حلم
كلمسة شفاء بعد عاصفة آلام مبرحة مسني حبه. لقي الباب موارباً فتسلل
دافئاً كشمس خريفية. استفاقت محتجة زاعقة وطاويط ذاكرتي . ظل على هدوئه ما
أرجفه زعيق. كعذراء ما عبث في حلمها الذهبي فارس مخاتل استسلمت لدفئه. على
مهلل بعثر ما رتبته جدتي ومن قبلها جدتها ومن بعدهما أمي ومعلمي وكتاب
صلاتي. على مهلٍ أمسك بتلافيف روحي وقادني من عتمة آلاف السنين. رويدا
رويداً دون أن يصعقني بضوئه الباهر أخرجني من سجني إلى الحرية.
جأرت فرامل سيارة مهتاجة تحت النافذة. سلبت لمسة شفائي وأعادتني الى
عتمتي راضية مرضية كالنفس المطمئنة
في الرابع من حزيران
1982
وفيه مهدوا لاجتياحهم بقصف المدينة الرياضية. كان عمرها سنتين.
نهروها. قالوا لها اطلعي برّا. خرجت الى الشرفة تشكو لملاقط الغسيل ظلمهم.
هي ملاقط ملونة أحمر أصفر أزرق أخضر. صنعت منهم صبياناً وبنات وراحت
تحادثهم وتحبهم ونسيت تظلمها. فجأة دوى صوت راعب ارتجف له قلبها وملأ غبار
حارق عينيها. زعقت مرتعبة وصارت دقات قلبها تسمع عن بعد. ركضت اليه واختبأت
بحضنه. هدهدها فاطمأنت وسكن ارتجافها . ظلت عشرين عاماً تهرع الى حضنه كلما
داهمها صوت راعب وظل في كل مرة يهدئ ارتجاف قلبها وقلق عينيها . ابتأس يوم
كفت عن عادتها الجميلة تلك وتساءل ترى هل صار لها حضن أدفأ أم ان حنو حضنه
زاد عن حده وأمسى قيداً.
ذاكرة عشوائية
داهمتني هذه الصورة فيما أنا اهدهد حفيدي لينام. غريب أمر هذه
الذاكرة كيف تلملم بضاعتها من بلاد الواق الواق دونما حساب لمنطق او ترتيب
فتعطف الحرير على الخيش والفحش على القداسة !. كيف وأنا أغني للحمام مرت
صورة محمد الدرة
إدمان
ـ قال: مثل الادمان انت لي. فاتسعت حدقتي عينيها وسألته: كيف يكون
الادمان؟ وكان كلما قال أكثر كلما زاد جهلها. منذ يومها وهي تحملق كل ليلة
بنجوم السماء وتتخيل كيف يكون الادمان. ذات سحر غمزتها نجمة ورحلت عند
الفجر. صارت كل ليلة تنتظر غمزة نجمتها. ولكنها لا تزال تسأل كيف يكون
الادمان.
سعيد أبو النحس
المتشائل
تعرفت عليه فوق إحدى مسارح سدني. قلت فيما نحن خارجين من المسرح:
حرام سعيد. صاح بي صيحة
لفتت سمع جموع الخارجين من المسرح.
سكر بوزك!.... العميل ما بيقولوا عنو حرام.
سكرت بوزي. لا احتراماً ولا اقتناعاً بل تفادياً لغضبة هوجاء قد
تؤدي إلى طردي طرد الفريسين من الهيكل. عندها فقط تمنيت لو أنني أجيد
العربية لأرى أين وقع الالتباس في تصنيف سعيد أبي النحس المتشائل. بعقلي ؟
بعقل والدي؟ ام بعقل من فرنجه وأنطقه بالانكليزية؟
هكذا تبدأ الأمور
عندما كان صغيراً كان يتألم لأن أمه تحب أخاه أكثر منه. مالأها كي
تحبه أكثر. في المدرسة قرّبته المعلمة وطلبت منه أن يكون عيناً سرية على
رفاقه الصغار. لم يقل له أحد ان هذا خطأ وظل يمارسه فقط لممالأة المعلمة
والتقرب منها. عندما كبر صار اسمه سعيد ابي النحس المتشائل
أضيفت في
28/10/2006/ خاص القصة السورية
/المصدر: الكاتبة
النعجة السوداء
لم تستفق بعد من دهشتها امام هذه المدنيّة التي صدمتها منذ ان
لفظتها إحدى اقصى قرى الجنوب الى هذه البلدة المتمدنة التي تنقسم احياؤها
جزرا مذهبية . ما زالت تصطدم كل يوم بمفرادت جديدة ليس اقلها موراني, روم,
كوتالي*. حاولت ان تعدل لهجتها لتبدو مثل باقي رفيقاتها في الصف فتحيي
مثلهم ب"بونجور" بدل "الله معكن" و"مادموزيل" بدل "معلمتي" , فينطلقون
ضاحكين فيما هي تنكمش منزوية تقضم اظافرها وربما شيئا ما تحت الاظافر ايضا
اليوم هو موعد درس التعليم الديني. دخلت الاخت "سيسيل" الصف فوقف
الجميع احتراما وحيوا بصوت جماعي جهور "بونجور ماسور" . جلست الاخت سيسيل
وراء منبر يرتفع قليلا عن مستوى الغرفة إلا انه كان اضيق من ان يغطي عرضها
فقد برز من كلا الجانبين رداؤها الاسود الطويل الفضفاض . . . وضعت نظارة
فوق عينيها , قلبت في صفحات كتاب سميك موضوع فوق المنبر
ـ درسنا اليوم عن سيدنا نوح
كان الصغار يتطلعون في وجه محدثتهم بعيون شاخصة, يعلم الله وحده
ماذا تخفي هذه العقول التي لم يزد عمر اكبرها على دزينة من الاعوام . . .
ضربت العبارة مسمع الفتاة فحيرتها , سيدنا نوح؟ ! . . . التعليم المسيحي
كما عرفته في قريتها الجنوبية تتردد فيه كلمات العدرا يسوع , حنا, متى ,
بولص بطرس, أما نوح ! ! . . . وتذكرت: كان والدها يذكره بين الحين والاخر
في جداله مع الساهرين من اصحاب وجيران في ليالي الشتاء قبل وبعد انتهاء
"دق" لعب الورق. وعلى ما يستطيع عقلها الصغير ان يستوعب فان والدها ما تكلم
يوما عن نوح باحترام . ثم تذكرت اكثرالنبي موسى الذي كان يصفه بالساحر
وإصراره على ان ديننا يبدأ من عند العدرا مريم , السلام لاسمها, ويوسف
النجار, كل ما قبلهما كذب بكذب.
كانت
تمتلئ فخرا عندما ترى ضيوف ابيها يصمتون موافقين فالرجل له عليهم دالة فهو
قد امضى بضع سنوات من طفولته في دير للرهبان في الناصرة
كانت الاخت "سيسيل" تتكلم وكانت كوكب مأخوذة بشكلها اكثر مما هي
ماخوذة بكلامها الذي لا يهادن . فالاخت "سيسيل" تشبه جذع شجرة الجميز التي
كانت في وسط ساحة قريتها الجنوبية, ثخينة وقصيرة, وقد كانت الصغيرة مأخوذة
بهذه الضخامة فهي آتية من قرية لم يكن بعد قد شاع فيها "كروش الوجاهة".
قالت في سرها: هذا الجذع الاسود يستطيع ان يحمل من الاغصان مثل ما كانت
تحمل شجرة الجميز. وراحت تتخيل المرأة وقد طلع من فوق كتفيها كذا وكذا,
ومن على جوانب الرقبة . . . لا مجال للكثير فهي قصيرة تكاد تلاصق الكتفين.
ثم عرتها من غطاء راسها وسمحت لفرعين نشطين ان ينموا حول الاذنين واغصان
اخرى عند العينين والفم وفي مؤخرة الراس و . . . و . . . و
كانت الاخت سيسيل تصف وتصف وتتوعد , وتأمر بالطاعة. فالعصيان يؤدي
الى جهنم . . . هذا تعرفه جيدا, أما نوح! ! . . . القصة جميلة وشيقة بلد
يتعرض للطوفان, واحد من أهل البلد واحد فقط يعرف بالامر. يعرف ولا يخبر
قومه, بل يبني فلكا كبيرا ويجمع ابناءه وزوجاتهم وابناءهم وزوجا من كل
الحيوانات البرية والداجنة . . .
لماذا
لم يخبر جيرانه , لماذا لم يقل لبقية اقاربه على الاقل . كيف طاوعه قلبه
وهو القديس الصالح ان يترك كل هذه الناس تموت في الطوفان, نوح ليس سيدنا .
. . نوح . . . نوح. . . نوح! ! . . ما زالت الاخت سيسيل تشرح وتستفيض في
وصف الميتة البشعة التي حلت باهل ذلك الزمان فيما نوح وعائلته وحيواناته
فرحين في فلكهم لا يعنيهم ما يجري خارجه
كانت الصغيرة تتابع حركات الاخت سيسيل, وكانت هذه تحاول ان تثير في
طلابها دهشة من خلال حركاتها الدراماتيكية التي لم تسعفها بدانتها على
القيام بها على اكمل وجه
بعد ما يقارب الساعة من الزمن صمتت الاخت سيسيل للحظة وعادت مطرقة
الراس الى منبرها ثم قالت بلهجة اخف حدة من سابقتها : في المرة القادمة
سأسالكم في صفحة كذا وكذا, ثم اردفت سؤالها التقليدي فنمت نبرة صوتها انها
لن تتوقع عليه جوابا
ـ هل من سؤال ؟ !
رفعت الفتاة الدقيقة الملامح الممصوصة الجلد اصبعها طالبة إذنا,
أجابتها الاخت سيسيل : ممنوع . . . تعلموا الانضباط
ـ "ما سير" . . . "ما سير"! !
ـ قلت ممنوع
ـ . . . "ما . . . سير" . . . سؤال عن الدرس . . .
جحظت عينا الاخت سيسيل الجاحظتين اصلا وقالت بلهجة غاضبة
ـ ما الامر؟
"ما سير". . .
لماذا لم يخبر نوح أهله وأقاربه عن الطوفان؟ ! !
امتقع لون الاخت سيسيل واعتراها غضب جامح وصاحت بالصغيرة التي راحت
ترتعش امامها . . . وقحة . . . كافرة . . . إطلعي بره . . . قدامي الى غرفة
المديرة
*
لفظة عامية
تعني روم كاثوليك
ملاحظة: يعود زمن القص إلى أواخر الخمسينات من القرن العشرين
أضيفت في
25/03/2006/ خاص القصة السورية
/المصدر: الكاتبة
بقع فوق أفكار نعمان
نعمان لا يحب أزيز الطائرات الراعد. عندما كان صغيرا كان يهرع مختبئا بثياب
أمه كلما مرت دراجة نارية مقرقعة, وكان أوّل من يتكوم في زاوية آمنة عندما
يداهم حيهم قصف مفاجئ
نعمان لا يحب ان يموت، ليس لأنه يحب الحياة فقط، بل لأن موته سيحزن أمه
كثيرا. عندما خطف أبوه ولم يعد، ظلت لسنوات تبكي. تسربلت بالسواد. وضعت
منديلا أسود فوق رأسها وبدأت تهرم بسرعة، حتى أنها لم تعد تحبهم. لم تعد
تدلله كما من قبل ولم تعد تصنع له الاطباق التي يحبها. صارت مثل خادمة ام
بشير تطبخ وتضع الاكل على الطاولة دون تعليق , دون ان ترجوه او ترجو عامر
ليزيد. ظلت لسنوات لا تأكل حبة حلو, وحرمت صنع الكاتو والكنافة في البيت.
صحيح انه كان يشتري كنافة وكاتو من عند العريسي ولكن ما تصنعه أمه أطيب.
اكثر من مرة خبأ قالب الكاتوه عندما يزورهم احد على غفلة لكي لا تقوم امه
بتقديمه للضيوف.
عزّة ايضا ستحزن. ولكن حزنها لن يكون بمثل حزن أمه. ستندم على كل
المشاجرات التي كانت تفتعلها معه. ستندم لانها ظلمته يوم اشتكته لعامر
وقالت نعمان يدخن. كان عامر قاسيا معه يومها. قطع عنه المصروف. بقي لأسابيع
يأكل سندويشته ناشفة ولا شفة ببسي. عزّة تغيرت كثيرا بعد ان تهجروا من
بيتهم الريفي شرقي بيروت وسكنوا في برج البراجنة. صارت تصرخ كلما دخل عليها
غرفتها" إطلع بره". صارت تقضي وقتها بقراءة مجلات تخفيها تحت الفراش عندما
تدخل أمها الغرفة فجأة. يوم رمى لها المجلات عن الشرفة الى الشارع قالت له:
"إنشالله تموت" (ستتذكر هذا وتبكي)
لا يستطيع ان يتصور مدى حزن رنده ولكنها حتما ستندم لأنها كانت دائما
تتباهى عليه بتفوقها في الدراسة ولا تكف عن ترديد: "طالع حمار لا تنفع لأي
شيء. . . روح كب حالك بالبحر" . صحيح أنه كان يكرهها لذلك ولكنه كان يتباهى
بها كلما سأله معلم جديد عن قرابته برنده. كان يقول بالفم الملآن رنده اختي.
ولكن رنده مغرورة دائما تهزئه وتقول انها تخجل ان يكون لها أخ كسلان مثله.
ستندم على كل كلمة جارحة قالتها في حقه.
قد لا يحزن عامر كثيرا, موته سيخفف بعض الحمل عنه. عامر هذا عواطفه جامدة.
. . في هذه السن وليس له حبيبة او خطيبة. لا يعرف إلا الواجب. يعمل مثل
الالة. يصرف على البيت منذ استشهاد والده ولكنه يعيش في صومعته بعيدا عن
همومهم الاخرى. لم يسأله مرة عن أحواله الغرامية ولا علمه, كما يفعل الاخوة
الكبار عادة، كيف يتعامل مع حاجاته الجنسية،.وهو لا يعرف عن أحلامه
وطموحاته شيئا. لم يغضب يوم قال أنه تطوع مع الشباب وأنه ذاهب معهم الى حي
السلم ولم يشد على يده مشجعا. وقف مثل "ابو الهول"
هل ستبوح إبتسام بما كان بينهما؟ ! ! . . هل ستحضر جنازته ؟! . هل ستجلس
الى جانب أمه ورندة وعزّة تتقبل التعازي في موته ؟ ! . . . لا يظن ذلك.
إبتسام تخاف من اخيها عليّ . كثيرا ما كانت تقول له مازحة كلما جاء يضمها
ويقبلها "عليّ فوق الشجرة"
سوف يصّلون عليه في كنيسة مار بطرس وبولس في الحمرا. وسيقول أبو ماهر كلمات
جميلة في تأبينه. عند كل وقفة له ستجهش أمه بالبكاء ولكنهم سيدفنونه في
مقبرة الشهداء. أبو عمار قال كل الشهداء يدفنون في مقبرة الشهداء, إسلام
ومسيحية. هو لم يأبه لانتقادات رجال الدين. قال لهم هؤلاء صاروا إسلام
بالشهادة . هو يحب ابو عمار ولكنه يسكت عندما ينتقده ويشتمه كوادر الجبهة
الشعبية كي لا يبدو ساذجا لا يفهم بالسياسة
سيلف النعش بعلم فلسطين وسيطلق رفاقه الرصاص تحية للشهيد البطل. ستكون
الكنيسة مليئة برفاقه المسلمين الذين سيسخرون من هذه الكلمات التي تقال
بلغة لا يعرفون ما هي. قد يتضايق بعضهم من رائحة البخور القوية ويترك
الكنيسة بسبب تلك الرائحة . . . قد يسخر عماد ورسمي من هذه الشموع الصفراء
الكبيرة المضاءة في عز النهار ويقول: مثل هذه الشموع تكفي مؤونة الاضاءة
لمدة شهر.
عندما سيقومون بحمل النعش ستزداد الشهقات وسيرتفع النحيب : ستصرخ أمه: مع
السلامة يا حبيبي يا نعمان, سلم على أبوك. وربما تغيب عن الوعي. قد تطلق أم
جميل زغرودة مفاجئة كما تفعل دائما وقد يتبعها بعض الرفاق بانشودة "يا ام
الشهيد زغردي كل الاولاد اولادكي . . . "
كم هو جميل ومحزن موت الشهيد! . كم هي جميلة كلمات
التأبين!. كم هي جميلة اللوحة الرخامية البيضاء المكتوب عليها اسمه وتاريخ
ميلاده وعبارة استشهد دفاعا عن بيروت المقاومة بتاريخ . . . . 1982
أحس انه على حافة البكاء، لا بسبب ما سيصير اليه بل بسبب هذا الشجن الجميل
والحزين كالموسيقى.
تساءل:
لو أنهم علموا ان ما يجول في فكره من خواطر بين الحين
والاخر هل كانوا سيظلون يعتبرنه شهيدا؟!. لو علموا انه في بعض الاحيان
يندم على هذا التطوع, وعندما يشتد الخطر يتمنى ان تنتهي الحرب حتى وان لم
تنتصر الثورة . لو علموا انه تظاهر بالمرض ليلة البارحة حتى لا يشارك
بالهجوم على مثلث خلده الذي قام بالنيابة عنه رفيقه هاني واستشهد خلاله. لو
علموا انه كان يحب ان يتفرج على صور النساء العاريات ويقرأ النكات الجنسية
اكثر مما يحب قراءة كتب ابو ابراهيم. لو علموا انه كان يبخل عن شراء مجلة
الهدف حتى يوفر ثمنها ويشتري مجلة بلاي بوي. . . سرّ نعمان لان الافكار
ليست كالثياب فهي لا تظهر البقع القذرة التي تلطخها.
عندما جاء ابو مجاهد وبرفقته ثلاثة من رفاق نعمان بثياب مرقطة, لم تقم ام
عامر متلهفة لترحب او تسأل عن نعمان بل قالت وعيناها مطرقتان الى الارض:
ـ لا ضرورة للكلام. . . لقد زارني ليلة البارحة وقال لي وداعا يا ام
عامر. وصّاني ان لا أحزن ولا ألبس السواد ولا أتوقف عن خبز الكنافة. قال،
إن حزني سيحزنه كثيرا ويجعل موته حقيقيا
نجمه حبيب
من مجموعة: "ربيع لم يزهر"
شيء يشبه
"الاخضر والاحمر"
قط او قطة لست أدري، ما ادريه انه كان يتخذ، صبيحة كل يوم، من سياج حديقتي
"قدومية" يعبر من خلالها الى الجهة المقابلة من الحي. ولأصدقك القول، فإن
مشاهدتي له كانت تتم دائما عندما يكون الوقت صبيحة. كان هرا ككل الهررة
المدللة في هذه البلاد. شعره ناعم براق وعيناه لامعتان هادئتان. كانت
قفزاته سريعة ولو انها لا تخلومن بعض الحذر، وكان يهم راكضا قاطعا الطريق
الى الجهة الاخرى. قد يحلو لي في بعض الاحيان ان اشاكسه، ففي اعماقي حسد
وغيرة من قطط وكلاب هذه البلاد لاسباب لا أظنها خافية عليك. اعترض طريقه
واحدق في عينيه. لم تكن نظراتي لتخيفه او تجعله يتراجع الى الوراء بل كان
يقوس ظهره وينتصب على قوائمه الاربع ويحدق بي تحديقة حرت في تفسيرها، أهي
تحد، تحفز لصراع، أم رجاء؟ غريبة هي أعين الهررة!. . .لم انتبه من قبل لما
فيها من عمق. ترى ألهذا قالوا ان الارواح الشريرة تسكن هذه العيون؟ لم اشعر
بالشر في عيني قطي هذا. احسست بكل شيء إلا الشر. لم تكن مشاكستي له لتطول
فقد كنت اتراجع امام إصراره فأخفض بصري وأدير له ظهري مفسحة له إكمال
طريقه.
لطالما فكرت وقلت لجليسي لماذا يصر هذا الهر على القفز فوق سور الحديقة
فبإمكانه أن يحاذيه . . . وأين يذهب؟ ترى هل هو عائد من غزوة ليلية أم متجه
إلى أخرى صباحية؟ سيرة الهر كانت ترافق قهوتنا الصباحية. استراحة قصيرة من
متابعة نقاشات "الجزيرة" التي تغيظ اكثر مما تثقف. ضبطني صغيري اكثر من مرة
احكي بتحبب عن الهر فانتهزها فرصة ليطلب مني موافقة على اقتناء هر صغير.
صرخت غاضبة : "كله إلا الهررة" وسخين وبعيونهم سحر وشر
ـ ولكن. . .
ـ بدون ولكن بكره بس تتزوج جيب على بيتك مئة هر . أما هون لا .
يتمتم لاعنا دكتاتوريتي مهددا انه سوف يترك البيت في اول يوم يصبح فيه عمره
ست عشرة . أشعر بوخزة. أتكون منافستي هرة؟ !. .
الجزيرة تعرض صورا من فلسطين . الجرافات تقتلع أشجار الزيتون. رغم اني
تربيت بالمدينة ولا أعرف عن شجر الزيتون إلا لوعة أمي على تركه قبل ما يزيد
على خمسين عاما، إلا أنني احسست وقلت لشريك قهوتي: أحس أن كل عرق زيتون
يقتلع غال عليّ كاحد أعضائي. يلوي رقبته حسرة . يهم بالكلام ولا يتكلم.
أعرف ما يريد أن يقول. أعرف أنه يشعر بالذنب لأنه هنا . يتمنى أن يكون
هناك. سكبت بعض القهوة في فنجانه لأحول انتباهه. كانت عيناه تلتمع بدمعة
مكابرة. رشف قهوته وقال: الكواد على شو بعدو بيفاوض؟
دخل الصغير يجفف يديه بحماس بمنشفة صغيرة: خالي سيأخذني معه الى "تاون هول"
سأشوف حنان عشراوي. عظيمة هاي المرة لو كان في مثلها كتير كنا ربحنا فلسطين
ـ سكّر فُمك ! انت شو بيعرفك بالسياسة؟ لو كانت القصة قصة حكي كنا استرجعنا
الاندلس مش بس فلسطين.
ـ
dad!!..... she is great!....
- "الغريت" هناك مش ب"التاون هول" بتاعتك.
هذا الحوار السفسطائي يكاد يكون خبزنا اليومي. أقول منتقدة ما معنى ان تعيش
في سدني وقلبك وعقلك هناك
يصمت. وأسمعه يهمهم بعد ان تواريت عن ناظريه: "... كأنك مش عارفة!. . .
ساقونا بالشاروط مثل الجاج: بيت بيت بيت... حتى بتنا. . ."
كنت اهرب الى الشرفة الشرقية. أزيز الباب نبَّه صديقي الهر العسلي اللون،
شعرت بذلك من ارتعاشة ذيله
إلا أنه لم يلتفت صوبي كأنما هو منهمك بأمر ما!. . . حجبه ظل شجرة السرو عن
ناظري وانهمكت اراقب تعسر نمو شجيرات الغاردينيا رغم كل الاهتمام والمغذيات
التي رفدتها بها. سمعت صوت ارتطام. "تلفت. حركة الشارع عادية، سيارة صغيرة
زرقاء تعبر الشارع. الشارع عريض وشبه خالٍ، لا مجال لارتطامها بأي شيء. ما
سبب هذا الصوت؟ كدت اتجاهل الامر فقد بلدت سمعي معايشة خمسة عشر سنة من حرب
البيروتين ولكن فضولاً غير عادي دفعني الى الزاوية الاخرى من الشرفة. من
هناك، من تلك الزاوية استيقظت في النفس انفعالات حرصت سنين على كبتها. رأيت
هري العزيز ملقى فوق الاسفلت ينتفض وينتفض ثم يهدأ، وكان هر آخر يقطع
الشارع من الجهة المقابلة يقعد فوق رأسه وينوح. كان نواحه لا يختلف بشيء عن
نواح امي يوم جاؤوا بأبي شهيدا، بل ضحية قبل عشرين سنة. لا ادري لماذا
رأيتني أفكر بقصة غسان كنفاني "الاخضر والاحمر"
نجمه خليل-حبيب
سدني استراليا
جدتي تفقد الحلم
ـ يا أولاد !. . . انتم لا تفهمون!!. . . انا ما عدت أحلم . لم أعد ارى
منامات. . الامر غريب. . . غريب. . . حياة بدون حلم! ! . . . بدون منام! .
. يعني . . يعني. .
ونتبادل نظرات متآمرة مدينة. . .
ـ انتم لا تعرفون ماذا يعني ان يقوم الواحد من نومه في الصباح ولا أثر لحلم
في بدنه
ـ تيتا: تعشي مجدرة ويعود الكابوس وليس الحلم فقط.
وتضرب كفا بكف. وتقرر ان تصمت. لو تكلمت أكثر سيظنون انها خرفت قبل الاوان.
. . . . . . .
في الحلم كان يرجع اليّ كل ليلة ، كأنه لم يمت ، كأنه كان مسافرا وعاد
وعادت معه اللهفة والشوق والمداعبات الماجنة. في الحلم كانت عمليتنا اجمل:
اتحلل من كل حياء أكفر بكل موانع، أحبه كالعاهرات. في الصباح يذهب الحلم
ويظل أثره كارتشافة خمر معتقة تسري في الاوصال ناعمة سلسة تخدر في الروح
كل ما فيها من مراعاة مقتضى الحال. في الحلم تخطيت اوامر الجلاد وعبثت
وغسلني عبثي المحظور بالذنب والعار وافقت في الصباح وانا احس اثر العار
والخطيئة يغسلني كالجرب. احس كل العيون مشدودة صوبي كلها تدين كانها كانت
كلها معي في الحلم وشهدت على سقوطي وإثمي وعبثي المحظور. لا أذكر أنني سرقت
مرة أو خنت وطنا او غدرت بصديق ، غريب ان تخلو أحلامي من مثل هذه الملامح
الرئيسية في النفس الامارة بالسوء
ـ ماذا أفعل لاعيد الحلم الى حياتي؟ يا رب حلم واحد حتى ولو كابوس. . .
حلمت يوما ان ابني البكر قد مات. في الصباح بكيت بحرقة الام الثكلى، تطلعت
الى المرآة فرأيت أثر البكاء في عيني واحديداب الظهر فوق كتفي. والم الثكل
بكل حذافيره ورايت نظرات الشفقة والموآساة في عيون كل من تلاقت عيني عينيه.
سمعت اذني عبارات التعزية والمجاملة بكل ما فيها من صدق ورياء . الغريب ان
أذني تلك كانت قادرة على تعريب الصدق من الرياء في نفس اللحظة التي
تسمعهما. في الصباح دخلت غرفة ولدي وتشممت ثيابه، ومرغت وجهي فوق فراشه.
رأيت نفسي أحبه حبا خاليا من الشوائب كمثل ما احببته اول مرة وقع عليه نظري
بعد طول مخاض. عندما عاد في المساء شعرت بالندم لكل تلك المشاعر السلبية
التي كانت تراودني تجاهه في بعض الاحيان، وغمرته عيناي، دون أن تتجرأ يداي،
بفيض من الحنان لا يمكن ان يفوقه حنان آخر
حلمت يوما اني ضبطت رجلي، في فراشي مع اخرى. لم أغضب، بل وقفت مختبئة اراقب
واتلذذ فعلهما استفقت في الصباح ونفسي مشحونة بالاثم حتى انني شعرت بتصلب
في عضلات حوضي جراء تفعاعلاته مع وقائع الحلم. بقيت طوال اليوم احس بكرهي
لنفسي وكرهي له حتى أنني لم استطع أن ارمي عليه تحية الصباح. ظللت طول
النهار احس أن مجرد سماع صوته يجلب لي الاشمئزاز فما بالك بلمسته
ومداعباته! ! . . .
غاصت نفسي ذلك النهار بالمهانة الشرسة كالبرص، كانت حالي كحال لايدي ماكبث،
عجزت كل العطور العربية عن ان تزيل رائحة العار من فوق جسدي وتألمت وتألمت
حتى شفاني الالم من برصي.
قرأت هذه الاعترافات على قصاصات ورق صفراء كانت مخبأة بين كنوز جدتي
القليلة.
مسكينة جدتي!. . . عاشت ايامها الباقية دون حلم في وحدة وبؤس قاتلين.
ولكنها لم تعش طويلا بعد ان فقدت حلمها
...............................
بعد أن قرأت قصاصات جدتي تباطأت خطواتي اللاهثة وراء اليومي من امور
الحياة. صرت أستفيق كل صباح وعوض أن أفكِّر بالمقالة التي سأكتبها او
بالثرثرة التي سانقلها او بالعشاء الذي عليّ أن أحضِّره, صرت افكر ماذا
حلمت هذه الليلة!!. . . ولا يهنأ لي بال حتى تقف ذاكرتي عند احد المنامات
وتكشف لي صوره ورأيتني أتذكر الحلم وأعيد تفاصيله في خيالي ويوما بعد يوم
رايتني مثل جدتي أعيش مناخ الحلم ويتأثر جسدي بتفاصيله.
حلمت ذات ليلة أني حرباء، اقفز فوق العشب الاخضر منه واليابس. كنت أتلون
حسب ألوان المكان انتقل بين الاخضر والبني والاصفروالرمادي. أحس حرارة
الشمس تلذع ظهري وذبابات الحقل تغط فوق ذيلي الذي يروح يطردها بحركات
دائرية عصبية قلقة . أحس العطش فأجري ابحث عن بقعة ماء وإذ يطول بحثي تتيبس
حنجرتي وتخفق حنجرتي طالبة النجدة ولو من رطوبة الهواء. وفيما انا في ازمتي
المميتة يحاصرني صبيان أشقياء يرمونني بالحجارة فاحس وقعها فوق ظهري فأنسى
ما بي من عطش وأهرع الى جذع شجرة اختبيء باحد شقوقه واتخذ لونه حتى ييأس
الصغار ويتركوني بحالي. اعود للبحث عن ماء بعد ان ابتعد ضجيج الصغار
وهرجهم فألمح جارحا من الطيور يترصدني, اكظم خوفي وعطشي واختبيء في ظل ورقة
توت هذه المرة وانقلب الى الاخضر تماهيا معها. أحس حنان الورقة يلفني كحنان
ذكر محب فاستسلم لمداعباتها فوق ظهري كما تستسلم الانثى الشبقى لذكرها اول
الربيع.
في الصباح أعيش الحلم بكل مناخاته. احس حر الشمس رغم برودة الجو في الخارج،
فيفغر رجلي فاه وهو يراني اتخفف من ملابسي بهذه الطريقة الغريبة. على مائدة
الافطار أرى في عيون اطفالي المتصايحين شراسة اطفال الحقل الذين رموني
بالحجارة وترتفع يدي دونما ارادة مني لتدرأ الاذى عن راسي وعيني. إنني
حرباء!!...حتى خيِّل الي ان اطفالي يتهامسون ويقولون: انظر وجه امنا، انها
تشبه الحرباء، ليت والدي يطلقها ويتزوج امرأة أجمل. . في عيني زوجي رأيت
عيني الطائر الذي هاجمني في المنام فهرعت الى غرفة النوم والتصقت بالفراش
حتى خيل لي انني صرت زرقاء بلون غطائه.
في طقس الصبحية التي احييها والجارات كل صباح انتقلت اوجاع بهية, التي
يضربها زوجها كلما يسكر،اليّ. صار جلدي مليئا باللكمات كجلدها وصارت نفسي
خانعه كنفسها
في مكتب الجريدة رمقني مدير التحرير بنظرة لم استطع تفسير معناها ولكنني
علمت ان مقالتي ادهشته فقد كتبتها حرباية لها الف لون ولون
نجمه حبيب 10/1/2004
|