألا نضع عقلنا بعقل البحر، فالبحر مجنون، غدار، قد يبتلعنا في أية لحظة...

في رحلتنا السابقة، في الصيف الماضي، غافلناه، وألقينا القبض عليه قرب الشاطئ، وأنزلناه إلى الماء بثيابه.. في البداية أخذ يهددنا: اتركوني يا شباب.. اتركوني بالتي هي أحسن.. ابتعدوا عني وإلا...

وإلا ماذا يا طاهر؟ أنحن في المدرسة لتأمر، وتهدد؟ في المدرسة أنت مدير،تتصدر غرفة الإدارة، وتلقي في وجهنا التعليمات: الغياب المشروع، وغير المشروع، ممنوع.. التقارير الطبية ممنوعة.. التأخير عن الدوام ممنوع.. الخروج من الصف، قبل نصف دقيقة، من صوت الجرس، ممنوع.. لا شيء في جيوبك، في المدرسة، سوى الممنوعات.. هذا غير لوائح العقوبات التي تهددننا برفعها إلى مديرية التربية، فيما لو قصّر أي واحد منا بأداء الواجب تجاه التلاميذ.. هنا، على الشاطئ، كلنا سواسية. نترك أعمارنا، ورتبنا، في الضيعة، ونجيء.. صحيح أننا نطلق عليك خلال أيام الرحلة: (الجاويش) فهذا لأنك أكبرنا سناً، وأكثرنا تنظيماً.. لكن أن تأمرنا؟! فهذا بعيد عنك يا طاهر.. بعيد عنك بعد قريتنا عن البحر.. على الشاطئ لا يوجد مدرسة، وتلاميذ، ودفاتر تحضير، ومديرية تربية تستند إليها..

أوامر الطاهر على الرمل، صياحه في وجوهنا، عبوسه، آلت إلي تضرعات في الماء: (دخيل عرضكم يا شباب اتركوني.. منشان الله لا تبهدلوني.. أبوس رؤوسكم.. ذقونكم.. أيديكم..).

مع من كان الطاهر يحكي وقتها؟ ومن منا كان على استعداد أن يسمع منه كلمة واحدة؟ أتصح لنا فرصة كهذه، ننتظرها منذ سنوات، ونتركها تذهب من بين أيدينا هدراً؟! مستحيل.. فحين غمرنا الماء إلى رقابنا، عملنا حولـه حلقة، نحن الستة، وشرعنا نحمله بين أيدينا، ونقذفه للأعلى، ثم نتركه يسقط في الماء، إلى أن يختفي، ثم نخرجه إلى السطح، ونعيد قذفه، وهو يصرخ، ويستجير بالأحياء من آبائنا، وأجدادنا.. بالأموات.. بالأنبياء، والكتب السماوية، والآلهة.. ونحن نقهقه، ونلهو به، وكأنه لعبة بين أيدينا، ولم نتركه إلا حين وصل إلى حافتي الاختناق، والبكاء.

ثم أجهزنا عليه بالضربة الفنية القاضية، بعد أن أخرجناه من الماء، عندما أحطنا به ثانية، وأقمنا على شرفه حفلة تهريج، لم يعرف لها الشاطئ مثيلاً ونحن نشير إلى أماكن محددة في جسمه.. لقد التصقت جلابية الطاهر بجسده، فظهرت الزوائد تحتها، والسواقي، فبدا لنا، وللناس على الشاطئ، عارياً، أو في أحسن الأحوال كراقص بفرقة باليه...

ندمنا على ما فعلناه بعد أن صحونا.. حملنا مسؤولية ما جرى كاملة إلى العرق المثلث الذي أحضره سامر، معلم الصف السادس.. في كل رحلة يأمرنا الطاهر ألا نحمل معنا أي نوع من أنواع المشروبات الروحية، و ينذرنا بالانسحاب من الرحلة فيما لو فعلنا.. وكنا نكذب عليه، حين نعده، بعد أن نمسك على شواربنا، وذقوننا، بألا نفعل، لكن سامراً، وبتشجيع منا، كان يدس بين الأغراض عدداً من الزجاجات، فنشرب خلال الرحلة خلسة، ولا ينتبه الطاهر إلينا إلا بعد أن نكون قد انتشينا.. وفي الحقيقة كانت كأس واحدة تكفي مزاج الواحد منا ليروق.. فنحن لسنا من المواظبين على الشراب، ولا من المعتادين عليه.. الأمر ليس بيدنا.. واقع ضيعتنا لا يسمح.. فمن يشرب من أهل الضيعة، يشرب على نحو سري، وإذا ما افتضح أمره فربما كان مصيره الخروج من الضيعة، أو العزل، وربما جلب العار لأولاده، وأحفاده بعد موته.. أهل ضيعة المركونة لا يتذوقون طعم اليانسون، ورائحته، إلا في أيام ولادات النساء..

في أكثر الحفلات الليلية التي كنا نقيمها، ويشاركنا فيها جيران البحر، أو التي كان جيران البحر يقيمونها، ونشارك فيها نحن، وبعد أن يشتعل الشاطئ بالغناء والرقص والدبكة، يغض الطاهر بعض الطرف عنا، فتتسلل الكؤوس إلى مكان الحفلة، وترفع علانية أمام عينيه، لكنه حين يعتقد أننا وصلنا إلى حالة من السكر قد تنتهي الرحلة ولا نصحو منها، يجرنا الواحد تلو الآخر إلى الشاليه، إن كانت الحفلة عند الجيران.. أو ينهي الحفلة بشكل مفاجئ، إذا كانت مقامة عندنا، فيخطف العود من حضن ماهر؛ معلم الصف الرابع، والدربكة من حضن وردان؛ معلم الصف الأول، وأصمت أنا؛ معلم الصف الثاني، ومطرب الرحلات الدائم، ويسوقنا أمامه إلى الشاليه، مثل الثيران المخصية، ليحبسنا في الغرف، ويقعد ناطوراً أمام باب الشاليه الرئيس، إلى أن نغفو، ويعلو شخيرنا، مفوتاً علينا أي موعد ليلي، ربما نكون قد ضربناه خلال النهار، أو خلال الحفلة، أو يساهر عبد الله؛ معلم الصف الخامس، الذي يدوخ في النصف الأول من الكأس الأولى، ولا يغمض له جفن، قبل أن يبكي لنصف ساعة على الأقل، ويحكي على زوجته، التي لا يحلو لها النوم إلا بين أولادها، والتي تفوح منها روائح الطبيخ على الدوام، وبالأخص يوم تقلي عجة، أو سمكاً، أو قرنبيطاً..

أقسم الطاهر، يومها، بالتراب الذي نزل فوق قبر أبيه، إنه لن يعود لمرافقتنا في رحلة إلى البحر قادمة.. أمضينا أياماً وليالي ونحن نحاول إقناعه دون جدوى.. أجلنا موعد الرحلة الأخيرة لأيام في البداية، ثم لأسبوع، فشهر، دون جدوى.. الوعود، والمسك على الشوارب، واللحى، والذقون، كلها لم تفدنا شيئاً، ولم يوافق، في نهاية الأمر، إلا بعد أن حصل منا على مواثيق مكتوبة، عليها توقيع شهود، أول بند فيها ألا نقترب من المشروبات، طوال أيام الرحلة،  وآخر بند أن نكون مثل الخاتم في إصبعه.. التنازل الوحيد الذي حصلنا عليه من الطاهر، مقابل مواثيقنا مجتمعة، أن ينزل إلى الماء برغبته...

ـ تأخر الطاهر في الحمام يا شباب...

قلت، أنا الأقرب إلى باب الشاليه، واستدرت، فلمحت الطاهر يصلي...

في الطريق قال لنا: إننا نرتكب ذنوباً في أيام ثلاثة قد لا تمحوها صلاة عام بطوله...

وصلنا الشاطئ قبل اشتداد الحر.. ثلاث ساعات أمضيناها في السيارة بين قريتنا في الداخل والبحر.. رمينا أغراضنا في الشاليه، التي حجزناها بالهاتف، فور وصولنا، وغيرنا ثيابنا على عجل، وركضنا إلى الماء..

الطاهر قال لنا: اسبقوني.. سأرتب الشاليه، وأضع الطعام في البراد، وألحقكم..

كنا ندرك أنه سيخجل من تبديل ثيابه بوجودنا، فتركناه، وهرعنا لمعانقة الأمواج بشوق المحبين، ليلحقنا بعد ربع ساعة تقريباً، حين كنا نسبح غير بعيدين عن الشاطئ، وكأن أجسادنا كانت تريد أن تسلم على البحر، وتداعبه، في البداية، قبل أن تستسلم له، وتغوص فيه..

أقبل يرتدي سروالاً يغطيه من فوق السرة إلى أسفل بطتي ساقيه، كأن زوجته كانت فصّلته له من كيس طحين فارغ.. اقترب من الماء بتوجس، وهو منكمش، يظن أن كل من على الشاطئ يتفرج عليه.. توجهنا إليه مزغردين، لنعلمه السباحة، فاستدار وابتعد.. قرأنا على قفا سرواله كتابة بخط أحمر عريض: (طحين زيرو. المصدر كندا) تركناه ورحنا نسبح، فعاد إلى الشاطئ من جديد.. لامست نهايات الأمواج قدميه، فوقف.. كنا نراقبه من مسافة غير بعيدة.. تقدم، بعد دقائق، ببطء، إلى أن وصل الماء حدود ركبتيه.. أخذ استراحة أخرى، ثم واصل المسير البطيء، المحاذر، ليصل ماء البحر حدود صدره...

تساءل ماهر: (طالت صلاة الطاهر يا شباب؟!).

أجابه وردان: (مؤكد أنه الآن يصلي أكثر من المطلوب منه بالشرع كفارة عما اقترفت يداه قبل قليل في الماء..).

لا ندري من أين حطت عصفورتان ملونتان واحدة على ميسرة الطاهر، والأخرى على ميمنته، وهو واقف في الماء، لا يدري ماذا سيفعل، ليتعلم السباحة، أخذت الأولى برجليه، والثانية بيديه، وأخذتا تدربانه على السباحة.. وقبل أن تطير عقولنا من رؤوسنا، ويأكل الغيظ قلوبنا، والحسد، ونطير إليه، لنعرف حقيقة ما يجري، كانت العصفورتان قد طارتا مبتعدتين، وتركتا الطاهر يضرب برجليه، ويديه، فوق سطح الماء..

صحيح أننا بدأنا نحس بالجوع، لكن ما كانت عند أي واحد منا رغبة أن يغادر الشرفة، ويترك وراءه متعة النظر إلى النساء بثياب البحر، وقد تمدد عدد منهن على بطونهن، وظهورهن، تحت شرفتنا، غير عابئات بتصويبات عيوننا إليهن، ولا مدركات للحرائق التي اشتعلت في صدورنا، ولا عارفات بأن مناظر كهذه لا تأخذ عقولنا، نحن أبناء الداخل، الذين تختبئ المرأة عندهم داخل عشرين ثوباً فحسب، بل تتركنا نتيه في البراري والوديان.. وفي الحقيقة لم تكن السباحة متعتنا الوحيدة خلال الرحلة.. على الشاطئ متع لا حدود لها.. قلت للشباب، في طريق العودة من رحلتنا الأخيرة: لا نحس بوجودنا، بأننا بشر، في السنة بطولها، إلا في أيام ثلاثة؛ أيام الرحلة..

استدرت من مكاني على الشرفة نحو باب الشاليه.. هاهو الطاهر ما زال يصلي.. استغربت.. أتأخذ الصلاة منه كل هذا الوقت؟! ثم إني لم أره يركع، أو يسجد.. أيكون قد نسي نفسه، وشرد، وهو يصلي، من حالة الوقوف وحدها؟ توجهت إليه على رؤوس أصابع قدمي.. اقتربت منه من الخلف.. يبّسني المنظر الذي رأيته في مكاني... امرأة بديعة تستحم، بكامل عريها، في الشاليه المجاورة، أمام عيني الطاهر.. كأنها نسيت نافذة الحمام مفتوحة، أو تعمدت أن تتركها.. والله أعلم..

*من أغنية لوديع الصافي

 

 

موت الابن

 

حين اتصلت به أمه من دار المختار؛ مكان الهاتف الوحيد في الضيعة، وطلبت منه أن يحضر إلى القرية فوراً، كانت "المها"؛ سكرتيرته الجديدة، تجلس في مكانه على كرسيه وراء طاولته، تستمع إليه باهتمام، وهو واقف وسط غرفة مكتبه، يتدرب على إلقاء الكلمة الترحيبية التي سيرتجلها في يوم زيارة المحافظ إلى المؤسسة التي يديرها..

قالت لـه أمه إن أباه، الذي كان يشعر بآلام خفيفة في بطنه في الأشهر الأخيرة، قد أوقعه المرض أرضاً، وإنه يخشى أن يرحل عن هذه الدنيا دون أن يكحل عينيه برؤية ابنه الوحيد، الذي يعمل في المدينة، ويسكن، ولا يزور الضيعة إلا ساعة في الشهر، أو الشهرين، في الفترة ما بين الدوامين: الصباحي والمسائي، أو في أيام العطل، والأعياد يطمئن فيها على صحة أمه وأبيه، ويسلم على أخواته المتزوجات، من أبواب بيوت أزواجهن، ويعود طائراً إلى المدينة بسيارته الحكومية...

سأل أمه عن طعام أبيه وشرابه.. عن عمله، ولباسه.. عن نومه، واستيقاظه.. عن طبيعة مرضه، والطبيب الذي ذهب للعلاج عنده، وعن أصناف الدواء التي يأخذها، وهل تتحسن صحته على الدواء أم لا...

