أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 15/08/2024

الكاتب: عبد القادر عقيل-البحرين

       
       
       
       
       

 

 

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

• من مواليد المنامة 1954 .

• روائي ، كاتب قصة قصيرة ، كاتب قصص أطفال ، مترجم .

• رئيس الشئون الثقافية بإدارة الثقافة والفنون بوزارة الإعلام .

• مدير تحرير مجلة (البحرين الثقافية) الفصلية الثقافية التي تصدر عن وزارة الإعلام.

• عضو أسرة الأدباء والكتاب في البحرين منذ عام 1974 وتولى رئاسة مجلس إدارتها.

• من مؤسسي جمعية هواة الموسيقى الكلاسيكية في البحرين .

• من مؤسسي جمعية البحرين لتنمية الطفولة .

• ساهم في تأسيس المجلة الفصلية (كتابات ) التي صدرت عن مؤسسة دار الغد للنشر والتوزيع في عام 1976 وتولى إدارة تحريرها حتى عام 1984 .

• ساهم في تأسيس مجلة (كتابي) للأطفال .

• ساهم في تأسيس المجلة الفصلية (كلمات) التي صدرت عن أسرة الأدباء والكتاب في البحرين في عام 1986 .

 

الإصدارات:

• استغاثات في العالم الوحشي - قصص قصيرة - 1979

• مساء البلورات - قصص قصيرة - 1985

• موضوعات حول العامية والشعر العامي

• عمل مشترك مع الشاعر قاسم حداد والشاعر عبدالرحمن رفيع - 1986

• رؤى الجالس على عرش قدامه بحر زجاج شبه البلور

• 1989 (الجائزة الأولى في مجال القصة في مسابقة الدكتورة سعاد الصباح للإبداع الفكري بين الشباب العربي لعام 1989).

• الشوارق - نص - 1991

• الشوكران - قصص قصيرة - 1994

• كف مريم - رواية - 1997

• أيام يوسف الأخيرة - رواية - 1999 

 

أعماله للأطفال:

• من سرق قلم ندى - 1977

• الاتفاق - 1980

• الغيمة السوداء - 1980

• من يجيب على سؤال ندى - عمل مشترك - 1986

• حكايات شعبية من الخليج ج 1 - ج 2 - 2 

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتب

ليس عندي الشوكران

 الحصار

 

الحصار

 

 

أخرجتُ رأسي من السيارة ، وناديت على ابني الصغير استحثه على الإسراع في المجيء . أطلت زوجتي من نافذة البيت باسمة الثغر وقالت :

’’ سيأتي حالاً ‘‘ . 

طبع محمد قبلةً سريعةً على خد أمه ، ثم ودعها بيده وركض نحو السيارة .كان يوماً مشرقاً ، صافياً ، مؤاتياً للقيام بجولة في السيارة . كثيراً ما يطالبني ابني ، الذي لا يتجاوز الخامسة من عمره ، أن أخرج به للتنزه، ولكثرة مشاغلي فقد أرجأت هذه الفسحة إلى يوم عطلة مناسب . زوجتي فضّلت المكوث في البيت ، فهي تخاف كثيراً من ركوب السيارة ، ولكنها أعدت لنا الكثير من الشطائر والحلوى كأنما سنرتاد صحراء بعيدة . شعرتُ براحة عميقة وأنا أرى محمداً جذلاً ، يكاد يرقص من فرط سروره .قلت له :

’’ سأريك جبلاً عظيماً يقع في نهايات المدينة‘‘.

قال بغبطة :

’’ وهل سنتسلق هذا الجبل ؟ ‘‘ .

أومأت له بالإيجاب ، وأخذت ألفق قصصاً كثيرة عن أيام طفولتي ، وكيف تسلقتُ الجبل بنفسي، وتهت فيه عدة أيام ، ثم خرجت سالماً وعدت إلى البيت . رأيت الدهشة تغمر وجهه وهو يستمع إلى قصصي الملفقة، ولم يهنأ باله إلا بعد أن أجبته عن عشرات الأسئلة : عن الأشياء التي رأيتها داخل الجبل، وعن الطريقة التي وصلت بها إلى البيت ، وأدق التفاصيل الأخرى . صاح فرحاً :

’’ ها هو الجبل ‘‘ .

وصلنا إلى الطريق المؤدي إلى الجبل . انعطفتُ وسرت مسافةً قصيرة ، إذ بدورية الشرطة تتجه نحونا ، فأوقفت السيارة لأستطلع الأمر .

’’ - ماذا حدث ؟ ! ‘‘ .

ترجل أحد أفراد الدورية وتقدم بخطواتٍ واسعة نحونا . ارتبكت قليلاً . قال الشرطي : 

’’ ممنوع دخول هذه المنطقة ‘‘ .

تجرأت وسألته عن السبب ، فأوضح لي أن جريمة قتل قد وقعت بعد ظهر اليوم عند منحدر الجبل ، وأن رجال الشرطة يقومون بتفتيش المنطقة . رجعتُ إلى الشارع العام ، وأوقفت السيارة شارداً بفكري في الجريمة التي وقعت . من القاتل ومن المقتول ؟ .

