تختصرُ سيرة العلاّمة الرّاحل روكس بن زائد العُزيزي
(1903 – 2004م)، على مدى قرنٍ ونيف، صورة عصرٍ بأكمله من تاريخ الأدب
العربيّ الحديث والمُعاصر. فقد شاءت أقدار هذا الرَّجل أن يكون في صدارة
مَنْ ارتبطت أسماؤهم بنشوء الحركة الأدبيّة والفكريّة في الأردن، وهم
الروّاد الأوائل الذين عملوا بجهود فرديّة عصاميّة – أمام ضآلة الإمكانات
وكثرة الصعوبات - على إقامة أركان النّهوض الثقافيّ في البلاد منذ أواخر
الربع الأول من القرن العشرين، فأصبح الأردن لهُ نصيبه من المساهمة في نهضة
الفكر والآداب العربيّة، التي كانت ممتدّةً في بلدان الجوار منذ عقودٍ
طويلةٍ سَبَقَت.
كانت مَلكة العُزيزي الأدبيّة والنّقديّة قد بدأت
بالتبلور والتنامي في مرحلة مبكّرة من عمره، ولم يكن قد بلغ سنّ العشرين
حينما أخذ ينشر مقالاته وخواطره، ولم يلبث عبر سنوات قليلة تلت أن ارتاد
مجالات النّقد الأدبيّ واللغويّ والتاريخيّ على صفحات دوريّات متعدِّدة،
محليّة وعربيّة ومهجريّة.
وكانت أبرز مجلّة كتب فيها خلال العشرينيّات وأوائل
الثلاثينيّات "الإخاء" القاهريّة. وفي هذه المجلّة نقدَ العُزيزي كتاب
الأرشمندريت – المطران بعدئذٍ - بولس يعقوب سلمان (1886 – 1948): "خمسة
أعوام في شرقي الأردن"، عند صدوره عام 1929، وهو أول كتاب بقلم عربيّ يبحث
في التراث الشعبيّ الأردنيّ وآداب البادية بحثاً علميّاً مستقصياً. وقد
وضعه مؤلّفه بعد جولات قام بها في شرقيّ الأردن قبل الحرب العالمية الأولى،
وقدَّم للكتاب الشاعر خليل مطران (1872 - 1949). وكان نقد العُزيزي –
باعترافه هو نفسه – حادّاً، وأحياناً عنيفاً، ما حدا بخليل مطران إلى
التدخُّل لدى صاحب المجلّة للحيلولة دون مواصلة النّقد.
وهذا الكتاب عاد العُزيزي إلى قراءته بعد نحو ستة
وأربعين عاماً، ليقول في نقده الجديد: "على الرغم ممّا وقع في الكتاب من
الأوهام والمزالق، فإنه يظلّ له عندنا قيمة عظيمة، لأنّه من الكتب الرائدة
في موضوعه". قال ذلك بعد أن عانى ما عانى في تأليف كتابه الموسوعي "قاموس
العادات واللهجات والأوابد الأردنيّة". وتدلّ هذه الواقعة الأدبيّة على
أنَّ العُزيزي حينما نقد الكتاب في شبابه كان يصدر عن ثقة بما يقول، وهي
ثقة أسَّسها على معرفة اكتسبها بدراساته النّظريّة والميدانيّة المبكِّرة
للتّراث الأردنيّ. ولم تكن حماسة الشّباب لتدفعه إلى رأي نقديّ يتراجع عنه
ولو بعد سنوات طويلة. وفي المرّة الثانية – وكان في نحو الثالثة والسبعين
من العمر - أورد أشياء في نقد الكتاب أكَّدت رأيه الأول فيه، لكنه أوردها
بتروٍ وهدوء ودقّة أكثر في هذه المرّة، ولم يُغفل إنصاف المطران بولس سلمان
في تصدّيه لمعاناة الجمع والبحث في الموضوعات التي تناولها كتابه، وريادته
في حقل دراسة التراث الشعبي. أما ما تراجع عنه العُزيزي فعلاً فهو الحدّة
في طرح وجهة النظر النقديّة التي ربما كان لعامل المرحلة العُمرية أثر في
ظهورها على أُسلوب النّقد الأول، وإن كانت أساليب النّقد والسّجال الأدبي
في ذلك الزمن لها مثل ذلك الطابع الحادّ، وربما أشدّ. ولا شكّ أنّ في هذا
أيضًا صورة ناصعة من نقاء ضمير العُزيزي ونزاهته النّقديّة وأصالة نهجه
الأدبيّ، الذي عبِّر عنه ذات مرّة بقوله: إنَّ "النّقد في رأيي، هو زمالة
وغِيره على الأثر المنقود، لإيصاله إلى درجة الكمال التي يتخيّلها
النّاقد". وعاب على النّقد أن يكون "مطبوعاً بطابع العداء والتشفّي، كأنه
يصدر .. عن غيرة مكبوتة، وحسد مبيّت لصاحب الأثر المنقود".
وشهدت مجلّة "الإخاء" في عام 1930 أيضاً مناظرةً
نقديّةً لغويّة بين العُزيزي ومصطفى جواد (1908 - 1970) ، الذي أصبح
دكتوراً فيما بعد، وهو من العراق. وبدأت المناظرة إثر نقد العُزيزي قاموس
"المُنجد" المدرسي المشهور للأب لويس معلوف (1876 – 1946)، بعد أن وازن
بينه وبين ما في المعاجم القديمة مثل "لسان العرب" لإبن منظور، و"الصِّحاح"
للجوهري، فوجدَ أغلاطاً في النّقل بلغَت عند الأب معلوف نحو ثلاثمئة غلط.
وأثار النّقد انتباه اللغوي والمؤرخ الشهير الأب أنستاس ماري الكرملي (1866
- 1947) في العراق، فنصَّب صديقه وتلميذه الجواد مُناظراً للعُزيزي. وفي
عدد المجلّة الصادر في تموز/ يوليو 1930 نصَّبَ سليم قبعين نفسه حكمًا بين
المتناظرين وأنهى النِّقاش بينهما، إنهاءً لم يرضِ العُزيزي ولا سرَّ
مُناظره.
لكن العُزيزي، الذي كان حينذاك معلماً شاباً في
مدرسة اللاتين الإعدادية بالسلط - في نحو السابعة والعشرين من عمره -
خَرَجَ من هذه المناظرة بفوائد عدّة، أهمها: وقوفه نِدّاً لمؤرخ ولغوي ثَبت
مشهود له بالدراية، ويقف إلى جانبه العلامة الأب الكرملي فيلسوف اللغة
العربية في العصر الحديث، وصاحب مجلّة "لغة العرب"، الذي كانت مساجلاته مع
لغويي العصر وعلمائه قد جعلته مرهوب الجانب لما في علمه من تبحُّر، ولما في
نقده من الشدّة، وقد كان يُلقب بـ "العلامة الأكبر" ووصفه البعض بـ
"القاموس النّاطق" و"المرجع الحيّ".
والفائدة الثانية المهمّة التي جناها العُزيزي كانت
في الدربة على جَلَد البحث، والصّبر على تقصّي الحقائق، وتعلُّم أصول
النّقد العلميّ، فقد كان مصطفى جواد عالماً متمكناً جداً، يعتمد في أبحاثه
على مكتبة خاصة تحتوي نحواً من عشرين ألف مجلَّد، فضلاً عن مكتبة أُستاذه
الكرملي التي يبلغ عدد مجلّداتها نحو الخمسة وعشرين ألفاً، وفيها من نوادر
الكتب والمخطوطات ما تتفرَّد به. فيما العُزيزي في السلط لا يملك سوى عدد
محدود من الكتب والمراجع، فيضطر في بعض الليالي للسّهر حتى الفجر لكي يتمكن
من الرد على الجواد. وهي تجربه أفادته وعلمته – كما قال – في أن يتجنّب
أسلوب التهكُّم والاستهزاء بمناظره، وأن يخفِّف من الحدّة في النّقد.
وهنالك فائدة ثالثة لم تظهر في حينها؛ إذ ادخرها
الزّمن للعُزيزي إلى ما بعد سنوات من انقضاء المُناظرة اللغويّة تلك، وهي
انعقاد أعظم الصّلات العلميّة والأدبيّة في حياته، أيّ صداقته وتلمذته للأب
الكرملي، وسنأتي على ذكرها بعد قليل.