أجابته أمه أن أباه، الذي لا يشبهه أحد من أهل الضيعة في الطول والامتلاء والعزم، الذي كان يأكل على الغداء، بعد أن يرجع من الشغل بالأرض، "طباخة برغل"، وثلاثة أرغفة من خبز التنور، ورأس بصل يابساً، ويشرب معها طنجرة شنينة، ودلو ماء، يتبعه بإبريق شاي ثقيلة وحلوة، مع عدد من السجائر التي يلفها من التبغ الذي يزرعه بنفسه، ويفرم أوراقه اليابسة بيديه، بعد أن يرطبها بالماء بفهمه، وينقيها من العروق، ثم يجمعها، ويطويها، ويجعلها على هيئة قبضة اليد، ويضعها تحت إحدى ركبتيه، قبل أن يحولها بسكينه القرباطية الكافرة، فوق المفرمة الخشبية، إلى شلة من حرير.. الذي كان يلبس، في عز الصيف، وهو يحصد الحنطة بالمنجل، واحدة من جلابيبه الغامقة، فوق سروال أسود سميك، و"زعبوطاً" لتحت الركبة، ويضع على رأسه حطة من حطائطه البيضاء المنقوشة بالأحمر، أو الأسود، تحت أحد "برمانه" الغليظة، فاللباس الذي يحمي من البرد، برأيه، يحمي من الحر.. الذي كان ينام بعد أذان العشاء من شدة تعبه من الشغل بالأرض، ويصحو قبل صياح ديوك الضيعة، ليعاود الذهاب إلى الأرض.. الذي اشتغل ألف شغلة في حياته؛ من تسمين العجول، والخرفان، والجدايا، إلى الشغل "بالفاعل" في مواسم الحصاد، ومواسم قطاف الزيتون، ليؤمن مصاريف دراسة ابنه الوحيد في أحسن المدارس، والجامعات، صار أكله الآن أقل من أكل العصفور الدوري.. حز برتقال من هنا، وحز تفاح من هناك، أو قرن موز، وأحياناً يغصبونه على شرب كأس حليب، أو على أكل بيضة مسلوقة، أو سيخ كباب أو سودا تشويهما له بيديها.. لقد ذوى خلال أيام، وصار قد الكمشة.. حتى إنه لم يعد يقترب من السجائر التي كان يعشقها.. البارحة طلب منها أن تلف له سيجارة، وتشعلها، وبعد أن لبت رغبته، أخذ نفساً عميقاً من السيجارة، وبدأ يسعل بصوت أليم، كأنه يخرج من تحت أظافر قدميه، فخطفت السيجارة من يده، ورمتها إلى العتبة...

أما بالنسبة إلى الشغل، فقد أخبرته أنه لم يعد قادراً على الذهاب إلى الأرض.. وأضافت: البارحة ركب على الموتوسيكل وراء غسان ابن عمك إبراهيم، وطلب منه أن يوصله إلى "سهم القلعية"، ليتفقد شجرات الزيتون، ودوالي العنب، التي غرسها مؤخراً، فوقع من ورائه، عندما وصلا، وأراد أن ينزل عن الموتوسيكل، ولو لم تكن الأرض مفلوحة مؤخراً، لكانت انكسرت يده لا سمح الله، أو رجله، أو رقبته.. وتساءلت إن كان لا يزال يذكر سهم القلعية، فهو منذ خمسة عشر عاماً لم يتوجه إليه، أو إلى سواه من نتف الأرض التي انتفعوا بها، بعد مجيء الإصلاح الزراعي، قبل أربعة عقود.. وقالت لـه إنها يمكن أن تنسى أرض الرابية، وأرض الوادي، ولا يمكن أن تنسى هذا السهم، بالذات، لأنها ولدت ابنها الوحيد فيه.. يومها جاءها الطلق في ضحى النهار، وهي تحصد العدس مع أبيه، ومع أخواته البنات، فتركتهم، وتوارت خلف العربة، وولدت وحيدها نضال، الذي قطعت له حبل السرة بيديها...

وأخبرته أن أباه لم يعد يطيق الثياب على جسمه، وأنها شحذت له جلابية بيضاء من بيت أخته الكبيرة، على الرغم من أنه لا يحب ارتداء مثل هذه الألبسة الرقيقة والشفافة، لكن ما باليد حيلة يا حبيبي، يا نضال.. إنه يمضي النهار بطوله بتبديل مكان طراحة الإسفنج من تحت شباك الغرفة الشرقية، إلى جانب شباك الغرفة الغربية، يبحث عن نسمة هواء، وبعد غياب الشمس، يحمل الطراحة، والمخدة، ويصعد لينام على قرص الدرج...

وأعلمته أنهم، قبل أربعة أيام، أخذوه إلى الطبيب، في مركز الناحية، بتراكتور بيت عمه.. يومها قال لم: (لو كان ابني موجوداً كنت رحت لعند الحكيم بسيارته المكيفة.. ركبة التراكتور كسرت عظامي...).

وقالت لـه إن الطبيب طلب لـه بعض التحاليل، والصور، وكتب له وصفة، وقد باعت كيساً من الكمون لتدفع للطبيب، والمخبر، والصيدلية..

فهم من كلامها أنها كانت تؤجل بيع الكمون إلى أن يتحسن سعره.. لكنها اضطرت في هذه المرة، لأنها خجلت من الاستدانة من أحد.. وعلم منها أيضاً أن صحة أبيه لم تتحسن على الدواء، بل تراجعت أكثر من الأول.. وبكت، قبل انتهاء المخابرة، وطلبت منه أن يستعجل بالقدوم إلى الضيعة، لأن نتائج التحاليل قد طلعت، وموعد مراجعة الطبيب قد آن، ليأخذ أباه بسيارته المكيفة...

قبل يدي أمه عبر الهاتف، وقبل رأسها، ووعدها قبل أن تأخذ السكرتيرة سماعة الهاتف من يده، وتعيدها إلى مكانها على الجهاز، أنه سيكون عندهم، بعون الله، في القريب العاجل، وسيجلب لأبيه كرتونة موز، وسحارتي برتقال وتفاح، وفخذ خروف مهجن، وخمسة كيلوات سودا وقلوبات وكلاوي.. وسيشتري له جلابية بيضاء من حرير لا يشف، وسيأخذه إلى الطبيب بسيارته، وإلى الأرض أيضاً، ليستعيد شيئاً من ذكريات طفولته، ومراهقته، وجزءاً من أيام شبابه؛ أيام كان ينطر الكرم مع أولاد أعمامه في الصيف، وأيام كان يساعدهم بالحصاد، بعد انتهاء فحوصه في كل عام، و"يرجد" معهم أيضاً، ويدرس ويذري، وينقل شوالات الحب، وشلول التبن، من البيدر إلى الدار، بصندوق (العرباية) التي كان يجرها بغل بيت عمه المنهوج، وبغلتهم الشموس، أو على ظهر حمارتهم، التي انفرد بها أحد الذئاب، في ليلة شتوية، وجرها من عنقها، بأنيابه، إلى وادي المراش، ليأكل نصفها في وجبة واحدة...

وسيأخذه أيضاً إلى طبيب آخر في المدينة، إذا لم يعجبه تشخيص الطبيب في مركز الناحية، لأن أطباء المدن غير أطباء النواحي والمناطق، وسيدفع ثمن تكاليف العلاج من جيبه، وعتب على أمه، لأنها لم تقل له إنها محتاجة لبعض المال، يوم زيارته الأخيرة للضيعة، قبل شهر ونصف..

 

وبعد أسبوع، حين اتصلت به أمه من دار المختار، كانت السكرتيرة جالسة في مكانه وراء طاولته، تستمع إليه باهتمام، وهو واقف أمامها وسط غرفة مكتبه، يتدرب على إلقاء الكلمة الترحيبية التي سيرتجلها وقت زيارة الوزير إلى المؤسسة التي يديرها..

أخبرته أن حالة أبيه قد تدهورت أكثر من السابق، وأنه لم يعد يطيق الطعام، وأنه يعيش الآن على القليل من السوائل، وقد استعارت له عصارة الفواكه من بيت أخته الوسطانية، وأنه لم يعد يطيق جنس اللباس على جسمه، بسبب الحرائق التي تشتعل في أحشائه، وأنها استعارت له مروحة من بيت أخته الصغيرة، وأنها صارت تحمل له الطراحة والمخدة إلى قرص الدرج، بنفسها، لأنه لم يعد قادراً على حملهما...

