الشـــــك
السيّارة تبتلع الطريق ابتلاعا . والمقود بين يديك مارد متجبر . وعيناك
تلاحقان سيارة اجتازتك، يقودها رجل وسيم، تجلس حذوه زوجتك وهى تداعب شعره
بأصابعها الرقيقة البضة.
احترق قلبك غيرة فقررت مجاوزة سيارة غريمك . . دارت في خلدك فكرة الانتقام
. . ضغطت جَهاز السرعة وكدت تدوس المترجلين . أبطأ الضوء الأحمر . وغلا دمك
لوقوفك .. لعنت هذا البطء خوفا من انفلات غريمك .. اصطكت أسنانك وتصلب شعر
شاربيك لعنت حبك الصادق وقلبك الوفي وودك الصافي لزوجتك اللـّعوب . لم تكن
تتوقع منها هذه الخيانة ... " لعله زميلها في الشغل أراد أن يوصلها ؛ لأنك
أبطأت في الاجتماع ".
ثم أحسست بانهيار صرح حياتك في طرفة عين . . . الضوء الأحمر والأعمدة
الكهربائية وأنوار السيارات جحيم تنصهر فيه روحك . ضاعفت في السرعة ...
وخرقت الضوء الأحمر وكدت تصدم سيارة معاكسة لاتجاهك وقلت : " لا بد أن
ألتحق بها وأفضح ألاعيبها " .
وأصبحت في دوامَـة تقطع عليك أنفاسك ، فتحت بلور النافذة وتنشقت نفسا طويلا
من الخارج.
ولم تعد تحسّ بقبضة يديك على المقود ، صارت دائرته مادة هشة كالقطن ... لم
تعد قادرا على ملاحقة غريمك ... فسرعته تفوق سرعتك . وأخذ خيالك يؤلف رسالة
توديع لزوجتك الخائنـَة ... تضعها على السرير بعد أن تجمع أ غراضك في حقيبة
وتغادر البيت .. إنك لم تنجب منها أولادا واشتدت الظلمة فلم تعد تشاهد
زوجتك وغريمك ... لقد حاولت بكل جهد أن تسابقها لكنك فشلت ، إذ كدت تدوس
شيخا مترجلا وضغطت المكبح فارتجت بك السيّـارة في عنف وإذا أنت في المستشفى
وخرق بيضاء تعصب جبينك، ويدك ورجلك في الجبس ، ويدك الأخرى مقطوعة تماما .
وتناهت إلى أنفك رائحة الأدوية.
وتراءت لك صورَة الأطباء ، يتحلقون حولك ويفتحون صدرك وينزعون منه قطع
الزجاج المهشـّم ويقلعون قلبك الوفي ويزرعون في مكانه قلبا خائنا . تلاحقت
أنفاسك، وتصارعت دقات قلبك ، وأنقصت من السرعة ، ونزعت فكرة الموت من خيالك
، وفتحت زر الراديو داخل سيارتك وتناهت إلى مسمعك كلمات أغنية.
ترنمت بكلماتها ثم اهتديت إلى معناها ، فأخرست صوت الراديو وأشعلت سيجارة
في حركة عصبية ، والسيارة تطوي الطريق وتلتهمه ، وأنت تهتز على مقعدك ،
وتسطع جمجمتُـك السقفَ فصحت صيحة عالية وتاه بك منعرج حاد .. ربتت زوجتك
على كتفك بلطف قائلة : " انهض يا عزيزي لقد طلع النهار ".
تململت في الفراش والعرق يغمرك . وأطلقت ضحكة عالية وعانقت زوجتك طويلا
وغصت في حرارة القبل واستحضرت حفلة زفافك يوم حاذيت عروسك الجميلة المتألقة
في السيارة ، وخلفكما باقة الورد الزاهية . يومها قلت في نفسك : " كم هي
جميلة ورائعة حبيبتي ، إني أغار عليها " .
الشمعــــدان
كان ليلها ثقيلا : للعاصفة نحيب يملؤها حزنا ، صرير الأبواب يقلق مضجعها ،
للريح صوت يتغلغل في نفسها ويؤسس مملكة للرعب ، طقطقة النوافذ أصوات مزعجة
تضاعف شعورها بالوحشة .. وحشة متدثرة بالظلام الزاحف على مناطق الصمت .
فكرت في إنارة الغرفة ... إنها فرصة ليرى شمعدانـها الجديد النور ، لكن
صفير العاصفة جعلها تركن إلى الخمول ، فدست رأسها تحت الغطاء لحظات أخرى
من الراحة والدفء . وفجأة أضاءت الغرفة ... أطلت فرأت شمعتين ارتكزتا على
الشمعدان و أشاعتا نورا مبهرا ... بسملت ومكثت تحدّق . . . قرّبت أناملها
من النار .. كانت نارا تضيء ولا تلهب ... سمعت حمحمة تخرج من جوف الشمعدان
.. خرج منه رجل في لون الضباب . اعتدل ، ونفض الغبار عن بدلته ، وابتسم ثم
قال :
- لا تخافي ، كنت بشرا مثلك ، أنا روح الشمعدان .
حدّقت فيه دون أي حراك ، كان وسيما ، ذا ملامح واضحة ... شعر غزير وشاربان
طويلان وعينان شرارتان ... لونهما من لون الرماد . تحاملت ثم قالت :
- من جاء بك أيها الرجل ؟ كيف دخلت حجرتي ؟
- أنا لم ادخل غرفتك ، أنا ساكن جوف الشمعدان ، أنت اشتريتني دفعك حبك إلى
الطرائف النادرة فأدخلتني بيتك .
- قل لي ما قصتك بالضبط ؟
- اطمئني لا تخافي أنا كونت من كونتات الإفرنج ، عشقت ابنة الملك .. كانت
روعة في الجمال فهمت بـها وهامت بي .. لكنّ أباها رفض زواجنا وضرب بحبنا
عرض الحائط وصارت بيني وبينه عداوة . وذات ليلة بينما أنا بحجرة ابنته -
وقد دخلت خلسة - التحق بي الملك ورفع هذا الشمعدان وضربني به على أم رأسي
فانتقلت روحي إلى هذا القمقم الصغير .. من ساعتها و أنا ساكن جوفه وأحيى
فيه من خمرة العنب . وها قد دفعت بي الأقدار وصرت بين يديك . وحين اشتد بي
الظمأ خرجت أتوسل إليك أن تمنحيني جرعة خمر .
- ما أغرب قصتك يا كونت ! ولكن أنى لي أن آتيك بالخمرة والوقت ليل، وأنى
لي بالحانات وأنا امرأة متعففة . أعطيك شربة ماء إذا شئت أو كوبا من
الشاي .
- أتوسل إليك ! إني أكاد أحترق ... لقد تعود سابقوك أن يسقوني خمرا،
دعيك من هذه الخرافات ، الخمرة زينـة موائد الملوك وتحفة الأفراح ، تدبري
الأمر ، أرجوك ... لا تدفعيني إلى الغضب .
- اسمع يا كونت لي رطل من العنب، إذا شئت أصنع لك منه عصيرا ، ولا فائدة
في أن تطالبني بأكثر منه .. إن مدحك للخمرة لا يغريني على اقتنائها .
- انك امرأة رقيقة واللهّ . ومؤانسة روحك تستطاب . لقد دخلت قلبي بلا
استئذان وستجدين فيه كل ترحيب، سأمكث عندك ولا أمسك بسوء .
- هل الأرواح تعرف هذه المشاعر .
- نعم وعواطفها شفافة كشفافيتها .
أخرجها هذا الحوار من عالمهـا وحملها الى فضاء تخـدرت فيه حواسها واعتراها
ذهول . دخلت يومها نـهج زرقون : بـحرا متلاطما من الناس بحرا أسود من
الهامات تتماوج فيه حركات وئيدة متراصة . انّ السرعة تستحيل على المار من
هذا النهج التجاري ، سوق بلا حدود ، بضائع مستوردة ، ضروب من السلع يعرضها
أصحابها في هدوء ، وأخرى ينادون اليها الزبائن في الحاح ، هذا يكاتف وهذا
يزور . حملتها قدماها الى دكان التحف القديمه فوجدته شبيها بالمتحف الصغير
واحست بمتعة النظر في الأشياء القديمة : غرف نوم ذات طراز عتيق نادر ،
مرايا حائطية مزخرفة بأشكال هندسية ونباتية ..أرائك من الخيزران .. رسومات
كبيرة في أُطُـر منقوشة محلاّت باللون الذّهبي وزرابي وأواني خزفية .كانت
رائحة القِدَمِ العطنة تشدّ بيد الجدهّ المتأنـقة ، أحست برهبة ورأت نفسها
داخل كنيسة تخّدرها موسيقى حالمـة . " القدم صورة ضامرة للفناء . القدم
صورة الزمن المتمرد على خلود الإنسان وبقائه في الكون " .