أما الفائدة المُباشرة فقد كانت في انتشار اسمه وبدء
شهرته في الأوساط الأدبيّة العربيّة، واتّساع نطاق نشر كتاباته في الصحف
والمجلات خارج الأردن، واتصال المراسلة بينه وبين عدد من العلماء والأدباء
العرب البارزين هنا وهناك، وتعرفه إلى عدد آخر منهم. ومن هؤلاء العلاّمة
أحمد زكي باشا "شيخ العروبة" (1867 – 1934)، الذي وجَّه رسالة إلى العُزيزي
عام 1933 يطلب إليه تحقيق بعض المواضع الجغرافيّة في شرقيّ الأردن.
وكان الكاتب والمفكِّر سلامة موسى (1887 - 1958)،
وهو ممن أُعجب العُزيزي بهم وبمؤلّفاتهم وجوانب من فكرهم، ومجلته: "المجلّة
الجديدة" في القاهرة، سبباً في ظهور أول قصة تاريخيّة في الأدب الأردنيّ،
وأيضاً في التّمهيد لظهور أول إنتاج أدبي للعُزيزي يُطبع مستقلاً، وهو قصة
"أبناء الغساسنة وإبراهيم باشا"، فقد استقطبت هذه القصة اهتمام الأُدباء
ولفتت الأنظار إلى كاتبها الأُردنيّ الشاب عندما نشرها سلامة موسى في
مجلّته تلك، ما حدا بالأديب القصصي المعروف محمود تيمور (1894 - 1973) –
وكان أحد أبرز كُتّاب "المجلّة الجديدة" - إلى تقريظها برسالة بعث بها إلى
صديقه العُزيزي، يقول فيها: "إنها قصة رائعة، تتميَّز بنكهة خاصّة، لِما
أضفت من اللون المحليّ النادر في أدبنا العربيّ". ونَقَلَت القصة صحيفة
"رقيب صهيون" المقدسيّة وطبعتها في كراسٍ صغير في تسع عشرة صفحة، وزعته
هدية على مشتركيها عام 1937. ثم لخَّصت القصة جريدة "الدفاع" الفلسطينية
ونشرتها تحت عنوان "نار الباشا ولا نار العار"، ووجهتها إلى شباب العرب،
منوّهةً بما تحويه من دروس وطنيّة وعِبر إنسانيّة.
ويتّصل ظهور قصة "أبناء الغساسنة" بجانب كان
العُزيزي قد توجَّه إلى التركيز عليه أكثر فأكثر في تجربته ككاتب وباحث
ومعلِّم، منذ أوائل الثلاثينيات، ألا وهو دراسة التاريخ، والتاريخ العربيّ
والإسلاميّ على الأخصّ. وكان تاريخ العرب والمسلمين مادّة يدرّسها العُزيزي
لطلابه منذ بدأ مهنة التعليم في مسقط رأسه مادبا، ثم انتقل إلى السلط،
فعمّان، فعجلون، فعمّان مرة أخرى، ومن بعدها القدس في كلية تراسنطة، وهي
مادّة أيضاً كان يستقي منها تآليفه المسرحيّة التي كان يضعها لتدريب الطلبة
على التمثيل، فيستوعبون ما يدرسون بتمثُّل نماذج من تاريخهم القوميّ.
وكان العُزيزي بعد انقضاء مناظرته اللغويّة مع مصطفى
جواد قد بدأ بحثاً حول "أسرار نكبة البرامكة" والأسباب التي دفعت بالخليفة
هارون الرشيد إلى الانقلاب عليهم. ويبدو أنه لم يترك خيطاً مهما كان دقيقاً
في هذا البحث إلاّ وقبض على طرفه وتتبّعه بأناة حتى النهاية، ولم يترك
مرجعًا تاريخيًّا باللغة العربيّة وغيرها من اللغات التي أجادها
(الإنكليزية، والفرنسيّة، والتركيّة) إلاّ وحاول الوصول إليه واستنطاق
روايته، وتحليلها، حتى أنه استعان بأصدقاء له ممّن يجيدون اللغة الألمانية
ليترجموا له ويلخصوا ما كتبه المستشرقون الألمان ودرسوه من وقائع تلك
النكبة الغامضة في التاريخ العباسي. وكان أحمد زكي باشا أبرز من استعان
بعلمهم في هذا الشأن، فتلقى منه رسالة في أربع عشرة صفحة يجيبه فيها على
استفساراته ببحث مطوّل في ملابسات النكبة.
وكانت "نكبة البرامكة" أيضًا موضوعاً لإحدى
المسرحيّات التي كتبها وأخرجها ومثّلها طلابه، وكانت كذلك موضوعًا لمحاضرة
ألقاها في السلط عام 1928، وأثارت عليه ضجّة صاخبة، ما دفعه إلى التفكير
بوضع كتاب يضمّنه نتائج بحثه. لكن بقيت نقاط استغلقت عليه، ولم يجد أحدًا
من العلمآء أو مرجعًا لجأ إليه قد أفاده في حلّها أو تفسيرها، فكتب إلى
الأب أنستاس ماري الكرملي يستوضحه رأيه في هذه النقاط ويطلب مساعدته، وهو
متردد خوفًا من إهمال الأب لرسالته. بل كان يثق كل الثقة أن الأب لن يتنازل
للرّد على كتابه، واهمًا – كما يقول - أنه أصبح بحكم العدو لعرّاب مُناظره
السابق مصطفى جواد. لكن لم تمضِ أيام حتى كان جواب الأب الكرملي قد بلغه
برسالة مطوّلة في خمس صفحات وتاريخها 24/2/1938، يخاطبه فيها بقوله "سيدي
العلامة الجليل"، ويجيب على استفساراته حول نكبة البرامكة ببحثٍ قصير أو
بما يشبه مقال حول أسباب هذه النكبة التي حلّت بآل برمك على يد الخليفة
هارون الرشيد، على ضوء ما استقاه من الإشارات والروايات في بعض كتب التاريخ
المخطوطة.
كما تشتمل الرسالة على بعض الأمور
الأُخرى، كجواب حول طريقة الاشتراك في مجلّة المجمع الملكي المصري الذي كان
الأب الكرملي عضواً فيه، وطلبه من العُزيزي أن يزوده بمعلومات عن سيرته
وتآليفه، وكذلك أن يزوّده ببعض الطوابع الأردنيّة. ثم يروي الأب الكرملي في
آخر الرسالة، وفي معرض تنبيه العُزَيزي إلى الغلط اللغوي في لفظ "شرق
الأردن" ما جرى من جِدال يصفه بأنه كان "عنيفاً" بينه وبين بعض المجمعيين
من عرب ومستشرقين في جلسة شارك فيها في المجمع الملكي المصري، وكان البحث
يدور على وضع كلمة عربية مقابلة للفرنسية (Transjordanine)،
فقال أحد المستشرقين: "شرق الأردن". ولكن الكرملي ردَّ عليه وعلى من شايعه
من أعضاء المجمع بقوله: "إن الشرق "جهة" مطلع الشمس. و"الشرقيّ" المكان أو
الموضع أو البلد أو الصقع الواقع في مطلع الشمس "متصلاً" بالأردن. ولا
يُشترط مثل هذا الشرط في الشرق، فهناك بلدان لا تُحصى ممتدّة من سورية إلى
اليابان وكلّها في "شرق" الأردن. وأمّا "الشرقيّ" منهُ فمقيّد بحدودٍ ..".
إلى هذا ينبِّه الكرملي في سياق رسالته – كعادته -
إلى مجموعة من التّعابير والألفاظ التي يرى خطأ استعمالها على صورتها
الشائعة أحيانًا. وقد ظلّ العُزَيزي يستشهد ويسترشد على الدوام بآراء
العلامة الكرملي وتصويباته اللغوية، فيأخذ بها فيما يكتب ويؤلِّف ويُحاضِر،
عدا أخذه بالكثير من آراء أستاذه ونتائج تحقيقات الأب الكرملي وبحوثه
اللغويّة والتاريخيّة.
واتصلت حلقات المراسلة والصداقة بين العَلَمين على
هذا النحو حتى وفاة العلامة الكرملي عام 1947، وكانت لا تُعرض للعُزيزي
معضلة إلاّ سأل أُستاذه عنها، فيجيبه برحابة صدر وتواضع. وكانت رسائل
الكرملي إلى صديقه وتلميذه بمنزلة "جامعة علميّة" كما يصفها العُزيزي نفسه،
ترد إليه أسبوعيّاً بلا انقطاع، إلى أن مرض الأب في أواخر حياته. وكانت هذه
الثروة النّفيسة من الرسائل قد فُقدت حينما نهب بعض الغوغاء منزل العُزيزي
ومكتبته – بما فيها أوراقه ومؤلَّفاته المخطوطة - في القدس، مع اضطراب حبل
الأمن فيها خلال أحداث النكبة الفلسطينية عام 1948. ولم يتسنَّ له استعادة
أشتات مما فَقَد إلا بعد ذلك بسنوات، وكان في عِداد ما استعاد بقايا رسائل
الأب الكرملي، وعددها (29) رسالة وبطاقة بريدية، تقع تواريخها بين
1938-1945.
وتكشف هذه الرسائل بجلاء معالم تلك الرابطة العلميّة
والروحيّة بين العُزيزي وأستاذه الذي عدّه أبًا روحيًّا له، وصاحب أعظم
تأثير وتوجيه أدبيّ في حياته. وقد تجلّى ذلك في نهل العزيزي من عِلم الأب
الكرملي نهلاً أثَّر بوضوح في تطوّر شخصيّته العلميّة، وفي ارتياده مجالات
بحث وتحقيق، ربما ما كان ليتسنى له ارتيادها لولا هذه الرابطة، وما ناله من
حظوة التّشجيع وثقة أستاذه ومعلمه الأكبر باجتهاده ومساندته له. وتتضمن
مجموعة الرسائل هذه موضوعات وفوائد شتى، وإجابات على أسئلة واستيضاحات كان
العُزيزي يلجأ فيها إلى أستاذه العلاّمة، وتشير في أحد جوانبها إلى اجتهاده
وإقباله على البحث والتنقيب في اللغة والتاريخ والتراث، وكذلك إلى القيمة
العلميّة في محتويات هذه الرسائل، التي حفلت بالآراء والتحقيقات والتصويبات
اللغوية، وتحقيق معاني الألفاظ والأعلام وضبط رسمها، والأحاديث على كتب
التراث ومؤلِّفيها، ونقد بعض طبعات هذه الكتب وتحقيقاتها.
ولعلَّ أهم أثر للكرملي يتبدّى في الرسائل أنه حثَّ
تلميذه على جمع التراث الأردني ونظمه في مُعجم، وتنبيء رسالة من الأب إلى
العُزيزي – تاريخها 9/8/1938 – أن الكرملي كان يوالي تلميذه بالنّصائح
والإرشادات في كيفية وضع هذا المعجم أو القاموس وأمثَل الطرق لمعالجة
موادّه وضبطها.
وكان العُزيزي مع غروب عام 1938 قد أتم وضع أربعة
مجلَّدات ممّا سماه "المعجم الأردنيّ"، وهو الذي أعاد تأليفه – مع عدد آخر
من مؤلَّفاته - بعد فَقْد أوراقه ومخطوطاته في القدس عام 1948، باسم "قاموس
العادات واللهجات والأوابد الأردنيّة"، وطُبع في ثلاثة مجلَّدات. أما
المجلَّد الرابع فلم يستطع إعادة كتابته لأنه كان عن وسوم القبائل
ودلالاتها الدّينيّة، الأمر الذي يحتاج إلى الرحلة بين القبائل لنقل الوسوم
رسمًا. وكان الأب الكرملي أول الأمر ظنَّ أنّ العُزيزي سيصنع معجمًا من مئة
صفحة على أكثر تقدير، فلمّا علم بنتيجة ما انتهى إليه رصد له مبلغ ستين
دينارًا عراقيًّا لطباعة المعجم، ويبدو أن هذا المبلغ كان أقلّ من تكلفة
طباعة المجلَّدات الأربعة المُنجزة، فتأجل الأمر وكان ما كان من إعادة
تأليف الكتاب.
وجاء انعقاد الصلة بين العُزيزي والكرملي، ليتيح
للأول ولوج ميدان تحقيق الكتب من خلال مشاركة أستاذه في تحقيق ثلاثة من
المؤلَّفات التراثية، فكان أول كاتب أُردنيّ يُسهم في هذا الحقل، قبل أن
يخوضه عدد من الأكاديميين الأُردنيين بعد ذلك بسنوات. أما الكتب التي اشترك
العُزيزي في تحقيقها، فهي: (1) "نُخب الذخائر في أحوال الجواهر"، لإبن
الأكفاني [القاهرة، المطبعة العصرية، 1939]: وللعُزَيزي فيه ملحق يشتمل على
تعليقات تتناول تسميات الجواهر والأحجار الكريمة والنباتات العطريّة
واستعمالاتها لدى أهل شرقي الأردن، وبحث عنوانه "الجواهر في الإسلام". (2)
"النقود العربية وعلم النُميّات" [القاهرة، المطبعة العصرية، 1939] : في
الكتاب بحث كتبه العُزيزي تحت عنوان "لمحة في تاريخ النّقود"، يتناول فيه
تاريخ النقود عند الأمم القديمة، ثم يتطرق إلى تاريخ النقود التي استُعملت
في شرقي الأردن حتى ثلاثينات القرن الماضي. (3) "بلوغ المرام، في شرح مسك
الختام في من تولّى مُلك اليمن من ملك وإمام"، للقاضي حسين بن أحمد العرشي،
وأتمّ تأليفه الأب الكرملي [القاهرة، مطبعة البرتيري، 1939]. وفيه تعليقات
لغويّة واستدراكات تاريخيّة وجغرافيّة للعُزيزي.
كان العُزيزي يُراجع تجارب طبع هذه الكتب
(البروفات)، التي يرسلها إليه الأب الكرملي بالبريد تباعًا، من القاهرة،
وفي ظلّ ظروف تراسُل صعبة، بسبب نشوب الحرب العالمية الثانية، فينقحها،
ويضبط ألفاظها، ويشرح منها ما يحتاج للشرح، ويستدرك على المتون بإضافات
وتوضيحات وتعليقات، جعلت الأب الكرملي يشيد بدقته وعنايته الفائقة في إخراج
تلك الكتب من حالها المخطوط إلى عالم المطبوع، مستفيداً من توجيهات أستاذه،
ومن أسلوب الكرملي الخاصّ في التّحقيق والتّحرير والضبط والتوليف، الذي
يعدّ مدرسة قائمة بذاتها في خصائصها المنهجيّة.
لقد بلغ العُزيزي من ثقة أستاذه الكرملي به أنْ كان
الأخير يستشير تلميذه في بعض الألفاظ والمعاني، ويأخذ برأيه إذا استصوبه.
بل وأثبت تحقيقات لغوية في معجمه المشهور "المُساعد" منسوبة إلى العُزيزي.
وقد خلَّد العُزيزي صلته العلميّة والروحية بالأب الكرمليّ في كتابٍ عن
سيرة أستاذه سماه "سَدَنة التراث القومي"، طُبع عام 1946 في منشورات
المكتبة العصرية بيافا/ سلسلة "الثقافة العامة". ويعدّ كتاب العُزيزي هذا،
الذي يقع في (175) صفحة من القطع الصغير، من كتب السير والتراجم الأدبية
القليلة جداً التي أنتجها الكتَّاب الأردنيّون خلال النصف الأول من القرن
العشرين.
لقد وضع العُزيزي كتابه "سدنة التراث القومي" من
عاطفة وفاء لأستاذه العلاّمة، لكنه شاء أيضًا أن تكون في الصفحات التي
دوّنها، والتي قرأها على الأب الكرملي قبل أن يدفعها للطبع، ما "يعين
الناشئة في المستقبل على دراسة العناصر المكوِّنة لهذه الشخصية المتفوّقة"
التي تأثَّر بها، ولكنه التأثُّر الذي يصبح جزءًا أساسيًّا من تفاعلات
الأديب مع الحياة والمعرفة والثقافة، ويُنتج إضافات فيها وابتكارات نافعة
تنبيء عن تطوره الفكريّ، لا مجرد تأثُّر يبقيه محصورًا في أُطر التّقليد
والمحاكاة.
توفي روكس العزيزي في 21 \12\2004 عن عمر يقارب المائة عام
(مجلة "أقلام
جديدة"، العدد الخامس، أيار/ مايو 2007، عمّان/ الأردن)
قال عنه
الشاعر الكبير سليمان المشيني
روكس
العزيزي به تزْهو القوافي كما تزهو العرائس في أبرادها القُشُبِ
روكسُ
العزيزي المربي المثالي الكبير له في قلب كلِّ وفيٍّ أرفعُ الرُّتَب
وقال عنه
الشاعر السوري رياض عبد الله حلاق في قصيدة "حامل المصباح"
يا موقظ
التاريخ من غفواته لولا يراعك طالت الغفوات
اطلقت من
قيد السكوت لسانه فاذا به اوتاره صدمات
واذا
الصحارى الصامتات منابر واذا الخيام الساكنات لهاة
ان المؤرخ
مخصب جذب الحصى وعلى يديه تنور الظلمات
|