قال محمد :

’’ أين سنذهب الآن ؟ ‘‘ .

قلت له وأنا أحرك السيارة في اتجاهٍ أمامي :

’’ سنذهب إلى مكانٍ جميل عند شاطئ البحر‘‘.

وأقنعته بقصص ملفقة أيضاً عن السمكة الكبيرة التي تغني في البحر وتلعب مع الأطفال . وعندما ألقى عليّ بأسئلته الفضولية لم أستطع أن أجيب لأنني كنت أسأل نفسي : كيف يمكن أن يقتل الإنسان إنساناً آخر؟ .

’’ - أين شاطئ البحر ؟ ‘‘ . 

’’ - سندخل الآن عبر بساتين النخيل ، ثم نصل إلى الشاطئ ، كثيراً ما جئت إلى هنا وأنا صبي صغير ‘‘ .

وما أن سمع ذلك حتى ألقى عليّ بأسئلته المتلاحقة. انحرفت عن الشارع العام ، ودخلت في شارع فرعي يؤدي ، حسب علمي ، إلى شاطئ البحر ، لكنني أوقفت السيارة حائراً حين رأيت شارعين أحدهما يتجه إلى اليمين والآخر إلى اليسار . لا أذكر أنني رأيت هذين الشارعين من قبل . ترددت في اختيار أحدهما. قال محمد :

’’ لنذهب من هنا ‘‘ .

وافقته على عجل ، ودخلت في الشارع الذي يتجه إلى اليمين. وجدت نفسي في طريقٍ ضيق لا يسع إلا لعبور سيارة واحدة ، وعلى طرفي الشارع نخيل كثيرة، واقفة ، ميتة ، والأرض تبدو ، لكثرة ما استنجدت بالماء ، متشققة ، ومتصلبة . كل شيء يوحي بالخراب في هذا المكان . واصلت السير مرتجياً الوصول إلى الشاطئ ، أو إلى طريق آخر أقل وحشة وكآبة .

’’ - متى نصل إلى الشاطئ ؟ ‘‘ .

لم أحر جواباً لأنني لاحظت أن مجموعة هائلة من النخيل الميتة تقف في منتصف الطريق وتمنعنا من المرور . شعرت بغيظ شديد . ما الذي دفعني للوقوع في هذا المأزق. 

’’ - متى نصل إلى الشاطئ ؟ ‘‘ .

’’ - سنعود من حيث أتينا ، من المحتم أنني أخطأت المكان ؟ ‘‘ .

وحتى أسلك طريق العودة فلا بد أن أرجع بالسيارة إلى الخلف مسافة ثم أعدل من وضعها . شعرت بألم في رقبتي من جراء الالتفات إلى الخلف . عند المنفذ الضيق أدرت السيارة وأصلحت من وضعها لنندفع إلى الأمام عبر الطريق الذي جئنا منه .

’’ - أين سنذهب الآن ؟ ‘‘ .

’’ - سنعود إلى الشارع الذي يتجه إلى اليسار ، وهو الطريق الذي سيصل بنا إلى الشاطئ‘‘.

قطعت مسافة في الطريق ولم نصل إلى الشارع العام ، ثم بغتة وجدت النخيل الميتة واقفة في طريقنا . مستحيل ، كيف جئت إلى هنا ثانية ؟! .

’’ - متى سنصل إلى الشاطئ ؟ ‘‘ .

’’ - اصمت ودعني أفكر قليلاً ‘‘ .

لا مجال للتفكير ، يجب العودة إلى الوراء والإصلاح من وضع السيارة والخروج من هنا بسرعة. بعد لأي وصلتُ إلى المنفذ الضيق ، وانطلقت بسرعة إلى الأمام. قطعنا مسافة في الطريق ، ثم رأيت أمامي النخيل الميتة من جديد . يلج الخوف قلبي فاضحك ضحكة باهتة.

’’ - لنعد إلى البيت ، لا أريد أن أرى السمكة الكبيرة‘‘.

قلت له والقلق يستبد بي :

’’ أنا أيضاً أريد العودة إلى البيت ‘‘ .

نزلت من السيارة لاستكشف الأمر . تبعني محمد. مشينا معاً في الطريق الموحش الكئيب . وقفتُ أنظر إلى الطريق الذي جئنا منه. المفترض أن يُرجعنا إلى الشارع العام ، فكيف إذن نعود في كل مرة إلى هذه المنطقة ؟ !. سحبت يد محمد وعدتُ مسرعاً إلى السيارة . أرجعت السيارة إلى الوراء . كنت مضطرباً جداً ، ولم أعرف إن العجلة الخلفية تنحرف لتنغرز في حفرة طينية . حاولت مراراً إخراج العجلة من الحفرة ولكن دون جدوى .

’’ - أريد أن أعود إلى البيت ‘‘ .

غضبت وصرخت في وجهه :

’’ أنا أيضاً أريد العودة إلى البيت ‘‘ .

لم يحتمل غضبي فبكى . انتابني شعور بالندم فقرّبته من صدري ، وطلبت منه السكوت والسكون ريثما أجد حلاً ، لكنه أصر على بكائه . قلت له :

’’ امكث هنا وسأحاول إخراج العجلة من الحفرة ‘‘ . 

