أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 15/08/2024

الكاتب: مأمون أحمد مصطفى محمد-فلسطين

       
       
       
       
       

 

 

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

اسم الشهره: مأمون احمد مصطفى .

مكان الولادة: فلسطين – مخيم طولكرم في الضفة الغربية .

تاريخ الولادة: 30 – 03 – 1961.

البلد الاصلي: فلسطين .

التخصص الجامعي : فلسفة وعلم النفس ، لم يكتمل التخصص بسبب ظروف الاعتقال، الدراسة كانت في جامعة الخليل في فلسطين .

التخصص الادبي : القصة القصيرة.

 

المؤلفات:

-(ضياع) مجموعة قصصية صدرت عن وكالة ابو عرفة للصحافة والنشر في القدس المحتله عام " 1982".

-(نقد في ميزان النقد) صدر عن مكتبة اليازجي في غزة في فلسطين عام " 1984 " وهو عباره عن مجموعة من الدراسات النقدية لبعض الكتب والدواوين الشعرية، وكذلك دراسة تحليلية لكتاب " فلسفة الحضارة " للفيلسوف الالماني " البرت اشفيتزر ".

-كتاب" فلسطين تحت المجهر" كان من المفترض ان يخرج عن منشورات يسار الداخل في قرية " جت " المحتله منذ عام 1948 بالتعاون مع مكتب الاسوار في عكا . لكنه منع من النشر.

 

-عضو في ملتقى طولكرم الثقافي الادبي " مطاف "

-نائب امين سر اتحاد الفنانين الفلسطينيين التعبيريين في منطقة الشمال الفلسطيني .

-مدير تحرير صحيفة عرب الدولي الصادرة في فلسطين.

-عضو في رابطة ادباء الشام .

-عضو في ادباء دوت كوم.

-الان مقيم في النرويج وحاصل على الجنسية النرويجية 

 

 زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتب

ضجيج الصمت

الموت في لندن

أفعى من نوع آخر 

 

 

أفعى من نوع آخر

 

 

أمسك رجليه بيده وانزلق بجسده بعيدا عن وسط الزنزانة، انكمش على نفسه في الزاوية، محاولا اتقاء الماء المسكوب على أرضها الاسمنيتة الخشنة، أغلق عينيه ودفع رأسه بين ساعديه، أحنى ظهره قليلا، فأصبح كجذع زيتون ملتف على نفسه، الرطوبة تتسلل من الحائط بخبث ودهاء، إلى جسده المنهك من شدة التعذيب، كان الظلام قاسيا، يكبل مكامن النفس المتوثبة، ينشر سواده القاسي بجمجمة تخض بالأفكار والتساؤلات، هواجس تجول، تخبط في الوعي المترنح، تتشكل عقدا، نتوءات كدمامل محشية بالقيح، الجو كله مشحون بثقل الحدث، ثقل غريب تربع فوق صدره، كجلمود صوان صلب متفرع الأخاديد في نبضاته المتسارعة، تحسس بنطاله الغارق بالمياه الباردة النتنة، قرب كفه من انفه، اجتاحه قرف ممض.

 

ماذا يريدون مني؟ ضغط السؤال على مروج نفسه الفسيحة، هل يمكن أن يكونوا؟ هل عرفوا عني شيئا؟ لا، لا يمكن، العنقاء أكثر امكانا من ذلك، المستحيل ذاته قابل للتحول نحو الممكن، كيف سيعرفون عني؟ أنا لم أتحدث مع احد بالأمر، أنا واحد، والواحد لا يخرج سره، لم يراني احد على الأرض، حتى الليل، بعيونه المضيئة المتوهجة، لم يدرك ما حصل، تنبه للأمر بعد فوات الأوان، أصيب بالذهول، بالدهشة، بالاستغراب، بحث جوف عيونه، لم تكن تحفظ أي صورة، أي صوت، مما حدث، أرهق نفسه، وأرهق عتمته الواقبة، لكنه ظل فاغرا فمه، كمعتوه اقتحمته صحوة مفاجئة.

 

لحظة ضمته أمه، قبل أن يخرج مكبلا، معصوب العينين، تنشق رائحة غير رائحة ملابسها، غير رائحة عرقها، غير رائحة أمومتها المعهودة، رائحة تفوح من مساماتها لأول مرة، مميزة، ذات نكهة معهودة، لم يستطع أن يحدد نكهتها بادىء الأمر، لكن لحظة هوت البندقية على رأسه، انتشرت الرائحة لتغطيه كله، رائحة تراب معذب، يضخ شوقا، كتراب الآنية التي زرعت أمه بها ذات يوم غصنا جافا من أغصان الدوالي، غصنا ميتا، لا اثر للحياة فيه، لكن أمي ظلت تفتح التراب حوله كل يوم، وتقول:- التراب يجب أن يتحرك من فوق العود، ليدخل الهواء، لتتنفس التربة ويتنفس الغصن، التراب المتراكم، لا يخرج حياة، والغصن بدون عناية، بدون عرق، لا يقدر على النماء، حرك التراب، افتح الطريق للهواء، ونقط بعض نقط من عرق، وانتظر.

 

ذات يوم، وَجَدْتُ كفة يدها مسطوحة، تنز دما، فوق تراب الآنية، حاولت مساعدتها، لكنها رفضت، قلت لها:- الدماء ستقتل جذع العنب الميت، ضحكت وهي تقول:- وكيف يا فهيم؟ يا متعلم؟ الدم يذهب عميقا، يتجمع في حبات التراب، يمتزج، فلا نعود نراه، مثله مثل الماء.

 

نعم، فاحت رائحة التراب، تراب عود ناشف من كرمة في الجبل الذي ترتاده أمي، رائحة التراب والعود والجبل، توحدت، لكنها لم تصل انفي إلا حين ضمتني مودعة.

 

يمًا، يا حبيبي، أنت وحيدي، وسند أخواتك البنات، ليس لهن إلا الله، ثم أنت، أتيت إلى الدنيا بعد عناء، أنا وأبوك، كنا نقوم الليل، ندعي الله، نتوسله، أن يمنحنا ولدا، يكون سندا لأخواته حين نغادر الدنيا، البنات مكسورات الجناح يمًا، حنونات، رقيقات مثل الزجاج، أي شيء يكسرهن، دموعهن مهيأة للشكوى، وهمهن يهد الجبال، صلينا، وقدسنا في الحرم، قبلنا الصخرة التي جلس النبي محمد فوقها- عليه أفضل السلام- حججنا، شربنا ماء زمزم ونحن نبتهل إلى الله بولد، ولد يسند البنات، وحين عدنا، اندفع بطني، تحرك شيء ما بداخله، حركته غريبة، جديدة، يدفع جدار الرحم دفعا، كغاضب، حركة البنات كانت سهلة، كن يسبحن في الرحم بهدوء، لم أحس بهن، ولم اشعر بالثقل الذي اشعر به الآن، لم اشعر بشيء صلب يتكور في زاوية الرحم إلا هذه المرة.

 

فرحت، وأسرعت نحو والدك، قلت له:- في بطني ولد، تألق بريق عينيه، سيأتي لبناتك سند، سنموت ونحن مرتاحين، بكى، بكاء مرا، التصق بحلقي، غارت مرارته بقلبي، لم يصدق، فالحمل سر من أسرار الله، شعرت باني سأقتله لو وضعت غيرك، ولكني واثقة، نعم، واثقة، فانا اعرف بحاستي انك قادم، أنا أم، والأم تعرف كيف تتحرك الأجنة في الرحم.

 

أصوات المعذبين تصل أذنيه، عالية، مجروحة، صرخات محقونة بالألم، أشياء تتهاوى، تصطدم بالأرض، فيدوي صدى اصطدامها بقلب السكون والعتمة، كانفجار لغم وسط صحراء مضغوطة، ترى، من هؤلاء المعذبين؟ ومن أي المناطق؟ وكم أم تتلوى الآن على نار القلق والتحسب؟ وكم أخت تقف مشرعة يديها إلى السماء المفتوحة والدموع تنهمر من عيونهن، كانهمار الحياة في زيتون الجبال؟ وكم نفس تقع الآن تحت ضغط عذاب لا يرحم؟

 

تسللت برودة قاسية إلى جسده المتجلد، انتفض، كل شيء كان عاديا، جرت الأمور بطريقة سريعة، لم يكن هناك أي مخلوق، الناس والشوارع والأمكنة والأزمنة توقفت في تلك اللحظة، الليل يفرش رداءه الأسود، والبرد ينشر صفير رياحه المحملة بالسرعة والهيبة على المدينة بأسرها، لم اسمع حتى نباح كلب ضال، أو نباح كلب اضواه البرد المتمكن من كل شيء، حتى الجرذان نزلت إلى جحورها، والمطر يضرب الأرض بقوة وصخب، مطر، مطر، مطر، والأرض تحني قامتها اتقاء واحتماء من قسوته، في هذا الوقت كان ما كان، وكنت وحيدا إلا من الله الذي يكون في كل مكان، كنت اشعر بوجوده، بحمايته، ببركته، لذلك غصت في تلك الأجواء، اقتحمت هيبتها وسكونها، ومزقت غموضها، ولكني زرعت في رحمها حدثا لا يصنعه إلا الرجال، حدث اقض مضاجع من اقتادوني هنا، أربكهم، فترة طويلة من الزمن، قزمهم، طحن أسطورتهم الكاذبة بين تروسه الضخمة.

 

شاهد يد أمه وهي تغوص بمجرفة صغيرة في الآنية التي زرعت بها عود الدالية، سألها:- لماذا تجرفين الدالية؟ هل سئمت من انتظارها؟ نظرت إليه وهي تبتسم، وقالت:- يما، الدالية لا تسعها آنية محاطة بجدر، فهي تغوص عميقا في الأرض، تنشر جذورها بكل الاتجاهات، تلاحق المياه، وتفتح في الأرض أخاديدا مدورة، ليدخل الهواء إلى قلبها، ليتغلغل في دمها. وعادت وهي تحمل عودا آخر، فيه نتوءات شوك، عود ورد جوري، غرسته في الآنية ذاتها وغادرت.

 

أيام مضت عليه، لم يفتح باب الزنزانة إلا لتقديم بعض من طعام متعفن، وبعض ماء أصبح بطعم، تركوه وحيدا، هو يعلم تماما لماذا، يدرك بعمق أنهم يتركونه لهواجسه، لكوابيس الوحدة والليل، لعذاب التوقع والتحسب، تركوه ينهش ذاته، ينهش فكره، يهوي بقاع بئر مهجور، تحيطه الرطوبة، وتقتحمه الوحدة، ونجحوا، نجحوا في جعله يدور في دوامة التساؤل، يدور بأعماق موجة كاسحة، تقتحم كل ثواني أيامه ولحظات عمره، بدأ يفتش، ينبش باهاب الوقت، بجلد الأحداث، بمسامات الأيام، أحس بالإرهاق، بالتصدع، كانت الحيرة تفتك بكل قواه الذهنية، لماذا أنا هنا؟ لا بد من وجود خطأ؟ قد يكون المطلوب شخصا آخر؟ وقد يكون الأمر تشابه بالأسماء فقط، وربما هو اعتقال عشوائي؟

 

دار المفتاح بالقفل باكرا، قبل موعد الإفطار، نودي برقمه، خرج، الصق بالحائط، كبلت يداه إلى ظهره، وغاص رأسه بكيس اسود ذو رائحة نتنة، وسيق من رباط الكيس كحيوان يساق إلى جهة معلومة.

