الكرسي المتحرك
عندما قال لها أحبك، لم تكترث لهذه الكلمة بالمقدار الذي خاله هو... عندما عانقها
بعيونه و رمى وشاحاً حريرياً على خصلات شعرها... كانت تفكر بالكرسي المتحرك
الذي يقبع في زاوية الصالة، و يحمل على دفتيه والدها العجوز.
لم تصحو من غفلتها إلا برعشة تطبع قبلة على يدها.. سحبت أصابعها المتعثرة وأطرقت
رأسها تفكر من جديد.. كيف لها أن تكمل مشوار العمر الذي تتمناه كل فتاة من
جيلها.. كيف لها أن تحلم بفستان وطرحة والعجز يملأ كيانها.. كيف ستمشي في زفة
عرس وهناك من يراقبها ولا يقوى على مرافقتها.. كيف وكيف...
زمت شفتيها، رسمت ملامح الجد واتخاذ القرار على محياها.. وقالت له: لا.. وقفت،
سحبت يدها من بين يده الممسكة بها بشدة خشية أن تكون الكلمة التي سمعها حقيقية
و ليست صدى الطبيعة المتحلقة حولهما.
مشت بذلك العنفوان الذي اشتد في داخلها. غادرت المكان و فيها إيمان بأن ما تفعله
هو الصحيح.. فرضا والدها أهم بكثير من حياة زوجية و مملكة سعيدة ... و... غصة
في حلقها رافقت مشهد أطفال يتراكضون و يمرحون..
في المنزل كانت تهيئ الفراش للوالد المريض، تفجر طاقة الأمومة في عيني أب دار
الزمان دورته و جعله رهين عجلات هذا الكرسي..
اقتربت منه ، مرر يده على رأسها و قال لها و كأنه يعرف ما يدور في ذهنها. " أحلم
بطفل أهدهده لينام، و أجلسه على ركبتي.. أحلم بك عروساً ومليكة عرش وقلب.. لا
تحرمي هرمي من أحلامه البسيطة وأعطي لعجزي ضحكة الطفولة يقوى ويتغلب على
آهاته..."
مد يده إلى طاولة صغيرة وناولها بطاقة يبدو من شكلها بأنها دعوة لزفاف. فتحتها
وقرأت اسمها .. هي العروس... كيف... لكن... أجابها الوالد وفي عينه دمعة تتراقص
فرحاً: حلوة هي الحياة يا بنيّة و ستحلو أكثر بذلك القلب الذي احتوى كلينا
لنكون في عرش السعادة..... فهنيئاً لك....
أبو الدكتور
لم يكن من الضروري أن تنظر إلى بطاقته أو تسأله عن عمره، فلقد كانت الأخاديد
المحفورة على يديه ظاهرها و باطنها، لا تكفيها مجلدات لتقص فيها حكاية زمن خبأه
بين ثنيات ملابسه و طواها بين أصابعه تماماً كشتلات الأيام المزروعة في أرضه.
كان لهذا اليوم طعم خاص ضمن جعبة أيام أبي عارف. كيف لا؟ و اليوم سيصبح ولده عارف
طبيباً، و سيصبح هو (أبو الدكتور). كررها مرات عدة، تلك العبارة التي كان يتلذذ
بتردادها و سماعها " أبو الدكتور".
انتصبت قامة الأيام بمساعدة عكاز كان قد حضّره خصيصاً لهذه المناسبة. استدار نحو
المرلآة القديمة التي كانت الشاهد الأول على جمال ضفائر أم عارف الطويلة. اقترب
قليلاً منها، أسند عكازه، اعتنى بياقة قميصه و تمتم في سره "رعاها الله ابنتي
زينب لقد غسلته و كوته فأصبح على خير ما يرام". مكّن عصاه بقبضة يده واستدار
مجدداً إلى الكرسي الخشبي و جلسة جلسة القائد المنتصر.
نادى حفيده و سأله عن الساعة، إنها السابعة صباحاً. كان الوقت مبكراً جداً على
مناقشة رسالة تخرج ابنه الطبيب. لقد كان قد طلب منه أن يم ليأخذه إلى المكان
الذي سيتحدث فيه عن أطروحته و سيهنئه بالتالي جميع الناس. "لا بأس" قال أبو
عارف: "يجب أن نستغل الوقت، فربما حصل شيء ما فجأة. موعد المناقشة الساعة
الثانية عشر ... سيمر الوقت بطيئاً." لذلك اتجه أبو عارف متكئاً على عكازه إلى
صندوق قديم كان قد وضع فيه ذكريات أيامه و سنين عمره الذي انقضى و تشكّل من
جديد في ولديه عارف و زينب.
حمل رزمة كبيرة بين يديه و فكّها بكل محبة و كأنه يحل قماط وليدٍ جديد. كانت
الرزمة تحوي على قطع قماش، صور قديمة و أوراق صفراء قرأت عليها أزمان و دهور.
قلّبها بكل الفرح، فتلك لعارف و هذه لزينب.. لقد ربطت شعرها بها عندما أخذت
الشهادة الإعدادية. أما تلك، آه من تلك إنها قطعة من فستان زفاف أم عارف. آه من
الأيام يا أم الأولاد، ها قد أصبح وحيدك طبيباً تماماً كما كنا نتمنى. ألم
تقولي لي يوماً عندما طلبت منه المساعدة في الأرض " خاف الله يارجل، كيف سيقابل
أصدقائه و على يديه علائم تدل على العمل في الأرض.." و لكن اليد العاملة مباركة
يا أم عارف.. على كل حال هاهو سيصبح طبيباً و سيعمل بمجال اختصاصه، سيعمل المهم
بأنه سيعمل.
أعاد الرزمة إلى وضعها الطبيعي الذي لا يجرؤ أحد على تغييره، و خبأ أيامه و آماله
في ذلك الصندوق. عاود الوقوف من جديد و تمشى إلى طرف البيت حيث تظهر الأرض
بسلاسلها المتقنة و أشجارها التي كانت تنظر بكل فخر و اعتزاز و كأن لسان حالها
يقول: الآن سنجني ثمار تعبنا يا أبا عارف، الآن ستكافئك الأيام.. زرعت و حصدت و
كل ما جنيته كان يبني عارفاً على مقاعد الدراسة. تقدم بخطواته قليلاً بين
الأشجار و خاطبها: سأصبح أبو الدكتور.
رفع رأسه و تطلع بكل فخر إلى ذرا الأشجار. فجأة استدار برأسه إلى المنزل عندما
لمح قرص الشمس و قد توسط كبد السماء.
نادى حفيده و سأله عن الساعة. إنها العاشرة لا بدَّ و أن عارفاً سيأتي الآن
ليصحبني بسيارته. و تذكر السيارة، لقد كان قد اشتراها له عندما نجح في سنته
الدراسية الثالثة. "لقد كنت قد خبأت محصول أعوام طويلة لأحقق حلمه باقتناء
سيارة. طبعا" .. دكتور بدو سيارة، ماذا سيقول عنّا الناس نبخل على ابننا-
وحيدنا..."
عاد إلى المنزل، و على عتبته حيث كانت شجيرات الورد تتشابك بحب و ألفة، لاحظ بأن
حذائه قد اتسخ من جراء خوضه في الأرض يحاكي الشجر و الزرع. استدار يمنة، و على
بُعد خطوات و ضمن كومة من قطع القماش البالية. اختار واحدة، مسح عن حذائه بها
الطين و التراب. ثم انتصب مجدّداً و تطلع إلى حذائه من جديد. "إنه نظيف الآن و
مستعد لملاقاة أهل المدن".
في تلك اللحظة سمع هدير محرك سيارة ابنه، لقد كانت أعذب من ألحان الطيور المغردة
على خط شروق الشمس. صمت المحرك فتحرك أبو عارف على عصاه التي ذكرته فجأة بأنه
تجاوز الثمانين. اتجه بابتسامة عريضة نحو الباب ليلاقي ابنه قبل أن يكلفه عناء
الدخول إلى المنزل و صعود الدرجات لمناداته. سيقول لأصدقائه المتحلقين حوله:
"هذا هو أبي، و لهاتين اليدين أهدي نجاحي.."
دخل عارف من الباب على عجل، وجد أبيه بانتظاره فعاجله بالسؤال: "ما بك يا أبي؟
لما تقف هكذا.. كيف تركت الأرض..؟" أجابه أبو عارف بكل فرح: "إني مستعد للذهاب
معك يا دكتور.". غاب صوت عارف الذي دخل المنزل و خرج بعد لحظات و بيديه أوراق
"ماذا.. تأتي معي!" ونظر إلى أبيه متفحصاً إياه. ماراً بنظره على حذائه القديم
النظيف، و شرواله الذي تركت الشمس آثارها عليه و تفحص القميص المنشى و العقال
الذي لفّ بكل شموخ جبهة الفلاح الذي أنجب طبيباً".
"لا..لا.. يا أبو عارف، انتظرني في المنزل سأعود إليك. ليس من المعقول أن ترافقني
إلى الجامعة و أنت هكذا! ماذا سأقول لزملائي و أساتذتي؟ هذا أبي....!"
و اختلطت كلماته بهدير المحرك و هدير الأيام التي داستها عجلات تلك السيارة
الفارهة.
"..هذا أبي.." و ترددت صدى كلمات عارف في أذن أبيه حتى خالها جلجلت الأرجاء و
سمعها الجيران. استدار فجأة و كان صوتاً يناديه، تطلع إلى هامات الأشجار
الباسقة، كانت تناديه: " تعال يا أبو الدكتور. فنحن لا نخجل منك بل نفخر بتلك
اليدين التي علقت على أمثال ولدك الأوسمة."
عاد إلى أرضه حاملاً فأسه مرتدياً القميص النظيف. لم يعد يخاف عليه لأن الحقول
تحبه بدون تلك الرقع المنشاة التي يحيط بها جسمه. عاد إليها فهو ابن الأرض و
أبو الطبيب.
طلب
زواج
يلفُ حديثهما دخانُ السجائرِ تعانقها أصابعَهم المتعبةِ.. تتراقصُ يديها فوقَ
الأوراقِ المبعثرةِ وتتأملُ أصابعها التي تنمُّ عن رفاهيةٍ لم تشقَ مع عائلةٍ
بعد.
يتأملُ بنظراتِه أفلاكَها التي تدورُ حولَها؛ جميلةٌ، رشيقةٌ، أنيقة، لا تحملُ
همّـاً في كلماتِها وَ حديثِها... ينظرُ مطوَلاً إلى دخانِ سيجارتِها التي
تشاركهُ دوماً جلستَها مع فنجانِ قهوةٍ ملقى على كتفِ الطاولةِ، نَسَتهُ هناكَ
وهي تحاولُ تفادي نظراتِه التي حملت معنىً مفاجئاً معَ أنه زوجُ صديقتِها
وَمنذُ زمنٍ... فما باله الآن... أسندَ قامتهُ الطويلةُ إلى الكرسي المجاورِ
وَذهبَ بأفكارهِ بعيداً .. بعيداً... ثمَّ حزمَ قرارَهُ وَسألها هل
تتزوجينني.؟؟؟
كالصاعقةِ كانت تلكَ الكلماتِ، دوت في أرجاءِ المكانِ وفي أُذًنِها خلَّفت
طنيناً مزعجاً. أطفأت سيجارتِها بعصبيةٍ ونظرت إليه بهدوءٍ مفتعلٍ، وَعندما
التقت عيناهُما كَرِهَت ذاتَها، احتقرت نفسَها.. كيفَ جعلَته يقولُ ما قالَ ؟
كيفَ أعطَتهُ الضوءَ الأخضرَ ليطلبَ منها الزواجَ، وهوَ زوجُ أعزُ صديقةٍ.
بكلماتٍ مختصرةٍ قالت: " وَزوجتُكَ – صديقتي..؟"
" أريدُ أن أعيش"- أجابَها بوقاحةٍ أحسَّت هي بها- " لم تَعُد تناسبني؛ دائماً
متعبةٌ، مهمومةٌ، يتعالى صوتُها وَالأطفالُ، لا تتحدثُ إلا عنِ الطبخِ وَ
الجيران، هذا بالإضافةِ إلى أَنها ليست بجمالكِ وَأناقتكِ......... وافقي
أرجوكِ.... لم أَعُد أستطيعُ العيشَ دونَكِ...".
في هذهِ الأثناءِ وقفت وَمَشَت نحوَ النافذةِ، تُطَالِعُ رَسماً لصديقتِها في
الأفقِ البعيدِ.. رأتها جميلةً، وديعةً، أنيقةً، حنونة و مخلصة، وَمعَ عائلةٍ
مكونةٍ من ثلاثةِ أطفالٍ وَزوجٍ مُتطلب.. تعملُ ليلاً نهاراً؛ فهي إمرأةٌ
عاملةٌ وَساعاتُ عملِها طويلةٌ. وَفي البيتِ هوَ سي السيِّد وَتقومُ الزوجةُ
الأمُ العاملةُ بكلِّ المتطلباتِ الزوجيةِ والأسريةِ وَالاجتماعيةِ.
فكيفَ لا تحملُ همّاً في صوتِها أو في رنَّةِ ضحكَتِها، كيفَ لا تتأثرُ
أناقتَها وَهي التي تُؤثِرُ أناقةَ مَن حولها عليها .. كيفَ لها ألاّ تُضَّيعَ
بينَ جدرانِ المطبخِ الوقتَ المتبقي منَ الليلِ المتعبِ وَهي لا تدري إن كانَ
الربيعُ قَد غَرَّدَ على أغصانِ الأشجارِ أَم لا.. كيفَ وَكيفَ......
نظرَت إليهِ، مدّت يَدَها مُؤذنةً لهُ بالانصرافِ مِن مكتبِها، قائلةً: شُكراً
لزيارتِكَ وَأَوصل سلامي لصديقتي حَمّالة الأسيّة.
جارية
عندما قالَ لها أُحبكِ، ابتسَمت، سخَرت مِنها ابتسامتُها وَسألتها هل تُصدقينَ
ادعائهِ.. إِنه يُحبكِ لأنكِ جاريةٌ بينَ يديه. إنهُ يَعشَقُكِ لأنَّ جَسَدَهُ
يَلِّفُ جَسَدَكِ.
تسارَعَت نَبَضاتُ قَلبِها قلقاً وَخَوفاً.. فارتَعشَت أوصالهُ سَعادةً فهاهي
قِطتُه المُستكينةُ تُطربُ لكلمةٍ يَقولُها بينَ الحينِ وَالآخرِ، وَيجعلُ
مِنها قِطةٌ دافئةٌ وديعة تَسعَدُ بقُربهِ كلما أَرادَ ذلك.
تَحركَت رجولتهُ، أَضاءَ جَسَدَها بشَهوَتِهِ، وَكانت هي تزدادُ عُنفاً وَقلقاً
وَخَوفاً.
هل هذا هوَ الحبُّ ... عندما تألمتُ وكنتُ بحاجةٍ ليدكَ تمسحُ رأسي تجاهَلتَ
أنّاتي. وَعندَما تَجتاحُكَ ذُكُورَةَ الرجلِ تُسارِع إلى أَحضاني، تنسى
بأَنَني إنسانة – إمرأة لها قلبٌ وَمشاعر.
تستعيدُ كلَّ المصطلحاتِ وَمُفرداتِ العِشقِ تُحضِرها مِن دَفترِ الذاكرةِ
لتنوّم عقلي مغناطيسياً وَيُسارعُ إليكَ ذلكَ القلبُ المتعطّشُ للحبِ .. تلكَ
المَساحةُ الباردةُ التي تستدرَُ عطفَكَ دوماً بابتسامةٍ، بكلمةٍ، بوردةٍ أو
بحبٍ حقيقي.
مسحَ على رأسِها وَأَخبَرَها بأَنها حياتَهُ وَحُبهُ وَالدنيا التي يعيشُ فيها
وَلأجلها .. بأنها وَأنها........... لَم تَعُد تَسمعُ إلا كلماتٍ تدورُ في
خِلدِها عَن هذا الذي لا يعرفُ معنىً للحبِّ غيرَ الكلام .. هل تحبُ فِعلاً؟؟
مَن يُحبُّ يُدافِعُ، يَقفُ سَنَدَاً قوياً لِمَن يُحب، يتحملُ مَسؤوليةَ مَن
اختارَ لِقَلبِهِ نبضاً.
هل تُحبُّ فعلاً؟؟ لا أَظُنُ ذلك.. وَأنا جاريتُكَ الأمسَ، سيدتُكَ اليومَ لَن
أَرضخَ لِكلامكَ المعسول وَأُمَددُ قَامتي طَوعَ أَمرك.
في اليومِ التالي عِندَما استفاقَ مِن سَكرَةِ مَاأَسماهُ حُبّاً .. وَجدَ إلى
جانبِ وِسادتهِ ورقةً بينَ طيَّاتِها بَتَلاتٍ حمراءَ.. كُتبَ عليها: أنا راحلة
، أبحثُ عن معنىً لحُبٍ أَحتويه بقلبي.. حُبُكَ لا يعنيني، إبحث عن جاريةٍ
غيري.
تداعيات في
فكر متقاعد
من المجموعة القصصية (وظننته رجلاً)
لملم أوراقه وأقلامه، وجمع بيديه المتعبتين بقايا أنواع الطباشير. إنه أستاذ
التاريخ في المدرسة الثانوية بقريتنا.
متثاقل الخُطا، حائر متردد لا يدري إلى أين يذهب. كانت حفلة وداع زميله ورفيق
دربه الأستاذ سعيد قد قرعت ناقوس العمر في ذاكرته. حيث بلغ الأستاذ سعيد سنه
التقاعدي، وهذا يعني بأن أستاذ التاريخ فؤاد سيصل هذه المرحلة في سنته القادمة.
وبالرغم من كلمات الوداع المؤثرة وعبارات الشكر المنمقة.. الهدايا والمأكولات
وباقات الورود. إلا أن كل هذا لم يخف الدموع المترقرقة في عيني الأستاذ
المتقاعد. هذه الدموع التي هزت فؤاد من الصميم و جعلته يقف مع آلة الزمن للحظات
يستعيد من خلالها ذكريات وآمال وآلام.
وهاهو الآن يسترجع ذكرى لحظة الوداع الأخيرة لرفيق دربه وشبابه فماذا يفعل؟؟
سؤال طرحه على نفسه مرات ومرات وهو يعبر الطريق الترابي المؤدي إلى بيته.
وعلى مشارف الحديقة الغناء التي زرعها بيديه كانت أصوات الأولاد تتسلق الجدران
وتختبئ بين ورود الدار. وقف للحظات قرب شجرة السنديان الهرمة ليأخذ زاداً
روحياً من فلذات أكباده.
هاهي سوزان ابنته الكبرى ذات الواحد والعشرين ربيعاً تساعد أمها بإعداد الطعام،
فاليوم موعد خطبتها والكل سعيد وفرح لسوزان.. وماذا بعد؟؟
وعلى سطح الدار يقف حاتم الذي يعلق الزينات، آه كم يشتاق أبو حاتم لضم ابنه
وحلم حياته. لقد جاء خصيصاً ليحضر فرح أخته. ترك محاضرات الجامعة والمراسم
والمخططات كُرمى لعيني وحيدتهم سوزان. وهناك على الدرجات الفاصلة بين السطح
وفسحة الدار، كان وسيم الطفل الأصغر وآخر العنقود. إنه في الصف الثامن، مجتهد
دائماً و متفوق دوماً.
وفي الجهة الأخرى من الدار لمح من بين دموعه أم حاتم، تلك المرأة الصبية،
الزوجة المكافحة، التي ستتقاعد معه العام القادم. و ماذا بعد.. وماذا بعد؟؟
أطلقها صرخة مدوّية انتبه إليها أهل الدار، فركض الجميع لملاقاته ".... أهلاً
والدي..." صرخ الصغير وسيم، حمل الدفاتر والأقلام وركض حيث تنتظر الطاولة
الصغيرة التي ستتقاعد أيضاً في العام القادم.
لقد ناءت هذه القطعة الخشبية بأثقالها طوال سنوات عدّة، كما ناء كاهل الأب وربّ
الأسرة بالتزامات الحياة وعجلتها.
على طاولة الغذاء اجتمعت الأسرة كعادتها كل يوم. وبدأ كل فرد برواية ما حدث
معه، ولكن الحدث الأهم كان خطوبة سوزان البنت الكبرى و المفضلة عند أبويها كما
يعلم الجميع.
استمع الأب بمحبة لكل ما قيل و مالم يُقال و ترك لأفكاره العنان بأن تذهب
للبعيد مرة أخرى.
" بعد عام سأُحال إلى التقاعد هذا يعني بأن راتبي سينقص عما كان عليه وهو
بالكاد كان يكفينا التزامات الحياة ومسؤولياتها. كيف لي أن أشتري جهاز عروسنا،
الابنة التي كنا ننتظر فرحتها بفارغ الصبر... خطيبها ابن حلال ولن يطلب الكثير،
ولكن لنحفظ ماء وجهنا وكرامة ابنتنا. كيف سأوفي بهذه الالتزامات وأنا مُحال إلى
التقاعد بعد سنة.
وحاتم ابني المهندس، كيف له أن يكمل تعليمه ويتحمل مصاريف أدواته و كتبه ومن ثم
مصروفه وخدمته الإلزامية ومكتبه الهندسي آه.. آه"
وضع أبو حاتم رأسه بين يديه و هزه قليلاً مما لفت نظر العائلة إليه فتراكضوا
واجمين: " ما بك يا والدي، هل هناك خطب"؟ بكل الحنان نظر الأب إلى عينيّ أولاده
و زوجه واستأذن لمغادرة طاولة الغداء لصداع قد ألمَّ به.
حمل أفكاره بين صدغيه ودخل غرفة المكتب، معبد التاريخ كما يطلق عليه أصحابه.
اتخذ موضعه بين الكتب عندما دخل آخر العنقود و بيده فنجان القهوة السادة لعله
يخفف من حدّة صداع والده الحبيب. شكره أبو حاتم وربت على كتفه طالباً منه
المغادرة، وعينيه معلقتان على وسم و هو يغلق الباب.
"في العام القادم سيكون في الصف الثالث الإعدادي، ومن ثم سيبدأ بالرحلة
الطويلة، الثانوية، الجامعة، الحياة العملية... إلى غير ما هنالك."
والمشكلة الآن كيف له أن يوفي بكل هذه الالتزامات براتب منقوص وهو أستاذ
التاريخ الشهود له في الناحية كلها. ولولا ظروفه المادية و ضيق ذات اليد لكان
أستاذاً في الجامعة. ولكن ما الفرق! سيصل لسن التقاعد في كل الأحوال، وسينقص
راتبه ويزيد مصروف أهل بيته.
ضحك بصوت عالٍ، قهقه وقهقه حتى ارتجفت أوصال عباقرة التاريخ من حوله. اشرأبت
أعناق واضعي الفلسفة وقوانين الحياة ولاحت سيوف أبطال المعارك و الغزوات.
سألهم و كرر السؤال "مالعمل" لكن لا مجيب... "من أين سأوفي بالتزامات أهل بيتي
وأحفظ ماء وجهي وهم ما خذلوني يوماً. " لم يسمع سوى صدى صوته في ردهات التاريخ.
في لحظة جنون سريعة أمسك بعصا وهوى بها على كل الكتب الموجودة حوله.
في لحظة وعي ينطقها الجنون، كان يصرخ ويقول: ما فائدة التاريخ إذا لم يُقدم
للإنسانية ما يحفظ ماء وجه هذا التاريخ.
السطر الأول
( من مجموعتها الأولى ظننته رجلا)
استقرت على الأرض وردة مجففة بين صفحات كتاب، تتناغم بتلاتها ذات اللون القرمزي
الغامق مع كتاب الشعر الذي حفظت به.
للوهلة الأولى لم تحرك تالة ساكنا" بل استقرت هي الأخرى بنظرها على تلك الوردة
المترامية على أرض الغرفة بجانب المكتبة الضخمة. التقطتها بأناملها وحضنتها
بكلتا راحتيها، ثّم جلست على كرسي قريب. لم تحوّل نظرها عن تلك الوردة، وكأنها
تستشف ولو عنوّة إلى ماذا ترمز وما تعنيه من ذكرى.
وطافت الذكريات بتالة، أعادتها سنين للوراء، إلى مقاعد الدراسة... إلى محاضرة
الشعر العربي تحديدا" و إلى قصيّ بجانبها، زميل الدراسة.
لقد كانت تالة الطالبة في كلية الآداب. فكانت بذلك تجد نفسها راحة و سكينة بين
صفحات الكتاب وأحضان الطبيعة. ولأنها تقطر بالشفافية بلفتة لحظها و ابتسامة
شفتيها. فكانت تخبىء عينيها وقلبها خلف حصن منيع من الجدران العالية، حيث لا
مجال لأحد أن يخترقه أو يحاول تجاوزه، أو ربما هذا ما خيل إليها.
في السنوات الأخيرة من الدراسة تعرفت على قصي، شاعر موهوب، عصامي مؤمن بأن
الحياة هي لحظات نحن من يعيشها وليست هي التي تفرض علينا همومها ومشاكلها. كانت
لقصي فلسفته الخاصة في الحياة والدراسة والحب.. و لكم كانت تسفر نقاشاته مع
تالة عن مشاحنات تستمر لمدة أيام ومن ثم يعودا كما كانا أصدقاء من القلب.
انتهت المرحلة الجامعية بكل ما فيها، بحلوها ومرّها. و تفرق الأصدقاء وزملاء
الدرس.. كل في طريق. وكان نصيب تالة أن تكون مدرّسة في إحدى الثانويات في
المدينة. أما قصي فكان لنصيبه الخطوة الأكبر حيث انه عيّن في الجامعة معيدا"
على أن يكمل دراسته لينال الماجستير ومن ثم الدكتوراه.
مرّت الأيام و الشهور، وعجلة الحياة تطحن بدورانها كل جميل ولا تترك لأحد
المجال لان يتنفس الصعداء أو أن يتحسس الجمال من حوله. إلى أن قصي في حياة تالة
مجددا" ولكنه كان هذه المرة عاشقا" محبا" و ليس مناقشا" مستفزا". تحدث معها في
إحدى المناسبات الاجتماعية التي جمعتهما سوية، و طلب منها التفكير بالموضوع.
عادت إلى عزلتها، و فكرت بالأمر، بحثت عن قلبها فلم تجده. لربما ضاع بزحمة
الحياة، لربما أضاعته في الطريق من المنزل للمدرسة. أو ربما وجدته قطعة بالية
لا فائدة ترجى منه فرمته جانبا".
أين هو قلبها؟ أين هي تالة؟ لم تعد مشكلتها الآن كلمات قصي أو طلبه ليدها، لن
تستطيع أن تفكر فيه أو بغيره دون قلبها.
توارت عن أنظار قصي لأيام، وعندما سألها مجددا" شرحت له الأمر. قالت له لقد
تحول قلبي إلى حجر من الأحجار التي كنت أحيطه بها ظنا" مني بأنه سور يحميه من
غدر الزمان. لن أخدعك و أقول لك بأنني أحبك أو احفظ لك المشاعر الجميلة. تفهّم
قصي الأمر ووعد بأنه سيعالجه بطريقته، كيف لا؟ و تالة حلم حياته، إنها الإنسانة
التي يعرف فعلا" بأن حياته ومستقبله سيكونان بمأمن بين يديها.
وبالفعل بدأ قصي يعمل المستحيل وبدون ضغوطات جانبية علّه يحطم الجليد الذي يغلف
قلب محبوبته. بدأ يرسل الورود وأبيات الشعر. يدعوها إلى ندوات الأدب و الحفلات
الموسيقية. يحدثها باستمرار عن كل جميل و عن كل ما دفنت بيديها.
مرّت الأيام والشهور، و قصي على تلك الحال. وتالة تحاول المستحيل لتستجيب لهذا
العلاج. وبالفعل تحرك قلبها، تحركت شغافه ومشاعرها. أبكتها من جديد أغاني عبد
الحليم، و داعبت بأناملها وريقات الزهور. احمرّت وجنتاها خجلا" وتسارعت ضربات
قلبها. لقد تعافت تالة، تحرك سيل مشاعرها و لكن ليس باتجاه قصي. بل باتجاه آخر
كانت قد قابلته بإحدى الحفلات الموسيقية، أحبته بجنون ونسيت أنّ من حرّض الحب
في قلبها آخر. خطّت له كلمات الغزل ونسيت بأن من سطّر قاموس العشق والغزل هو
آخر. زرعت له حديقة ورد عندما قبلت به زوجا" وسحقت كل باقات الورود التي صنعها
لها الآخر. كان قصي أول كلمة في كتاب الحب و أنهته هي بآخر.
لم تستفق تالة من ذكرياتها إلا على دمعة سقطت على راحة يدها الممدودة، لقد كانت
تلك الوردة هي من قصي عندما جاء يبارك زواجها في بيتها مودعا" لأنه كان قد قرر
السفر إلى إحدى الدول العربية.
أغلقت الكتاب بعد أن ثبتت الوردة جيدا" بين صفحاته، وتابعت عملها قبل أن ينتصف
النهار فيعود زوجها وابنها قصي من المدرسة.
بوح الزنبق
هل سمعت بهمس الحب..
هل لمست عشق السحب..
هل تنشقت عبير الحب....
إنه طاقة من الزنبق احتوت معاني الحب وتراتيله.. ضمتها إلى صدرها، خبأتها عن
العيون وتنشقت كل العبير الذي حوته تلك النجوم المتعانقة على عود أخضر.
تأملت كل زهرة على حدى، و تبسمت لها.. قامت بواجب الضيافة فاحتفت بزنابقها
المهداة، واختارت أجمل زهرية وأدقها صنعاً..
بأناملها عزفت على وريقات خجلى، وبثتها حباً و عشقاً و اشتياقاً..
"لقاؤنا قهوة السابعة مساءً " كانت هذه كلماته عندما سلمها طاقة الأزهار و
أدار ظهره و غاب في زحام الممر..
في المساء رتبت طاولة الشرفة وأدارت الكرسيين باتجاهات مختلفة، حتى حصلت على
مبتغاها من جلسة دافئة.. اختارت فناجين القهوة ذات الألوان الزاهية. نظرت إلى
الساعة لم تتجاوز السادسة.. حضرت البن و اختارت أجود الأنواع. أضافت الهيل وعلى
نار هادئة كانت لحبيبات القهوة رائحة تحمل سحر الكلام وعبق الخيال.. لم تنس صحن
السجائر لتحتفظ كما كل مرة بأعقاب حكاياه التي يلقيها و يرحل.
دقت الساعة السابعة، عانقت عقارب الثواني والدقائق روح الانتظار، تلهف
اللقيا....... وخاب الأمل. فلم يرن الجرس..
مشت إلى الشرفة، تأكدت من الوقت و مرت الدقائق التالية ثقيلة سوداء لا رائحة
لها سوى عفن الوحدة والانتظار.. نظرت إلى طاقة الزنبق، دارت حولها وتمعنت فيما
تقوله تلك الوريقات البيضاء، لعله حمّلها كلاماً و سلاماً.. لعله جعلها رسولاً
لما كان يريد أن يقول..
عادت إلى كرسي الشرفة، تذوب وحيدة في فنجان قهوة...في مساء كئيب يلفه عبق
الزنبق رسول الحب الهارب.
|