توقف عن البكاء ، وتبعني ثم وقف يراقب ما أفعله . أجهدت نفسي وجربت كل الوسائل ، كان واضحاً أنني أحتاج إلى مساعدة شخص آخر ، وهذا الصغير ليس بوسعه أن يأتي عملاً . تمنيت لو أن سيارة تمر من هنا ، أو يأتي أحد لنجدتنا . كانت الشمس تنحدر نحو المغيب ، وهذا ما زاد من قلقي . رفست العجلة ولعنت اللحظة التي فكرت فيها أن أخرج من البيت . كان محمد خائفاً ، يلتفت حواليه كثيراً، ويلتصق بي كأن شيئاً ما سيخطفه مني . عدت للمحاولة مرة أخرى ولكن ذهبت محاولتي سدى ، والظلام بدأ يرخي أسجافه ، ويزيد من الوحشة والكآبة . توقفت بعد أن دهمني الإنهاك والتعب . 

’’ - ألن نعود إلى البيت ؟ ‘‘ .

’’ - سنبقى هنا الليلة ، وفي الصباح الباكر سنعود إلى البيت ‘‘ .

لكنه بدا غير راضٍ عن فكرتي . أدخلته في السيارة وجلسنا ننتظر .

’’ - أريد أن أذهب إلى أمي ‘‘ .

سألت نفسي : هل سأجد حلاً لهذه الورطة ؟ .

طلبت منه أن يحكم إقفال باب السيارة ويرفع زجاج النافذة تحسباً من تسرب الزواحف إلى الداخل. أخرجت له بعض الشطائر . تناولها ، وحكيت له بعض الحكايات المسلية فاسترد بعض هدوئه . فكرت في أن أخرج وأمشي إلى نهاية الطريق ، فقد اهتدي إلى الشارع العام ، ولكن حلكة المكان ووحشته جعلاني أستعيض هذه الفكرة بالانتظار . نام محمد ، بينما بقيت أصيخ لأية حركة تصدر في الخارج ، وبين الفينة والأخرى التفت إلى الوراء للتأكد من عدم وجود أي شيء .

قلت لنفسي : لماذا يورط الإنسان نفسه هكذا ؟.

فجأة تجمدت في مكاني ، وارتعدت فرائصي. في البدء خلت نفسي أتوهم ، ولكن تأكد لي أن شيئاً يتحرك في الظلام . وضعت يدي على مفتاح التشغيل ثم تذكرت أن السيارة لن تتحرك بسهولة ، فخفضت رأسي حتى صرت تحت المقود . كان الظلام كثيفاً ، والنجوم منطفئة ، والقمر شحيح الضوء ، ولكنني استطعت أن أرى فتاة تقف أمام السيارة . يبدو أنها عرفت أنني في الداخل فأخذت تشير إليّ أن أذهب إليها . رفعت رأسي وأمعنت النظر فرأيتها تذهب ثم تعود وتشير إليّ . أشعلت فجأة المصابيح الكاشفة فاختفت الفتاة وبقيت النخيل الميتة الواقفة . أطفأت المصابيح حتى لا يسبب اشتعالها في موت البطارية ، وأخذت أرقب بتوجس ما يدور في الظلام الكثيف .

حدثت نفسي : سأنام ولن أصحو حتى يبزغ الفجر. ولكن عيني أبتا أن تركنا للنوم في مثل هذا الوضع ، فبقيت ساهراً . أخافتني حركة محمد وهو يهب من نومه . كان يريد أن يتبول . أخرجته بهدوء من السيارة ، وطلبت منه أن يتبول بسرعة بينما قمت بفتح الصندوق الخلفي وأخرجت منه آلة حادة يمكن أن ندافع بها عن أنفسنا . أنهى تبوله فأدخلته السيارة ، وأحكمت إغلاق الباب من الداخل . أمسكت الآلة الحادة بيد ثابتة ورجعت للمراقبة. رأيت الفتاة ثانية . أشعلت الضوء . اختفت. نظرت إلى الساعة ، كانت تشير إلى الحادية عشرة. أمامي خمس ساعات على الأقل لينبلج الصباح. كيف ستمر هذه الساعات الطويلة ؟ 

أغمضت عيني محاولاً النوم ، ويبدو أنني نمت بالفعل ، فحين استيقظت فجأة ، اعتقاداً مني بأن شخصاً ما يسترق النظر إلينا، كانت الساعة تشير إلى الثانية بعد منتصف الليل . تابعت النظر في الظلام الذي بدأت عيناي تتعودانه . رأيت الفتاة الصغيرة تتقافز وترقص وتدور حول النخيل الواقفة ثم تقف وتنظر إلي طالبة أن أذهب إليها . رأيت أنها في هذه المرة تدنو الهوينى نحوي . أشعلت الضوء . اختفت . خشيت أن أصاب بمكروه من جراء هذا التوتر والضيق الذي أنا فيه ، ولكنني تماسكت، وأخذت أفكر في طريقة أخرج بها العجلة من الحفرة في الصباح الباكر . انتفضتُ من رقادي مفزوعاً ، كان محمد يهزني ويطلب مني أن أتحرك . نظرت إلى الساعة . كانت الساعة السادسة صباحاً . قمت على عجل لأنفذ الفكرة التي ومضت في رأسي .

أخذت أبحث عن بعض الألواح الخشبية القوية ، ثم رفعت السيارة بالرافعة ، ووضعت الألواح على الحفرة الطينية ، وأسرعت لإبعاد السيارة قبل أن تتكسر الألواح . نجحت الفكرة ، فصفق محمد وصاح مبتهجاً . ركبنا السيارة وعدت إلى الوراء . أصلحت من وضع السيارة ، واندفعت إلى الأمام بسرعة جنونية محاولاً الخروج من هذا المكان. قطعت مسافة قصيرة وجسدي كله يرتعش خوفاً من أن تظهر أمامي النخيل الميتة ، ولكنني أطلقت صيحة فرح عندما رأيت الشارع العام الذي دخلنا منه أول مرة . قال محمد مغتبطاً :

’’ لنعد بسرعة إلى البيت ‘‘ . 

قلت له :

’’ بأقصى سرعة ‘‘ .

على جانب الشارع العام رأيت صبية تلوّح بيدها طالبةً أن أتوقف . وصلت إليها وتوقفت . لم تكن تتجاوز الخامسة عشرة من عمرها ، تلبس ثوباً ضيقاً مشدوداً على جسدها النحيل . شعرها قصير جداً ، ومسحة من الشر الغامض تكسو وجهها الصغير . حدجتني بنظرة ماكرة ، وتقدمت نحونا . تذكرتُ وجه الفتاة التي كانت تظهر أمامي ليلة البارحة ، فحركت السيارة مبتعداً عنها قبل أن تصل إلينا . نظرت في المرآة الخلفية فرأيتها واقفة تنظر إلينا وتطلق ضحكات ساخرة جداً .

 

 

 

 

ليت عندي الشوكران / وهل أجرؤ؟

 

هذا هو اليوم الرابع منذ أن أبحرنا .

هذا هو اليوم الرابع وأنا في جوف السفينة ، ملقىً بإهمال على فراش من الخيش .. رفيق الجرذان السمينة التي تتراكض بشغب من حولي ، والصراصير الدهنية التي تتحرك بحرية على جسدي وتتساقط بغباء على رأسي .

هذا هو اليوم الرابع ، والألم الرهيب يمزق جسدي . لحمي تساقط . عظامي برزت. جلدي به فتحات غائرة، صوتي اخشوشن ، وعدت لا أقدر على التنفس . أسناني تساقطت ، وفقدت حاسة التذوق . قدماي تقرحتا ، وعدت لا أقوى على السير . يدي التوت ، وأصبحت كالمخلب الصلب . وجهي تغيرت ملامحه ومعالمه . شعري تساقط .

لقد تعفنت تماماً ، وليس بوسعي أن أحيا .

هذا هو اليوم الرابع ، وأنا أتآلف مع صرير السفينة ، وأصوات ضخّ الماء إلى البحر، ورائحة الماء الآسن في قاع السفينة ، وأبخرة السمن الرديء ، وعفونة سمك القرش المجفف، وصوت الربان وهو يقرأ متباطئاً ، كعادته ، سورة ياسين بصوت جهوري مثير للضحك ، إذ كان يلفظ السين ثاءً .

يطلّ علي وجه الطباخ العريض بشاربيه السميكين ، وحاجبيه الكثيفين ، وهو يأكل التمر ويلفظ النوى ، وبيده حصتي من الطعام . يضع الأكل في زنبيل وينزله بالحبل خشية أن يصاب بالعدوى . يسحب عود سواك من عمامته الصفراء الباهتة ، وينظف أسنانه ثم يختفي .

قلت له : أريد مرآة .

لكن بدا لي أنه لم يفهم ما قلت .

* * *

كان الرجل يقطع درباً نحو الفرسخين بخطوات بطيئة جداً . يتوقف لحظات ، يلتفت حواليه ، ويلتقط أنفاسه ، ثم يواصل مسيره . يصل إلى جبل صعب المرتقى ، تحوطه أشجار كثيرة أغلبها البندق والصنوبر . على قمة الجبل تتراكم الثلوج في أشكال آدمية.

يقف الرجل عند فتحة الجبل ، فتصدر عنه آهة ألم موجع . يبلل وجهه بالماء الذي يترشح من سقف الجبل . يرى دهليزاً طويلاً ، فيعبر الدهليز منحنياً حتى يصل إلى عين ينبع منها ماء قراح .

جلس قرب النبع حتى أتاه المخاض ، فنزل الجنين إلى فخذه ، وبدأ فخذه في الانتفاخ ، فأطلق صيحة استنجاد تردد صداها في جنبات الجبل ، ثم أخرج سكيناً وشق فخذه ، فازداد صراخه ، وأزرقّ لونه ، حتى كاد يغشى عليه من شده الألم . مدّ يده داخل فخذه وأخرجني ، ثم سد الشق برباط وخرج تاركاً إياي في الجبل وعيني تذرف الدموع معلناً قدومي إلى هذا العالم .

 

* * *

افتح عيني على صوت انفتاح باب القمرة فأرى رجلاً لونه مثل لون التمر . مكحل العينين ، عظيم الأنف ، لحيته مخضبة ، عليه ثوب أبيض ينغلق عند العنق بزرين من الذهب ، يداعب حبات سبحته المصنوعة من الكهرمان . 

كان يقلص عينيه الضيقتين ويحدجني بفضول واضح .

قلت له : أريد مرآة .

لكنه هدر كالرعد:

كم هي نتنة رائحتك . 

ثم سعل سعالاً جافاً وبصق ما في فمه ومضى .

 

* * *

أرى نفسي أمام بحر متلاطم الأمواج . في البحر صندوق خشبي يطلّ منه رأس طفل صغير .. أخضر العينين ، منتصب الأذنين ، يستنجد بيده الصغيرة . حاولت دخول البحر لكنني خشيت الغرق . ثم رأيت حوتاً عظيماً يبتلع الصندوق والطفل في جوفه . ورأيت نفسي ماشياً على رمال صحراء محرقة ، وغيمة منيرة تسير فوق رأسي أينما سرت .

عيون في الرمال تطلق ، كالتنانين ، ناراً هائلة ، فتحوّل الليل نهاراً ، وتبعث بأدخنة غليظة تتراكم في السماء .

أرى جثث جنود منتشرة ، بإهمال ، على مد البصر . هياكل عظمية داخل بزات عسكرية رثة . أقنعة غريبة الشكل . دبابات مدفونة . حطام طائرات . بقايا ذخائر .

أي بلاءٍ ، وأي خراب حلّ بهذا المكان ؟ .

وصلت إلى باب مغروز في الرمال . دفعت الباب فانفتح . فرأيتُ اني وسط مرايا كثيرة تحوط بي من كل صوب . جلست على الرمل الحارق أرى كيف تلتفت المرايا إليّ وأنا في حضرتها .

سمعت طرقاً يهتف بي . فتحت الباب ، ورأيت جمعاً من الناس يرتدون ثياباً بيضاء يبتغون الدخول ، فأدخلتهم . قام من بينهم كبيرهم ووضع تاجاً مرصعاً بالعقيق والزمرد على رأسي وعاد إلى جماعته . ثم سمعتهم يقولون لي بصوت واحد :

- أنت أفضلنا ، وأشرفنا ، وأكبرنا ، وليس في العصر من يوازيك ، فرد أمرنا إليك ، وكن منقذ الأمة ، والقائم بالحق ، فإنا تحت سمعك ، وطاعتك ، والقائلون بما تراه ، يا أعلم الناس ، وأحكم الناس ، وأتقى الناس ، وأحلم الناس ، واسخي الناس .

ثم سقطوا مكبوبين على وجوههم . طلبتُ منهم أن يقوموا ، فأعطوني عمامةً بيضاء ، موشاة بالذهب ، وثوباً مبطناً باللون القرمزي ، وسيفاً مرصعاً بالأحجار الكريمة ، وفرساً شقراء بسرج ولجام مزخرفين بالذهب ومرصعين باللآلئ .

نظرتُ إلى نفسي في المرايا فأصابتني الغاشية من شدة جمالي .

* * *

شعرتُ بأن صرصاراً كبيراً أخذ يتحرك على شفتي . فزعت وصرخت وحركت يدي لأبعد الصرصار ، فتساقط بعضٌ من لحم يدي . لم أستطع التحمل فبكيت بحرقة . أية نهاية بائسة أعيشها ؟.

يطلّ عليّ وجه الطباخ العريض . لابد انه سمع صرختي . تطلع إلىّ متسائلاً . وبدا كأنه يريد التحدث معي فشجعته بأن ملتُ ناحيته . لكنه لم يتكلم

قلت له : أريد مرآة .

قال : نعم ، نحن في طريقنا إلى مستعمرة المجذومين ، أنت لم تزرها من قبل ، أليس كذلك؟ . انها جزيرة واغلة في البحر ، لا يقترب منها أحد ، فالبحارة يتطيرون منها ويتشاءمون .

توقف عن الكلام ، وفتح عمامته الصفراء الباهتة وأعاد ترتيبها من جديد على رأسه الضخم. لاحظتُ أنه لا ينظر إليّ وهو يحادثني . كان يعبث بأي شيء أمامه ، وكثيراً ما يحكّ شعر رأسه ، ويميل برقبته ، أو يفرك يديه بحركة عجلى ، أو يعرك عينيه .

- معنا ثلاثة وسبعون شخصاً بينهم خمس نساء وطفل رضيع . هل تعرف ان في المستعمرة جبالاً تتوقد منها بالليل نار عظيمة ، أما المجذومون فمآكلهم هناك من ثمار أشجار الموز والنارجيل وقصب السكر . نعم . وبالمستعمرة الكثير من الأغنام الجبلية ، ويقال ان بها حيواناً هائلاً له قرن واحد معقف يغرزه في بطن من يقف أمامه . 

ابتلع ريقه وقام كأنه تذكر شيئاً ما ، وأغلق باب القمرة وراءه .

 

* * *

رأيتُ نفسي ماشياً في زقاق ضيق طويل لا نهاية له . على طرفي الزقاق جداران لا يلتقيان . توقفت . استدرت . عدت . لكنني وجدت نفسي في طريق لا نهاية له . توقفت . واصلت التقدم في الاتجاه الآخر لكنني لم أصل إلى أي مكان. 

جلست محدقاً في الجدار العالي . ماذا يكمن وراءه ؟ . وضعتُ أذني على الجدار فسمعت ما يشبه غناء الماء . 

قلت لنفسي : هل النهر وراء الجدار ؟ . كيف لي أن أصل إلى النهر ، وكيف لي أن أخترق الجدار ؟ .

رأيت نفسي واقفاً أمام الجدار الأسود الكالح . كنت أفكر في وسيلة أتسلق بها الجدار .

التفت ورائي ورأيت مئات البشر المجذومين المشوهين وهو يزحفون نحوي . كانوا أشبه بالموتى وهم يتحركون . اقترب مني أحدهم ، وكان قبيحاً إلى حد لا يوصف . وقال : أين هو ؟ إلى متى هو لا يسمع ولا يجيء ، أهو خفي أم ظاهر ؟ . لقد انتظرناه طويلاً ولم يأت ، قالوا انه سيملأ الأرض عدلاً ، ويشفي جميع السقام والمجانين والمصروعين والمفلوجين ، لماذا إذن خذلنا وهجرنا . قل له ليأت مع السحاب ، وليأخذ أسقامنا ويحمل أمراضنا وينجنا فإنا ها هنا هالكون ‘‘ .

 

* * *

هذا هو اليوم السابع منذ أن أبحرنا .

وهذا هو اليوم الثاني ولم يطلّ عليّ وجه الطباخ العريض ، ولم يحضر لي طعاماً ، ولم أسمع أية أصوات . حتى الربان توقف عن قراءة سورة ياسين .لا شيء سوى صوت تمايل الصارية ، وارتطام الموج بالسفينة . صرخت منادياً عدة مرات . استولى عليّ الذهول والانسحاق فثمة ما يقلق في الأمر .

انتظرت ثم تحركت بصعوبة وتسلقت السلم العمودي ، وصعدت إلى سطح السفينة. كانت السماء ملبدة بدخان أسود كثيف كريه الرائحة . ماذا حدث هنا ؟ . داخلني رعب شديد وأنا أشاهد جثث الركاب متكوّمة في كل مكان . أحركهم واحداً واحداً ، لكن لا أحد يتحرك . عيونهم الجاحظة تنبئ بأنهم لن يعودوا إلى الحياة . ماذا حدث هنا ؟ . كيف لم أسمع استغاثاتهم ؟ . كيف ماتوا جميعاً ؟ .

جلستُ خائفاً في ركن . ماذا أفعل الآن ؟ . هل سأموت مثلهم ؟ . ماذا أفعل بكل هذه الجثث ؟ . ماذا أفعل بالسفينة ؟ . كيف أديرها ؟ . إلى أين أتجه بها ؟ . أية نهاية بائسة تنتظرني .

 

* * *

رأيت نفسي طفلاً أنظر عبر الفتحات الصغيرة في الباب . وراء الباب كانت أختي مشعثة الرأس ، منكفئة على وجهها تبكي بحرقة شديدة ، كانت ترفع وجهها المخضل بالدموع بين الحين والآخر وهي تعض على أطراف أصابعها . كانت أمي واقفة وهي في أشد حالات الغضب تقول كلاماً لم أفهمه .

رأيت طفلاً رضيعاً لا أدرى من هو من أين جاء . كان ملفوفاً في قماط أبيض . بدأ في البكاء فأخذت أمي قطناً كثيراً ودسته في فمه حتى صمت تماماً ، في حين كانت أختي تخفي رأسها بين ركبتيها .

رأيت نفسي نائماً بين مئات الجثث على سطح السفينة . شعرت بيدٍ تهزني هزاً خفيفاً . فتحتُ عيني ورأيتُ الموتى يسحبونني من رجليّ بقوة ويقذفونني في البحر في مواجهة مجموعة من أسماك القرش المفترسة .

أجاهد في الوصول إلى السفينة ، وقبل أن أمسك بالحبال شعرت بأن نصفي الأسفل قد انشطر عن جسمي..

 

* * *

بشق النفس أخذت أجرّ الجثث ، جثة تلو جثة ، وألقيها في البحر . بدأت بالرجال ثم جاء دور النساء الخمس . كنت أتجنب النظر إلى الوجوه خشية أن أتردد في قراري .

أنهكني التعب حين وصلت إلى جثة امرأة كانت في ركن بعيد . كانت تخفي شيئاً تحت ثيابها السوداء ، كأنما تريد أن تصدّ الموت عن الوصول إليه . سحبتها فسقطت على الأرض وفي حضنها طفل رضيع ميت.

انتبهت إلى أصوات وحركات غريبة في البحر . ألقيت نظرة فإذا بي أرى عشرات من أسماك القرش تحيط بالسفينة وهي تفترس الجثث ، فأحسست بدوار وغثيان .

عدتُ إلى المرأة والطفل الرضيع . جلست أتأملهما في صمتهما الأبدي . كان طفلاً جميلاً . عيناه كستنائيتان واسعتان ، مفتوحتان ، شاخصتان إلى السماء ، كأنما مسهما الرعب من مشهد الموت . كان ملفوفاً في قماط أبيض ممزق . من رقبته تدلى مصحف صغير مذهب.

لماذا يموت طفل مثله ؟ . أي ذنب جناه ليلقى هذا العقاب ؟ . تذكرتُ طفلاً جميلاً مثله تركته أمه ميتاً عند باب المسجد بعد أن وضعت الكثير من القطن في فمه .

نظرت إلى عينيّ المرأة الحولاوين . كانت في وجهها مسحة صبوية تمسّ الروح رغم بروز وجنتيها وشحوب جبينها .

سوّغت لنفسي رفع ثوبها والكشف عن ساقيها . كيف لم ألمس جسد امرأة من قبل؟. مددت يدي وأخذت أتحسس فمها الواسع ، وشفتيها الباردتين . أخرجت نهدها الكبير من فتحة الثوب فرأيت دائرة سوداء كبيرة تتوسطها حلمة يابسة . كدت أضع شفتي على الحلمة إلا انني شعرت بانسحاق بالغ وبغيظ مهين ، فلم أكُ في حياتي شنيعاً إلى هذا الحد .

انسحبت إلى ركنٍ تاركاً المرأة والطفل الرضيع . وقررت أن لا أقذف بهما إلى البحر ليكونا فريسة لأسماك القرش .

 

* * *

فتحت عينيّ فداهمتني رعدة هزّت بدني . رأيت قدامي أبي وأمي جالسين عند رأسي . كانت أمي في ملابس بيضاء كالثلج . تبتسم لي وهي تمسح بيدٍ على رأسي ، وبالأخرى تحرر شعرها الجميل الذي كان منوّطاً بشريط أبيض .

سألتها : أأنتِ أمي ؟ .

لم تجبني بل أخذت تهدهدني بصوتها الرخيم ، ثم تمددت بالقرب مني واحتضنتني بقوة خشيت معها أن تتساقط بقية أعضائي .

رفعتُ بصري فرأيت أبي يبتسم وبيده مروحة من القش يهزها برفق علينا.

قلت له : أبي ، أنت هنا ؟ .

قال : نعم ، وسنأخذك معنا ، لن ندعك تموت هنا وحيداً .

قلت له : ولِمَ لا أعيش إلى الأبد ، لِمَ أنا بكل هذا القبح ، لِمَ كل هذا العقاب ؟

أخرجت أمي من تحت ثوبها مرآة وقالت :

- انظر ، كم أنت جميل .

شعرتُ بغصة في حلقي ، واختلجت الدموع في عيني ، وأخذ صدري يعلو ويهبط في اضطراب واضح .

بدأت أنشج عالياً : لا أريد أن أموت ، لا تتخليا عني .

 

* * *

هذا هو اليوم التاسع منذ أن أبحرنا .

جلست أنظر إلى جثة المرأة التي بدأت تتعفن . خيّل إليّ لوهلة انها فتحت عينيها . وضعت رأسي على صدرها لعلي أسمع شيئاً ولكن دون جدوى

كانت أسماك القرش قد ابتعدت عن السفينة منذ يوم أمس . وهذا ما دفعني لأن ألقى بجثتها في البحر . أما الطفل فقد وجدت له صندوقاً خشبياً قديماً . مددته فيه وأنزلته إلى البحر برفق .

كنت حزيناً ، يائساً من حياتي . لا أعرف ماذا أفعل أو أين أذهب . فجأة بدأت السماء تمطر مطراً أسود كالقار ففزعت واختبأت في ركن أحمي نفسي من الموت .

* * *

رأيتُ نفسي في مواجهة الجدار الأسود الكالح . أخذت أفكر في وسيلة أتسلق بها الجدار .

قلت مستجيراً بما وراء الجدار :

أنت أملنا الباقي ، فلا تخذلنا ، خذنا من هذا الأسر ، كفانا عذاباً وانتظاراً .

وضعتُ أذني على الجدار علني أسمع رداً ، لكنني لم أسمع سوى غناء الماء . رأيت انني أضرب الجدار ضربات قوية برأسي ، فينشدخ رأسي ولا أخترقه.

 

* * *

فتحت عيني على دويّ عنيف رجّ السفينة رجاً عظيماً . وكدت أتراجع إلى المؤخرة لولا انني تشبثت بعارضٍ خشبي . رفعت رأسي ببطء ، ورأيت ان السفينة قد جنحت على شاطئ مجهول .

ثمة جثة رجل طافية على الماء بالقرب من السفينة .. كان ممدود اليدين ، ووجهه إلى أسفل ، محاطاً بمئات الأسماك الصغيرة . قررت مغادرة السفينة والنزول على الشاطئ، لكنها كانت مهمة شاقة وعسيرة ، إذ شعرت بأنني سأموت قبل أن أنزل دون مساعدة من أحد .

كان الشاطئ هادئاً ، خالياً من أية حركة . مشيت كثيراً دون أن ألمح شيئاً سوى تكوّم الدخان الأسود الكريه في السماء ، والغيوم السوداء التي تحجب الشمس ، ورائحة حديد محترق . لعل هذا الموت قد حلّ في هذه الأرض أيضاً ؟ .

فجأة لاحت لي من بعيد أبراج مدينة ما . كانت الحرائق تستعر في كل مكان . كل شيء يحترق . اقتربت بوجلٍ فأبصرت ما روعني . كانت المباني مهدمة يتصاعد منها الدخان الأسود ، والجثث الآدمية متكدسة في الطرقات في أكوام رهيبة .

رأيت عيونهم قد سُملت ، ورؤوسهم هشمت ، وحناجرهم قطعت ، وجلودهم سلخت ، وأوصالهم مزقت . ثمة رجل مسن منزوع الأحشاء ، ومصاب بطلق ناري في صدغه . قنبلة يدوية لم تنفجر كانت موضوعة تحت جثة طفلة شقراء . علم أبيض مثقوب من كل الاتجاهات ، وتحته جثة امرأة مسنة بترت رجلها .

كانت الشوارع ملجومة بالصمت . لا حياة هنا . لا شيء سوى الحرائق والدخان والموت . أي بلاءٍ ، وأي خراب حلّ بهذا المكان ؟ .

أرهقني المشي . وبدأت أشعر بالآم مبرحة في جسدي كله . ماذا أفعل الآن ؟ . هل أعود إلى البحر ؟ . هل انتظر هنا كي أموت مثلهم ؟ . هل أتابع سيري فلربما ألقاه فينجيني من الهلاك ويشفيني من السقم ؟ .

بصعوبة عدت إلى الشاطئ ، وجلست مستنداً إلى صخرة مغطاة بسائل لزج أسود . اليأس يسحقني وهذا السكون الثقيل أوهمني بأنني أصبت بالصمم .

رأيت ريشة حمامة بيضاء طافية فوق الماء . تأملتها . مددت يدي ورفعتها . هل هذا كل ما تبقى من حمامة مسالمة ؟ .

تناهى إليّ صوت أنين آدمي متقطع . من أين يأتيني هذا الصوت ؟ . استندت إلى الصخرة الملساء كي أنهض ، إلا أن يدي انزلقت بسرعة فارتطم رأسي بقوة بالصخرة . صرخت من شدة الألم ، وانتصبت ببطء ، ووقفت مترنحاً ، واختلاج حار يسري في رأسي.

مشيتُ باتجاه الصوت ، فرأيت صليباً مرفوعاً باتجاه الشرق . دنوت من الصليب، فرأيت رجلاً مرفوعاً على خشبة الصليب مقطوع اليدين والرجلين مخضباً بدمائه . ارتعشتُ وتفرست في الوجه المصفر . إنه من أريد . لكن كيف يموت من هو مثله ؟ .

قلت مستدراً شفقته :

- لا تتخل عني ، أشفني ، أنقذني ، نجني من الهلاك . انزل من على الصليب وطهر هذه الدنيا وامنحها عدلاً .

لكنني لم أسمع أنينه فقد صمت إلى الأبد .

صرخت وأنا أعفر رأسي :

- لا تتركني هنا ، ستزهق روحي ، لا أريد أن أموت .

 

* * *

أخرجت الريشة البيضاء ، وغمستها في دمي ، وقذفتها عليه مودعاً .

 

* * *

 

رأيتُ انني وسط مرايا كثيرة تحيط بي من كل صوب . جلست على الرمل الحارق أرى كيف تلتفت المرايا إليّ وأنا في حضرتها .

سمعت المرايا تقول :

- أنت أفضلنا ، وأشرفنا ، وأكبرنا ، وليس في العصر من يوازيك ، فردّ أمرنا إليك ، وكن منقذ الأمة ، والقائم بالحق ، فإنا تحت سمعك ، وطاعتك ، والقائلون بما تراه ، يا أعلم الناس ، وأحكم الناس ، وأتقى الناس ، وأحلم الناس ، واسخي الناس .

نظرتُ إلى نفسي في المرايا فوجدتني مخلوقاً لم تر مثله عيناي . كان وجهي كالقمر الدري ، عليّ جلابيب من نور ، شعري حالك الظلمة يسيل على منكبي ، عيناي براقتان بلون العسل ، وشفتاي عقيق ريّان ، وخدي كالرمان ، وحاجبي كالهلال ، وجبهتي غرّة البدر ، كتفي بديعة ، وعنقي كالمرمر ، وقوامي مائس ، أحرك يدي فأنثر مسكاً ، وأحركها مرة أخرى فأنثر دنانير .

قمتُ ونكحتُ المرايا كلها ، فما بقى منها مرآة إلا ونكحتها بلذة عظيمة . 

 

أضيفت في 12/05/2005/ خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية