أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 14/08/2024

الكاتب: محسن يوسف

       
       
       
       
       

 

جَوْهَر القصّة القصيرة السورية

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

-ولد في اللاذقية عام 1939.

-شهادة الثانوية العامة ودراسات في علم الكهرباء والعلوم البحرية.

-عضو جمعية القصة والرواية.

 

مؤلفاته:

في القصة القصيرة:

1-وجوه آخر الليل- قصص- دمشق 1974. وزارة الثقافة 

2-معرض صور- قصص- دمشق 1977. وزارة الثقافة 

3-عالم المواطن م- قصص- اللاذقية 1978. اتحاد الكتاب العرب 

4-الطريق الطويلة- قصص- دمشق 1982. اتحاد الكتاب العرب

5-الطيور- قصص- دمشق 1983- اتحاد الكتاب العرب.

6-أحزان تلك الأيام- قصص- دمشق 1988- اتحاد الكتاب العرب.

7-الوقوف على الرؤوس- قصص- دمشق- اتحاد الكتاب العرب.

8-اعترافات فارس الزمان-قصص- دمشق- اتحاد الكتاب العرب

9-آخر الرجال-قصص- دمشق1997- اتحاد الكتاب العرب 

 

في أدب الأطفال:

10-الأيام الرائعة.

11-رحلات السندباد العجوز. 

12-طريق إلى الأرض الحرة. 

13-حكايات عن العصافير.

14-عندما بكى السندباد- اتحاد الكتاب العرب

15-سر السمكة الذهبية- الرياض 

16-من حكايات السندباد- الرياض

17-شمس فوق المضيق- الرياض 

18-السندباد في جزر القمر- الرياض 

19-السندباد في سمرقند- الرياض

20-السمكة الذهبية / شريط انتاج التلفزيون السوري- عام 1996

 

في الدراسات:

21-الظواهر القصصية عند العرب. المنشأة العامة- ليبيا

22-القصة في الوطن العربي. المنشأة العامة- ليبيا

23-النص الأدبي في مواجهة الكاميرا. دار المنارة

24-صوت في القصة السعودية. دار الثقافة - دمشق

25-نحو ملحمة روائية عربية. دار الحوار- اللاذقية

26-المرأة في الكتب المقدسة. دار كنده- اللاذقية

27-أدباء من اللاذقية. دار كنده اللاذقية

20-كلام في القصة.

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتب

السور القديم

سور الخلاص

حجر من السماء

أحر من الجمر 

الاحتفال

أحزان تحت الشمس

الغجر

الانتصار

 

آحرُّ من الجمر

 

 

.. تشرق الشمس، مجموعة لآليء متماسكة. تبدو كوجه صبيّة لم تعرف القيظ أو الجفاف. أحسّ بها (الشيخ) أكثر دفئاً وجمالاً، بعد توحّد امتدّ منذ دقائق الفجر الأولى، وقد استأنس لطلائع أشعّتها، كما يأنس لملامسة أنامل (فطمة) رفيقة دربه، وهي تخطو مبسملة، نحو مخدعه لإيقاظه، ومرافقته حتى حدود السكينة التي تطوّق المنزل..

- سبحانك ربّي، ولا إله إلا أنت.

يلفّ الثوب الفضفاض حول جسده، وبياض الأشياء يستقبل بشائر الأشعّة. يبدو له خروجه المبكّر لذيذاً، ومثيراً إلى درجة الإحساس بالنشوة. يبتسم منطلقاً ليجتاز حدود مكان توحّده الممتدّ كالحلم.

 

يتوقّف بعد مسير. تظهر خلفه المنازل والتضاريس، في اختلاط الألوان والأضواء، كرسوم في لوحة، تستريح النظرات فوقها. يحدّد الجهات الأصلية، يفرش سجادته الصغيرة، ويبدأ بأقدس الكلمات:

- الله أكبر.

يشاركه في تكبيره صوت قبّرة وحيدة يتسلّل إلى أعماقه. يخال نفسه بعد ثوانٍ كطائر يأخذ به جناحاه إلى فضاء رحب فسيح مغمور بالأضواء والألوان. تخفق يداه في وشاحين من نسيمات المكان المطلّ على جميع التضاريس. تتجمّع في مدى جناحيه الممدودين عرائس كعرائس الجنّة، وأثوابهنّ الزاهية تخفق وتنداح. يأبى أن يشوّه خلوته بأحاسيس أرضية، فيطبق عينيه مستسلماً لخشوع لا مثيل له، ويغمره طوفان من الوله القدسي. يعلو صوته الشجيّ مرتّلاً، يجتاح المدى المستسلم لسكينة عذبة، تُذهل وتثير حتى التلاشي.. يتألّق الوجه بالحبور، ويرتفع الصوت عالياً، عالياً، بكلمات الله. والقبّرة الوحيدة تغادر مكانها، كهمسة رقيقة، وعينا الشيخ المأخوذتان تلاحقان تحليقها بإحساس من يوّد الاستمرار، لكنّ الشمس القادمة كوجه صبوح تدغدغ أعماق الشيخ، وتلثم وجهه. يلفّ سجادته، وثوبه الفضفاض، شاكراً ربّه على نعمه. يستقبل الوجه البيوت، هاتفاً متضرّعاً، طالباً الذرية الطيبة وحسن الختام. تومض في العينين بقايا معادن متناثرة، وتبرز الألوان. تلتمع المسارب وأعالي الأشجار، وتغرق الأمكنة في بحيرات من الضياء. يعود إلى الأرض رويداً رويداً، ومسبحته الطويلة تسبق خطواته المتجهة إلى المنزل. يتناول إفطاره. تحنو (فطمة) على أشيائه كأم. تفتح النوافذ، والأبواب، يرى الشيخ باحة الجامع مدى واسعاً، تملؤه أشعة الشمس. يلمح يمامتين تتشّمسان، وحولهما تناثر سرب من عصافير الدوري. يشاهد أحد غلمانه يشرع الباب الكبير. تصل إليه نسيمات الطريق. يشرب ماء بارداً، ويغادر المائدة. تلحق به رائحة البيت، ودعاء سيدته. يخطو فوق البلاط الأبيض. تتجمّع فوق ثيابه عيون العصافير واليمامتين. يقترب من مجلسه. يقترب أحد الغلمان، في عينيه تنبض اللهفة والتساؤل:

-سيدي.. في الباب سيدة.

يطالعه ثوب أسود. يتخذ مكاناً، ويجلس. يجيئه الغلام بكتاب كبير، يضعه أمامه، ويقف صامتاً:

- امرأة؟

- أجل.

- دعها تدخل.

يخفق ثوب الغلام. تمتدّ يد الشيخ. يتصفّح أوراقاً. يفتح الكتاب، ونسيمات الطريق تعبر الباب، والباحة، ومساحة وجهه. يحسّ براحة. تحمل النسيمات رائحة الحياة، والصباح، ورائحة أخرى، يحاول أن يرفع رأسه، فتتكسّر نظراته فوق الصفحات، ويتلاشى إحساسه بالراحة. تهفو الرائحة وتزداد اقتراباً. يتنامى في أعماقه إحساس بالخطر، فيطبق العينين، والرائحة الغريبة تغمر المكان. يسمع صوت الغلام:

- أتريد شيئاً آخر يا سيدي؟

-لا..

سمع صوت خطواته مبتعداً، لكنّه لم يرفع رأسه. بدا إحساسه بضيق المكان مزعجاً.. إنّه لم يعتد على زيارات النساء في الجامع. كنّ يزرن (فطمة)، فتنقل إليه رغباتهنّ، وما يشكين من مشكلات. أمّا أن تأتي امرأة إلى الجامع.. فهذا لم يحدث من قبل. استعاذ من الشيطان، واستغفر الله، فالجامع بيت الله، ومكان عبادته، وهو ملاذ لكلّ عباده.

- جئتك في حاجة لن يقضيها لي.. سواك..

صوت جديد لا يعرف نبراته، لكنّه صوت واثق، وعميق. أحسّ به يوغل تحت جلبابه، ويلامس شيئاً ما، ساكناً، في أعماقه.

- لم أقصدك في المنزل، لأنّ ما أحتاج إليه لا يقبل وساطة، ولهذا جئت إليك، فذلك أدعى إلى الثقة، وأكثر ضماناً.

لم يقل شيئاً. ظلّ صامتاً كصخرة، ولمّا طال سكوته، قالت:

- ما توقّعت أبداً أن تكون كما وجدتك..

فوجيء بما قالت، وحاول رفع رأسه، لكنّه لم يستطع، وكان إحساسه بضيق المكان يزداد، وقد أخذت به ارتعاشات لم يعرفها من قبل. تابعت:

- كنت أحسبك  أكثر الرجال كمالاً.

دارت الكلمات في رأسه. ربّما كان وخز الإبر أقل إيلاماً من شعوره.

سألت:

- هل ترفع رأسك قليلاً؟..

سمع صوته كصوت رجل منهك القوى:

- أتقي الله يا امرأة. أهذا ما جئت من أجله؟

سمع صوت تنفسها، وربّما سمع دقّات قلبه. ألا تكفّ هذه المرأة؟

قالت:

- أنا لا آتي أمراً منافياً للأخلاق: ولن آتيه، ولست في حضرة رجل سيء السمعة.. لقد انتقيتك من بين جميع الرجال..

انحسر الضيق الذي نزل به مذ عبرت هذه المرأة الباب والباحة، وتمكّن من كبح بعض انفعالاته، ورفع رأسه.

- جئت إليك كرجل فاضل أولاً، وكرجل يعمل لآخرته ودنياه، ويؤمن بالحياة كما يؤمن بالموت، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومن بعده أئمة المسلمين يوسعون للنساء صدورهم. فهل أخطأت السبيل؟..

أدار وجهه. سحابة بيضاء غشيت المكان، تناثر فوق أديمها نثار فوسفوري، ما لبث أن ازداد تلألؤا، وتوهّجاً، فتوهّج الفضاء. تابعت:

- أنا أدرك أنّي لم أخطيء، ولا أعرف إلى الخطيئة سبيلاً، وما قصدتك إلا لحاجة لن يقضيها لي.. غيرك.

استطاع بعد جهد أن يرفع نظراته إلى وجه المرأة التي ما تزال واقفة باحترام وأدب. رأى شمساً تسفر عن حسنها ذات صباح ربيعي، فغضّ طرفه، وهو يشير إلى مقعد في زاوية من المكان:

- ماذا تبغين يا امرأة؟

رآها جالسة عندما صعّد طرفه، فحمل نظراته إلى الكتاب الذي أمامه، قالت:

- إنني امرأة وحيدة..

لم يجد كلمة يقولها، لكنّ صوت المرأة ما لبث أن عاد إلى أذنيه:

- سقط زوجي في الجهاد، وليس لي من يهتمّ بأمري، ويقيل عثرتي، ويشاركني في حلو الأيام ومرّها..

ظلّ صامتاً، فتابعت:

- أنا امرأة ولود. وضعت غلاماً، ومات هو الآخر..

كان الأمر يزداد غرابة، والحيرة تجعل الرجل كقطعة جماد، لا يمكن لشيء أن يغير في تضاريسها، ومع ذلك كان صوت المرأة ما يزال يندفع واثقاً وقوياً يهدهد سكون الشيخ:

- قد يبدو الأمر غريباً، لكنّه ليس كذلك. فكّرت طويلاً قبل أن أقرر المجيء إليك، ولم أفعل إلا لأني أعلم أنّ أخواتٍ لي خطبن بعولتهنّ في عهد النبي الكريم، وبعد انتقاله إلى جوار ربّه..

 

دخل أحد الغلمان حاملاً وعاء مملوءاً بالماء، وضعه أمام الشيخ وانصرف. وعندما ابتعد، عادت المرأة إلى الحديث:

- وجدت أنّ حاجتي لديك.

رفع رأسه، كان يشعر بإرهاق، وكان يشعر بحيرة ما عرف لهما مثيلاً.

سألها:

- ما.. حاجتك؟

ابتسمت بامتنان، وقالت:

- ليس عيباً أن تبحث الأنثى عن بعل تملأ حياته بالراحة والسعادة، وتمنحه ما يفتقد، وقد ضنّت عليه أنثاه بولد يرث الحياة من بعده.

كبرت حيرته، وامتدّت يده إلى وعاء الماء.

- أنت تحتاج إلى الولد الذي يرث الحياة، كما أحتاج إلى الرجل الذي يشاركني في أحزان الأيام وأفراحها.

جرع الماء كما لم يتجرّعه من قبل. اندلقت قطراته لتبلل صدره وثيابه، بينما المرأة تنتصب واقفة:

- سأترك لك وقتاً للتفكير. أنت تحتاج إلى الانفراد بنفسك، لتقرر ما يجب.

عبرت الباب الصغير، والباحة، والباب الكبير، وبقي الرجل وحيداً. أحسّ أنّه كالقابض على جمر. وبعد لحظات بدأ يستعيد ما حدث. تلّمس وجهه، ورأسه. مدّ نظراته إلى الخارج. لم ير اليمامتين وسرب عصافير الدوري كذلك، وكان السكون يهيمن على كل شيء.

عاد إلى نفسه رويداً رويداً. ربما راوده إحساس باقتراب العاصفة، لكنّ الأمر ابتعد كثيراً عن المدار الذي توقّع، فهو أبعد ما يكون عن التطرّف، وليس الإيمان أن تكون معقّداً، فالمؤمن الحقيقي كالينبوع الصافي، أكثر صفاء. إنّ المرأة تدخل وتلامس الجذور. والسرّ يكمن في هذه الشفافية الممتدة عبر العلاقة بها. عبر الاتصال الحميمي. الطبيعي، والسامي معاً. ولم تكن المرأة، القطب الثاني للحياة، سبيلاً إلى الضلال أو الانحراف،  إذا كان مسارها يلتقي مع الضرورة والحياة. وهو كما قالت يحتاج إلى الاستمرار، و(فطمة) لا تستطيع. لا ذنب لأحد في الموضوع، وهو يكنّ لها ما يجب، لكنّها لا تستطيع أن تكون إلا (فطمة) التي تقترب من حدود الأم، رغم أنّها لا تعرف الإنجاب.

بدأ قيظ الظهيرة يدنو من حجارة الجامع، ويدخل عبر الأبواب والأنفاس، لكنّ الشيخ لم يشعر بالوقت الذي يمضي. قال لنفسه: مع ذلك لابدّ من التفكير. قال: إنّ ما حدث كان طبيعياً، ومقبولاً أيضاً، فقد خطبت نساء فاضلات من هم أعظم منه وأعرق في الدين والإيمان، والمرأة ناضجة، ومتفهمة لدورها في الحياة، وراغبة عن قناعة ووعي، ولقد اختارت، وما أحسب أن أحداً يستطيع القول أنّها سلكت سلوكاً غير لائق، وربما كان من حقّي أنا الآخر أن أكون موضع اختيار، وقد أتاحت لي فرصة كنت أفتقدها لأكون جديراً بهذا الاختيار. لقد أعادت حقّاً كان في طريقه إلى الضياع.

على مائدة الطعام راح يتأمل (فطمة)، المرأة التي لم يعرف سواها. رفيقة الدرب التي حملها إليه والداه، منذ زمن يتجاوز عمر صبي يقترب من سنّ البلوغ. إنّها هي هي منذ عرفها. بسيطة، نظيفة، صامتة، موجودة في كلّ مكان، حاضرة في كلّ وقت، لا تألو جهداً في سبيل راحته. إنّها الزوجة المثالية، لكنّها شجرة لا تثمر في حديقة أشجارها محمّلة بالثمار. زهرة لا أريج لها. سماء لا تمطر. أرض لا تعرف الخصب..

أحسّت (فطمة) أنّ بعلها يعاني من شيء ما. بدا لها حزيناً، كئيباً، فاقتربت منه، وهمست:

- ماذا بك.. يا سيدي؟..

- لا شيء يا فطمة.. لا شيء..

أجاب بسرعة، وصوت المرأة الأخرى يغوص داخل جلبابه، ويلامس ما سكن في أعماقه. كرر وهو يغادر المائدة:

- خير يا فطمة، خير إن شاء الله.

أغفى الشيخ في مكان قيلولته المعتاد، قرب نافذة تطلّ على باحة الجامع. رأى فطمة في منامه جاثية قرب قدميه. كان وجهها شاحباً، وعيناها جافتين، وشعرها مبعثراً، وشاهد إحدى قدميه ترتفع وتدفع بها بعيداً، لتتقدم المرأة الثانية. وجهها مضيء، وعيناها منارتان، وشعرها قطعة من ليل أسود يتخلله ضياء القمر.. مدّ يده باتجاهها، فناولته طفلاً صغيراً جميلاً، ابتسم له، وناداه بكلمة(بابا)، فسرّ الشيخ.. حمل الغلام وطار، حلّق في السماء، خال نفسه طائراً يأخذ به جناحاه إلى فضاء رحب فسيح مغمور بالألوان والأضواء.. استيقظ وفطمة تهدهده، وتربت على أماكن من جسده. في عينيها رأى خوفاً عظيماً، وعلى قسماتها رأى ألماً فاجعاً، فاستوى في سريره:

- ماذا هناك يا.. فطمة؟..

- كنت تصرخ يا سيدي..

- أصرخ؟ محال. كان حلماً جميلاً.

- اللهم إنّي أقول الصدق..

سوّى نفسه، وهو يتجنّب النظر إلى وجهها. بدأ يحسّ بالذنب مقابل حنانها الدافق. لقد دفعها بإحدى قدميه، وهذا ما لا يمكن أن يغفره، حتى ولو كان في أثناء الغفلة. فطمة رغم كلّ شيء لا تستحق الإهانة. لا يمكن أن يفكّر بإذلالها أو الإساءة إليها، فالإنجاب ليس في مقدورها كأنثى، ولا ذنب لها فيه، وتلك مشيئة الله، وهذا لا يمنعه أيضاً من المطالبة بحق الأبوة، فهو رجل يحتاج إلى ما يتمتع به الرجال في النساء والأولاد وأمور الحياة الأخرى التي لا تتنافى مع الشرائع والأعراف، وحاجته إلى طفل لا تستطيع فطمة إنجابه، تسمح وتتيح له التفكير في زوجة ولود، مع المحافظة على حقوق فطمة وكرامتها، وهذا ما سيفعله.

قصد ركنه في الجامع، بعد أن أدّى واجباته المعتادة، وكما توقّع، كانت المرأة جالسة في المكان الأقرب من ركنه. ابتسم، وحيّاها، ثمّ جلس. سمع صوتها الواثق المطمئن:

 

- أحسب أنك توافقني على ما جئت من أجله..

وجد نفسه يجيب:

- أجل..

تابعت:

- على بركة الله..

رفع نظراته إلى وجهها. رأى العينين تشعان حناناً، ثم رأى الطفل الجميل يحرّك يديه الصغيرتين سعيداً، فشعر أنّ يديه القابضتين على الجمر تحيطان بجسد الطفل الطري، وترتفعان إلى ما فوق رأسه، وكانت نظراته تجوب أطراف السماء المغمورة بالضياء.

 

 

 

حجر من السماء

 

 

حجارة الأرض تتأوه.. يصرخ التراب.. والأشجار تفرّ طيور السطح والساحة الواسعة، وتتطاير مذعورة.

الأسوار الشامخة تستنجد بالمآذن والقباب، وعجوز المحراب يرفع وجهه، ويسجد خاشعاً متضرعاً:

- ياإلهي.. احم بيوتك وأماكن ذكرك..

ينهض واقفاً، يسمع التأوهات والصراخ، وأصوات الاستغاثات، ويصل إلى أذنيه هدير سلاسل المجنزرات والحفارات.. وكعزيف الجن في الصحراء تهدر كلمة (شالوم) فاجرة ماجنة، تدنس الهواء والفضاء والأسوار، وتقترب من باب المحراب.

هل امتدت يده ولامس الخشب العتيق ذا الرائحة العطرة؟

هل اندفع ليرد الدنس عن الباب، أو ترك مكانه؟

لا يدري. كل ما يدركه أن الأصوات كلها اختنقت وتلاشت وصوته يعلو بكلمات الله، ورائحة الخشب الطيبة تضوع من حوله كروائح الجنة.

غادر الشيخ المحراب. كانت أشعة الشمس الصباحية، تملأ الساحة الرحبة، وتتسلق الجدران والأسوار، وتوشي مئذنة المسجد، توقف الشيخ يتأمل تحية السماء للأرض، قادمة على حبال من الضوء، تتوهّج فوق كلّ المرئيات.

وهاهي طيور الجامع الأليفة تعود رقيقة ناعمة، لتتناثر في الساحة على السطح والأفاريز، وعيونها الصغيرة ترافق خطوات القادم من المحراب.

خارج الأسوار استمر اللغط والضجيج، وهدير الآلات الضخمة يغتال السكينة والهدوء، ويشوه صفاء المكان وجمال الصباح الباكر، وفاحت في الأجواء رائحة الأرض التي تقتل.

أحسّ الشيخ وهو يطلّ من عل، أن الأرض التي تضرب بوحشية وتمزق منها الأحشاء. وكأنها تقاوم الحفارات والآلات العملاقة، وما لبث أن أحس وكأن هذه الأرض تبكي وتستغيث كما فعلت الحجارة والتراب والأشجار والطيور، وكلمة (شالوم) تتردد في الأفواه كنعيب الغربان.

مسح العجوز عينيه ووجهه ولحيته بكلتا يديه. كانت عبراته رغما عنه، قد أخذت بالتساقط، وغامت الأشياء وظللت الدموع نظراته، لكنه لم يكن حزيناً، وما قارب الخوف أعماقه.

إنّه.. واحد من الطيور التي تعيش في ظلال الجامع، وهو لا يذكر يوم فراق كاملاً، فما ابتعد يوماً عن محرابه أو ساحته أو جدرانه.

أجداده عرفوا الصليبيين والإنكليز، وفي ذاكرته تنبض أحداث وأحداث، تدور حول هذا الرمز المقدس الذي أسرى إليه عبد الله ليلاً، بأمر من الذي بارك حوله، فكيف يتسرب الخوف إلى أعماقه أو يستسلم لحزن؟

في صلاة الفجر انتظم الناس في الساحة الواسعة، ككل الأيام السالفة، وذكر اسم الله كثيراً، ثم اندفع المصلون كطيور الجامع، وانتشروا في مناكبها وآفاقها، سعياً خلف رزق أو غاية، كما فعل أجدادهم منذ مئات السنين.

ما كان رواد المسجد في يوم من الأيام، إلا كهذه الطيور الأليفة القريبة من الباب والمحراب، يحيون زوار كنيسة القيامة ويهشون لأتباع موسى، ويدركون أن المولى هو رب العالمين في الأرض جميعاً، لا فرق بين عربي أو أعجمي إلا بالتقوى، والمسجد الأقصى هو بيت الإيمان والتقوى، فكيف يجرؤ مخلوق ويفكر في تشويهه أو هدمه أو تدنيس حجارته؟

يلقي الشيخ نظراته من مكانه فينفسح المدى المغسول بأشعة الصباح البيضاء، أمام النظرات الباحثة عن شيء ما. يتخيل رجالاً كأمواج البحر يأتون من كل فج عميق، على خيول كالعصافير، وجوههم مضيئة وسيوفهم تبرق كما الشمس يحيطون بالغزاة، ويطهرون الأرض ويهدهدون أثلامها وجراحها المفتوحة.

كانت الآلات والحفارات ما تزال تعمل أسفل أحد الأسوار، والعجوز يطلّ من أعلى، أعماقه مطمئنة راضية، ونسيم الصباح العليل يعبر إلى صدره، محملاً بعبير أزهار الليمون والبرتقال، وأجنحة تخفق فوق رأسه، وكانت ذاكرته تعمل. إنه مقدسي. جاور المسجد الأقصى صغيراً، وعاش في حماه كبيراً، ويعرف تاريخ الأيام والأحداث التي ألمت بوطنه، ويعرف أن المسجد الذي باركه الله، لن يذل أو يهان أو تمتد إليه الأيدي القذرة، ولهذا فهو يشعر بالاطمئنان والرضا مع أن جسده الضعيف، وبكل مسامه يتلقى بين اللحظة والأخرى، هزة أو خفقة أو رعشة، وأصوات صليل الحديد واصطدام المعادن تأخذ بالمكان والأسوار والأثير.

هدأت نظراته فوق تجمّع راح يتكاثر، في فوهة حفرة كبيرة تغوص عميقاً في الأرض، ورأى كبير التجمّع بثيابه الزاهية المميزة يحمل فوق الأكتاف، والفرح الوحشي يكتسح الملامح والحركات، ثم يعلو الصخب واللغط، ولكأن الحفارين قد اكتشفوا كنزاً أو منجم ذهب.

شدّه المشهد واعتراه إحساس عابر بالخوف، وخاطب نفسه وجلاً: "لعلهم وجدوا شيئاً، أثرا، يا إلهي.."

تحوّل الشيخ إلى مجموعة عيون وآذان. وتقاربت طيور المسجد، وكأنها تتوقّع خطراً قادماً، وراح التجمّع الذي ضمّ جميع الحفارين يهدأ رويدا.. رويدا، وذو الثياب الزاهية المميزة يقعي قريباً من فوهة الحفرة الكبيرة.

ما حدث لم يكن منتظراً، ولعل ما حدث كان فوق كل توقع، ولعلّ الرجل المطلّ من أعلى كان الإنسان الوحيد الذي شاهد ما حدث.

رأى العجوز يد فتى في مقتبل العمر، تمتد عبر الفوهة المواجهة للسماء، وتقذف الرجل الذي حمل على الأكتاف بحجر أبيض، فيشج رأسه، ويتدافع الذين حوله كمن أصابهم مس من جنون يحيطون به ويحملونه، ولا يلبث المكان أن يقفز من الحفارين والآلات وذي الثياب الزاهية.