شدهاّ شمعدان ذو حسكتين من النحاس الرفيع البراق منقوشٌ نقشا فريدا يحتار
الناظركيف بدأت يد الصانع وكيف انتهت ، رُسِمَ عليه وجه حسناء رقيقة
التقاسيم يتوزع جسمها الملائكي على الجذع الرئيسي للشمعدان . سألت عنه صاحب
الدكان فأجابها : " بعشرين دينارا " ساومته وأبدت له رغبتها في شرائه ونزلت
المساومه الى ثمانية دينارات ، لفّه في قطعة من الورق وانصرفت هي وضجيج
النهج مازالت اصداؤه في رأسها . نزعت عنه الغلاف ومسحته من ذرات الغبار .
وحين أدخلت إصبعها في عنقه الأول وجدت به سائلا ... تشممّته ... ذكّرها
برائحة التمر المتعفّن . وفحصت العنق الثاني فوجدته مملوءا بذلك السائل ،
كان لنحاسه دفء بشري في كفهّا ... دخلت حجرة نومها .. ركزته على منضدة
السرير كانت فَرِحَـة فَرَحَ الظافر بتحفة أثرية هامة ...
أفاقتها أصابع الكونت تمسح عن عينها غشاوة سرعان ما انقشعت فصاحت :
- اغرب عن وجهي ايها الروح ، أنا لا أخافك لقد علمتني العزله الانتصار .
- اسكتي .. سأجعلك تحبينني . أما الآن فأرجوك ان تحضري لي عصير العنب ..
وسأعود الى الشمعدان حالا ولا أقلقك .
- بل عدْ الى بلدك والى عالمك . فعالـمُنَا لا يفهم لغة الأرواح ما جاء بك
الى بلدنا ؟؟
- لن أعود الى بلدي ، أما الذي جاء بي فهو رجل مغرم بحضارتنا .. اشتراني من
سوق المزاد العلنّي . المهم ان تفهميني انت وفي هذا كفايه .
- لا أفهم الأرواح ، وماذا أصنع بك سأكسر هذا الشمعدان وينتهي أمرك ...
- اياك ان تفعلي لأنني أتحول إلى رأسك .. كُفّي عن الثرثرة و احضري لي كأس
العنب .
توجهتْ الى المطبخ . وبينما هي تغسل العصّارة إذ بالكونت ينزل الدرج مترنحا
، ولخطواته وقع على الجليز . وقف وراءها يراقبه .. كانت أنفاسه دافئة تحمل
الزمن البعيد . وحدّقت فيه : بدلته رمادية ذات أزرار لماّعه يظهر من تحتها
قميص سماويّ ، شعره ناعم غزير ينتهي عند كتفيه في تسريحه متماوجة . تقدمت
خطوات .. وضعت الكوب على الطاولة مصحوبا بمنديل كأنـها تقدمه لضيف , شرب
الكونت الكأس في لهفه .. .ثم تـمطّق وأضاف :
- الآن صرت أشعر بالإنتعاش , كيف أشكرك يا حلوتي ! ثم تثاءب واختفى كأنما
نفخ عليه فطار .
عادت الى فراشها تؤرجحها أطياف غامضة , ونامت على أمل رؤية الكونت في ليله
قادمة . ومرّ اليوم ثقيلا وأقبل الليل المعبّـأ بالأسرار , وقبعت تنتظر
ظهور الكونت وتستعيد صورته وكلامه .. اختفي ليلة او ليليتين الى ان صارت
تمسك الشمعدان وتهتف له : " اخرج يا كونت لقد أحضرت الخمرة " .
وطال بها الانتظار ، واشتد الصداع برأسها ، وخافت على عقلها من الجنون ، ثم
أسلمت أمرها الى النوم . وعادت الى ذاكرتها أصوات العاصفة وزخات المطر على
بلور النافذة . بان لها فضاء الغرفة مشحونا بعيون من شرر ، عيون تفوق
الملايين على الجدران ، على السقف على البلاط . وحاصرتها العيون وصارت ترى
نفسها سابحة في بحر من نـار . " لابدّ ان أحضر له الخمرة ... لكن من
يساعدني على اقتناء هذه البضاعـة ؟ " تذكرت خادما عمل عندها منذ سنتين ..
كان لا ينام الا اذا أفرغ في بطنه قوارير من الجعة ، وكان زوجها لا يمنعه
من ممارسة هوايته مادام يؤدي كل الخدمات على أحسن وجه .
ولكن ماذا سيقول عنها : " زوجة سيدي صارت تشرب الخمرة " ، سأتصرف بطريقة
أخرى .. وما المشكلة ... أقف على الخمار وأشتري قارورة بدعوى أنني سأداوي
بها مرضا أو سأستعملها غسولا لشعري ، هكذا ينصح بعض الأطباء وبعض خبراء
التجميل . وقفت امام مرفع احدى الحانات تسلم الدراهم للنادل وعيون الرجـال
ترمقهــا فى صمــت . بدأت تتعلم لغـة العيون من تلك الحانــة ، عيون تغــار
لمشاركتهــا اصحابهــا هوايـة الشرب ، وعيون تغازلهـا ، وعيون تهيب
بشجاعتها معجبة بتطاولها على منطقة محرّمـة على بنات جنسـها . تسلمت
القارورة .. أخفتها تحت معطفهـا كما يفعـل المعربدون المدمنون وسلكت طريقها
، ورغبتهـا تشتـدّ لرؤيـة الكونت ... لقد صارت تملك روح الشمعـدان .
وامتطـت سيـارة أجـرة والتحقـت بالشمعـدان .
مسحتـه بلطف ... نفضت عنه حبات الغبار ، وسكبت السائل الأحمر في جوفـه .
لاحظتـه يمتـص السائل المسكوب وضعت القارورة الفارغــة على المنضدة وقالـت
: - ما أكبر كرشك يا كونـت ! ؟ . جرفهـا ضحك هستيرى .. واحتارت هل تخضع
للاوهام أم تعلن حربا عليهــا ؟ صعـد دخان خفيف من الشمعدان وظهر معه
الكونت في شكله الأول ... كان مبتسما هادئا مادّا يديه نحوها وطوّق بهما
خصرها وقـال :
- الآن عرفت انك مهتمّة بي : على الأقل تعبت من أجلي ومن اجل الحصول على
الخمرة .. تصوري انني غرت من صاحب النظارات الذي غمزك في الحانـة كدت أطير
كأسـه من بين يديه .
- عجبـا ! .. وهل رأيتنى عندما ذهبت الى الحانـة ؟
- وكيف لا أراك ، إننى منتشر في كلّ مكان ، أراك ولا تبصرينني .
- حدّثني عن الماضي .
بدأ يقص عليهـا ... حدّثهـا عن حبّه وهيامه بالأميرة . وحدّثهـا عن طفولتـه
وعن مغامراته .
- الا ترى نفسك خائنا لحبيبتك الأميرة عندما تهتم بي ؟
- ان حبّي لك ، معناه الحب في مفهـومه المطلق ومعنـاه وفائي لحبيبتي الأولى
في صورته الخالدة ، فالحب الخالص لا يتغير بتغير الأشياء .
- وماذا تريد مني هذه المرّة بعد ان سقيتك الخمرة ؟
- اريد منك أن تطهريني من غبار القدم ، احمليني الى البحر وازيلي ما تراكم
على جلدى من ادران الأيـام ، انّ مسام جلدي لا تتنفّـس . اجعليني حيّـا كما
تحيين ، وبثّـي فيّ الحياة من جديد .
- لكنّ الطقس بارد والسماء تكسوها الغيوم وأنا أخاف عليك من البرد والزكام
.
- خذيني ... خذيني الى البحر !!
** ** **
كان البحر زبدا، وخيوط المطر تداعب جسمين عاريين ، تحتضنهمـا الأمواج ،
وخرجا وتراكضا على ضفة الشاطىء . كانا ملكين على عرش الزمـان ... تناجيا
على الرمـال ساعات ... حدّثهـا فيهـا عن طفولتـه : " كنت صغيرا وكانت أمي
تحملني الى المغطس تدلك جسمي بلطف ، تغسل شعري وتصب علي المـاء الـفاتر ،
كانت ساعة الاستحمام أصفى لحظات حياتي . كان المـاء ينعشني كمـا أنعشني
الآن . وكانت قبلات أمي تعبئني سعادة وأملا . ولكنّ سعادتي الآن معك تفوق
كلّ سعادة .
وأخذت مياه البحر في الارتفاع وغاب الكونت في اللجج واستحال لون المياه الى
لون قاتم تعبق منه رائحة كريهة تنفذ الى الأعماق وتخنق الأنفـاس ... وبقيت
تنتظر قدوم الصيادين لتسألهم عن الكونت ... كان البحر أسود مهجورا وطيور
النورس تحلّـق بعيدا في فضاء الضباب .
الصقروالراعــي والسلطــان
ارتكز على صومعة المسجد ، اعتلى مئذنتها ، أشرف على سطوح البيوت المنخفضة ،
تشبّثت مخالبه بالإسفلت ، أخذ يراقب المارة في جمود .
وانتشر خبره ، فانساب الأطفال من الأزقة . وتردّدت الأسئلة على ألسنتهم ،
تسمّرت العيون بالصومعة ، قذفه الأطفال بالحجارة ، رموه بقطع من الطعام وهو
ساكن كتمثال من فولاذ ... عينان مخيفتان ، كجّتان زجاجيتان ، ومنقار عريض
منحن . ليس له من صورة الصقر غير الشكل واللّون .
وسرى الخبر في صفوف النساء ، وقفن حائرات يتأملن هذا الطير الجامد والدهشة
حبال تشد رؤوسهن إلى الصومعة .
مرّت الأيّام .. ظل الصقر معتصما بالمئذنة ثابتا في صومعته ، ينام اللّيل ،
ويحرس النهار ... قامته هي قامته وعيناه هما عيناه ومنقاره المعقّف على
حاله ، طال به المقام حتّى صار جزءا من هندسة البناء .
وبات هدفا يترشقه الأطفال بالحجارة . ونام القوم على حكايات الصقر ، وحاك
السمّار في لياليهم أساطيره ... أنبأت عرّافة القصر ، " إنّ هذا الطائر
ينبئ بالخراب ، عيونه نار ولونه دخان " . تسكن العرّافة قصر السلطان الممتد
خارج عمران المدينة ، قصر يمسح هكتارات من البساتين والضيعات ، جلبها
السلطان من بلاد بعيدة لقدرتها على قراءة المستقبل . لقد أهّلتها هذه
الميزة أن تعيش داخل القصر وتشاهد من خلال نافذتها حديقة السلطان والمسبح
المرمري الكبير ونافورة الماء الفضية المرصّعة بالياقوت والجواري والحوريات
المتألقات يتمتّع السلطان بهنّ . وترى العرافة من خلف الستار مشهد حبّ
ومغازلة وقبلا ونهودا عارية وهمسات وضحكات .
وكان الرعاة يتجرؤون فيقتربون من سياج القصر فيسترقون النظر ليمتّعوا
أعينهم بجمال الحسان . وكم يشدّهم منظر الحوض وماؤه المتلألِئ الصافي !
ويسيل لعابـهم لمرأى النهود فتتأجّج نارهم . قال أحد الرعاة ، " السلطان
يسبح وشياهنا تموت عطشا ، ونساؤنا يحتجن إلى الماء للشراب وغسل الثياب " .
ويعـود ذلك الرّاعـي يجرّ أثقـال الخيبـة وكابـوس اليـأس والمرارة .
ها هو يوم خريفي ، الشمس خجولة والهواء لطيف اخترقت سنونوّة عنان السماء
ثمّ هبّت ريح وسرت قشعريرة في جسم الرّاعي وما لبث أن تلحّف وجه الفضاء
بالغيوم ، وهرولت الشويهات محتمية ببعضها . ونزل الرذاذ . ثم تهاطلت
الأمطار فبعثت صورة الماء في نفس الراعي شعوراً بالأمل والارتياح .. ها هى
قطرات الماء تداعب خصلات شعره المتهـدّل على جبينه .. ودّ لـو يمسك المـاء
في قبضتـه ويدّخره لزمن الجدب ... وأجهـد خياله في طريقة تحفظ له ذلك
السائل الشفاف وتصونه من الضياع . حفر بعصاه ساقية تنحدر من الهضبة وحفر
حوضا في سفحها تجمّعت فيه المياه الغزيرة .. كانت فكرته حلما بعيدا ، وها
هي يشاهدها ويخطط لها بعصاه .
وأقبلت الشويهات تطفئ ظمأ صيف طويل .، رأى الراعي على سطح الماء صورة قرية
خصبة خضراء وفيرة الزرع والثمر .. أحسّ بنهاية الشقاء وإدبار الجوع ...
تحرّكت يداه ، يدان نحيفتان ، يدان تغُوصان في الأرض لتكدّسا التربة على
ضفّتي الساقية . وتواصل الحفر . وتواصل الجهد متحدّيا الزمان الصلب ، أنصت
إلى هاجس يهتف له : " حوّل جدب الأرض إلى خصب " . وامتدّت الساقية وكبر شكل
الحوض وأصبح مجمعا لسواقي عديدة تنحدر من مرتفعات الـهضاب ، وصار شكل الحوض
جميل الهندسة والتخطيط . الراعي يسابق الشمس ... يمسح بكم " كدرونه " العرق
المتصبب على صدغيه ، يصفع أديم الأرض بمعوله صفعات متتاليات يسمع لها صوت
رتيب يردّد صداه فضاء الجبال ... وكثرت السواقي المنحدرة نحو الحوض وصارت
جداول ... وانقلب الحوض إلى بحيرة صغيرة كتب على ضفافها الزمنُ حكايةَ
الراعي . وامتد العشب على جوانبها أملس أخضر ناعما ، واكتسحت الخضرة التربة
الجرداء . الراعي يسابق الشمس .. يمسح بكمه العرق الحاجب عنه الرؤية .. لمح
تدفّقا غزيرا في إحدى السواقي .. أعاد مسح العرق المخلوط بالتربة المبلّلة
.. غمرته لذة الانتصار وسرت في كامل جسمه .. جثا على ركبتيه وأقعى فاغرا
فاه ، وانبرى ينهل من الماء المتدفّق جرعات متتالية . وانساب الماء في حلقه
كالسلاف ... نهل مرات ومرّات ، حلاوة الارتواء تسري في شرايينه ، رأى
شويهاته فتيات جميلات يسبحن في حوض مرمريّ . وغمرته فرحة الظفر بحرارة عذبة
، فرحة العثور على كنز ثمين .. جعل يجري كالمعتوه ، وينادي والعرق يهلّل
أسارير وجهه : " .. يا أبناء قريتي !؟ اجروا أسرعوا إنّه الماء ..! لقد
وجدت لكم عينا تقيكم شرّ الجفاف ... ! يا أولاد عمّي أحضروا المعاول
لتحفروا السواقي وتوصلوا الماء إلى بيوتكم . افرحوا يا رجال .. زغردن يا
نساء .. لقد جاد علينا الرّب وأراحنا من الجدب !!! " . امتدّت الأيادي
بالمعاول والراعي يضحك عاليا كالمجنون ، وانطلقت المجاري سائرة صوب الحوض
في انحدار مستقيم تصل إلى البيوت . وتوزعت أشعة مائية على كل السكان ..
وساد الرخاء وعمّ النعيم . وتألقت عيون الأطفال . واستدارت وجناتهم .
وازدانت معاصم النسوة بالأسورة الذهبية . وكثر القمح والشعير . ونشطت سوق
الغلال . وقرّر السلطـان أن يكـون له نصيـب من تلـك العيـن . انتشر هذا
الخبر كالنّار في الهشيم فصاح شيخ : " نحن نأخذ الماء لنحيا وهو يأخذه
ليسبح فيه مع جواريه " . وعصفت الريح بكلام الشيخ وأنجز السلطان قراره ..
وقل الماء وغارت العين في الأرض ... استشاط الرجال غيظا ولم يجرؤ أحد على
مواجهة السلطان . لكنّ الراعي حمل شكواه إلى الصقر . صعد المئذنة وأخذ يشكو
بصوت مكسور ، والصقر يصعّد نظراته إليه وكأنه قد أشفق عليه . تعجّب النّاس
من صعود الراعي المئذنة وخروجه وعلى كتفه ذلك الصقر ، تعجبوا من وقوفه أمام
قصر السلطان . نادى الراعي عاليـا :
- أيّها السلطان ! جئتك باسم سكّان قريتي طالبا منك أن تخفّض من استهلاكك
لماء العين ، لأننا مهدّدون بالعطش والجفاف الذي سيجتثّنا ويدفعنا إلى
القبور . وخرج حارس القصر ناهـرا هـذا المتطـاول على حرمـة السلطان وقال
لـه :
- اذهب من هنا أيّها الأبله ! متى كان لأمثالك الرعاة حقّ مخاطبة أسيادهم
بهذه اللّهجة وفي هذه المسائل ؟!
- أخبر سيدك أنّني أتحدّث باسم الجماعة فعليه أن يأخذ نصيبَه من الماء
كنصيب الفرد منّا .
- قلت لك ، ابعد أيها الأحمق ! أنت مجنون . إنّ سيّدي أمر بقتلك ، وقتل من
يتهوّر مثلك . إذا لم تعد إلى قومكّ وتخبرهم بالكفّ عن الشغب ومحاسبة
السلطان وإقلاقه .
- لا أنصرف إلا إذا خاطبتُ سيّدك وحدثتُه عن مصير القرية . وقضي أمر
السلطان فصوّب الحارس رصاصة أصابت جبين الراعي فسربلته دماء غزيرة أراعت
الصقر الجاثم على كتفه وأفزعته فانـهال على الحارس وفقأ عينيه وتوزّعت
أجنحته تكسر البلور وتدك الجدران فارتجّت الأبواب وتساقطت الحجارة من كلّ
الجهات وهوى كلّ شيء . وتوارى السلطان تحت الحطام وتعثّر الهاربون وتكدّسوا
فوق بعضهم وازداد الاضطراب إذ نشب حريق تصاعدت منه ألسنة عملاقة ، وتعالى
الصياح والعويل ، ودمدمت النّار ، والصقر يحلّق ويبثّ الدمار ويوزّع الفوضى
. وأمام هذا المشهد الجهنمي حملت عرّافة القصر الرّاعي والمجروح إلى العين
وغسلت دماءه من مائها وهي تردّد : " لقد قلت للسلطان إنّ هذا الصقر ينبئ
بالخراب عيونه نار ولونه دخان " .
المــرأة الغـريبـــة
تَـذْكُرُ أنّها كانت تناديها " للـّه " .. شابّة ممتلئة لحما وشحما .. ذات
ردفين عريضين وصدر كاعب تزينه رمّانتان مكتـنزتان .. كم كانت تعجب بهذين
النهدين المستديرين في جسم امرأة غريبة ! هذه زوجة أبيها السابعة والأخيرة
لا تفارقها ضفيرتاها الغليظتان .. كانت مشدودة إلى هذه المرأة بسلاسل من حب
وإعجاب وأخرى من خضوع واستسلام . في الحمام تديم النظر إليها .. ترنو إلى
جسدها الخّمريّ المكتنـز , وكم تحلو لها ضفيرتاها وقد زينتهما حبيبات
بُـخاّر السقف كأنّها تباشير أمل بعد يأس ممتـدّ ... بشرة صافية مصقولة ،
غسلتها يداها الصغيرتان وعطرتها سذاجتها البريئة . كانت زوجة أبيها تتهيأ
للحمام بكل عناية .
وكانت فرحة البنت بهذه الحملة التجميلية كبيرة ، تقضي المرأة في تنظيف
بشرتها وتسوية حاجبيها الهلاليين الساعات الطوال ، تغنم فيها البنت لتشبع
بطنها في غفلتها عندما تتسلل إلى بيت النوم فتدخل يدها المرتعشة إلى رفّ
الدولاب وتقبض على الزبيب واللّوز والحلوى وتجري بهذه الغنائم وتجلس تحت
شجرة الكالاتوس قرب حنفية الحيّ وتشرع في الأكل بنهم وشراهة .
كانت تقول : " ما ألذّكِ أيتّها الحلوى الصغيرة ! ما أعظم فرحتي بيوم
الحمام لأنّني أغذّي بطني،أغذّي حاسة شمّي،وتداعب أنفاسي روائح ذكية من عطر
وقرنفل وخزامى . كم أنعشت هذه الروائح نفسي وحملتني على أجنحتها إلى عالم
السحرة العابق بالبخور " . قضت زوجة أبيها حياتها عاقرا ... منذ سنوات زفّت
إلى أبيها بعد خطْـبتها من عمّها عبّاس، هيـأ أبوها ليوم زواجه الأغرّ
فرسانا كثيرة زيّن ظهورها بأسرجة جلدية مزركشة .
وانطلق من قرية الفسفاط يؤم جبل العنق جنوبَ الجزائر في موكب هزج . وعاد
الموكب ليلا ، كانت العروس متصدّرة ظهر فرس أشقر ، غلالة بيضاء تغمّها
وتكسوها فتبدو بها تمثالا مخيفا . استقبلت قدومها بعد أن استيقظت هلوعة على
زغردة غريبة لنسوة غريبات " متكندرات " ( ) . دخل الموكب الدّار ... وحمل
أحد الشيوخ العروس بكلتا يديه ... سار بها خطوات متعثرة ، وتعالت الزغاريد
ولمست يد العروسة المخضبة بالحناء واجهة الدّار . وسمعت إحدى المتكندرات
تقول : " مباركهْ مباركهْ ، ناصية خير إن شاء الله " .
دخلت النسوة الغرفة الطويلة ... دخل الرجال الغرفة المجلّـزة ، أجلست
العروس على زربية كبيرة فظهرت زينتها وملامحها وكندورتـها المطرزة ...
وتلألأت حبّات العقيق ، فعلقت عيناها بـهذا الزيّ الغريب وبهذه المخلوقة
العجيبة . قالت في نفسها : " يا ليت أشياء تسقط من هذا اللمّاع فأزين
دميتّي وأزوّجها غدا ، وأقيم عرسا وأوزع الحلوى على الفتيات في مدرستي " .
في هذه اللحظات شعرت بصغر نفسها وتفاهتها أمام هذا العالم الغريب الصاخب ،
في هذه اللحظات سكن الصمت أعماقها وعجّت في داخلها مشاعرُ حـادة ... عنيفة
. أفاقتها من غيبوبتها امرأة تطلب منها التنحي والابتعاد , فلعنت في نفسها
العرس والعروس والعريس ، حتّى هذه المتعة الضئيلة يحرمونها منها . القوم
فرحون ... كلّهم مترنـمون تبدو على وجوههم غبطة وحشية تشبه فرحة الكلاب
ببقايا فريسة ، غبطة وحشية ، فرحة حيوانيـة بغيضة . وتعاقبت الأيام ،
وتتالت الشهور ، وذات يوم أقبلت زوجة أبيها وأسندت رأسها إلى فخذها وأخذت
تتفحّص شعرها علها تعثـر فيه على حيوانات صغيرة . قالت : " ما ألذّ هذه
اللحظة القصيرَة وما أعذبها ... لو كان العمر كله رقدة على فخذ امرأة " .
كانت تغمض عينيها ، وتستسلم لعفويتها ، وتعير سمعها لامرأة أبيها وهي تروي
لها حكايات مدينة قسنطينة وتتلوّن لهجتها بنبرة من اعتزاز وفخار . كانت
تسألـها وتمطرها أسئلة ؛ لأنّـه ليس من السهل أن تتكرر هذه الصداقة
المفاجئة ، قالت البنت :
-كيف تكون قنطرة معلقة في الهواء ؟
-هي ليست معلقة في الهواء ... هي مشدودة بجسر حديديّ بين قمتَّـين عاليتين
في الجبل .
-وهل مررت أنت فوق هذه القنطرة العظيمة ؟ ما أسعدني لو أراها وأسير عليها !
-نعـم لقـد مشيت فوقها مرارا .
-وهل كنت تذهبين إلى السوق ؟
-كنت أذهب لقضاء بعض الشؤون ، لكن عمّتك فطيمة لم تعد تتركني أذهب من بعد .
-ولماذا لم تعد تتركك تذهبين ؟
-لأننـي عندما كنت طفلة صغيرة مثلك كنت أذهب إلى السوق .وحدث ذات يوم أن
مسكني تاجر يهوديّ وأراد جرّي إلى داخل دكانه، فعضضته وأسلت الدّم من يده
ولذت بالفرار كالملسوعة عائدة إلى الدار .
-هل قصصت الحادثة على عمتّي فطيمة ؟
-نعم رويتها لها . ومنذ ذلك اليوم لم أعد أذهب إلى السوق .
كانت زوجة أبيها تخاطبها كما تخاطب صديقة لها رغم صغر سنّها ، وهذا سبب
دفاعها عنها أمام نسوة القرية والأهل أولئك الذين يعتبرونها غريبة بعيدة
عنهم . كان هناك شبه بين غربة المرأة وغربة البنت .
تزوج أبوها هذه المرأة وعمرها ثمانية وعشرون عاما . وكان هو في سنّ الخمسين
, أفاقتها من غيبوبتها قائلة :
-مالك سكت , أعجبتك حكاية التاجر اليهودي ؟
-نعم ذكرتني هذه القصّة بحادثة وقعت لي عندما ذهبنا نستشفي بحامة قابس ...
-قولي ... لا تخافي ...
-بشرط ألاّ تغضبي !
-حسنا لا أغضب .
-في الصيف الماضي , في حامة قابس , خرجت صحبة صديقاتي . وصلنا شاطيء الوادي
وكان الحرّ شديدا , نزعت البنات ثيابهنّ وغطسن في الماء عاريات ومكثت أنا
أعبث برمي الحجارة في الماء ... لكنّ صاحباتي ألححن عليّ أن أتلذّذ بالماء
الدافئ , فالتحقت بهنّ وسبحنا وجرينا وزغردنا وتلاحقنا نغرّق بعضنا .
وبينما نحن كذلك أطلّ علينا حارس الغابة فزمجر وصاح بنا مناديا :
-اخرجن من الماء يا بنات !وهددنا بالضرب . وأمرنا بأن نلبس ثيابنا . وهرعنا
ملتحفات بنور الشمس ووقفنا عاريات أمامه وكل واحدة تتغطي بيدها . ووقفنا
صفّا واحدا . وارتعشت شفاهنا واصطبغت وجوهنا بصفرة حين غمغم الحارس .
- ألا تعرفن أن هذا ليس من حسن التربية , تسبحن عاريات . والله لو وجدتكنّ
مرّة أخرى لأسلطنّ عليكنّ عقابا ذريعا بهذه العصا .
وطوّق كتلة الأجسام بيديه قاذفا بنا إلى الماء فتلاطمنا وعثرت يده على
حلمتي فقرصها ولكنّي كتمت وجعي .
أم سليــم
أفاقت على صوت الممرضة تبتسم لها وتمسح لها وجهها.
- الحمد لله على سلامتك يا أم سليم .
- .................................
- لا تيأسي لا بدّ أن يظهر الحقّ.
** ** **
ابتدأ ذلك اليوم هادئا جدا , كانت حرارته معتدلة , نسمات صباحية تنشر أنفاس
الربيع ... الشاطئ تدغدغ أمواجه الرقيقة صفحات الرمال , الهواء ناعم ,
والسّماء شفافة الزرقة .. سرب من الطيور يحلق عاليا , في الفضاء أشعة الشمس
تداعب صفحات الماء ... خرجت أم سليم من بيتها .. أغراها جمال الجو وصحوه أن
تتنعّم بماء البحر . تركت ابنها نائما بعد أن رسمت على جبينه قبلة .
وانتعلت قاصدة الشاطئ الذي لا يبعد كثيرا عن بيتها . غطست رجليها في الماء
أحست بلذة ونشوة تعروان جسمها .. نظرت إلى الأفق البعيد وتنهّدت .تمنّت لو
كان لها جناحان فتحلق بهما في سماء وطنها .. إنها حمامة بيضاء تشرف على
الجبال والبحر وتـرى الأمواج تتكسر على الصخور . أخذت حفنة تراب مبلل في
يدها .. فرّق الماء حبات الرمل بين أصابعها . حبات الرمل ذهبت واختفت .
أعادت الكرّة وحاولت الضغط على الرمال حتّى لا تندثر حباتها .. رأت في صورة
الرمل مصير إخوانها , صاحت : " لا بد أن تستقرّ حبات الرمل وتقوى على
البقاء , وتثبت كيانها " . تمنّت لو كانت هذه الحبّات قنابل مبيدة فتمحو
بها آثار الطاغوت . حدّقت في السماء .. رأت غرابا بعيدا ... استنكرت وجوده
بين الطيور الجميلة .. غسلت يدها وعادت سريعة الخطى إلى ابنها سليم ... لم
يبلغ سنّ الخامسة .. خافت أن يفتح زر الغاز .. خطاها سريعة , ورأسها يزخر
بذكريات جميلة , صورة سليم في عيد ميلاده الثاني ..وكعكة الميلاد المستديرة
..صورة قاسم زوجها يضع قبعته العسكرية على رأس ابنه ويقول له : " ستكبر
يوما يا ولدي وتصبح ضابطا مثلي , وتقتل الصهاينة أعداءنا " .
تخطت أم سليم عتبة الدّار , ولجت حجرة النوم , سليم لازال نائما , بدا لها
في هذا اليوم أجمل من ذي قبل , رنت إليه في حنو , قبّلت وجنتيه وزحزحت
الغطاء عنه في لطف ... داعبت خصلات شعره الداكن , قرأت صورة قاسم مصغرة فيه
: أنامله , أذناه , حاجباه , طريقة نومه .
نظرت إلى اليوميّة الجداريّة نزعت منها ورقة اليوم : الثلاثاء الواحد من
أكتوبر خمس وثمانون وتسعمائة وألف . رنّ جرس السّاعة الحائطية عاليا حادّا
, تحرّك سليم فى فراشه .. خاطب أمّه :
- صباح الخير يا ماما.
- صباح الخير يا عيوني .. انهض اليوم جميل جدّا .
- هل تتركيني أسبح ؟
- لا يا بني ، الجوّ حار , لكن ماء البحر بارد , نحن في شهر أكتوبر بداية
من اليوم .
- أنا أريد أن ألعب فى الرمل قليلا !
- حسنا بشرط ألاّ تطيل اللعب , تعال اغتسل وتناول فطورك أوّلا .
اشتغلت أم سليم بترتيب البيت وغسل أواني العشاء , أما سليم فهرع نحو الشاطئ
مع أبناء الجيران , حمل معه سطله ومجرفته , لا يلذّ له اللعب على الرمل إلا
بهذه الأدوات الصغيرة .
انغمست الأمّ في تنظيف الأواني حتّى أحست بوخزات غريبة لم تستطع أن تتحسّس
مكانها بالتدقيق .. انتابها حزن مبهم واستولت عليها أفكار غامضة . جسمها
ثقيل وحركاتها شبه مكبّلة . دخلت المطبخ وإذا بدوىّ عظيم يصك أذنيها ,
دمدمة كالرعد أو كالزلزال , الدوىّ يقترب شيئا فشيئا فكرت في سليم خرجت
تجرى في ذهول , السماء خطفت منها عقلها وارتجت الأرض رجة عنيفة تحت قدميها
.. طائرات تقذف بالحمم .. إنها النهاية , اسود الفضاء .. انعدمت أمامها
الرؤية ... تجمدت حركاتها .. تلبست بالأرض .. الطائرات تعيد الكرّة . هل
عادت أحداث " رام الله " ؟ يومها انتفضت المدارس والمعاهد العليا ... طوّق
جيش الاحتلال مدرسة البنين , كنت مع جمع من التلامذة والتلميذات في ساحة
المدرسة ... أطلقوا علينا البنادق . ضربونا بالهراوات , حاصرونا في الداخل
, جابهونا بالقنابل المسيلة للدموع فأصيب الكثير منّا وجرح أحد التلاميذ
جروحا بليغة برصاصهم ... ها هي تحت رحمة الخالق , جرّدها الخوف من كل
حواسها , العرق ينساب من كل جسمها , صار وجهها قناعا كئيبا ... شاهدت جثة
رجل .. اقتربت منها زاحفة على ركبتيها .. استقرّ بصرها على الجثة .. حاولت
أن تقف على رجليها لكنّها لم تقدر .. تصاعد الصياح والعويل ..الأرض جريحة
والبحر دموع ... أم سليم فقدت الحركة , أصابتها الشظايا .. هاهي تجر جسمها
جرّا بطيئا , لم تعد قادرة على الصياح , أصابها البكم , أم سليم جسم مشلول
, رائحة القنابل واللّحم المحروق تحملها على الغثيان . ليس لها سوى يديها
. سدت أنفها بكفها , وتكورت فوق الرمال غير مبالية بجروحها ولا بدمائها .
كان الشاطئ نداء ملحا في داخلها , تصل الماء .. ملوحة البحر تلسع جروحها ,
لم تتألم ولم تحس ... رجاؤها أن تجد "سليم" حيّا , لم يكن عقلها يتصور
موته .. حدّقت في المكان الذى تعوّد أن يلعب فيه , دارت حول نفسها دورانا
حلزونيا , لاحظت تغييرا في هيئة الشاطئ ... شقوق عميقة في الأرض . بحثت
طويلا , بلا جدوى , وقعت يدها على فردة حذاء صغير حدّقت فيها , عرفتها فردة
سليم ؟؟ قبلتها , ضمتها الى صدرها , ضمّختها بدموعها . حفرة عميقة سوداء ,
أجسام فحميّة , العالم فوضى والوجود حطام . دسّت وجهها في التراب , هذه
المادة التي كانت تداعبها منذ ساعة , هي الآن تمرّغ فيها وجهها فتعفره ,
اعتراها قيء قوى واشتدّت عليها الآلام وأصابها دوار وفقدت وعيها .
** ** **
دخل عليها " أبو ذراع " ومعه ابنها سليم معصوب الرأس يحمل باقة زهور ..
فتحت عينيها ... حدّقت مليا غير متيقنة لما تشاهد , لم تع هذه اللحظة ..
رفعت رأسها وجذبت طفلها في حركة عنيفة وصاحت :
- ابنى سليــم ! سليــم !
جـزيــرة النســـاء
عينان تتقدان ، تشعّان نورا صافيا ، حاجبان بارزان كثيفا الشعر داكنان ،
أنف مستقيم شامخ في كبرياء ، فم رقيق الشفتين .. انزوى في ركن من أركان
عربة القطار والظلام بدأ يطارد النّور ، أغمض عينيه ، صوت عجلات القطار
يبعث فيه رغبة النوم استسلم لتيار من الخواطر والذكريات .. احتواه شعور
بالوحشة .. مرّت لحظات تأمُّـلٍ فصلتها رائحة عطر قويّ أشاعتها امرأة
ملتحفة لا يظهر من تحت حاجبها إ سوى عينين جميلتين .
دغدغت رائحة العطر أنفاسه ، تململ قليلا ثمّ عاد إلى تناومه في لا مبالاة ،
فتح عينيه ، مسحهما بكفه وأنزل ستار النافذة يبحث عن نسمة باردة تخرجه من
حلمه . تفحّص المرأة الملتحفة ، أدرك ملامح أنوثة جذّابة فيها ... صمتها
خجلها حبلان يشدّانه إلى التدقيق في هيئة تكوينها . اللّحاف لا يخفي نهديها
الكاعبين ولا قدّها المكتنـز ، ولا بشرتها الصقيلة . ركّز نظره على عينيها
، أحسّ بسحر واهتزاز . ابتسم لها .. ردّت على ابتسامته بابتسامة عجلى . لم
يطق صبرا أمام هذا الجمال فبادرها بالسؤال مثبتا عينيه فيها بانبهار .
-أين ذاهبة يا سيّـدتي ؟
-أنا قاصدة جزيرة النساء .
-هل هناك جزيرة تدعى بهذا الاسـم ؟
-نعم هذه البلدة غير مرسومة على الخارطة الجغرافية ، بل أسستها جمعيتنا
النسائية الداعية إلى الانفصال والوحدة .
-لقد شوقتني إلى رؤية هذه الجزيرة ، إنها لا تكون إلا مكانا جميلا مثل
جمالك وروعتك .
-أنا أستضيفك لزيارة جزيرتنا ، ولكن بشروط واضحة ومشروعة في سجلّ أحكامنا
المدنية .
-وهل لكم هيكلة إدارية ؟
-لا أقول إدارة . ولكن قواعد نتعامل بها عند اقتضاء الحاجة .
-عالم غريب عالمكنّ !
-في المحطّة المقبلة ، أنا أنزل وأنت اتبعني وسأقنع زميلاتي بزيارتك وبأنّك
صحفي تريد أن تسجّل تحقيقا عن جزيرتنا .
-أنت والله رائعة وذكيّـة .
-أنصحك إذا دخلت جزيرتنا أن تتجرّد من كلّ عواطفك .
-مـا معنى هـذا ؟
-أن تنظر إلى الجمـال وتكبح عواطفك . وأن تنظر إلى الواحدة منّا وكأنّك
تنظر إلى رجل مثلك . هذا هو قانوننا . وبصورة أوضح أن تتصرّف بعقلك . إذن
أدعوك إلى ترك العواطف خارج جزيرتنا ، كما أنصحك ألاّ تشعل نار الغيرة في
قلوب بنات جزيرتنا ، إذا نظرت إلى واحدة فلا تنظر إليها إلاّ بقدر ما تنظر
إلى غيرها من أخواتها . وإذا مدحت واحدة فلا تبالغ في مدحها ، بل وزّع مدحك
أقساطا متساوية .
-إنّهـا والله لمغامرة طريفة !
-أنت صحفي ووظيفة الصحافة تقتضي الصبر والشجاعة ... ها إنّنا وصلنا ..
نزلت المرأة في أناة ... مشى عن يمينها ، شعر بثقل خطاه ، شيء خفي يشدّ
رجليه إلى الأرض ، كان يدور في خاطره شريط رحلة في أدغال إفريقيا ، تبعثرت
خطاه في الظلام ، كاد يهوي ، مسكت الحسناء بيده كي لا يتدحرج ... سارا ساعة
حتّى أشرفا على الشاطئ ... كانت السماء مُقمِرة وقارب صغير تداعبه مويجات
هادئة . شعر الرجل بخوف وتصدّعٍ أمام هذا المرسى الصغير ... وجد نفسه جالسا
على خشبة القارب والحسناء نزعت لحافها وأخذت تجدّف به في حركة جميلة منسقة
.. بعث صوت الماء في نفسه شعورا بالطمأنينة . فتذكر صباه وعشقه للبحر وولعه
بالسباحة .
دائرة زئبقية مترقرقة يبعثها نور القمر على صفحة الماء . تألقت أمام عينيه
تلك الحسناء الغريبة كلؤلؤة قذف بها المحار .. خصلات شعرها تتأرجح كخيوط
من الإبريز الخالص يداها تحركان المجدافين في مهارة البحّار . حدّث نفسـه :
" إنّـها صيادة بارعة ... لقد اصطادتني كما تصطاد السمكة . ها أنا واقع في
شصّها .. ها أنا أتخبّط في حبال شباكها صيادة وسمكة آدميّـة وقارب يتماوج
على صفحة الماء يا للروعة !! القمر شاهد على مصرعي أمام هذا الجمال
الفينوسي .. " مدّ يده ، مـرّر أنامله على أصابع يدها .. دسّ أصابعه في
شعرها .. استمرّت في التجديف دون مبالاة ، تعجّب من برودتها ، قالت له :
-لا تبحث عن الحرارة في جزيرتنا ولا عن الحبّ ، نحن ألفنا الصوم عن هذه
الأعمال البشرية ، نحن نجهل معنى اللّذة .
قهقه عاليا وقال :
-أنتن متمردات على الطبيعة ، اعلمي أن هذا التمرّد شذوذ ، لأنـكنّ حكمتنّ
على أنوثتكن بالمحق . وهذه جريمة في حق الإنسانية . رسا القارب على رصيف ،
تكدّست فيه الحجارة ، تنيره منارة ساطعة الضوء .. تراءى له شبح امرأة تحمل
مصباحا صغيرا ، اقتبلتهما وسار الثلاثة في هدأة الليل .. الرّجل يتوسط
المرأتين ، سلكوا طرقات معبّدة منارة بمصابيح كهربائية . لاحظ الزائر في
مدخل الجزيرة لافتة كتب عليها بحروف سوداء – يمنع الدخول على الرجال – أحسّ
بشعـور اختـراق قانـون رسمـي وتظـاهر بالشّجاعـة . قالت الأولى :
- إنّـه صحفيّ جاء ليحدّث الصحافة عنّا .
قالت الثانيـة :
-نحن لا نريد أن ترسم صورنا وصور جزيرتنا على صفحات الجرائـد .
أجاب الرجـل :
-لا سيداتي ليس لي آلة تصوير ، كلّ ما أملكه قلمي ... وساد صمت ثقيل ضاعفته
رتابة وقع الخطى على الطريق . وصل الثالوث دارا كبيرة كتب على بابهـا "
التجرّد من العواطف نجاح المرء في كلّ أعماله " توقف الرجل مرتجفا يترقب
قرار المجموعة النسائية وتمكينه من أداء وظيفته ... تردّد .. تلعثم .
تكسّرت الكلمات على شفتيه واستعاد شجاعته ببطء وقال :
-أيـام قليلة فقط أقضيها في ربوعكنّ حتّى أسجل ارتساماتي عن جزيرتكنّ
المصونة .
عند سماع هذا الكلام علت ضحكات النسوة فارتبك الرّجل وكاد يفقد توازنه
ثمّ ساد صمت طويل قطعه الإعلان عن قبول هذا الزائر الدّخيل . قضى الرّجل
ثلاثة أيّام في عالم غريب .. كانت رغبته في تسجيل معلومات عن هذه الجزيرة
النسائية عظيمة لما في الموضوع من طرافة .
لكنّه كاد يفقد عقله من تصرفات ساكنات هذه الجزيرة . أخرسته إحداهنّ بقولها
: " اسكت أنت تتحدّث عن العواطف " وثانية وضعت له عصابة على عينيه بدعوى
أنه أطال النظر في صاحبتها ، وثالثة تضرب رأسه قائلة : إنّ في دماغك تجول
أحاسيس وعواطف . ورابعة تقيّد رجليه قائلة : " إنّ عواطفك أدّت بك إلى
السير نحو جزيرة التجرّد من العواطف " وأعادت ذلك خامسة وسادسة وسابعة .
كانت هذه الجملة قاعدة وميزانا لكلّ الأشياء . وكاد الرّجل يجنّ إلى أن نجا
بجلده فارّا بعواطفه بين يديه بعد أن كتب على معلقة الباب " إنّ التجرّد من
العواطف جنون المرء في كل أحواله " .
حفل زفاف النحل
استيقظ حسام على طنين النحلة العاملة تهتف له :
انهض يا حسام لقد طلع النهار والشمس بزغت وتصبّح عليك بابتسامتها الجميلة
.
فرك حسام عينيه واستبشر مبتهجا بقدوم صديقته النحلة ، وقال:
- صباح الخير يا صديقتي ، هل جئت لتهديني عسلا أو لتعطيني غذاء الملكة ؟
النحلة : - جئت لدعوتك إلى عرس النحل كما وعدتك الملكة، انهض لتفرح معنا
وتشاركنا حفلتنا .
حسام وهو يستعد للنهوض يخاطب النحلة بكل شوق :
- قبل أن نذهب ، حدّثيني عن عالمكم الجميل ؟
النحلة :- لقد توصل علماء النحل إلى أنّنا من الحشرات الاجتماعية التي
تعيش داخل الخلايا ، وتسكن كل خلية منّا طائفة واحدة تتكون من الملكات أو
الإناث الخصبة والذكور والعاملات وهي إناث غير خصبة .
حسام :- وكم يبلغ عدد نحل هذه الطائفة ؟
النحلة :- لا يوجد بكل طائفة سوى ملكة واحدة ، وبضع مئات من الذكور وعشرات
الآلاف من العاملات وقد يصل عددها إلى مئة ألف أو يزيد .
حسام :- لماذا تبدو الملكة أكبر حجما من العاملات ؟
النحلة : - نعم يبلغ طول ملكة النحل مرتين ونصف قدر طول النحلة العاملة ،
ويصل وزنها إلى 8 ,2 مرة قدر وزن النحلة العاملة .
حسام :- وما وظيفة الملكة داخل الخلية ؟
النحلة :- ليس للملكة وظيفة سوى إنتاج النسل ، ففي كل يوم تقوم بوضع ألف
إلى ألفين بيضة مخصبة داخل عيون الخلية ، ويفقس البيض إلى يرقات داخل تلك
العيون .
حسام :- وماذا تصبح تلك اليرقات ؟
النحلة :- تتحول تلك اليرقات إلى ملكات أو عاملات ، تبعا لحجم العين
الشمعية التي تربت فيها ،وتبعا لنوع و كمية الغذاء الذي تتلقاه من
العاملات . كما تضع الملكة بيضا غير مخصب .
حسام :- وماذا يصبح هذا البيض غير المخصب ؟
النحلة :- هذا النوع من البيض غير المخصب يصبح ذكورا فقط. ,
حسام :- وإذا قدّر للملكة الموت ، ماذا يحدث للخلية ؟
النحلة :- عندما تموت الملكة،نصبح في حالة ذعر وهرج ويرتفع طنيننا حزنا
على فقدان أمنا، ونحن لا نستطيع الصبر والبقاء من دونها .
حسام : - ماذا تفعلن لتعويضها ؟
النحلة : - نختار نحن العاملات بيضة عمرها ثلاثة أيام ونهدم البيت
الشمعي السداسي الذي حولها وبعض البيوت الأخرى ، ونبني حول البيضة
المختارة بيتا آخر أوسع وأعمق وهو البيت الملكي الذي تتربى فيه اليرقة ،
ونعتني بها ، نطعمها من الغذاء الملكي الذي يغذي اليرقة الملكية والتي
ستصبح فيما بعد الملكة العذراء للخلية ، وتستغرق مرحلة نمو الملكة نحو ستة
عشر يوما .
حسام :- سبحان الله لقد ألهمكن الله العمل الرائع المتقن !
لقد تشوقت لرؤية الملكة وحفل زفافكم ، هيّا بنا نسير إلى خليتكم .
النحلة :- لقد أدهشت العلماء الهندسة الدقيقة التي نبني بها العيون
الشمعية السداسية ، والمقاييس التي نبني بها هي إلهام من خالقنا العظيم .
ترتقي النحلة كتف حسام ويردّدان معا أغنية :
هبّوا هبّوا يا إخوان ** نزهو نمرح في البستان
ويسيران بين الزرع والزهر ، يحثان الخطى نحو الخلية، أين أقيمت حفل
العرس ويواصلان الحديث عن الملكة ودورها الرائع داخل الخلية .
النحلة :- لو تعرف يا حسام كم لملكة النحل قدر وعلوّ مكانة ، تخيّل حتى
الفراعنة رسموا صورتها على مقابرهم ، كيف لا وهي أم الخلية ، تحثنا على
العمل والنشاط وتشجعنا على السعي في الحقول وجلب الرحيق وبذور اللقاح ،
وبعد عودتنا من رحلتنا اليومية نخزّن ما جلبناه .
حسام :- نعم لقد لاحظت في زيارتي السابقة كيف كانت ملكتكم جميلة ورشيقة
وهي تمشي فوق أقراص الشمع مزهوة ،تسير في خيلاء وقد لفتت انتباهي .
النحلة : - وهل تعلم أنّ الملكة تعمر طويلا ، فهي تعيش ست سنوات ، بينما
لا يزيد عمر النحلة العاملة عن أربعين يوما .
حسام : - وهل يرجع طول عمرها إلى الغذاء الذي تسمونه غذاء الملكة ، وضّحي
لي يا صديقتي تكوين هذا الغذاء العجيب .
النحلة :- منذ قديم العصور والباحثون يحاولون معرفة سر حيّرهم إلى أن تم
اكتشافه في العصر الحديث ، وهذا السر كان يدفع الناس إلى التساؤل :
لماذا وزن ملكة النحل أكثر من ضعف وزن العاملة ؟ ولماذا يمتد عمر الملكة
إلى نحو ست سنوات بينما لا يزيد عمر العاملة عن 40 يوما ؟ وما سر خصوبة
الملكة حتى أنها تضع نحو 2000 بيضة يوميا ؟ .
حسام :- صديقتي العزيزة ، اكشفي لي لغز الغذاء الملكي ! كيف يتكون ؟
النحلة
-هذا الغذاء نفرزه نحن العاملات من غددنا البلعومية ،نغذي به اليرقة التي
تصبح ملكة وتبدأ العملية بعد خروج النحلة العاملة من العين السداسية
تتلقى الغذاء من أخواتها الأكبر سنا لمدة يومين ، ثم تعتمد على نفسها في
الحصول
على غذائها ، وخلال اليومين الرابع والخامس من عمرها تتناول كمية كبيرة من
حبوب اللقاح فيكتمل نمو غددها البلعومية المفرزة للغذاء الملكي ومن اليوم
السادس تبد أفي إفراز هذا الغذاء وتغذية أخواتها العاملات والذكور .
حسام :- وهل تبقى طول عمرها تفرز الغذاء الملكي ؟
النحلة : لا يا صديقي مع الأسف فإنّ العاملة عندما يبلغ عمرها اثنتي عشر
يوما تضمر غددها المفرزة للغذاء الملكي وتكف عن إنتاجه .
يواصل حسام السير بين أشجار البرتقال مستنشقا روائح زهورها الفواحة بينما
تقفز النحلة من زهرة إلى أخرى تمتص رحيقها الحلو . وتسمع من بعيد نغمات
مترددة وهي أصوات الاحتفال بزفاف الملكة . يطلب حسام صديقته السرعة للحاق
بالحفل وينطلقان نحو الخلية ويبقى حسام مندهشا لمراسم العرس .
يشاهد في الفضاء خارج الخلية الملكة تطير على ارتفاع شاهق ، تطير بخفة
ورشاقة
وبسرعة مدهشة، وحولها يدور عدد غفير من الذكور، أقبلوا من الخلايا
المجاورة ويستمر الطيران في بهجة وسعادة، كل أفراد الخلية يعيشون لحظات
الفرح ، العاملات يترنمن بطنين متناغم جميل، والذكور في مسابقة عجيبة
للفوز بالملكة وهم في حماس وهمة مستعدون للتضحية.
وتواصل الملكة العذراء طيرانها الجميل وإذا بذكر قوي يفوز بتلقيحها،فيعلو
الطنين وتعلو أصوات الأجنحة المحلقة في الهواء .
كل الخلية تبارك تخصيب هذه الملكة ، لكن الذكر يهوي إلى الأرض ويفقد
الحركة. يتعجب حسام من أمره فيسأل صاحبته النحلة .
حسام :- لماذا توفي الذكر الذي أخصب الملكة ؟
النحلة :- لقد سقط صريعا وفقد حياته وهذه سنة الله في عالمنا وذلك باحتجاز
عضو الإخصاب داخل الملكة .
ويبقى حسام متعجبا من أسرار عالم النحل العجيب ، وتعود الملكة العروس إلى
الخلية وتستقبلها العاملات مهنئات بزواجها و يشرعن في تنظيفها ويقدمن لها
كميات كبيرة من الغذاء الملكي ويتجمعن حولها وهي تتحرك في زهو حول الأقراص
الشمعية .
يدقق حسام في تفاصيل الحركات المتناسقة التي تقوم بها العاملات ويتوجه
بالسؤال للنحلة .
حسام :- حقيقة كان زواج الملكة غريبا فهو يجمع شيئين متضادين الموت
والفرح.
النحلة : - لا تنس يا حسام أنّه في موت الذكر حفاظ الخلية على البقاء
وصناعة العسل الذي هو شفاء للناس وإن الملكة ستبقى داخل الخلية لوضع
البيض .
حسام : أيتها النحلة الشغولة إنّني تأسفت لموت الذكر وبما أنّني ذكر فقد
تعاطفت معه وأحسست بالحزن على موته .
النحلة :- لا تحزن يا صديقي فالموت مصير كل المخلوقات ، سأحدثك في الزيارة
المقبلة عن فوائد لسع النحل وكيف استفاد منه علم الطب لعلاج أمراض كثيرة
.
حسام :- الله أكبر ! الله أكبر ! تعالي السعيني دون ألم .
النحلة :- لا تطلب مني اللسع ، لأنك تعرف نتيجته الموت .
حسام :- آه ! تذكرت ، أنت صديقة مخلصة ، ولا بد أن أحافظ عليك .إلى اللقاء
للمرة القادمة ، لنفتتح صيدلية خليتكم .
دم وفسفــــاط
كانت اللّيلـة ثقيلة كالموت .. دّوي القنابل لا ينقطع تواصل حتّى انبلاج
الفجر ... زفيف الطائرات يهز السماء فترتج له الجدران والسقوف ، انقطـع
الكهربـاء فلم يعد أحد قادرا ولو على النظر من خلال النوافذ خوفا من اشظايا
، السقوف تكاد توهي على الأحياء .. إنّ العدوّ انتصب بالقرية المجاورة التي
تفصلها عنّـا أكداس الفسفاط العالية . عند انبثاق أضواء النهار ، تسلل
الأطفال مهرولين متخطّين الأكوامَ الرمادية قافزين كالخرفان ... كانوا
يطاردون الخوف والخوف يطاردهم .
كانت رغبتهم في مشاهدة أَعمال العدوّ تمدّهم بالشّجاعة . لقد أصبح شغفهم
برؤية آثار الدمار عظيما ، لا بدّ من كابح لجماحهم : صورة شيخ ذي لحية
بيضاء كثيفة يشدّ عصا ويرسم على الأديم الرمادي حروفا مبهمة ... وقفوا
أمامه صامتين لاهثين ، عيونهم انزعاج وصدورهم تعطش إلى الاطلاع وقفوا
صاغرين ... الشيخ لا يبدي حراكا ، كأنّ العصا تتحرّك من تلقاء نفسها أو هي
التي تحرك يده المرتعشة المعروقة ... حاول الأطفال قراءة الحروف الرمادية
.. وذهب كلّ منهم إلى فكّ اللّـغز العويص أو ذاك الطلسم :
قرأ طفل : حـ - ر – ب
وقرأ آخر : كـ - لـ - ب
وقرأ ثالث : ء – ر – ب
الحروف متداخلة هي أقرب إلى الخطوط المعوجة منها إلى الكتابة ... تحلّق
الأطفال بالشيخ ، وساد الصمت برهة قطعته صيحة عالية وتلاه عويل مبحوح صعد
من أحد المنازل المتهدّمة ... أمّ فقـدت ابنها الجريح في هذه اللّحظات ،
إنها باتت تقاوم جراحه ، ولكن الموت لم يمهله . أخرجت هذه الصيحة الشيخ من
ذهوله ، فتلعثمت كلماته ثم تصاعدت : - " يا لطيف .. يا لطيف !! لقد شقوا
بطن " سكينة " وهي حامل .. أخرجوا جنينها وهو يتحرك بعد أن فحشوا بها ..
سحقا لهم .. ! قبضوا على فتاة رائعة الجمال . طويلة الضفائر .. استعصت على
طغيانهم ورفضت فسادهم فربطوا ضفائرها بحبال وأوثقوها خلف السيارة وجرّوها
إلى أن غطت الطريق بدمائها وانقلب جمالها بشاعة مؤلمة ، التربة دماء ،
والجدران حطام ، والسكون كآبة ، والحزن في الصدور والحقد في العيون ،
والسماء دموع والقرية حداد .
أطفال يلعبون لعبة الخرز غير مبالين كأنّ شيئا لم يقع ... أطفال يرسمون على
الأرض ، من التربة المبلّلة أشكالا مبهمة وحروفا غامضة ، حروفا حمراء في
أطر رمادية ... أطفال يضحكون ، شيخ ذاهل يحرك عصاه في بطء ، نعش يسير على
أكتاف شبّان القرية .. زينة ماتت ! ! زينة الجميلة صاحبة الأهداب السوداء
أصابتها الشظايا في تلك الليلة المظلمة . حملها أخوها إلى المستشفى على
دراجته وربط رجلها بكشكوله .
خرق بها الظلام ، والطائرات تئز فوق رأسه ... دخل المستشفى يلهث وزينة في
غيبوبة كبرى ، وجد المستشفى خاليا ، النور مفقود والمرضى يئنون وشعاع
شمعتين هزيلتين يقاوم الظلمة . لم يجد طبيبا ، لم يجد ممرّضا .. أحسّ بصداع
في رأسه ، حارس المستشفى متكور قابع على طرف أحد الأسرة . القرية يهزها
أزيز الطائرات .. أصبحت القرية ضبابا .. العدوّ بطش بالسكان ، وأنزل الرعب
والدمار . دخل النعش السقيفة وصعد العويل والبكاء ، ذرف الأب دموعا غزيرة ،
بكى الأب ، وبكى الشيخ . وبكى الأطفال وندبت النسوة ... زينة الجميلة
شيعوها في عمر الزهور . نفضوا أيديهم من التراب وتوجّه الشبّان يتقدّمهم
الشيخ نحو ثكنة العدوّ .. كانت البنادق والرشاشات تلمع كالنجوم ، وكانت قمم
الجبال وشعابها نداء ملحا لنفوسهم الثائرة كي يردّوا الكيد ...
|