وقالت لـه إنهم أجلوا مراجعة الطبيب لمدة يومين، آملين حضوره، وحينما قطعوا الأمل من مجيئه، مدوا له فراشاً في صندوق التريلا التي يجرها التراكتور، وسطحوه عليها، وسندوه من الجانبين، كيلا يسقط.. وإن الطبيب، بعد أن رأى التحاليل والصور، زفر من قلب محروق، وقال لهم إنهم في القرى لا يعرضون مريضهم على الطبيب قبل أن يصل إلى حافة القبر، وكتب لـه بعض المسكنات، ونصحهم بعدم أخذه إلى طبيب آخر، وتركه يرتاح في بيته، وقالت إنها باعت كيس كمون آخر من أجل أن تدفع للطبيب والمخبر والصيدلية، وأنها على استعداد لبيع البذار، أو قطعة أرض، مقابل أن تتحسن صحته.. لكن المشكلة أن صحته تتدهور يوماً بعد يوم، وساعة بعد ساعة.. وقالت لـه، وهي تبكي: صار أبوك يخاف، بالفعل، من رحيله عن هذه الدنيا قبل أن يكحل عينيه برؤية ابنه الوحيد...

اعتذر من أمه عن عدم تمكنه من الحضور في موعد المراجعة، وقال لها إن السبب إنما يعود إلى انشغاله بالتحضير للاجتماع مع السيد المحافظ، أما الآن، وبعد أن تكلل الاجتماع بالنجاح، وهذا التوفيق برأيه يرجع إلى رضا الله عنه، ورضا الوالدين، صار بإمكانه أن يسافر إلى الضيعة فوراً، للاطمئنان على صحة أبيه، وهو مرتاح البال، خصوصاً بعد أن همس المحافظ في أذنه عند نهاية الاجتماع: (أنت يا نضال تستحق مركزاً أكبر من المركز الذي أنت فيه الآن...).

وقال لها إنه لن يكتفي بتشخيص طبيب مركز الناحية، وسيأخذ أباه إلى طبيب ثان، وثالث، ورابع.. وطلب منها أن تعيد العصارة إلى بيت أخته وداد، والمروحة إلى بيت نظيرة، لأنه سيشتري لأبيه عصارة، وسيشتري لـه مروحة أيضاً، وأسف أن يخلو بيت أبي نضال من هذه الأشياء، لتستعيرها أمه من بيوت أزواج أخواته البنات.. وطلب منها ألا تلجأ لبيع كمية من البذار، أو قطعة أرض، فلديه من المال ما يكفي لعلاج أبيه عند أشطر الأطباء، وفي أحسن المشافي.. وقبل يديها عبر سماعة الهاتف، وقبل رأسها، قبل أن تأخذ السكرتيرة السماعة من يده، وتعيدها إلى مكانها على الجهاز.

وبعد أسبوع آخر، حين اتصلت به، وحكت له، وهي تبكي، على الحالة التي وصل إليها أبوه، كان منشغلاً مع السكرتيرة بوضع خطة تمكنه من لقاء رئيس الوزراء.. فهم منها، بصعوبة، لاختلاط الحكي بالبكاء، أن حالة أبيه قد صارت بالويل، وأنه لم يعد قادراً على الأكل والشرب والنوم، وأنه يعيش الآن على المسكنات وأكياس السيروم، ولأنها لم تعد هي، نفسها، تحتمل رؤيته وهو يعاني من الآلام الفظيعة، التي يشبهها لها في حالات صحوه النادرة: (أحس بجمرة في كبدي يا سعدية، وبمقص يقرض من قلبي) فقد تورطت وأخذته مرة ثالثة إلى الطبيب الذي طلب منها ألا تعيده إليه، وتكتفي بالمسكنات التي وصفها له يوم المراجعة، ذلك بعد أن باعت البذار، لتدفع أجرة سيارة السرفيس، وثمن المسكنات الجديدة التي وصفها الطبيب.. وفهم، من خلال بكائها أيضاً، أنها تمضي الوقت، مع الأقرباء والجيران والمحبين، في الغرفة الشرقية، عند رأسه، وهم يقرؤون القرآن، ويتضرعون للباري عز وجل، أن يسهل له، وفهم منها أيضاً أن أباه قد قطع الأمل من حضوره، قبل أن يرحل عن هذه الدنيا، ذلك حين قالت له إنه، كلما صحا، يحرك أجفانه، وينظر إلى صورتك الملونة المعلقة بالجدار، في صدر البيت، فتسيل الدموع على خديه...

اعتذر منها بشدة، وأخبرها أن سبب التأخير إنما يعود إلى انشغاله بالتحضير للاجتماع بالسيد الوزير، أما الآن وبعد أن تكلل الاجتماع بالنجاح، وهذا التوفيق برأيه يرجع إلى رضا الله عنه، والوالدين، فقد صار بإمكانه أن يذهب إلى الضيعة فوراً، وهو مرتاح البال، للاطمئنان على والده، خصوصاً بعد أن همس الوزير في أذنه بعد الاجتماع: (أنت يا نضال تستحق مركزاً أكبر من المركز الذي أنت فيه الآن...).

حاول أن يفهمها أن تشخيص طبيب مركز الناحية غير دقيق، وأن مرض أبيه في حاجة إلى تشخيص أطباء مختصين، في جعبتهم شهادات البورد، وزعل منها لأنها باعت البذار، وحذرها من التفكير ببيع قطعة أرض، خصوصاً من أرض الرابية، لأنه يفكر أن يبني منزلاً صيفياً على قمتها، لينزل فيه في أيام الصيف، عند اشتداد الحر في المدينة، وأفهمها أنه ليس قادراً على الصرف على أبيه في مستشفيات البلد ولدى أطباء البلد فحسب، بل في مستشفيات أوروبا، وعند أطباء أوروبيين: الألمان منهن، والإنكليز، والفرنسيين، إذا لزم الأمر.. ورجاها أن تكف عن البكاء، خصوصاً عند رأس أبيه، لترفع من معنوياته، ولو قليلاً، فالعلاج النفسي أهم من العلاج بالأدوية.. وقبل يديها، ورأسها، قبل أن تأخذ السكرتيرة السماعة من يده، وتعيدها إلى مكانها على جهاز الهاتف...

واتصلت بعد أربع وعشرين ساعة، ولم يفهم من كلامها، وهي تنوح، سوى أن أباه يحتضر، وأنه، إذا فكر أن يذهب إلى الضيعة فوراً، فقد يلحقه، أو قد لا يلحقه..

كانت تلال البريد تحيط به من ثلاث جهات، وتحيط به من الجهة الرابعة (المها) سكرتيرته الجديدة، التي أختارها قبل خمسة أشهر من بين مئة وتسع وخمسين متسابقة تقدمن لشغل هذا المنصب.. وفي الحقيقة كان اسمها مها فحسب، لكن نضالاً أضاف إليه (ال) التعريف، ليس لأنها تستحق مثل هذه الإضافة وأكثر، أو تمشياً مع الموضة التي درجت في البلد مؤخراً بتعريف اسم العلم، المعرف خلقة ربه، بل نكاية بموظفتين عنده، في المؤسسة، تحملان الاسم نفسه، تركت العازبة العمل في مكتبه، بعد شهرين من مباشرتها، لأنها لا تريد أن تخسر الشخص الذي تحبه، وينوي التقدم لخطبتها، وتركت المتزوجة، بعد شهر، لأنها اكتشفت أن حياتها الزوجية ستصبح في خطر فيما لو استمرت..

لأسبوعين لم يكن لديه وقت ليطل على البريد، ولو إطلالة، في الأسبوع الأول انشغل بترتيبات الاجتماع بالمحافظ، وفي الأسبوع الثاني بترتيبات الاجتماع بالوزير.. وهاهو، حين جلس ليعمل، جاءه تليفون من القرية، عطله عن شغله..

انتبهت المها للهبوط المفاجئ في حالته النفسية، بعد أن أخذت السماعة من يده وأعادتها إلى مكانها فوق جهاز الهاتف، فسألته بلهفة: خير أستاذ؟

أجابها بانكسار: الوالد حالته صعبة، والواجب أن أتوجه إلى الضيعة فوراً..

ونهض، وحاول أن يخرج من الجهة التي تغلقها، لكنها لم تسمح له بالخروج، قبل أن يناولها يده..

ـ صرت بعد المخابرة في حالة نفسية سيئة لا تسمح لك بقيادة السيارة..

ـ لكن الوقت غير مناسب الآن..

ولم تسمع منه كلمة واحدة، جرته من يده إلى استراحته الخاصة خلف مكتبه، ليخرج منها بعد نصف ساعة، بمعنويات عالية، ويقود السيارة بنفسه، باتجاه القرية، التي وصلها بعد ما يقرب من ساعة ونصف، مسلياً نفسه، طوال الطريق بالتفكير بطبيعة المناصب الجديدة التي وعده بها المحافظ والوزير، ذلك بعد أن أقنع نفسه، منذ بداية الرحلة، بأن مرض والده ليس بالخطورة التي تتحدث عنها أمه.. لأن أمه لا تختلف عن أهل الضيعة الذين يبدعون في تهويل الأمور، ويصنعون من الحبة قبة.. وقبل أن يصل إلى دار أهله، وهو يعبر أزقة الضيعة وزواريبها، حين اقترب من الجامع، سمع صوت المؤذن ينادي بكلام لا يشبه الآذان، فأوقف السيارة، وأصغى..

عندها، فقط، رمى نضال برأسه فوق مقود السيارة، وشرع يبكي بصوت مسموع..

 

 

الصحفي الجريء

 

قصد المواطن المنكوب ركن الصحفي الجريء في المقهى، وبعد السلام والجلوس، والتعارف، وتبادل عبارات لا معنى لها، على الرغم من لزومها في مناسبات كهذه، حين يلتقي شخصان لأول مرة، كالسؤال عن الصحة، وأحوال الطقس، ونسبة الأمطار النازلة، وتهريب المازوت، وحوادث السير، وآخر الإشاعات بخصوص زيادة الرواتب، وأسعار السيارات.. وبعد وصول فنجاني قهوة، دون سكر، إلى الطاولة، بطلب من الصحفي الجريء، وإشعال سجائر الحمراء الطويلة، التي لم تنطفئ، طوال الجلسة، دار بينهما الحوار التالي:

المواطن المنكوب: عندي موضوع تحقيق صحفي ساخن لا يجرؤ على إجرائه، ونشره، أحد غيرك، مثلما فهمت، من بعض معارفكم، الذين يتحدثون عن تخصصكم بإجراء التحقيقات الصحفية الجريئة التي لا تترك ستراً مغطى على الفاسدين، من مرتكبي الجرائم بحق البلد والناس...

الصحفي الجريء: استغفر الله العظيم يا أخي المواطن.. أنا لا أقوم إلا بجزء يسير من واجبي.. أصلاً لا معنى للصحافة إذا لم تقف إلى جانب الناس المظلومين.. لكن ما قلت لي إيش موضوع التحقيق؟

المواطن: يا سيدي الكريم، حصل خطأ طبي قبل أسبوع، أدى إلى وفاة إنسان.. مريض قلب، في حاجة لعمل جراحي بسيط (فتاق) خدروه تخديراً شاملاً، بدلاً من التخدير الموضعي، فانقطع نفسه بعد العملية، ومات.. إنه أبي يا أستاذ...

الصحفي: يا لطيف، ويا ستار! كل شيء يمكن السكوت عنه باستثناء اللعب بحيوات الناس.. سأجري لك تحقيقاً يخرب البيوت.. مثل هذه القصة لو جرت أحداثها في بلد مثل السويد، لأغلقوا المستشفى الذي أجريت فيه العملية، وسحبوا الشهادة من الطبيب الذي أجراها، ودفعوا تعويضاً لأهل المتوفى يكفي لشراء خمسة بيوت.. على كل حال البقية بحياتك، قل لي في أي مستشفى جرت العملية حتى نبدأ فوراً، فأنا منذ زمن طويل عاقد العزم على البدء بإجراء سلسلة تحقيقات صحفية عن مشافينا التي تحولت إلى مسالخ، والعياذ بالله.. وها قد أخرجنا من حقيبتنا قلماً وورقة..

المواطن: في مستشفى العافية لصاحبه الدكتور عبد الشافي..

الصحفي: غير معقول!! إن ما أعرفه هو أن العمل الطبي يجري بشكل جيد في هذا المستشفى..

المواطن: يجري بشكل جيد، أو سيء.. المهم أن الخطأ قد وقع في هذا المستشفى بالذات، وأن أبي قد مات..

الصحفي: يا أخي في أحسن بلدان العالم يوجد نسبة فشل في الأعمال الجراحية، طبعاً ترتفع هذه النسبة، وتنخفض، حسب تطور الطب في هذا البلد أو ذاك.. لهذا حين يخرج الطبيب من غرفة العلميات، يقول لأهل المريض: إن العملية قد نجحت.. أو نحن عملنا ما علينا، والباقي على الله.. ويتركهم، ويمضي، ليلاقي المريض مصيره المحتوم..

المواطن: أنا أعتقد أن خطأ كهذا لا يمكن أن يحصل في أي بلد من بلدان العالم، مهما كان الطب فيه متخلفاً..

الصحفي: قد تكون محقاً يا أخي المواطن، لكن، بصراحة، أنا غير قادر على إجراء تحقيق، كهذا، فالدكتور عبد الشافي قريبي، والظفر لا يطلع من اللحم...

المواطن: طيب اترك لنا سيرة المستشفى جانباً، واترك لنا سيرة الدكتور صاحبه، واكتب لنا عن الطبيب الجراح، الذي أجرى العملية، وتسبب بالوفاة..

الصحفي: على رأسي، ثم عيني.. لو قلت لي مثل هذا الكلام منذ البداية كان اختلف الكلام.. اعطني اسم هذا الطبيب الجراح، لأخرب لك بيته، وبيت كل طبيب مثله أجرى عملاً جراحياً، عفس فيه، وتسبب بوفاة مريضه..

المواطن: أنا لا أعرفه شخصياً، لكن أعتقد أن اسمه عبد القادر الجزار...

الصحفي: ماذا تقول أنت؟! اسمه عبد القادر الجزار!! ألا تعلم أن هذا الرجل من الجراحين المهمين بالبلد، كان متفوقاً في دراسته، وانتسب لكلية الطب بفضل درجاته المرتفعة.. أعني أنه لم يكن من المظليين، أو من جماعة دورات الصاعقة، وسواهم من الذاهبين إلى الجامعات بفضل القبول الاستثنائي، ناهيك عن أنه تخصص في أفضل جامعات الغرب ومستشفياته؟

المواطن: أنا لا أعرف إن كان متفوقاً في دراسته، أم لا.. المهم أنه أجرى العملية لأبي، وأن أبي قد أعطاك عمره...

الصحفي: طيب ألا تعرف أنت أن هذا الطبيب شريكي في لعب الـ (41) وجاري بالبناية، والله تعالى، جل اسمه أوصانا بسابع جار؟

المواطن: ومن أين لي أن أعرف يا أستاذ؟ أنا رجل درويش، على قد حالي، من الشغل إلى البيت، ومن البيت إلى الشغل، لا أعرف من الناس سوى بعض جيراني، وأقاربي، وزملائي بالعمل..

الصحفي: أنا آسف يا أخي المواطن عن إجراء تحقيق صحفي كهذا، وإذا كان عندك غير هذا الموضوع، فأنا جاهز لشغله، ونشره، على الفور..

المواطن: طيب أنا عندي اقتراح..

الصحفي: تفضل.. أنا تحت أمرك..

المواطن: لا يأمر عليك ظالم.. اترك لنا سيرة المستشفى جانباً، وسيرة صاحبها قريبك، وسيرة الطبيب الجراح جارك، وشريكك بلعب الطرنيب، واكتب لنا عن الطبيب المخدر، الذي ساهم، بشكل فعال، بالوفاة..

الصحفي: الآن دخلنا في الجد، فالطبيب المخدر هو المسؤول الأول والأخير عن حصول هذه الكارثة، فلو كان جلس بجانب مريضه بعد إجراء العملية، وراقب تنفسه، لما جرى ما جرى.. أعطني اسمه الآن، وأنا سأسلخ لك جلده عن عظمه، وأربي به كافة أطباء التخدير في البلد.. وهانحن قد أمسكنا بالقلم، وتوكلنا على الله..

المواطن: اسمه عبد الحي من ضيعة المركونة...

الصحفي: اسمه عبد الحي! ومن ضيعة المركونة أيضاً!! كأنك لا تعرف أني من ضيعة المركونة؟! أو أنك لا تعرف أن هذا الطبيب، بالذات، صديقي الروح بالروح؟! إنه رفيق الصبا يا رجل، كان مقعدنا واحداً في المدرسة في المراحل الثلاث: الابتدائية والإعدادية والثانوية.

المواطن: أنا آسف يا أستاذ.. لو كنت أعرف مثل هذه المعلومات ما كنت جئت أبحث عنك..

الصحفي: على كل حال حصل لنا الشرف بمعرفتك، وخيرها بغيرها، فالأيام لما تنته بعد..

المواطن: كيلا نرجع من المولد بلا حمص، إيش رأيك تكتب لنا عن الممرضات العاملات في المستشفى؟ مؤكد أن لاسترخائهن في مراقبة المريض، بعد خروجه من غرفة العمليات، ووفاته بعد لحظات، علاقة بما جرى..

الصحفي: الله أكبر!! أنا صرت أشك الآن بأن أحداً ما قد دفعك علي، لأتورط في مشاكل أنا في غنى عنها.. أتريد مني أن أكتب عن الممرضات يا مواطن؟! وهل فقدت عقلي لأكتب عن ملائكة الرحمة؟! ثم إن حبيبة القلب تعمل ممرضة، والآن عندي موعد معها.. خاطرك...

المواطن: مع السلامة..

نهض الصحفي الجريء، وخرج على عجل إلى موعده، بعد أن أعاد القلم إلى جيب قميصه، والورقة التي بقيت ناصعة إلى حقيبته.. ونهض المواطن المنكوب أيضاً، دفع ثمن أربعة فناجين قهوة دون سكر، وكأسي شاي سكر زيادة، كانت قد وصلت تباعاً إلى الطاولة، بناء على طلب الصحفي الجريء، وخرج يبحث عن صحفي جريء آخر، لا تربطه علاقة بالمستشفيات، وأصحابها، ولا بالأطباء، والممرضات، بعد أن اكتشف أن قداحته، أم الخمس ليرات، وأن علبة سجائره، الحمراء الطويلة، التي اشتراها حين دخل المقهى، ودخنا منها طوال الجلسة، قد اختفتا عن الطاولة...

 

 

 

عزف منفرد على خيط مسبحة *

 

 

وضع المسبحة بين يديه ، وبدأ يهمس ، وهو ينقل حباتها بأصابعه من كف إلى كف : أتروح أمي إلى الحج ؟ أم لا تروح ؟ تروح .. لا تروح .. تروح .. لا تروح .. وانتهى من العـد والهمس عنـد تروح ..

لكن كيف ستروح ؟ ومن أين سيدبر لها خمسين ألفاً إن راحت ؟ وقد لا تكفيها الخمسون ألف ليرة لمصاريف السفر.. ألن تجلب معها هدية لأحد ؟ جلابية لهذا ، وعباءة لتلك .. أو قطعة قماش لكل نفر من الأصول والفروع .. أو للفروع فحسب ، فأصول أمه قد صارت تحت التراب ..

ثم يجيء دور المسابح .. وهل يجوز الحج دون مسابح؟  هذه المسبحة التي بين يديه حجاجية هدية من جاره أبي خليل الذي قصد الديار المقدسة في العام الماضي .. أصلاً لا يصدق الناس إن قيل لهم إن فلاناً قد سافر إلى الحج ، ورجع ، دون أن يجلب معه خرج مسابح ، وحفنة  من مـــاء زمزم .. وإن سولت له نفسه ، وفعلها ، يصير بنظرهم وكأنه لا راح ، ولا رجـع ، ولن يسـلم من ألسنتهم طوال حياته .. وقد يورّث العار لأولاده وأحفاده بعد موته ..

((  هذا أمه التي حجت قبل عشر سنين ولم تجلب معها مسبحة ))

(( هذا جدته التي حجت قبل عشرين سنة ولم تجلب معها دمعة من ماء زمزم ))

 بالنسبة إلى ماء زمزم قربة واحدة تكفي .. فكلما نقصت القربة لتراً أضافوا إليها من ماء الحنفية .. وهكذا تبقى القربة ممتلئة بالماء إلى أن تنتهي المناسبة ..

ثم قدّر عبد الله ثمن السكر والشاي ، والقهوة المرة والحلوة ، وثمن الضيافة من الحلو.. لقد درجت في السنوات الأخيرة موضة تقديم الراحة المحشوة بالفستق الحلبي لضيوف الحاج ، القطعة الواحدة من هذا الصنف تكلف خمس ليرات .. بعدئذ يجيء دور الذبيحة .. إن أرخص ذبيحة ، ولو كانت بمثابة خروف ابن سنة ، تكلف خمسة آلاف ليرة .. أم أنك لن تذبح لأمك يا عـبد الله ؟ أترضى أن يقول الناس فيك : إن الأستاذ عبد الله ، الموظف الكبير عند الحكومة ، بعث أمه إلى الحج ، فرجعت يداً من وراء ويداً من قدام ، ما جلبت معها هدية لأحد ، ولا قدم لها ابنها البكر الضيافة المناسبة ، أو ذبح لها خروفاً أو ديكاً عزم عليه الأهل والجيران ؟ يا حيف على خلفة كهذه ، يا حيف 00 الأم تحمل ، وتلد ، وترضع ، وتربي ، وتمنع اللقمة عن فمها ، لتطعمهـا لأولادها ، الذين حين يكبرون ، يتحـولون إلى أفاعي رقطـاء ، برأسين ، يستكثرون في أمهاتهم مصاريف الذهاب إلى الحـج !

ورجع من الحديث مع نفسه ، إلى الهمس مع حبات المسبحة ، وهو ينقل حباتها بأصابعه ، من كف إلى كف : أتروح أمي إلى الحج ؟ أم لا تروح ؟ تروح .. لا تروح .. تروح .. لا تروح ..  وانتهى من العد والهمس عند تروح ..

ولماذا لا تروح ؟ من في مثل سنها من عجائز واختيارية الضيعة لم يذهب إلى الحج ؟ أهي أقل قيمة منهم كيلا تذهب ؟ أهي من عائلة صغيرة ؟ أو أبناؤها أقل شأناً من الذين أرسلوا أمهاتهـم وآباءهـم إلى الحـج ؟ يكفي من أبنائها عبد الله ، المسؤول الكبير في شركة ( س ) الحكومية ، الذي لا تصير كلمته اثنتين ، تحت يديه ميزانية الشركة التي تفوق الخمسمائة مليون .. لن يصدق أحد من أهله ، ومعارفه ، وأبناء ضيعته ، أنه ليس بمقتدر على إرسال أمه وحدها إلى الديار المقدسة .. أيحمد الله الآن على وفاة أبيه المبكرة بالسل لأنه وفّر علـــيه طلباً كهذا ؟

ـ صدقيني يا أمي حين أقول لك إن الراتب الذي أقبضه لا يكفي لمصاريف البيت ..

ـ هذا لأن الله لا يبارك لك فيه .. شف صبحي ، زميلك بالدراسة ، ومرؤوسك بالشغل  ، كيف يقبض الراتب فيتحول بين يديه إلى ذهب أحمر .. أصلاً الذين في مثل مركزك صار عندهم أراضي زيتون ، وسيارات قاطرة ومقطورة ، وباصات على خط الشام ..

ظن في البداية أن حبات المسبحة قد تآمرن عليه ، وكأنه لا يعلم أن حبات هذا الصنف من المسابح يبلغ ثلاثاً وثلاثين حبة ، وأنه حين يبدأ العد والهمس ب : أتروح أمي إلى الحج ، أم لا تروح ، فانه سينتهي عند تروح .. إذن جهله بعدد حبات المسبحة هو السبب .. أصلاً هو حديث العهد بالمسابح .. صار يخجل بعد تقدمه بالسن من عادة قبيحة نشأ عليها ، وهي قضم أظافر يديه بأسنانه ، ففكر أن يشغل أصابعه بشيء ما عن أسنانه ، فوجد المسابح في طريقه .. وأصنافها سيان عنده ، إذ تستوي التي بخمس ليرات ، مع التي بخمسين ، أو خمسمائة .. التي تتألف من ثلاث وثلاثين حبة ، مع التي من إحدى وخمسين ، مع أم المائة حبة وحبة ، لطالما تؤدي كلها الغرض نفسه : إشغال الأصابع عن الوصول إلى الفم ..

في إحدى المرات ، أخذت أمه مسبحته من يده وشرعت تسبّح بها عن جد ، وحين نهض ، وهمّ بالخروج من المنزل ، وطلبها منها بقوله : اعطني مسبحتي ، قالت له : مسبحة عندما تكون معي .. أما عندما تصير معك ، فهي ملوحة ، أو مقبحة ، رح ، الله يهديك ..

 ثم تذكر مسألة الزينة .. أترح أمه إلى الحـج ، وتعود بالسلامـة ، دون أن يزين لها الدار؟ مستحيل .. لن يترك مجالاً لأهل الضيعة ليؤلفوا فيه سيرة تفوق صفحاتها عدد صفحات تغريبة بني هلال .. بل لن يترك لهم مجالاً ليتناولوه ولو بكلمة واحدة .. ولو بحرف .. سيطلي الدار من الخارج بالكلس .. خمسة كيلووات من الكلس ، يذيبها في برميل ماء ، ثم يستعير بخاخاً من عند أحد معارفه ، ويشمر عن ساعديه وساقيه ، و يرشها بنفسه ، وبعد أن يجعلها تشع بياضاً ، سيسخر واحداً من معارفه ، من أصحاب الخط الجميل ، ليرسم له الكعبة المشرفة فوق باب الدار ، محاطة بنخلتين ، ويكتب على الجدران بعض الآيات ، والأحاديث ، والأقوال المأثورة : الحج عرفة . من زار قبري وجبت له شفاعتي . حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً . أهلاً وسهلاً بزوار قبر المصطفى ..

أرض الدار ، والغرف من الداخل ، سيزنها بالأعلام الخضراء ، والشرائط .. خصوصاً غرفة الضيوف ، التي سيستقبل فيها المهنئين بعودة أمه بالسلامة ..

ـ ليش خلقتك مقلوبة أستاذ عبد ؟

ـ مسألة شخصية صبحي .

ـ ولو كانت شخصية . نحن أخوة .

بلع عبدا لله ريقه ، وعرق ، وتأتأ : أمي زعلت مني ، وتركت بيتي ، وراحت تسكن عند أختي حليمة .

وضع صبحي بريد لجنة فض العروض أمام عبد الله على الطاولة ، وتساءل باندهاش بعد أن جلس على أقرب كرسي إلى الطاولة  : غير معقول ! كيف تترك خالتي أم العبد  بيت ابنها البكر ، وتروح تسكن عند إحدى بناتها ؟

شرع عبد الله بتقليب أوراق البريد ، والتأشير عليها ، دون أن يجيب على تساؤل صبحي ، وكأنه رغب بإنهاء الحديث عند هذه النقطة ، لكن صبحي لم يحقق له هذه الرغبة ..

ـ ما قلت لي ليش تركت خالتي أم العبد البيت ؟

سال العرق على جبين عبد الله ، وخديه ، وصار ينقط من ذقنه على الطاولة ..

ـ تريد أن تروح إلى الحج ..

فجأة تغير شكل صبحي .. انتفض في وجه عبد الله مثل الديك المذبوح ، وانقضّ علـيه كالنسر ، كأنه أبوه ، وله بذمته  ثمن التربية ..

ولماذا لا تروح ؟! آ ؟! أليس هذا من حقها وهي في مثل هذا العمر ؟ بالفعل إنك رجل عاق . ألا تعلم أن الجنة تحت أقدام الأمهات ؟ أم أنك نسيت الشهور التسعة التي حملتك فيها في بطنها ؟ الحليب الذي أرضعتك ؟ سهرها الليالي قرب سريرك وهي تحدوا لك كي تنام ؟ ثم ألا تدرك أنك بمنعها من الذهاب إلى الحج تعطل ركناً من أركان الإسلام يا قليل الدين ؟

ترك عبد الله البريد من يده ، واستدار إلى صبحي ، ليرد على صياحه بهمس ، وكأن الشتائم الذي سمعها منه تخص شخصاً آخر سواه ..

ـ الحج فريضة على من استطاع يا صبحي ، وأنا لست بمقتدر.. لن أتسول أمام المساجد بعد كل صلاة من أجل أن تذهب أمي إلى الحج ؟ ولن أصوم أنا وزوجتي وأولادي عن الأكل والشرب واللبس بقية عمرنا من أجلها ؟

نهض مصباح فجأة ، ركض صوب الباب ، أغلقه ، رجع بالسرعة نفسها ، انحنى فوق عبد الله ، وهمس في أذنه :

ـ لماذا لا تدبر رأسك من هنا ؟

وأشار إلى الخزنة .

ذعر عبد الله .. لأول مرة يحدّثه صبحي بمثل هذه اللهجة المقشرة ..

ـ مؤكد أنت تمزح معي .

ـ لا . أنا لا أمزح معك ، ولا سبق لي أن مزحت معك بمثل هذه المسائل .

ـ يعني تريد مني أن أسرق من أموال الشركة ؟!

ـ ومن قال لك إنها سرقة ؟ لو كنت ستصرف المبلغ على طاولات القمار ، أو في الأندية الليلية ، أو على رؤوس الراقصات في المقاصف ،كنا قلنا إنها سرقة .. إنها في سبيل الله يا رجــل..

أمضى عبد الله الليل بطوله يفكر بكلام صبحي .. زوجته ، وابنه طالب الثانوية العامة ، الذي سهر لوقت متأخر يحضّر ، انتبها لحالته .. لم يجد في طريقه من مبررات لأرقه سوى الكذب : مغص في معدتي لا يـتركني أنام ..

غلت له زوجته منقوع الكمون في البداية ، ثم البابونج والنعناع ، وقرأت عند رأسه عدداً من قصار السور ، أتبعتها بسورة ياسين ، التي تحفظها منذ طفولتها ، فغفا لساعة ، قبل أن يستيقظ ، ويذهب إلى المؤسسة ، ويرجع إلى حسابات المسبحة ..

أسرق المبلغ من صندوق الشركة ؟ أم لا أسرق ؟ أسرق .. لا أسرق .. وانتهى من العد والهمس عند أسرق .. لكن كيف سيسرق ؟ أيتحول إلى لص بطرفة عين ، بعد عشرين سنة أمضاها بالوظيفة ، دون أن يمد يده إلى قرش واحد من المال العام ؟ لقد أغلق هذا الباب منذ بداية عهده بالوظيفة ، وانتهى الأمر ، على الرغم من الفرص الكثيرة التي سنحت له ، ولا تزال ..

السرقة من صندوق الشركة في سبيل ذهاب أمي إلى الحج حلال ؟ أم حرام ؟ حلال .. حرام .. وانتهى من العد والهمس عند حلال ..

ضاع عبد الله .. لم يعد يعرف يديه من رجليه .. أتكون حسابات المسبحة صادقة ؟ أيكون صبحي صادقاً ؟ أتكون السرقة من المال العام في مثل مسألة الذهاب إلى الحج حلالاً دون أن يدري ؟ لماذا لا يذهب إلى مفتي البلد ويسأله ؟ لماذا لا يذهب ويسأل إمام الجامع الكبير ؟ لكن لنفترض أن الشيخ عرفه ، أو المفتي ، وأدركا مراميه من وراء السؤال .. أيفضح نفسه بنفسه ؟ إن خوفه على سمعته أشدّ وطأة على نفسه من ارتكابه فعل الحرام .. ثم إنه ليس بقصير حربة في فهم مسائل الشريعة ، والاجتهاد فيها ، عند الضرورة ، ليروح ، ويسأل ..

أغضب الوالدين أصعب ؟ أم السرقة ؟ غضب الوالدين .. السرقة .. الغضب .. السرقة .. وانتهى من العد والهمس عند غضب الوالدين ..

لم يبق من حلول أمام عبد الله ،كيلا يغضب أمه ، إذا ما بقيت مصرة على الذهاب إلى الحج ، سوى أن يذهب إلى مصرف التسليف ، ويأخذ قرضاً .. لكن المصرف لا يمنح قرضاً بمبلغ كبير كهذا .. حتى لو دبر رأسه ، وأخذ قرضاً من مصرفين ، فان غضب أمه نازل فوق رأســـه لا محالة .. إنها تحرّم التعامل مع المصارف من أساسه .. مؤكد أنه لو استشارها ستقول له : 

ـ هذا ربى يا ابني الله يبعدنا عنه ..

وقد لا تكفيه المئة  ألف ليرة أصلاً .. مصاريف الزينة لم يحسبها ، وتكاليف إقامة المولد راحت عن باله .. صبحي استقدم فرقة ( أديب الدايخ ) بعد رجوع أمه وأبيه من الديار المقدسة .. يومها ، وبعد انتهاء المولد ، غنى الدايخ للشباب : أنا سعاد .. وعشقتك يا ليلى .. وشقراء لا كدراً يشوب صفاءها .. فغنوا معه ، ورقصوا .. فرقة الدايخ ، وحدها ، كلفت صبحي مبلغاً تجاوز الثلاثين ألفاً .. أيرضى أن يقول أهل البلد إن صبحي استقدم فرقة كبيرة كهذه ، وعبد الله لم يكلف خاطره باستقـــدام فرقة المنشدين العميان ، أو الدراويش ؟

دخل إليه صبحي ببريد شعبة العقود ، فتوقف عن تحريك حبات المسبحة بين أصابعه ، والهمس مع كل حبة تنتقل من كف إلى كف ..

ـ صباح الخير .

 ـ صباح النور .

 وضع صبحي البريد على الطاولة أمام عبد الله ، وجلس على أقرب كرسي إلى الطاولة .

ـ ما رجعت خالتي أم العبد إلى البيت ؟

ـ لا والله . ما رجعت .

ـ ومت سترجع ؟

ـ حين أدبر لها مصاريف الروحة إلى الحج .

ـ ومتى ستدبر لها مصاريف الروحة يا أستاذ عبد الله ؟

ـ لن أدبرها يا مصباح .. لو كانت خمسة آلاف .. عشرة .. عشرين كنت تصرفت .. إنها أكثر من مئة ألف ليرة يا رجل ..

ـ أكثر من مئة ألف ، أو أقل .. عندك في الخزنة أكبر من هذا المبلغ بكثير ..

ـ المبلغ الذي في الخزنة لم أرثه عن أبي . ثم افرض أني سحبته من صندوق المؤسسة ، فكيف أخرّجه من قيودي ؟

ـ المسألة في غاية البساطه .. نشتري قرطاسية بعشرين ألفاً ، ونجلب فواتير بمئة وعشرين .. أو نعطل سيارة على الورق ، ونصلحها على الورق ، ونقبض نحن مصاريف الإصلاح .. بالنسبة لي أنا ، ومن أجل عيون خالتي أم عبد الله ، سأقوم بالإجراءات اللازمة كافة ، من الحصول على الموافقات المطلوبة ، إلى تحضير عروض الأسعار ، وتجهيز الفواتير ، وإدخالها المستودع ، وإخراجها ، وتحضير أوامر صرف بها .. أنت مطلوب منك التوقيع فقط ..

وأضاف صبحي بعد أن فتح طريقاً في رأس عبد الله :

ـ أنت لو تدرك قيمة الأدعية التي ستدعوها لك خالتي أم عبد الله وهي واقفة ، بين يدي الله ، في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام ، تصلي .. أو وهي تطوف حول الكعبـة .. أو حين تلمس الحجر الأسود ، أو وهي تقبلها .. أو حين تقف على جبل الرحمة ، في صباح يوم عيد الأضحى ، تكبّر، كنت ركضت بيديك ، ورجليك ، ودبرت لها المبلغ .. أما آن لك أن تعمل شيئاً لأخرتك ؟

قرّر عبد الله ، بعد خروج صبحي من مكتبه ، أن يستخدم المسبحة للمرة الأخيرة ، ويحسم هذه المشكلة التي تشغل باله منذ عدة أيام .. انصرف بكيانه كله إلى المسبحة .. وضعها بين أصابعه ، وشرع ينقل حباتها من كف إلى كف ، على مئة مهله ، وهو يهمس مع كل حبة تنتقل من طرف إلى طرف : أتروح أمي إلى الحج ؟ أم لا تروح ؟ تروح .. لا تروح .. تروح .. لا تروح ..كأنه ظن أن المسبحـة قد تغير رأيها .. أو أنه بدأ يفكر بوضع قدم له على الطريق التي فتحها صبحي في رأسه .. وقبل حبتين ، أو ثلاث ، من النهاية ، كان خيط المسبحة قد انقطع ، وتناثرت حباتها على الأرض ..

ـــــــــــــــ

*المسبحة : هي السبحة بالفصحى طبعاً ، وقد استخدمت الاسم مع مشتقاته بالعامية لانسجامها أكثر مع الإيقاع الذي كتبت به القصة ..

 

أضيفت في 18/11/2005/ خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية