قرنفلة لعذابات الروح
(( أشهد أنَّ الريح في
تسبيح.
وأن في فؤادي كل صخرة حنين
وأشهد أنها تراني.
وأنني أراها
تحلُ في المساء عراها
ثم ترتديني))
عبد القادر الحصني
(1)المنافي((1))
قالت الريح: تبارك وجه الجهات فهي مسراي حيث يممت
وجهي.
قالت الغزالة: ملعونة هي الريح.
قالت الريح: ليست كل العذوق لها شهوة النخيل يوم
يداهمها المطر.
قالت الغزالة: أود أن تضيع الريح في الوديان مثل
أفراس وحشية، ولا تجد من يدلها على صدر الجهات.
قالت الريح: دربي وأعرفه إلى صدر الجهات.
ولحظة انفرط عقد الكلام.
كانت المنافي تنهض في روحيهما مهيبة، جليلة، مثل
شواهق القبور، والريح لا يبرق في ذاكرتها إلاَّ صدر الجهات، وخط الأفق
النحيل، ورمانه الريان بالعنبر والزبيب.
وكان يتوغل في دمها فصل بارد، هذه الغزالة الشاردة
كالمساء على الشواطئ والخلجان البعيدة، ووعل صاخب كالعاصفة يؤاخي أظلافه
وجلد السهوب، يركض في مواجهة الجهات كصوت ابتهال ضائع، بعد أن ضاع وضيِّع،
وتاه عن درب الغزالة الشاردة.
***
هامش رقم "1" : من جمر
المنافي
انتظر الرجل النحيل المرأة التي يحبها في الحديقة
العامة، وبيده وردة حمراء كما طلبت، وبرغم القلق والاضطراب والتوتر كان
واثقاً من مجيئها.
هي التي قالت: نلتقي في الحديقة.
قال لها: نلتقي.
قالت له : إياك أن تتأخر.
قال لها: مع مطلع الشمس سأكون في الحديقة بانتظارك.
والرجل منذ مطلع الشمس يحّمل وردته وينتظر، عيناه
تراقبان مداخل الحديقة ومخارجها، تفتشان بين العابرين، بينما قلبه يثب من
داخله كلما لاحت له امرأة تدخل الحديقة أو تناهى إليه وقع أقدام من خلفه،
وكثيراً ما خيّل إليه أنه يسمع صوتها قريباً منه ويشم رائحتها التي تملأ
الحديقة فيزداد يقيناً من مجيئها.
مرَّ من أمامه أطفال، ورجال، ونساء كثيرات، لكن
الرجل لم يكن يفكر إلاَّ بالمرأة التي يحبها قلبه وينتظرها بفارغ الصبر،
وعندما دخل الليل عميقاً، وغادر الناس الحديقة، بقي الرجل وحيداً، مع وردته
الحمراء بانتظار المرأة التي لم تحضر.
***
(2) مسرى الريح((2))
دمي ينسرب فيضاً من الفتنة و الجمر، وروحي هي
العاشقة، أصابع حانية، تبارك صدرها، صدر الجهات، فهي معراجي حيث يممت إلى
مقصدي العاصي، تقبل علي سافرة، ناضجة كالدراق الشهَّاء، أغنية طافحة
بالاشتعال، والعبق الشجي، وملاسة الرخام.
قامة من الزَلِّ ا لمقصف والندى، تسامق فيها العلو
اخضراراً رعاشاً، وأينعت بالزهر المحرم والثمر، فانتشت فتنة، وماست درية في
فتون ولون.
يا صدرها باتساع الأرض.
موئل الفصول الوريفة بالنعمى، وأنفاس العبير
فاشتهيها، وأعرف أنها تشتهيني، دمي يمام يغني: هلمي. تعالي إلي صخابة في
فتون امرأة لها طعم العنب المخمر عند الظهيرة، فضاحة كحزمة ضوء تدثر بها
نهدان من ثلج ونار.
فتقبل شهقة تترقرق بالفرح المضرَّج باشتعال الندى،
وما في الروح من توق وجمر. هاذي خطاها.
ربيع في سهوب العمر، وفي دمي تنثال قرنفلة، أرتديها
لباساً لكل المواسم والفصول والأزمنة، ترتديني اشتعالاً وتسكب في فمي
قهوتها المهيلة بالمسك، والعسل، والزنجبيل، تنثني الصباحات موائداً من
نرجس، والحرائق تغادرها ألوانها، وتشتعل بدفء الأصابع في فيض الشذى، وعري
الرخام.
هي الجهات.
ليس سواها، وجه الغزالة، حيث اتجهت، سر التباريح في
قلبي، ونبض الفصول في دمي، حين يداهمني الموات، ويتعب خطوي بعد المسافات،
ووهج اشتياقي لرمانها العابق بالاشتياق، لا شيء يحتويني سواها، حين يداهمني
الخراب، والفصول تصير في روح الغزالة عذاب.
هي الجهات.
لا شيء يحتويني سواها.
تبارك وجهها، فهي مسراي حيث يممت وجهي، وشموس
الفصول.
***
هامش رقم "2" : ماغاب عن
ذاكرة النص
أغلق الرجل الأبواب.
أغلق النوافذ والشرفات، ومزق صورة المرأة المعلقة
على الجدار، ثم أطلق على ذاكرته الرصاص، ومع هذا شعر بالمرأة تتحرك في
داخله كالوسواس، ما بين قلبه وروحه تحركت، ورائحتها تسللت إليه من مسامات
الجدران، واقتحمت عليه وحدته.
فما كان منه إلاَّ أن أخرج قلبه من صدره وهو يرعد
بالغضب والمرارة، وما إن وقعت عيناه عليه وهو يرتعش بين يديه حتى جمد، فقد
أذهله أن القلب كان لـه شكل المرأة التي تسكن روحه في اليقظة والمنام،
وتملأ حياته بالألم، والمرارة والحزن، والتمزق، والعذاب.
فاندفع يضحك ويبكي.
يبكي ويضحك وهو يدور في الغرفة كالمجنون لاطماً وجهه
وصدره وكأنه في مناحة حتى تقطع إلى أجزاء صغيرة دامية.
***
(3) ما قالته الأغنية
قالت الأغنية: ثمة وقت يأتي، تعافني فيه كل القلوب
وتمضي، إلاَّ القلب العاشق وحده الذي يظل معي، ولا يهجرني، نديمي يظل،
وبعضي الذي لا يخون، قهوته من كأسي، وكأسي من اشتعال النوى فيه، أميرة على
شرفة القلب يجلسني، ويجلس بين قمراً مترعاً بالمرارة، والحزن, والهديل،
ويروح يبوح لي بالذي فيه، والذي فيه فيَّ، والمنافي في روحينا واحدة، ويتلو
علي نبأ الفصول الذبيحة، وضيق الزمان، ووجع المنافي الهاجعة في الروح،
ويبكي.
فتبكي الجهات.
تبارك وجه الجهات، وفي أحداقها ترمح الغزالة
الشاردة، فأنسى الذي فيَ، والذي فيه، أنسى عذابي، رخيماً يجيء الضوء في
روحي، ويغادرني نحيب المرارة، فأنهض، والغزالة ترمح، والقلب العاشق يفر
إليه، انهض، كل الجهات دروبي، لا شيء يحزنني مثل القلوب العاشقة.
منذور لها عمري، حزني عليها، أنهض، يفر انكسار
الزمان من دمي، تفر مني محنتي، وأسطع غزالة في القلب العاشق، وفي فمي يبرق
رذاذ الشهوة، ، مثل جمان يعانق الشمس، أو شمس تعانق جمانها، ينهض القلب
العاشق، ثم يصير نهاراً فوق كفي، يسافر في صخَّاباً يغني، وأغني، نغني
معاً، ودمنا ينسرب فيضاً من الفتنة والجمر إلى حيث تنبعث رائحة الغزالة.
البكاء فوق صدر الحبيب
أنا زهرة
وانساح صوت المرأة رخيماً، عذباً، ودافئاً في
الغرفة، مثل رشة عطر فاغمة، ومع أن المرأة نطقت باسمها بهدوء شاحب، يكاد
يكون أقرب إلى الهمس إلا أن الرجل الجالس في الغرفة، وراء مكتبه، أحس
بارتجاف لذيذ، خدر دافئ ينسفح في داخله، وينحلُّ في الشرايين، ضوءاً،
ومسرة، ونسيم أغنية.
واعتراه الذهول والاندهاش:
وهو يحسُّ بالحروف، تتدفق في سمعه، ضوءاً يشعل النار
في دمه المنطفئ، بشكل متواتر، بطيء، ناعم، وخدر، كمن يسبح في دماء مقدس، أو
يطير في ضباب، وكأنها تختزل عمراً بكامله، وتغرقه بأحاديث، وأحلام، وآمانٍ،
وطموحات.
وخيل للرجل أن صوت المرأة ظل لوقت يهوم في الغرفة،
ويطوف مرفرفاً، مثل سرب من فراشات ملونة، وأن الرجل يطير معه في الغرفة
ويدور، وشيئاً فشيئاً راح الصوت يقتحم مساماته، ثم يستقر في حبة القلب
دهشة، وفرحاً، وهديل حمامة.
تمتم الرجل حالماً: زهرة.
وعادت الحروف تدور في الغرفة وتطير، والرجل يطير
معها، ويدور فرحاً، منتشياً وسعيداً، والمرأة ما زالت تقف في مكانها شجرة
من ضوء وقرنفل ودراق، تنظر إلى الرجل بحب، وحنان، ونشو. وعندما ترامحت
عيونهما توهجت ذاكرة الرجل، وامتلأت برنين الهاتف.
عمره كان قبل رنين الهاتف، قافلة من الذكريات
الحزينة والموحشة، وقلبه بارداً ووحيداً، كان الوقت ليلاً عندما رن جرس
الهاتف، وفجأة صوت امرأة عذب يهتف بفرح ولهفة:
عبد الله، آلو، يا عبد الله.
فأدرك أن المرأة، أخطأت الرقم الذي تريد.
-من أنت؟
أنا زهرة يا عبد الله.
قال لها، وهو يكتم ضحكة في داخله:
-حقيقة، أنت زهرة.
دع المزاح جانباً، وخبرني عن نفسك.
أنا بخير، وتقتلني الوحدة.
وأنا مشتاقة إليك.
من وقتها: انزرعت زهرة في داخله، وردة من الهناء،
والحلم، والأمنيات، ومع كل مكالمة، كانت تتطاول في داخله وتتجذر، ويتورم
حضورها في القلب والروح. يومها ضحكت طويلاً على الهاتف. عندما عرفت أنها
أخطأت الرقم، وأن الرجل الذي تحدثه ليس عبد الله. ومع هذا أكدت له، أنها
سعيدة بما حصل، وعاهدته على الاتصال الدائم.
ومع أن الرجل لا يعرف شيئاً عن المرأة.
ومع أن المرأة لا تعرف شيئاً عن الرجل.
فقط. هي امرأة وحيدة من الجنوب، وهو رجل من الشمال،
وحيد، ومقطوع من شجرة، خفق قلب المرأة للرجل، وطار قلب الرجل إلى المرأة،
وطلب منها، أن تعينه على العمر القاحل الذي يحياه.
قالت له: ولكنك لا تعرفني.
قال لها: أنت العمر والملاذ.
قالت له: لا تتسرع.
قال لها: أنت العمر والملاذ.
قالت له: وكيف عرفت؟
قال لها: كنت ضائعة، وقد وجدتك.
قالت له: وما هو دليلك؟
قال لها: في فمك نجمة من ذهب، وفي قلبك اشتعال
المطر. وعلى كتفك شامة.
قالت له: الأرض ضيقة، وسنلتقي.
قال لها: وأنا بانتظارك على كل مفارق الطرق.
من وقتها:
صار صوتها عبر أسلاك الهاتف، فرح الروح، الذي ينتظره
كلما فاض الحنين بدمه إليها.
وعاد الرجل يتمتم: زهرة.
فرددت المرأة بهدوء: نعم زهرة.
وظل الرجل صامتاً، متوتراً، ومضطرباً. لم ينطق بكلمة
ولم يفعل شيئاً، كان مفتوناً باللحظة، إلى حد الانبهار والنشوة، وقلبه يخفق
بشدة.
منذ زمن وهو يحلم باللقاء مع زهرة، التي لا يعزف
منها سوى صوتها، ومع هذا فهي تسكنه مثل دمه، وتمسك بكل مفاتيح روحه، وتنتشر
فيها صباحات من الورد، والحلم، والوعد، وعندما تأتيه اليوم ممسكة كالغزالة،
يبدو عاجزاً مثل الرماد، وغير قادر على التصرف، أو التعبير عن فرصته حدق
الرجل في وجه المرأة.
فطالعته قامتها الطويلة، وعيناها الواسعتان كالغابة،
وفمها بارتياح، ويحيط وجهها الذي يفيض بالضوء كالسوار، فيبدو الوجه قمراً
من قرنفل.
همس الرجل في داخله:
إنها امرأة من حليب، وشموس، وقرنفل. وقالت المرأة في
داخلها:
الرجل مسكون بالحزن، والدهشة، والحلم، والبراءة
وعندما ترامحت عيونهما ثانية، اضطرب، وعاد يرتجف في داخله، وبدت عليه
الحيرة والارتباك.
قالت المرأة في داخلها:
في عيني الرجل حيرة ومرارة.
وقال الرجل في داخله:
في عيني المرأة مواسم فرح وحنان.
وقتها تماماً: ابتسمت المرأة في وجه الرجل، وقررت أن
تفعل شيئاً يخرج الرجل من حيرته وارتباكه، وأدرك الرجل أن المرأة اكتشفت ما
يعانيه، فقرر هو الآخر، أن يفعل شيئاً، قبل أن تفقد اللحظة بهاءها وألقها.
تحركت المرأة من مكانها، وخطت باتجاه الرجل، تحرك
الرجل من وراء طاولته، وخطا باتجاه المرأة، حتى وقف في مواجهتها تماماً.
قال لها: لقد انتظرتك طويلاً.
قالت له: لا يبدو عليك ذلك.
قال لها: وكان قلبي لا يفكر إلا بك.
لمح في عينيها سعادة، ولمحت في عينيه فرحاً، فخفق
قلب الرجل والمرأة بشدة في وقت واحد.
قالت له: وهاقد أتيتك.
قال لها: ولن تفارقيني بعد اليوم.
فتحولت المرأة وردة، استنشق الرجل عبيرها، وأحسَّ
أنّ عمراً جديداً راح يتدفق في شرايينه.
مدَّ الرجل يده.
مدت المرأة يدها.
مدَّ الرجل والمرأة أيديهما معاً.
وكانت الشمس وقتها، تعانق الأرض بحنان، وثمة أغنية
شعبية، تتحدث عن الهجر، والعذاب، واللوعة والحرمان، تنبعث من مسجل قريب،
وسرب من حمام أبيض، كان يحلق في سماء المدينة، ويصنع في طيرانه تشكيلات
جميلة وساحرة.
تلاقت الأيدي، والعيون، والقلوب دفعة واحدة. رجل
وامرأة، وحدهما كانا العالم كله، وكأن العالم وقتها قمراً وأغنية، شيئاً
بديعاً، شجياً وشهياً، يضج بالألوان، والنيران، وصخب النوارس والشموس
العتيقة، والندى، والمرجان، والأغنية بصوت مغنيها الأجش، المشروخ بحزن
جميل، تتسلل بهدوء عذب ودافئ في داخلهما، وتملؤهما بشعور غامض ولذيذ.
شدّها إليه بحنان، فارتبكت المرأة، وتدفق الدم إلى
وجهها، شد، فاستجابت إليه، وقلبها يخفق بشدة، وعندما احتواها صدره، عانقته
بكل ما فيها من حب، وشوق، وحنان، دفن الرجل وجهه في صدرها، مثل طفل صغير،
فاستجابت له، وهي تحس أن أسراباً من الطيور الملونة، راحت تهاجر في داخلها،
وتحملها إلى سماوات من زمرد وضباب، ونما في داخلها شعور واثق، وأكيد، أن
عمرها الحقيقي يبدأ من هذه اللحظة وما قبله كان وهماً وسراباً، وأنها منذ
هذه اللحظة، تدخل بر الأمان، بقدم ثابتة وواثقة، في حين تصدع جدار الخوف من
داخل الرجل، ثم انهار دفعة واحدة، فأدرك أنّ كل أحزانه، وعذاباته، ووحدته
قد انتهت.
وأشرقت في داخل الرجل والمرأة، شمس كبيرة، ودافئة
وقتها تماماً.
رن جرس الهاتف في الغرفة.
ظلَّ الرجل والمرأة متعانقين، بحب، وكل منهما متشبث
بالآخر بحنان،
رن الهاتف ثانية، وثالثة، ورابعة، استمر في الرنين،
دون أن يرد عليه أحد.
كانت المرأة متمسكة بالرجل.
والرجل كان يجهش بالبكاء على صدر المرأة.
عناد الكتابة
مكابدات الكاتب
تعاندني الكتابة في مرات كثيرة، وأحسُّ بعجزي الفاضح
أمامها، وهي تتمرد علي، وتشهر تمنعها وعصيانها في وجهي، مع أني أقبل عليها
بروحي وقلبي وفكري، وبي لهفة العاشق، وشوق المحب، ثم إنها هي التي تأتيني،
فجأة تدهمني، وتدخل عليّ من حيث لا أدري، تركض من حولي ومن أمامي، وهي تبرز
مفاتنها وكنوزها وتغويني، وتبعثر نفسها بين أصابعي، فأروح أتنفسها وأنا
أمتليء بها، وأشعر بها مختلطة بدمي، ويصير وقع أقدامها الشفيفة أنفاسي التي
أموت لو توقفت، لكنني عندما أريد القبض عليها، وامتلاكها، لتشكيلها وخلقها،
تفر وكأنها ما كانت، وتقف غير بعيد مني، معاندة، متمردة، ورافضة الانصياع،
وكأنها تشك بعشقي لها، أو أن ما أشعر به مجرد نزوة طارئة، قد لا تحقق لها
الوصال الذي تشتهيه وتريده.
ما يعذبني أنها لا تأتيني زائرة في وقت محدد، فهي قد
تدخل علي في الليل، وأنا ممدد في فراشي، وكثيراً ما أيقظتني من نومي، وفي
مرات أخرى تفرض نفسها علي في الشارع، أو وأنا راكب في سيارة، تقف ما بين
عيني بكل جلالها وجمالها وسطوتها وهي تغمز لي بعينيها وتبتسم، تدور من حولي
طقساً خرافياً لا تملك إلاّ أن تنصاع لفتنته، فأقبل عليها، لكنها تروح تروغ
مني، وكأنها بريئة مما أنا فيه، والذي في ليس منها، أو كأني أنا الذي
أغويتها، أو أريد بها شراً، فيزداد جنوني، وأنا أحس أنّ قلبي يغادرني،
فيزداد تعلقي بها، وركضي وراءها، ويصبح لعذاباتي ومكابداتي طعماً لذيذاً
بقدر شراسته.
وكلما خيل لي أنها تخلت عن عنادها، ودلالها، وبانت
بين يدي طائعة ومطيعة، ونارها المباركة أخذت تلفحني، وتكويني، أجدها صارت
عصية أكثر، وبعيدة المنال، وعندما تجدني أصل حد الهبل والجنون والموات،
وأنا أدور في المكان، أجدها تعانقني، ونارها المباركة تنساح في دمي وروحي،
ثم تروح تتفتح بين يدي خلقاً جديداً، لا يعرفه إلا من كابد عناد الكتابة،
واشتوى بنارها المقدسة.
قاسية هذه المعشوقة ومنيعة، وسر فتنتها وسطوتها تأتي
من هذه القسوة والممانعة، ومجنون عاشقها، لأن تمنعها يؤجج اشتعاله، وجنونه
اللذيذ، ويزيده تعلقاً بها، وركضاً وراءها، وإصراراً على الوصول إليها وهو
لا يرى في عنادها البهي إلاَّ دعوة صادقة إليه، ليس رفضاً ولا خيانة، لكنه
الامتحان الصعب والمقدس الذي يسير فيه الكاتب على حدِّ السيف، أو الشفرة،
أو سمه الصراط، وهي تعرف من هي، هي المباركة الباقية يوم لا يظل باقياً.
مثلما هي في البدء كانت، وعاشقها عليه أن يكتوي بنارها، ويدخل امتحانها
العسير راضياً ومفتوناً، وعليه أن يقطع الجبال السبعة، والوديان السبعة
والبحار السبعة، والأراضي السبعة، حتى تهتريء أحذيته الحديدية السبعة،
ويقاتل التنين ويقتله، دون أن يخاف عبور الغابة المسحورة، أو عيني ميدوزا،
ويصم أذنيه عن كل غناء، إلاَّ غناءها العذب، الساحر، وأن ينام وهو يتقلب
على نارها، ويفيق على صوتها، ووقع أقدامها من حوله، وقلبه العاشق مملوء
بحبها، مثلما روحه تتنفس من روحها دون أن يشعر بتعب، أو يتلجلج في داخله
الشك، أو ينتابه شيء من الظن السيء بها.
وقتها تدرك الكتابة أنها باتت هاجس عاشقها الذي
يشتاقه ولا يمل منه، وأنها باتت حياته التي لا يملك حياة غيرها، ولا يعرف
هذه الحقيقة إلاّ من كابد عناد الكتابة وعشقها.
وعندما تصير الكتابة والكاتب شيئاً واحداً، يتنفسان
برئةٍ واحدة، ويحترقان بالنار ذاتها، تنهمر الكتابة غيثاً أخضر، يتشكل بين
يدي المبدع: عوالم، وأحداث وأصوات، وشخوص، وسموات، فيولد خلق جديد، ما كان
ليوجد أو يكون، لو لم تعطه الكتابة ذاتها، وينفخ فيه المبدع من روحه.
قد تطول عملية الخلق أو تقصر، وقد لا تحدث بالمرة،
لكنَّ الشيء الأكيد أنَّ عناد الكتابة، وإصرار الكاتب على التمسك بها هو
الجذوة المقدسة التي لا بدَّ منها، والتي بدونها لن تكتمل عملية الخلق
الإبداعي أو تكون.
|