الهــدف
لما رجعت بلدي كنت .. كنت كالغريب الذى لا ينطق ، ولكنه دائم النظر
إلى الأشياء والناس .. غضبت ، وحزنت ، وقلت الناس غير الناس صاروا ، كل ابن
فرعون يعمل من نفسه فرعونا على ابن فرعون ، و سكين حاضر يختفي ، ويظهر ، مع
انفجار متحفز ، وفلوس ، وعيون نبتت فى الرأس ، تغمض واحدة ، وتنفتح واحدة
فى الصحو والنوم ، واللوم وقع على ذاتي أنا ، فقلت من الممكن أن أكون أنا
الغريب !! فالناس هم بالاسم أعرفهم ، وجغرافية بلدي هى جغرافية بلدي .. صحت
: التاريخ هو الذى يسيطر لا الجغرافيا .. وهذا لم يعطني راحة ، ونفسي لم
تهدأ ، لأني أعيش هذا الوقت .. الآن .. اندفعت إلى قبلي بلدي .. هناك
الفضاء ، الذى لم يخضع لأى إنسان ، والأرض البراح ، وهناك ملح ، ونباتات
شوك ، وبعوض يزن حول الأذن دائما ، ثم يحط لتنفذ إبرته فى الجلد ، تمتص
الدم .. سرحت فى السماء ، ونظري مال حتى رأيت الأفق يلتقي هناك مع ماء
البحيرة ، نكست رأسي ، وأخرجت يدي من جيبي .. هناك بعيدا على بعد أربعة
أمتار حجر ، وانحنيت ، فتشت عن قطع من الحصى الصغيرة ، واستقمت إذ جمعت
منها ملء الكف ، رحت أصيب الهدف الحجر بيدي، قذفت أول حصاة ، وأنا أحكم ،
تدحرجت الحصاة إلى بعيد عن الهدف الحجر ، عاودت أحاول .. مائة مرة ومرة، فى
كل مرة لم أفلح أبدا فى أن أصيب الهدف الحجر ، فلما لم أصب الهدف الحجر
مللت ، وقلت لنفسي لابد من الرجوع إلى البيت ، واستدرت إلى بلدي ، أعطيت
ظهري للحجر الهدف ، مشيت أربع خطوات .. فى أول مرة لم أهتم .. فى المرة
الثانية شعرت بالتمام أنني مقصود ، فالتفت بحدة للوراء ، طالعني الفضاء ،
والأفق والماء ، والصمت ، والحجر هناك فى مكانه ، عدت أتوجه لوجهتي .. وجدت
أن ظهري صار الهدف لكل الحصوات التى كنت حاولت بها إصابة الحجر الهدف ..
واحدة وأنتفض ، وراء واحدة ، وأنتفض ، جريت نحو بلدي ، ولم أعد ألتفت أبدا
.. أقول الصدق أنني قلت : يا أولاد التى تشب ، وتلب ... فقط .
مكحل أمى
مكحل ، وإذ أرى .. لا .. لا .. أنا وقعت عيناي عليه .. الكحل كانت
تخزنه فيه فى زمان راح وانقضى ، أخذته بين يدى ، والبال شارد أنا ، ولكنى
كنت منشرح الصدر ، وسحبت غطاءه ، لا أعرف كيف .. إنما أنا سحبت غطاءه ،
وانتبهت على نفسي .. حتى بدني كله ارتج ، وأنا أسعل ، ورأيت غرفتى ..
الدخان عبق فراغها ، واشتد على الحال ، ووقفت .. فلما ... لاحظت أن ساقي
تهتزان ، وكلما حاولت أن أرجعهما إلى الطبيعي ، لم أقدر ، وأفشل .. تضاءلت
كإنسان فى أرض رعب .. عيناي حتى تاهتا فى الذي هو موجود ، وارتاعت ، وهى
تبص على ما يخرج من المكحل القديم ، الذي كان لأمي ، فالدخان صار ذلك الشىء
الضخم ، حتى أنى ضحكت ، وهل من الرعب أضحك ؟! لأن العفريت مشى خطوة ،
وأمامي انحنى ، وهو يقول : شبيك .. لبيك .. عبدك بين يديك .. اطلب ما تشاء
.
كان الصوت الذي قال به هذا الشبيك لبيك لا أستطيع وصفه إذ أنه قديم
وحديث ، وهذا الوصف من عندي أنا ، لم أقرأه ، وأعرف أن الصوت لا يوصف إلا
بالعلو ، وعكسه الانخفاض ، أو الحدة ، والغلظة عكسها .. الشدة أو الضعف ،
وقلت فى نفسي هل أحلم ؟! وقلت فى نفسي طوال عمري أحلم .. العفريت انتظر أن
أقول أي شىء ، فلما لم أنطق ، عاد يقول لى بصوت يمكن أن أصفه الآن أن به من
الحدة شبهة : هل تطلب شيئا ؟ .. اطلب .. أجبته بصوت فيه التواء : لا ..
أطلب ..
كنت أريد أن أواصل الكلام ، فأسأل ، ورب القدرة كنت أرغب فى
الأسئلة ، إلا أن العفريت قال : إذن لابد من الانتهاء .. ثم خطفنى الخطفة
السريعة ، وكنت بين يديه رهينة ، عندها قال : تعال يا ابن الأحلام .. تعال
.. وأدخلني المكحل .. مكحل أمي القديم ، وعلى أغلق ، فوقعت فى ظلمة داهية ،
وأنا أسمع ضحكات ذلك المخلوق الذي اسمه عفريت ، وأتخبط .. أتخبط .
موت الجياد
هذا يوم السوق ، والحمار مستعد ، وملجم ، ونشيط ، والرجل هائج منذ
الفلق . المرأة تستجير بالمغيث ، تجرى وتتعثر ، تلتفت ، وتستقيم .. قالت :
طيب .. طيب .. والرجل كأنه ثور لحقته سكين حشت زوره ، تندفع أصوات منه ،
شعر المرأة منها يشيب ، وحتى تسكته أخذته فى حضنها ، وأعانته ، ليلبس
جلبابه النظيف ، كبست بعد ذلك طاقيته فى رأسه ، ثم المرأة هفت الهواء ،
وشفتيها زمت .. الرجل زام ، فهبت ، ونادت شابيها الاثنين يجيئا إليها ..
واحد قال : مفلوج .. وأمه حطت على فمه راحة يدها ، وعيونها التى زغرت له
بها فى الحال انكسرت ، أشارت إلى رجلها ، حمل الشابان أباهما ، وخرجا به ،
وعلى الحمار أركباه ، تدلت يد منه ، لا حياة فيها ، وساق من ساقيه مثلها ،
وجانب من وجهه ميت ، شاب من الاثنين قال : فضيحة السوق ! شقت الهواء عصا
الرجل ، وصفرت ، والشاب لم يستطع أن يفلت ، صرخ ، سال نقطة على الصدغ ، ثم
نقطتان ، ثم صار خط من الدم ، الأم المرأة جذبت شابها ، وأعطت لرجلها
اللجام ، أمسكه بيده الحية ، ولكز الحمار برجله الحية ، وانطلق ، رفعت
المرأة خلفه وجهها ، قالت : يارب الستر .. الستر مطلوبى .. شاب من شابيها
قال : أضحك وأقول يا خرابي ؟! المرأة تنهدت ، قالت : الطبع من زمان ..
وربتت على كتفي الشابين ، وأمرت أن يلحقا به .. المراقبة من بعيد .. بعيد
.. حس لا حس .. قالت : طبعه .. اتركوه .. لو صرخت واحدة ، لو أمسكه واحد ..
ساعدوه ..
في الخنقة التى تنفتح على السوق شد اللجام ، وتوقف الحمار ، جاس
الرجل بعينيه فى الزحام والناس ، وقفز القلب ، فالنسوة النسوة يزحمن السوق
.. وبعضهن ينحنين على الأشياء ينتقين ، أرخى الرجل اللجام، فصار الحمار
بينهن ، القدم الحية تلامس مؤخرة ، عجيزة ، جانب ردف ، تلامس .. هذا لحم حى
وطرى، تلامس مسا .. هذا لحم عفي و جامد ، والحمار سائر .. هذا لحم رجل مثله
.. ما رغبه ، واللمسة جاءت هباء ، فهو قصد واحدة انفلتت ، وجاء الرجل
مكانها فى ذات اللحظة ، الرجل أخذه الغيظ فاغتاظ ، وتنبه آخر ، وكلمه : أبا
الشباب فى السوق اليوم .. تلفت بعض الرجال ورأوه .. ربما أطلق واحد منهم
ضحكة .. ربما واحد منهم يلقى عليه تحية .. ربما أعطاه واحد قبضة من الفول
السوداني المقشور .. ربما ينادى عليه بائع أن يشترى ، والسوق كان السوق ..
والناحية الحية من الرجل حية ، تمر فيها حمرة تفيض ، تخرج منها الحمرة تغيض
، ولما يحس باللحم الحمرة ترجع همسة كالهمسة ، والقدم تشتغل ، استدارت
امرأة ، والفعل يفعل ، ابتسمت ، وهزت أكتافها ، وضربت كفل الحمار ، وعادت
إلى ما كانت هى فيه .. الرجل فوق الحمار يوجه ، وينخس .. ينخس .. يوجهه ..
فى نهاية السوق الحمار جفل ، والرجل وقعت العصا منه على الأرض ، أمسكت
امرأة عجوز باللجام ، صاحت فى الملأ .. الناس .. الحين صرت تجيىء على حمار
؟ زمان كنت تدخل السوق بقدمين ، ويدين .. مسحت العجوز على أردافها ، وضحكت
، لم تظهر أية سنة فى فمها ، وهو حرك اللجام ، وبأبأ كأنه يشتم ، لكز
الحمار بعنف ولا رحمة ، فأسرع من خنقة السوق يخرج ، وخلفه جرى شاباه ،
والعين الحية فى الرجل أوشكت أن تكون فيها دمعة .
الشعلة الراقصة
قصة للأطفال
كان القردان الصغيران فوق الشجرة ، يتناولان إحدى الثمار ذات
العصارة الحلوة، شريكان عادلان ، كل واحد قضمة بالتساوي ، ولما انتهيا ،
استلقيا على فرع من فروع الشجرة سعيدين ، وكانا سوف يروحان فى النوم اللذيذ
بعد وجبة شهية .
هب القردان فزعين ، وأشارا دون صوت إلى ذلك الثعبان ، الذى يزحف على
نفس فرع الشجرة آتيا إليهما ، وهو يُخرج لسانه المشقوق فى الهواء ، متحسسا
، تقوده بالتأكيد حرارة جسدي القردين الصغيرين .
رأى القردان أن خير وسيلة لإنقاذ حياتهما هى الهروب من وجه هذا
الثعبان الشرير .
إذن .. عليهما النزول من فوق الشجرة بسرعة ، وحينما حاولا الانزلاق
على جذعها ، شاهدا ثعبانا آخر ينتظرهما أسفل الجذع على الأرض !!
أى فزع هذا الذى انتابهما ؟! وأي ورطة أحاطت بهما ؟! أين المخرج ؟
كيف يكون التصرف؟! كيف ؟ كيف ؟
ربما تكون الفكرة بسيطة ، ولكن علينا أن نجرب .. ربما ننجح .
هكذا .. قطع القردان أحد فروع الشجرة ، وبعد ذلك جعلا طرفه الأسفل
يرتكز على الأرض ، والطرف الآخر يستند إلى فرع الشجرة فى طريق الثعبان
الزاحف نحوهما .
-هيييه ! نجحت الخطة .
-هيييه ! أنقذتنا الخطة .
هذا لأن الثعبان حين وصل إلى الفرع المتدلي واصل زحفه ، نازلا إلى
أسفل حيث الثعبان الآخر على الأرض .
بعد مدة نظر القردان ، وصاحا ، وضربا الأكف بالأكف ، فقد اختفى
الثعبانان ، وانتهت المشكلة .
ربما كانت الحال بين القردين ستظل هكذا ، إلا أنها انقلبت حينما حصل
كل قرد منهما على شمعة مشتعلة ، من أحد البيوت على حافة الغابة ، وأثناء
تجوالهما .. فماذا فعلا ؟!
قهقه القردان وهما ينظران إلى شعلتى النار تتراقصان ، فأخذا يرقصان
مثلما ترقص الشعلتان، هذا حدث فى البداية ، وبعدها توقف كل قرد ، ونظر إلى
شمعة القرد الآخر ، ثم هجم كل قرد على القرد الآخر ، كل واحد يريد
الاستيلاء على شمعة الآخر !!
كانا يتدافعان بالصدور ، ويرفسان بالأرجل .
-ليكن معي اثنتان .
-ليكن معي أنا اثنتان .
أصابهما التعب ، ونفخ أحد القردين الهواء من صدره غيظا ، فانطفأت
الشعلة فى شمعة القرد الثاني ، الذى وقف مبهوتا ، وهو يرى سحابة صغيرة من
الدخان ، ولا شعلة تتراقص بلمعتها الصفراء !!
أخفى القرد الأول شمعته المشتعلة خلف ظهره ، ودفع القرد الثانى بيده
الحرة ، وصاح :
-أنا معي واحدة ترقص .. أنت لا ..
-أين هى التى ترقص ؟! أنا لا أراها ..
قال القرد الذى أخفى شمعته خلف ظهره :
-أعرف مكرك .. أنت تريد إطفاء شعلتها .. لكنك لن تستطيع ..
-أظهرها الآن .. سوف نرى شعلتها الراقصة معا .
رفض القرد الذى معه الشمعة المشتعلة ، ومط شفتيه ، وهز رأسه بعنف ،
ولكنه صرخ ، وهو يشير إلى الخلف :
-أشعر بحرارة .. هووووه ! أشعر بأنني ... هووووه !!
كان لهب الشمعة قد لسعه بحرارته ، وحينما جرى بعيدا ، هارشا ظهره
بشدة ، سقطت الشمعة على الأرض منطفأة !
قال القرد الثانى بحزن :
-أرأيت النتيجة ؟! لو كنت جعلتنا نلعب سويا ، لكانت ما زالت ترقص .
حكيم فوق شجرة
قالت الضفدعة لنفسها : سأصنع لنفسي مركبا ، أجوب به أنحاء البركة .
كانت الضفدعة – وهذا مفهوم من قولها – تعيش بالقرب من إحدى البرك ،
ولقد سمعها الهدهد ، الذى كان يلتقط بعض الديدان ، فتوقف عما يفعل مندهشا ،
وصاح يقول : إذا كان لى جناحان ، فلماذا أركب طائرة ؟!
كانت ملاحظة ذكية ، ومن يملك فهما ، فسوف تصل إليه حكمتها مباشرة ،
ولقد سمعت الضفدعة الهدد جيدا، وعرفت أنه يقصدها بقوله ، إذ أنها تملك
رجلين خلفيتين طويلتين بهما أغشية جلدية ، وهما رجلان تشبهان المجداف ،
وتستطيع السباحة بهما ، دون مشقة فى مياه البركة ، فتذهب إلى حيث تشاء .
صاحت الضفدعة : انتبه لنفسك ، ودع الآخرين ، ولا تتدخل فى شئونهم .
لاحظ الهدهد أن الجندب قد سكت عن الصفير المزعج ، واقترب من الضفدعة
قائلا : أما أنا فسوف أصنع نفيرا ، أنفخ فيه بعض الألحان .
لم يتحمل الهدهد هذه الكلمات ، وكان لابد أن يقول : إذا كنت أستطيع
الصفير ، فلماذا أرهق أنفاسى بالنفخ فى نفير ؟!
لم يعلق الجندب ، فقد عرف أن الهدهد يقصده ، فهو له أجنحة دائمة
الحركة ، ويصدر عن هذه الحركة صفير معروف عن الجندب .
طار الهدهد وارتفع ، ثم هبط على أحد الأفرع لشجرة مزروعة على حافة
البركة، كان يشاهد من مكانه الجديد كيف اقترب الجندب من الضفدعة ، والضفدعة
قد اقتربت من الجندب ، وأخذا يتهامسان طويلا ، مما أصابه بالضيق والضجر ،
فصاح: ما دام لى أذنان ، وأستطيع الكلام ، وأملك الحقيقة ، فلماذا أهمس ؟!
كانت الحرب قد بدأت عقب هذا القول ، وتلقى الهدهد قذيفة من طين
البركة ، وحصوة من الجندب ، حتى أنه فقد توازنه ، وهوى من فوق فرع الشجرة ،
الذى كان يقف عليه ، وكاد رأسه يصطدم بالأرض ، لولا أنه استطاع أن يقوم
بمناورة بارعة بجناحيه ، واعتدل مستقبلا الأرض بقدميه ، وخاطب كلا من
الضفدعة والجندب بكل طيبة قائلا : لماذا ؟! ماذا فعلت لكما لتفعلا هذا معى
؟!
قالت الضفدعة : لقد أوقعتنى فى الحرج .
صاح الهدهد : أنا ؟!
وقال الجندب : نعم .. أنت أيها الهدهد أوقعتنى فى الحرج أيضا.
صاح الهدهد مندهشا : أنا ؟! كيف كان هذا ؟!
قالت الضفدعة : أنا كنت أحدث نفسى ، وأنت لم تترك لى الفرصة لأتأمل
إن كنت على خطأ أو صواب .
وقال الجندب : لم تترك لى الفرصة لأعرف هل هو قول جاد ، أم أنه حلم
من أحلام اليقظة يذهب كما جاء .
ضحك الهدهد كثيرا ، حتى أن عدوى الضحك انتقلت إلى كل من الضفدعة
والجندب ، وبعد أن انتهى الضحك ، قال الهدهد : صديقاى .. لقد تعلمت منكما
درسا اليوم ، وأنا الذى كنت أظن أننى حكيم .. لقد تسرعت .. أرجو عفوكما .
وعاد الهدهد إلى فرع الشجرة ، وهو أكثر حكمة عما قبل .
|