ثمة نداءات
يبدو أمر العائلة عصيّا، فهي نائية وقريبة في آن. كلما تمعّنا في حيثياتها
تراءى لنا تقلّب شأنها ووجوهها العديدة المنغمسة في التصلب حينا، وفي
ارتخاء لا مبال حينا آخر. يصعب علينا نحن الذاهبين في سلاسة السؤال، تقصّي
الجذور الشائكة التي انعقدت وتقاطعت والتوت بعضها على البعض، ومن ثم ضربت
بنهاياتها إلى باطن التربة وظلت منغرسة هناك تفيء بظلالها الأزلية.
نتراوح في أماكننا، في الجهات التي رأفت بها أقدار سخية وتركتها في حيادية
أجساد بشفافية الضوء. لا أحد يستقرئ رواحنا ومجيئنا، غير ما يشفع لنا من
التفاتات تعبق بدخان مبخرة الخالة مردودة، وحنوّها على وحدة تجتبينا، وغير
صدح متعالٍ لخفق قلب أنيس يؤنس رفقتنا له. نعبر الحواجز الوقتية داخلين في
ترصد وقائع هي في الكشف عن دلالات لوقائع أخرى تتلقفنا في تقافزنا
كالمتاهة، فاتحة سرب من الأنفاق تراود ذهولنا وارتباكنا حيال ما يتفاقم
أمام أعيننا من أحداث ويوميات تدوّن خلسة، وضوضاء أجهزة يعجُّ بها المكان،
وأحاديث مطولة تلوك في أحاديث مطولة، وصيحات وحضور لأفراد هم في وشم الدم
وانقياده لحرف يطبع بالمفخرة لقب العائلة.
نجتهد في فهم انقساماتهم وتشرذمهم الذي يكابدونه لأسابيع متتالية، مستنزفين
الصدّ واللوم وتجاهلا يجترُّ في أناة ما قد طواه زمن مفعم في قدمه. يتأهبون
في الذكرى، فينبشون جراحات قد تآكلت لصور باهتة تحتفي بعمر يتمرغ في حفنة
تراب تنحدر ذراته لتجسّ في عجل ثواني هي كالشهب تحرق ما تمسّ. صاخب ردعهم
لبعضهم البعض، صاخب هدوؤهم. كيف للعائلة أن ُتتخم بكل هذا اللغط؟ نسائل
أنفسنا في استراحة الظهيرة تحت شجرة الجوافة التي تتوسط ساحة البيت، في هذا
النَفس الحار الذي ينفرون منه إلى غرفهم المنتعشة بتبريد أجهزة مغلفة
بالطنين. نتماهى في صلابة الجذع وغصونه المزدهية بالأريج المتشكل ثمرات
تتأرجح كالأيقونات في البذل.
في هذا المكان وبعد أن تميل الشمس بوجهها قليلا نحو الأفق، ستجتمع النسوة
في لقائهن اليومي، محتفيات بأنوثتهن وستنحسر عباءاتهن الحريرية لتتفرس
الأعين، كل في مقتنيات الأخرى. ستفرد بعضهن الأذرع والسيقان الموشاة بخطوط
الحناء في منحنيات وتعرجات كاشفة الجهد الفريد. سيحتسين الشاي المنعنع،
ويتبادلن أطباق الحلوى والكعك المعرّشة بفواكه استوائية، تجلبها بواخر ضخمة
من أماكن قصّية، وستتفرد كل واحدة بحكاية تصوغ فيها اختبارات المخيلة، عن
اغتصاب أطفال وغلمان، عن رجال يترملون ونساء يحتضرن بأمراض تتآكل فيها
أجسادهن النضرة. حكايات تتهافت وتتعاقب مأخوذة بالشهقة الوجلة المتربصة،
وسوف تتفّ كل واحدة في محيط ثديها بسملة تقيها من عواقب دهر لا يؤمن له. ثم
في لحظة سنشهد ارتجاج أجسادهن البضّة في هزل الضحك على نكت نابيّة
يتبادلنها وشعور مُبطّن بالمعرفة يكتنف صدورهن. لحظتها ستبدأ كل واحدة في
الهمس والتندر عن أمور مخدعها، عن عقاقير وعطور ذات نفحة أسطورية تلهب قلب
الرجل وأعضاءه جاعلة منه ميزانا لقياس شبق وحشيّ يُربك كيمياءه ويُسقطه في
مغبّة انتصاب لا يتبعه ركود. مجد الذكورة كما تنوء به الصورة المستوحدة
لعضلات مفتولة، وجهاز يجأر بسطوة الترويض. تقهقه نساء العائلة، متباهيات
بيسير المعرفة، يتحدثن عن الشوق وعن ملمس الجلد في خدر التناوب على ما
يستفيض من بهجة، مفتونات بذخيرتهن من تأوه وتلعثم يسيل ويتمادى في مزيج
التصاق ليليّ يجاهدن أن يبقى مخفيا عن العيون الصغيرة لأطفال تكتظّ بهم غرف
نومهن بمراياها المستطيلة المتعددة.
نستمع إلى عبث حكاياتهن المزدهية بلوعة الضجر وهن يجبن الأرصفة بدكاكينها
المرصوصة في المساءات التي تهمد فيها عقيرتهن ويتجولن في ضوضاء أسواق
تتزاحم فيها الأقدام والعيون والأيادي. يتحسسن الأقمشة بأناملهن الذاهبة في
بريق الذهب محوّطا اللدن من خنصر وشاهد، يتعمّدن الغنج في السؤال والمساومة
واستباحة اللحظة لطرفة عين، لكلمة تتلقفها الأذن أو قصاصة ورق تهبها ريح
مفاجئة في ملمس كتف لكتف. وما أن تخطو أقدامهن عتبة البيت، حتى تتناثر
أسرارهن في دهاليز وزوايا الغرف المتعددة.
هل رأيتِ ما فعل؟
تقول إحداهن لأخرى
هل شاهدتِ ابتسامته؟
تقول الأخرى لأخرى.
ثم تتطلع كل واحدة فيما وهبتها له الصدفة من أرقام هواتف، وعبارات حب
رخيصة، ومواعيد وأحلام هي في اقتناص الوقت في حرارة صيف ملول يتباطأ تقويمه
ليمتد شهورا، تاركا الفصول الأخرى في سحابة التذكر. تلهو نساء العائلة بوهم
الحب وهن ينتظرن أزواجا تحبل بهم الحانات والملاهي بدخانها وموسيقاها
الصاخبة. يتقصين الوهج في أجسادهن عبر أسلاك تلفونية، تدخلهن في مناظرة
الجسد حيث الأقنعة العديدة وأحابيل مخيلة سئمة تراود نفسها وتفتعل اللذة.
كل هذه الوحدة البائسة في الليالي القصيّة لنساء تكتظّ بهن البيوت الصامتة
في جزيرتنا الصغيرة. نمسح على أهدابهن حين يعلو النشيج وتتعب إحداهن من
الانتظار. نتربع خفية بين الزمن الذاهب والشوق الذي يعتمل في صدورهن، لئلا
يشعرن بفجوة ما يُسرق من وعود ولهفة، فيما الوخز يتكاثر حتى يعيينا.
كنا قد حاولنا الدخول في تلوّن المشاعر البشرية وتحوّلها، فماطلنا أنفسنا
فيما وُهب لنا من إدراك حتى غشيتنا ضبابية سرى معها خدر غريب إلى حواسنا
باعد بيننا وتركنا منفلتين في كنف عدمية بدت لنا أزلية. لكنّا ظللنا غير
قادرين أن نتبين اللهب الذي ظل أفراد العائلة يتراشقون به، أو ذاك الذي
يعتمل في قلب أحدهم يأسا، حارقا كيانه عضواً عضواً. كيف للعائلة أن تمتلك
كل هذا البأس؟ نسائل أنفسنا في الفترات التي يُتاح لنا فيها جمع شتات ممزق
لأقارب وأبناء هوت بينهم هاوية المكابرة، فاستبطنوا لوعة مميتة تجوب خراب
مقاربتهم لبعضهم البعض، وتمنحهم قسوة ضالة تؤلب الحنوّ فيستحيل شراسة في
الفتك.
تتشابك السنوات في تعسف حناجرهم وهم يجأرون بسلالة تمتد عقودا، مخلفة
آثارها مطبوعة في أحجار تناثرت على مدى صحراوي جفّت عروق منابعه وظل شريدا
تحت سماء ساهمة. يتباعدون ويتقاربون، يتلبّسون الحكمة حينا ويدخلون في هوج
الطغيان حينا آخر.
أما نحن فنتخذ من عتبات الأبواب وحواف الجدران مقاعد لنا، عاقدين الخيوط
بين فضاء تتبرج فيه نجوم فسفورية وفيّض من محيط للعائلة تتنامى فيه قلوب
ثملة وأحداق نارية وضحك فاجر. تتداخل الوجوه والأسماء ويبدو جليا تهكم
الزمن منا حين تتراءى لنا أطيافنا مأسورة برصدنا هي الأخرى، وترانا نُسرف
في تحصين الحرف من مباغتات تحلّ علينا كأسراب الطيور في سراب الرحيل. لهذا
نعرف الهلع عن مقربة بشكله البلوري، حين يتفشى صقيعه في الخواطر التي نعمل
على صدها من أذهان أفراد العائلة. الشكوك الصغيرة، والمناورات الفاجعة
والاستكانة المستحيلة التي يهجع فيها قلب لقلب آخر هو في الذهاب، تاركا
وميض سويعات يتهجد فيها اللسان، فتات للصارخ من غدر وطعن. نستفيض في
السلوى، مهدهدين الرفقة المتشظّية، ناشرين جسورنا بين فجوات تذهل في
تكاثرها الجهد المرير لنساء ورجال العائلة المتحلقين حول بعضهم، المنصرفين
إلى ذواتهم في لقاءات أسبوعية هي في إستجداء اللقاء.
عصيٌّ كل هذا الولاء، عصيٌّ كل هذا الحب للعائلة.
في العشق وقرينه
منذ أن استسلمنا للمجيء الراحل في عزلته، وهو يوقد بعدا خلناه قد تبدد
بقدومها المباغت، ونحن في لهج خافت وانصياع لاهث في تطلع ما شاب هذا الحضور
للمرأة التي بدأت تواري جسدها فيض الأوشحة والأنسجة الطويلة المنسحبة
وراءها في تأرجح ترتعش له حواف الزوايا وانكسارات الجدران في ميلانها
الهندسي المستريح على بعضه. نستشف منه رواحها وانتقالاتها المفاجئة من ركن
إلى آخر ومن غرفة مأهولة إلى أخرى، تتصبب في مجد الفراغ وامتلاء أجوائه
بعبث دهر في منازلات الترقيم والتجديف.
لم يكن ذلك شأنها من قبل مع جسد متأهب في الفتنة، طاغ في ارتياد مساوماته،
راشقا العيون العابرة بمناورات التفافه على بعضه وبوحه بما يبرز من اكتظاظ
نهد، أو انعتاق خصر في سلاسة تتأوه لها الأفواه التي نقف على مقربة منها
فيما يلسع نفسهم الدافئ تجاهها وجوهنا التي غيبتها الظلال المحيطة.
كنا نتقافز جذلا ونحن نشهد عينيها تستقر علينا بين الفينة والأخرى بما يكفي
لنتلو خلفها وحولها ترانيم العشق المتأبط ذهولنا فيها. لهذا داهمنا
الاستغراب في غرابة فعل لا يتسق ورؤانا للعُريّ الذي خلنا فيه الوجود
المبكر في استيقاظه، ليدهن أحداقنا بعبيره الملتصق بجلودنا كل هذه السنين،
وهو يرجو في تراكم الأقمشة تباعا لترتاح فوق الأنامل، وتتمطط في انسياب
كليّ حول القدمين والساق التي لمحنا توهجها في ماض سحيق.
نستعين بالشواهد كما نشهدها في الرقيات الحافظة أسراراً مغيبة في لثام
صناديق الزجاج المربعة والمستطيلة، في أبنية التبس علينا كنهها بروادها
المبعثرين في أروقتها المغبرة، عارضة تفاصيل نقشها لعيون تسبح فوقها في
عماء لا يرفق بشأن رفق بحيوات قد زالت وأخرى ستزول في تدرج عجلة الوقت الذي
يناهضنا طموحنا فيها، والمربكات في نقيصة الهواجس التي تطفو تارة وترسو
تارة أخرى في أعماق هجيعة الأنفس وهي ترنو لحظات السكينة نحو غسق يبدد أرق
الدقائق المتلبسة المناوشات ذاتها التي ندير الرأس عنها الآن ونحن في تفكر
في جسد وسان المُغيّب عنا خلف ثقل الثياب الرملية اللون الحاملة نفحة
التربة معها.
نحاول أن نفهم معنى للقطيعة بقضبانها الحادة المتداخلة في مسار كان يصون
أرواحنا الرهيفة، من دون أن نسائل ذواتنا عما يشعل هذا المحيط الذي يحتوينا
بدمائنا المستنسخة في أوردتنا المتعاقدة بعضها على بعض بما يشبه الفلك
السابح في يقينه. وهاهي تتركنا الآن في غربة الظنون وفي تبصر دائخ مما يرصد
له، فتتعالى شهقاتنا ونحن نفترش الشائك من شوك حتى تتضح لنا الدواعي لهذا
الإسراف الفاتك وهو يفترس فتات الطمأنينة الحالمة التي عرفناها دهراً.
الجسد الذي أماط لثام اختلافه إحدى المساءات حين انسحب فيها الضوء السابح
في السماء إلى حافة السرير الكبير الذي احتضن أجسادنا الأربعة في نموها
البليغ، ليتبع تفجر الأنوثة التي انشغلنا عن ملابساتها وتبعثر سماتها من
حولنا، إلى أن لاحظنا البقع الداكنة المتداخلة مع الرسوم المتناثرة لزهور
ليلكية وصفراء فاقعة اللون، ومن ثم اختفاء لحاف السرير ووسان معا عن تجمعنا
المأهول، لنبدأ في مسيرتنا المعذبة، الدائمة، في البحث عن زوايا وسان
السرية التي يحلو لها الشرود فيها وتشتيت انسيابنا إليها.
كنا نود أن نهمس لها بأن يقين الجسد هو في استراحته على برعم الخواء وهو
يتفتح ناثرا سكونه المطبق في كون يرتد ويدور على ذاته، وبأن ندوبنا
المستقرة في رحاب الصدر تحاكي الوجع الأنثوي الذي تأمل وسان أن تلهينا عنه
بغياب وقتيّ. لكن الغيرة تنهشنا ونحن نراها تفتح المسار للرجل الغريب ليشهد
وجعنا فيها متأرجحا على نعومة الجلد الفاتن في ترابط مع خطوط لأيقونات وشمت
خفية المقصود مما انطبع من تمائم تتحلى بها جدران الدار في انبساطها
وزلاتها المتواصلة في الغيب.
ومع هذا كله، لم تتكشف لنا الحقيقة كاملة ونحن نتراوح بين الخيط الدقيق
لمَلكَة القلب ويقين الندب الفاضحة قسوة مجهولة على جسد تطرف أعضاؤه كخفق
أجنحة الفراش في عبوره الزمني القصير من انبثاق في الحياة إلى انبثاق في
العدم. الندب التي نتقصى نشأتها بأناملنا المتسللة الآن في حلكة الظلمة
وانبساطها الداكن الملتف على جسد وسان في استكانة النوم، علنا نلملم
المتناثر من تبعات دهر يَصِمُ امرأة هوانا بشطط فجاجته ويهوي بكدمات أزلية
على نثار ما تتشبث به من وهم يحاكي الرحى في طحن وتفتيت نطالعه وتطالعه هي
من كوّة العزلة. لا تأمل في الرأفة ولا تبسط يديها لدفق الوجد الجاري من
محيطنا إلى محيطها في الساعات الرخيمة حين تركن أجنحة اليمام لحواف السطوح
المنفلتة نحو فضائها.
لا شيء يمكن أن يلهينا الآن عن مسار ما ارتسم فوق الجلد الطيع من أخاديد
تنزلق متراوحة في عمقها من أعلى الكتف حتى الساعد، ومن تلاقي الفخذين حتى
الركبة التي بدت كمن طرزتها يد في عجلة ردم المتشظي من أوردة وأنسجة اندلقت
في فجأة الحدث الحميم، حين يستعصي على الجسد العصيان المتكامل متمثلا في
وريد في دفق إلى الخارج، أو كما هي الصور المغوية للشفرة الحادة لنصلٍ
ينبسط بين برهة الحاضر وبرهة الغياب الأخاذ كما يتجلى كمينه الفضيّ في سطوع
يضاهي حلم اللحظة الذي يتراءى لنا في شرارة الغفلة المائلة فوق أصداغنا،
لتلهينا عن المصب الذي ظللنا مندفعين نحوه.
نكبو أمام النهد في جلستنا تلك مستطلعين تضاريسه فيما الحلمة تلامس حافة
أنوفنا الذاهبة في الرحيق وفي خلجات التوتر وهبّة الاندياح المتوارد في
حلقات كالموج يتعالى في دواخلنا قاذفا بزبده المترع في ليونته نحو عراء
اليابسة. يطيب لنا السكون في هدأة تلاقي الفخذين في تلامسهما الطفيف، في
انفراج النهدين عن مسالك العذوبة، في النحر وانبساطه نحو علوّ الكتف، في
العضلة الفاصلة وهي تتمرد هياجا، في انحناءات الظهر وهي ترنو لمراتب تدفق
فاجر في حميميته لما ينفرج عنه الردفان الطيعان في تألق المشاكسة. هكذا
نتلون ممسوسين بهذيان الجسد ونحن نقرأ بأطراف أناملنا، في العتمة، الخطوط
المحفورة على الجلد المترف في نعومته، جالبا حكايانا التي مططها الدهر
وتلاعبت بها الرياح على حافة منحدر الحلم المنعتق من جباهنا.
أي هيام هذا الذي نهيم به؟ أي وجع هذا المتشكل عبئا في جراحات تطأ الجسد
وتستقر في سديم خلاياه؟ ترفع صبيتنا الكف ضارعة، فيما تبجّل أجسادنا هرم
الحصانة حولها، مغالاة في ردع لا يحاكيه إلا هذا الانفلات نحوها.
|