الغرفة الزجاجية
كذب ما يشيعون عنه
يقولون بأنه مات ، وبأن جسده النحيل قد تحلل واختلط بتراب الأرض ، ولكنني
أراه كل يوم ينتفض من رقدته وهو بكامل عافيته ليصطحب حفيدته الى حديقة
أحلامي ، ويتركها هناك تلهو وتلعب كطفلة صغيرة . عندما يتركها يكون قد
قيدني في غرفة زجاجية لاأتصور لها حدوداً ، يقفلها بمفتاح صدىء ثم يخرج من
أحلامي وهو مطمئن . وأظل أراقبها في ذهول وهي تمرر الألوان في مهارة على
قماش أبيض لترسم صورة تخفي ملامحها عني . ترسم عالماً جديداً لايقدر على
اكتشافه الجد الميت . وكالطائر السجين انكمش ولا أغرد للجمال ، والحب التي
ترسمه هذه الفتاة الصغيرة ، المغرورة . أدور حول نفسي ، وفي النهاية ينال
مني الأعياء فأسقط حزيناً.
ولا ينجدني أحد
عندما أستفيق لاأجد أثراً للقضبان الزجاجية ، ولا الفتاة . هناك أنقاض
اللوحة ، ووجهي الممزق على قطع صغيرة من القماش ، وآثار أقدام كثيرة كانت
تتفرج على لعبة مثيرة كنت بطلها الأوحد ، وعلامات ضرب مبرحة على يدي وقدمي
، وبصاق كثير الجزء الأعظم منه على جسدي والباقي على محيط دائرة من حولي .
تشاءمت كثيراً من هذه الشواهد العشوائية . هذا الخليط في الحلم يعني أن
حياتي المقبلة ستمر بأزمات ، وستتوقف رغماً عن ارادتها عند محطات شتى
للألم.
وأستيقظت على الفور
كان الليل يختال عند منتصفه ، وكنت أسبح في عرقي . رأيت وجهي في مرآة
الحمام، كان مجهداً ، وكانت تجاويفه يملؤها الخوف . غسلت وجهي عدة مرات
بالماء البارد ، ولم تفلح هذه المحاولة في طرد الرهبة من نفسي . قررت أن
أمدد جسدي على السرير دون أن أنام . شغلت نفسي بالتحديق في جدران غرفتي
الصغيرة ، العارية . اكتشفت أن صورة الجد مازالت مطبوعة في خيالي ، في
المرآة التي احتضنت وجهي منذ لحظات ، في الجدران المتشققة والتي لم تعد
عارية بعد الآن.
اكتشفت بأنني مازلت نائماً
تمكن مني حلم الرجل العجوز وحفيدته الى الدرجة التي أتقن فيها خداعي وصدقت
بأنني مستيقظ . كانت الصغيرة بارعة وهي تجرب شيئاً من سحر جدها على جسدي في
نفس الغرفة الزجاجية ، يساعدها في ذلك الدخان الكثيف الذي كان يتدفق بأمرها
من باطن الأرض ، وفرشاة ألوان غريبة تمسكها بكلتا يديها ، أشبه بمفتاح
كبير. أنه يبدوكما لو أنه مفتاح غرفتي الذي أضعته صباح هذا اليوم في ظروف
غامضة وغريبة.
إنه فعلاً مفتاح غرفتي
لاأدري كيف اختفى هذا المفتاح اللعين ، مفتاح في مثل حجمه وموقعه المميز في
سلسلة المفاتيح لايمكن أن يضيع بمثل هذه السهولة . آخر مرة رأيته في الصحو
كان ليلة البارحة قبل أن أنام ، وعند خروجي من البيت هذا الصباح لم أجده في
موقعه في منتصف الترتيب بين بقية المفاتيح في السلسلة.
كيف وصل هذا المفتاح الى حلمي ؟ سؤال عادي للغاية لايثير أي غرابة في نفسي
، ولكن ما يحيرني هو كيف وصل الى يد هذه الفتاة المدهشة ؟ وكيف استقر في
صندوق عجيب زاهي الألوان تحمله دائماً بحرص.
تقف الفتاة على حافة نافذة
في كل مرة تهرب من الغرفة الزجاجية تركض الى أقرب مبنى تصادفه ، وتصعد على
الضباب حتى تتعلق في أعلى نافذة ، تجول ببصرها حتى تراني . ويحتار عقلي في
فك هذا اللغز. هل تريدالإنتحار ؟ هل تهوى المغامرة ؟ ولماذا تتصرف بهذا
الشكل وكأنها تمثل فيلماً سوريالياً ؟ إنها تقف بكبرياء ، واستقامة على
حافة النافذة الرفيعة ويدها النحيفة ممدودة للأمام وهي ممسكة بذلك الصندوق
العجيب . إنها لاتخشى الارتفاع ، ولا تنظر للأسفل بعد أن تلمحني . إنها
تحدد بصرها باتجاه مستقيم ومن ثم تميل الصندوق قليلاً وكأنها تريدني أن أرى
مفتاحي المتوهج.
ماذا يشغل بال هذه الصغيرة المعتوهة ؟ هل تريدني أن أحطم هذه الجدران
الزجاجية وأهرع لألتقاط جسدها والصندوق عندما تقذف بنفسها من هذا العلو
الشاهق ؟ لا أدري؟ ما يحيرني هو تصرفات ذلك العجوز الميت الذي سمح لحفيدته
بممارسة الدهشة دون رقيب.
يغريني هذا الصندوق العجيب
خاصة وأنه يحتضن مفتاح غرفة نومي التي أحتفظ فيها بأسرار نفسي ، وحياتي .
يكفي بأنني أصبحت سجين الغرفتين منذ ضياع المفتاح ، واذا كنت سأنتظر نتيجة
طيش هذه الفتاة الصغيرة ستكون الغرفة الزجاجية تابوتي . كأن هذا الصندوق
يدعوني الى امتلاكه ، وكأن الفتاة تشجعه على الطيران لكي يحط على يدي .
وبين السحر والعجز أتأرجح وقدري أن أظل مثل الريشة تنقلها الريح من مكان
لآخر.
وتناديني هذه الفتاة الصغيرة .. همساً
تقدم أيها الفارس الذي هزمت الوقت من أجل انتظاره . أيها الآخر الذي يحمل
أحلامي . نحن الآن لا نحلم ، نحن نعيش لحظات حية من الواقع ، فتقدم نحوي
ولا تخشى الحواجز والبلورات . أنت الفارس الذي تخطى الصعاب الكثيرة من أجلي
، وتحايل على مصائد كثيرة ، بدائية وخبيثة.
أنا هي تلك الفتاة التي تحلم بأن تخرجك من تابوت الأوهام ، وفي هذا الصندوق
تستطيع أن ترمي بأحزانك ، وهمومك لتغدو في حالة سعيدة. في هذا العالم
الموبوء لاشيء يستحق أن تحزن من أجله . أفعل ذلك من أجل نفسك قبل أن يكون
تضحية كبيرة من أجلي.
نحن لا نحلم
كانت فتاتي في غاية السعادة وهي ترى صندوقها السحري يتمدد ، ويتمدد ،
ويتمدد حتى سقط من يديها وانفجر في الفراغ . حسبت بأنني سألتقطها وأحميها
من الأذى ، فإذا بها أمامي تفتح قلبها قبل ذراعيها لتهنئني . لقد أصبحت
أخيراً طليقاً . رأيت في الصحو الغرفة الزجاجية وهي تقاوم التهشم ، فلم
أكترث كثيراً . ولم أفكر أيضاً كيف تمكنت من الفرار . لابد أن بقية
التفاصيل سيأتي ذكرها في حلم قادم لا أستعجله . أهدتني صندوقاً جديداً
وطلبت مني أن أحتفظ به للأوقات العصيبة ، ورجتني بأن لايراه أحد ، وأن لا
يعرف حقيقة وجوده أي كائن كان . أوصتني أن أعتني بنفسي كما لو أنها كانت
بجانبي ، وأن أحرص علىعشائي، وأن لاينغصني أي شيء ، وأن أتناول دوائي
بانتظام ، وأن أجلب السعادة ما استطعت الى أحلامي الكثيرة.
عدت مجدداً للغرفة الزجاجية
يجب أن أكون واقعياً ، وأتعامل مع هذه الزنزانة كما لو أنها ستكون مسكني
الأبدي. لن أنسى في الحلم القادم أن أحضر معي أثاث غرفتي ، السرير المهترىء
، والشراشف الباهتة الألوان ، وخزانة الملابس الصغيرة . هذه هي محتويات
غرفة الصحو التي لن أكتفي بها ، بل سأجلب معي بعضاً من التحف الفنية ،
واللوحات التشكيلية المقلدة . سأجعل من هذه الزنزانة الكئيبة أجمل غرفة في
الصحو والحلم . سأحضر السجادة الكشميرية التي أحتفظ بها للبيت الجديد أو
زواجي ، أيهما أقرب ، وأفرشها في منتصف الزنزانة. سأحمل معي ما أراه ممكناً
حتى أخفف من وطأة هذا الألم ، وسأمضي للوقت أسابقه على النهاية . سأحلم أن
تكون لي حديقة أمام هذه الزنزانة الزجاجية ، وسأستمتع كثيراً وأنا أشاهد
ندى الصباح يرويها بحب وحنان.
خيط رفيع يفصل بين الحلم والصحو لا أميزه
هذه لحظة اتصاري ، فالفتاة الصغيرة تقتحم عالمي وتدخل غرفتي الزجاجية .
أنها تحمل حاجياتي وتبدأ بترتيب جنة صغيرة أعيش فيها ما تبقى من حلمي .
تغير شكل الغرفة كثيراً ، ولم تعد تلك الزنزانة التي تبعث على السأم
والوحدة . كان الخارج يبدو جميلاً أيضاً ، فقد كانت طبيعة خضراء خلابة تسرح
فيها بهائم أليفة وأناس عاديون وبسطاء لايهتمون بتوافه البعض وخصوصياتهم .
اختفت فتاتي بعد أن هيأت لي المكان ، وقبل أن ترحل مع جدها العجوز تركت
صندوقاً جديداً يتلألأ بداخله مفتاح غرفتي . كأنه يستنجدني ، أو كأنه عاتب
على إهمالي لفقدانه . دنوت من السرير حيث يستقر الصندوق وأخذت المفتاح بحذر
. أعتقد أن هذا مفتاحاً آخر يشبه مفتاحي الأصلي بالشكل فقط ، فهو ناعم
الملمس وفسفوري وكأنه مفتاح زينة .
ما يحدث لي أشبه بقصص الأساطير
اعتقدت بأن الأوساخ علقت بالمفتاح لذلك نظفت سطحه بلطف عدة مرات ، فإذا
بباب يتكشف لي ، مزين بنقوش شعبية ملونة . هاهي فرصتي المنتظرة تقترب ،
ولاتفصلني عن حريتي الا بضع خطوات واثقة لاتأخذ من وقتي الا ثوان تافهة .
أتمهل قليلاً بعد كل خطوة حتى تبقت الخطوة الأخيرة ، الخائفة . ربما سأغادر
هذه الغرفة الزجاجية الى الأبد ، أو ربما سأعود . لاأدري فالقرار سيكون بيد
الفتاة الصغيرة أو جدها الطيب اللذين وجدتهما بانتظاري في الحديقة .
لم يكن استقبالهما حافلاً كما أعتقدت ، ربما لأن أنتصاري كان باهتاً وأقل
مما توقعاه. كانت فتاتي تحتمي خلف جدها كأي فتاة مؤدبة ومطيعة ، وكانت
تنتظر أن يتكلم . ولم يخيب ظنها ، فقد أخرجت شفتاه الذابلتان كلاماً كثيراً
دون صوت . كنت مبهوراً بجمال حفيدته التي بدأت تكبر ، وتكبر شيئاً فشيئاً
حتى غدت أنثى ناضجة ينبض جسدها بالحيوية . لقد تغيرت ملامحها كثيراً ، ولم
تعد تلك الصغيرة التي أمني نفسي بقبلة بريئة على مقدمة رأسها. كان لابد
لهذه الجميلة الخرافية أن تتوارى عن ناظري لكي أحاول قراءة ما يقوله جدها
حتى لايغضب مني وينتقم.
لا تفرح كثيراً أيها الغريب ،،
هذه هي الجملة الوحيدة التي قرأتها بشكل صحيح من فم العجوز ، ثم اجتهدت في
تفسير باقي الحديث . أنا لم أتحرر تماماً من سجن الغرفة الزجاجية ، وإنما
أحظى الآن بهدنة صغيرة أسبغتها علي حفيدته الجميلة أرتب فيها أوراقي
المبعثرة . كأنه ينبهني الى أن لا أنتظر منه المعجزات الخارقة ، أو بعضاً
من الأماني السحرية فهو يمارس دوراً محدوداً . ماذا يمكن لرجل ميت أن يفعل
مع مخلوقين يصارعان الحياة من أجل أن يندمجا في ذاكرة واحدة ؟ لاشيء.
أنه فعلاً رجل ميت ودع حياة البشر لكنه أستطاع أن يظل حياً ويكبر في ذاكرة
طفلة لاتريد أن تكبر أو تفارقه . أنه يحذرني - أنا الذي غدوت في نظره
الغريب ، المغامر - من مهمة ليست باليسيرة في انتظاري . يدرك جيداً هذا
العجوز الميت بأنني أريد أنتزاع بقعته في تلك الذاكرة الرائعة ، وأحلم أن
أبقى صاحب الحضور الأكبر والأوحد هناك . أعلم أيها الجد الحنون بأن نجاحي
في هذه المهمة المعقدة بشكل كبير يعتمد على أحساسي بأن هذه الحورية لم تخلق
للألم أو التعاسة ، وأنها خلقت لكي تفتح أشرعتها للحب والصفاء.
دخلت الى الغرفة الزجاجية بمحض ارادتي
تركتهما يمضيان الى بقعة مجهولة واستلقيت على السرير بحثاً عن حلم يعيد الى
حياتي التوازن . كنت أفكر كثيراً في الأحلام ، فيما يمكن أن تفعله أو تحققه
في حياتي أو حياة الآخرين . لايمكن للأحلام أن تتحقق ، أو تفرض سطوتها على
حياتنا ، لكنها يمكن أن تعشش في ذاكرتنا فتحبطنا أو تحفزنا للتفاعل مع
واقعنا . وأنا مستلقٍ على هذا السرير زارتني أحلام كثيرة وغريبة كانت
الجميلة فيه بطلتها الخالدة . أحببت الكثير منها لأنه تقربني من هذه الفتاة
الأسطورية ، ولكن هناك حلم واحد أفزعني من مكاني وجعلني أبحث عن الباب الذي
أختفى.
في منتصف الحلم كان المكان الذي يجمعنا مدينة تقع أزقتها على ساحل البحر ،
وكنا نرتشف المتعة من البحر ثم نعود لنستريح على كراسي مقهى شعبي . تعرفنا
على غرباء ، سواح حضروا ليشاركوننا متعة البحر والشمس . كان هناك شاب وسيم
رافقنا أغلب الوقت حتى عرف كيف يصطاد فتاتي . وكانت المسكينة تحاول
الابتعاد بأدب عن قبضته عندما حاولت اللجوء إلي.
لم تفلح شكواي لنادل المقهى أو لصبي صغير انتبهت الى أنه يرافقني . كان
الشاب الغريب بارعاً في خداعنا أجمعين ، وكان يظفر بمصاحبتها طوال الوقت
دون أن يعطيني الفرصة لمحادثتها أو تنبيهها . ثم اختفى فجأة . أخذ معه
البحر والشمس والمتعة والأشياء الجميلة وحبيبتي الموعودة . بقيت وحدي مع
الأزقة والرطوبة والصغير الذي يشبهني.
واستيقظت فزعاً
كان العرق يهطل من وجهي ، وكنت أتنفس بصعوبة وبصوت قوي يبعث على الخوف . لم
أتصور في لحظة من اللحظات أن يختطف أي مخلوق فتاة أحلامي . كنت دائماً أعلن
استعدادي للموت في سبيل الحفاظ على هذه الرائعة التي تطرز أيامي بالأمل
والرجاء . رأيت وجهي في مرآة الحمام ، كان مجهداً ، وكانت تجاويفه يملؤها
الخوف. وكانت الجميلة خلفي تمسح آثار الخوف وتزرع الطمأنينة في مسامي .
أخذتني من يدي الى الخارج حيث لم يكن هناك الا أنا ، وهي ، والفراغ الذي
يشهد على خلوتنا ، ويكتم أسرارنا . كان الصندوق العجيب بحوزتها وكان
مفتوحاً على أخره ، لكن المفتاح لم يكن يأخذ مكانه المعتاد. كانت تبتدع
حركات أشبه بألاعيب الحواة المحترفين . أخرجت من الصندوق أموالاً كثيرة ،
وملابس فاخرة ، وساعات ثمينة ، وسيارات فارهة ، وأشياء كثيرة يسيل لها
اللعاب استقرت جميعها تحت قدمي . رفضت كل تلك المتع وقربتها من ذراعي.
للمرة الأولى أدقق في ملامح وجهها ، انه طفولي ويبعث على الاشتياق . كانت
عندي أمنية واحدة لاغير ، أمنية بسيطة لاتحتاج الى معجزة أو سحر . كنت أريد
أن أحتويها بين ذراعي وأشعر بدفئها ، ثم أقبلها على رأسها.
كل الأماني الجميلة لا تتحقق
هربت جميلتي الى حلم جديد ، وربما تدخل جدها العجوز في الوقت المناسب خوفاً
عليها من تهوري، لاأدري ؟ كل الأحلام تؤدي الى الغرفة الزجاجية التي أرجع
اليها في نهاية المطاف . هذه المرة كان الخارج مليئاً بالناس الذين أعرفهم
. كانوا يؤدون حياتهم بشكل طبيعي غير منتبهين للسجين الذي يقبع في زنزانة
زجاجية جميلة الشكل . كانوا يتمادون أحياناً ويعرجون علي ويلقون علي التحية
ويحادثونني في توافه كثيرة لاأهتم لها . وكنت أتصرف بشكل عادي لايثير
الريبة أو الشك . في بعض الأحيان يبدو لي أنهم لايدركون بأنني سجين أتعذب
وأنا أراهم يأتون ويذهبون مخترقين حواجز الغرفة الزجاجية التي تكبل حريتي ،
ولايحسون بوجود هذه الغرفة ومحتوياتها.
الأحلام لاتتحقق
هكذا كان يقول الجد العجوز بعينيه من صورة فوتوغرافية معلقة على الجدار .
هذا يعني أنني لن أموت في يوم من الأيام في حادث سقوط طائرة نفاثة وسط
الصحراء ، وأن حفيدته الجميلة لن تسقط من قمة بناية شاهقة ، كما تقول دفاتر
الأحلام.
مملكة النهر
كل ذلك يحدث عندما أنام ،،
عندما أستلقي على سريري وأغمض عيني يأتي رجل طاعن في السن يلبس جلباباً
أبيض شفافاً ، يخفي ملامحه ليكبل جفوني ويدخل متباهياً الى حديقة أحلامي ،
ويبدأ لعبته المجنونة التي لا تستهويني . يشق في غفلة مني نهراً جارياً
قاعه أخضر من الطحالب الكثيفة، يخترق رأسي لينثر على الضفتين بيوتاً بيضاء
تزدان بقرميد لامع لونه أزرق ، ومصانع تنفث أدخنتها الكثيفة في الفضاء
الواسع ، وتلال صخرية قممها هشة ، وأشجار نخيل باسقة تختال على أرصفة أنيقة
، وحيوانات صغيرة ومتوسطة وضخمة ولكنها أليفة ، وحوانيت متواضعة يديرها
متدينون وسحرة ، وحظائر على درجة عالية من الوضاعة ، ومطاعم متدنية المستوى
، وملاهي تعج بعقليات ليست متوهجة ، وبشر ملونون يرطنون بلغات متنوعة
يمارسون مهناً مختلفة ويتعاركون كما لو كانوا أطفالاً من أجل أن يظفروا
بغنيمة أحلامي المسلوبة.
ولا يدخل النهر ،،
يظل الرجل العجوز مخبئاً وجهه بغترة شال كشميرية ، غالية الثمن ، متلذذاً
بوضع قدميه في ماء النهر البارد ، تاركاً الأسماك الصغيرة تدغدغ قدميه
المتشققتين . وهو على جلسة اللهو هذه يحرك العالم القريب بسهولة لا يتصورها
أحد ، بحركة صغيرة من عينيه على ما يبدو. وهو يعلم أن لا أحد بمقدوره أن
يمنع سطوته ، ولا حتى أنا ، صاحب الحلم . لا يسمح باستفسار أو تذمر .
يتركني مثل الأبله أنصاع لدكتاتوريته.
هذا الشيخ العجوز ليس بالدجال أو الكاهن أو الساحر ، أنه شيخ وقور جداً
لديه أمنية عزيزة يريد أن يحققها ، وعندما يدخل من بوابة أحلامي بهذه
الطريقة الغريبة ، ودون أن يستأذن مني ، أحس كأنه يفعل كل ذلك ليطلب مني
المساعدة . إنني بين يديه عبد أجير ، وهو حر في ما سيفعله بأفكاري.
ويتمادى هذا الشيخ في أرباكي ،،
يتحاشاني قدر ما يستطيع في تفاصيل الأحلام . يرسم دروباً صعبة مسيجة بأسلاك
شائكة تمنعني من الوصول اليه ، وكشف هويته . أعرف أنه يتسلى وهو يراني
تائهاً أحاول فك طلاسم الحلم . الآن بدأت أدرك أنه الفنان الذي يرسم لي
أحلامي في الفترة الماضية ، وينتقيها من سلة صغيرة ، مذهبة لاتكاد تفارق
يده اليمنى . ولا يكتفي بكل ذلك ، بل يختار من جيوبه الغزيرة الأمكنة التي
تتغير مع كل لحظة ، والناس الذين أندهش وأنا أصادفهم ، والطقس الذي يتقلب
على غفلة مني ، والحوادث التي تتناسل عدداً وفداحة ، والانفعالات تلك التي
تصدر عني والتي أقرأها على وجوه الغير ، والحركات التي لاأستطيع تفسير
حدوثها . وأشياء كثيرة ينثرها في حلمي بعد أن يخلطها مرة واحدة في ماء
النهر الصافي.
بعدها أحلم كثيراً ،،
ولا أنسى التفاصيل الصغيرة عندما أستيقظ . ولا ينساني هذا الهرم أبداً ،
يطل علي بين فترة وأخرى ليرى كيف أتدبر أموري مع ألعابه السحرية ، وكيف
أنبهر بشخصياته التي يسيرها كما لو كانت دمى ، أو عرائس . أحلم دائماً
بفتاة جميلة يقودها العجوز من يدها ، ولا تقاوم . كأنه يريد أن يخبرني
بأنها هي البطلة الحقيقة لأحلامي ، وهو مجرد جندي مجهول وظيفته التأكد من
حسن سير الأمور . يتركها وسط هذا الكرنفال المبهر ويرحل دون أن يودعها، أو
يرسم لها دوراً كبيراً ومؤثراً . يرحل ويتركها تائهة ، قلقة ، وضائعة ،
تماماً مثل حالتي.
أحلم دائماً بيوم قائظ ،،
يوم رطب ولاهب الحرارة تحضر فيه هذه الفتاة البائسة دون أن يقودها الرجل
العجوز، ولا أستطيع أن أتتبع خطواتها. تهرب مني ، وتتحاشى لقائي . ولا أجد
سبباً يفسر هذه الرغبة المزعجة . تسمح لي بالنظرة الأولى ، وحالما ألمح
سمرتها القمحية ، وقصر قامتها ، وملابسها الفضفاضة اللامعة ، وخصرها النحيل
تدخل النهر أو تتوارى بين أمكنة العجوز المدهشة.
شيء ما في هيئتي يجعلها تنفر مني ، وهذا الشيء لاأقدر على فهمه كما
لاأستطيع أن أفسر أشياء كثيرة تختال أو تجري في حديقة أحلامي . هل للعجوز
سطوة على هروب هذه الجميلة عن ناظري ؟ هل يريدني أن أقنص هذه الخائفة
الرقيقة ؟ أم أنه يوحي الي بترويض هذه الجامحة القصيرة القامة ؟ هل يريد أن
أقتفي أثرها حيث ترشدني الى مكان مفاتيح اللغز ؟ لا أدري.
لا خطوات تدل على وجهتها ، وهذا النهر الغريب يخيفني ، أنا ذلك المعتاد على
التردد والوقوف بوجل على حافة الحلم . إنها تختفي بمهارة أسبغها عليها هذا
العجوز المجهول ، او أنها تقتبس مهارته الفذة في تضليلي ، وتنجح بتفوق
لأنني أنسان عاجز ولاأقوى على التقدم خطوة واحدة نحو سبر أغوار الحلم .
وينتهي هذا الحلم كما بدأ غامضاً . تأخذ هذه المجهولة في طريق رحيلها كل
شيء نثره الشيخ الوقور، الأمكنة ، الطقس ، الناس ، الدواب ، المسرات ،
الغابات ، الغيوم ، الطيور المغردة . تأخذ كل شيء دون سابق انذار لتسكبه في
النهر ، ثم تطوي النهر كما لو أنها تطوي قطعة قماش طويلة وتضعه تحت أبطها
العاري ، وتمضي غير سعيدة . كأنها غاضبة من تصرف أرعن بدر مني.
وأظل وحيداً في عالم عار ، أبيض ، مفتوح ، لا نهاية لمداه . كأنه عالم من
سحاب نقي وصافِ . وقبل أن أستيقظ بثوان بسيطة أرى نفسي أموت في حادثة تحطم
طائرة نفاثة في عرض الصحراء .
ولا أصحو مذعوراً ،،
هذه الحادثة ليست بنبوءة يقذفها الشيخ الهرم ، وهي ليست تحذيراً يرسله
عندما أغط في النوم ، وتعمل فوضاه الجميلة سحرها في حلمي . موتي تصنعه
السماء ، وليس لهذا العجوز المدهش أي يد فيه . هذه الأشارة لها معنى آخر
غير هذا التلميح المباشر الذي يسيطر على تفكيري أغلب الأوقات .
تسقط الطائرة العملاقة دون أن تنفجر ،،
تتفتت الى قطع معدنية متناثرة ، ودون أن يكون هناك ضحايا بشرية غيري .
أتمدد على رمال الصحراء الحارقة وأترك الشمس القاسية تسوط بشرة وجهي
الدهنية ، ولاأتألم.
ويلتهمني الموت ببطء ،،
ولأنه كان موتاً لذيذاً استسلمت له طواعية ، وأرخيت جفوني ، وتركته يلتهم
روحي بأمان . ثم رحلت بسلام الى السماء.
ليس ثمة مخلوق يعلم قصة موتي ،،
أتركها سراً في أعماقي أحاول أن أحلل رموزه الشائكة . ليس من حق أي مخلوق
أن يشاركني في أحلامي ، وقلقي من حوادثها . لاأحتمل الاستخفاف الذي سألقاه
عندما يستنكروا قصة موتي . لن أعطي أحداً أي كانت مكانته في قلبي ضعف
أعماقي ، ولن أمكن أي أنسان من حيرتي أو قلقي .
يكفيني جداً هذه الفوضى الجميلة التي خطط لها هذا المسن الرائع . تجتاحني
اللذة منذ اللحظة التي أمدد فيها جسدي على السرير . منذ هذه اللحظة أحس
بحضور هذا الذي لايجوز أن ألقبه بالكاهن ، بالرغم من طقوسه التي يمارسها في
حلمي . في النهر الذي يحميه من فضولي أو غضبي يحضر لحلم الموت ويسلمه الى
الفتاة الجميلة كما لو أنه يوصيها على شرفها الغالي . وهو يخطط لموتي
المؤقت يتخطى عقبات شتى.
ذكرياتي التي تتأرجح بين اللذة والألم ..،
مستقبلي الذي يتخبط في دروب موحلة ..
أوهامي التي تستثيرها الظلمة والسكون ..
رغباتي التي تنتحر على أعتاب الواقع ..
ولا يقلقني هذا الموت المزعوم / المؤقت ..
أنام - بشكل طبيعي - حسب ما يخطط لي العجوز ، وأتركه دون مضايقة يصادر
أحلامي الشخصية الموضوعه في صندوق بريدي ، ليستبدلها بذلك الحلم التي تقوده
هذه المرأة المجنونة التي لاترد له طلباً، فيتركها على مشتهاها تلون الحلم
، وتنثر فيه فراشات مضيئة ، ومخلوقات أقل منها جمالاً ترقص على أنغام
رومانسية غاية في العذوبة . تركض الفتاة المجنونة على سطح النهر كما لو
أنها ترقص على أرض صلبة ، دون أن يهتز سطح الماء أو تبتل أرجلها الناعمة .
كأنها تريد أن تجمل الموت في نظري ، وتجعله مغرياً.
كلما يبدأ الحلم في توقيته المبكر لاأجرؤ على عبور النهر ، وهو الخطوة
الأولى للحاق بتلك الفتاة . في أعماقي تكمن أحاسيس مبهمة ، وخائفة من
المغامرة ، والاكتشاف ، والمجهول ، وربما الموت الذي ينتظرني لا محالة في
نهاية الحلم . هل هو حقاً يترصدني في نهاية الحلم ، حيث يقف شبح رجل يمسك
بفأس عصاه طويلة ؟ لابد من عبور النهر في حضرة الرجل المسن حتى أثق في
النجاة ، وكيف سيكون لي تنفيذ هذه المهمة وهو الشيخ الذي لايغفل له جفن.
من أين أبدأ العبور ؟ من أي نقطة ؟ أي المعابر تقودني بسلام الى الضفة
الأخرى حيث تسرح الفتاة الجميلة مع عجوزها الرائع ؟ رأيتهما مراراً وهما
يعبران بسهولة من خلال كل المعابر . رأيتهما معاً ، ورأيتهما يعبران
بطريقتهما الخاصة كل على حده . لاأجرؤ على العبور من جهة المصانع حيث
الدخان الكثيف يحجب الرؤية والخطر ، وحيث النفايات السامة تندلق في النهر .
ولايمكنني الوثوق جهة الأشجار الكثيفة ، رأيت مرات عديدة حيوانات متوحشة
تعج بالمكان ، وأفاعي وتماسيح تتخذ من الساحل هناك ملجأ آمن . أما الجسر
المعلق بين الضفتين فإنه يمر بباخرة مسكونة تتلألأ فيها الأضواء وتختفي
فجأة ، وتكثر الضوضاء دون سبب . ولايتبقى الا السحاب الذي يقطع النهر جيئة
وذهاباً كل لحظة كأنه قطع صغيرة من القطن ، وهذا لاأثق فيه فقد يمطر
ويقذفني في النهر ، وقد يتبدد اذا ما شاء العجوز أن يرسل شمساً حامية.
وأقف حائراً ،،
ومثلي تقف الفتاة على الضفة الأخرى وخلفها العجوز الذي لاتشعر بوجوده ، أو
لايريد أن تراه . كنت تائهاً ، وأفكاري مصادرة ، ولاأملك الا أن أنطلق
لأفعل ما أراه مناسباً في اللحظة ذاتها . أي تفكير في الخطوة القادمة تعني
الفشل ، لذلك دخلت الحانات المنتشرة على حافة النهر أحتسي شراباً جديداً
لونه يشبه النبيذ لكنه لا يسكر . اقتحمت أغلب الحانات أضحك على السكارى
والراقصات الرخيصات ، أغني مع أشباه المطربين وأرقص مع الذين لايجيدون
الرقص.
محطتي التالية كان صالوناً مختلطاً للتجميل ليس به زبائن . طلبت من العامل
المخنث أن يغير شكلي . كانت العملية لاتستغرق كل هذا الوقت الطويل الذي
قضاه هذا الشاذ ، فقد كان يستريح بعد كل حركة صغيرة ، وكان الملعون يتحرش
بجسدي كلما واتته الفرصة ، تارة بوضع مؤخرته في وجهي ، ودائماً بتدليك جسدي
بيديه.
رأيت وجهي في المرآة قبل أن أخرج ، حواجبي الثخينة أصبحت أرفع من حواجب
سيدة تقضي شهر العسل ، وشاربي الكث اختفى تماماً ، وشعري الناعم أصبح
مجعداً ومصبوغاً بلون الحناء ، وحافظ على شعر قليل في ذقني . أعتبر العامل
أجره من النقود أهانة ، وأرتضى بقبلة طائشة على الخد ، آملاً أن أقضي باقي
الوقت معه في غرفته الخاصة خلف الصالون.
ولم أدخل النهر ،،
عرجت على محل للملابس الجاهزة واستبدلت ثياب الحلم . انتقيت ثياباً إفرنجية
تنضح روحاً شبابية، بألوان صارخة . دخلت محلاً أنيقاً للورود وكونت باقة
صغيرة تضم ثلاث زهرات ، حمراء ترمز للحب ، وصفراء تمثل الغيرة ، وبيضاء
تعبر عن نقاء القلوب . كان محل الحلويات محطتي الأخيرة التي أخذت منها كعكة
من الفراولة . كأنني ذاهب الى حفلة عيد ميلاد في طقس كانون البارد . في
الطريق الى ضفة النهر غنيت كثيراً أغاني لاتحمل الروح الحزينة التي تلازم
نفسي ، ورقصت في رشاقة رغم أن يدي مشغولتان بالورود والكعكة . لم أكن أفكر
في أي المعابر سأسلك ، ولم أكن أفكر في الشيخ العجوز، ولا في قصة الموت
التي تأتي في نهاية الحلم ، ولا في أي شيء آخر . ليس هناك الا الفتاة
الجميلة التي باتت تحتل مساحة الحلم في رأسي.
ولا أجد النهر ،،
اختفى . حل مكانه سهل منبسط من الحشائش الخضراء المقلمة بعناية . كانت
الفتاة الجميلة واقفة في مكانها، تنتظرني . كانت تنظر في عيني لتقول : انظر
ليس هناك ملجأ أمامك إلا قلبي . كان هذا صحيحاً ، حتى الرجل المسن لاأراه .
مشينا ببطء حتى التقينا في مكان كان في السابق منتصف النهر . تعانقنا فترة
طويلة دون أن نتبادل القبل ، ولم أنتبه الى أننا كنا نقف على سطح الماء دون
أن نسقط في قاع النهر أو نبتل . تناولت فتاتي قطعة صغيرة من ثمار الفراولة
ولونت شفتاها وخديها ثم أكلتها . وضعت الزهرة الحمراء في عقلها ، والصفراء
في قلبها ، والبيضاء قسمتها نصفين بين عقلها وقلبها.
كان الرجل العجوز يراقبنا من مكان سري . كنت لاأراه ولكنني كنت أحس بنبضات
قلبه ، وأنفاسه العطرة وهي تمر على رقابنا . كم هي رائعة عطيته التي بعثها
لي في الحلم ، وكم كان بديعة لحظة تتويجها في قلبي.
واستيقظت ،،
إنها المرة الأولى التي أستيقظ فيها من حلم الشيخ العجوز ولا يكون هناك موت
ينتظرني .
|