صدقة.. حسنة... لوجه الله
كانت الأمهات يقبعْنَ على أكوام الحجارة.. لا بد أن دماراً قوياً لحق بهذه
الديار، فالطبيعة تجلدهم بسياط الزلازل والجفاف والقحط، والإنسان يخنقهم بأحزمة
بالية لا تنقطّع رغم التململ والضجر. لم يُسمح لهؤلاء الأمهات سوى بالتسوّل وهن
يتلفّعْن تماماً بأقماط وأسمال بالية.. يدور حولهن أطفال بوجوه مشدودة متوترة،
وهم يلحون على أمهاتهم: إنهم جائعون إنهم جائعون.. ولم تملك الأمهات سوى الدعاء
والصلاة رحمة يا ربنا!! رحمة بعبادك الصغار الجائعين..!!"
بغتة، رأى الجميع منطاداً أو يشبه المنطاد يهبط من المساء، يحمل نساء ورجال
أشاروا إلى الأطفال أنْ تعالوا تطلع هؤلاء إلى أمهاتهم.. لم ينتظروا كثيراً..
ركضوا نحو الغرباء، شدّت أم ابنها من ثوبه، لكنه تملّص منها.. ركضوا جميعاً نحو
أولئك. كان الغرباء يحملون علباً مختلفة.. وقف الأطفال على مسافة قريبة منهم،
والتفتوا إلى أمهاتهم. كان الجميع في حيرة غامضة شديدة. تقدم الغرباء من
الأطفال.. قدموا لهم خبزاً أبيض، ألواحاً من الشوكولا، علباً من الحليب وعصير
الفاكهة..
كان الغرباء في غاية اللطف والإنسانية، مسحوا على رؤوس الأطفال، فلانت وجوهم،
واستطاع أولئك الغرباء أن ينتزعوا ابتسامات الامتنان والشكر، وعلا البشر وجوه
الأمهات قبل أن يعلو وجوه الأطفال.. اختفت ملامح الشك والخوف سريعاً من النفوس،
وراحت النسوة تدفع بأولادها ثانية نحو الغرباء.. حطّت الهناءة أخيراً في تلك
الديار، وتمتمت الأفواه:
"الحمد لله.. الله لا ينسى عباده.. الله يرزق من يشاء.. كنا ننتظر رحمته..
الفوز للصابرين.. الله لم يهملنا رغم شؤون خلقه الثقيلة.. الله كريم.."
لم تنقطع عطايا الغرباء عن الأطفال، ولم يضجروا مرة من حاجاتهم التي نشطت..
لكنهم في أيام تالية صاروا يختلون بالأطفال مما أثار شكوك الآباء ثم غضبهم، وقد
ظنّوا أنهم يفتعلون بهم السوء.. لكن الأمهات تطمئنهم.. إنهم يعلمونهم أغاني..
فقط أغاني.. ! ثم تتابع النسوة بعد صمت وهي تغمز "ولكنهم يطعمونهم! أنتَ لم
تستطع ذلك ولا سيّدك. لقد كاد أولادنا يموتون من الجوع والقهر.. ليُكثِر الله
من أمثال أولئك الغرباء.. لا غريب إلا الشيطان!".
كان همّ الأمهات أن يبقى الأبناء من أولاد الحياة، وقد رأيْن الموت مراراً يخطف
بعضهم.. بل فكرت إحداهن أمس بالإنجاب ثانية بعد أن أقسمت منذ مدة طويلة، على
أنها لن تدع زوجها يقربها ولو ضربها أو طلّقها.. أو..
في ليلة.. ليلة لن ينساها الجميع.. عاد الأولاد إلى أهلهم يحملون ما لذّ وطاب..
"ولكن ما هذا؟!" قال الأب، وكانت الأم منشغلة بتقليب علب الحليب والبسكويت
والشوكولا.. ركع الطفل على ركبتيه وضم كفيّه تحت ذقته، وراح يصلي غير صلاة أبيه
وهو يتلو عبارات شكر وتمجيد لا تختلف كثيراً عن آيات أبيه التي يتلوها في
صلاته.. غضب الأب ثم قام من ساعته على الغرباء يسائلهم.. أنكروا ثم اعترفوا
بعجرفة.. ولماذا الخوف وقد وقفت وراءهم منظمات قوية راسخة كالجبال..
قديماً كانت الأمهات توصي أبناءها: "لا تأخذوا حلوى من غريب"
لكنّ الحياة قاسية، والأطفال جائعون والأهل حائرون والأسياد يعمهون.. والله لن
يهملهم ولو أنه يمهلهم منذ وقت بعيد..
وأما الإنسان الغني القوي، فلا يضيّع وقته ولا ماله، يعرف كيف يخفي ما في
أكمامه فيأخذ قبل أن يعطي..
ويبقى الفقر جذاباً لبعض البشر المشبوهين وهم يرمون بعطاياهم فوق شريحة ضعيفة
لا حول لها ولا قوة. من يحميها؟
ولكن أليس ثمة حسنة لوجه الله.. لوجه الله؟!!
البيت
حميمية دافئة غطّت وداع النسوة.. انحشر الأطفال بين الأمهات تناوشهم الفرحة
تارة والحزن الرقيق مرة أخرى لفراق الأتراب. مَن أكثرُ من النسوة إبداعاً في
التعبير الحرّ المتدفّق من النفوس في مواقف بعينها، فينثال بعفوية دافئة. طفرت
الدموع، وعلت الصدور ثم هبطت بشهقاتها. هنّأت النسوة أمَّ عمر على عودة بيتها
إليها بعد عذابِ صومٍ ودعوى شائكة امتدت سنوات واستنفدت ما كان يرسله لهم ابنهم
جابر في الغربة. أوصت أمُّ عمر النسوة بزيارة مؤكدة. فالبيت ليس بالبعيد وهو لن
يضيع عن الصديق قاصد العشرة، بعد أن وصفتْه لهنّ طوال هذه السنين فهو معروف
للجميع.. وحده بقي بعد الزلزال.
حملت النسوة الأطفال تقبّلهم بحنان وحب، تقرص جنوبهم بمرح وتضع في جيوبهم الكعك
والكرميلا.. وأما الرجال فقد شدّوا على الأيدي وتعانقت نظراتهم طويلاً، ثم
أخذوا بأحضان بعضهم.
همست امرأة من وراء نافذة وهي تمعن في الأسرة الراحلة "كانوا سبعة عندما جاؤوا
وسكنوا عمارتنا بعد الزلزال وها هو عددهم يربو على العشرين.." وردّت جارتها:
حمداً لله الذي أمسكها فلم تسقط عليهم بجدرانها المتصدعة! هل كان بأيديهم غير
التفريخ! وهم ينتظرون الوعود بعد البروق كسبتم من ورائهم حَسَنةً يا أختي!"
وقطّبت الأولى ما بين حاجبيها وهتفت إلى زوجها ليأتي بعماله..
في حمأة الوداع كانت روزا وبلال على مصطبة الطابق الرابع صامتين معذبين. كانت
يدُ بلال تلامس شعر فتاته، ثم أمسك يدها، وتطلع إلى عينيها المنتفختينْ، قال:
"لن أذهب قبل أن تضحكي، فأرى أسنانك المنفرجة، لا تدعيني أغصّ بفرحتي" وعدها أن
يعود فيتزوجا في الكنيسة أو الجامع أو في المدرسة.. ما همُّه الآن؟! بيتهم عاد
إليهم وستكون له فيه غرفة.. حاول أن يظهر ظرفه الخجل، فأقسم أن يتزوجا على سطح
البيت كما يلتقيان على سطح هذه العمارة المتهالكة، تحيط بهما أصص الورود، ولما
دعاها إلى التبسّم علا بكاؤها.
سمع صوت أخته نائلة تحثّ ابنها على الإسراع وهي تحمل كيساً بجانب بطنها
المتكوّر أمامها، لقيتْها أختها (سمر) على السلّم، فحملت عنها الكيس وهي
مقطّبة. لم تحاول نائلة أن تسألها
متى يرتخي وجهها المشدود، لكنها اليوم متذمرة أكثر كأنّ قبضة تمسك بصدرها قالت
ساخرة: "ألو.. نعم.. كسبتم الدعوى.. تعالوا.. ثم اهتزّ خطّ الهاتف وتقطّع.. هل
يقول لي أحد كيف نعود بعد هاتف مريب عجول. كان الصوت غريباً.. لم يكن المحامي..
قلبي ينذرني يوسوس لي وهو لا يخيب..".
هزت نائلة رأسها وهي تقرّ بأنّ أختها لن تكون إلاّ جاحدة نشازاً كما قال زوجها
محيي الدين الذي يغسل دماغها كما يدّعون. كانت سمر أكثرهم لهفة على العودة إلى
البيت.. ما الذي تريده الآن؟!
لم يمر الوقت طويلاً حتى اهتزت العمارة تحت معاول المقاول في الطابق الأعلى،
هرولت الأقدام على الأدراج، وتمتمت النفوس بغضب صامت. صرخت (سمر): "ألا ينتظرون
دقائق أخرى. لن ينام السيّاح اليوم في العراء إنْ لم تهيّئوا لهم مجمّعاً
لصفقاتهم وسهراتهم" ثم راحت تلعن وتشتم.. فجاءها صوت جاف يرتجف بشتائم بذيئة..
وقف الجيران المودّعون يربكهم الخجل أمام العمارة التي تتقوّض ولما يخرج منها
نزلاؤها.. اعتذر أحدهم من الأب (أبو عمر) وبارك له بعودة بيته الذي أغناه عن
مِنّةٍ مُذلّة. هزّ الرجل رأسه وهو يطمئن على جيبه الضيّق الذي وسع صورة عن
سندٍ لملكية البيت ومفتاحاً صدِئاً.. انتقل إلى الجيب الآخر حيث دفتر العائلة
وهويتُه. أخرج دفتر التموين أعاده إلى رجل بجانبه وهو يقول: "أكثرَ الله من
خيره عليكم.. ما كان في نيّتنا البقاء هذه المدة. ولكنك تعرف الدعاوى في
المحاكم كم تتمطى.."
لاح في عينيه البيتُ فوق ربوته عالياً وسيعاً تحوطه حديقة نضرة بأشجار لا تدعُ
صاحبها يشتهي فاكهة.. تذكّر شجرة الليمون التي زرعها لأم عمر لتقطف منها وهي
تطبخ، ثم تساءل عن ابتسامتها الصافية التي ضاعت في الأيام والفصول والسنين..
خرج الجيران يسيرون مع العائلة، ثم حلفت عليهم أمُّ عمر وزوجها بأن يعودوا
"البيت قريب.. نصله قبل المساء!".
بدتْ نائلة مدلّلة بين أخواتها وهي تمشي ببطنها، تتباهى بمجد تليد، قالت أمها
وهي تحمل رضيعتها.. "لن تلدي إلاّ في بيتنا يُعينُك الله!". وأما سمر فمشت
متذمرة نزقة من هذه العودة المرتبكة. حملت أختها الرضيعة عن أمها.. تلفتت إلى
الوراء، تذكرت تلاميذها الصغار وسلوى رفيقتها.. واقتحم جهاد نفسها فغصّت، كان
جهاد غاضباً وهي تقول له بإباء لا معنى له "تخطبني من بيت أهلي.. من هنالك!"
نهرها قائلاً "تقليدية بائسة!!".
في الطريق بعد أن غابت المدينة. كانت الحقول الممتدة عطشى متشققة قد اصفرت
أطرافها، وخُيّل إلى بعضهم أن جراداً يحوم حولها، زجرهم الأب، لكنّ صدره نخره..
لقد تأخرت الأمطار كثيراً هذا العام.. وكانت قليلة العام قبله.. ورجا الله دون
أن يرفع رأسه بألاّ ينساهم. تذكّر ابنه
جابر في الغربة.. سمع أنفاسه اللاهثة تتقطع وهو يلتقط سَقَطَ الرزق. أموالُه لم
تذهب سُدى، وأتعاب المحامي الباهظة أثمرت. سيرفع له أجمل طابق بهيّاً قويّاً
يفرح به متى جاء هذا الصيف. سيقيم له عرساً أمام البيت سيدلق بعض الإسمنت فوق
الفسحة الوسيعة ويزرع أطرافها وروداً وتشعشع الأنوار وتستحي صالة أكبر فندق.
سيدعو الجيران كلهم مع الطبل والمزمار الذي يحبُّه.. سيرقص حتى الصباح. إنه
الابن البارّ الذي تتمناه كل عائلة..
جرّت السيارة نفسها لكنها سرعان ما اعترفت بعجزها، فتوقفت أمام أكشاك الباعة،
نزل ركابها.. اشترى الصغار (الكولا والشيبس). عرض بائع يانصيب أوراقه على (أبو
عمر) فضحك حتى دمعت عيناه، ثم بكى قلبُه فجأة.. أنبّه بل زجره، وعاد يشتري مع
صهره نصف ورقة مناصفة.
كان النهار في أوله. لكنّ الغبش غطّاه.. ناشده أبو عمر بحرارة المؤمنين ألا
ينقضي حتى يرى بيته الذي لاح.. نظر وراءه.. كانت الطريق طويلة ملتفّة حول
نهارات رمادية ماضية.. رأى أكتاف العائلة مثقلة تكاد تتهدل بأمنياتها وأحلامها
المرتعشة.. يحملون أجسادهم المتهتكة من الفقر والغربة.
عند المنعطف أجفل الأب مع أسرته، وقد نبق أمامهم فجأة ابنه مصطفى متصدعاً
مدحوراً.. صاح.. "خيانة.. خيانة.." ارتجفت أرجل الرجال قبل قلوب النساء، تراكم
الجميع حول مصطفى وقد غزاها الهلع. قال بصوت متقطع: "لقد لعب المحامي بنا،
وانقلب علينا. ولوى تحت إبطه أخانا وابن عمّنا.."
صرخت أم عمر: "لا يفعلها أمجد! عمار!".
ربط الذعر ألسنة من حولها.. ارتخى جسمُ زوجها.. هوى على الأرض.. ركضت إليه سمر
وأسندتْه على صدرها.. صرخت بأخيها حسين أن يشتري زجاجة ماء.. علا الغبار حولهم
بعد أن مرّت بقربهم سيارة كاديلاك مائسة.. توقفت بعد أن تجاوزتْهم ثم عادت
القهقرى إليهم.. عرض عليهم سائقها وهو يلوك اللبان أن يحملهم إلى مستشفى، رفع
الأب رافضاً.. "إنها دوخة بسيطة" ثم أضاف بجفاء "امضِ في سبيلك.." فتعالى
الغبار أكثر، وامتلأت بها الحلوق حتى جفّت.
استعاد أبو عمر وعيه.. صرخ صهرُ العائلة الأوسط أبو اليقظان واتهم مصطفى
بالهلوسة.. تهدّج صوت الفتى وهو يقول: "في بيتنا أسرة غريبة تدّعي أنّ بيتَها
انطمر حين اهتزت الأرض ومادت، وتزعم أنّ عمّنا (أبا عبد الله) الله يرحمه كتب
معها عقد إيجار واستئجار، بعد أن ضبطها متسلّلة إلى البيت في ليلة مظلمة مريبة
"صرخ أبو عمر.. "لا تصدقوا شيئاً". لم يكن الزلزال إلاّ وهماً لنخرج بسرعة من
بيوتنا.. الآن بدأتُ أفهم احذروا.. البارحة زلزال، وفي الغد حريق أو طوفان..
وحده الله يعلم ماذا سيزعمون ويرسمون.. لا تصدقوهم بعد الآن".
تابع مصطفى: "..أما المحامي فقد ادّعى أن القضاة ابتلعوا رشوة كبيرة فغصّوا عن
الحق. لكنه انتزع منهم قراراً بحقنا في أرضٍ نبني عليها بيتاً.."
صرخ أحدهم "أشمُّ رائحة رشوة في فم المحامي، وأرى فضلات رشوة في عيون
الآخرين.." تمتمت أم عمر: "ولكن ألا يعرف الحق إلا القاضي.. ثم استدارت نحو
زوجها قائلة: "أبو عمر!! أخرجْ سند الملكية.. ملكية بيتنا.."
صرخت العائلة بالويل للخائنين جميعاً، وتوعدت المحامي وغيره. قال بلال بهدوء:
"ولكن ماذا عن العائلة الدخيلة التي سكنت بيتنا؟! ورأى (روزا) على السطح دامعة
معذبة..
سار إلى (سمر) حيث أقْعتْ على الطريق ساهمة وفي نفسها غضب يدفعها إلى ضرب أبناء
عمّها وأمجد والمحامي وهذا الزمن العاطل.. تطلعت بعيداً، مسحت عينيها.. كان
البيت يلوح تارة ثم يختفي.. وعاد يلوح ثانية.. همست لنفسها "كيف تدخل عائلة
غريبة على بيتنا.. هل يتوه الحق؟!"
علا صوت حسين ثم صرخ فجأة وعزم على السير نحو البيت ولو اعترض ألف شرطي وقاضٍ،
وتوعّد كلّ من يقف في طريقه. قفزت (سمر) تقف بجانبه ولحق بها بلال وفي عينيه (روزا).
وأما الصهر محيي الدين فنظر إليهم ملياً، تنحنح ثم بسمل وهو يسوي عباءته
السوداء. وأقسم بألاّ ينام اليوم إلاّ في البيت.. صرخ في سمر وأمرها بالستر
والحجاب والانتظار مع أمها وأخواتها.. أضاف "في العائلة ما يكفي من الرجال
لندخل البيت"..
سارت سمر مع أخويها قبل أن ينهي صهرها كلامه. وما لبثت أن عادت بعد أن سمعت
صراخ أختها فزعة.. إنها ساعة الولادة تلفت الجميع وهم على الطريق، أشار أصحاب
الأكشاك إلى كهف بعيد ما كان إلاّ مخزناً لأحد الباعة يخفي فيه بضاعته عن عيون
الشرطة الشرهة. كانت الأشواك تُعرّش قرب مدخله وتحرسه شباك العناكب..
مشت النسوةُ مع الولاّدة بصمت حزين.. قال أبو عمر: "ما عادت النسوةُ ترغب في
الأطفال. في الماضي كانت المرأة تضحك وهي تلد.. هل تصدقين؟ انظري الآن.."
ربتت سمر كتفه مشفقة عليه ودعته إلى الهدوء والراحة قائلة: ".. أمي على حق..
انظر إلى نائلة أين تلد الآن. وتذكّرْ أين ولد إخوتي هؤلاء!!" ثم قامت إلى
الصغار تُعنى بهم حائرة قلقة وهي تهمس: "ما كان لنائلة أنْ تلد الآن.. ما
الأمر؟"
جاء أحدهم يعرض ما وصل إليه المحامي والقضاة، فتعالى الغضب والوعيد.. رفع الأب
يده وهو يقول لسمر: "اذهبي إليهم.. لا تدعيهم يرضوا إلاّ بالبيت! قاطعوا البناء
في أماكن أخرى.. لنا بيتُنا.." ثم بكى حين تذكّر ابنه (جابر) في الغربة. هل
يجلد ظهره ثانية ليرسل الماء إلى المحامي ثم إلى القضاة.
صرخ أحدهم بجسارة وتحدٍّ، وتوعّد بانتزاع حقهم والسلاح وراء القضاة إنْ لزم
الأمر..
تطلّع أبو عمر يناشد النهار ثانية بألاّ ينقضي كي يرى أبناؤه الطريق التي تتسّع
وتلتف حول الزمان. كانت المفارق كثيرة وكان الطنين عالياً. ثم دعا بريح تطرد
الغبش عن الوجوه..
دارت المناقشات وعلتِ الأصواتُ حتى جفّت الحلوق.. نادوا على صاحب المخزن ليقدم
لهم قهوة وصرخ أحدهم بل شاياً. بل قهوة بل كوكا كولا.. بل.. وجاء الصبي يحمل
أقداح القهوة والشاي والكولا.
ثم عاد بها ملأ ثانية وثالثة ورابعة، تكاد أذناه تخوناه من طلباتهم.. وما لبث
أن أهملها.. جلس وهو يفرك أذن المذيع فَعَلَتْ أغنية قلقة رقص الغبارُ عليها
دون أن تهدأ القلوب ولكنها أنهضت الأولاد فراحوا يرقصون، وانهال عليهم الكبارُ
بالضرب ركضت سمر تدفع عنهم غضب الكبار ثم تحدّتْهم.. "اذهبوا وأفرغوا غضبكم
هناك..". ذهب أحدهم ليغلي الشاي بعد أن استدار عنهم الصبي.
جاء من يحمل نبأ مقتل حسين ومحيي الدين فتكسّرت الكؤوس بعد القلوب، وأصيب أبو
عمر بالوهن من جديد، وصار يردد: "لم يكن زلزالاً.. لا تصدقوهم بعد الآن..!"
نزلت قطرات مطر سائبة تائهة.. فالتجأوا جميعاً إلى مغارة قريبة، وقد ظنوا أن
الأمطار قادمة.. جاء من يبلغهم أن القضاة هنالك يتبادلون قصاصات الأوراق في
أروقة قصر العدل أو من تحت الطاولات، ويقسم أنه رآهم اليوم يتبادلون الأوراق من
فوق الطاولات دون خجل على مرأى من الناس، بل هو أكد لهم أن الطاولة المستديرة
التي كان يجلس عليها قضاة كثيرون، باتت مربعة الأضلاع ثم كسر أو نزع أحد
أضلاعها، لتنتهي إلى طاولة يجلس عليها اثنان من القضاة. كان أحدهما يصرخ في
الآخر بوحشية وهو يهدده، وقام الآخر أمامه متردداً جباناً.
وبدت سمر مع فتية وأطفال تقطع حقلاً من الشوك نحو البيت بعيداً عن الطريق العام
متجهة نحو الأفق الذي بدأ يسدل أستار الغبش!!
|