أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 03/09/2022

الكاتب: خليل جاسم الحميدي / 1945-2007

       
       
       
       
       

 

قمر أخضر-قصص

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

خليل جاسم الحميدي

ولد في مدينة الرقة 1945

عمل في الحقل الصحافي الأدبي كما عمل أميناً لفرع الشبيبة في مدينة الرقة- وأميناً لفرع الطلائع، وهو اليوم رئيس فرع اتحاد الكتاب العرب بالرقة.

عضو جمعية القصة والرواية.

 

من أعماله:

1-السخط وشتاء الخوف- قصص- 1976.

2-الركض في الأزمنة المنهوبة- قصص- 1983.

3-موت الرجل الغريب- قصص- 1987.

4- المغني والنخلة - قصص - 1998 - اتحاد الكتاب العرب

 

مدارات من سيرة الكاتب

الرقة عندي هي أم الدنيا، وحّبي الأول، فهذه الأميرة العباسيَّة....

أينما رحلت، وحيثما حللت تكون معي، ومع أني زرت مدناً كثيرة في الشرق والغرب، ورأيت في أسفاري الغريب والعجيب، المثير والمدهش، إلاَّ أنني ظللت مملوءاً بعوالمها التي اختزنتها طفلاً ويافعاً، واغتنيت بها شاباً ومبدعاً، وقد ظلت تلك العوالم، بجدتها التي لا تهرم ولا تشيخ، وبروعتها وسحرها، وغرائبيتها التي تشبه الخرافات والأساطير، تتقدم على كل جديد، وتبزّ كل غريب، وتجبُّ كل سحر، فقربها متجدد، وجديدها متنوع، وسحرها أبدي.

 

كانت الرقة، في الخمسينات، بلدة كبيرة، تحف بها الأسوار الطينية، وأطلال المساجد، والحفريات الأثرية، وبقايا القصور والقلاع المهدمة، وتختزن في ذاكرتها تاريخاً من الملاحم والأسماء والانتصارات هي كل مجدها في واقعها الراهن الهزيل، وفي إغفاءتها الواهنة على ذراع الفرات.

 

حياتها موزعة بين البداوة والحضر، وحكاياتها هي سلوتها الوحيدة في نهار العزلة، وليل الملل الباهت واليائس، وهي حكايات يتداخل فيها الواقع باللاواقع، والتاريخ بالخرافي، والأسطوري بالديني، والمخيال بالحكمة، قتلاً للوقت، وكسراً لرتابة الواقع وتجميله، وترطيب قسوته، وإخراجه من بلاهته وسكونيته، فإذا الحكايات هي الحياة، وليست البديل عن الحياة الباهتة والمملة.

 

في ذلك التاريخ لم يكن في الرقة نوادٍ ولا دور سينما أو منتزهات، وقليلة هي البيوت التي تملك مذياعاً، وتعد على أصابع اليد الواحدة، وهي بيوت ذات يسر، ووجود المذياع عندها كان دليل ترف ومكانة اجتماعية، وفي أيام الجمع يجتمع الناس في تلك البيوت منذ الصباح للاستماع إلى أغاني الحضيري أبو عزيز، وفي الليل تمد البسط والحصر أمام البيوت، ويجتمع الناس في حلقات كبيرة، يشربون الشاي والقهوة ويستمعون إلى الحكايات.

 

من يقرؤون كانوا قلة، ومن يعلمون الأطفال في المدارس هم في الغالب من خارج الرقة، ولم يكن فيها إلاَّ مكتبة وحيدة، هي مكتبة "الحقي"، لذا لم يكن أمامنا، في هذا الواقع الأجرد البائس، الساكن والأبله، إلاَّ التجول في الماضي، بين الخرائب والأطلال المهدمة بحثاً عن زجاج ملون، أو قطع نقدية قديمة، أو الذهاب إلى النهر والسباحة فيه، أو زيارة الأضرحة والمقامات برفقة الأمهات، أو البحث عن أعشاش العصافير، والتسابق فوق السور القديم، ومطاردة الأرانب والثعالب، وقتل الأفاعي، وفي الليل نؤوب إلى بيوتنا، ونلتصق بأهلنا، ونستمع إلى الحكايات، زاد الرقة الذي لا ينتهي.

 

الرقة مفطورة على الحكاية، ومنها انتقل النسغ إليَّ، فأينما تحركت ثمة حكاية بانتظاري، فللنهر حكاياته، وللجبل حكاياته، وللسور حكاياته، ولمقابر شهداء صفين حكاياتها، ولقصور البنات، وباب بغداد، والجامع القديم، تاريخ وقصة وحكاية، وهي حكايات يغلب عليها الخيال والتوليف والخوارق والمعجزات، فتترك أثرها الساحر في نفوسنا، وترافقنا إلى فراشنا بكل أحداثها وشخصياتها، ووقائعها الغريبة، المثيرة والأسطورية.

 

وبالرغم من أنني بدأت شاعراً، ونشرت قصائد مبكرة في الثورة السورية، والأسبوع العربي، والأحد اللبنانية، إلاَّ أنَّ القصة كانت الأقرب إلى روحي، وظللت أميناً لنزوعي الشعري، ما خنته، أو تبرأت منه، لكنني وظفت مساحته التي تسكنني في خدمة القصة ليعطيها خصوصيتها الشعرية، ونكهتها الواقعية السحرية في آفاقها المحلية والإنسانية.

 

أحببت الحكاية، وقد عجنتها الرقة بدمي حاضراً ومستقبلاً، ولا أجد نفسي إلاَّ فيها، ففيها كل ما افتقده، وكل ما أتوق إليه أو أشتهيه، عالم واسع فسيح الأرجاء، رغبات وأمنيات ممنوعة، أحداث تركض كالخيل الأصيلة، وحياة تتجدد كالأزهار، وأمجاد تنهض، دون دماء، ودون عناء...!.

 

أحببت الحكاية فكنت مسحوراً بها، ومأخوذاً بأجوائها الخرافية حيث الخرافة كالواقع والواقع كالخرافة، وقد عزَّز هذا الحب والشغف، ووطَّد مكانتها عندي صديقي الأديب إبراهيم الخليل منذ أن كنَّا على مقاعد الدرس في الصف الثالث الابتدائي في مدرسة سيف الدولة الابتدائية، ففي الوقت الذي ينصرف التلاميذ إلى اللعب وشراء السكاكر، كان إبراهيم يتحفني بقصص وحكايات مثيرة حببت إليّ القراءة، وقادتني إلى مكتبة "الحقي" التي وجدت فيها ملاذي، فداومت عليها فقرأت كل ما وجدته من كتب المغامرات: طرزان وأرسين لوبين وشرلوك هولمز وكتب السير الشعبية: تغريبة بني هلال وسيرة بني هلال والأميرة ذات الهمَّة وفيروز شاه وحمزة البهلوان وعنترة ثم ألف ليلة وليلة ودليلة والزيبق، وفي المرحلة الإعدادية حباني الله بمدرس مصري يحب الأدب والقراءة، إلى جانب صديقي إبراهيم الخليل، فقرأت تشيخوف، ومكسيم جوركي، ودستوفسكي، والبير كامي، وجان بول سارتر، وتشاينبك، وبودلير، ومحمود البدوي، ويوسف إدريس، وطه حسين، والعقاد، المازني، ومحمد عبد الحليم ... الخ.

ولم أبهر إلاَّ أمام كتاب ثلاثة، هم تشيخوف، ويوسف إدريس، وزكريا تامر، وقد ظهر هذا التأثر واضحاً منذ البدايات، ومازال يرافقني حتى الآن، فمنهم تعلمت فن الكتابة القصصية وتجلياتها، وكلما شعرت بالعجز عدت إليهم، لأغتني بهم من جديد.

 

عندما نشرت أول قصة لي "السخط وشتاء الخوف" عام 1964 في جريدة الثورة، وكنت يومها طالباً في المرحلة الثانوية ـ كان أثر الثلاثة واضحاً في السرد واللغة والمضمون، حتى أنَّ الشاعر ممدوح عدوان أشار إلى ذلك في كتابته عنها.

 

فمن تشيخوف أخذت الرجل الصغير، المهمش، والزائد عن اللزوم، بطلاً لقصصي، ومن يوسف إدريس أخذت متانة السرد وتجلياته المتنوعة، ومن زكريا ثامر أخذت اللغة، وغرائبية الحدث ـ والخروج على حوامل القصة التقليدية، ولقد سعيت مع زملائي "جماعة ثورة الحرف" التي شكلناها في الرقة في الستينات رشيد رمضان، إبراهيم الخليل، محمد سطام، خليل جاسم الحمدي، وفيق خنسة، عبد الله أبو هيف، إبراهيم الجرادي، عبد الفتاح الفندي، أن نكتب القصة الجديدة والمختلفة عما كتبه الآخرون قبلنا، القصة غير العادية، التي تجاوز المألوف والعادي في شكلها ومضمونها ولغتها وحواملها الفنية والتقنية، وأن نبدأ من حيث توقف الآخرون.

 

ومنذ البدايات لفتت قصصي الانتباه لنزوعها الحداثي، واهتمامها بالتعبير الاجتماعي، وجمالياتها اللغوية والفنية والتقنية، ولاقت ترحيباً واهتماماً في الصحف والدوريات الأدبية في سورية وخارجها (الأدب، مجلة المجلة، مجلة القصة المصرية، الأديب، الثقافة، الثقافة العربية الليبية، الأحد اللبنانية، الموقف الأدبي، جيش الشعب، الطليعة، ... الخ)، وفي عام 1975 نشرت مجموعتي القصصية الأولى: "السخط وشتاء الخوف" عن اتحاد الكتاب العرب، وفي عام 1978 صدرت مجموعتي الثانية: "الركض في الأزمنة المنهوبة" والتي تمثل بداية امتلاكي لصوتي الخاص الذي لا تخالطه أصوات أخرى، لقد كانت هذه المجموعة غنية بلعبة التجريب، والعمل على اللغة، والاتقاء بالسرد، وتعددية المضامين حتى اعتبرها البعض مفصلاً هاماً في مسار القصة القصيرة في سورية مثل عدنان ابن ذريل د. إبراهيم الجرادي، د. عبد الله أبو هيف، إبراهيم الخليل، وفي عام 1978 صدرت مجموعتي الثالثة "موت الرجل الغريب" وقد ركزت هذه المجموعة على البطل الفرد، المتمرد، المطحون بالخيانات والهزائم والخيبات والانكسارات، لتعكس من خلاله روح المبادرة الإنسانية في الظروف اللاموضوعية لأي تحرك جماعي، وبالتالي فإن الباطل في هذه المجموعة هو نتاج مرحلة معينة، فرزتها الضرورة الاجتماعية، وهي تتابع انكسارات الصراع، وتشتمل عليه.

 

والبطل الفرد الإشكالي في هذه المجموعة يصعد الموقف التاريخي، ويعطيه حسَّاً تراجيدياً هو في أحد وجوهه، الشكل الملحمي للصراع الإنساني.

في عام 1999 صدرت مجموعتي الرابعة "المغني والنخلة" عن اتحاد الكتاب العرب، والمغني والنخلة كانت امتحاناً عسيراً للقصة القصيرة وهي تواجه مشكلة الموت، فكانت ملحمة الروح القلقة، الممزقة المكتوبة بدم القلب، وبقدر ما هي مرثية لمنار الراحلة، فقد كانت في ذات الوقت، مرثية الحياة مرثية لكل الناس البسطاء الذين يواجهون الموت بشجاعة، ومرثية نهضت من الروح ولم تأتي من العقل، وقد عشت حالات جنون حقيقية حين كتبت نصوصها القصصية، لقد كانت حالة من حالات الهذيان، والجنون، وهي تخرج من النمط وقوانين القصص المدرسية، وتختار قوانينها هي، صحيح أنها تنتمي للقصة، لكنها ليست القصة في شكلها التقليدي، هي قصة إشكالية لأنها توجهت إلى جوانية الإنسان، ولم تكن معنية بالخارج، ولقد استطاعت أن تنهض بهمها الخاص ليكون هما عاماً وإنسانياً.

 

منذ البدايات كانت شهوة الخلاف في داخلي، وكانت القصة متمردة على تقنيات القصة الكلاسيكية وحواملها، ومندفعة في مغامرة التجريب والانفعال على مستوى السرد والشكل واللغة في نزوعها الشعري، للوصول إلى نص قصصي مضاد للجاهز والسائد، ومتخلص من عمودية السرد التقليدية، وهذه الخاصية في المغامرة والتمرد تظهر في كل مجموعاتي القصصية لكنها تحقق حضورها المتميز والواثق والمتمكن في مجموعتي "الركض في الأزمنة المنهوبة" 1978 و"قمر أخضر على شرفة سوداء" مجموعتي الخامسة الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب عام 2003.

 

وسمة الحزن التي تفيض بها قصصي الأخيرة، وهاجس الموت الذي يطارد أبطالها، فلأن الموت رافقني مبكراً وتحديداً من عام 1973، وراح يحصد أقرب الناس إلى قلبي وروحي، وكان موتهم تراجيديا، ما كانوا يموتون كما يموت الناس، وإنما كان يختطفهم الموت إما حرقاً أو غرقاً أو قتلاً، بدون مقدمات يموتون، وهم يلعبون، ويضحكون، أو يعملون، مما صبغ حياتي بالحزن والمرارة والسواد، وتعمق الجرح في القلب والروح بموت زوجتي التي تحولت حياتي بعدها إلى ليل دامس مليء بالمرارة، والعذاب، وصار موتها الشرفة التي أرى منها العالم.

 

 ولم أجد شيئاً يعزيني، أو يخفف عني وقع المصيبة وفجائعيتها إلا الكتابة ففي الكتابة استحضر وجوه الراحلين، وأنفخ فيهم من روحي، فأعيدهم إلى الحياة، يضحكون، ويلعبون، وينطقون، وأعيد سيرتي الأولى معهم، أكثر مما عشت، لأنهم ليسوا مثلي، فهم لا يهرمون أبداً ولا يشيخون، أليست الحكايات أغنى من الحياة؟ أليست الحكايات هي الحياة وقد تأبدت؟ فهل أطلب من القصة أكثر من إعادة الحياة لمن لا أستطيع العيش دونهم.

 

 ***

 

ابتدأ خليل جاسم الحميدي الكتابة القصصية في أوائل ستينيات القرن العشرين ونشر أول قصة لـه عام 1962 في العقد الثاني من عمره، وكانت الرقة آنذاك لا تعرف إلا رائدها الأديب الكبير الدكتور عبد السلام العجيلي، لقد كتب الحميدي القصة مع قلّة من مجايليه أمثال: عبد الله أبو هيف وإبراهيم الخليل ورشيد رمضان. واستطاع أن يخط درباً خاصاً به في الكتابة القصصية في مدينة الرقة حيث ترك أثراً بيّناً وواضحاً على مسيرة القص السوري في ثمانينيات القرن المنصرم. أسس مع مجموعة من زملائه جماعة ثورة الحرف الأدبية في الرقة، وهو عضو في اتحاد الكتاب العرب، جمعية القصة والرواية عام 2001 ومنح شهادة تقدير ودرع الاتحاد عن مجمل أعماله القصصية والأدبية. لفتت قصصه الاهتمام بنزوعها الحداثي وجماليتها الفنية واللغوية وعنايتها الشديدة بالتعبير الاجتماعي، ويكتب النقد والدراسة الأدبية، لكنه بقي مخلصاً لفن القصة ولا يجد نفسه إلا في هذا الفن...

 

أمّا إصدارته فهي:

1 ـ السخط وشتاء الخوف ـ قصص ـ 1975: هي المجموعة القصصية الأولى للحميدي ونتاج أواسط الستينيات تميّزت بتصدّيها لأمراض المجتمع وحملت بصدق وإخلاص عبء التعبير عن الآلام والأوجاع في عالم الإنسان المسحوق.

 

2 ـ الركض في الأزمنة المنهوبة ـ قصص ـ دار الشبيبة 1977: المجموعة الثانية للحميدي وهي نتاج مرحلة السبعينيات القصصية في سورية قال عنها د. رياض عصمت (إنها تحمل جلّ سمات القص السبعيني السوري) ينطلق الكاتب فيها محمّلاً بهواجسه الوطنية والقومية إلى تصوير القاع الاجتماعي في الريف والمدينة لتأكيد مقولات الصراع الطبقي وما يرتبط بها من ئنائيات الخير والشر في مراحل تاريخية حافلة بالرهانات السياسية والاجتماعية الجديدة، اعتمد الحميدي فيها على مبادئ جديدة في التكنيك القصصي فالشخصية الرئيسية (براعة) مثّلت الحب والخصب واللذة والفقد والأرض والملاذ حاضرة دوماً في كل القصص.

 

3 ـ موت الرجل الغريب ـ قصص دار بن هانئ ـ دمشق 1987: المجموعة الثالثة للحميدي تتمحور حول حب الوطن وحب المرأة يحمل هذان المحوران بطلاً لـه سمات البطل الإشكالي هذا البطل هو بلا بطولة، فهو يسلم رقبته إلى جلاديه ولكنه لا يبيع آجلاً بعاجل ولا يتنازل عن قيمه التي هي بالضبط ثوابت شخصية فإذا ما أضاعها فقد أضاع نفسه، إنه ثابت على مبادئه وتتمسك هذه الشخصية الإشكالية بقيمها النبيلة والإنسانية وتدافع عنها وتدفع حياتها ثمناً لمبادئها.

 

4 ـ المغني والنخلة ـ قصص ـ اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق 1998: هي المجموعة الرابعة للحميدي وفيها يغني مفردات الجمال والأسس والحزن على شاطئ نهر الفرات العذب فقد شهد هذا النهر قيام واندثار حضارات شتى تعاقبت عليه ويعتمد في هذه المجموعة على شخصية المغني وعلى غنائية النص قال عنها الدكتور ياسين فاعور: قصص هذه المجموعة تقدّم لنا الإنسان العربي في بيئة الفرات ضمن ثنائية الرجل والمرأة، يواجه الطبيعة بغوائلها والحياة بأحداثها متسلّحاً بالصبر أولاً والإرادة ثانياً والتفاؤل ثالثاً وأدواته في ذلك حكمته وحبّه للحياة، وتمتاز لغة هذه المجموعة بالعبارة الجمالية وجودة الصياغة والإيحاء الملائم.

 

5 ـ قمر أخضر على شرفة سوداء ـ قصص ـ اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق 2003 المجموعة الخامسة للحميدي وفيها يتابع أناشيده الماتعة عن المرأة والوطن والحب ويضيف إلى مجموعته هذه شعرية أكثر ممّا في قصصه السالفة كما يتابع تجلياته ويضيف إليها ما يسميه البعد الصوفي في الكتابة.

 

القاص خليل جاسم الحميدي وهو قاص من جيل السبعينات ، الذي هزته هزيمة عام 1967
له خمس مجموعات قصصية وهو عضو المكتب التنفيذي لاتحاد الكتاب العرب في سورية وأمين تحرير مجلة الموقف الأدبي توفي الكاتب خليل جاسم الحميد عن عمر 62 عاما وإثر مرض عضال واهمال رسمي وخاصة من اتحاد الكتاب العرب رحم الله خليل جاسم الحميد ي وألهم أهله الصبر

توفي صباح21-3-2007

 

نماذج من أعمال الكاتب

 عناد الكتابة

 البكاء فوق صدر الحبيب

قرنفلة لعذابات الروح 

 

قرنفلة لعذابات الروح

 

(( أشهد أنَّ الريح في تسبيح.‏

وأن في فؤادي كل صخرة حنين‏

وأشهد أنها تراني.‏

وأنني أراها‏

تحلُ في المساء عراها‏

ثم ترتديني))

عبد القادر الحصني‏

 

(1)المنافي((1))‏

قالت الريح: تبارك وجه الجهات فهي مسراي حيث يممت وجهي.‏

قالت الغزالة: ملعونة هي الريح.‏

قالت الريح: ليست كل العذوق لها شهوة النخيل يوم يداهمها المطر.‏

قالت الغزالة: أود أن تضيع الريح في الوديان مثل أفراس وحشية، ولا تجد من يدلها على صدر الجهات.‏

قالت الريح: دربي وأعرفه إلى صدر الجهات.‏

ولحظة انفرط عقد الكلام.‏

كانت المنافي تنهض في روحيهما مهيبة، جليلة، مثل شواهق القبور، والريح لا يبرق في ذاكرتها إلاَّ صدر الجهات، وخط الأفق النحيل، ورمانه الريان بالعنبر والزبيب.‏

وكان يتوغل في دمها فصل بارد، هذه الغزالة الشاردة كالمساء على الشواطئ والخلجان البعيدة، ووعل صاخب كالعاصفة يؤاخي أظلافه وجلد السهوب، يركض في مواجهة الجهات كصوت ابتهال ضائع، بعد أن ضاع وضيِّع، وتاه عن درب الغزالة الشاردة.‏

***‏

هامش رقم "1" : من جمر المنافي‏

انتظر الرجل النحيل المرأة التي يحبها في الحديقة العامة، وبيده وردة حمراء كما طلبت، وبرغم القلق والاضطراب والتوتر كان واثقاً من مجيئها.‏

هي التي قالت: نلتقي في الحديقة.‏

قال لها: نلتقي.‏

قالت له : إياك أن تتأخر.‏

قال لها: مع مطلع الشمس سأكون في الحديقة بانتظارك.‏

والرجل منذ مطلع الشمس يحّمل وردته وينتظر، عيناه تراقبان مداخل الحديقة ومخارجها، تفتشان بين العابرين، بينما قلبه يثب من داخله كلما لاحت له امرأة تدخل الحديقة أو تناهى إليه وقع أقدام من خلفه، وكثيراً ما خيّل إليه أنه يسمع صوتها قريباً منه ويشم رائحتها التي تملأ الحديقة فيزداد يقيناً من مجيئها.‏

مرَّ من أمامه أطفال، ورجال، ونساء كثيرات، لكن الرجل لم يكن يفكر إلاَّ بالمرأة التي يحبها قلبه وينتظرها بفارغ الصبر، وعندما دخل الليل عميقاً، وغادر الناس الحديقة، بقي الرجل وحيداً، مع وردته الحمراء بانتظار المرأة التي لم تحضر.‏

***‏

(2) مسرى الريح((2))‏

دمي ينسرب فيضاً من الفتنة و الجمر، وروحي هي العاشقة، أصابع حانية، تبارك صدرها، صدر الجهات، فهي معراجي حيث يممت إلى مقصدي العاصي، تقبل علي سافرة، ناضجة كالدراق الشهَّاء، أغنية طافحة بالاشتعال، والعبق الشجي، وملاسة الرخام.‏

قامة من الزَلِّ ا لمقصف والندى، تسامق فيها العلو اخضراراً رعاشاً، وأينعت بالزهر المحرم والثمر، فانتشت فتنة، وماست درية في فتون ولون.‏

يا صدرها باتساع الأرض.‏

 

موئل الفصول الوريفة بالنعمى، وأنفاس العبير فاشتهيها، وأعرف أنها تشتهيني، دمي يمام يغني: هلمي. تعالي إلي صخابة في فتون امرأة لها طعم العنب المخمر عند الظهيرة، فضاحة كحزمة ضوء تدثر بها نهدان من ثلج ونار.‏

 

فتقبل شهقة تترقرق بالفرح المضرَّج باشتعال الندى، وما في الروح من توق وجمر. هاذي خطاها.‏

 

ربيع في سهوب العمر، وفي دمي تنثال قرنفلة، أرتديها لباساً لكل المواسم والفصول والأزمنة، ترتديني اشتعالاً وتسكب في فمي قهوتها المهيلة بالمسك، والعسل، والزنجبيل، تنثني الصباحات موائداً من نرجس، والحرائق تغادرها ألوانها، وتشتعل بدفء الأصابع في فيض الشذى، وعري الرخام.‏

هي الجهات.‏

 

ليس سواها، وجه الغزالة، حيث اتجهت، سر التباريح في قلبي، ونبض الفصول في دمي، حين يداهمني الموات، ويتعب خطوي بعد المسافات، ووهج اشتياقي لرمانها العابق بالاشتياق، لا شيء يحتويني سواها، حين يداهمني الخراب، والفصول تصير في روح الغزالة عذاب.‏

هي الجهات.‏

 

لا شيء يحتويني سواها.‏

تبارك وجهها، فهي مسراي حيث يممت وجهي، وشموس الفصول.‏

***‏

هامش رقم "2" : ماغاب عن ذاكرة النص‏

أغلق الرجل الأبواب.‏

 

أغلق النوافذ والشرفات، ومزق صورة المرأة المعلقة على الجدار، ثم أطلق على ذاكرته الرصاص، ومع هذا شعر بالمرأة تتحرك في داخله كالوسواس، ما بين قلبه وروحه تحركت، ورائحتها تسللت إليه من مسامات الجدران، واقتحمت عليه وحدته.‏

 

فما كان منه إلاَّ أن أخرج قلبه من صدره وهو يرعد بالغضب والمرارة، وما إن وقعت عيناه عليه وهو يرتعش بين يديه حتى جمد، فقد أذهله أن القلب كان لـه شكل المرأة التي تسكن روحه في اليقظة والمنام، وتملأ حياته بالألم، والمرارة والحزن، والتمزق، والعذاب.‏

فاندفع يضحك ويبكي.‏

 

يبكي ويضحك وهو يدور في الغرفة كالمجنون لاطماً وجهه وصدره وكأنه في مناحة حتى تقطع إلى أجزاء صغيرة دامية.‏

 

***‏

(3) ما قالته الأغنية‏

قالت الأغنية: ثمة وقت يأتي، تعافني فيه كل القلوب وتمضي، إلاَّ القلب العاشق وحده الذي يظل معي، ولا يهجرني، نديمي يظل، وبعضي الذي لا يخون، قهوته من كأسي، وكأسي من اشتعال النوى فيه، أميرة على شرفة القلب يجلسني، ويجلس بين قمراً مترعاً بالمرارة، والحزن, والهديل، ويروح يبوح لي بالذي فيه، والذي فيه فيَّ، والمنافي في روحينا واحدة، ويتلو علي نبأ الفصول الذبيحة، وضيق الزمان، ووجع المنافي الهاجعة في الروح، ويبكي.‏

فتبكي الجهات.‏

 

تبارك وجه الجهات، وفي أحداقها ترمح الغزالة الشاردة، فأنسى الذي فيَ، والذي فيه، أنسى عذابي، رخيماً يجيء الضوء في روحي، ويغادرني نحيب المرارة، فأنهض، والغزالة ترمح، والقلب العاشق يفر إليه، انهض، كل الجهات دروبي، لا شيء يحزنني مثل القلوب العاشقة.‏

منذور لها عمري، حزني عليها، أنهض، يفر انكسار الزمان من دمي، تفر مني محنتي، وأسطع غزالة في القلب العاشق، وفي فمي يبرق رذاذ الشهوة، ، مثل جمان يعانق الشمس، أو شمس تعانق جمانها، ينهض القلب العاشق، ثم يصير نهاراً فوق كفي، يسافر في صخَّاباً يغني، وأغني، نغني معاً، ودمنا ينسرب فيضاً من الفتنة والجمر إلى حيث تنبعث رائحة الغزالة.‏    

 

 

البكاء فوق صدر الحبيب

 

أنا زهرة‏

وانساح صوت المرأة رخيماً، عذباً، ودافئاً في الغرفة، مثل رشة عطر فاغمة، ومع أن المرأة نطقت باسمها بهدوء شاحب، يكاد يكون أقرب إلى الهمس إلا أن الرجل الجالس في الغرفة، وراء مكتبه، أحس بارتجاف لذيذ، خدر دافئ ينسفح في داخله، وينحلُّ في الشرايين، ضوءاً، ومسرة، ونسيم أغنية.‏

 

واعتراه الذهول والاندهاش:‏

 

وهو يحسُّ بالحروف، تتدفق في سمعه، ضوءاً يشعل النار في دمه المنطفئ، بشكل متواتر، بطيء، ناعم، وخدر، كمن يسبح في دماء مقدس، أو يطير في ضباب، وكأنها تختزل عمراً بكامله، وتغرقه بأحاديث، وأحلام، وآمانٍ، وطموحات.‏

 

وخيل للرجل أن صوت المرأة ظل لوقت يهوم في الغرفة، ويطوف مرفرفاً، مثل سرب من فراشات ملونة، وأن الرجل يطير معه في الغرفة ويدور، وشيئاً فشيئاً راح الصوت يقتحم مساماته، ثم يستقر في حبة القلب دهشة، وفرحاً، وهديل حمامة.‏

 

تمتم الرجل حالماً: زهرة.‏

 

وعادت الحروف تدور في الغرفة وتطير، والرجل يطير معها، ويدور فرحاً، منتشياً وسعيداً، والمرأة ما زالت تقف في مكانها شجرة من ضوء وقرنفل ودراق، تنظر إلى الرجل بحب، وحنان، ونشو. وعندما ترامحت عيونهما توهجت ذاكرة الرجل، وامتلأت برنين الهاتف.‏

 

عمره كان قبل رنين الهاتف، قافلة من الذكريات الحزينة والموحشة، وقلبه بارداً ووحيداً، كان الوقت ليلاً عندما رن جرس الهاتف، وفجأة صوت امرأة عذب يهتف بفرح ولهفة:‏

 

عبد الله، آلو، يا عبد الله.‏

 

فأدرك أن المرأة، أخطأت الرقم الذي تريد.‏

 

-من أنت؟‏

 

أنا زهرة يا عبد الله.‏

 

قال لها، وهو يكتم ضحكة في داخله:‏

 

-حقيقة، أنت زهرة.‏

 

دع المزاح جانباً، وخبرني عن نفسك.‏

 

أنا بخير، وتقتلني الوحدة.‏

 

وأنا مشتاقة إليك.‏

 

من وقتها: انزرعت زهرة في داخله، وردة من الهناء، والحلم، والأمنيات، ومع كل مكالمة، كانت تتطاول في داخله وتتجذر، ويتورم حضورها في القلب والروح. يومها ضحكت طويلاً على الهاتف. عندما عرفت أنها أخطأت الرقم، وأن الرجل الذي تحدثه ليس عبد الله. ومع هذا أكدت له، أنها سعيدة بما حصل، وعاهدته على الاتصال الدائم.‏

 

ومع أن الرجل لا يعرف شيئاً عن المرأة.‏

 

ومع أن المرأة لا تعرف شيئاً عن الرجل.‏

 

فقط. هي امرأة وحيدة من الجنوب، وهو رجل من الشمال، وحيد، ومقطوع من شجرة، خفق قلب المرأة للرجل، وطار قلب الرجل إلى المرأة، وطلب منها، أن تعينه على العمر القاحل الذي يحياه.‏

 

قالت له: ولكنك لا تعرفني.‏

 

قال لها: أنت العمر والملاذ.‏

 

قالت له: لا تتسرع.‏

 

قال لها: أنت العمر والملاذ.‏

 

قالت له: وكيف عرفت؟‏

 

قال لها: كنت ضائعة، وقد وجدتك.‏

 

قالت له: وما هو دليلك؟‏

 

قال لها: في فمك نجمة من ذهب، وفي قلبك اشتعال المطر. وعلى كتفك شامة.‏

 

قالت له: الأرض ضيقة، وسنلتقي.‏

 

قال لها: وأنا بانتظارك على كل مفارق الطرق.‏

 

من وقتها:‏

 

صار صوتها عبر أسلاك الهاتف، فرح الروح، الذي ينتظره كلما فاض الحنين بدمه إليها.‏

 

وعاد الرجل يتمتم: زهرة.‏

 

فرددت المرأة بهدوء: نعم زهرة.‏

 

وظل الرجل صامتاً، متوتراً، ومضطرباً. لم ينطق بكلمة ولم يفعل شيئاً، كان مفتوناً باللحظة، إلى حد الانبهار والنشوة، وقلبه يخفق بشدة.‏

 

منذ زمن وهو يحلم باللقاء مع زهرة، التي لا يعزف منها سوى صوتها، ومع هذا فهي تسكنه مثل دمه، وتمسك بكل مفاتيح روحه، وتنتشر فيها صباحات من الورد، والحلم، والوعد، وعندما تأتيه اليوم ممسكة كالغزالة، يبدو عاجزاً مثل الرماد، وغير قادر على التصرف، أو التعبير عن فرصته حدق الرجل في وجه المرأة.‏

 

فطالعته قامتها الطويلة، وعيناها الواسعتان كالغابة، وفمها بارتياح، ويحيط وجهها الذي يفيض بالضوء كالسوار، فيبدو الوجه قمراً من قرنفل.‏

 

همس الرجل في داخله:‏

 

إنها امرأة من حليب، وشموس، وقرنفل. وقالت المرأة في داخلها:‏

 

الرجل مسكون بالحزن، والدهشة، والحلم، والبراءة وعندما ترامحت عيونهما ثانية، اضطرب، وعاد يرتجف في داخله، وبدت عليه الحيرة والارتباك.‏

 

قالت المرأة في داخلها:‏

 

في عيني الرجل حيرة ومرارة.‏

 

وقال الرجل في داخله:‏

 

في عيني المرأة مواسم فرح وحنان.‏

 

وقتها تماماً: ابتسمت المرأة في وجه الرجل، وقررت أن تفعل شيئاً يخرج الرجل من حيرته وارتباكه، وأدرك الرجل أن المرأة اكتشفت ما يعانيه، فقرر هو الآخر، أن يفعل شيئاً، قبل أن تفقد اللحظة بهاءها وألقها.‏

 

تحركت المرأة من مكانها، وخطت باتجاه الرجل، تحرك الرجل من وراء طاولته، وخطا باتجاه المرأة، حتى وقف في مواجهتها تماماً.‏

 

قال لها: لقد انتظرتك طويلاً.‏

 

قالت له: لا يبدو عليك ذلك.‏

 

قال لها: وكان قلبي لا يفكر إلا بك.‏

 

لمح في عينيها سعادة، ولمحت في عينيه فرحاً، فخفق قلب الرجل والمرأة بشدة في وقت واحد.‏

 

قالت له: وهاقد أتيتك.‏

 

قال لها: ولن تفارقيني بعد اليوم.‏

 

فتحولت المرأة وردة، استنشق الرجل عبيرها، وأحسَّ أنّ عمراً جديداً راح يتدفق في شرايينه.‏

 

مدَّ الرجل يده.‏

 

مدت المرأة يدها.‏

 

مدَّ الرجل والمرأة أيديهما معاً.‏

 

وكانت الشمس وقتها، تعانق الأرض بحنان، وثمة أغنية شعبية، تتحدث عن الهجر، والعذاب، واللوعة والحرمان، تنبعث من مسجل قريب، وسرب من حمام أبيض، كان يحلق في سماء المدينة، ويصنع في طيرانه تشكيلات جميلة وساحرة.‏

 

تلاقت الأيدي، والعيون، والقلوب دفعة واحدة. رجل وامرأة، وحدهما كانا العالم كله، وكأن العالم وقتها قمراً وأغنية، شيئاً بديعاً، شجياً وشهياً، يضج بالألوان، والنيران، وصخب النوارس والشموس العتيقة، والندى، والمرجان، والأغنية بصوت مغنيها الأجش، المشروخ بحزن جميل، تتسلل بهدوء عذب ودافئ في داخلهما، وتملؤهما بشعور غامض ولذيذ.‏

 

شدّها إليه بحنان، فارتبكت المرأة، وتدفق الدم إلى وجهها، شد، فاستجابت إليه، وقلبها يخفق بشدة، وعندما احتواها صدره، عانقته بكل ما فيها من حب، وشوق، وحنان، دفن الرجل وجهه في صدرها، مثل طفل صغير، فاستجابت له، وهي تحس أن أسراباً من الطيور الملونة، راحت تهاجر في داخلها، وتحملها إلى سماوات من زمرد وضباب، ونما في داخلها شعور واثق، وأكيد، أن عمرها الحقيقي يبدأ من هذه اللحظة وما قبله كان وهماً وسراباً، وأنها منذ هذه اللحظة، تدخل بر الأمان، بقدم ثابتة وواثقة، في حين تصدع جدار الخوف من داخل الرجل، ثم انهار دفعة واحدة، فأدرك أنّ كل أحزانه، وعذاباته، ووحدته قد انتهت.‏

 

وأشرقت في داخل الرجل والمرأة، شمس كبيرة، ودافئة وقتها تماماً.‏

 

رن جرس الهاتف في الغرفة.‏

 

ظلَّ الرجل والمرأة متعانقين، بحب، وكل منهما متشبث بالآخر بحنان،‏

 

رن الهاتف ثانية، وثالثة، ورابعة، استمر في الرنين، دون أن يرد عليه أحد.‏

 

كانت المرأة متمسكة بالرجل.‏

 

والرجل كان يجهش بالبكاء على صدر المرأة.‏

 

 

عناد الكتابة

مكابدات الكاتب

تعاندني الكتابة في مرات كثيرة، وأحسُّ بعجزي الفاضح أمامها، وهي تتمرد علي، وتشهر تمنعها وعصيانها في وجهي، مع أني أقبل عليها بروحي وقلبي وفكري، وبي لهفة العاشق، وشوق المحب، ثم إنها هي التي تأتيني، فجأة تدهمني، وتدخل عليّ من حيث لا أدري، تركض من حولي ومن أمامي، وهي تبرز مفاتنها وكنوزها وتغويني، وتبعثر نفسها بين أصابعي، فأروح أتنفسها وأنا أمتليء بها، وأشعر بها مختلطة بدمي، ويصير وقع أقدامها الشفيفة أنفاسي التي أموت لو توقفت، لكنني عندما أريد القبض عليها، وامتلاكها، لتشكيلها وخلقها، تفر وكأنها ما كانت، وتقف غير بعيد مني، معاندة، متمردة، ورافضة الانصياع، وكأنها تشك بعشقي لها، أو أن ما أشعر به مجرد نزوة طارئة، قد لا تحقق لها الوصال الذي تشتهيه وتريده.‏

 

ما يعذبني أنها لا تأتيني زائرة في وقت محدد، فهي قد تدخل علي في الليل، وأنا ممدد في فراشي، وكثيراً ما أيقظتني من نومي، وفي مرات أخرى تفرض نفسها علي في الشارع، أو وأنا راكب في سيارة، تقف ما بين عيني بكل جلالها وجمالها وسطوتها وهي تغمز لي بعينيها وتبتسم، تدور من حولي طقساً خرافياً لا تملك إلاّ أن تنصاع لفتنته، فأقبل عليها، لكنها تروح تروغ مني، وكأنها بريئة مما أنا فيه، والذي في ليس منها، أو كأني أنا الذي أغويتها، أو أريد بها شراً، فيزداد جنوني، وأنا أحس أنّ قلبي يغادرني، فيزداد تعلقي بها، وركضي وراءها، ويصبح لعذاباتي ومكابداتي طعماً لذيذاً بقدر شراسته.‏

 

وكلما خيل لي أنها تخلت عن عنادها، ودلالها، وبانت بين يدي طائعة ومطيعة، ونارها المباركة أخذت تلفحني، وتكويني، أجدها صارت عصية أكثر، وبعيدة المنال، وعندما تجدني أصل حد الهبل والجنون والموات، وأنا أدور في المكان، أجدها تعانقني، ونارها المباركة تنساح في دمي وروحي، ثم تروح تتفتح بين يدي خلقاً جديداً، لا يعرفه إلا من كابد عناد الكتابة، واشتوى بنارها المقدسة.‏

 

قاسية هذه المعشوقة ومنيعة، وسر فتنتها وسطوتها تأتي من هذه القسوة والممانعة، ومجنون عاشقها، لأن تمنعها يؤجج اشتعاله، وجنونه اللذيذ، ويزيده تعلقاً بها، وركضاً وراءها، وإصراراً على الوصول إليها وهو لا يرى في عنادها البهي إلاَّ دعوة صادقة إليه، ليس رفضاً ولا خيانة، لكنه الامتحان الصعب والمقدس الذي يسير فيه الكاتب على حدِّ السيف، أو الشفرة، أو سمه الصراط، وهي تعرف من هي، هي المباركة الباقية يوم لا يظل باقياً. مثلما هي في البدء كانت، وعاشقها عليه أن يكتوي بنارها، ويدخل امتحانها العسير راضياً ومفتوناً، وعليه أن يقطع الجبال السبعة، والوديان السبعة والبحار السبعة، والأراضي السبعة، حتى تهتريء أحذيته الحديدية السبعة، ويقاتل التنين ويقتله، دون أن يخاف عبور الغابة المسحورة، أو عيني ميدوزا، ويصم أذنيه عن كل غناء، إلاَّ غناءها العذب، الساحر، وأن ينام وهو يتقلب على نارها، ويفيق على صوتها، ووقع أقدامها من حوله، وقلبه العاشق مملوء بحبها، مثلما روحه تتنفس من روحها دون أن يشعر بتعب، أو يتلجلج في داخله الشك، أو ينتابه شيء من الظن السيء بها.‏

 

وقتها تدرك الكتابة أنها باتت هاجس عاشقها الذي يشتاقه ولا يمل منه، وأنها باتت حياته التي لا يملك حياة غيرها، ولا يعرف هذه الحقيقة إلاّ من كابد عناد الكتابة وعشقها.‏

وعندما تصير الكتابة والكاتب شيئاً واحداً، يتنفسان برئةٍ واحدة، ويحترقان بالنار ذاتها، تنهمر الكتابة غيثاً أخضر، يتشكل بين يدي المبدع: عوالم، وأحداث وأصوات، وشخوص، وسموات، فيولد خلق جديد، ما كان ليوجد أو يكون، لو لم تعطه الكتابة ذاتها، وينفخ فيه المبدع من روحه.‏

 

قد تطول عملية الخلق أو تقصر، وقد لا تحدث بالمرة، لكنَّ الشيء الأكيد أنَّ عناد الكتابة، وإصرار الكاتب على التمسك بها هو الجذوة المقدسة التي لا بدَّ منها، والتي بدونها لن تكتمل عملية الخلق الإبداعي أو تكون.‏

 

أضيفت في 14/12/2008/ خاص القصة السورية

 

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية