رقصَة الفراشة الأخيرة
هذا هو الخوف. تلك هي الحقيقة. ذاك هو الطريق الزلق.
وغير بعيد.. يركد ماء البركة، دون حركة، ثقيلاً كزئبق، بارداً كصقيع، لزجاً
كصلصال.
.. لقد وقع الحادث فعلاً. أفما كنت أتوقعه؟ بالأصح:
أما كنت أنتظره؟
كنت أعلم أنه يجري كل يوم. فأحاول أن أجعل له نسبة
معينة، أو وسطياً محدداً، مثلما يحدث حين يقولون: في البلد الفلاني، يقع
كذا جريمة في الدقيقة.
أتساءل: كم مرة يقع مثل هذا الحادث عندنا في اليوم
الواحد؟ ترى هل كان علي، أن أرفع النسبة قليلاً، فانحدر إلى الساعة أو
الدقيقة؟ لست أدر.
بلى.. هاهي ذي الفتاة تسقط. تترجرج فوق صفحة الزئبق،
غير أن صقيع الماء لا يضربها كان الدفء يسري في أوصالها، فتبدو وجنتاها
مشتعلتين، كأنها قاعدة أمام موقد متوهج. ولم تتأفف من اللزوجة. فكانت تتقلب
بين يديها كفراشة تستحم في ندى الصباح. لم ينتبه والدها، إلى أن في الأمر
شيئاً غير عادي، حين وجهت إليه يومها ذلك السؤال الصاعق:
ـ بي.. لماذا أدرس؟
ودون أن يدير وجهه عن شاشة التلفزيون أجابها
بتلقائية:
ـ كي تنالي الشهادة.
وتابعت سؤالها:
ـ وماذا بعد الشهادة؟
قال الرجل مبتسماً، دون أن ينقطع عن متابعة ما يجري
على الشاشة الصغيرة:
ـ تدخلين الجامعة وتتخرجين .. وتصبحين موظفة أو
مدرسة مرموقة؟.
وبطريقة مسرحية قالت:
ـ ثم ماذا بعد؟
وقهقهت ضاحكة، وغابت عن عيني والدها... كانت نسرين،
ترفض تماماً كل الرفض، الحياة التي عاشها أبوها وأمها. وتنظر إلى الأمر،
كما لو أن الاثنين يقدران أن يبدلا حياتهما رأساً على عقب، لكنهما لأمر ما
رفضا، أن يفعلا ذلك.. وفي كثير من الأحيان، كانت تعبر عن رأيها، بأسلوب لا
يخلو من القسوة.
قالت مرة لأمها:
ـ لو كنت مكانك... لرفضت هذه الحياة.
وقالت مرة لأبيها:
ـ إنني أستغرب كيف أنت قانع بهذه العيشة.
فقال لها:
ـ وما أدراك أنني قانع؟
قالت وكأنها تستدرجه إلى الكلام:
ـ أرى أنك لا تحاول تغيير هذا الواقع الفظيع.
صبر الرجل، وقال وهو يداري جراحه:
ـ لقد حاولت أكثر من مرة.. ولكني لم أستطع. ثمة
قوانين مبرمة كالسيف القاطع، ولا أستطيع أن أتجاوزها. وهي ليست القوانين
الموجودة في الكتب ماذا أفعل.
ومثل عاصفة مباغتة، هبت في رأسه الذكريات.
... ((متى كان ذلك؟ ماذا يهم الزمان؟ كانت نسرين قد
نمت.. ونهدت، وكانت هيفاء أصغر منها قليلاً، غير أنها هي الأخرى فتية
ناهدة. أما هشام فكانا شارباه قد طرأ في وجهه.
تراكمت الديون. تزايدت طلبات المنزل. لم أعد أقدر أن
أسدد العجز. ذات ليلة خيل إلي أن الصباح لن يطلع. قلت: لحظات وأودع هذه
الحياة.
أحسست أنني لا أستطيع أن أتنفس.. كنت أختنق. ولم يكن
الطقس حاراً. كان الوقت ربيعاً، والليل يمضي خفيفاً، لا برد فيه ولا
لزوجة... وبعض أنسام الفجر الباردة تهب بين وقت وآخر، عبر النافذة
المواربة. غادرت السرير، ووقفت أمامها.. وكأنني أنظر إلى المشاهد أمامي
للمرة الأخيرة. كان القمر يركض منحدراً نحو الأفق. ولم يلبث أن غاب. ولم
يعد هناك سوى الليل.. والعتمة.. وكابوس يجثم على الصدر، ولا أحد في البيت
كله.. يدري بما يحدث لي.)).
***
سأل الرجل امرأته:
ـ أين نسرين.. إني لا أراها.
تململت المرأة في فراشها، وأبدت انزعاجها وهي ترد:
ـ اتصلت بنا على تلفون الجيران قائلة أنها ستنام
الليلة عند رفيقتها ميسون.
... وفي الواقع، فإن نسرين، سبق أن نامت أكثر من مرة
في منزل رفيقتها ميسون.. إلا أن شيئاً ما، خفق فجأة في قلب أبيها هذه
المرة.
أراد أن يقول شيئاً. أن يناقش امرأته، لكن الوقت كان
متأخراً. وهي أشاحت عنه بوجهها، نحو الجدار.. أدارت ظهرها وغطت في نومها.
أراد أن يسأل عنها بنفسه في الصباح. أدار قرص الهاتف
وراح ينتظر، ولكن أحداً لم يرد.
قال يعزي نفسه:
ـ لا بد أنهما في الجامعة. وأم ميسون في العمل.
وبقية أخوتها في مدارسهم.. وبدت نسرين في المساء كعادتها. كانت منهمكة في
لف شعرها حين جاء أبوها. تعمد تلك الليلة أن يرجع إلى الدار مبكراً من
المقهى. يريد أن يطامن من ذلك الشعور المباغت الذي دهمه ليلة أمس.
كان يشفق أن يؤذي مشاعرها، فترفق وهو يسألها: لماذا
لم تستأذنه شخصياً في الصباح. ألم يفهمها أكثر من مرة، أن مثل هذا الأمر
يحتاج إلى موافقته؟.
انتفضت نسرين، وكأن أفعى لدغتها في كعبها، وردت في
صوت أقرب إلى الصراخ:
ـ ألا يكفي أنني تركت خبراً عند الجيران؟ أم تراك لا
تثق بي؟.
كان يود لو يقول لها: ليس من حقك أن تخاطبي أباك
بهذا الأسلوب، ولكنه اكتفى بأن طبع قبلة على خدها وقال:
ـ ولكنك شغلت بالي أمس كثيراً..
استردت نسرين هدوءها وقوتها حينذاك وقالت لائمة
معاتبة:
ـ أهذه هي المرة الأولى التي أنام فيها عند ميسون؟
... كانت نسرين في الحادية والعشرين من عمرها، في
سنتها الجامعية الثانية. طويلة ناحلة دون عجف. أنيقة دون إسراف. وعلى الرغم
من أنها قد تكون أمضت زماناً ليس بالقصير أمام المرآة، فإن أحداً لن يقدر
أن يكشف آثار الزينة على وجهها.
كانت تبدو في منتهى البساطة والصفاء للوهلة الأولى،
إلا أنها تشبه في الأغلب، صفحة بحر قبل العاصفة. ولم يكن أحد يدري أي شيء
يقدر أن يثير غضبها، وأي شيء يستطيع أن يسفح الماء على أصابع قدميها....
بعد أن تلوح سحائب الدخان في عينيها، تغدو عيناها كعيني ساحرة، ويندلق
منهما لهب ناري. تبدأ بالتهام أظافرها. تشد شعرها. تغرب رأسها في الجدار،
وتطلق صيحات مبهمة غامضة وربما هذا هو الذي جعل جميع من في الدار يتحاشون
إثارتها، أو الاقتراب منها وقت تثأر.
تحايل عليها والدها مرة، حتى ذهب بها إلى أحد
الأطباء. فحصها هذا جيداً، ثم قلب شفتيه في ثقة قائلاً: البنت لا تشكو من
شيئاً. ورفض إعطاءها أي نوع من الحبوب. واستبعد اقتراح والدها أن تتناول
حبوباً مهدئة.
قالت أمها:
ـ هذا كله فجور وتمثيل..
وأومأت برأسها نحو زوجها مؤكدة:
ـ أنت المسؤول عن هذا كله؟.
تذكر الرجل لحظات الغضب عند زوجته. وسكت لم يقل
شيئاً. أما نسرين فقد ضحكت بصوت عال.. ودلفت نحو غرفتها.
***
((.. أنت تعرفين جيداً، أيتها الغالية نسرين، أنني
لم أدخر وسعاً في إسعادك.. فلماذا فعلت ذلك؟.
لقد وضعتني أنت وأمك، أنا المعلم الابتدائي، في
الزاوية. فعدت لا أقدر أن أتحرك كفأر حصرته قطة فظة في مكان صغير مغلق.
لم تكن مشكلتي مع الدائنين. مشكلتي الحقيقية كانت
معكما. أؤلئك كان في إمكاني أن أدفعهم، على هذا النحو أو ذاك، بين يوم وآخر
أما أنتما، فكيف كان لي أن أهرب منكما، وأنتما صباحي ومسائي؟
تسكت أمك فتطلبين أنت. وتطلبين أنت فتطلب أمك. أنت
تطلبين الثياب، وأمك تطلب كل شيء. أنت تصرخين في الصباح، وأمك تبكي في
الليل. وتبكين أنت فتغني هي. وحين تغنين أنت، يمسي صوتها مثل نعيب
الغربان.. فكرت في البداية أن أشتغل سائق سيارة. لو أنني عرفت السوق فقط.
لم يكن يهمني أن يقال أي شيء، عن المعلم الذي ربى أجيالاً. لو أن شهادة
السوق كانت معي.. فقط.
.. وخطرت في بالي أفكار كثيرة: أن أفتح مطعماً،
دكاناً صغيرة للفلافل، أو للبقالة.. ولكن الأمر كان يحتاج إلى مال كثير لا
أملك شيئاً منه.
وحين عرض صديقي فتحي أن أشاركه في معمل المنظفات
الذي ينوي أن ينشئه في داره، اقتنعت بالفكرة مباشرة، ولكني أعلمته أنني لا
أملك مالاً. قال فتحي:
ولو .. إنك تستطيع أن تستدين المبلغ الذي تريد..
والناس يثقون بك..
فرحت يومها أنت وأمك. صار كلامها أحلى من العسل..
ومضت أيام ـ كأنها أطلت من شبابيك الأحلام. أنت تضحكين لي، كأنك شمس تشرق،
وأمك توقظني بالقبلات.. ربما لم يكن يهمكما أن تعلما أنني أشتغل بأموال
الناس. وكنتما رغم ذلك، تعلمان. حكيت لأمك الحكاية كاملة من أول يوم. قلت:
فتحي يقدم ما يتطلب المصنع من غرف داره الكثيرة، ويقدم خبرته في صنع
المنظفات. في حين أشتري أنا بعض المعدات والمواد الأولى.
واستدنت، لم أترك واحداً من أصدقائي لم آخذ منه
مبلغاً من المال. حصلت على مال أكثر من حاجة المشروع. وعندئذ قلت في نفسي:
ما دمت سأسدد هذا الدين كله، وهاهو ذا المشروع، قد بات حقيقة ماثلة، فماذا
يمنع أن أعوضكم أنت وأمك وأخوتك، خيراً عن الأيام الصعبة التي مرت بنا
جميعاً. وهكذا رحت أنفق من المال المستدان، قبل أن يبدأ عطاء المشروع.
وعندما بدأنا بالإنتاج، وراح إنتاجنا يصل إلى السوق،
نمت على كومة من التبن ولم أكن أدري أن حريق التبن هو أسرع الحرائق.. وهو
البرق الخاطف نفسه.
.. من كان يتصور أو يصدق ما حدث؟
لقد أذهلنا الرواج المبدئي الذي لقيه نتاجنا في
السوق، فضاعفنا الإنتاج وملأنا المستودعات في منزل فتحي، حتى ضاقت.
ولم يخطر في بالناقط، أن معملاً أكبر، سيغرق السوق
بنتاجه، وهو أفضل من نتاجنا، وأرخص ثمناً.. وأجمل عرضاً، وقد واكبت نزول
المنظفات الجديدة إلى السوق حملة إعلامية كاسحة لم نستطع أن نصمد لها..)).
***
كانت نسرين، تبدو كل يوم في حلة جديدة. أحدث الثياب
المعروضة في المخازن التي تبيع البضائع الأجنبية.. كانت تظهر فيها أجمل من
عارضات الأزياء. زميلاتها في الجامعة أطلقن عليها اسم ((الآنسة
مانوكان))..
وكانت نسرين صارمة في تعاملها مع الزميلات، بحيث لا
تقدر واحدة منهن أن توجه لها أي سؤال. كيف تقدر أن تقتني هذه الثياب
الغالية والفاخرة؟ بنات الطبقة الجديدة، وحدهن يقدرن أن يحصلن على مثل هذه
الملابس فمن أين لها هي ابنة المعلم الابتدائي، أن تشتري هذه الفساتين
المستوردة مباشرة من باريس ولندن وروما؟
وتلك الحلي الأنيقة النفيسة.. كيف يقدر موظف محدود
الدخل أن يقدمها إلى ابنته؟. اللهم.. إلا إذا كان قد ورث فجأة تركة ضخمة.
.. كانت تدور هذه الأسئلة في أذهان زميلات نسرين.
لكن واحدة منهن لم تجرؤ، على إلقاء واحد منها أمامها.
وكانت هي تقرأ علامات الاستفهام المرسومة في العيون،
فتتجاهلها مرة، وتتصرف في الموقف بحيث تبدله رأساً على عقب مرة أخرى، وفي
بعض الأحيان تقول: أن خالها المقيم في باريس، يرسل لها بين وقت وآخر هدية،
قد تكون رزمة دولارات، وقد تكون مجموعة فساتين..
ذات يوم لم تكد أن تدير ظهرها إلى الزميلات، أمام
حديقة الكلية، لتنصرف إلى بعض شنها، حتى بادرت إحداهن:
ـ إني أعرف خال نسرين الذي تتحدث عنه. وهو ليس تاجر
مقيماً في ((الشانزليزية)) بباريس، بل .. هو عامل في شركة الأسمنت، ومقره
الدائم منزل.. متواضع في أعلى قاسيون. تطلع الروح قبل أن يصل الإنسان
إليه.
ولا بد من الاعتراف أن نسرين كانت خياطة بارعة في
الأصل. عمتها علمتها أسرار الخياطة جميعاً منذ سنوات. وقد مالت هي إلى ذلك
كثيراً، لولعها الشديد بالثياب الجديدة، ورغبتها المحرقة في أن تكون الأكثر
أناقة، والأبهى منظراً، وحدث كثيراً أن جاءت بثياب قديمة مستعملة، مما
يستورد من أوروبا، فأدخلت عليها تعديلات جعلتها تبدو جديدة كل الجدة.. في
أقصى درجات الأناقة..
وربما كان هذا هو الذي جعل الأمر يلبس على أمها في
بعض الأحيان، ولم يكن ذلك من الشؤون التي يهتم أبوها بمتابعتها.
وماذا كان يكلفها الأمر، في أصعب حالات السؤال؟ كانت
أمها تعرف صديقتها ميسون، وتعرف أن حجمها في حجم نسرين، وتعرف أيضاً أن
اليسر الذي تعيش فيه، يكفل لها أن تتزين وأن تتأنق، ومن بدهيات العلاقة بين
الاثنتين تعاور الثياب والحلي.. بل الأحذية أحياناً.
***
هددها شقيقها الأصغر هشام بالقتل أكثر من مرة. كان
هو الوحيد في الأسرة الذي لا تقدر أن تنظر في عينيه، ولا تقوى أن ترفع
صوتها فوق صوته.
قال لها مرة:
ـ حركاتك هذه التي تقومين بها أمام أبي وأمي.. لا
تنطلي علي أنا.. أني أعرفك جيداً، انتظري يوماً لا تكونين فيه سعيدة على
يدي هاتين.
وقال لها مرة أخرى:
ـ قد أصدق وقد لا أصدق ما أسمع عنك.. ولكني أنتظر أن
أراك. ويا ويلك إن رأيتك.
وقبل أن تتأزم الأمور بينهما، فاجأها يوماً بسؤال:
ـ هل تستطيعين أن تعطيني مبرراً واحداً لفك الخطوبة
مع جمال؟ ما الذي تقدرين أن تقوليه عنه؟ فتى.. لا كالفتيان. جميل تعشقه
أخته. خفيف الظل والروح نتمنى كلنا ألا نفارق. شاع كأقوى الرجال وأكثرهم
شهامة.. ولم يبق سوى بضعة شهور، ويتخرج من الجامعة. أما بقيت سنتين قبل أن
يتقدم لخطبتك تكتبين له القصائد والأشعار.. وترسمين صورته على دفاترك؟..
لماذا، قررت فجأة أن تبتعدي عنه؟.. لمجرد أنه فقير.. أليس كذلك؟
كانت نسرين تعلم جيداً أن أخاها هشام، يمن أن يقتلها
فعلاً، فإن شبن الحي يهابونه جميعاً، وقد ضرب أكثر من واحد منهم بالفعل
ضربات موجعة.. ومن أجل ذلك، فإنها كانت ترتعد من الخوف، حين تتصور ما يمكن
أن يحدث فيما لو رآها.. وقد أفادت هي في الحقيقة من إنذاراته المتتالية.
صارت أكثر حيطة وحذراً. بل أنها أمست لا تتأخر في العودة إلى الدار.. عندما
يهبط الظلام..
ولقد فوجئت في إحدى الأمسيات الأخيرة، فلم تكد تهبط
من الباص، وتخطو بضع خطوات في الطريق، قبل أن تنعطف باتجاه المنزل، حتى
سمعت صوتاً يناديها كانت تعرفه جيداً.
ـ جمال.. ماذا تريد يا جمال؟ ألم ينته كل شيء
بيننا.. فبأي حق تناديني.
مضت سنتان على فسخ الخطوبة، ولكنه رغم ذلك لم يرفع
صورتها من غرفته. وبين ليلة وأخرى، يصغي إلى الشريط الذي سجل عليه صوتها،
ويعود إلى المجموعة التي تضم صورها، وصوره هو معها..
.. ألا أخبريني أيتها الفراشة المجنونة. لماذا غادرت
بستاننا الجميل؟
ما الذي أغراك بأن تتنقلي، فوق الأعشاب النامية على
ضفاف السواقي القذرة؟.
ألم يقل لك أحد أن جناحيك الجميلين سوف يشتعلان بتلك
النار الحارقة؟
يا أيها الطائر الذي غادر سربه.. تعال.. عد إلى
الشجرة التي بنيت فيها عشك.. فإنك لن تعود بعد هذا الضياع. إنه ليس طيراناً
هذا الذي تقوم به، فما هكذا تطير الطيور. هل تذكرين يا نسرين، يوم سألتني
عن معنى اسمك؟
قلت لي: ألست تدرس اللغة العربية؟ إذن، قل لي ما
معنى اسمي؟ ليلتها سهرت مع المعاجم.. وفاجأتك في الصباح، ونحن في الطريق
إلى الجامعة:
الكلمة فارسية الأصل، ومعناها الورد الأبيض أو
الرائحة القوية ومفردها ((نسرينة)) فضحكت، وتقصفت وكان الضحك ذلك الرنين
الذي يشبه ألحان الربيع. قلت: بلى بلى.. ولكني نسيت الحكاية كلها...)).
ـ نسرين .. عودي، وأنا على استعداد لأن أغفر لك وأن
أسامحك.
تنمرت نسرين. كان صوتها حاداً كوتر ينقطع، وهو مشدود
إلى أقصى درجة. وكلماتها أخذت تجرح بعمق، مثلما يفعل منقار حدأة جائعة..
ونهمة.
ـ وماذا فعلت كي تسامحني وتغفر لي. ومن أنت حتى
تخاطبني بهذا اللهجة..
هل نسيت أنني أرسلت لك الخاتم منذ سنين؟.
***
في المستشفى قال هشام:
ـ ليتني قتلتها واسترحت.. أما كان ذلك أفضل من هذه
الفضيحة.
وكانت الأم تبكي، ثم تعود فتضحك، بطريقة أدهشت
الجميع. تبكي حتى تغيم عيناها بالدموع، فتخرج منديلا تمسح به عينيها ثم
تتخبط، وترجع بعد ذلك، فتبتسم ثم يعلو صوت ضحكها، كأن أحداً يروي لها حكاية
هزلية.. وفجأة تتشنج. وتهز رأسها، كأن مساً ألم بها.. ثم تردد:
ـ لا.. لا.. غير معقول.. نسرين لا تموت.. لا يمكن أن
تموت. ولماذا تموت؟ لماذا تموت...
وبدا الأب ذاهلاً، كأنه انحدر من طائرة في طبقات
الجو العليا، وسقط في جيب هوائي.
كان الاثنان قاعدين، الواحد منهما قبالة الآخر، على
المقعدين الطويلين في الطابق السفلي من المستشفى.
وربما كان هشام هو الوحيد الذي بقي قادراً على أن
يتحرك في شيء من الحرية.
لقد عرف منذ البداية أن نسرين مات.. لكنه كان يريد
أن يعرف أين... وكيف. كل ما علمه أن أخته قتلت في حادث تدهور. لقد سمع
بالخبر، حين كان في الحي عند المساء. قال قادمون من الزبداني أنهم شاهدوا
حادث تدهور مروعاً، على جانب الطريق المنحدر نحو التكية. وذكروا أن سيارة
مرسيدس فخمة تحمل رقماً يرجع إلى قطر عربي، كان محطمة، على نحو يوحي بأن
أحداً لم ينج من ركابها.
كانت نسرين مهشمة تماماً، فهي التي كانت وراء عجلة
القيادة. ((وصرت تقودين سيارات المرسيدس أيتها الخنزيرة القذرة)). أما
الرجل، فإنه لم يمت.. كان في غيبوبة. وعندما صحا لبضع لحظات.. استطاع أن
يجيب على بعض الأسئلة، إجابات مبتورة.
((كانت هي تقود السيارة.. وكنت بجانبها. أرادت أن
تتعلم السواقة..)) وعاد إلى غيبوبته.
جلس هشام بجانب أبيه على المقعد الطويل.. وراح يهمس
في أذنه:
ـ أتدري ماذا قال الطبيب الشرعي في تقريره؟ كان
الحقيران مخمرين وقال أيضاً.. أنه لم يمت بعد.. وأرجو من كل قلبي ألا يموت
لان مقتله سيكون بيدي...
لم تسمع الأم هذا الحديث الهامس، وربما كانت عاجزة
عن أن تتبينه، فقد كانت عيناها تتحركان في محجريهما كشقي رحى الطاحون. وبدت
آثار قروح واضحة في جفنيها.. أما الأب فقد ضرب كفاً بكف.. وراح يهز رأسه في
حسرة.
|