 

بدأت أمه وهي تزرع عود الورد بالآنية تتحدث، يما، الغصن فارق أمه ليس لأنه لا يريد البقاء معها، فارقها لأنه يعرف بأنه سيفتح عالما جديدا، سيبرعم، وينطلق خضاره في العيون، في النفوس، لكنه يحتاج إلى عناية، إلى صبر، إلى زمن لا بد أن يمر به ليتحول إلى شجرة كبيرة، تغص بأزار الزهر، يحتاج إلى ماء، إلى حياة، الدالية يما لا تحتاج إلى ماء، فهي ترسل جذورها وراءه، تحدد مكانه وتغوص خلفه، كذلك الزيتون، الزيتون الجيد، زيتون الجبال، لأنه يأخذ حاجته من الماء، حاجته دون أي زيادة، زيتون الجبال زيته حار، وقشرته صلبة، سعره فيه، وطعمه فيه، ولونه فيه، فهو يشبه الأرض، والجبال، فيه عزة وفيه انفه.

 

خطواته تتراقص مع تراقص قدميه، فحينا يصفع بحائط، وحينا يصفع بيد، وفي حين آخر يتلقى ركلة قوية بين قدميه، العرق يتفصد من جسده، والظلام الغارق بعينيه يزيد من حيرته وتوجسه، كل الأشباح والغيلان اندفعت من رأسه مرة واحدة، تصرخ بأذنيه، وتشد مخالبها على عقله، سواد ملفوف بالسواد، وغموض محاط بالغموض.

 

قال لأمه وهي تزرع عود الورد المتشقق:- حاذري من الأشواك، فالجوري يملك أشواكا قاسية، تمزق الجلد، وتلهب الجراح، ابتسمت:- من يبحث عن الرائحة الحلوة لا يلتفت أبدا إلى الأشواك، الجرح يندمل، تغطيه التجاعيد والأيام، تمحوه من الوجود، لكن، يوم تتفتح الأزهار، وتنتشر الرائحة بأعماقك وأنت ساجد بخشوع، ستشعر بنشوة، نشوة الأيمان، ونشوة الأرض، الشوك ليس في الورد فقط، الشوك في الناس، في الحياة، وهؤلاء، هم من لا يمحى اثر وخزهم من النفس، ولا تستطيع التجاعيد أو الأيام تغطية الندوب التي يتركوها كوشم خبيث.

 

تداعت أفكاره كلها مرة واحدة، تزاحمت كمياه نهر في مصب ضيق، على بعد أمتار، أمتار فقط، ينتشر الناس في الشوارع، على الأرصفة، في المقاهي، يتمتعون بالفضاء الواسع الممتد، بالحياة، بالشمس، يضحكون ملء أشداقهم، يتذوقون اللوز والخوخ والتين، يداعبون النسمات المتطايرة من البيارات المحيطة بالمدينة كسوار شديد الخضرة والنماء، والنساء تدفع رائحة الطبخ إلى الأجواء، آه، ماذا أعددت اليوم يا أمي؟ وهل بعثت كعادتك لكل أخت طبق مما أنجزته يدك الطاهرة؟ هل عانقت أولادهن؟ وتنشقت رائحتهم؟ وكيف كان صباحك بدوني؟ هل بكيت؟ هل شهقت؟ وماذا فعلت أخواتي؟ أستطيع أن أرى الحزن الذي سكن عيونهن من مكاني هذا، بل أستطيع أن اشعر بحرقته الكاوية، من هنا، من مكاني هذا، أستطيع أن ألم المخيم في قلبي، أستطيع، وببساطة مطلقة أن اشعر بعود الدالية وعود الجوري وهو يمتد في قلبي، يتوزع تحت جلدي باحثا عن الحياة، عن المرسى الآمن لجذوره وروحه.

 

دفع إلى داخل الغرفة، ورفع الكيس العفن عن رأسه، بدت الأشياء غائمة، متداخلة، تترجرج، نفض رأسه بقوة، أغلق عينيه وفتحهما، الضابط صغير السن، جميل المنظر، لا تبدو عليه الخشونة، ولا يبدو عليه الصلف أو القوة، مقدمة مقبولة، فكفه ضعيفة كما ساعده، حتما ستكون صفعاته محتمله.

- تفضل بالجلوس. قال الضابط مع بسمة برق زيفها.

- شكرا. وجلس.

- نحن نأسف للتأخر عليك أياما طويلة، لكنه ضغط العمل.

- أتمنى أن ننتهي بسرعة.

-الأمر متوقف عليك انت، نحن نود الانتهاء خلال دقائق، لدينا ما يكفينا من المشاق والصعوبات.

-لم افهم قصدك.

-كلكم من نفس النوع، من نفس الجنس، تأتون هنا وفي رأسكم وعلى لسانكم نفس الكلمات، تتقنون المراوغة، لكنكم في النهاية تحملون القلم وتوقعون. نحن نحاول دائما أن نجعل الأمور سهلة، دون تعقيد، دون عداء أو ضغينة، لكنكم ترفضون، تكابرون، وفي النهاية تستسلمون، تخرون أرضا، هل تود أن أحدثك عن آلاف سبقوك، جميعهم دخل إلى هنا، وجلس على نفس الكرسي الذي تجلس عليه انت، وكلهم، نعم كلهم، قالوا ما قلت، ولكن ماذا حصل؟ كلهم، نعم كلهم، امسك بالقلم ووقع. كان بامكانهم أن يختصروا الوقت، يبتعدوا عن العذاب والرعب، لكنهم ظنوا بأنهم على قدر ما من البطولة، من الصمود، وحين لمس العذاب جسدهم، انهاروا أرضا، بكوا، طلبوا الرحمة، ونحن ساعدناهم، أعطيناهم القلم، ووقعوا، وببساطة انتهى كل الألم.

 

فرق كبير بين مظهره حين دخلت والآن، انبثقت القساوة مرة واحدة في ملامحه، ورز من عينيه بريق حقد، حقد حيوان جائع على فريسة عصية، كان يتحدث وهو ينبش بعينيه داخل جمجمتي، داخل صدري، أغراه العرق الفائض من جسدي كجدول صغير، واستثارت شهيته طأطأة راسي نحو الأرض، شعرت بالخوف، خوف لم اعرفه من قبل، يختلف عن الخوف من رهبة الليل، أو رهبة الموت، خوف بمذاق غريب، كمذاق المجهول في صحراء نائية، لكنه خالي من الجبن، من الهزيمة، صحيح أن البرودة تسربت إلى مساماتي، برودة تحسب وتوقع، برودة هواجس لا زالت مشتعلة في كياني، انفتحت المدينة أمامي كانفتاح اللون بيد الرسام، اختلطت مشاهدها وتشابكت، ترى، ماذا تفعل أمي الآن؟ أين تجلس؟ لعلها تفكر بما حصل، بل لعلها ترفع يديها نحو السماء، أبي رحل منذ زمن، غادر المخيم وروحه معلقة كقبة ذهبية في كل أرجاء البيت، وحين خرج الناس بجثته إلى المقبرة، قالت أمي وهي تشير بإصبعها نحو قبة السماء المتوهجة كقرص نحاسي منصهر:- هنا سيقيم والدك، ستبقى روحه معلقة كسنديانة فتية حتى اصعد عنده، لا، لا تصدق انه سيغادر من دوني، أنا وإياه، سنختبىء إلى أن تأتي أمطار السماء الحية، عندها، سنخرج، لنلوح للشمس براحتينا المتعبتين، نعم، الأرض تحتاج جسده، ووالدك لم يستطع أن يؤجل نداء الأرض.

 

لم أسمع كثيرا مما قال المحقق، فقد كنت مستغرقا بحديث أمي، ولأول مرة خطر ببالي سؤال غريب، ما الذي عنته أمي بقولها أن والدي لم يرحل؟ وانه معلق كسنديانة فتية في وسط الأفق المزروع في الكون؟

 

-حسنا، حدثنا عن تلك الليلة؟ قال بلهجة الواثق.

-أية ليلة.

-ليلة المطر، والظلام، حيث كنت وحيدا، الليلة التي أقضت مضاجعنا.

-لا اعرف ماذا تقصد.

-ألا تعرف تلك الليلة، " الليلة التي نزلت الجرذان فيها إلى جحورها ".

 

غاصت الدنيا بمعدته، شعر بانتفاخ أحشائه، واندفع الكون من ذاكرته مرة واحدة، بشكل مفاجئ، التهبت مفاصل قدميه بنيران صخر منصهر، وانتفض جلده بقوة ملحوظة، تماما كانتفاض أفعى مطحونة الرأس، ولمعت عينا المحقق، انطلق منها بريق حار، لامس فؤاده، وانغرزت بسمته في ذاكرة اللحظة المشحونة، بسمة ماكرة، ذاقت طعم الانتصار، طعم انهياري المفاجئ، " الليلة التي نزلت الجرذان فيها إلى جحورها "، من أين أتى بهذه العبارة؟ هي عبارتي أنا، أيعقل أن تكون مصادفة؟ لم اخبر والدي بذلك، حتى حين هممت بذلك وأنا ازور قبره، تراجعت، قلت:" صدرك أوسع لسرك "، هذا سر يخصني أنا، أنا وحدي، حتى أمي الملطخة يديها بعذاب الزمن، لم تعرف ذلك، الجرذان ذاتها كانت مختبئة، لم تراني، لم تشاهدني، وحتى الليل، الليل ذاته، بكل ظلمته وعتمته، بكل سواده وهيبته، كان يختبئ من هول الحدث، من هول الخوف الذي زرعته فيه، المدينة بأسرها أغلقت أبوابها المغلقة، دعمت السكاكر والمزاليج، وجلست مقرفصة تنتظر الفجر، تنتظر النهار وما سيحمل من غضب وقسوة، كل الأشياء سقطت في الذهول وفقدان الذاكرة. نعم هي بالتأكيد ضرب من ضروب المصادفة.

 

         نظر في وجه المحقق، أيقن انه قرأ كل أفكاره، وأدرك بحسه انه وقع بين يديه، وان المسافة الفاصلة بينه وبين الاعتراف أصبحت قصيرة، بل معدومة، عدل من جلسته، وقال:-

- نحن لا نود أن نثقل عليك، الأمور معروفة لدينا، وتفاصيل الليلة تلك تقبع في هذا الدرج، ما نريده فقط أن نسمع منك أنت، سأرسلك الآن للزنزانة، تناول إفطارك، وفكر جيدا، وحين ترتاح، سنجلس لننتهي من الأمر.

 

دخل الزنزانة ورأسه يكاد يطير من مكانه، لا، لا يمكن أن تكون مصادفة، فالحروف ذات الحروف، حتى النبرة التي استخدمتها بيني وبين ذاتي، هي نفس النبرة، ولماذا لا تكون مصادفة؟ محض صدفة؟ تسرب إليه إعياء شديد، نظر نحو الطعام، دفعه إلى زاوية الحائط، نهض، جلس، خطى خطوات الزنزانة، توقف، قرفص، انبطح على بطنه، على ظهره، استلقى على خصره، كوم جسده على ذاته، وقف على رجل واحدة، لكن كل ذلك لم يغير من ثورته شيئا، حاول التبول، لكن عرف بأنه أصيب بعسر حاد.

 

لم يشعر بالوقت إلا حين فتح باب الزنزانة من جديد، ودفع إلى التحقيق من جديد.

-أرجو أن تكون قد فكرت جيدا.

-ليس هناك ما أفكر به.

-هل تغوى التعب والعذاب؟

-لا.

-حسنا، اخبرنا عن تلك الليلة، فأنت تعرف بأننا نملك كل شيء، نعرف كل التفاصيل، ولسنا بحاجة إليك، أو إلى اعترافك، لكننا نريد أن نمنحك فرصة الاعتراف الطوعي، فهذا ينفعك أثناء المحاكمة.

-ما دمتم تعرفون كل شيء- حسب ما تقول- ما حاجتكم لاعترافي.

-حسنا، حسنا، نحن لا نريد منك أن تقول شيئا، ملفك جاهز وليس عليك سوى التوقيع.

-على ماذا؟

-على أحداث تلك الليلة.

-أي ليلة؟

-لا تحاول التحاذق، فصبري بدأ ينفد.

-وكذلك صبري.

-هل تود أن تكون بطلا؟

-هذا ليس من شأنك.

-سنرى؟  

 

حين وجد نفسه مشبوحا في الخزانة الإسمنتية التي لا تتسع إلا لربع شخص، لم يعرف من أين تفجرت فيه تلك القوة المفاجئة، لكنه شعر بها تتفجر كما يتفجر البركان، فجأة وبشكل مدهش، وأحس بان هناك أمرا ما خفيا يدفعه للعناد والتصخر، شيء خفي يكاد يعرفه، لكنه يتفلت منه، كما يتفلت الرمل من قبضة اليد، ليس غريبا عنه أبدا، ولكنه هلامي، تماما حين تخونك الذاكرة باسم أو أمر تعرفه، تعصر دماغك، تركز، تضغط بكل قوتك الذهنية، تشعر بأنك اقتربت منه، ثم ومرة واحده، تحس انه ولى هاربا من كل تركيزك وضغطك، تحاول مرة أخرى، وأخرى، وتفشل، لكنك ودون أن تدرك كيف ولماذا، تتذكر تفاصيله كما تتذكر ملامح وجه أمك وحنانها.

 

أمي، ماذا تراها تفعل الآن، هل تجلس الآن كعادتها في زقاق من أزقة الحارة، ترغي مع النساء، تتحدث عن مهرها المكون من غنمتين وبقرة بفخر الأنوثة وأيام الصبا، تتحدث عن وادي الحوارث، عن تلك الأرض التي شهدت زفافها وفرحتها، وشهدت ميلاد بعض أخواتي، هل انخرطت بالبكاء الآن؟ نعم، فهي لا تذكر تلك الأيام حتى تنخرط بالبكاء، بالنشيج، تمسح دموعها بخرقتها البيضاء، وتستعد لمعركة قاسية حامية الوطيس مع والدي حين يعود للبيت ويجدها جالسة في الحارة.

 

كانت تقول له:- وماذا سيحصل إن جلسنا وتحدثنا، هل ستخرب الدنيا؟

-انتن بنات حواء، تجلسن لتنهشن لحم الناس، فلانه تطلقت، وفلانه ابنها باعها من أجل زوجته، والكنة الفلانية طفشت العائلة، وتلك الخبيثة فرقت الأخوة عن بعضهم، وليس لكن سيرة إلا الناس، الرسول- صلى الله عليه وسلم- نهى عن كل هذا.

-الرسول نهى عن الكذب، ونحن لا نكذب.

-انتن لا تكذبن، بل تمارسن النميمة والغيبة.

-نحن لا نتهم أحدا، نحن نقول ما نسمع.

-الله يجيرنا منكن ومن لسانكن.

-آه، انتم الرجال مطهرين، مسبعين، الله حولكم وحواليكم.

-الله يجيبك يا طولة الروح، وبعدها معك يا امرأة.

 

وما هي إلا لحظات حتى يجلسان معا، يتهامسان بأسرار البيوت والناس، ويستذكران أيام الصبا والبلاد، يأكلان وهما يتضاحكان ويتمازحان، هي تلقمه أجود اللحم، وأجود الخضار، وهو يلقمها بعض ما يشتهي لها، عجوزان رائعان، عاشقان، يختلسا غيابنا للهمس بكلمات تخصهما، تخصهما فقط. وحين كنا نكبس عليهما متلبسين بالعشق المشهود، كانا ينتقلان من الهمس العذب إلى حزم المشادة والمشاجرة، وكأن بجوفهما بوصلة تخبرهما عن وقت الانتقال من مرحلة إلى مرحلة، أخواتي، لم يكن بإمكانهن التصريح بأنهن يعرفن ما كان يجري بينهما، ولكنهن كن يبتسمن وهن يغمزن بعيونهن، أما أنا، فقد كنت اقترب لأجلس بينهما تماما، واهمس وأنا أضم رأسيهما إلى صدري،" ماذا، هل حننتم لأيام الصبا، نحن نعرف ما يجري، بعد هذا العمر وما زلتم تتغزلون ببعضكم، انتم تكبرون أم تصغرون"؟ وما أكاد انهي حتى تنهال علي اللطمات من كل جانب، ولد أزعر، عيب، تأدب، نحن نتحدث عن أشياء أخرى، لا نريدكم أن تعرفوها.

 

قالت له يوم انتزعه الجنود:- " يمًا، أنت ابن بطني، بطني الذي حملك، وعرف انك قادم، كنت قرب القلب، تتغذى على روحي وتقتات من دمي، سهرت عليك ليال طوال، تقرح قلبي وتقرحت عيناي، والبطن، بطن الحره، ما بحمل إلا حر، أخواتك البنات، كل الدنيا تقسم باسمهن، قال الناس عنهن، أخوات رجال، دون أن تكون موجودا في الحياة، كنت لا تزال في نواة العدم، يما يا حبيبي، العمر واحد، والرب واحد".

 

انتزعوه من حضنها، لم يدعوها تكمل، نشجت، نشيجا خفيفا، ما زال مزروعا في عقله، ولا زالت جملتها " يما أنت ابن بطني " تقتحم مسامعه وقلبه، نعم أنا ابن بطنك، لا تخافي على هذا، ولكني كنت وحيدا، وحيدا إلا من الله المتواجد في كل مكان، كيف عرفوا، بل كيف رددوا ذات الجملة، " حتى الجرذان نزلت إلى جحورها "، راسي يكاد يطير من مكانه، وقلبي يكاد ينخلع، كل الأشياء تتراكم، تتزاحم، تتدفق في راسي تدفق شلال مضغوط، لا يمكن للمصادفة أن تخرج جملة من صدري، تلك الجملة لم اقلها، لم أصرح بها، حدثت نفسي بها، فهل غادرتني نفسي يوما لتروي لهم التفاصيل، هل غادرتني لتكشف عن نفسها، لا، لا يمكن ذلك.

 

أنت تود مني الاعتراف، حسنا، وأنا أود أن اعرف منك كيف وصلت إلى تلك الجملة، نحن نقف على نصل السيف، فإما أن تتحرك أنت، وإما أن أتحرك أنا، بيني وبينك النصل، ولنرى من سيغوص النصل بلحمه أولا.

 

عاد العذاب، يأخذ دورته، عذاب مركز، يتعاظم تدريجيا، وأحيانا، يصب فوق رأسه مرة واحدة، لكنه، رغم كل ذلك، كان يشعر بشيء يسري في عمق ذاته المرهقة، شيء يدفعه نحو الصبر القاسي، نحو التمسك بجدران بطن أمه، ورجاء عيون أخواته.

 

نعم، جسده بدأ يذبل، يتراخى، يتحول إلى نوع من لحم مسلوخ، احمر، ملتهب، ظهره تقوس من الشبح الممتد لساعات طويلة، وتقوست قدماه، بدأ يشعر بأنه اقترب من الشلل، كل الأمور كانت تدخل في معادلة صعبة، غير محتملة، غير متوازنة، وهو إنسان، طاقة احتماله محدودة، الموت، الموت فقط، يستطيع انتشاله مما هو فيه، لكنهم لن يقتلوه، هم يظنون أنهم مجموعة، لا يمكن أن يخطر ببالهم انه واحد، فالحدث الذي زرع في قلب العتمة، وأرعبها، ثم أرعب الأشياء كلها، لا يصنعه فرد، حتى لو اعترف لهم بأدق التفاصيل، لن يصدقوه، بل سينقلونه إلى عذاب اشد واعتى، إذن، لتكن الأمور كلها منذ الآن، تتجه نحو الزاوية التي يقطع النصل فيها لحمهم، وليكن لحمي نصلا، يؤذي غرورهم، ويهد عزمهم.

 

نقلوه من مركز إلى مركز، عرضوه على رجال مخابرات، متعمقين بالخبرة، يملكون تجارب، لكن ما قيمة كل هذا، إذا كان اللسان قابعا في نواة الصمت؟ كل الأشياء، وكل المسارات، كانت تصب في مجرى واحد، لقد كنت وحيدا، والواحد لا يكشف سره.

 

هناك خلل ما، حلقة مفقودة، نقطة على صفحة غير موجودة.

 

تراجع نحو أمه، نحو كفها المسطوحة، وهي تنز دما، دم احمر، كشراب الرمان، ولاحظ، من خلال ذاكرته، تبدل ملامحها حين كانت تنقل دالية، أو ليمونة، من مكانها، إلى بيت الجيران، لتغرسها هناك، كانت تزورها، تتعهدها بالنظر والتأمل، وكلما كبرت، كلما فرحت.

 

لم يفهم كثيرا من الأشياء إلا هنا، الظروف، تضيف إلى الذاكرة مواد جديدة، تتكون بسرعة مذهلة، وتنمو، كالصنوبر العملاق، تتكاثف، تتشابك، فتبدو على الملامح والتقاسيم، ظلالا غير مرئية، لكنها ترسي جذورها بأعماق النفس، بأعماق التكون، لتشكل ميلادا جديدا، لأشخاص، يدخلون إلى مسارب الشخص الأول، فيلتحمون معه، كما تلتحم الدوالي بذاكرة أمي ووجودها.

 

حشروه في غرفة صغيرة، وتركوه، وبلحظة سريعة، صفقت عيناه الظلمة، واتسعت حدقتاه، وجحظ البؤبؤ،، واخذ يشرب العتمة بنهم صارخ، وكأن بينه وبينها ثأرا لم تلتئم جروحه بعد، اندفع بكل عزمه نحو الجدار، الهمس يصله من هناك، مشوشا، متقطعا، استجمع كل طاقته بأذنيه، وحاول أن يلتقط، ولو كلمة واحدة، لكنه فشل، بدأ الهدوء القادم من الجهة الأخرى، يفسح مجالا للهمس أن يعلو قليلا، يتضح قليلا، ومن خلف جدار، جاء الصوت.

 

انتفض انتفاضة، لم يعرفها منذ انتزعوه من حضن أمه، لا، لا يمكن أن يصدق ما يسمع، هذا ليس من الواقع، حلم؟ نعم، أو شيء من الخيال، كابوس؟ نعم.

 

كل الدنيا سقطت في حلقه، سدت طرق أنفاسه، صخور تتسرب إلى أحشائه ومعدته، تتراكم، تنطمر، ما وصل أذنيه، صوت يعرفه، لا، لا يعرفه، بل هو صوته، صوته هو.

                 

 

أحس بفحيح، فحيح غريب يخترق الحائط، ليتسلل منه أفعى، أفعى من نوع آخر، وبدأ السم والهدير يقتربان، يلتصقان بذاته، ينهمران بأعماقه المهتزة، أراد، ومن كل قلبه، أن يبكي، أن يفرش الأرض بدموعه، وود لو يستطيع الآن أن يصرخ، صرخة تهز زوايا الكون، وتسقط الأنجم من مكانها، ود، وبغريزة مشتعلة، أن يطمر رأسه المتحطم، بثوب أمه العابق برائحة التراب والطبخ.

 

كيف حصل هذا، كيف تتمكن الذات من صلب نفسها على نار الألم، أحببته، بنفس القدر الذي أحببت نفسي، بل وأكثر قليلا، كنت امزجه بذاتي، بل كنت وإياه نفسا واحدة.

 

وضح الخلل، وظهرت الحلقة لتكتمل السلسلة، ولكنهم رغم كل هذا، لن يأخذوا مني كلمة، يجب أن أراه، أن أحدق بعينيه، وان أتفرس ملامحه، ولو للمرة الأخيرة، وعليه أن يراني، عليه أن يصوب عينيه نحوي، وان يدقق بملامحي، وعليه، وهذا الأهم، أن يرى كم تقوس ظهري، وكم انحنت قدماي كغصن، انحنى على جذعه الأول.

 

بدأت الخيوط تجتمع، كلها عادت نحو موضعها، هم أرادوا أن اسمع صوته وهو يروي لهم تفاصيل الحدث، دون أن يشعروني بأنهم قد خططوا لهذا الأمر، أرادوا أن تبدو الأشياء كنوع من المصادفة، أو بالأصح، نوع من غباء وقعوا فيه، لأنهم لا يريدون، حتى الآن على الأقل، أن أواجهه، اعتمدوا أسلوب الخطأ، أسلوب المراوغة، لكنهم، لم يدركوا حجم الضربة، وحجم الصاعقة التي نزلت على ذاتي.

 

في النهاية، سيعلنون استسلامهم، وسيدعونه للجلوس أمامي، لن يكون هو- مهما كان – بالنسبة لهم أكثر أهمية من اعترافي، اعترافي الذي يظنون انه منقوص حين حدثت صديقي به، الحدث باعتقادهم يحتاج إلى مجموعة من الرجال، مجموعة تتغلف بالسرية، بالهبوط إلى قرار الكتمان، ولأنهم يؤمنون بهذا، سيحضرونه، غدا، أو بعد غد، ليواجهني.

 

ترى، كيف سيكون شكله؟ وكيف ستكون ملامحه؟ هل سيقدر على النطق؟ على استخدام الأحرف والكلمات؟ ولم لا؟ فهو تحدث بالأمر، سواء كنت موجودا أم لا، المهم انه تحدث، بل تبرع بالتحدث، دون سبب، ودون مبرر.

 

آه يا أمي، لو تعلمين كيف جرت الأمور، لو كنت موجودة معي حين دخلت الغرفة، وكان هو يجلس على كرسي في زاويتها، التقت عيوننا مرة واحدة، حدقت به بكل طاقتي، بكل إمكاناتي، انزل عينيه إلى أسفل، وبدأ يروي القصة، بتمهل، وتأنٍ، لم ينس أي حرف مما قلت، لكن وجهه كان يطفح بالحمرة، وجسده يرتجف، وفي لحظة ما، وقف عن الكلام، نهض واتجه نحوي، كنت مقيدا، وكنت ابكي، لم أتمنى يوما أن أراه في مثل هذا الموقف، أشفقت عليه، وودت من كل قلبي أن أضمه إلى روحي، السنين التي سأقضيها خلف القضبان، اقل ألما ووجعا من منظره وهو يمارس وشايته أمامي.

 

اقترب مني، تعودت ومنذ زمن طويل أن اسمع نبضات قلبه، أن اسمع خفقات روحه وهي تتلاحق لتشكل حياته، اقترب مني، عرفت انه يود أن يقول شيئا ما، أن يفصح عن شيء ما، لكنه اختنق، وقفت الكلمات بحلقه، فسدت مجرى التنفس، عاد ليتهاوى على الكرسي، هناك أمر يقف بيني وبينه، هل كنت غبيا طوال سنين علاقتي به، أم كان هو خائنا طوال تلك السنين ببراعة فاقت براعتي في إخفاء السر عن كل الناس، إلا عنه هو، أنا لم احدث والدي وهو بالقبر، ولكني حدثته هو، عن أية براعة أتحدث، لم يطلب يوما أن أحدثه عن حياتي، أنا، بمحض إرادتي، حدثته بالأمر، الذنب ذنبي، لو لم املكه سري، ما كان اليوم يقف قبالتي ليهز كل سنين عمري وشبابي.

 

وحين أخرجوني من الغرفة، التفت إليه، خلت انه سيبكي، لكنه كان يضحك، ضحكة مريبة معقدة، كانت بسمته اخر ما رأيت.

 

لحظة خروجي، بعد أعوام طويلة، من بوابة السجن، كنت اعرف أن أمي ماتت، وان بيتنا أصبح خاويا، عرفت قبل أن أطأ الشوارع، بان المخيم انقلب انقلابا تاما، وان عجائزه قد رحل الكثير منهم، ولكني رغم ذلك، اتجهت بكل قوتي وعزمي نحو البيت، حيث تركت أمي وهي تقول " يما أنت ابن بطني "، كنت بحاجة ماسة، لأشاهد البقعة التي انتصبت قدمي أمي فوقها.

 

وحين دخلت البيت، كانت أختي الكبيرة وأولادها يملأون البيت، قالت أختي حين أدارت ظهرها إلي، بعد أن صاح أولادها، خالي، خالي، انظر إلى عود الجوري، حين غادرت كان أشبه بالميت، انظر إليه.

 

ولحظة وجهت نظري نحوه، رايته شجرة ضخمة، تنتصب على أعالي أغصانها أزرار الورد المتفتح. 

مأمون احمد مصطفى - فلسطين- مخيم طول كرم 

 

 

الموت في لندن

 

 

{هذه القصة مهداة إلى السيدة لينا أبو الرب، ألتي شكلت الشخصية الرئيسة لأحداثها}

 

عزيزي يوسف

        

لا أعرف تماما لماذا أكتب لك هذه الرسالة، ولا أدري لماذا اخترتك دون غيرك من بين جميع أصدقائي لأوجه لك هذا الخطاب. ولكني على يقين تام بأنك كنت تربك هواجس نفسي لا شعوريا، حين كانت تحلق أفكاري على مساحات الوحدة والانطواء، التي لفعتني بظلالها القاتمة وأنا أنتظر دخول غرفة العمليات، ليتمدد جسدي فوق سرير السلخ، وتحت كشاف حاد النظرات، وقح العينين.

        

لا بد وانك تعلم مدى شجاعتي ورباطة جأشي فيما يتعلق بموضوع غرفة العمليات. إلا أنني هذه المرة عانيت معاناة شديدة. أوصلتني إلى حد الرعب من إجراء مثل هذه العملية. ولا اعلم حتى الآن سبب هذا الرعب. إلا أن فكرة الموت سيطرت على عقلي سيطرة كاملة، حتى وصلت إلى درجة الإيمان العميق بأن يوم وفاتي متعلق تماما بيوم دخولي غرفة الجراحة. وبدأت هذه الفكرة تتسلط على نفسي وتتناوشها من شتى الجهات، حتى اعتصرت حمرة أناملي وتورد وجنتاي. وقذفتني بكل سوداويتها إلى إحساس مجهول أمام تصور الموت، ومفارقة الحياة. الحياة الزاخرة بتدفق الروح والنشاط في كل شيء.

       

الجبال، الوديان، الأشجار، الحيوانات، الامتدادات الهائلة للفضاء الرحب، فبدت الدنيا عزيزة، عزيزة إلى حد الجنون. وأصبح مذاقها في ظل شبح الموت المسيطر على عقلي نابضا بعمق حيوي نشيط، لا يفتأ يحمل في جنباته صورا رائعة مضيئة لكل شيء. حتى المآسي ظهرت أمامي وهي ترتدي زخرفا من ضياء خلاق، يخلب العقول، وينير ظلمات المجهول، ألموت، ما أقسى هذه الكلمة حين تستحيل في عقلك إلى كائن حي يمسك بتلابيب دماغك ليجرك نحوه بكل ما يملك من عناد وتصخر نحو هاويته العاجة بسواد ممعن في عمق لا نهائي.

       

فتقفز في عقلك التساؤلات مثل مخالب فولاذية تدميه بإنغراساتها الحادة:- كيف أفارق هذه الدنيا؟ هل أترك كل شيء ورائي هكذا؟ أأترك هذه الجبال وتلك السهول؟ وكيف أخلف خلفي تزاحم الأقدام في الشوارع؟ وأصوات الباعة وطعم البرتقال؟ ولذة التدخين؟ كيف لا أفيق مبكرا على هدير الحياة ولا أهجع مع هجوع الليل؟.

        

أمي، أبي، أخواتي، زوجتي، أبنائي، زملائي، أصدقائي، كيف أفارق هؤلاء جميعا، هكذا ببساطه، وبلا أي معنى واضح في عقلي عنهم. فالسنين التي عشتها معهم لم تكن كافيه بكل ما في ثوانيها من زخم لأن أكون معنى واضحا عن أي فرد فيهم. إنني الآن في ظل لحظة هبوط شبح الموت على نفسي، أنظر إليهم بصورة مختلفة عن نظرتي السابقة. الآن، أجلوهم بكل طاقة عقلي ونفسي معا فأشعر بوهن عارم يظلل صورهم وحركاتهم، وأحس أثناء محاولة استعادة صورهم بضعف شديد قاتل. وأغرق في بحر مشاعري المستفزة القلقة، مثل غريق يقاوم حواما لا أمل للنجاة منه، لكنه يضرب، بيديه وقدميه، بكل ذرة من ذرات جسده، بعنف، بقلق مضطرب معذب، لكن الحوام يشده للأسفل وفي عينيه تتبدى نظرات هائلة، مروعه، حيرى، نحو الشاطىء، نحو الرمل، نحو الحياة.

        

أماني، أمالي، طموحاتي، مشاريع حياتي، خطط المستقبل، كيف تنتهي دون أن أكمل شوطي فيها. الموت، الموت سيبترها، يتركها ناقصة شوهاء، تسير على قدمين ولكن دون جذع، دون رأس.

       

مشاعري، نار عملاقه مستعرة، وأحاسيسي دخان اسود كثيف، فتلك تكويني، وهذه تعوم في صدري وعقلي، ولا أستطيع بين الاثنتين إلا الهروب من ذاتي إلى ممرض أرجوه وأتوسل إليه أن يمنحني شيئا يدفعني لقبو النوم المعتم، الذي لا حياة فيه للعقل، ولا رؤى للمشاعر، وأسلم نفسي كارها لسرير وغطاء هما في مثل هذه اللحظات، أوفى وأعز الأصدقاء.

       

وأفيق مشدوها، تلاحقني كوابيس متداخلة، غير منتظمة، ألوان كثيرة حادة فاقعة تتداخل ببعضها وتتشابك ثم تنعقد، عقدا شيطانية متنافرة لا تظهر بدايتها ولا نهايتها، فأحس رأسي ثقيلا، تنوء كتفاي بحمله، وصدري تعوم فيه اختلاطات عشوائية وأمتليء رعبا خانقا فوارا من جديد، فأفر من بين خيوط وحدتي لأنزلق بين جماعات المرضى الضاحكين، والذين لا معرفه لي بهم ولا صلة، أجلس بينهم أستل من صدري ابتسامة ضبابية لأعلقها على قسمات وجهي وفوق شفتي.

 

ومن بين هذه الجماعات كنت أنحدر نحو السلوى ببطء شديد وأغرق معهم في عوالم متنوعة مختلفة، كل عالم لا صلة له بالعالم الذي قبله، وكل ضحكه ترن وتدوي في أرجاء الصالة لا داعي لها، ومع ذلك أغرق في عوالمهم المفتوحة، وتدوي ضحكاتي في مساحات الجدران وإشعاعات المصابيح المتدلية من السقف، وتغرق عيناي بدموع قهقهات عالية ينحني جذعي معها مرات متلاحقة وسريعة كحرذون يؤدي صلاته وقت الظهيرة.

       

وحين كان يقذف الليل سدف ظلمته على الكون، كنت أنسل من فراشي للاستراحة، أتأمل الأفق وهو يتبقع بدماء الشمس، بقعا فاترة الحمرة هنا وهناك، ثم تندمج هذه البقع مرة واحده لتطلي الأفق على امتداده بحمرة قانية نزفتها الشمس قبل دخولها بأعماق الأفق البعيد عن العين أو قبل غطوسها بأعماق البحر لتغتسل من أعباء نهار مضن وشاق.

كنت إذ ذاك أشعل سيجارة من أخرى، ليس حبا في التدخين، إنما بحركة أليه اعتيادية، وما أن تتلفع الأرض بتلك السدف تلفعا تاما، حتى تجدني جالسا كتمثال شمعي غارقا ببحر أفكار صاخبة عاتية الموج.

        

وذات ليله، وفيما أنا غارق في أفكاري، أحسست حركة بجانبي، وحين رفعت رأسي وجدتها جالسة بمحاذاتي تماما، يداها منتصبتان على رجليها، وجهها متكيء على كفيها المفتوحتين لاحتضان الوجه من الذقن وحتى الأذنين.

        

ذهبية الشعر، وجهها أقرب إلى لون سنابل القمح، يتوسطه أنف صغير مستدق الرأس، وفم حين يفتح تظنه ما زال مغلقا، وعينان حائرتان ينبعث منهما بريق متألق، لكن سرعان ما ينكسر فور خروجه منها.

        

تطلعت إليها دون مبالاة، وبحركة لا شعورية، وكأنني انظر ببلاهة في الفراغ، إلا أنني أمام إصرار نظراتها وعمقها أحسست برعدة تسري في جسدي كرعدة برد مفاجئة أمام شمس متألقة، حدقت بعينيها، فأيقنت عندها بأنها تضرب أعماقي، تسبرها، تغوص فيها منقبة، إلا أنها أمام امتداد نصل نظراتي وبريقه اضطرت للتراجع، وكان تراجعها ثقيلا، يزحف في عينيها زحفا حلزونيا، وأضحت لفترة غير بسيطة،

كأنها تنسحب من عالم إلى عالم، الأمر الذي حيرني ودفعني للتساؤل: أن كانت تحس بوجودي بمحاذاتها أم لا؟ ولم تلبث أن أطلقت تنهيدة حادة ارتفع على أثرها صدرها وهبط بقوة، فأحسست تلك التنهيدة تغوص في صدري مثل دبوس يخترق اللحم بقوة خاطفة وسريعة.

       

مددت يدي بحركة تلقائية نحو كوب الشاي الفارغ، في محاولة صبيانية للهرب من الموقف، لكنها تنبهت لحركتي بسرعة، فانتصبت لتأخذ الكأس من يدي وتغادر الغرفة دون أن تنبس بحرف واحد. وما هي إلا لحظات حتى عادت وكوب الشاي بيدها مملوء حتى شفته العليا، وضعته على الطاولة وعادت لجلستها من جديد دون أن تنبس بكلمة واحدة مرة أخرى، وكان علي، من باب الأدب، الأدب فقط، أن أشكرها، ولكن بحذر شديد لا يفتح لها مجالا لدخول عالمي بأي ثمن مهما بهظ، لأني لا أريد أن أضع على كاهلي عبئا جديدا، يكفيني إحساسي المتلاحق بقبضات الموت في عقلي.

-أشكرك على الشاي.

        

حدقت في من جديد، كانت عيناها تطفحان بالرعب، بالمجهول، وفوق جفونها ظلال زرقاء مشربة بصفرة باهتة، يبدو الألم والحزن عليها واضحا بكل عمق وقوة. وحبات من دموع تقف على الجفن، مثل زجاج شفاف مصقول، إلا أنه مشعور من الجهة اليمنى ومخدوش في الوسط، غامت الدنيا بعينيها، ولم تغب قليلا حتى أنهلت مطرا شديدا وحارقا، إلا أنه صامت. صمت المقابر وسط الليل، وانساحت الدموع على خديها غزيرة فياضة، كجدول فضي على أديم من ذهب خالص.

        

نفرت أعصابي بقوة، أطلت برأسها من هجعة سلوى قصيرة، كالأفعى حين تطل برأسها من جحرها، حذرة متوترة، لكنها دائبة الاهتزاز. أردت أن أبكي، أصرخ، أحطم زجاج النوافذ بيدي، أضمها لصدري، أحفر فيه ملجأ أخبئها فيه، أرفسها برجلي، أركلها خارج الاستراحة، أقذف نفسي خارج الاستراحة، أمسح دموعها، أفعل أي شيء. إلا أنني ظللت مكاني، كما أنا عاجزا، مشلولا، لا أنفع لشيء على الإطلاق.

       

- زوجي سيموت بعد شهر.

       

وجمدت مكاني، مثل قالب ثلج، تيبست أحشائي، واندفعت برودة عنيفة في عمودي الفقري، مثل برودة البنج في الوريد، ورقصت معدتي مكانها. الموت، الموت مرة أخرى. أنا لا أعرف كيف مرت تلك الكلمة مثل ألسهم كي تستقر في دماغي. ثم لأرى نفسي مبطوحا فوق دكة الغسل والناس تغرق فوق جلدي أباريق الماء وهم يدمدمون بحلاوة الأجاص، ونكهة التفاح، ومذاق العسل.

        

- س... يمو... ت... بع...د...شهر.

        

خرجت الكلمات من فمي، كل كلمة مولود، مولود له آلام مخاضه، وضعتها بعد جهد، والعرق يتفصد من جسدي كله، وشيء يهز قلبي والأعماق بوحشية قاتلة، لا رحمة فيها أبدا.

-نعم هكذا أخبر الأطباء.

-لكن الموت بيد الله.

-أنه مصابا بالسرطان.. سرطان الدماغ.

-قد يشفى.

-فات الأوان.

-وكيف تعرفين؟

-دعني أحدثك القصة من أولها.

       

ودون أن تسمع إجابتي بدأت تحدث: أتته الحالة مرة واحدة. صداع دائم في الرأس وزغللة في العينين. ألم عارض، كثيرا ما يحدث مع الناس. وتركناه، لم نكن ندري آنذاك بأننا لا نتركه ليأخذ حده ومن ثم ينتهي. من أين لنا العلم بأننا كنا نحفر النهاية في لوح الأبدية بأيدينا، بضحكاتنا وسرورنا. وتركنا ذلك الورم يعشش في دماغه، يفرخ، ويبني أعشاشا لفراخه، من أين لنا أن نعلم هذا؟

        

وحين اشتد الألم، عرضناه على الطبيب. الطبيب زميله، فزوجي أيضا طبيب، لكنه طبيب نفسي، أخبرنا بالحقيقة. صفعنا بها صفعة مروعة. لكنه استدرك: هناك أمل، لا بد من إجراء عملية جراحيه. ولكن ليس هنا، إنما في لندن.

        

وكان يجب أن يسافر، بأي ثمن، ومهما كانت الظروف. العملية يجب أن تجرى، بدون تأخير، وبأقصى سرعة. ويفضل السفر على بساط الريح. الوقت ثمين، الساعة، لا، بل رمشة العين، إما أن تكون حياة، أوتكون موت. من الذي سيقوم برعايتي أنا؟ لا، ليس أنا، أبنه محمد، لا، بل إبنته آية. من سيمسك بذراعها يوم زفافها؟ أي ذراع غير ذراعه ستكون ذراعا ميتة، ينخل فيها الزيف، التصنع، الرياء، العفن، من سيعود في المساء ليحملهم على ساعده، ويدور بهم أرجاء البيت وضحكتهم ترن كأجراس الملائكة في قلب النسيم والهواء.

        

والسفر يعني ألافا مؤلفة، أكداسا مكدسه من ورق النقد، تملأ في حقائب السفر بدلا من الملابس، لا يهم، النقود يمكن أن تدبر، نبيع البيت بكل محتوياته، حتى كرسي محمد، وسرير آية، ثم نبيع ملابسنا، كل هذا لا يهم، المهم أن نسافر، أن تتم العملية بأسرع وقت ممكن.

       

كان وجهها وهي تتحدث ينتفخ رويدا رويدا، والدم يتصاعد من كل جسدها ليستقر فيه فيبدو مثل جمرة متقدة تحت نار مستعرة، يذوب على وجنتيها الحديد، وصدرها كان يعلو ويهبط كسرير هزاز حين يضرب بقوة، فتسمع قعقعة القلب وهي تنازع العظم وتدفع الرئتين. وتجمرت عيناها، فبدت وكأنها مغطسة بدم نازف للتو، شبحية، تضيء، تتوهج وتنطفىء فتبعث في القلب رعبا مجهولا غامضا، لكنه رعب ينقر القلب من سويدائه، فيجيء إثر نقرته غثيان، زوفان في المعده. فترتج الأحشاء. أصابعها كانت تتشنج حين تشير بها لترافق كلماتها بالحركة. وتنثني بجسدها فينتابني إحساس بأنها شلت، تليفت، ولن تعود للحركة من جديد. وجسدها، جسدها كان يرتعش، يهتز بقوة ضارية وكأنه معرى أمام عاصفة جليدية، تنخر العظم وتفتته، دون عناء، دون جهد.

        

أما أنا فقد كنت تائها بصحراء الذهول التي لا أثر للسراب فيها. كنت أرفع نفسي عن الكرسي وأعاود الجلوس، لماذا؟ هكذا دون سبب، دون وعي، دون إرادة. أفتح فمي وأغلقه، دون سبب، دون وعي، دون إرادة أيضا. دماغي أصبح كسيحا لا يعمل. شل تماما. أما عيناي فقد كنت أحدق بهما لوجهها، ولكن دون أن أراه. كنت قد تحولت لأذنين فقط. ولو نظر الناس إلي ساعتئذ لامتلأت قلوبهم هلعا ورعبا، لقذفوا أنفسهم من زجاج النوافذ، لأنهم لن يروا سوى إنسان كله أذنين فقط.

       

وسافرنا، بعنا ما نملك، وسافرنا، غرباء في أرض غريبة. ورأس زوجي يتضخم، يكبر، يتساقط الشعر عنه، وأضحى غريبا عن جسد صاحبه، وعني. ودخل معنا أرض الغربة وفي جوفه مخلوق صغير صغير لا تراه العين، أدق من رأس الإبرة بملايين ملايين المرات، لكنه قلب حياتنا وبدل أوضاعنا، غير أجسادنا، نقل القلب مكان العين، وزرع العين مكان القلب، فأضحت وجوهنا خافقة وأعماقنا باكيه. وتمت الفحوصات الأولية. والنتائج، آه ما أقساها. أنه هو، هو، دون شك، ذلك الكائن الغريب يتوسط الدماغ، ينمو، وينمو، حتى أصبح بحجم البيضة، والعملية لا بد من إجرائها، وحدد الموعد بعد ثلاثة أيام من وصولنا.

       

والمستشفى كبير، كبير، متطاول في الأفق، يرنو للسماء، ومظهره جميل، متناسق، يشيع البهجة في النفس. لكنه كأي شيء غيره، لا تراه على حقيقته إلا إذا ولجت بكيانك إلى داخله. قلت أنه جميل، يشيع البهجة بالنفس، لكن من الخارج فقط. أما حين تلج بقدماك بابه، فأنه يصبح مدهشا للعقول. هو مخزن آلام البشر وصندوق عذاباتهم وتنهداتهم. فيه تصبح الدموع كاوية، تنزل على الوجنات فتذيبها كحامض مركز. وفيه ترحل كل يوم أرواح عن أجسادها، رحلة طويلة، طويلة مجهولة لا معالم لها ولا حدود. ومن خلف الأرواح تلك، تنخلع قلوب من صدورها لتسكن عمق الألم وقلب العذاب.

        

ومرت الأيام الثلاثة، استغرقت مسيرتها ثلاثون دهرا. وأتو إليه، يحملون مريولا أبيض مفتوحا من الخلف، يتدلى من جانبيه حزام من نفس اللون، وزرقوا الإبرة في العضل بعدما ألبسوه المريول وساقوه أمامهم وهو مستلق على السرير. وسرت معهم حتى باب غرفة العمليات. وهناك كانت اليافطة تجحظ بعينيها (ممنوع الدخول). فتسمرت كعمود ثلج في جبل جليدي.

       

وغزتني الغربة من جديد، اقتحمت قلبي كزلزال مروع، وأحسست صورهم أمامي "محمد وآيه" وهم يدورون بين الأشجار كأغصان نضرة، يلهون، يمرحون، ينطنطون مثل فراشات حمراء مزخرفة بألوان زاهية. وبكيت، وبكى. كنت ظمأى لصدر حنون، أرمي رأسي عليه، أمسح دموعي بجلده. لصدر أمي، أبي، أختي، أخي، أو حتى صدر محمد أو آيه الصغيرين اللذين لا يتحمل صدريهما حر أي دمعة.أو أي صدر عربي، يشعر جلده بحرارة دموعي، ويقفز قلبه مع شهقاتي وأناتي. لكني وحيده، دموعي، شهقاتي، أناتي وأحاسيسي كلها وحيده.

       

والدقائق ثقيلة، تزحف كسلحفاة هرمه أعياها التعب وأضناها المرض. والباب مغلق، ورأس زوجي مفتوح، ينز دما، وجسده لا يشعر، ومبضع الجراح يجول بدماغه، يبتر منه جزءا تلو جزء. وأنا أقف وحيدة، وعقرب الثواني يدق في رأسي فيدوي صوته كالرعد، وأحس بالخوف الشديد، بالفزع القاتل من مبضع الجراح أن يصل الجزء ألذي فيه محمد وآيه، أو الجزء ألذي أنا فيه فيبتره. صارعت الفكرة، الغربة، صوت الرعد في رأسي، صورة محمد، طيف آيه، ولكني إنسانة، فسقطت. وكان أخر ما سمعت صوت رأسي وهو يصطدم برخام الأرض.

        

وأفقت، لا أدري كيف؟ كنت مسجاة على سرير بجانب سريره. وكان سريره لا يزال فارغا. نهضت، لا، حاولت النهوض. لكن جسمي كان ثقيلا، ثقيلا، لأول مرة أحس بمثل هذا الثقل، فلم أستطع. أدرت وجهي للنافذة، فبدت الشوارع أمام عيني وهي تنبض بالحياة، تزخر بالناس وهي ذاهبة آتية، والسيارات، الحافلات. وهناك من خلال النافذة، رأيت رجلا يجلس بجانب امرأة يلف كتفها بذراعه وبكف يده يداعب خصلات شعرها الأمامية، وأمامهما طفل وفتاة صغيران، يدوران كفراشات حمراء مزخرفة بألوان زاهية. وحين يقفزان بحضن أبيهما، ينهض والفرحة تتشقق من وجهه نورا قدسيا. فيحمل كلا منهما على ساعد ثم يبدأ بالدوران وضحكتهم ترن في أذنيً رغم البعد ورغم الحاجز الزجاجي، مثل أجراس الملائكة. فتحجرت الدموع بعيني. زوجي لا يزال هناك، ومبضع الجراح لا يزال يتجول بتمهل في دماغه. يبتر جزءا من هنا وجزءا من هناك، والناس خلف النافذة تلهو، تضحك، ولا أحد منهم يعلم بأن زوجي مسجى على سرير قد لا ينهض عنه أبدا. وليس فيهم من يستطيع أن يحس بالنار المتقدة بأعماقي، بكياني كله. وأنا لا أزال أبحث عن صدر حنون. صدر عربي، أرمي رأسي عليه وأغسل دموعي بجلده، ولكن دون جدوى. ورأسي يثقل، فأدخل النوم دون حاجة إليه، دون إحساس به.

        

وأخرجوه أخيرا، ملفوف الرأس، لا يبدو منه غير عينيه، جثة هامدة، لكنها تتنفس. سجوه على سريره وذهبوا. تركوني معه ذاهلة، مقصوفة الإحساس، حائرة المشاعر. تنساب الدموع، لكنها لا تخرج. تبقى في العينين تكويهما بلظاها. أقف لا أدري ماذا أفعل، أبكي، أضحك، أصرخ، أضرب رأسي بالحائط، أحتضنه، ولا أفعل شيئا. أظل واقفة والصدر الحنون لا يزال حلمي الوحيد في تلك اللحظات.

        

ومضت الأيام، كلما ذهب يوم ظهر جسده أفضل من سابقه. وبدأ رأسه يعود لحجمه الطبيعي ببطء. بشائر خير، روح تعود للجسد. ذلك الكائن الغريب يتضاءل أثره، فنشعر بالنشوة، بالفرح. وتراخى شعور الغربة، تضاءل حتى لم أعد أحسه. دفنت رأسي بصدره وأجهشت بالبكاء والقهقهة في آن واحد، وغسلت دموعي بجلد صدره. وضممت رأسه بين كفي برفق ولطف، وهمست بدماغه بصوت ناعم خفيف "محمد، آية". فانتعش الدماغ وتوردت الحياة فيه، وتوهجت بسراديبه أنوار الذكرى، وتمدد بسرعة حذرة ليسد الفراغ الذي تركه مبضع الجراح. ربت على كتفيه، هدهدت جفونه بأناملي، فاستولى عليهما النعاس، وتكثف لحظة وراء لحظة كغمامة نقية، حبلى بالغيث. ثم سقط النوم عليه صافيا مثل دموع السماء. فتألق بريق وجهه ونما حتى أكتسى به الجسد كله. تركته وخرجت. الجذل يسير معي، والبهجة تطفح في نفسي حتى أصبحت خفيفة خفة ريشة دوري يتوسط أشجار الربيع وزهوره. وصعدت دون قصد للطابق العلوي، فأدهشتني المفاجأة. صدقني، فرق هائل واضح بين هذا الطابق والطابق الذي نحن فيه.

        

طابقنا فخم رائع، لكن هذا الطابق يعج بالفخامة، ويفيض روعة. فالسجاد المفروش على أرضه، بلونه العنابي الزاهي، الذي يخلب العقل سميك جدا. تغوص فيه القدم حتى الجوزتين، فتشعر نعومته العذبة تدغدغ أقدامك بملمسها الحنون. وجدرانه مطلية بلون أبيض حليبي ناصع، شديدة النظافة، يتوسطها لوحات فنية زيتية لفنانين متعددين، لكنها متوحدة المضمون. تعج بالحياة وتزخر بالملائكة والجنة. لكنها آية في الروعة. دفقة إنسانية أمام إغراء الحياة وسعادة الآخرة. مضمون متوحد، لكنه متنافر، الحياة، الموت. أو بمعنى آخر، الدنيا، الآخرة. وفي الصالات توزعت الأرائك والطاولات الفخمة بأسلوب رفيع ينم عن ذوق عالي الحساسية، والأسرة الخضراء الناعمة الملس كريش النعام، كانت عريضة بحواف مستديرة، فيبدو النائم عليها وكأنه يغوص ببساط ربيعي شديد الكثافة. وفي كل غرفه خزانة محفور خشبها بتشكيلات هندسية غاية في التعقيد، لكنها غاية في الجمال أيضا. وعلى كل هذا الجلال، كانت تنسحب أصداء موسيقية عذبة، هادئة، تسري بالأوردة والأعصاب، وتدخل مسارب الروح، فتحلق بها نحو أعالي الطمأنينة والوقار. وفي هذا الطابق كان الأمر الملفت للنظر، أن المريض ما عليه سوى التمني، وما على المستشفى إلا أن يلبي، وحين سألت إحدى الممرضات عن هذا الطابق، أجابت انه مخصص لمن ينتظرون اجلهم بعد وقت قصير.

       

وبدأت بالتردد اليومي على ذلك الطابق. فاكتشفت معنى التناقض، عرفته عن قرب، كان واضحا جليا في الوجوه التي تنتظر نهايتها، وهي تدرك انه لم يتبق لها على هذه الأرض سوى أيام أو شهور. وبعدها تذهب للأرض، للدود، للتحلل، فتبدو ساهمة حزينة. وبعد لحظات تضج في ملامحها القهقهة العالية النابعة من القلب، وبعد لحظات تنهال الدموع غزيرة مع أنات تملؤها الحسرة، وعيون تتشبث بالدنيا. وما هي إلا دقائق حتى يدخل أولئك الذين كانت الدموع تملؤ عيونهم في حديث ساخن عن المستقبل وضرورة تغييره نحو الأفضل، ومحاولة التكيف مع ما يحمل من صعوبات وعقبات. وكنت أتساءل بيني وبين نفسي: أي مشاعر يحياها هؤلاء؟ وكيف يغيب الموت عن عيونهم ولو للحظة، ما داموا يجلسون هنا فقط من اجل انتظاره؟ وما الفائدة من الكتاب الذي يحمله بعضهم في يديه، يتأمل كلماته، وكيف يستعذب هذه الكلمات وعضة الموت في حلقه؟

        

وظللت على حالي هذا حتى أعلن المشفى ذات يوم أننا قادرون على العودة إلى بلادنا، ولكن بجب أن تؤخذ صورة طبقية للدماغ بعد ثلاثة أشهر، من أجل الاطمئنان فقط، وموافاة المشفى بالنتيجة مباشرة. ولم يمض على القرار يومان حتى وجدنا أنفسنا على مقعدين في الطائرة المغادرة لندن إلى عمان.

        

قضينا الأشهر الثلاثة سعادة، نهلنا من الحياة، وشربنا من كأسها حتى الثمالة. وجاء اليوم الأخير من الشهر الثالث، فكانت الصورة الطبقية تقول: أن ورما جديدا بحجم البيضة قد تشكل مرة أخرى بالدماغ. وجاء صوت الطبيب: يجب السفر إلى لندن بأقصى سرعة ممكنه، وعلى بساط الريح أن أمكن. قالها وسكت. انصرف لمريض اخر. وانصرفنا نحن نبحث عن شيء يمكن أن يكون قد تبقى لنبيعه، ولكن لم يتبق سوى أحدهم يمكن أن يباع "محمد أوآية". عرضناهم، لكن أحدا لم يتقدم لشرائهم أبدا. وتدبر الأهل أمر المال.

        

وسافرنا لنعود بعد أسبوع بجملة واحدة:( لا أمل في شفائه، ليكن الله بعونكم ).

 

عزيزي يوسف:-

        

كل ما كتبته أنفا كان نقلا، لم أشاهد أي شيء منه على الإطلاق، ولكني نقلته لك بأمانة الحرف والكلمة، لم أزد عليه شيئا ولم أنقص منه شيئا.

       

لكني اليوم رأيته، نعم رأيته، كان رأسه متضخما بشكل ملفت للنظر، ووجهه كان متورما تورما قبيحا يبعث القشعريرة في البدن، ذو بطن منتفخ كطبل فارغ مبعوج من الوسط، متهدل الأطراف، وشعر رأسه متساقط تساقطا متفرقا، بقع صلع متفرقة بين بقع شعر متبقية. لا يستطيع الوقوف على قدميه، لذا فزوجته تجره في جولات متفرقة أثناء النهار على كرسي متحرك. لا يتكلم، وإن حاول ذلك فإنه بعد جهاد عنيف يصدر صرصرة منفرة غير مفهومه. وكل ما فيه، إن كان لنا أن نقسم الإنسان إلى أجزاء، عينان تدوران في المحاجر، يرى من خلالهما الناس والحياة، ولكن تتوسط هذه الرؤية صورة الموت وهو يطوي مسافات السماء والفضاء قادما إليه.

        

كان ابنه محمد يتسلق الكرسي ليجلس بحضنه، فيطوقه والده بذراعيه تطويقة غير مكتملة لعجز جزئي في يديه على ما يبدو. وحين كان يدخل الغيبوبة، كان أهله يقفون فوق رأسه، ينظرون إليه والدموع تتفجر تفجرا من عيونهم، كنت أسمع صداها كصاروخ متفجر. ورحمة ألله فوق كل شيء، أنه لم ير هذه الدموع وهي تتفجر هكذا. رحمة ألله أنه لم يكن يخرج من غيبوبته وهم على مثل هذا الأمر. كان يسير نحو الموت بخطى سريعة، وكان يعرف هذا الأمر، وكذلك أهله. كانت زوجته تعاني، تتألم، لكن بصمت. لم يحدث أن خرجت عن طورها بعد أن أيقنت بمصيره، إلا تلك الليلة التي حدثتني فيها قصتها – هكذا عرفت فيما بعد – حتى حين كانت تجلس وقت الغداء تطعمه في يديها بهدوء وبطء، وفجأة، يتجشأ كل الطعام الذي أكله والشراب الذي شربه بقوة عليها، كان تجشؤه مخيفا، مقرفا، رغم شعور التعاطف ألذي يحمله له الإنسان كمريض يسير نحو الهاوية. كان يقذف الطعام من جوفه على دفعات، وبقوة داخليه، فيتناثر عليها وخاصة وجهها الذي يكون مقابلا لوجهه تماما.

       

بهدوء غريب كانت تنهض، تبدأ بغسل وجهه وتنظيف الرذاذ الذي تساقط على صدره وقدميه، ثم تساعده بالصعود إلى السرير، ومن ثم تدخل الحمام لتنظيف نفسها وتبديل ملابسها. كان هذا حدثا يوميا، وقد يتكرر مرتين في اليوم. وحين يخيم الظلام تذهب لبيتها، فيأتي والده مكانها. يغلق الغرفة عليه وولده، ويجلس قرب رأسه يتلو آيات من القرآن الكريم بصوت منخفض غير مسموع بوضوح، ويبقى على حالته هذه إلى أن تنفرج أصابع الليل عند انبلاج الصباح.

        

حتى المرضى النفسيين الذين كان يعالجهم هذا الطبيب وهم في نفس المشفى، كانوا يتسللون في الصباح الباكر فرادى وجماعات ليأتوا إليه، وكانت الغرفة تغص بهم وبهديرهم، ونواحهم، ومن أفواههم تتعالى الدعوات متضرعة لله أن يمُن على طبيبهم بالشفاء، كان صوت بكائهم يتناهى لمسامعنا حادا، ملوًعا، ممزقا. دموعهم يملؤها ألصدق، وتضرعاتهم محشوة بالحسرة، معبأة بالأمل، لكن الموت لا يسمع، ويسير وهو يضع في أذنيه حشوات من رصاص مذاب، كالرصاص المذاب في صدور هؤلاء المرضى الذين يتحرقون ألما على طبيبهم الذي أحبوه.

       

وأخيرا أجريت العملية، تمددت على سرير السلخ وتحت الكشاف الوقح، وخرجت سليما معافى لا من مرضي الذي أعانيه. بل من فكرة الموت، وقضيت ساعات هائلة وأنا تحت تأثير البنج، هاجمتني كوابيس متلاحقة لفترة طويلة. كنت أغمض عيني من شدة الألم فأرى أمي، وحين افتحهما وأمد رقبتي للأمام محدقا باحثا عنها، لا أجدها. وأغمض عيني من جديد، فأرى أبي وهو يبتسم ابتسامته الحانية، وفي عينيه بريق رجاء، وحين افتحهما يطير طيفه مع ابتسامته الحانية وبريق الرجاء الذي بعينيه. واغمضهما من جديد فأرى أمامي أختي، وأخي، ابناؤهما، ولكن لا تلبث هذه الأطياف أن تطير حين افتحهما من جديد.

       

قضيت بضعة أيام في المشفى للتأكد من عدم وجود التهاب في الجروح التي شقوها في يدي ورجلي، ثم حصلت على الإذن بالخروج. بدأت تجهيز أوراقي مباشرة ولففت متاعي، ولكني لم ألف أي هدية، لاعلبة حلوى، ولا كيس تفاح، ولا باقة ورد مكتوب عليها: " مع تمنياتنا بالشفاء العاجل " فقط منامتي وبعض الكتب، كانا كل ما أملك، فلا أهل لي في أرض الغربة ولا أقارب يأتوني بتلك الباقة من الورد وعليها تلك الجملة. وقبل أن أغادر ودعت المرأة الذهبية ألوجه وأنا مشفق عليها، أمتلىء حسرة على تنهداتها وتأوهاتها، ووعدتها بالاتصال بين فترة وأخرى. وخرجت، وحيدا أحمل يدي على عنقي بعلاقة خاصة، وأجر جرحا طويلا بقدمي، وليس على الباب من يقف ليقول لي ولو مجاملة محضة " الحمد لله على سلامتك ".

        

وبعد أسبوع اتصلت بالمشفى هاتفيا وطلبت تلك المرأة، فرد علي الصوت مستفسرا " زوجة الدكتور مجدي؟" فأجبت : "نعم"، وجاء الصوت من جديد " البقية في حياتك، لقد توفي الدكتور ." وأغلق الخط.

        

وفي عيني كانت آية وهي ترتدي ثوب زفاف أبيض، وحيدة، ليس هناك من يمسك ذراعها. وفي عينًي أمها، صورة الدكتور مجدي وهو يتجشأ الدنيا تمسكا بها وخوفا من الموت. والموسيقى تصدح، واثنتان، اثنتان فقط لا تسمعانها، لا تحسان بنغماتها، "أيه وأمها ".

مأمون أحمد مصطفى - فلسطين- مخيم طول كرم 

 

 

ضجيج الصمت

 

 

وحيدا تجلس كعادتك، ترنو للسماء المتناثرة بها النجوم لآلئا في ظلام الوجود والعدم. وتارة ترنو للأفق البعيد بعينيك الذابلتين المرهقتين. فأحس وأنا أنظر إليك من شرفتي المقابلة أنك تلقي حبالك على المدى ألذي تحيطه عيناك لتدنيه إليك أكثر، لترى ما هو بوضوح أكثر، لكن حبالك كانت تنزلق في كل مرة جارحة بكلاباتها نسيم الصيف الناعم الطري. فيداهمك إحساس بالفشل والإحباط، ودون شعور يتقدم رأسك للأمام، مع اتساع ملحوظ بالعينين، ليستشرف أبعد من المدى المحاط بإشعاعات عينيك، ولكن حين يرتد رأسك، وتستوي عيناك، كنت أعلم أن الفشل واليأس كانا جزءا مما علق بأهدابك وشعرك في رحلة العودة.

 

وفي الوقت ألذي كنت أثبت بصري عليك، صباح، مساء، لا اعلم لماذا كنت أحس أنك من جنس غريب؟ فجلدك المتجعد المترهل الساقط على بعضه طبقات فوق طبقات، ورأسك المغزو ليله بشهب بيضاء دونما تناسق، وكذلك حاجباك الكثيفان الملتقطان ببعضهما ألبعض. والأهم من هذا كله، هو نظرتك الغريبة التي تسبح كثيرا في بحر من الدموع الهائج بعينيك الغائرتين، الذابلتين، لتخرج على شاطئ الجفون مبللة باللون الأزرق وطعم الملح. المنبعث منها رائحة السمك والصدف، وكذلك رائحة الطحالب المميزة. كل هذه الأمور كانت تشدني نحوك بعنف غريب. وكثيرا ما خطر ببالي أن أقفز من شرفتي إليك، حتى لا أضيع الحماس، أو أترك له مجالا للفتور أثناء النزول من بيتي والدوران إلى بيتك. ولكني حين كنت أسدد نظرتي للأسفل، كنت أشعر وأحس بالهوة السحيقة التي ستلفني في رداء العدم لو قفزت إليك.

      

كنت أرثي لك ولحالك، حين أحدق بجلستك على كرسي الخيزران ألذي اهترأ وجهه من ملازمتك له، وأنت محني الظهر انحناءة ليست كاملة، وملق ذقنك على ساعديك المعقودين فوق جسر الشرفة الحديدي، لتوجه عينيك للشارع الزاخر بالأضواء الصفراء المنبعثة من أعمدة النور.

     

ترى ما الذي كان يوحي لك به هذا اللون الشاحب؟ وما هو شعورك أمام امتزاج الأضواء مع بعضها لتكون بحرا من الأمواج الخيالية الساحرة والخلابة؟ أم انك لم تحس بمثل هذه الأمور؟ أعذرني يا سيدي لتطفلي عليك، فأنا لا أعلم تماما كيف دخلت حياتي، هكذا، دون استئذان أو سابق إنذار. دخلتها بنفس الغرابة التي تتمحور في عينيك العميقتين، وكثيرا ما كنت أسرح بفكري داخل ذاتي، منقبا عنك فيها. وحين أكاد أمسك بك، كنت تفلت مني وكأنك مدهون بالزيت، الأمر الذي دفعني للاعتقاد بأنك جزء مني أو أنني جزء منك.

    

من أجل هذا فقط، لم أستطع مقاومة نفسي، كان لا بد أن أصل إليك. ولكن، المهم، هل تصدق أنه خطر ببالي كثيرا أن أقفز إليك من شرفتي المقابلة؟ لا، لا تنظر باستغراب، هذا ما حدث. ولكن دعني أسالك شيئا ما: لماذا تبدو هكذا؟ محدقا بالفراغ؟ باللاشيء؟ بالمطلق؟ وما هذا الترهل والتمطط البادي على جسدك؟ يا سيدي أنا لا أفهم لغة العيون، وكل ما يمكن أن يسعفني فيه عقلي المتواضع أن تحدث بشفتيك وتشير بعينيك، عندها فقط يمكن أن أفهم شيئا مما تود أن تقول. أما أن تحدثني بعينيك وتشير بشفتيك، فهذا ما لا أستطيع فهمه.

      

أنت لا تجيد لغة الشفاه، ليس لعجز في لسانك، بل لأن ما ستقوله يفوق حدود الكلمة البسيطة. ولنفرض جدلا أنك تحدثت بشفتيك، معنى ذلك أن القيمة الإحساسيه لما تعاني نفسيا وفكريا ستهبط إلى أسفل. وكل معاناتك ستتحول إلى كلمات، إطارات، محارات لؤلؤ مفتوحة. هل تعلم أنني أدرك مثلك تماما قيمة اللؤلؤ وهو لا يزال في جوف محاره. إن قيمته فقط، هي تلك اللحظة التي تكون معبأة بالانتظار والترقب. فحياة الغواص الآتية تكون مرهونة كلها في تلك اللحظة ألحرجه، لحظة الأمل أو الخيبة، فقبل أن يفتح المحارة، يظل مشدودا بأحاسيس تتنازعه وتتحداه، لتكون عنده شعورا لا يرسم أبدا، ولكن، هل رأيت مشهدا مثل هذا ؟ إذن دعني أريك إياه وصفا.

     

أنظر إلى يديه، هل ترى كيف ترتجف السكين بها ؟ وهل ترى عينيه ؟ حدق بهما ، حدق جيدا ، وإلا فإن نظرة الاستجداء سوف تقفز من مكانها بعيدا ، وسيفوتك عندئذ أن ترى معنى اللغة التي تجيدها تماما . لغة العيون. أنظر إلى عينيه باهتمام بالغ، إن فيها بريقا يكاد يقفز ليستقر داخل المحارة، لكنه يعود مرتعدا ليستقر مكانه. انها اللحظة الحرجة، أنظر معي من جديد، ولكن دع عينيك تخرقان الجلد الملوح بالشمس، والمطلي بزرقة البحر وأعماقه المجهولة. هل ترى ؟ إنني الآن،  أستطيع،  ودون أدنى جهد، ان أقرأ كل خلجه من خلجات نفسه، وأن أسمع كل خفقه من خفقات روحه، وكل نبضه من نبضات قلبه. إن مشاعره تلتف فوق بعضها إلتفافا متموجا، وتتشابك أحاسيسه بصورة معقده، وتتمازج جميعها فتحدث في النفس فوضى عارمة، هائلة، تدق بمطارق من فولاذ على العقد المتكونة من الالتفاف والتشابك، وإذا بأطراف المشاعر تحبس في صدى المطرقة الهائل. وفجأة تنتفض مشاعره وأحاسيسه إنتفاضة عنيفه، فيصعد صدره ويهبط، ويأخذ الغواص نفسا عميقا، كالنفس الذي يأخذه حين يمزق رأسه سطح الماء بعد عودته من رحلة الغوص في عالم السر والمجهول.

     

          ثم يعود ليحدق بالمحارة من جديد، وتتحرك يده اليسرى حركة خاصة لتمسك المحارة بشكل يجعل فاصلها خارجا من قبضة اليد، والبقية غائبة تحت الضغط الفولاذي المركز حولها. أنظر، ها هو يبدأ بتحريك يده اليمنى الممسكة بالمدية باتجاه المحارة. وأخيرا، استقر طرف النصل على فاصل المحارة، ضغط المدية قليلا باتجاه العمق، ثم حرك المدية حركه دائرية محاولا فصل شقي المحاره.

     

وغاص نصل السكين بعمق، فتأرجحت القبضة وسال الدم غزيرا، تعالى صوت شهقة. وطارت المحارة بعيدا نحو الشاطىء، احتضنتها موجه قادمة، وعادت لتسكن من جديد بأعماق المجهول، تنتظر غواصا جديدا، من يعلم ؟ قد تبقى هناك للأبد ، مغلفة بالتساؤل والاستغراب ؟

      

هل ترى يا سيدي ذلك الكف كيف ترنحت قوته ؟ ولكن،  قل لي ما هو شعور الغواص لو دار النصل دورة صحيحة في فاصل المحارة ؟ ماذا كان سيحدث ؟ ما الذي كان ينتظره ؟ هو سؤال بسيط، مضحك، أعلم هذا جيدا من عينيك، ولكن، مع بساطته وعبثيته، هل تستطيع أن تعطيني إجابه واحده صادقه عليه ؟ لا، لن تسطيع. ولن يستطيع أهل الأرض كلهم أن يعطوا إجابة على هذا السؤال، البسيط، العبثيً، هل تعرف لماذا ؟ لأنه الان أصبح نوعا من المستحيل، هل ترى يا سيدي بأن ما بيدك اليوم كحقيقة، قد يتحول بلحظة عين إلى مستحيل، فيكون غريبا عنك، وتكون غريبا عنه. وكأن ما كان بينك وبينه ليس سوى وهم، وهم يغيب ويتلاشى، كما يغيب الحلم ويتلاشى.

      

مالي أرهقك بمثل هذا الكلام، هذا المحار المفتوح، ولكن أنظر، هل هذا الشخص الذي يحاول أن يقطع الشارع ؟ هل تعرفه ؟ لا . حسنا، أنا أيضا لا أعرفه، وأعرفه، اسمه ماجد، وليس هذا الاسم أسمه الوحيد. أنا أعرفه أسماء وأشخاص، ولا أعرفه إسما أو شخصا، ومن أسمائه التي أعرفها، كذاب، محابي، متملق، مداهن، مرائي. لا يا سيدي، لا تستغرب، أنا لا أعرف فعلا معنى النظرة الصاعدة من عينيك إلى جبهتي، ولكني أعلم يقينا، بأنك مشدوه من هذا الشخص الذي حدثتك عنه. المهم أن هناك فرقا واضحا بينك وبينه، هو لا يكف عن الكلام أبدا، حتى سمعته يشكو إرهاق لسانه يوما، وأنت لا تكف عن الصمت مطلقا، حتى خيل لي أحيانا أن لسانك سوف يشكوك إلى نفسك.

       

لا يا سيدي، لا تنظر إلي بتقزز واشمئزاز، فليس ماجد وحده التافه، لا، ليس وحده، كلنا تافهون، نعم، أنني أعترف أمامك الآن بأننا جميعا تافهون. مع يقيني بأن هذا الاعتراف لن يغير من الأمر شيئا. أنت لا تصدق ؟ إذن دعني أسالك شيئا ما. ماذا تسمي الحروب ؟ ماذا تسمي الأشباح القابعة في الدول الكبرى - العظيمة - والتي تنتظر لحظة إطلاقها لتنتشل أرواح ملايين الملايين ؟ ماذا تسمي الدمية التي سقطت على اليابان ؟ ماذا تسمي الذي يشفق على ضحيته من صوت الرصاص فيذبحها بسكين غير حاد، ثم يبدأ بالرقص على أنغام حشرجتها ؟ ماذا تسمي الذي يذبح الأطفال أمام عيني أمهم، ثم يترك الأم حية دونما ذبح ؟ ماذا تسمي الذي بكى حزنا حين استقر رصاصه في جسد الجواد وأخطأ العائلة المتمترسه خلفه، ثم ذبح تلك العائلة بالسكين انتقاما للظلم الذي حاق بالجواد ؟ قل لي ماذا تسمي هذا ؟.

        

أما أنا فلا أسميه شيئا، لأني لا أبحث عن أسماء لأشياء لا مسميات لها. لا، لا تسألني. فأنا لا أجيد الأجابه مطلقا. ولكني أجيد وضع الأسئلة بشغف كبير لا يضاهيه إلا شغفي بالسباحه. دعني أسألك شيئا أخر: تقول أنك إنسان، حسنا، ولكن كي أصدق هذا الكلام، اخبرني ما هي قيمتك ؟ صعودك إلى القمر لا يمنحك أي قيمة على الإطلاق، لأنك ما زلت أجبن من أن تقف أمام شعاع من أشعة الشمس، وستبقى جبانا أمام هذا الشعاع ما حييت. ولأنك، وهذا الأهم – حين تموت لن تدفن في نسيج من ضوء القمر الذي صعدت إليه. بل في حفرة صغيره، وسيهال عليك التراب الذي طالما داسته الأقدام. ثم تترك وحيدا، وحيدا، أتدري ما معنى وحيدا ؟ لا أظن ذلك، لأنه معنى لا يدرك. إن معناه أن تدرك عالما قائما بذاته، فهل تستطيع أن تدرك عالما قائما بذاته ؟ لا، لن تستطيع، صدقني لن تستطيع. ثم، هل صعودك إلى القمر، يساوي رغيف خبز لطفل يتضور جوعا ؟ الجوع يقتات روحه، أعصابه، روحه ؟ كل ما صنعت، ما ستصنع، لا قيمة له على الإطلاق، لأنه خال من الحياة، من الروح. رغيف الخبز يا سيدي، اغلى وأثمن ملايين ملايين المرات من غرورك العفن، الضاج بالعفانه والزيف والكذب. رغيف الخبز هذا، حياه، حياة كامله. فهل تدرك حقا ما معنى – حياه-.

       

هل ترى يا سيدي ؟ أن قيمتك مرهونة بموتك، فإذا إستطعت أن تبقى حيا، لا بأس، تعال إلي عندئذ. وحتى تصل إلى تلك اللحظة دعني أكمل معك. قلت لك: إنك ستموت، وسيفرح كثير من الناس لموتك، وسيبكي كثير عليك، هل ترى ؟ انك ما زلت مجموعه من المتناقضات حتى بعد موتك ؟ ثم سينساك الجميع ، ينسوك كأن لم تكن ، أما أنا فسأظل ذاكرا لك ، أراك طريح الأرض هامدا ، والدود يزحف منك إليك ، غازيا جسدك ، ممزقا أمعاءك ، داخلا عينيك دونما خشية أو وجل ، ناهبا بؤبؤك ، مسيلا ماء عينيك على خديك ، مقتحما قلبك ، ناهبا كل ما فيك من لحم طري ، ثم يتركك ويذهب . وتبدأ مرحلة جديده، سوف تتحلل عظامك وتتحول إلى تراب. إلى الأصل الذي تكونت منه. وعندئذ لن يجدك أحد، ستصبح مستحيلا على البشر، كما أصبحت تلك المحاره مستحيلا عليهم. وسيدوسك الناس، دون أن يسمعوا تأوهاتك، حتى أهلك وأبناؤك قد يدوسوك وأنت تصرخ، ولكن لن يصل صراخك إلا صحن أذنك فقط.

      

قلت أني سأظل ذاكرا لك، نعم، وسأذكر وجهك بالذات كلما دخلت سوق الخضار، سأذكرك وأنت تبحث هناك عن شيء تأكله، ولن أنساك مطلقا. هل تدري أنني سأفكر فيك عندئذ ؟ ربما زرعت فوقك شجرة، وغاصت جذورها ممزقة أحشائك، ساحبة كل ما فيك غذاء لها، وتمر الأيام، ويأتي الربيع، ويقطف صاحب الأرض ثماره، دون أن يدور بخلده أنه يقطفك أنت. وستباع في الأسواق، ولسوف يتلذذ الناس بالسكر الموجود في التفاح أو الموز، دون أن يعلموا إنما يأكلوك أنت، أو، ربما تكون نبتة حنظل، من يدري ؟

        

كان ينظر إلي بفتور قاتل، أحسست أنه يسحب أعصابي من جسدي، بدأت أرتجف كأنما غزتني صاعقة عاتيه، وشعرت بشيء غريب من الخارج يسقط في داخلي، حدقت في عينيه، هناك شيء ما بهما، بريق يغوص بأعماق العينين. بدأت أخرج قليلا قليلا عن طوري، صرخت به كالمحموم، لا، لا تحدق فيً هكذا، شيء ما بعينيك يقتلني، شيء لا أعلمه، ولكني أحسه، أتحاشاه، لكنه سمر نظراته بأعماقي. أمتدت يدي دونما شعور إلى مدية على المنضدة، وبدأت أحز رقبته بها. تصاعدت لأنفي رائحة الدم، وغطى ناظري البخار المتصاعد من سخونتها، أحسست سخونتها تلدغ أعصابي، وأخذت لزوجته تستفز جلدي.

         

شعرت بلذة عميقة تجتاحني، تهز كياني، تعصف بي، حملت نفسي نحو الحمام وأنا ممزوج بأحاسيس مبهمه. كان شيئا ما يحركني نحو الماء، إنتفض جلدي من جديد، أحسست دماءه تدخل بأوردتي، فتحت صنبور الماء على أعلاه. هزتني عصبية مفاجئه، ولكن الدم ظل يتجدد، إشتد إنتفاض جلدي من اللزوجة. داهمني الخوف من كل ناحيه، شعرت البخار يتصاعد من وجنتيً. رفعت رأسي للمرآة، فإذا به يستقر داخلها، يضحك ملء شدقيه، نظرت ليدي فإذا بمعصمي ينزف.

هو يضحك ومعصمي ينزف.

هو يضحك ومعصمي ينزف.

مأمون احمد مصطفى - فلسطين – مخيم طول كرم

 

أضيفت في 24/03/2010/ خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية