الرجل الذي رفسة البغل
الرجل ممدد قريباً من رصيف الساحة.. هي ليست ساحة-
نصف. إذ أن النصف الآخر يحتله درج حجري يؤدي إلى محطة القطار. مع ذلك
أطلقوا عليها اسم ساحة الحجاز. ماذا كان بإمكانهم تسميتها إذن. نصف ساحة
الحجاز ؟!.. لم ترد مثل هذه التسمية في التسميات, ولهذا كان الرجل ممدداً
قريباً من: لا رصيف الساحة, بل ذاك الرصيف القاطع بين اتجاهين للسيارات.
بالأحرى اتجاهات.. سبعة: اتجاهان ذهاب وإياب من جسر فكتوريا.. اتجاه إلى
الحلبوني يؤدي إلى محافظة القنيطرة. أقصد مبنى المحافظة, فالجامعة..
اتجاه إلى محطة الشحن في محطة القطار, ومرآب وزارة
الزراعة. ثم اتجاه نازل لا اسم لشارعه, من الجانب الشرقي للمحطة. اتجاهان
ذهاب وإياب في شارع النصر... إذن سبعة. وعلى هذا يمكن تصور أية كثافة
سيريّة, واختناقات مرورية سيّاريّة, كانت ستحدث, لولا تواجد أربعة رجال
شرطة, يلوحون بأيديهم وعصيهم, كقادة أوركيسترا, وينفخون بصفاراتهم كحكام
مباريات كرة قدم, رغم وجود أربع أو خمس إشارات ضوئية, تعمل, بألوانها
الحمراء والبرتقالي والخضراء, منتظمة, فيما عدا ساعات انقطاع الكهرباء, بين
الحادية عشرة والثالثة. وعليه, أستطيع أن أحدد ساعة وقوع الحادثة التي أدّت
إلى تمدد الرجل قريباً من الرصيف القاطع, ملوِّثاً, لا بدم رأسه, بل بيده
الملوثة بالدم, حجر الرصيف, ما دمنا في الضحى, والإشارات المرورية كانت ما
تزال تعمل. أذكر هذا جيداً, فالساعة كانت بين العاشرة والحادية عشرة, لقد
كنت شاهد عيان, لا على الحادثة, لأنها فاتتني, بل على تمدد الرجل نازفاً
على الرصيف القاطع. هذا غير مهم, إذ استطعت أن ألتقط الحوار التالي بين
رجل كهل مبتعد, كان من الواضح أنه لا يريد متابعة الحدث على الطبيعة, وبين
شاب كان يركض باتجاه المكان.. سأل الشاب بطريقة محرضة: (ما الذي حدث؟)..
لوح الكهل بيد معروقة, أخرجها لتوه من جيب بنطالة: "لا أدري.. يقولون أن
بغلاً رفس أحد المارة!"...
ـ بغل؟ بغل ؟!... هتف الشاب, فرد الرجل: "لست
متأكداً إن كان بغلاً أو بغلة! الأرجح بغل!.. فوسع الشاب خطواتة صاعداً من
أمام سينما العباسية إلى مركز الحدث, تاركاً الكهل يعمق قناعاته أن جيل هذه
الأيام يهتم بأتفه النقاط في الأمور الهامة.
وسواء كان الرافس بغلاً أو بغلة, أو أي كائن آخر,
فإن حقيقة أن الرجل كان ممدداً, نازفاً على الأرض, ملوِّثاً الرصيف, الذي
طلته شبيبة الثورة بالأبيض والأسود قبل أسبوع, بدمه, كان حقيقة عيانيّة
أمامي, لا مجال للريب فيها.. حقيقة.
طبعاً لا مجال للريب, حتى لو سُئلت أنا, لأجبت بهذا
الشكل التقريري المؤكِّد: (بغل رفس رجلاً). ولكي تصبح الجملة مركبة على
النهج المدرسي, فسأجيب: (رفس البغل رجلاً) .. على عكس ما حدث في الحادث
القريب زمناً ومكاناً من حادثنا هذا.. تذكرون.. حدث انفجار في مطعم بشارع
النصر. تحديداً في بناية دنكز. لا أريد أن أستطرد وأشرح لكم من هو دنكز
هذا. فقط أريد إثبات واقعة أني كنت شاهداً غير مباشر لأحداثها.. دائماً-
ربما لأني رجل قانون. محام- أصل متأخراً بضع لحظات عن ساعة الصفر.. وقتها
كنت قد تركت مقر الثانوية الشرعية للإناث (حيث دخلتها لأمر قانوني),
وابتعدت مجتازاً الشارع الفاصل بين محافظة دمشق (الريف) ووزارة السياحة. ثم
الحواجز الأمنية لمدخل وزارة الداخلية حتى مكتبة النوري.. لحظة ذاك حدث
انفجار هائل. ولحظة ذاك أيضاً تذكرت أني نسيت سلسلة مفاتيحي على منضدة مدير
الثانوية. فاستدرت عائداً. والعجيب أن عشرات الناس استداروا مثلي باتجاه
الدويّ. ولا أكتمكم. عندنا عادة فضولية. مواطننا يحب أن يكون في قلب الحدث,
لا لشيء, إلا ليرجع إلى حارته, أو بيته, ويروي ما لن ترويه الصحف.. أنا
رجعت من أجل المفاتيح. وكان لا بد أن أسأل: ما الذي حدث؟.. الجواب, حتى
قريباً من المطعم: "لا نعرف.. يقولون اسطوانة غاز انفجرت... وبعض المسؤولين
(من سأل يسأل) كانو يجيبون: "لا نعرف" وحسب.
وباعتباري, كما تفضلتم وقرأتم, رجل قانون, أقول إن
مواطننا اعتاد التشكيك في أمر انفجار اسطوانات الغاز بصورة غريزية, بلْه
الانفجارات عامة, حتى لو كان انفجار بالون أطفال.. ميل إلى التضخيم..
لماذا؟.. ليس عندي جواب.. في حين أن رفسة البغل, التي مدّدت الرجل نازفاً,
قريباً من الرصيف القاطع, كانت دون تشكيك.
تصوروا معي الاختناق الذي حدث هناك.. أحد الشيوخ قال
عنه إنه يوم الحشر.. السيارات تملأ خمسة مداخل, بهياكلها وهدير محركاتها,
ونفيرها المصم للآذان. وفوق هذا, بضع ألوف.. ولا أقول ألوف، من المارة
والوفدين ... رجل قانون مثلي, يجب أن يكون موضوعياً ودقيقاً في مثل هذه
المسائل... لم يكن همهم مشاهدة الرجل المبطوح على الأرض, فأغلبهم لم يكن قد
عرف بالحادث, إنما جذبهم الازدحام الطارئ, وفكرة أن شيئاً طريفاً يستحق
المشاهدة.. ويا من تستمعون الآن (أو تقرؤون) قصتي: شهود الحوادث كثيرون,
وحين المحكمة لا يأتي شاهد واحد.. ماذا تسمون هذا؟ عدم ثقة؟ استهتار؟.. أنا
أسميه خوفاً. ويا سادتي, يا من أروي لكم هذه الواقعة, وقد كنت شاهد عيان
فيها, كما تفضلتم واستمعتم لي, أو قرأتم حتى الآن, وقد أقنعتكم أن ما أرويه
هو حقيقة موضوعية ثابتة, أقول لكم, بصدق, إن المشكلة لم تكن تكمن في الرجل
الممدد النازف على قارعة الرصيف (لاحظوا التعبير الجديد: قارعة الرصيف),
ولا في سبب تمدده ونزفه, ولا في الاختناق المروري الذي حدث في نصف ساحة
الحجاز.. المشكلة كانت ببساطة كما يلي؛ رجاء لمنضد الأحرف، وضع الجملة
بالبنط العريض:
كيف وصل البغل إلى نصف ساحة الحجاز؟
والسؤال ليس سهلاً.. ليس مثل سؤال: كيف وصل الثعلب
إلى عنقود العنب. وليس مثل: كيف وصلت الحالة إلى ما وصلة إليه.. ولا أجوبة,
لأن الأجوبة الصحيحة تحتاج إلى جرأة.. لكن في حادثتنا هذه يمكن وضع
احتمالات.. أو فرضيّات.. سيّان.. قبل هذا سأجيب عن تساؤل راود ذهنكم, لاشك,
هو: لماذا لم ينقل المصاب مسعفاً إلى مشفى؟.. يوضع في أية سيارة عابرة
فتمضي زاعقة به؟... ذلك لأن وصول سيارة إسعاف سريع من المشفى صار أمراً
مستحيلاً بعد أن سُدَّت الدروب بسيل السيارات. ولا شك أن الجواب خامركم
أيضاً, فالرجل, ببساطة, كان قد مات ملوِّثاً, قبل موته, الرصيف القاطع
بدمه.. وفي هذه الحالة, تعلمون, يغطى المغدور بأي غطاء متوفر, وفي حالتنا
هذه, الجريدة اليومية هي الأقرب إلى منطق الأمور.. وقد غطي فعلاً بالأجزاء
الثلاثة لجريدة يوميّة لها عنوان أزرق. إلا أن الفضول دفع أحد المارة إلى
سحب الغطاء قليلاً عن وجه الرجل, بحيث استقر طرف الجريدة تحت أنفه, وغدا
كما لو كان المغدور يقرأ بعينين نصف مفتوحين. ومن سخريات القدر, أن تحت هذا
الأنف كانت تقع زاوية مؤطرة في أعلى الصفحة الأخيرة من الجريدة إياها- أقول
هذا, وقد عاينت الأمر من بعد ربع متر فقط- وأن الزاوية كانت ساخرة, لكاتب
صحفي من معارفي, يسمي نفسه وليد معماري ... ولحظتها قررت شراء عدد من
الجريدة, بعد المعمعة, ذلك لأن عنوان الزاوية المذكورة كان على الشكل
التالي: الثمن البخس للمواطن النحس.
كيف تسلل البغل إلى الساحة؟.. أقول: ما من أحد بين
جمهور المحتشدين استطاع أن يعطي جواباً جامعاً مانعاً.. وأقرب الأمور إلى
المنطق أن البغل جاء إلى سوق الهال القديم مُحملاً بالبقدونس والنعناع
والبقلة والكزبرة.. وكثيراً ما يحدث أن الفلاحين أصحاب أراضي الغوطة التي
صمدت في وجه الزحف الإسمنتي, والمتواجدة في المدينة كواحات وسط صحراء
شاسعة, يجيئون على دوابهم إلى سوق الهال لبيع ما ينتجونه, مُفرَّقاً.
حاجبين بذلك عن الوسطاء هامشاً كبيراً من الربح.. وطبيعي أن الرجل ربط
بغله, أو بغلته, في مكان ما, بعيداً عن بسطته الخضراء, كي لا يزعج زبائنه,
ولا يتعرض لمضايقات الشرطة.. وبطريقة, أو بأخرى, انفلت الحيوان من رباطه,
ومضى يستطلع معالم الحضارة في مدينتنا العامرة.. وبهذا لابد أن يكون قد
اجتاز معبر المشاة من نهاية جسر الثورة, أو تسلل تحت الجسر, وهذا يفرض
افتراضاً جديداً, أنه لابد مرّ من السوق العتيق, وزكمت أنفه ذبائح اللحم,
وزنخة السمك, فاضطر إلى المتابعة نحو ساحة المرجة. والاحتمال الأكبر أنه
مرّ من أمام وزارة الداخلية. بالتحديد: أمام المدخل الذي تلج منه سيارة
الوزير, ذلك لأن الشارع الخلفي للوزارة مصان بحاجز معدني متحرك.. ومنه وصل
إلى امتداد شارع 29 أيار, فساحة الحجاز.
طبيعي أن هناك احتمالاً آخر. أن يكون قد عبر من شارع
رامي صاعداً إلى شارع النصر, وفي هذه الحالة, إذا ثبتت, هناك احتمال أن
يكون البغل قد جاء من المرآب العام (البارك).. أما سبب تواجد بغل في
(البارك) فهذه مسألة أخرى..
قلت أن للنصف الساحة التي جرت فيها حادثة الرجل
والبغل سبعة مداخل, وطبيعي أني لم أعدد, وأفند احتمالات أن يكون البغل قد
جاء من أحدها, وعلى سبيل المثال, لا يعقل أن البغل جاء من الجامعة, ولا من
شارع بيروت, ولا من سوق الحمدية, أو الحريقة, أو من شارع خالد بن الوليد,
مع أن كل هذه الاحتمالات ممكنة, إذا افترضنا أن مالك البغل يعاني من صعوبة
المواصلات الداخلية, فقرر استخدام هذه الوسيلة, لا كحل فردي, بل كاحتجاج
ملفت للنظر.
ويحدث, أيها السادة, أن سيارة عابرة تدهس رجلاً,
ويهرب السائق بسيارته من مكان الحادث كي لا يُوقفَ على ذمة التحقيق, لأن
ابتعاده يتيح له فرصة أن يظل طليقاً بشكل رسمي, تحت قوة الكفالة المالية,
حسب القانون, وفي هذه الحالة, بالطبع يمكن معرفة السيارة الداعسة من رقم
لوحتها, ونادراً ما يفلت الداهسون من فطنة أحد المارة, بالتقاط الرقم..
وعليه, أقولُ، متابعاً ملابسات حكايتي, إن البغل لم يعثر له على أثر غبَّ
الحادثة, وهذا ما يتيح لي أن أطرح قضية هامة فاتت المسؤولين, ملخصها: أن
توضع للبغال لوحات أمامية وخلفية, عليها رقم متسلسل, يعرف كل بغل به, وليس
من الضروري أن تتولى مديرية النقل هذه المهمة, إذ يمكن أن تناط الأمور
بوزارة الزراعة, أو مديريات البيطرة في المحافظات.
أما لماذا بقي الرجل المغدور ممدداً وسط الشارع,
فذلك لأن أمر نقلة يتطلب حضور النائب العام, والطبيب الشرعي, وجوقة كاتبي
الضبوط, ليقرروا موت الرجل أولاً, ثم ليحدّدوا مسؤولية الجاني, والجاني هنا
بغل, ليس إلا, لم تعرف هويته, ولا عرف صاحبه. بعد ذاك, لا بد من نقل الجثة
إلى المشرحة, لمعرفة صاحبها, وتحديد أسباب الوفاة, وهي هنا كسر في عظم
الجمجمة, نتج عنه جرح رضي مع نزف شديد أدى إلى الوفاة.. وهذا في عرف
المحاكم غير مقبول, إذ لابد أن يثبت بما لا يقبل الشك أن الوفاة كانت من
الرفسة حتماً, وأن الرجل لم يمت بالسكتة القلبية قبل لحظة واحدة من رفسة
البغل..
اقتربت مني امرأة, لا أقول فائقة الجمال, إنما
جميلة, مع أناقة في الملبس دون بذخ, وإن كانت رؤية الموت الممدد على الرصيف
القاطع، أفسد براءة نظراتها.. أمسكت ذراعي وشدته- وفي مثل هذه المواقف تغدو
الحركة طبيعية للغاية- سألت:
-يا أخي ماذا حدث. قوّسوه؟!!..
-لا يا أختي.. رفسه بغل..
شهقت: بغل؟!!..
وبعد أن استوعبت جوابي المفاجئ الغريب, بين مصدقة
ومكذبة, سألت: من أين جاء البغل؟
أجبت: قِلّة بغال في البلد؟؟!!..
هزت رأسها: معك حق..
وكان في جوابها اقتناع لا يصدق.
طوال عمري- أقصد الجزء الواعي من عمري- كنت أتعجب من
أين يأتي بعض الأشخاص بأفكار جديدة مبهرة, لا تخطر في ذهن عادي.. وأضرب
مثلاً في إحدى المحاضرات..
كانت المحاضرة لأستاذ جامعي مرموق في كلية الاقتصاد,
وكان عنوانها (النفط العربي كسلاح في المعركة مع العدو).. تصوروا هذا
العنوان الجاد, مضافاً إلى جدية الأستاذ الجامعي.. ربطة عنق تحت بذلة كحلية
أنيقة, وداخل الربطة عنق المحاضر التي بدت كعنق نعامة, وجوزة حلقة التي
مافتئت, خلال ساعة من الزمن, تصعد وتهبط مثل طابة بينغ بونغ متوازنة على
فوهة نافورة مياه. في حين زجاجتا نظارته تتركزان على أوراقه المكتوبة,
وعيناه على الجمهور, وكان ما يفتأ بين الفينة والأخرى يمد أصابعه مابين
ياقته المنشّاة, ورقبته الطرية, في حركة تنم عن عصاب طبْيعي. وقد لاحظت أن
حركته تلك لا تأتي إلا عند نقطتين: عندما يريد أن يُدلّل على فقرة أو جملة
هامة في المحاضرة, أو عندما يريد أن ينبه الجمهور إلى انتهاء مقطع في حديثه
المدعم بالأرقام والتواريخ.. وأما الجمهور فكان صامتاً صمت المصلين في
موعظة الأحد, يحاول الواحد منهم أن يقلل من رفّة أهدابه كي لا يظن أنه غير
فاهم مستوعب لما يقال, أو غير مهتم, أو غير مثقف.. وطبيعي أن مدير المركز
الثقافي, صاحب الدعوة, كان عليه أن يُظهر اهتماماً واستيعاباً يفوقان
الجميع, ولهذا احتل مقعده في الصفوف الأمامية, بعد أن قدَّم المُحاضر, وعاد
فجلس لاوياً رقبته إلى جهة اليسار.. اليسار.. أنا متأكد... وأبقاها على هذه
الحالة التي أصبحت مريحة له, بعد أن تخدرت عضلات رقبته.. وحين أنهى المحاضر
محاضرته, فتح باب المناقشة, والمناقشة لم تتعدَّ بعض الاستفسارات عن أرقام
وردت هنا وهناك, وبعض طلبات إعادة بعض المعلومات.. حتى ليظن المرء أن
المحاضرة استوعبت بمجملها دونما اعتراض, كأنما هي زيت صبَّ في دورق شفاف..
وكان من الممكن لهذا الجو أن يستمر إلى ما لانهاية, لولا أن أحد الحضور
وقف، وهو شاب كان يرتدي قميصاً صيفيّاً, غير آبه بطقس كانون القارص, تلمع
في عينيه نظرات متوفزة.. كان حديثه على النحو التالي: نرجو من السيد
المحاضر أن يبين لنا علاقة النفط بظهور الخيار الأحمر في أسواقنا!!..
هنا انفجرت القاعة, لا بالضحك, كما تتوقعون, ولكن
بسكون رهيب. نعم. انفجرت بسكون رهيب.. لا تظنوا أن ثمة خطأ في التعبير, لأن
السكون مثل الصخب, يمكن أن ينفجر.. وعندي مثال فيزيائي للتوضيح: قنينة
زجاجية ستنفجر في حالتين: إذا عُبئت بالبارود, وأُشعل لها فتيل, أو عُبئت
بماء زلال, وتركت ليجلّد الماء فيها.. المثال صار واضحاً لكم..
بعد انفجار السكون هذا الذي امتد إلى دقائق، ظنها
الحضور ساعات, حمي وطيس المناقشة, وامتد من الخيار إلى احتكارات السوق. إلى
منع الخيار الساحلي الرخيص من الوصول إلى الأسواق الداخلية, من أجل تصريف
الخيار الأحمر المستنبت تحت البيوت البلاستيكية. ثم طُرحت جملة من المشاكل
حول السكن والزيت, ومعامل الورق والسكر, وزراعة الشوندر, والمواصلات
الداخلية, ومواسم التبغ, وخراب بيوت المزارعين, وامتيازات المسؤولين,
وتشفيط السيارات, والتهاون في مكافحة التهريب, وعمليات التهريب الكبيرة,
المغطاة بقوة النفوذ, والسوق السوداء, والقطط السمان, وعمولات المشاريع
الفاشلة, وانقطاع الكهرباء, والتصحر, وأملاك الدولة المؤجرة إلى الأقرباء
بعقود صورية وبدلات شكلية, وشُح المياه, والمخالفات السكنية, ومصروفات
الفخفخة, ومهرجانات الرياضة, وفقدان الأدوية الضرورية, وفساد الأسمدة
وغيرها من المواضيع/ التي لا تعد ولا تحصى. وقد حمي وطيس النقاش, بحيث أن
أحداً لم ينتبه إلى المحاضر حين جمع أوراقه, وغادر القاعة متخفياً ببذلته
الكحلية المعتمة.
اعذروني لهذا الاستطراد الطويل, فأنا- يقول عني أحد
أصدقائي القضاة, وله إلمام واسع بعلم النفس- استطراداتي في المحكمة,
وإطالاتي الدفاعية, ناتجة عن كبت مُورِسَ عليَّ في طفولتي, وما يزال يمارس
من قبل زوجتي, طويلة اللسان, وآخرين..
كنت أحكي قبل الاستطراد, وقد نسيتم الموضوع حتماً,
عن أولئك الذين أتعجب من أفكارهم الجديدة المبهرة, وأُضيف: المفاجئة, التي
لا تخطر على ذهن عادي.. ففي معمعة حادث الرجل الذي رفسة البغل, سأل أحد
الحضور, وكان واضحاً من ميلان كتفه الأيمن أنه طبيب أسنان, سأل بشكل لا
يترك مجالاً لإجابة: ولماذا لا نقول إن الرجل الممدّد هو صاحب البغل, وقد
لحقه لكي يمسك به, وحين توصل إلى إمساك الذيل, تعرض لرفسة- هي رد فعل طبيعي
من البغل- الذي تنفس لأول مرة طعم حرية التجوال في مدينة لا تنص قوانينها
على منع تجوال البغال؟.. أي ذكاء!!!..
شيء خطير أيها السادة.. أن تطرح سؤالاً, وتصادر كل
الإجابات عليه, إنها الدكتاتورية بعينها. وأذكركم: في داخل كل منا نابليون
صغير, لا يحتاج إلا لعشرة مصفقين كي يضع يده على معدته, ويلتهمُ العالم.
استنفرت قوات كبيرة من رجال المرور, ثم استعين برجال
الإطفاء, وبرجال آخرين ليس لديهم بزات رسمية.. ليس بدافع القبض على البغل,
إنما لحل أزمة الازدحام الحاصلة في النصف الساحة المسماة بالحجاز.. وطبيعي
أن السيارات الناقلة لهؤلاء ما كان بوسعها التقدم خطوة واحدة إلى الأمام,
ولذا كان أفرادها يترجلون بعيداً, ثم يتقدمون بخطوات سريعة, ولكن رسمية.
وكان ثمة ضابط يحمل مكبراً للصوت, يضعه أمام فمه, يكرر نداءات إلى الجمهور
كي يبتعد.. وكانت العبارات تبدأ بكلمة: نرجو.. ثم وجد أن الكلمة غير
مناسبة, أو لم تعد مناسبة, فراح يصرخ بشتائم, لا أجد ضرورة فنية لذكرها..
في حين بدأ أحد المساعدين, وبعض مرؤوسيه, يضربون المتجمهرين بعصيّ من
خيزران.. ضربات عشوائية حقيقية, لم يفسد قوتها وفعاليتها سوى نسبتها
القليلة, إذا ما قيست بعدد النظارة.. وهنا لابدَّ من القول إن الجمهور لم
يكن بهذه البلادة التي تتصورونها- بلادة الذباب على كومة من قشور البطيخ-
لكن الحقيقة أن مغادري الساحة كانوا متساوين مع الداخلين الجدد..
لم تعد الأزمة أزمة سير في منطقة حساسة من المدينة.
ذلك أنها امتدت بسرعة غير متوقعة إلى جميع أطراف المدينة, وإليكم شهادة
شاهد عيان من ساحة باب توما, روى لي وقائع مارآه.. مرّت جميع الباصات من
نقطة انطلاقها في الساحة, ومضت, ولم تعد.. وعليه فإن أعداداً كبيرة من
الناس وقفت تنتظر, في حين توقف عدد كبير أبضاً يتساءل عن سبب وقوف العدد
الأول, وينتظر الإجابة, دونما جواب.. بل امتدت الأزمة أكثر من ذلك.. إلى
الضواحي والبلدان القريبة, وعلى سبيل المثال, لا الحصر, أحد سائقي
الميكرويات العاملة على خط القطيفة, جاء إلى دائرة الأحوال الشخصية لأمر
شخصي, فحوصر في ساحة الحجاز داخل أحد السرفيسات, ولأن الأنظمة, وعلى
الأغلب, الأعراف, تقضي أن لا يتجاوز سائق دورَ زميله, وكان الدور عند الرجل
المحاصر, فقد توقفت السرفيسات من وإلى القطيفة, وتكررت أزمة باب توما
ثانيةً.. وقيل إن الأزمة امتدت إلى أبعد من ذلك بما لا يتصوره خيال روائي
خصب.. فقد تصادف- على سبيل المثال أيضاً- أن أحد المواطنين الحلبيين كان
يهتف لذويه من مبنى الهاتف الآلي, وحين سألهُ المهتوف له عن سبب الضجيج
الذي حوله, روى, على الهاتف, حادثة الرجل الذي رفسهُ البغل, وعن طريق الخطأ
في الفهم, انتشر الخبر من عامل التنصت في حلب- وهذه عادة ذميمة من عادات
العالم الثالث- وكان الخبر المبثوث على الشكل التالي: أن بغلاً رفس مواطناً
حلبياً في الشام.. بعدها, تشابكت خطوط الهاتف من حلب إلى العاصمة, وتزاحم
الناس على مكاتب السفريات, كما يحدث أيام العيد, الكل يريد السفر للاطمئنان
على قريب له. وسيذكر الحلبيون ذلك اليوم, حيث تضاعفت أجور النقل ثلاث مرات,
دون قرار مسبق من مجلس المحافظة, أو مكتبه التنفيذي.
وقيل إن طائرة عائدة لشركة الطيران العربية السورية,
تأخر إقلاعها إلى روما لأسباب تمت بصلة إلى حادث البغل, حيث علقت السيارة
الناقلة للركب الطائر في زحمة السير، على بعد نصف كيلو متر من مركز حدوث
الحادثة... وإن كان الخبر لم يتأكد لي بشكل دقيق, أضف إلى هذا أن تأخر
إقلاع (السورية) هو أمر طبيعي.
أيها السادة, اعذروني إن كنت قد أطلت, وكان بإمكاني
أن أستمر إلى مالا نهاية, حتى تغدو قصتي هذه رواية كاملة, أو أختصر إلى حد
يصبح الموضوع بحجم خبر في جريدة.. وكان بإمكاني الاستمرار في متابعة الحدث
على الطبيعة, لولا أني نظرت إلى ساعتي, ولحظة ذاك أدركت أن موعد الجلسة
التي سأدافع فيها- عبثاً- عن مستأجر قاضاه مؤجره لإخلاء البيت بحجّة أن
الأول غيّر في مواصفات المأجور, بأن أضاف درفة جديدة للنافذة بدل تلك
المكسورة, وكان المدّعي لا يقبل بإزالة الجديدة فقط, إنما يريد القديمة,
والقديمة كسّرها الأولاد, وأحرقوها في غمرة عبث طفولي غير مسؤول...
وصلت إلى قاعة المحكمة في الوقت المناسب.. لم يكن
سوى القاضي يجلس خلف منصته, وأمامه مطرقة العدالة.. لم يحضر المدّعي, ولا
المدعى عليه, ولا الشهود, ولا طاقم المحكمة, بسبب إرباكات المرور التي كان
سببها حادثة الرجل الذي رفسه البغل.. لحظة ذاك، وجدت الوقت مناسباً لكتابة
هذه القصة, ومن ثم إرسالها إلى الأستاذ عبد النبي حجازي, رئيس تحرير صحيفة
الأسبوع الأدبي, مع صديق عضو في اتحاد الكتاب.. رجاء للأستاذ حجازي, نشر
القصة على مسؤوليتي. فإذا حال الحجم دون نشرها, فأنا على استعداد لعمل ملخص
لها. والأفضل أن تنشر مفصلة, لخدمة القراء, والجمهور, والعدالة...
حامل الأمانة.
مملكة الأحلام الجميلة
ولدتُ في غرفة طينية
يضيئها قنديل معلق على ساموك خشبي.. وقرب موقد
مشتعل، زاد في الإنارة التي تحتاجها (الداية)... وفي تلك الأيام كانت زوايا
أزقة القرية تضاء ليلاً بالفوانيس التي وقودها من الكيروسين (زيت الكاز)،
بعد المغرب بساعة، وتطفأ من قبل عامل، كان يعرف باسم «الدومري»، في العاشرة
ليلاً.. ما عدا الليالي المقمرة في الصيف، حيث الإنارة الربّانية كانت
تسهّل على الناس رؤية دروبهم...
ثم جاءت الكهرباء بنعمتها، ربما عام 1954، عبر جهود
جمعية فلاحية تعاونية، لا علاقة لها بالدولة، فصار المحرّك الذي يعمل على
(الديزل) يهدر، بعيد المغرب بقليل، ويمدنا بكهرباء الإنارة، ثم يُطفأ عند
الساعة الحادية عشرة ليلاً، وكان المستفيدون من نعمة الكهرباء، لا يدفعون
ثمن فواتير، بل اشتراك شهري متساوٍ في القيمة، حيث لم تكن ثمة مراوح، ولا
برادات، ولا غسالات، ولا مكيفات، ما كان موجوداً هو (لمبات) الإنارة التي
ساعدت كثيراً من الطلاب على مضاعفة جهودهم الدراسية، ومن ثم التفوق بشكل
ملحوظ على أبناء قرى القناديل والفوانيس!..
ولادتي الثانية تمت في مدينة دمشق، ولكن من دون
معونة (داية)، حيث الكهرباء كانت تجري مثل جريان نهر بردى بفروعه السبعة
دون انقطاع، أيام ذاك، وتلك كانت أعجوبة، واستمرت الأعجوبة منذ عهدي
بالمدرسة الابتدائية، وحتى تخرجي في الجامعة أوائل الثلث الأخير من القرن
المنصرم، ولا أدعي بأن الكهرباء (غير المقننة) هي سبب تخرجي، فقد تخرجت
بدرجة (مقبول جداً) على الرغم من وجود الكهرباء!!.
الآن.. بعد هذا العمر المرسوم على إيقاع التوتر
العالي، أضحت الكهرباء من الضروريات، ليس للإضاءة فحسب، بل لشؤون بيئية
شخصية كثيرة، فالحاسوب هو أداة مهمة في مجريات عملي، فقد صار، بإمكاناته
الهائلة، أداة الكتابة لدي، والتواصل مع العالم عبر الشابكة، وكذلك الرّاسل
(أي الفاكس)، ناهيك عن خدمات كثيرة، دخلت في صلب الحياة الحديثة.
مسؤولو الانقطاعات الكهربائية يقولون إذا جاء الصيف
إن ارتفاع نسبة الاستهلاك، زاد عن الحد المتوقع، ودرجات حرارة الطقس فاقت
المتوقع، فإذا جاء الشتاء قالوا إن هبوط درجات الحرارة إلى أدنى من
معدلاتها، فراح الناس يلجؤون إلى التدفئة بالمشعات الكهربائية، ورأيي، أن
كل ميزانيات الدول تترك هامشاً واسعاً للكوارث، أو للطوارئ.. خاصة في البنى
التحتية إلا حكومتنا، فهي تتوسع في إشاعة الطيف الواسع لمشاريع الاستثمار،
وتغفل عن الطيف الضيق للمواطن ذي الدخل المهدود.
وذات يوم، مضى وانقضى، ضاعفت وزارة الكهرباء تسعيرة
(فواتيرها) المستحقة على المواطن المنتوف، ضمن عقد إذعان معروف، ولم تحسب
حساب يوم تقصر فيه الكهرباء عن تلبية حاجات المواطن الملهوف. وحجتها أن
مياه سد الفرات تدنت إلى مستوى لا يشغل إلا نصف عنفات توليد الكهرباء، وعلى
عيني العنفات، وحزب العدالة والتنمية التركي، لكني أذكر أن مخترعاً سورياً،
ابتدع مصيدة للرياح افترض أنها ستركب شرقي مدينة حمص، يمكن لها أن تولد عبر
عنفاتها ما يزيد عن كهرباء السد، وقد أعطي المخترع براءة اختراع، ومكافأة
خمسة آلاف ليرة، وصل إلى جيبه منها ألف ليرة (بعد الفلترة)، أما اختراعه
فقد دفن في أضابير مملكة النسيان.
وأخشى أننا – نحن الذين اخترعنا ممالك الشمس –
لانزال غارقين في ممالك الأحلام الجميلة.
أختي فوق الشجرة
الحكيمخرجت أمي من الليوان إلى أرض الدار، ونادتْ
دون انتظار ردٍّ من أختي هدلا: صار وقت الإفطارِ يا هدلا.
ولم تولِ أمي انتباهاً إلى أن هدلا كانت تنزلُ
زاحفة، نحو الخلف على الدرج، وهذه كانت طريقةُ ابنتها في النزول، وفي
الصعود من، وإلى عليتها.
كانت هدلا تضحك بصوت أبله متهدج، وقد اعتدنا على
ضحكاتها، وأكثر من هذا، حين فقدت هدلا الكثيرَ من قوة عضلاتها، وفقدت
القدرة على التعبير بنطق سليم ومتوازن، لم يبقَ لها من وسيلة للتعبير عن
انفعالاتها سوى الضَّحك، كأنما امتلكت لغة سرية، بدأنا نتعاملُ معها،
ونفهمها تدريجيّاًً بعد بدءِ علَّتِها، تلكَ، العلة التي شخصها الأطباء على
أنها حالة ضمور عضلي، قد تكون وراثيةً، أو لا تكون.
اقتربت هدلا من المائدة بخطوات بطيئة، كما لو كانت
تغوص في أكوام من الثلج، وكنا نتابع الأكل، دون أن ننظر إلى القادمة، لولا
أن أمي سألتها: ماذا تحملين يا مقصوفةَ العُمر؟!
لحظة ذاك التفتنا نحو هدلا، ولاحظنا أنها تحتضن
قطيطاً صغيراً بين ذراعيها، أسود اللون، مع تكحيلةٍ بيضاءَ صغيرة على
عنُقه، وراحت تقترب ببطء نحونا.
تابعت أمي: من أين حصلتِ على هذا الحيوان الجني يا
هدلا؟
أطلقت هدلا ضحكات لم نفهمها مباشرة، وردّت بكلمات
بلهاء، غير مترابطة، وبكثير من الإشارات العشوائية، فهمنا منها أنها، ربما،
نسيت باب العلية مشقوقاً، واستيقظتْ ووجدت القطيط ينام في حضنها، واستطاعت
هدلا، بطريقة، أو أخرى ، إفهامنا، أن القطيط، استيقظ وهو جائع، لكنه لم
يعبّر عن جوعه بنداء: نياو، نياو، بل نظر إليها متوسلاً.
قالت أمي: اتركي القطَّ الأسود يا هدلا. جلوسه على
السفرة سيجلب لنا الكثير من النحس، واذهبي لغسل يديك، وعودي.
التفتت أمي، وسألتني بسخرية: ما رأيُك ياحكيم؟
ولم أكن حكيماً، بل مجرد طالب طب في سنته الثانية،
وكنت أخطط لأن أصير طبيب أرواح، مدركاً أني سأعالج مريضاً أو مريضين في
السنة، وقلت لأمي: دعيها تفرح بقطيطها الأسود، وهذا، ربما، يكون جزءاً من
العلاج، فنظرت أمي إليّ، كما لو كنت مرشحاً لاضمحلال قادم في وظائف العضلات
والعقل.
أما أبي فكان يأكل على مهل، ويرتشف الشايَ الساخن ،
بين اللقمة واللقمة، بصوت تعوّدنا عليه، دون أن ينظر إلينا، وهذا يعني أنه
يتابع نقاشنا،موافقاً، بشكل سرّي، على وجود القطيط حاضراً على سفرة
الإفطار، لأجل علاج مشكوك فيه، قد ينقذ هدلا.
قالت أمي: أنا لا آكل مع القطط.
أطلقت هدلا ضحكات، فيها الكثير من البكاء ومن الرفض،
ووقفت حيث وصلتْ ، وبدا لنا أنها ستتمسك بالقُطيط، وتستغني عن وجبة
الإفطار، إلى أن قال أبي مخاطباً أمي، وهو يمضغ بصعوبة لقمته الخامسة، بسبب
فقدانه لأضراسه:
- دعيها تفطر مع القط، يا زهوة.
اقتربت هدلا من سفرة الطعام. تربّعت، وراحت تأكل
لقمة، وتطعم القطيط لقمة، مقتطعة أجزاء صغيرة من قرص الجبن الذي أمامها،
وكان القط يستعرضنا واحداً واحداً، وبدا كما لو أنه يستأذِنُنا جميعاً، قبل
أن يفتح فمه، ويتناول لقمته من يد هدلا، وبدت هدلا في قمة السرور لأن قطّها
الصغير يأكل. وهتفت، وهي في ذروة سرورها،وبلغة لا تلجلج فيها: إنه يأكل،
إنه يأكل.
وبدا أبي، دون أن تبدو على سحنته أية ملامح متفائلة،
سعيداً لأن ابنته، استطاعت، عبر فرحها بالقطيط، تكرار جملة مفيدة متكاملة.
أخواتي الثلاث الأصغر، فاطمة، ونورية، وسكينة، عبّرن عن إعجابهن بحركات
القطيط، أكثر من إعجابهن بالطفرة التي صنعتها هدلا، عبر ابتسامات فرحة
وصريحة، بينما أخونا الأصغر محمد ، الأصغر من الجميع، لم يعبر عن أي
انفعال، ووجه كلامه إلى هدلا، دون أن ينظر إليها: لا بد أنك وجدت اسماً
لهذا القط. قولي ما اسمه؟
ضحكت هدلا، ومسحت بيدها على وبر صديقها الجديد،
وقالت بوضوح: أسميته فادي!
امتقع وجه أبي، وجمدت الدماء في عروق أمي، بينما
تابعت هدلا ضحكاتها البلهاء، وكررت: اسمه فادي، وضحكت: هو قال لي إن اسمه
فادي.
أختي على البيدرصنع أبي، وشريكُه أبو فادي بيدراً
ضخماً، لأن موسم السنابل كان وفيراً ذاك العام. هطلت الأمطار غزيرة في
الخريف والشتاء والربيع، وهذا يحدث مرة كل عشر سنوات، ومرةً كلَّ عشر سنوات
كانت أزهار شقائق النعمان، تنبت غزيرة في البرية ، مميزة بألوانها
الأرجوانية، بين حشائش ونباتات لا يعرف أحد كل أسمائها، إذ تنشق الأرض فجأة
عن كائنات، نامت بذورها في التراب ما يقرب من تسعين سنة. وها هي تنبت من
جديد، وتحتاج إلى من يبتدع لها أسماء تليق بها.
وأظن أن فادي كان يخترع مثل هذه الأسماء، ويتلوها
على هدلا، بينما النورج يدور ويدور عكس اتجاه دوران الأرض، يجره بغل معصوب
العينين، والبغل يظن أنه ماضٍ إلى زريبته، ومعلفه، غير مدرك أن دورانه
رُسِم لغاية وحيدة تتلخص في تفتيت السنابل، واستخلاص الحنطة منها.
ورأيت أختي هدلا تجلس مع فادي فوق النورج، فيما
البغل المعصوب العينين، يدور بهما برتابة تستدعي النعاس، وكان بين يدي فادي
كتاب القراءة للصف الثالث، وهو كتابها، لأن فادي كان في الصف الخامس، يشير
بإصبعه إلى صورة أو كلمة،فتضحك هدلا، وتقرّب رأسها من رأس فادي أكثرَ فأكثر
إلى درجة أن الشَّعر يلامس الشَّعر، وتهمس له بشيء، فيبتسم فادي، ثم يصطنع
العبوس، ومعاودة تمثيل دور المعلم. بينما تعود هدلا إلى الجدية، كما لو
كانت تتعلم منه.
فاديقرّبت هدلا رأسها من رأسي، ولامس شعرُها،
الممتلئ بغبار التبن، شعري،وقالت، وهي تنظر مخاتَلَـة إلى الصورة التي
أشيرُ إليها بإصبعي في كتاب القراءة: سأصبح ذات يوم عروسك. فسرت حرارة
لاسعة في أذنيَّ من الكلام الذي قالته هدلا، وخشيت أن يلاحظ مراقبو
الدَّريس هذا الاحمرار الطارئ، ثم عزوت تجاهل المراقبين للوضع الحاصل لدي
إلى أن الشمس كانت في أشد حالات لهيبها، منتصف النهار، وتجرأت، وقلت لهدلا،
وأنا أقلب صفحة من الكتاب: وأنا كذلك. قالت: هل تعتقد أننا أصبحنا خطيبين؟
لم أجبها، واندفع عضدي نحو صدرها بفعل حركة سريعة
مباغتة من البغل الذي يدور بالنورج. واكتشفت أن هدلا لم تتكلم عبثاً، لأن
شيئاً جديداً متكوراً كان ينبت، ويبدأ بمحو آخر ملامح الطفولة لديها، فيما
بدأت تستيقظ لدي، في تلك اللحظة أول مشاعر النَّسغ الساري في جذع شجرة.
لم أكن أعرف معنى الحب، ولكني أدركت أننا خلقنا
لنعيش معاً، كانت هي الأولى في صفها، وكنت أنا الثاني في صفي. ولم تتفاخر
ولو لمرة واحدة، بتفوقها عليّ،وفيما بعد انفصلنا دراسياً، أنا صرت في
الإعدادية، وهي بقيت في الابتدائية،مدرستانا كانتا متلاصقتين ظهرًا إلى
ظهر. ننصرف في وقت واحد، وكنت، بُعيدَ كل انصراف، أجدها تنتظرني، كي نعود
معاً إلى الحارة، وبدا الأمر محرجاً لي، وربما لها،في البداية، ثم تعودنا،
وتعود الآخرون على رؤيتنا معاً، وكنا في كل موسم دريس نتابع جلوسنا فوق
النورج، وتلسعنا الشمس بقسوة.
نلت الشهادة الثانوية، بتفوق فاق المتوقع، وحين
ركبنا النورج لآخر مرة، بدت هدلا حزينة، وراحت تحث البغل على الإسراع في
دورانه، مدركة بحسها الصافي،أني سأهجر هذه الشمس، وأسافر إلى بلاد ثلجية
بعيدة، كي أتقن إطلاق الأسماء على نباتات، لا أحد يعرف أسماءها، تنبت في
الجبل الشرقي من قريتنا.
الحكيمأدركت أن علاقة طفليّة، يغلب عليها طابع
البساطة، كانت تربط بين هدلا وفادي، علاقة زُرعتْ في حقل عقيم، لا تنبت فيه
إلا الأشواك، وكنت أدرك أن تشعبات الزمن ستحل المشكلة، وقد مضى فادي
للدراسة في بلاد بعيدة لها اسم صعب، بينما كانت هدلا تسأل أمها في عصاري
الصيف: ما اسم البلاد التي سافر إليها فادي؟ وتجيب الأم: والله يا بنتي لم
أحفظ اسمها. فتهز هدلا رأسها، وتقول: لا بد أنها بلاد بعيدة أعرف أنها
ستبتلعه. قريتنا كئيبة حين لا يكون فيها طفل اسمه فادي!
خواطر القطيط فادييبدو أن هذه العائلة بمجملها لا
تحبني، ما عدا هدلا التي التجأتُ إلى حضنها ذات ليل،
كلما أكلت لقمة نظروا إليّ كما لو كنت أسرق لقمتي من
أفواههم. وكلما ضمتني هدلا إلى حضنها بحنان، يظن الجميع أنها تمارس شوقاً
إلى فادي، هذا خطؤها. وأنا أصلاً لم أحب إطلاق اسم شخص لا أعرفه عليّ.
سأختفي هذه الليلة، في مثل الساعة التي دخلت فيها
إلى علية هدلا،سأفتقد هدلا، وأعتقد أنها ستنساني بأسرع مما أعتقد.
الحكيم تحلقنا حول مائدة الإفطار، وكان على أمي أن
تنهض، لتنادي هدلا، لكنها لم تنهض، لأنها سمعت، وسمعنا جميعاً، صوت بكاء
هدلا التي كانت تعبّر عن مشاعرها اليومية بالضحك، لم تكن تبكي، وهي تنزل
الدرج زاحفة، نحو الخلف، بل تتفجع، وفهمنا من خلال تفجعها، أنها لم تجد
القطيط في سريرها حين استيقظت.ولم تقترب من السفرة، بل عبرت بتلاوين بكائها
أنها ستذهب للبحث عن فادي.
قالت أمي: اسكتي يا هدلا، بعد أن ننتهي من إفطارنا
سنذهب جميعاً للبحث عن قطك الضائع.
أما أبي فقد دسّ ربع رغيف في فمه، وحاول دفعه إلى
معدته بمساعدة جرعةكبيرة من الشاي، وغصَّ، وكاد يختنق، فيما راحت أمي تقرع
فوق ظهره بجماع كفها،وعزيمتها.
ومضينا جميعاً نبحث عن القطيط الضائع. بداية جرَدْنا
كل زاوية في البيت، ولم نجد ما كنا نبحث عنه، واكتشف أبي أن الغطاء المعدني
للبئر، لم يكن فوق الفوهة التي نستقي منها الماء، وهذا يعني أن مشكلة غياب
القطيط، أضيف إليها مشكلة جديدة، ملخصها أن مياه البئر، كما عبر عن ذلك
أبي، لم تعد صالحة لا للوضوء، ولاللشرب، على فرض أن القطيط ألقى بنفسه في
الفوهة. وكما هو متوقع فقد انتشر صوت بكاء هدلا، وخبر ضياع قطيطها في كل
بيوت القرية، وقد تطوع جمع منهم للبحث عن الحيوان الصغير في بيوتهم، وفي
زرائبهم، بينما تفرغ أفراد عائلتنا لتوازعِ الجهات في الحقول المجاورة
بحثاً عن كائن مفقود، ثم وسّعنا دائرة البحث في كل أرجاء ما كنا نسميه
البرية، وحين حل الظلام، عدنا خائبين.
أختي فاطمةلسعت شمس الصباح وجهي، فنهضت، وصعدت إلى
العلية، لأطمئن إن كانت أختي هدلا لم تبلل مخدتها بالدموع في ليلة فقدها
فادي.
ولم أجدها في فراشها، فخرجت من الباب الخلفي للدار،
ذاك الذي ينفتح على حقل وسيع، وكان في نيتي مناداة رب العالمين كي يعيد
إلينا هدلا سالمة، بقطيط أودون قطيط. وحين سرحت نظراتي فوق شجرة الجوز،
رأيت هدلا متمددة فوق أعلى غصن فيالشجرة، كانت تجلس بلا حراك، بينما القطيط
جالس في حضنها، يحرك رأسه في كل الاتجاهات.
صرخت بأعلى صوت متاح لي: وجدت هدلا، وجدت
هدلا،والتفّ الجمع الذي تطوع للبحث عنها حول شجرة الجوز، والجميع كانوا
ينظرون نحو الأعلى، ما عدا أبي الذي بدا أنه يكتشف لأول مرة أنه يمتلك
قدمين كبيرتين، يعلوهما جسم هزيل، وقال: لا بد سنحتاج إلى سلّم طويل لإنزال
جسد هدلا.
فاديعدت إلى القرية، وكنت أحمل تحت إبطي امرأة شقراء
تشبه الإبرة في نحولها، وشهادة تتيح لي إعادة تسمية نباتات البرية في
السنوات الخصبة بأسماء لاتينية مبتكرة، وظننت أن مثل هذه المهمة لا يمكن أن
تتم دون دليلة تدعى هدلا.
سألت أبي: أين هدلا؟
قال أبي: لم يكن في قريتنا فتاة تدعى هدلا.
وانتحيت ركناً في بيدر مهجور، وبكيت، وكان بكائي
يشبه تفجعات هدلا حين أضاعت قطها الوفي
|