بخطوات بطيئة متأنية، اتجه المقدسي إلى خارج الأسوار.

لم يكن يقصد مكان الحفر، ولا الحفرة الكبيرة، وما فكر.. في هذا..

كانت عيناه قد حددتا مكان سقوط الحجر، وكان بياضه الناصع يعكس أشعة شمس الضحى، وعندما أصبح على خطوة من المكان، حنى قامته وأخذت إحدى يديه الحجر، لترفعه بخشوع وإجلال.

تأمله لحظة ورفع وجهه نحو السماء، والحجر يتوسد اليدين المفتوحتين نظيفاً نقياً، لا أوشاب عليه من تراب أو دماء، وكان العجوز يعود بنظراته إليه، ليقرأ ما كتب فوق أديمه الحليبي:

"بسم الله الرحمن الرحيم.. سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا. إنه هو السميع البصير".

 

 

ســــــور الـخـلاص

 

الآباء يأكلون الحصرم، والأبناء يضرسون. هتف ولدي بسؤال فاجع، كطعنة خنجر، زلزل كياني:

- لماذا فعلتم بنا هكذا... يا أبت؟

أنظر إلى الوجه الأصفر، والعينين الحزينتين، واليدين المختلجتين، كجناحي طائر سقط بطلقة غادرة. تكبر مساحة الاصفرار، يخصب الحزن، ينتفض الطائر المصاب، أقول لنفسي مخاطباً خلفي: "كنت أريدك راية تخفق، سيفاً أشرعه وأغنية تصدح، ونسراً حراً.. لكن".

تتلاشى الملامح، تنطفىء المقلتان، يختفي الذراعان، ويعمّ ما يشبه.. العتمة:

- لا أدري يا بني، صدّقني هذه هي الحقيقة.

ريح سموم تلفحني، وينهار جدار ما في صدري:

- كيف ذلك؟ أخبرتني أن الطريق كان واضحاً، وتعرف تضاريسه وأديمه، قلت لي: أفنيت عمرك وأنت تسير رافع الرأس، نظيف اليد والجسد، فما اهتزت هامتك، وما تراجعت ولم تهجر مكانك في الميدان، وكانت خطواتك قوية وثابتة.. أنسيت يا أبت؟

صدري بحجم محيط، تحتله أنواء وعواصف عاتية:

- أنسى؟ هي ليست ذكريات، أو لحظات من المتعة أو الأسى، هل ينسى المرء حياته؟ في تلك الأيام كانت أميركا فتاة لم تنضج بعد، تبحث عن عاشق في ربوعنا، علّقنا جثّة سمسار تلك الفتاة الماجنة: جون فوستردالاس، على (خشبة). ملأنا كيساً حمل هداياها إلينا: دقيقاً وحليباً وأشياء أخرى، كان فارغاً عندما حشوناه بالقش والثياب البالية، رسمنا عليه صورة للسمسار، ولوّناها، وارتفعت أيدينا براياتنا في الساحات وفوق القمم، كان عندنا السمن والعسل والتبغ الأرجواني، فكيف نأكل الدقيق الأميركي؟

أحرقنا الجثة الملونة في الشوارع، ونثرنا رمادها فوق الوجوه السوداء، والصفراء، وكنّا مثلكم فتياناً وشباباً، وكان الحب طيباً وحبيباتنا كالسمن والعسل، ولم يكنّ عاريات ملوّنات كمن تعشقون.

أخال وجه الفتى يتماهى في وجهي، تختلط السمات والصفات، وتشتبك وتقتتل:

- إنّه الإخفاق، تنكرونه، لنرث عاره وبقاياه.

أحتوي البذرة وأغمسها في الرحم، أمد يدي وألمس الفم:

- كفى. لم نخفق ولا نملك ما تنوءون بحمله، لكنّها حكايتنا وعليكم أن تعرفوها، وتدركوا أننا فعلنا ما استطعنا، لم نكن حزانى كالنساء أو نستسلم ليأس أو خنوع كالجبناء، كنّا فوق الطريق، والشمس تجللنا أشعتها، ولم نعرف الخور، أو نتدثّر بالظلام.

هدأ الشاب، وقبل أن نغادر سور المقبرة المتهدم، وكنّا نستند إلى حجارته المتآكلة، انساب صوته ضعيفاً واهناً وحزيناً:

- علمتني ما لايقدم أو يؤخر، الرقص والتصفيق والهتاف والصراخ بأوهامك كالببغاء.

إلى جوار قبر أبي جلسنا. لم يكن القبر ثرياً في بنائه، أو مزيّناً بما يميز جيرانه، أغمض الحفيد عينيه، وراح يرتّل السور والآيات، ارتفع بي الترتيل الشجي والكلمات الدافئة على أجنحة من الصفاء، وأحسست بالمكان وكأنه واحة أمن واطمئنان، فأغمضت أنا الآخر عينيّ. سمعت أبي يهتف بي:

- ربما أكون قد أخطأت يا بني، لكنّك واجد العذر لي، فأنتم تملكون ما لم نكن نملك، كنّا قبلكم قبائل وأشلاء وعبيداً، ورغم ذلك قاومنا، دفعنا ثمن أن نبقى من نبضات قلوبنا وأفراح حبيباتنا، يكفينا أننا مهّدنا لكم الطريق وكلّ من سار على الدرب.. وصل.

قلت لابني:

- جدّك عاش أيام (سفربرلك) وحمل ميراث أبيه وأجداده، تنكّب بندقية صدئة، واستطاع أن يدمر دبابة للأعداء، وعلّمني أشياء كثيرة عن الحياة والأرض والديار والجار والنساء والأبناء والأحفاد، ولم أقل لذلك الجذر أنّه أخفق أو ضلَ، ولم أطالبه بجنّة عدن، فجنّة عدن يا بني نهاية، يسعى إليها الإنسان وليست بداية، فجدّك عمل ما رآه صالحاً وكذلك من سبقه، وقمت بما أوكل إليّ، لم يشأ الأنبياء والرسل القضاء على الشياطين، ولم تنجح العلوم الحديثة في استئصال الأوبئة والأمراض، ولن تظلّ القوى العظمى كما هي اليوم، فكلّ يجري إلى مستقرّ.

نهض ابني وابتعد، فلحقت به، فكّرت أني قد أهبه الراحة التي لم أشعر بها، عانيت طويلاً ولم أتمتع بهذا الإحساس مطلقاً.

على خطوة من ضريح يتوهّج بالألوان، ويرفل بالخطوط المذهبة والفضية، توقفنا، تنقلت نظراتنا، فوق الأضرحة المتناثرة، بدا أنّها تغطي وجه الأرض ولا مكان لزائر جديد، أمسك الفتى بيدي وهمس:

- أنت تعلم أني لن أكون آخر المساومين..

أهال الشاب، أكواماً من التراب فوق جثتي، لم أكن ناقماً أو غاضباً أو حزيناً، ذلك حقه، فلقد فعلت ما يفعل، دفنت سيف جدي العتيق، وبندقية أبي الصدئة وجثمانه، تحت أكوام مماثلة، ذلك يحدث دائماً. إنّها حكاية الحياة والموت المستمرة، ولا نهاية منظورة في الأفق.

تناهى إليّ، بعد أن غمرني الصمت والظلام، والبرودة، صوت" الولد" ما كان شجياً، ولم يصاحبه الأسى، أو يلتصق بنبراته الغضب، أو اللوم والعتاب، كان أشبه بصوت الناقوس وكان رنينه ذا صدى، فحسبت أنّ المقبرة وسورها المتهالك، والفضاء، والخلاء الممتد بعيداً إلى ما لا تخوم، وكل ما حجبته عنّي تلال الحجارة والتراب، يحمل الصدى ويردده، كأنما وقعت الواقعة، ونفخ في الصور: - هذا ميراثك يا أبت، منذ أُول المقتولين إلى.. مرج الزهور. إنني أحمله، لكن صدقني، فأنا لا أعرف ما أفعل، وهنا يكمن الخطأ، أو الطامة الكبرى، فالموت يترصد الأنفاس، والجريمة في اسمي ولوني وتفاصيل أيامي. أولادي صفر الوجوه، وامرأتي قاصر، وذوو القربى أيدي سبأ، والغيلان يرمحون بين المشارق والمغارب، والسماسرة يبيعون لحمي، وارتفاع هامتي، وقوائم الراحلين.

هل يبكي الأموات؟ ما اشتقت إلى الدموع، وأكره العبرات من أي مقلة سُكبت، لكنّي والصوت يخترق أسوار الحياة، إلى أنفاق الموت، شعرت برغبة الثكالى إلى النحيب، لكنّ عينيّ مغمضتان، وأنفاسي ساكنة، وفمي مغلق، فكيف أعبر عما بي، وأريح وارثي القابع في شفا جرف هار؟

افتقدت الصوت والصدى، رويداً رويداً، ثم.. لم أعد أسمع شيئاً..

مضى.. زمن طويل والصمت يكسو المقبرة كرداء، لا تراتيل أو آهات، لا وقع أقدام، لا شهداء أو موتى، ماذا يحدث في عالم الأحياء؟ سكن الآباء والأجداد منذ أصبحت من عدادهم، وددت لو تحدّث أحدهم إليّ: أبو ذر، مصطفى، عنترة، علي، إبراهيم، عروة، طارق بن زياد، وجميع الأسماء من أجدادي الأثرياء أو الفقراء، العظماء أو الصعاليك، الشهداء أو حملة الأوبئة والعاهات، أصحاب القصور أو الأكواخ، الذين يعشقون النساء والجواري والغلمان، والذين تضوع ألقابهم بالغار والعفّة والإيمان. لا أحد.. لا صوت.. لا موتى.. هل يقاطعني آبائي وأجدادي؟ ربّما.. لكن الأبناء والأحفاد.. أين هم؟ إلا يموتون أو يستشهدون؟ ألا يزورون قبور موتاهم؟

جاءني صوت ولدي، إنّه صوتي، تذكّرت النبرات والشجن، والدفء الممزوج بالبرودة، والصوت يدنو من ضريحي.. ويستقر فوقه:

- هنا يا بني جميع أجدادك، وهذا قبر أبي، جدّك الأخير . هم عاصروا القوى الغاشمة والامبراطوريات، وعبرت بهم جيوش لا حصر لها، جيوش الفرس والروم والأحباش، المغول والفرنجة واليهود، عرفوا القياصرة والأكاسرة، هولاكو وتيمورلنك وريتشارد قلب الأسد، ملوك الطوائف وأمراء المماليك وسلاطين بني عثمان، الإمبراطورية العثمانية، والمملكة التي لاتغرب عنها الشمس، والاتحاد السوفييتي العملاق، والولايات الاميركية العظمى، وذاقوا الأمرين من دويلة أسموها "إسرائيل"..

لقد قرأت التاريخ يا ولدي، وتعرف أن أجدادك عاشوا مراحل قيام الإمبراطوريات وانهيارها، منذ البداية حتى اليوم.

شعرت وكأنّ الحياة تعاود سيرتها في جسدي، وصوت جديد، هو صوت أحد أحفادي دون شك، يعلو ويعلو، خلت أنه يخاطبني، يتحدّث إلى القبور من حولي، يبسط يديه القويتين، وينزع الحجارة والألوان ومظاهر الثراء والعوز، يبسط الأرض وكأنّها راحة الكف، يخلط ترابها وأشلاء أصحابها، يقلب عاليها سافلها، ويصنع من ثوبي، وأثواب أبي وأجدادي راية كبيرة، يشرعها فوق رأسه لتظلله فترفع البذور هاماتها، وتنفتح الأجداث لهامات ما يخفي الأديم، لتنتصب وتتطاول حتى تعانق السماء.

قال الحفيد:

- ليس من أجل هذا جئت، يا أبت، أنظر.. أنت ترى أن القبور تملأ الخلاء، ولا تترك مكاناً لزرع أو نخيل، بين أصحابها من أتى بأمجاده وقصوره، وهنا من كان لا يملك شروى نقير، ورغم أنهم يعرفون أننا خلقنا لنعمر الأرض، وأن اللعنة تصيب من شرف القبور ورفعها عن الأرض، فقد زينوا مدافنهم وحدها، بالرخام والحديد والألوان. وأحاطوها بالأزهار، وما ينقصهم سوى الخمرة والنساء.. والحراس.. من مثل هذا يا أبت، مات آباؤكم وأجدادكم، وعيونهم حزينة، ورؤوسهم منكّسة، مع أنّكم خير أمة أخرجت للناس.

مرّت فترة صمت، أعقبها سقوط جسد فوق ضريحي، رافقه ارتطام واهتزاز، وتردّد أنفاس متعبة، وعندما استقر كل شيء وهمد، علا صوت الحفيد حاراً، وحازماً:

- ها قد واريت رفاتك في المكان الذي اخترت، ولن أقيم لك نصباً، أو آتيك بحجارة بيضاء وألوان زاهية.

هل يبتهج الأموات ويبتسمون؟ لعلي كنت مبتهجاً، وربما رحت ابتسم، أحببت هذا القادم عبر الزمن، من صلب يمت إلى جذوري، أكان المنقذ أو المخلّص. إنّه حفيدي وتمنيت لو أعود ساعة واحدة إلى الحياة، لأشاهد وجهه وساعديه ونظرات عينيه، تخيلّته قوة لا تقهر، وساعدين يقاومان الحديد، وعينين تواجهان المخرز، ووجهاً كالقمر، يجب أن يكون حفيدي جميلاً وقوياً، ولا تنقصه الشجاعة.

مرة أخرى، انطلق صوت الحفيد، كان يخاطب آخرين ويقول لهم:

- لابد أن نبدأ بالسور، حتى لا يستطيع الأغراب اجتيازه.

ظلّ الصوت يتصاعد، والراحة التي لم أتمتع بها مطلقاً، تتسلل إلى ما بقي مني، كوميض فجر يهتك أستار الليل، كنداء سحري، كنسيم في نهار قائظ، كالنوم لجسد منهك، ثم تلاشى كلّ شيء..

 

 

 

الســور الـقـديـم

 

 

.. الألم.. أخطبوط له عشرات الأيدي، تمتد وتعبث بخلايا الجسد الهامد.

يتلمّس الأعضاء والملامح، تستقرّ اليد الباحثة على الوجه المنتفخ. الفك السفلي ما زال يرتعش وتصطدم أسنانه بالقسم العلوي. عيناه.. مع مضي الزمن، عاد إليهما الإبصار، وكان يظن في لحظات العذاب، أنه لن يرى بهما بعد اليوم. أنفه وأذناه. عنقه وشفتاه، ومؤخرة رأسه. كلّ هذه الأعضاء وسواها، افتقد الإحساس بها وتوقفت عن العمل، أما ساقاه، وقدماه، وظهره. مكونات جسده جميعها، اقتربت من الخط الفاصل بين الحياة والموت، ولعلّه وبرودة ليل المدينة الشتائي تلسعه وتعيد إليه بعض الإحساس، بوجوده، ما كان ليتوقع لهذا الجسد الملقى في مكان مهجور بين القدس وقرية سلوان أن يعيد سيرته مع الحياة، فيتماسك وينتصب رغم الآلام المبرحة، ويغادر الحفرة العميقة التي ألقي بداخلها.

رفع رأسه باتجاه السماء، وشكر الله مراراً، وشعور بالاطمئنان يغمره، فساقاه تحملان جسده، وخطواته تتلاحق، وهواء ما بعد منتصف الليل، يتسرب عبر ثيابه الممزقة، ليوقظ ما خدرته الضربات واللكمات من لحمه وأطرافه، وها هو منزله يقترب، رغم الظلام، يتخيل البيت فاتحاً صدره، ليحتضن الآلام والكدمات والهموم.

فتح الباب ودخل، دون أن يحدث ضجيجاً، لئلا يزعج النائمين، لكن وجوه: أمه وزوجه وأولاده، أحاطت به، يكسوها الشوق والقلق والتساؤل.

تناثروا حوله وهو يجلس على أحد المقاعد. عيونهم عصافير أليفة، ترفّ حول وجهه المتورّم، وتلامس أثوابه الملطخة بالأوشاب والدماء.

غالب إحساساً بالحنان والعطف، ورغبة أبية في البكاء، ومع ذلك راح يبتسم، ابتسم الأولاد، وظلّت الأم والزوجة ساكنتين، تتأملان الملامح المشوهة، والجسد شبه العاري.. خلال لحظات تغير كل شيء.

الأبناء ينظرون إلى الأب باعتزاز وإكبار ويفكرون "لقد خاض معركة كبيرة ضد الغزاة".

الأم نزعت الثياب عن جسد ولدها وساعدته في ارتداء ملابس أخرى.

الزوجة جاءت بالماء الساخن والمطهرات.

لم يسأل أحدهم عن شيء، وكان الرجل العائد من الموت، يبادلهم النظرات، ويبتسم، فلقد عاد، وهذا هو المهم الآن..

***

منذ كان (علي) فتى صغيراً، وهو يرافق أباه إلى مكان عمله صباحاً. يساعده في حمل الصناديق والرزم، والكتب والمجلدات. ينظفها من الغبار، ويرتبها حسب أحجامها وألوانها، ثم يجلس على مقعد خشبي، على خطوات من مدخل المسجد، يرد تحيات العابرين، وينتظر عودة أبيه من المسجد، ثم ينطلق إلى مدرسته، خلف (سوق الباشورة) ليعود مع الغروب ويكون والده قد باشر بجمع الكتب، وإعادتها إلى صناديقها، لحملها إلى البيت.

وهكذا، كانت الأيام تمضي، حتى بلغ (علي) سن الرشد، وتزوج وأنجب، ورحل أبوه إلى جوار ربه، برصاصة غادرة من سلاح أحد جنود الاحتلال، ليرث عنه عمله، ومكانه على تخوم المسجد الأقصى.

يذكر (علي) جميع التفاصيل:حاول الغزاة إغواء الرجل الكبير لإبعاده عن السور ومنعه من بيع الكتب، وكانت وصية أبيه له، ويرددها في الصباح والمساء: "إياك ثم إياك أن تبتعد عن أسوار المسجد، أو تترك بيع الكتب" وقد أدرك فيما بعد سر رغبة المحتلين في إبعاد أبيه، وسروصية الأب الراحل، وها هي الأيام تؤكد له هذا الإدراك، وتزيد في تصميمه على الالتزام بالوصية، مهما كلفه ذلك من آلام وتضحيات.

***

كان (علي) قد استسلم لسنة من النوم، لكن الإغفاءة لم تستمر طويلاً، أنهاها صوت الآذان، يدعو إلى صلاة الفجر.

نهض ناسياً آلامه، لكنه لم يستطع التماس المسجد، فقدماه تورمتا، وآلام ظهره تمنعه من الانتصاب. تماسك يبتهل إلى الله، ثم سجد في مكانه وأدى صلاته، وفي الزمن الفاصل بين الصلاة وشروق الشمس، عاد إلى فراشه لتشاركه ذكرياته مع أبيه في وحدته.

إنّه يتذكّر ذلك اليوم القديم، ولا يدري لماذا أحس يومها بالخوف والقلق، وأحد الرجال الرسميين، يقترب من أبيه، بعد أن تفحص صفوف الكتب المعروضة، ويخاطبه بصوت عال، أثار انتباه العابرين:

* أنت. أيها البائع. من يدفع لك أجر إقامة هذا المعرض؟

ابتسم أبوه وأجاب:

* إنه.. مصدر رزقي.

أعاد الرجل نظراته إلى الكتب، وقال بعصبية: لا.. لا.. هذا معرض دعاية ضد الدولة. ضحك الأب وأشار إلى العناوين والأغلفة الملونة:

- ضد الدولة؟ قصة أهل الكهف، وقصة الإسراء والمعراج، يوسف والثوب الممزق. الملك سليمان والهدهد.. الطفل موسى وحكاية النهر. ماذا في هذه الكتب من دعاية ضد الدولة؟.

تلفت الرجل العصبي حوله. تسلقت عيناه أديم السور، وتجولت فوق تضاريس المسجد، ثم أعادهما إلى الكتب.

* هل أخذت تصريحاً باستخدام المكان؟..

أجاب الأب:

* أنا أضع كتبي هنا، قبل.. آه.. منذ زمن بعيد.

قال له أبوه، بعد ذهاب الرجل: ".. وددت لو أخبرته أنني مقيم في هذا المكان، قبل قيام دولته، وقبل أن يدنس أمثاله، تراب هذه الأرض..

في الأيام التالية، غاب الأب عن البيت عدة أيام، وعندما عاد، كان في مثل حاله: العينان والأنف والعنق والظهر والساقان.. والثياب. صورة طبق الأصل، لا تختلف في شيء، إلا في سيول الدموع التي غمرت وجه الرجل الكبير.

قال له يومئذ:

* الحكاية طويلة يا علي.. سأقصها عليك ذات يوم، أما الآن فكل ما أطلبه منك، هو أن تتمسك بأسوار المسجد وجواره، وتستمر في عمل أبيك إلى أن يكبر أبناؤك ويرثوا الكتب والمكان..

***

ترك (علي) فراشه، وألقى نظرة من النافذة إلى الخارج، وكان صوت أبيه يلحق به، وصورة وجهه تبرز أمام عينيه، فتضيء تباشير الصباح الأولى قسماته الحزينة:

- أدركت وهم يحيطون بي يا علي أنني أمام أحد أمرين أحلاهما مر، وهذه طريقتهم في التعامل معنا، فإما الاستسلام لإغراءاتهم الرخيصة، أو تحمّل عمليات الإذلال والتعذيب، ومن ثم الموت.

في البداية عرضوا عليّ عملاً بأجر مغر في حانوت لبيع المواد المستوردة، وعندما لمسوا تمنعي أبدوا رغبتهم في تمليكي الحانوت.. لكني لم أستسلم فجاء الرجل العصبي الذي قال لنا اننا نعمل ضد الدولة وأعلن بصوته العالي" هذا الرجل يعمل لصالح جهات معادية". وبدأ مسلسل الإذلال والتعذيب، وما أظنهم يا بني سيتوقفون، لأنهم وهم يعرّضون جسدي لأحدث ما اكتشف الغزاة من وسائل الضرب والإهانة، لم يكونوا يضربون رجلاً يعتاش من عمله البسيط، بل كانوا يرون في جسدي المقاوم، كل ما ينتظرهم في المستقبل والأيام القادمة، ولهذا يا ولدي، أقول لك: لا تبتعد عن أسوار أرض المسجد، مهما كان الثمن والتضحيات.."..

***

ما حدث للأب حدث مع الابن. لقد أردوا الأب برصاصة ذات مساء، وهذا هو الشيء الوحيد المختلف حتى الآن، وعلي يؤمن أن الأعمار بيد الله، ولو اجتمع غزاة العالم، ما استطاعوا تأخير أجله أو تقديمه.

هكذا كان يفكّر، وذلك الرجل العصبي، يتقدم الجنود الذين أحاطوا به واقتادوه، سيراً على الأقدام، من جوار المسجد، إلى الجانب الغربي من القدس حيث ترتفع الأبنية ذات الطراز الأروبي، وتضج الشوارع والحانات بالصخب، وتختلط الأصوات بمختلف اللغات وتفوح روائح المسكرات من كل ركن وزاوية.

فوجىء البائع الشاب، وهو يعبر مدخلاً واسعاً، يحرسه جنديان مسلحان، بصوت يرحب به، ويدعوه إلى الجلوس:

*- أهلاً. يا علي.. اجلس.

لم يصدق ما يسمع، وصاحب الصوت يوجه اللوم إلى الجنود، ويأمرهم بمغادرة المكان.

امتدت يد الآمر نحوه، بعلبة تبغ فاخرة، ملأت خياشيمه برائحتها الثقيلة، ودون إرادة منه، تراجع رأسه إلى الخلف:

* أنا.. لا أدخن.

راحت عيناه تتجولان في المكان، والآمر الشاب يشعل لفافة، وينفث دخانها في فضاء الغرفة.

على الجدار المقابل لعلي، راحت أضواء صغيرة تومض وتنير تضاريس خارطة كبيرة.

تعلقت نظرات علي بالخارطة. إنه يعرفها جيداً، ورسمها كثيراً في دفتره المدرسي، حفر معالمها وأسماء مدنها وجبالها وسهولها وأنهارها في ذاكرته.. على تخومها الغربية كان يكتب فوق مكان القاهرة، وبخط جميل وكبير: (القاهرة المعزية) وفي وسطها يرسم حروف (مدينة رسول الله الكريم) وإلى جوارها، حيث تربض مدينة بيت المقدس، يلون ما حولها من فراغ، ويمد الخطوط لتتجمع وتحل صورة المسجد الأقصى مكان المدينة، ومن بيت المقدس، يتجه نحو دمشق وبغداد، ولا يتوقف شرقاً حتى حدود الصين.

أما هذه الخارطة، فهي عجيبة العجائب، الأسماء غير الأسماء، والأماكن.. سبحان الله، كأنها غادرت مهادها وغيرت سماتها وصفاتها.

كان الآمر الشاب، يلاحق نظرات علي، وعندما طال الصمت، هتف به قائلاً:

* هل أعجبتك الخارطة؟.. كنت أعرف أنك مواطن صالح.

صوب (علي) نظرات عينيه، إلى وجه الآمر، وأشار بإحدى يديه، إلى الجهة الشرقية من الخارطة.

* كنت أظن أن الدولة تمتد بين نهري الفرات والنيل، فكيف شملت الهند والسندو.. وحتى حدود الصين؟..

ضحك الآمر:

* إنها حدود إمبراطورية المستقبل. كل مكان أقمنا فيه لنا الحق بامتلاكه، وهذا ما سنفعله.

كان (علي) في تلك اللحظات يحس وكأنه في حلم، لكنه ما كان يشك لحظة، في أن ما يراه هو أقرب إلى الخيال بل هو خيال مخلوق مصاب بكل أمراض البشرية.

لم يقل شيئاً، وإن كان يود لو يقهقه ساخراً، لكنه لا يستطيع، لأنه يعرف ما ينتظره ومستعد له، فما حدث لأبيه سيحدث معه، ولابد أن يخضع لما خضع له الأب الراحل.

استمر الآمر في التدخين، ثم جاء صوته ودوداً رقيقاً، وقد غمرت وجهه ابتسامة كبيرة:

* نحن نعلم أنك مواطن صالح، وتعيل أسرة كبيرة، والأعمال في (أورشاليم) قليلة، ولا تدر ما يكفي للعيش الكريم، فهل فكرت بعمل مناسب تعتاش منه" ؟.

هز علي رأسه وأجاب:

* الأمور حسنة والحمد لله.

شد الآمر صدره وبسط يديه فوق المنضدة التي أمامه:

* نحن نكافىء مواطنينا الصالحين، وقد قررنا أن نسند إليك عملاً يكفل لك عيشاً سعيداً، فلا تبقى في العراء، تحت المطر والشمس لقاء قروش معدودة.

بقي علي صامتاً. عرضوا على أبيه حانوتاً لبيع المواد المستوردة، فماذا سيعرضون عليه؟ ولماذا كل هذا الاهتمام، وهل من المعقول أن تهتم دولة بكائن قامت على أنقاض أجداده وبني قومه؟.

ظل صامتاً، والآخر يشرح له مهام عمله الجديد:

* كل ما عليك، أن ترافق السائحين. تأخذهم لزيارة الأماكن التاريخية والآثار القديمة، وستنال مكافأة جيدة، ستكون أجورك بالدولار..

لم يجد علي ما يقوله. كان يتمنى لو ينقض على وجه هذا الثعلب الذي يحاول إبعاده عن الأسوار، وهجر مهنة أبيه، وفي أعماقه تتنامى أمنية يعرف أنها لن تتحقق، وهي أن يكون نائماً ويحلم، وأن يكون ما يحدث يحدث في حلم.

جاءه الصوت، أكثر رقة ووداً:

* العمل بانتظارك منذ الصباح.

وجد علي نفسه يسأل:

* وإذا رفضت؟.

سأل الآخر، باستغراب:

* ترفض؟.. ما أظن أنك تفعل. غبي من يرفض أن تصبح حياته سعيدة.

سمع علي صوته، يعلو ويعلو:

* أنا أرفض. لا أستطيع هجر آبائي وأجدادي.

في اللحظة التالية، تغير المكان والأشخاص. استعاد علي مشهد الخارطة العجيبة، ورأى أمامه محققاً وحوله مجموعة من الجنود المدججين بالسلاح، وكان المحقق، يرفع في مواجهة وجهه، عدداً من الصور التي يعرف أصحابها:

* أنت تعمل ضد الدولة. توزع صوراً ممنوعة. ألم توزع صوراً ممنوعة لـ..

لم يعد علي يسمع كلام المحقق، وهو يتأمل الصور بمحبة. نسي نفسه لحظات، ثم ابتسم، وبعدئذ بدأ الألم. أخطبوط له عشرات الأيدي، تمتد وتعبث بخلايا جسده، تعيد سيرة والده، وتلقيه داخل حفرة في مكان مهجور، بين بيت المقدس وقرية سلوان..

***

بعد أيام، غادر (علي) منزله في الصباح الباكر، حاملاً ما استطاع من رزم الكتب والمجلدات، وعندما وصل إلى جوار السور راح يرتب ما يحمل، حسب الأحجام والألوان، وعندما انتهى جلس على مقعد خشبي، على خطوات من مدخل المسجد، يرد تحيات الداخلين والخارجين والعابرين، وكان الألم ما يزال يذكره بأن الحكاية ستستمر وتستمر، حتى يلحق بأبيه، أو يهجر السور القديم.. أو تتلاشى أضواء تلك الخارطة العجيبة.

 

 

 

الاحتفال

 

يفقد النهار ألوانه وإشعاعاته. تبدو السماء بعيدة. بعيدة، والأرض.. ربما، هو زلزال يضرب طبقاتها وأعماقها، ولعلّ الكون يلفظ أنفاسه.

أرمق الآفاق، بعينين تحترقان. أصرخ ملء فمي:

- أين أنت أيّها الصبي؟

كنتُ مثله عندما بدأت الحكاية، وبعدد أعوامه تماماً، فرأيت نساء يبكين، وأطفالاً يفرون كالفئران، وشيوخاً يبسملون، ثم يكبرون ويركعون، ورأيت توابيت وجثثاً عارية غسلت على عجل، وبعضها لم يغسل، رأيت دموعاً تملأ أنهاراً وبحاراً، وسمعت بكاء وعويلاً وصراخاً، وسمعت أصواتاً كهزيم الرعد وقصف الصواعق، وشاهدت حرائق ودماراً وسجوناً ومصحات ومشافي ومقابر وحفراً، وحديداً محروقاً، وأيدي ورؤوساً مقطوعة، مبتورة، ورأيت وسمعت منذ كنت مثله، لكني لم أسمع ضجيجاً ودويّاً وانفجارات من قبل، كما أسمع الآن:

- ماذا هناك أيّها.. الصبي؟

اقترب حتى تبينت زغب وجهه الأصهب، ولون عينيه الداكن:

- إنّه الفرح أيّها العجوز، وهم يحتفلون

- أيّ فرح يا ولدي، ومن الذي يحتفل؟

ضحك الصبي. بدت أسنانه وقد صبغها التبغ بلونه، صفراء متنافرة ومتناثرة:

- ألست من هذه الديار؟

- أنا من كلّ هذه القرى.

سيسخر منّي. أشرت بيدي إلى الشرق والغرب والشمال والجنوب. سيظنني معتوهاً دون شك. ابتسمت بمودّة:

- أنا... من هنا.

دار حول نفسه، وواجهني بطلعته:

- كيف لا تعرف أنّهم يقيمون فرحاً كبيراً؟

- كيف لي أن أعرف، وقبور موتاهم لم يجف ترابها بعد؟..

يضحك الصبي، ويغرز نظراته في وجهي:

- وتقول أنّك من هنا. أيعقل ما تقول؟

- والله.. لقد صدقتك القول.

يهز رأسه مستغرباً:

- ولعلك لا تعلم أنّ رجالاً خطفوا عدداً من فتيات..

أقاطعه:

- بلى... انّي أذكر.

- هؤلاء الرجال سيتزوجون، فأهل الفتيات المخطوفات وافقوا على تزويج بناتهم للخاطفين.

أتذكر، أنّ غرباء ركبوا أيام الخوف وظلام الليالي. حرموا سماءنا من طيورها، وحقولنا ومغانينا من فراشاتنا، وزهورها، حتى أزهار الأقحوان وشقائق النعمان أبادوها، وكمّوا أفواه الرعاة. جمعوا أغانيهم في حقائب وزجاجات وباعوها. حجبوا ضوء القمر الذي كان ينير أماسينا، ومنعونا من مياه الينابيع والأنهار، أمّا أراضينا. أراضي جنّة عدن، فأكلتها المقابر والحفائر.

سأل الصبي:

- أنت حزين جداً. هل اختطفت إحدى بناتك؟

ارتفع صوت الطبول، ربّما هو عزيف الجن، أو يشبه ما سيحدث عندما تقوم القيامة:

- كلّ المخطوفات.. بناتي.

- ستحضر الاحتفال في هذه الحال، فلماذا لا ترتدي ثياباً جديدة وتحلق لحيتك؟ أنت لم تفعل ذلك منذ زمن.

أتذكّر أنّي كنت ثرثاراً مثله. سألت النساء لماذا يولولن ويندبن، أقعيت إلى جوار الشيوخ، استرق النظر إلى هيئاتهم، وأصيخ السمع إلى بسملاتهم وتكبيرهم، ومشيت خلف الجنائز والتوابيت، ووقفت على أنقاض المنازل، وغصت في أعماق الحفر والخنادق.

سألت الصبي:

- هل أحضر الاحتفال؟

- ولماذا لا تحضر؟ سيكون فرحاً لم تر الأرض مثله. قلت لنفسي "لا يهمّ عندما يعمّ الظلام يكتسح السهل والجبل والوادي" وقلت "والأمر كذلك عندما تشرق الشمس". أحسست بكرب: كيف سأحضر؟ قد أصدق أنّ القيامة قامت، وأنّ الشمس انطفأت ولن تظهر ثانية، لكنّي لا أصدق ما يحدث وقلت لنفسي أيضاً "لعلي خرفت أو أدمنت التشاؤم والحزن. ربما متّ وأنا لا أدري. لمن هذه القبور كلّها؟ هناك قبر يضمّ رفاتي دون شك، وهناك امرأة دفأى سكبت عبرات من أجلي وروت ظمأ الضريح، وهناك منزل سقط سقفه فوق جثّتي، أو خندق انطبقت ضفتاه لتحجبا عنّي النور والهواء وتكمّا أنفاسي".. سمعت صوت الصبي، يهيب بي:

- عليك أن تسرع. بدّل ثيابك الرثة، ونظّف نفسك جيداً. إنّه احتفال لا نظير له.

راح الضجيج، يقترب ويبتعد، أشعر به يدّوم في رأسي، ويستبيح نبضي وداخلي، ويشتدّ الدويّ، وتتلاحق الانفجارات، ثم يهدأ الكون. تعبر لحظات سكون، خلسة، أصيخ السمع، وأتذكّر وجود الصبي:

- لماذا أحضر؟

بحدّة ونزق، يضرب الأرض بقدميه. يرفع يديه كمن يتنكّب راية، أو يحمل شيئاً ثقيلاً. ألمح في اليدين مسدساً. خنجراً، وقنابل:

- ستحضر وأنت صاغر..

أحسّ بالقهر والذلّ، وتجتاح جسدي روائح العبيد والمستضعفين:

- إنّهم يشفقون عليك، يتيحون لبناتك أن يعشن في طمأنينة تحت ظلال سيوفهم، فماذا تريد أكثر من ذلك؟

يكبر الصبي، يتعملق، في فمه /غليون/ مشتعل. عيناه تسكبان اللظى فوق ملامحي وهيئتي، وفي اليدين يلتمع نصل، وتئز رصاصات، والضجيج ينفجر من جديد:

- أنت عاجز عن المقاومة.

أمدّ نظراتي. أعجز عن تبين الآفاق:

- سأحضر. لابدّ من الحضور.

يقترب الصبي. يعود الزغب الأصهب إلى وجهه، ويبرز لون عينيه الداكن:

- كلّهم يقولون ذلك.

- كلّهم؟

إنّهم يبحثون عن نهاية أعظم إيلاماً. لم أبك من أجل الطيور والحقول والفراشات وأزهار الأقحوان وشقائق النعمان. حزنت. نعم كان حزني عظيماً عندما نفقت أغنيات الرعاة، وانطفأ ضوء القمر، وتشوّه وجه الأرض الخصبة، لكنّي لم أبك أبداً... ستعود الطيور والفراشات، عندما تزهر الحقول والحدائق، وتختال سنابل القمح الشقراء، على مساحة المدى المغسول بالأشعة، أمّا الآن، حتى وهم يحتفلون يفكّرون بنهاية أشدّ إيلاماً، لعجوز لم يهزم منذ (ذي قار):

- بم تفكّر؟

أدرت وجهي، فأصطدم بالضجيج والدوي والانفجارات:

- إنّي أفكّر بالاحتفال يا بني.

طار جسد الصبي في الهواء، فرحاً:

- إنهم مقبلون، وعليك أن تكون في المقدّمة.

المقدّمة للرايات والبنود والسيوف، لمن تضيق بهم حفائر الأرض. لشمس أخرى وعشاق آخرين وكون آخر، ولزمان لم يحن بعد:

- أنتظر عودتك نظيفاً، مزهواً وسعيداً، فالمكواكب ستعبر من هنا، ويجب أن نكون في المقدّمة.

يتطاير وأطرافه ترقص، فأستعيد مشاهد أجساد مزقتها القنابل والألغام، وتناثرت أشلاؤها. أرفع يديّ. أغمر بهما وجهي. أسمع أصداء بعيدة، تقترب وتقترب. تلتصق بأذني، تضجُّ تطغى على الأصوات والأصداء، تركب المدى خيول لأعدّ لها. يعلو صليل سيوف. تهتزّ الأرض تحت الحوافر. أرفع اليدين، فأشاهد الصبي يعدو باتجاه الضجيج والدوي والانفجارات.

يدير العجوز ظهره، ويسير بخطا وئيدة، وعندما يتحوّل الصبي إلى نقطة سوداء صغيرة، يلتفت العجوز. يرنو بعينين تتفجران بالدموع. يمسح عبراته. تتدانى الأصداء البعيدة: "البحر من ورائكم، والعدو من أمامكم، وليس لكم والله إلا الشهادة أو النصر" تحمحم الخيول. تهزج السنابك، وتشدو السيوف، ينفتح المدى على اتساعه. تغادر نظرات العجوز الأديم. ترتفع قليلاً قليلاً. يتلوّن الوجه القديم. يبدو كقمّة مضاءة في الفراغ الرحب، وحول الوجه المضاء، وعلى أطراف الأفق، يتوهّج لون السماء، بينما الشمس تساقط أشعتّها، فوق الجسد المنتصب، فيمتدّ ظلّه ليغمر المسافات، إلى الغرب من مكانه، وكانت أصوات الاحتفال تخبو وتتلاشى، وكأنّها آتية من عالم آخر، أو هي بقايا حلم فاجأه لون النهار وإشعاعاته..

 

 

 

أحزان تحت الشمس

 

 

1- الـجثـّة:

 

تساقطت أشعة الشمس ذرات ملوّنة، وغمرت المكان. ظهرت هرّة سوداء، لحق بها كلبان رماديان ينفضان عن جسديهما ما علق بهما. رفرف عصفور منطلقاً من شجرة قصيرة الجذع وطار مبتعداً.

تجمعت الأشعّة فوق جثّة، أضاءت أزرار السترة. تفتّحت ألوان الثياب. التمع الأسود وتماهى باللون الأحمر والأصفر ممتدّاً كأفعى. عند القدمين استقرّت ربطة أرغفة من الخبز، وحزمة من البصل الأخضر، ومجموعة من حبيبات البندورة والخيار. قرب الرأس ارتمت إحدى اليدين بينما اليد الأخرى تقبض على مقبض حقيبة جلدية عتيقة. على خطوات من الجثّة، ضاق طريق ترابي، على جانبيه بيوت مختلفة الأشكال والألوان والنوافذ.

ارتفعت الشمس قليلاً. تخللت الوجه. القدمين. الثياب. الحقيبة الجلدية وكومة الخضار. وتابعت سيرها في السماء. تعالى صوت أحد الباعة. أشرعت نوافذ. فتح الطريق صدره لرجال ونساء وأطفال. الوجوه كابية والعيون نصف مغمضة، والأيدي تقبض على أشياء وأشياء. فاحت في المكان روائح الخبز الساخن والحليب. الشمس تتابع سيرها، والوجوه تنضح بالاهتمام والتعب.

ألقى رجل- يحمل علبة بيضاء وعدداً من أرغفة الخبز- نظرات عابرة باتجاه الجثّة، ثم غضّ بصره وتابع سيره. فعلت امرأة - تحمل سلّة وهي تميل تحت ثقلها- ما فعله الرجل. ظهر الذعر في نظراتها ونصل لونها، لكنّها تمالكت نفسها وحوّلت وجهها إلى الجانب الآخر متابعة سيرها.

وقف طفلان على مقربة من الجثّة. قال الأكبر:

- إنّه.. نائم.

قال الثاني:

- قد يكون.. ميتاً.

تبادلا النظرات. فتاة صغيرة اقتربت منهما. قالت:

- إنّه... رجل.

- بالتأكيد هو ليس امرأة.. قال الكبير.

قال الصبي الصغير:

- أنا لا أعرفه.

قال الكبير:

- هو ليس من حيّنا.

قالت الفتاة:

- ما الذي جاء به إلى هنا؟.

أجاب الكبير وهو يأخذ بيد الصغير هامّاً بالمسير:

- قدماه.

ابتعد الأطفال- عيونهم لا تودّ أن تغادر مكان الجثّة- وابتلعهم أحد الأزقّة.

دنت الهرة السوداء من الرجل الملقى على الأرض. تحسست البصل والبندورة والخيار. تريثت عند أرغفة الخبز. أخذت رغيفاً ثم ولّت هاربة.

تدافع الكلبان الرماديان وأحاطا بالجثّة. تشمما الرأس، الثياب، القدمين. الحقيبة الجلدية والمواد المبعثرة. ألقيا نظرات كسلى وغادرا المكان يتبع أحدهما الآخر، وكانت الشمس تتابع صعودها في الفضاء.

امتلأ الطريق بالناس: مخلوقات بمختلف الألبسة والأزياء. عربات. دراجات. سيارات تطلق دخاناً أسود وتثير الغبار، والشمس تنفث أشعتها وتنثرها في كلّ الأرجاء.

تململت الجثة. التفت الكلبان الرماديان وتحفزّت الهرّة للوثوب وظلّ الشارع على ما هو عليه. انتصب الرجل واقفاً. نفض ما علق بثيابه من أوشاب. جمع حاجاته وأرسل نظراته في رحلة وسار.

راحت الشمس تلتصق بوجهه وعينيه الحزينتين، وتتخلل ثيابه وما تحمل يداه، وكان يردد:

حمداً لله على كلّ حال..

 

2- الـزحـام:

على الرصيف رجل كبير وطفل وزحام شديد وشمس من نار. توقّف الطفل متعباً وعيناه تسبقان أنفاسه. دنا الرجل من الصبي وربت على كتفه. قال له:

- لماذا تسرع يا بني؟

ارتعشت أجفان الفتى ولامست عيناه نظرات الرجل الحانية:

- أنا.. أبحث عن أبي

تطايرت عيون الاثنين وحلّقت فوق الوجوه والثياب والتضاريس. كيف يمكن رؤية إبرة في جبل من القش أو مجرى ماء متدفق؟.

هكذا فكر الرجل وتمنّى أن يملك لهفة الصبي وحماسته.

 

3- ذاك الــوهـج:

(( أستغفر الله العظيم))

يخفق قلب الرجل، وتشعّ المرئيات من حوله. شيء ما بعمر الثواني وأكبر من الزمن. أرقّ من الأزهار وأقوى من الأعاصير، يعود إلى ذاكرته. يتجمّع في صدره وينبض فرحاً ينتشر في أعضائه. يعيد إليه ذكريات الألوان الزاهية، والخصل الناعمة كالحرير، والماضي والنظرات المتعثرة والخفقات الأولى..

إنّه الحبّ، هدهد قلب العجوز فتنفّس الأفق، وراحت أغنيات الصبا تبرعم فوق شفتيه. ((لاشيء ينتهي. ثمة شيء واحد تقصمه النهاية هو الزمن الخاوي. الأيام الشاحبة. أما الزمن الحافل بالأحلام، والأغنيات والأحاسيس الثرية، فهو لا ينتهي. يظلّ شاباً دافئاً غنياً بالحياة)).

ابتسم لأفكاره. أحسّ بحبّ لملامحه الناحلة. لخطواته التي ما عادت تتحدّى الصخور والعوائق: (( لا.. لا تموت الأحاسيس بتأثير الزمن)) كان الوجه الآخر يبتسم. رأى حبّاً قديماً ما يزال مشرقاً نضراً والمرأة التي تنتسب إلى عالمه تبتسم. تقاربا. ابتعدت الفصول والأيام الشاحبة والزحام، ثم سارا معاً. لا شيء تغيّر أبداً، لا شيء.. حتى الخوف من الآخرين ما زال موجوداً. شيء واحد يدركان أنّ الزمن لم يتركه كما كان، وهو أنّ الآخرين لا يمكن أن ينتبهوا إلى ما يحدث، وأنّ الوجهين القديمين، ما زالا يعيشان ذلك الوهج الذي يبثّه الحبّ في الأعماق على الرغم من الزمن. سألته:

- كيف حالك".

تصبّب عرقاً وتلعْثم. أحسّ أنّه يعود القهقرى إلى زمن بعيد. إلى عشرين. ثلاثين سنة مضت وربّما أكثر. ودّ لو يقول لها: إنني أشعر بالوحدة والفراغ والليالي طويلة طويلة لكنّه أجاب:

- لابأس.

كانا.. يبحثان عن إحساس بالاطمئنان لا أكثر، وهما مازالا يعيشان رغم الزحام والزمن والشمس الحارقة.

تبادلا النظرات بحنان. ابتسما كما في الماضي، ثم افترقا وضاعا.. في الزحام..

 

4- حـادثـة:

.. استمرّ الزحام على أشدّه. الأقدام تدفع الأقدام وكذلك المناكب. الوجوه بملامحها المشدودة والأيدي بأحمالها. لا شيء حدث. حتى الرجل الذي يتوسّط الشارع بزيّه الرسمي لم يأبه لما حدث. أغلق معبر المشاة وفتح صنبور الحديد، لتتدافع السيارات الكبيرة والصغيرة. الدراجات وعربات النجدة والإطفاء، وكانت الشمس تصبّ سيلاً من اللهب فوق كلّ شيء.

منذ لحظات حمل همومه. الألم يقبض على أعضائه كأخطبوط، من قمّة الرأس إلى أسفل القدمين، جسده لم يعد كما كان ولا يمكن أن يعود كما كان. الزمن يفتت الصخور. يغتال الأيام، ولا يترك الجسد إلا رمّة تبحث عن مأوى. راقب حركة الشارع: رؤوس تنوس في الفراغ، مدى من الصفيح والزجاج والقار وسماء تنزّ ناراً.

خلال ثوانٍ انتهى الزمن. حاول تلمّس رأسه. لم يعد يشعر بألم. غامت نظراته. انحنت ساقاه وجذعه واحتضنت وجهه حرارة الطريق.

استمرّ الزحام شديداً. كثيرون تتعثّر أقدامهم. كثيرون يصابون بالإغماء وكثيرون يموتون جوعاً ومرضاً وقهراً كلّ يوم، وتستمرّ الأقدام والمناكب والرؤوس، والأيدي التي تحمل والأيدي الفارغة، ويتابع صنبور الحديد جريانه.

أشرق وجه الطفل. الصبي. الفتى:

- إنّه.. أبي.

تقدّم خطوة فخطوة. يداه تسبقانه كجناحين واللهفة عصافير تغادر عينيه. حسب أنّ في مقدوره اجتياز المسافة التي تفصله عن أبيه، وعندما أصبح عند تخوم الخطِّ الفاصل بين الحياة والجانب الآخر، انتفض كعصفور أصابته طلقة.

اختلّ توازنه وسقط. ربّما تخيّل أنّه يطير أو لعلّه يحلم، وكانت السيارة التي اصطادته تعبر صنبور الحديد، وتختفي في غيابة الزحام الذي ما زال شديداً، أمّا الرجل الذي ودّع المرأة منذ لحظات فقد انهار إلى جوار الصغير، وصوته يعلو بذكر الله الحي الباقي، بينما الشمس تتابع سيرها في الفضاء.

 

 

 

الــغـجــر

 

 

.. يقف (الزعيم) على كتف رابية تغازل مويجات البحر. ترحل عيناه خلف النوارس اللاهية، وأسراب الأسماك العابثة تظهر. (روض) بوشاحها الملوّن كقوس قزح، وثوبها الذهبي الشفّاف. تملأ إطار اللوحة. تختال كعروس بحر مشتاقة إلى اللهو والشمس والأغاني..

(روض) أحلى غجريات بلاد العرب، تودّع حامي المضارب. أيّة نكبة تحلّ بالقلب العاشق؟ تستمرّ (عروس البحر) في رقصها الساحر. الموج بساط من ريش أزرق، تلثمه قدمان بلوريتان، وترنّ أساور وأقراط. تبدو الفتاة سكرى مخمورة، وهي تحتضن النسمات بذراعيها الممدودتين كجناحي طائر، يتوق إلى الفضاء..

ينتفض (الزعيم عزيز)، وغريمه ينقضّ ليحطم إطار اللوحة الزاهية. (سكران).. النار التي لا تبقى ولا تذر، تحملها رياح عاتية، يندفع في شوارع المدن. في السهول وعلى السواحل. مدن الجبال والواحات. طاقة من الشوق المتوثّب إلى المجهول. يمدّ نحو (روض) ذراعين. مئات منها، لتغرق الأنثى العاشقة في حميّا من الاستلاب الروحي، لا حد ولا نهاية لها..آه.. يا روض. طوّق (سكران) جيدها بالأطواق المشعّة، وسوّر معصميها بالأساور ذات الرنين. النساء يعشقن الذهب. نسيت (روض) كلّ شيء. كيف تنسى الروح جسدها؟ كيف ينسى القمر أحضان السماء؟. آه يا روض.. يبتعد ظلّ الغريم، وتنداح الفتاة كموجة لعوب. تملأ الريح ثوبها الذهبي. تتحوّل إلى فراشة. يمدّ (عزّو) ذراعيه، يتحوّل إلى ذراعين ""روض. روض" يردّد الشاطىء صدى الصوت الملهوف، والموجة اللعوب، تبتعد كهمسة خجول، بثوبها الزاهي ووشاحها يتطاير كجناحي فراشة..

تغادر الخطوات الواهنة، حدود الساحل الساكن. تنسكب أشعة الشمس الغاربة حزناً على رؤوس الأوتاد، ومداخل المضارب. تعبر الوجوه النحاسية. تتوامض في العيون أسئلة حيرى. يحسّ (الزعيم) بألم عميق. يمتطي صهوة مهرته وينطلق نحو السهول. تتساقط نظراته فوق معدن سيارة (سكران). يخالها غازياً دخيلاً يدنّس تراب الوطن، وهو الفارس المقهور. تفتح البراري صدرها الواسع، للرجل المجروح، وصدره يحنو على الصهوة التي تحمل همومه وأشواقه. يتصاعد صوته في الفضاء الأثيري، يغني بإحساس طفل ظمآن.. خائف، فتمتلىء أفواه البراري بالأغاني. تكبر (روض) كزهرة بريّة.

تخز أنامله أشواك الغابة. ينزع العوسج والدريس. النباتات الطفيلية، يقدّ وعورة التربة. مهاد زهرته. يجمع قناديل الليل لتضيء أحلامها. يروي تويجها وساقها وجذورها بندى الأيام الجميلة. يقطف لها نجوم السماء. يهتف للزهرة الفاتنة (أحبك).. تكبر (روض). العشق الذي لا يعرفه الغجر. تهرب قدماها من قسوة الدروب والترحال، لتمتطي صهوة مهرته: - أتذكرين؟.. يرى المهرة، كعاشقة، تثب حتى لتكاد تطير. يسمع صوت تنفسها: - آه لو تدركين.. اصطاد رجلاً امتدت نظراته ويداه إلى (روض)، ووارى بقاياه في الصحراء. صارع جميع الرجال وأخضع المضارب من أجل عيني (روض). خالف تعاليم الغجر، وأحبّ كما لم يحب غجري قال له أبوه قبل أن يموت:

(( حياتنا، هي حياة الحرية التي يحلم بها الإنسان، منذ وجد الإنسان..

والفرح.. الفرح النادر العظيم، هو إرث الغجر الأبدي......

اترك كل ما يتعارض مع هاتين الثروتين.. الخالدتين....

 لا تحب كالأطفال، فتقيّد حريتك وحرية من تحبّ بغبائك، وتصادفك متاعب لا قدرة لك على مواجهتها، فلم يخلق الغجري للصراع..

لا تستوطن أرضاً.. فستجد من يحاول اغتصاب ما تملك..

ولا تنسّ.. أن العالم كلّه وطنك...))..

لكن أباه لم يرّ (روض). لم يحبّ (روض). أحلى الغجريات في بلاد العرب.. تنسدل ستائر رمادية، وتغمر الظلال جنبات السهل، والمهرة الجموح تلتصق بصدره، دافئة الصهوة، عطرة الأنفاس، ونسيمات المساء تلامس الملامح الملتهبة. تبزغ أضواء متناثرة، ويتعالى نباح الكلاب، وأصوات الرعاة.. تقول له روض، وعيناها كنجمتين تومضان: - أنت لا تحبني.... خنجر غجري قديم، يعبر تجاويف صدره: - أي لغو هذا.. أيتها الغجرية؟ .. يتأود الجسد الفتي، في فضاء الخيمة الفسيحة: - لماذا يا زعيم تنسى أنّك غجري؟.. ذكّرتني بغباء الفجر. كيف يتنازل المرء عما يحبّ؟. كيف يسمح للآخرين باغتصاب ما يفرحه؟. أيتها الحبيبة الجانية، تعاليم الفجر، لا تستثني أحداً. أنت وأنا وسكران.. نحن الذين ننتشر فوق كلّ بقعة أرض، ولا نملك سوى جلودنا، وما يقال عن حريتنا وأفراحنا. أنا أتوق أيتها المرأة إلى منزل صغير جميل، وزوج دافئة، وأطفال كالعصافير، ولتذهب جميع الحرّيات والأفراح إلى جهنم:

- أنا أحبك.. يا روض..

- لاتكن أنانياً يا رجل..

يضطرب البحر وتعلو أمواجه. يفصل النوء بين ساحلين. تغسل الشمس ساحل (روض)، وتتراكم أخشاب الزوارق المحطمة ، وبقايا البحر على ساحل عزو . ضحك (سكران). دعاه إلى نزهة في السيارة. هاجمته رغبة في اقتناصه، وتحطيم وجهه النحاسي اللامع، لكن صوت الغريم المسالم، أعاد إليه هدوءه:

- اصعد يا زعيم..

جلسا متجاورين. (سكران) خلف المقود، وهو قرب النافذة. أحسّ بحنين إلى صهوة المهرة، ونسيمات السهول تلامس جسده المتوتّر، وتلفح جلدة الوجه الحار، وتختلط بأنفاسه. سمع (سكران) يخاطبه:

- لم أعتقد أبداً أنك ستتأذى.. بسبب امرأة..

اتجه بوجهه نحوه. ماذا يقول هذا الغجري المتمدّن؟...

- اتأذى... وهل تظن أن (روض) امرأة؟.

تلك الزهرة التي نمت بين أصابعه. في دفء أحلامه. بين خفقات قلبه وفي مدى عينيه. بين الشهيق والزفير. في الواقع والخيال. أهي امرأة حقاً؟. ما أعجزنا عندما نبحث عن تسمية؟.. ناوله سكران لفافة معطرة:

- دخّن.. في مضاربنا عشرات رهن إشارتك، لكنّي لا أملك واحدة.. فتيات المدن ينبذن الغجر..

ماذا تحاول يا غجري؟ اتستدر عطفي فيما لا أملك فيه أمراً؟. ثم.. لماذا روض بالذات؟ خذ كل الثدييات في خيم القوم، أما روض، ملكة غجريات بلاد العرب....

- الغجري.. غجري في كلّ مكان، مهما امتلك ومهما أصبح ومهما كان . لقد جمعت كثيراً من النقود. ابتعت هذه السيارة.. اشتريت منزلاً جميلاً تحيط به حديقة رائعة، ورحت أبحث عن امرأة، في جميع المدن التي عبرت بها وهي كثيرة، فلم أجد واحدة تقبل بي. تصوّر.. أنا أملك الآن كل شيء، ومع ذلك لا أجد امرأة. بحثت في الأرياف، وتجمّعات البدو، قالوا لي: (الغجري يأخذ غجرية) لهذا عدت يا زعيم، وروض هي الأنثى الوحيدة التي تناسبني..

(سكران).. يا نار الغجر المحرقة.. أيّها الدمار الذي تهتز له الأوتاد، وتضيق برياحه المضارب:

- سأدفع كل ما تريد، ولن أسيء إلى أحد. لن أفعل كما يفعل الغجر وأخطف (روض). سأكون كريماً..

راحا يدخنان بسكينة، والسيارة تعبر الأرض البور، وتلغي المسافة بين الغجريين، ولم يفعل (عزو) شيئاً، ولم يقل شيئاً، لتكن (روض) هي الحكم: _ لا تكن أنانياً يا رجل... تندفع المهرة المتعبة في رحلة العودة، وعلى ظهرها يحسّ (الزعيم) بالتعب، لكنه مع ذلك، لم يستسلم. لن يقبل هزيمة من رجل. ما زالت غجريته تنبض في أعماقه، وفي التعاليم التي يخترقها كلما وقفت أمام إنسانيته، أو مايلبي طموحاته ورغباته. يشحنه صوت أبيه العتيق بالقوة، وهو ينساب في الظلمة الخفيفة (( لا تستوطن أرضاً، فستجد من يحاول اغتصاب ما تملك ولا تنس أن العالم كلّه وطنك.)) فليكن. سيعود إلى جذوره، وما يهمه الآن، أن يمتثل لهذا الأمر التاريخي، ففيه الخلاص من عذاب لا يرى له نهاية، وفيه وسيلة الانقاذ التي لا تضارعها وسيلة..

ترك المهرة لتنال قسطاً من الراحة، وأوقد المصابيح في الساحة الكبيرة، ليتوهّج الحي الذي كان يستعدّ لسكينة الليل، ثم جاء الطبالون هبور وحسينو وفليفل، وتوسّطت الراقصة (عنودا) تساؤلات الجميع، وصوت (عزو) يتعالى:

- ياغجر.. لنودّع الأرض الساحلية.. لنرقص ونغنِ ونفرح حتى الفجر، ثم نرحل لنستقبل الصيف على قمم الجبال..

خرجت الفتيات وتشابكت أيديهن بأيدي الرجال، وانفجرت الساحة ومضارب فليفل وهبور وحسينو تنهال على وجوه الجلود المشدودة، ورنّت خلاخل عنودا، وجسدها يهتزّ ويرتفع، وأضواء المصابيح تهطل ألواناً فوقها وحولها فتبدو كأنها تشتعل...

ابتعد الليل نحو السهول، والأرض الساحلية تسفر عن وجهها، وتلقي بنظراتها الناعسة، خلف الركب الذي انتزع مضاربه وحمل راياته، وقد تناثر أفراده، كقطيع يسوقه عشرات الرعاة....

***

يعود (سكران) المغامر الغجري.. عربته مهرة جموح، تمتطي صهوة تضاريس المدن البعيدة، وروض بعيدة. أبعد من جميع المدن، تنسدل ضفائرها لتحجب آفاق العالم عن العينين الغائصتين في تربة الأرض الساحلية، والرابية التي تغازل مويجات البحر، تمدّ ذراعيها لسكران.. ترحل العينان خلف النوارس اللاهية، وأسراب الأسماك العابثة. تملأ روض إطار المشهد. تمدّ ذراعيها نحو الرجل الوحيد. تبدو حزينة وحيدة هي الأخرى. يرى (سكران) الذراعين كجناحي طائر أنهكه الطيران.. ينتفض وغريمه يصطاد الطائر الوحيد المتعب. أيّها الغجري القذر.. كيف تنسى الروح جسدها؟. كيف ينسى القمر أحضان السماء؟ يتحوّل (سكران) إلى ذراعين، وأشعة الشمس الغاربة، تنسكب حزناً فوق التضاريس. يدير محرك سيارته وينطلق نحو السهول.. تتساقط نظراته بوهن فوق المرئيات والأماكن، والبراري تنصت بشغف، إلى الصوت الحزين. تمتلىء أفواه البراري بالأغاني. تنسدل ستائر رمادية، وتغمر الظلال ملامح السهل. يسمع صوت روض:

- سأذهب معك.. إلى آخر العالم...

يتحوّل حلمه عبر الأيام، إلى حقائق تزرع السعادة في جبين الأيام. هوذا البيت الصغير الجميل، وروض الحبيبة الغالية، وسيأتي الأطفال العصافير، وليذهب الغجر وسكان المدن إلى جهنم، تضطرب المرئيات، وتصطدم أمواج البحر بأطراف الجبال، ويغرق السهل الفسيح في الظلام. ليكن أيّها الغجري.. سنعيد الحكاية القديمة. لتكن روض، الأنثى التي اقتتل بسببها قابيل وهابيل، وليذهب كلّ شيء إلى جهنّم..

تسكن العربة، وبداخلها يغفو (سكران)، لكنه لم يكن متعباً، ولم يكن ليعترف بالهزيمة، فمثله لا يهزم..

أغفت (روض) وهي تنتظر الغائب. هو سيأتي دون شك، ولن تكون لرجل غيره. قبل ذلك نبتت في جسد (عنودا) عشرات الأفاعي اللامعة، وغرقت وجوه حسينو وفليفل وهبور في مستنقع من النار، على الرغم من النسيم الجبلي الذي احتل ساحة المضارب..

جاء الزعيم بلباس العرس، وحملتها الفتيات المعطرات. تخيّلت (سكران) وهي تعد شراب الليلة الأخيرة للعذراء. كان يمكن أن تملأ الوعاء الزجاجي بالحبّ. بعطور لا تتقن صناعتها غجرية أخرى. كان يمكن أن تجمع قطرات الندى من فجوات الصخور النظيفة، وتعتصر رحيق أزهار التلال ذات الأريج المسكر والمذاق اللذيذ، لكن (عزو) هو حامي المضارب. رأس الغجر، إليه يرجعون، يطيعون ، يفعلون ما يأمر به، لكنّه ليس رجلها الذي ستبادله الحب. إنّه رمز غجريتها. قوتها. الرجل الذي يتبعه الغجر، والحبّ إحساس. انعتاق من كل شيء.. الغاء لكل القيود.. (الزعيم) هو الغجر.. (عزّو) ليس الحبّ..

أخرجت قارورة صغيرة... سكبت قطرات منها في الشراب الملّوّن، وجاء الزعيم بلباس العرس. رأته مهيباً.. شامخاً كأوتاد الخيام، قوياً كيوم الصحراء، عندما قتل رجلاً انفرد بها بعيداً عن المضارب. اقتربت منه، وأخذت يده. قبلتها، ومرّغت وجهها بدفئها، كما تفعل الغجريات، وقدّمت له شراب العرس..

بعد أن اطمأنت إلى سكونه، غادرت المخدع إلى العراء.. تسنمت ذروة تطلّ على السهول. راحت تحلم بعينين مضيئتين كقمرين، يخترقان ظلمة السهول والجبل كشهابين، يبحثان عنها، وكانت على ما يشبه اليقين، من أن الحب لا يغلب، وليس كالحبّ في حياة الغجرية.. إنّه السعادة الوحيدة، التي تنالها الأنثى، بحريّة البراري، ولهذا تحتمل كل شيء، في سبيل الجنة الموعودة.....

انتضت (عنودا) خنجرها الفضي.. جاء دورها الآن، لتكون ملكة الغجريات في بلاد العرب. التمع الخنجر لحظة. سطعت أضواء مجهولة فتوهّج النصل وهو يهوي باتجاه الصدر المشرع لنسيمات الليل، وماتت روض.. وكان (سكران) ما يزال نائماً. بكارة السهول الغافية، شراع محمّل بحرارة جسده الغارق في السكون. تجمّع حوله قراصنة الغجر. أخذته أنياب ومخالب قبل أن تشرق الشمس وتتساقط أشعتها فوق بقاياه التي تناثرت بين الأرض الساحلية والجبال العالية..

تلبس (عنودا) أطواق وأساور روض، وتتوسّط الساحة الكبيرة. يتطاير ثوبها الذهبي الشفّاف. تختال وجسدها يهتز ويرتفع في الهواء. تبدو كأنها تطير. ينبت الجسد المتثني عشرات الأفاعي، تطوّق عنق (فليفل) وهو ينتصب على خطوة منها:

- يا غــــــ... يا غجر.. جهّزوا أنفسكم لرحيل طويل....

(عنودا) تلتصق بفليفل. تقرع الأرض كمهرة جموح. تمدّ ذراعيها كجناحين:

- انظر... يا زعيم..

يمتطي (هبور وحسينو) سيارة سكران، ويفكّران بالزعيم والراقصة الجميلة. يتدفّق نسيم شرقي، ويمتليء ثوب (عنودا) الشفّاف.. يطير شراعاً في الفضاء. تفكّر بعاشق جديد، وروض أخرى. يبتسم فليفل:

- ياغجر.. آن أوان الرحيل..

ترحل الأوتاد والمضارب. سيارة سكران، ومهرة عزو، ويتردّد في المكان، صوت غجري قديم:

(( اترك كلّ ما يتعارض مع الفرح والحريّة... لا تحبّ كالأطفال، فتصادفك متاعب لا قدرة لك على مواجهتها.... لا تستوطن مكاناً واحداً.. هناك دائماً من يفكّر باغتصاب ما تملك، ولا تنس.. إن وطنك هو العالم)).

يرمي الجبل بنظراته الحائرة، نحو الركب المهاجر، وقد نزع أوتاده وحمل راياته وتناثر أفراده، كصخور السفوح عندما تدفع بها السيول والعاصفة. 

 

 

 

الانـتــصـار

 

قلت لعبيد:

- مللت. كرهت نفسي. لم أعد أطيق ما أفعل، وأنني سأنهي كل شيء. لن أدع الحال على ما هي عليه، مهما قست الظروف.

عبيد لم يقل شيئاً. أمال رأسه إلى الأمام وأطرق. لم يفتح فمه وينطق بكلمة واحدة. اتقى هياج اللحظة لكي تعبر العاصفة، ويمرّ الأمر بأقل الخسائر.

وللحق أعترف أنّني كلّما كبرت في العمر ازددت تخوّفاً من عبيد.. منذ أعوام ربّما منذ حملت الدفاتر والأوراق والكتب والأقلام، وأنا أكتب لعبيد حتى أصبح كاتباً معروفاً. كتبت له الشعر والخاطرة والقصة والمقال والدراسة، وسهرت ساعات الليالي الطويلة، ووصف لي طبيب العيون عشرات العدسات الطبية، لقصر البصر وبعده وانحساره وانكساره. للألم، والوضوح، والصداع ورفيف الأجفان، وتابعت الكتابة، وكان عبيد يرسم اسمه أعلى الصفحات أو يذيلها به، وأكون قد أملت رأسي وأطرقت، ضاغطاً أناملي المتعبة المرتعشة، على مجموعة دريهمات، تقلّ أو تكثر، لقاء ما ملأته من فراغات فوق المستطيلات البيضاء.

مع الأيام بتّ أكره هذا العمل. غمر الكره حياتي كلّها. امتد كمادةٍ لزجة غطّت جسدي، واعتقلت نبضي وأنفاسي، وأعترف أنّ الأمر منذ البداية كان مملأ، ومقيتاً إلى درجةٍ تجعل المرء يحسّ بالوضاعة والتفاهة، ومنظر عبيد- وقد حملت إليه أوراقي وتعبي وألم عينيّ الممضّ- وهو يلقي نظرة عجلى لامبالية إلى أحمالي ويزين أعلاها أو أسفلها باسمه، كان يضخم إحساسي بشناعة ما أفعل، ووضاعة من يبيع نفسه بأبخس الأثمان.

وفكّرت بنهاية لهذه العلاقة الشائهة، فلم يعد من المحتمل الرضوخ لجبروت عبيد، ولابدّ من إيقافه عند حد، وتحديه ورفض عبوديته المطلقة مهما كان الثمن.

أخبرت زوجتي بما قلته لعبيد، وأطلعتها على ما يدور في خلدي، فضحكت ساخرةْ وقالت:

- رجلْ مجنونٌ يشتهي أن يوصف بالخرف، ولعلك تعاني من انفصام في أواخر أيامك. كيف تتحدى عبيد ودراهمه تجلب الفرح إلى وجوه أطفالك. أنا لا أنكر أنه فرح قليل، لكنّه أفضل من الجوع والإنتظار.. والحزن على كل حال.

يا للمرأة.. هي هي منذ حواء، لا ترتفع نظرتها إلى الأمور عن مستوى أمعائها ورغباتها الآنية. لو كنت دخلت بامرأة من عظيمات الزمان، كانت ستقف إلى جانبي في معركتي الشرسة مع عبيد، تشدُّ من أزري وتقيل عثرتي، وتخفف عنّي ما أعاني من آلام.

أملت رأسي وأطرقت. لو أعدت هذه المرأة المنهزمة منذ الولادة إلى عائلتها، سأتهم بالجبروت والتخلف وحب الذات والسيطرة، وإتيان أحرم الحلال إلى الله، وأنا أبعد ما أكون عن هذه الصفات المجتمعة في شخصية عبيد التي أعمل على التخلص من صاحبها والإنتصار عليه.

لا.. لن أفتح لغريمي ساحة جديدة، بزجَ هذه المرأة المسكينة في حومة الصراع بيننا. لا عليك يا امرأة، فالحرب القائمة منذ خلقت وعبيد، ساحتها تعرفنا معاً.ولا يحلو الإنتصار إلا على حلبتها وداخل مضمارها، وأنا وعبيد فارساها، ووحدنا حملة راياتها، ولا أحد غيرنا.

قلت لعبيد:

- النصر لي. وسأنهي هذه المهزلة.

ابتسم ابتسامة صفراء ورمى لأحد أطفالي دريهمات لقاء آخر ما كتبته ونُشر مذيلاً باسمه.

التقط الطفل النقود. وجرى مسرعاً ومسروراً، ليملأ فمه بقيمتها مما يشتهي ويرغب، ولم أتراجع. قلت له:

- لن أنجب من بعد أطفالاً لا ينتمون إلى صلبي. سأتوقف عن الكتابة لو لزم الأمر، وأمارس عملاً شريفاً ولو كان وضيعاً، ولن أبيع عرقي ودموعي وأحاسيسي، وما أعتقد.

ظلّت ابتسامته الصفراء ملتصقة بوجهه وكأنه يقول: مت جوعاً.

قلت له:

- الميدان هو الفيصل هذه المرة، ولا أحد غيرنا، والجدير ينتصر.

أعددت كلّ ما يمكن إعداده، ورغم أن الحرب لا تعترف بالمثل العليا والقيم الفاضلة، حاولت جاهداً أن أتيح لخصمي فرصة الدفاع عن النفس، وأردت صراعنا شريفاً، فاضلاً ونبيلاً، وإن كنت أدرك أنّ عبيداً لا يقيم لما أردت وزناً. فالغاية تسوّغ الواسطة، وميكيافيلي وأميره

بعض مداميك بنائه الراسخة.

كتبت لعبيد قصة عن شخصية تتوسل إلى غاياتها، عن طريق الظواهر غير العلمية، وتستدرّ باستغلالها آلام إنسان بائس، دموع أعضاء لجان التحكيم، وكتبت قصة أخرى عن شخصية خصبة غنية تثري تحوّلات هذا الإنسان الصابر المكافح، رافع الرأس كجبل يقاوم عاتيات العواصف، المضيء كنجمٍ في محيطٍ من الظلام، المستعدّ لبذل دمه من أجل زهرة تتفتح، أو ابتسامة تنمو وتشرق فوق وجه حزين..

أرسلنا القصتين معاً إلى مسابقة، وكنت واثقاً من الفوز، فالقصتان من تأليفي، وليس بإمكان أحدٍ اكتشاف مساوىء القصتين ومحاسنهما، أكثر مني.

قرأت القصتين لزوجتي، فسفحت دموعاً غزيرةً على الرجل البائس الذليل الذي ينهار من صدمة واحدة ويكفّ عن المقاومة ويستسلم، لكنّها لم تنتظر حتى أنهي قراءة القصة الثانية. قاطعتني مهتاجةٌ:

- بطل قصتك مجنون يركب رأسه عناداً وينطح الجدران ويحلم بما لا يعقل، ويظنّ نفسه أنه قادر على إصلاح العالم. إنه غبي مدعٍ غير سوي على الإطلاق.

تمنيت أن أوصم بحبّ الذات والتخلف والسيطرة، وأرمي يمين الأجداد ثلاثاً، لكن صوت عبيد جعلني أحجم وأتريث.

- لا تستبدل بالإستبداد الطغيان، وبالإنتصار في معركة الهزيمة في معركة تالية، فمتى كانت حال الإنسان مما يقاس بالأطوال أو يحسب بالمساطر. أنا وأنت دخلنا الميدان حسب رغبتك، ولجان التحكيم ستحسم الأمر.

قلت وأنا أتميز غيظاً:

- إنها جاهلة ومن طينتك. ولهذا وجدت قصتك أفضل.

قال باسماً:

- ليكن يا صديقي ولننتظر. أنسيت أننا قطبا صراعٍ أردته أنت صراعاً شريفاً وفاضلاً ونبيلاً، فلم لا تنتظر؟.

تماسكت أمام الغريم، وكانت زوجتي تبتسم خفية، وأنا أنسحب صامتاً.

أعدت قراءة القصتين أكثر من مرة، وفي كلّ مرة كنت أكتشف جديداً في ذلك البطل الملحمي الذي فضّل الموت واقفاً على الانهيار والاستسلام، وشعرت بالحزن والرثاء نحو الرجل الآخر بطل قصة عبيد، فهو لا يختلف عن سواه ممن يتساقطون كل يوم، ومنذ أن بدأ التاريخ والزمن.

رجلان على طرفي نقيض، هما صورتا الإنسان في كل زمان ومكان، دخلا الحرب رغماً عنهما، الأول سلّمته رايتي ليدخل ميدان صراع ينهي مأساتي، والثاني حمل اسم عبيد ليدافع عن اسمه وانحرافه ورغباته الآنية.

واستمرت الحرب.. وطال الانتظار.. لم يخطر لي في بال ما حدث فيما بعد. فالبطل الملحمي منتصر لا محالة، وعبودية عبيد زائلة إلى غير رجعة، وستقتنع زوجتي أنَّ لا شيء يطاولُ الجبال سمواً ومهابة. وأن الحزن حالةٌ نفسية تصيب الإنسان من جوع وألم كالفرح تماماً، ولابد من تلازم الحالتين وتعاقبهما، حفاظاً على توازن الذات الإنسانية.

هذا هو المنطقي والطبيعي، أما ما حدث فما كان منطقياً، وما كان طبيعياً، أحسست أن الزمن يتجمد، وأنني في عالم لا أنتمي إليه أو أنني أسبح في الهواء أو الفراغ، وعبيد يتقدم الصفوف مزهواً وواثقاً، واسمه يعلو في الأفواه كأغنية قديمة ألفتها الأسماعُ، ووقفت مشدوهاً، أشدُّ شعر رأسي وألطمُ وجهي، كثكلى فقدتْ ذكورها جميعاً في الحرب. لكن عبيداً ابتسم لي بود كبير، وحمل الجائزة التي منحت له، واقترب مني بخطوات بطيئة، وعندما أصبح على خطوة واحدة توقّف. أمال رأسه وأطرق لحظة، ثم دفع بالجائزة نحوي، وانسحب بكلّ احترام إلى زاوية نائية من المكان....

... رحت أبكي، كان عبيد ينتصر هذه المرة أيضاً، كما انتصر في كل مرة فكرت بالتخلص من عبوديته، ولعله النصر الذي لا يضارعه انتصار...

 

أضيفت في 13/04/2005/ خاص القصة السورية

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية