الرواية – الأقصوصة:
جداريات الماهـُ(ـو)ة
ـ1ـ جدارية الفراغ...
دلف إلى حجرته وهو يكاد يستقيل من حياته، لم يغلق الباب، بحث عنها
في كل الزوايا ، لم يجدها،ركضت خلفه حياته تتبعها خرائط العشق وفناجين
القهوة ومساحة العينين المكتظتين بمسحوق المشاعر الثليجة، التفت إلى الإطار
الذهبي المعلق فوق السرير، إنه فارغ..لقد ..لقد رحلت..إنها عادتها، تحمل
صورتها الوحيدة ليوم العُرس..إنه الشيء الوحيد الذي يضمن عودتها..فهي غير
متيقنة من أن هذا الإطار سيبقى فارغا...
تساقط جسده على الألوان، يكثر فيها البياض الممزوج بعتيق العذرية
وقرع الطبول..وشيء ما يُحرض الذكريات على اجتياز العتبات.. لا ضوء أحمر في
كل الطرقات التي تسري بك إلى المفردات الخرساء في بلاط الكائنات الشعرية..
لكن..هذه المرة أحس بأنه سيفقد صوابه حتما لأن كل الأشياء حوله تقول
عكس ما يدور برأسه...
ـ2ـ جدارية الممكن...
مر أمامه شريط الأحداث التي عاشها في المدة الأخيرة، فبدت له
الحقائق أكثر عريا وطهارة ـ من ذي قبل ـ لقد كان منفتحا على يوميات انكسرت
على أشهر تدور فوق كلمات مشتعلة... إنه تعلم كل لغات العشق من خلال الثابت
في شخصيتها.. والساكن في رؤيتها للحياة الزوجية ..إنها تفتح أسماعها
لقارئات الفناجين الباردة..كل الشهور الصماء لم تكن لتبيعه دموعها كي
يستلقي سعيدا تحت قوس قزح ، أسماعها مملوءة بآراء الفناجين تُحرضها على
تحرير الشامات والخنجر من جسدها يستحم في صوت الأيام.
تتكوّم حوارات الجارات.. فوق دبابيس شعرها الأشقر وترسمها الذاكرة
كأقرب صورة لزوجة هاوية.. تعمق حضور الغائب في حياتها ليحل محل الحاضر
المُغَيَّب ..تربص بها السحر الذي يصهل من جسدها تأكل الألوان بعضها من
الغيرة ..إنها قصيدة غزلية ما زال الشعراء تائهين في مطلعها...تُحرضهم على
كتابة النثر وتجميع فتافيت الشوق..
لم يكن ليتولد لديها الوعي بهذه الأشياء التي يستقيل فيها الشجر من
لحائه.. والورد من عبيره.. ما لم تراهن الأحداث على إقامة مفارقة بين
الأزمنة الممكنة والمتخيلة...
3- جدارية المتاهة...
هكذا إذن...
.. لا جدوى من الأنفاس الساخنة داخل الفضاء المحنط باستنطاق المخاوف
داخل الهمس والإنصات ... فالدرب الملتوي يؤدي دائما إلى مزيد من الإلتواء..
يؤدي كلعبة إلى الدرب المسدود.. إلى المتاهة...
تخلص من نظارته ، زحف الزمان على جبينه، أزال الشعور باللحظة
الشاهدة من حواره المفجوع حول الزمن الذي يكرر نفسه باستمرار، يعيش مداراته
قطرات من فراغ روحه .
تعرى حنينه الذي استباح أن يعرف خبيء زوجته يوم كانت مشروع امرأة،
بين ضفائر الخلق حين رمت أضراسها مع الهمسات المحمومة التي طالب فيها آدم
بالسجن المؤبد بين نهديها...
ـ4ـ جدارية احتراق الأسئلة...
تقدم نحو المرآة ، إنه فقط يؤخر رغبته في البكاء .. يؤجل سقوطه في
فوهة النحيب ..لماذا ..!..لماذا..!..لماذا..!؟ لم يفطن الى تلميحات جمال
...
إيقاع ما بحوله لا يوحي بأن الجرح سوف يندمل بسرعة.. نسخة من
استفساراته تجتر الأسئلة التي احترقت استنكارا مع زوجة غير محروسة ولو
نظريا...
الغيرة هي هامش الاستفهامات الملتهبة لاستعادة بكارة المشاهد
الضاغطة على الحروف المنتصبة للجواب بين لعنة الهامش ولعنة الفضاء الفارغ
من السؤال..
إنه لا يستطيع أن يلتفت إلى الإشارات والعلامات التي تشير إلى حضور
الوشم الذي يذكره بواجب التدخل الحاسم لوقف نزيف الخبر المتآكل في فم صديقه
(جمال) وفي نظرات الشباب المتحلق حول بائع الديتاي...
-ها هو الديوتي جاي...
-...المخدوع...
-...المسكين لا يعلم...
-...واكل الجوانط...
-..الله وعلم...
-... ﮔولو الله يستر ويعفو يا شباب...
ردد بائع الديتاي في استغفار... نطق كل الشباب بصوت واحد (آمين)
لم يلتفت ، لم يهتم، نظر إلى الساعة ثم إلى النافذة ...نزار ليس
بالبيت...لم يفتح النافذة كعادته عندما يكون داخل البيت ... تأكد من ذلك
باستدارة بسيط نحو باحة السيارات ثم غمغم:
ـ سيارته ليست هناك...
رسم ابتسامة على شفتيه ثم أردف بصوت مهموس:
ـ لا شك أن أحد الإطارات انفجر مرة أخرى...المسكين (نزار) يعاني في
الأيام الأخيرة من عدة مشاكل مع سيارته...
نظرات قاسية موحدة في اتجاهه، تحاصره، تلعنه..تتابع بحياد من نوع
خاص تهميش الآية الواضحة التي تزعزع إيمانه الراسخ بنزاهة زوجته وعفتها...
ـ5ـ أنيثُ الفُحولة...
هل هو كشف المستور فيما يجري ويدور...
تصفح العيون المحدقة في بلاهته..ترسم أخاديد عميقة بإيمانه
الراسخ.. تظاهر بالوقار،أسئلة كثيرة محمومة فجرها إلْحاحُ جمال .
لن يكون النائم إلا تاريخا أصفر يخاف من الزفاف وتكسير الأحلام...
البيان المستورد يحاصر فراغ جمجمته.. كيف أخذله التراث...أين نخوة الفارس
دونكيشوط الطاعنة في جسم الفحولة ومخاض الحلم وانبعاث الرماد... إن الغرام
لا يعيش برئتين... إنه يشكل ملامح وجه المحارب .. فيمر السيف فوق عروق يده
لينتفض برقا ورعدا ويلغي المسافات ..محال أن تنتهي الزاوية من صنع
الإسفلت.. لم يحس يوما أن العزوبة قد فارقته بالرغم من اللمسات الأنثوية
التي دخلت صحراء حياته ، فتحجر جسده وامتد حارسا كأبي الهول...
ـ6ـ جدارية الاستفحال...
لا زال غيابها يخلخل وعيه الرافض لكلمات التأسف المباح وعلامات
الوقوف الممنوع الذي حكم عليه باستئناف السفر في قاموس الألوان والأشكال
الموحشة في تفاصيل عشقه وتخوم الوشاية التي تحركت موحشة من بؤس الحي .
قصته وشم ضاع رونقه بين الغمزات والتلميحات والمنسابة كالشلال على
شجاعة اعتقاده بإيمانه الراسخ...
...عاودته لحظة المد التي صادفها لمّا باغث زوجته تحتضن الوسادة ولم
تنتبه إليه.. وقد شدّتها الرعشة إلى آهات الخواء المملوء فكانت الأطياف
تحلم بالأحضان المعتصرة والأجساد المتراكمة المعلقة في الحافلة كشخوص من
ورق ترسم ثعابينها إلتواءات شاردة حول النتوءات الجنسية لهزيمة النهارـ
الواقف...
ـ7ـ جدارية الأنثى..
زغب ساقها لا ينتسب لذاكرته، فزع من مجرد ذكر ذلك، قفز إلى ذهنه
حواره مع نزار حول الخصائص المثيرة لدى الرجل في المرأة المعاصرة ... كان
نزار يكرر على مسامعه:
ـ ...العصور تختلف.. لكل عصر ملامح متفردة يعشقها في نسائه، أعتقد
أن هاجس الجمال عند الذكر العربي هو زغب ساقي أنثاه.. إنها حبة الجمال
والفتنة التي قصمت ظهر بعيره...
فرت أوراقه من صفحات المكابرة ..من لحظتها بدأ يعشق الصمت المنقوش
على الشفتين.. مصقولة نظراتها رتلا طويلا من الآهات الممزقة تحت جسد نزار..
تحت الحضرة المدمرة..الغامضة.. ذهابا من رصيد النهد والأعجاز إلى زغب
الساقين...
...هو يشتهيها وهي تود أن تُشتهى.. تتحسس جسدها فتجد جمرة ملتهبة
كان لخمودها طيف الأحجية استمر حاضرا في بطاقة ملغاة.. إنها تبحث عن قانون
لجسدها عبر قانون الكلمات الثاوية في لذة النص الشبقي ...
ـ8ـ جدارية الجسد...
لايجتمع سيفان في غِمْد...
الغيرة تتخثر.. تخرج من الوشم الأطلسي تشكيلا يزحف على الرسم نقشا
مرتبا على النهد في ملف الليل .. الحديث عن العشق الممنوع يغري بالفصاحة
والزهد.. الرغبة طائشة تمتد جنِّية تحت الأزرار... تحبل الفضاءات بلعنة
الحركة والقفر ..
ظلت عجيزته ملتصقة بالجدار في مواجهة الإطار الفارغ.. كم كان من قبل
ساحرا !
اقتلعه من مكانه ، خرج وابتسامته الكريهة ، الصفراء لا تفارقه
..سيارة جاره نزار تقبع بلا مبالاة تحت ضوء الشارع السخيف...
طاق..طاق..طاااااااق...
الطرقة الثالثة كانت عنيفة ، حمَّلها كل مقته وكراهيته ، فتح نزار
الباب ، تلمس العذر عن عدم دعوته على فنجان شاي بحجة ما عنده من ضيوف..
كان تيار الهواء الذي يمشي وراءه منتشيا بأغلى العطور التي كانت
تحيط بزوجته كلّما عادت من " عملها" ...
أضاف إلى ابتسامته برودة الحصير ثم ناوله الإطار الذهبي
المصقول...ثم استدار آليا كجثة أوطوبيس.. نزع عينيه عن ركام القمامة بعدما
انغرست تَفْلي صورة عرسه الممزقة...
ـ9ـ جدارية النُّشوز...
كان يرى أمامه سيلا أحمر..هل هو دم أم صباغة ؟ هل كان يعي أم
لا؟..هل يعرف أنه يشبه الميت في ثوب الأحياء... اختلطت أمامه دوائر عديدة
..اتكأ على إثرها على حافة الباب...لا لم يكن يحلم...
أحس بأن الزمن صار مساحة لعينيه فحرَّضه على البكاء، لكن ألياف
الصراخ اختنقت بحنجرته فطرَّز كلمات مكشوفة تحت جرس الباب...
" ألاحظتِ كم كنتِ أنثى....
و... كم كنتُ ممتلئا بالرجولة..."
فأنت لستِ طالقا....لستِ طاااااااالقا....
27/02/2006
أضيفت في 27/02/2006/ * خاص
القصة السورية المصدر الكاتب:
عبد النور إدريس
أقـفال المصالحة
كانت شخصيته قوية وهو يتحدث عن هدم السجون، ربّما أخذت قوتها وصلابتها من
الموضوع ذاته، فكلما تحسس بادرة الاهتمام من محدثه يزداد طموحا وحرارة...
كان حديثه يأتي ممزوجا بالصراخ والبكاء والغبن...
- السجن آه من هذه الكلمة التي تحيل الدم إلى حجر.. إلى جدار. والمشاعر
الدافئة إلى عرائس من ورق...
وبكثير من النحيب الكلامي القريب إلى العويل...
أينما اتجهتَ تجد السجن في الانتظار..خذ مثلا.. وأنت تفتح التلفاز..عفوا ..استسمح،
كلمة (تفتح) لا أحبها هنا..فقط أريد التعبير عن الدخول إلى التلفاز..
الدخول إلى سجن مفتوح..البرامج تافهة..و..
أشرت إليه بعيني ألا يتابع فأنا أشم رائحة غير عادية بالمقهى، لقد تولدت
لدي حاسة الحذر والشك طيلة جلوسي معه في المدة الأخيرة تلك الحاسة التي كان
يصفها مرارا بالحاسة السِّجنية المدنية.
فاجأني بإصراره على المتابعة متجاهلا كل اعتقاداتي الفطرية حول موضوع
(الحذر) وتابع ..
- السجن رحلة صمت .. قاموس بدائي من الشتائم اللقيطة.. يحاول خلاله
السجَّان كسر وسحق السجين معنويا وجسديا ..إنها لعبة الجسد الصامد...
ثم وهو يهمس في أذني..: إليك سرا خطيرا.. ماذا لو علم السجان أن مباشرته
للحراسة والإطعام هي أكبر خدمة وعزاء للسجين.. فكل معاني الصمود لا تحركها
إلا بشريته.. ها..ها..ها،...
لم أحسب سوى ثلاث قواطع وضرسين.. إنها زهرة شبابه قد ذابت هناك.. لاحَقَتْ
كلماته ، بل رصاصاته شرودي...
- آه ستكون مصيبة السجين كبيرة لو حرسته آلة..لكن مستحيل هذا المنطق حاليا
.. السجون مكلفة ..إنها ضريبة المجتمع الحر، ذاك الذي يعيش ديمقراطية القطب
الواحد...
..صمت رهيب خيم على الحوار، قرأت في عينيه الكثير.. كان يعتصر أحلامه في
عيني ..فهمت أن أحلامه (هنا) لم تختلف عن تلك التي (هناك) ثم ولْوَلَتْ
أحاسيسه..
- كلُّنا سجين وسجّان..لكن السجَّان له أبعاد كثيرة وأشكال لا متناهية ..
منه الظاهر ومنه الخفي وأكثره قسوة الذي يجعل الزنزانة هي كل ما يحيط بك
..هنا..
من صمت الانفعال وظلمة الإحساس لم أعد أذنا فقط بل انفجرت قرب
مسامعه..كالجرح الغارق في لعنة التأمل..
- السجن حالة لا تخلو من مفارقة .. من طموح التناقض.. تلهث في المجتمع
المتخلف.. تفرخ حالات من التدهور العام.. والنتيجة أن الأغلبية تفضل مهنة
الجلاد.. لا شيء محايد بالمعنى الصوفي .. إن حواراتنا العمياء حول أهوال
السجن هي التي صنعت السجّان...
لم يجب ، وقف.. غادر المكان وقد كان ينظر إليَّ بعينين قد احمرتا من كثرة
النحيب الداخلي..
لم ألتقي به بعد ذلك ..إنه لم يألف السجن ..(هنا).. كان كل ما يراه ..هنا..
أضعف من أحلامه التي صاغها ..(هناك)
لمّا رحل..هرب..غريبا مفجوعا..عرفت لماذا كان يصر على
أن تكون العصَّابة ربطة عنقه المفضلة...
أضيفت في
01/02/2006/ خاص القصة السورية
الزمن المكسور
يتمنى أن لا يكون في هذا المكان، فللشعر طقوس للاستماع، التصفيقات
التي يسمعها تتهاوى على الأسماع ، لديه إحساس أنه سمعها من قبل،إنه نفس
السيناريو الذي يتآكل على الرفوف ...الشاعر ما زال واقفا ... مصلوبا أم
ميتا... المهم أن الصالة ما زالت تردد للبياتي:
" نحن جيل الموت
بالمجّان ، جيل الصدقات،
طحنتنا في مقاهي الشرق حرب الكلمات"
رنين كلمة "شرق" لم يبق له نفس الرنين السحري، إنه أصبح يقلق ..
يُحرِّض..
الزي الكرنفالي لم يرهق إلا السواعد الميتة في حضرة الرقص...الأمطار
المزروعة في الأرض تنبت الجراد... القبور تحت الأرض تحتفل بالشعراء .. هي
ندوة الشعر "الميت" كانت ملصقاتها معلقة منذ الأزل على باب "الجحيم"..
الندوة أقامها "الغاوون" لمحاصرة وظيفة الشعراء...
قبر "هوميروس" يصافح الآن قبر "عبد الرحمان المجذوب" تختلط الوجوه
وتلعب الكلمات لعبة النط على الحبل وتتدفق القصائد...جذور البراكين...يصيح
المصلي في وجه الفجر " بينهما برزخ لا يبغيان"
تطل الوجوه شاحبة اللون من راحة الجنون ، يلفُّها الضباب من بين
ألياف أحشاء الماء..نقيق الضفادع يحيط بالأسماع، أُغلق أذني... تمر طلقات
الريح الشاحبة لتخترق الجدران...حصان طروادة لا يمل الوقوف على الأحلام ...
يجثم على خاصرة الزمن البابلي..
المشنقة منتصبة تنتظر الجماجم الصغيرة والكبيرة..تلفظ الرؤوس
الحليقة، وتثور على وظيفتها.. تتنفس برئة العنقاء.. برومثيوس العربي يخنق
نفسه في ثياب الكلمات .. قيل أن عزته تطل من أرنبة أنفه.. لقد أضاعته لغة
الانتصارات فلم يحتفل بأيام نُحوسه ومآسيه.. قسيس المعمرين الجدد يصلي على
الأرواح المخنوقة .. والمجذوب يحمل نعليه ويجري في مكانه ويصيح ..
"راكبة على ظهر
السبع
وتقول الحداء ياكْلُوني"
ويردد شعراء المدن والخيام بصوت مسائي رخيم " بارد وسخون..."
المرأة المنتفخ بطنها تخترق شارع محمد الخامس وتلتفت في سماء
الألوان والضوء، تشير إلى بطنها والعيون جامدة على الكراسي تلحس
المساحيق... وتسافر نحو الألوان الهاربة..هي السفرة الثامنة" لسندبادنا"
تعلن الإبحار والإبهار...
.. تطلق النساء
الزغاريد المبحوحة..حيث ترقد الفصول على شرفات العمارات.. شيء بداخلي لا
يصارحني وفراشاتي الطليقة تسرد أحلامها على مسامع القناديل المعلقة.
.. الصيف شديد
الحرارة.. الرأس تنفجر..كل الطرقات صائمة وأنا أفتح الشهادة أمام
السيارات.. البركان من ورائي ينفجر.. تتقاطر الشرارات على رأسي ، تشُجُّه ،
بدأت في البحث عن كلمات الشهادة في جسد الوسادة فوجدت أسئلة كثيرة طُرحت
على الماضي وما زالت الأجوبة الجاهزة منذ ألفي عام لم تنشر بالجريدة
الرسمية...
الرأس مشقوق.. الجسد ميت.. يخرج الدخان من الفم، إن الشهادة بداخلي
تحترق..والزمن رابض مكسور تحت الأجفان.. قطرات الماء تتكاثر على صِدْغي
كالجمر، ركن الحلبة لا يسعني كي أسبح وأغير قاعدة اللعبة... لكني أجدني
مُبعثرا بين أوراقي أمارس أحزاني الضاحكة...
أضيفت في
01/01/2006/ خاص القصة السورية
حبيبة الإميل
إميل الصباح-1-
وأنا أشرب قهوتي وأحبس أنفاسي كي تبقى معطرة بتلك الحلاوة المسجونة
في ارتخائي... وقد طردت كل الكراسات والدفاتر من يومي.. وكل شهوة الوقوف
على عفوية الربيع الأخضر.جاء من قال لي إذهب ولتجدها هناك تكتب بضفائرها
إليك...توجهت نحو حاسوبي وفتحت البريد الإلكتروني فخرج في البدء وجهي الذي
ضننته مسافرا إلى حيث تسبح في رضى الموج وتشرب نخب كأس "آيس كريم".التفتتْ
نحوي معنِّفة وقد ذابت صباحيتي مع ميلاد النهار، تعثر" الكونيكسيون" وتابعت
احتساء القهوة ، لقد انتصرت في فمي هادئة ..بدون سكر .قالت سآتيك عند أول
الليل ..حافظ على قهوتك ساخنة فلي مع القهوة قصة عشق طويلة سأحكيها لك
عندما أدق بابك ثلاث دقات خفيفات ..ربما لا تسمعني فيها كما بالمرات
السابقات..لم تستطيع أن تغضب وضحكاتها الفستقية ترتع في ليل صباحي..وقعت
عيني على إميل تستطيع معه الأرض أن تشرب قهوتها معي..لقد خطّت أناملها ما
جعل قهوتي تنتفض ، يشاكس حليبها الدسم بنّها الرخيص.. وأنا أقرأ الحروف
المرقونة على الشاشة تذوب حلاوة المشروب في جسمي ..وأستزيد من موسيقى
كلماتها التي تقتل ..تعبق عمري بفيض من التلاشي ...فما كان منّي سوى أن
أغلقت عيني وتركت الفأرة تقرأ عني وقد فجرت يدها سكون الكلام..أقول يا
عزيزي أنا دائما أشرب قهوتي بدون سكر..حين لا أكون سعيدة..الحلاوة في
اللسان كما تقول جدتي ...وحين أكون فرحة في هدير الصمت لا ينتفع حزني
بالحلاوة..لم تترك فأرتي شبرا واحدا من الكلمات التي تشتهي عُمرها وكلما
تذكرت انها تنعم ببحر الشمال كلما تعلقتُ بشمسي وندمتُ على مغادرة
الخريف..لم تترك قصيدتي تكتمل حتّى أجهشت باكية ..واحترقت في حضرة
التلقي..واستمرت فأرتي في المتابعة ولن أنسى كم زرت من مدينة وأنا أنام
كالدهر في بطن أمي.. أسَفي أنني لم أعرفها من قبل وهي التي تناثرت بين
البحر والمدينة وبريدي الإلكتروني..كانت تودع صباحي وهي تقول:أنا تقريبا
مدمنة على شرب القهوة..لهذا شربت قصيدتك دفعة واحدة ..كم كانت لذيذة...ثم
نقرت من سهوها فمسحت عنواني البريدي..وتمنت راجية أن أرسله لها من جديد...
إميل الظهيرة -2-
من فرط لهفتي على الجواب خلقت إمايلا جديدا وبعتته مرتجفا إليها
علّني أحضر معها بآسفي حفلة الزفاف قبل تركيب الخاتم لمخيالنا..تجاعيد
الفرح ضائعة بين أناملي وأنا أرد في شرود وأخاف ألا تستمتع فأرتي بكسلها
وأنا منشغل عنها بعشق الأزرار..
كتبتُ: مساء الحلاوة...سيدتي
كيف تحتاجين إلى السكر والنحل يقتات منك زاده ويأخذ من جمالك أسباب
وجوده..إن القصيدة التي شربت دفعة واحدة ، ماتزال لم تدلي باعترافاتها
كاملة على مائدة الإفطار .
هلا شربت القصيدة الأخرى... عفوا قهوتي الأخرى وقد عنونت شُربها
بإكواريوم الألوان حتى لا تغار منك فتكون الفوضى في بيتي وأنسى بعد ذلك
بُعدَكِ في الساحل الأطلسي ..وقد تؤرخني كثرة الإرتشاف في امبراطورية
النساء....إرتشافُك كلما استقبلتُ الصباح..
كنت أريد أن أخيط من علاقتنا وساما كي لا تختبئ العصافير عندما تريد
أن تنتحر..
ألم تلاحظي أن النساء في مدينتك الشمالية يستطعن إغراء القمر وقد لا
يظهرن من فتنتهن شيء..النساء يختبئن كي يُغرين.. كما أن الرجال يختبئون عند
البكاء ...
وأنت...
هل ستغطسين مرة أخرى في البحر الأطلسي ..؟
أخاف عليك من الزحام وأنا الذي أطمئن إلى شهقة العمر في البحر
المتوسط..سألقاك هناك..آه نسيت ..لقد أعرت السندباد جواز سفري عند سفرته
الثامنة وقد ترك لي حروفا ذابلة تحتاج إلى فرحتك كي تستعيد الحياة..
نقرت على " ارسل" فلم يذهب البريد..بقي معتصما أمامي بدون خجل...لقد
خانني هذه المرة "الكونيكسيون" تبّا له..حتّى هو الآخر ضدي لا يتركني حرا
طليقا...
إميل المساء -3-
انتظرت طويلا مسمّرا أمام منارة حاسوبي وأخيرا أطلت قاتلتي بعينيها
الوسيمتين ..قبل أن أدخل في عشق الكلمات لا بد أن أعترف أنني معها أفقد
إسمي..وأحيانا وزني فأطير في كبد الأشياء وأنزل وشما على إميلاتها كما ينزل
النحل على المدقات الصفراء..مرة علقتْ على طريقة طيراني فقالت وهي تعرف
أنني مؤمن بأن السماء قد خلقت لأجل أن تفرد الفراشات أجنحتها على القلب
..على ملامحنا القلبية..
دعني أفتش عنك في الركض كي ألحق بك ..إنك تتجه بسرعة الضوء في كل
اتجاه ..سوى اتجاهي..
قالت وهي تبتسم في عيني و ترش عليّ ملحها..وملاحتها..
كيف الحال ..أعرف؟ ستقول لي كالمعتاد بخير..أوكي دمت بخير عزيزي
خمسة وخميس عليك..بصراحة كُلَّك على بعضك حلو كما يقول كاضم
الساهر..
ثم اتفضتُ لأحس أنني فعلا أعيش شعار "نحن في عطلة" كان في صوتها
تساؤل رقيق خزفيُّ الكلمات..قالت وفي خطها الأندلسي حُنو: قل لي يا عزيزي
صراحة ، هل تنام أمام الحاسوب ..لأني كلما كتبت لك أجدك تسارع بالرد؟؟..
ابتسمت وقد علمتني الحياة أن أختبئ في جرح الأيام..وقد يعبث الشارع
بصيفي ..لكنني مثل الكامون تزداد قوة رائحته كلما اندقَّ رأسه ..هكذا كان
جدي من داخل أسطورته يهمس في وجه كل المواويل الشمالية للشاب العروسي
يومذاك وقد كان يسميه بفارس الطَّقْطوقة الجبلية.. وتلك الأيام الخوالي
بربيع الطفولة.
فجأة قفزت أحد نوافذ الأنترنيت إلى شاشتي ..لا بد أن يكون بهذا"
السيبير " من يتقرصن علينا ..تابعني الفضول وقلت سأُشيح بوجهي عنها قليلا
وكانت عيني تود أن تطير إليها محمومة كسعير الغروب..
ثم رجعت لبريدي على غفلة حتى أفاجئ كلمات حبيبة الكون الافتراضي
شاردة في أحلامي... لقد اختفت و لم أجد سوى رسالة قصيرة تركتها واختفت
وراء عينيها العسليتين كي تتشح بوشاحها و تلتحق بي بعد قليل..كانت
الرسالة الإمايل تقول:
تمهل قليلا حتى يكون تواصلنا مثمرا .......
وتركتني لشغبي الجميل أعاكس فيه أسرار الياسمين..وما زلت انتظر
إميلها عند أول الليل.
الطَّقْطوقة الجبلية:أغاني شعبية من شمال المغرب
رسم الإزدياد في
نزهة السندباد
ـ السّفرة الثامنة أوألف ليلة وليلتان ـ
" ياله من زمن يكاد الحديث فيه عن الأشجار يكون جريمة"كلاوس شومان
لم تكن الحياة تنحصر في الشكل الممكن لها..إنها مملوءة بالإيحاء
والأحلام والحركة الدائبة نحو دلالات وأبعاد تتخطى حدود ما هو ممكن.. علاقة
وشكل .. مجرد صناعة..
إنها فهم لعلاقة كل ما هو خارج الذات.. صياغة طرق مُثلى لرًؤى
جديدة..
كانت الحياة تنغلق في اتجاه الإيمان الراسخ بالماضي ...وهو، كان
يقدم أفكارا ومواقف تنطلق من مناخ منفتح يطالب بالوضوح حتّى يعبر عن نفسه
بما يحمله مُعتما..مقدسا ف نفسه..والذي أكل من نفسه حيّزا..
الشغل..الأمل..تحرر الذات من عبودية ما تتكرّس في وجدانه كالنقوش
والزخارف...
إنه أصبح المتفرج عل الناقش والمنقوش، الحاضر في لون الزخرفة وكرسي
المقهى والغائب عن لعب الأطفال وفرحة العيد وسخونة الرغيف، كان الطابور
الذي مارسه فأتقنه يتعلق بالدرس ... بالخبز... بالمطعم المدرسي...لا شيء
غير الرحلة نحو الخبز..ثم..ثم الوثائق الرسمية من أجل جواز السّفر...يفتح
..يحقّق..يضيء له باب الشغل والحمل وشهية الأكل...
يحتل( الكل) مكانه في صمت ، بقي على افتتاح المكتب الذي
يسمّيه(الكل) "مكتب الفيزا" ست ساعات..الليل يتسلل إلى قميصه..يزدحم
الطابور أكثر.. حرارة الأجساد الملتصقة ...
نموذج يتحدث عن اكتشاف المجهول والجنسية الصارمة بالمجان.. تلفع
بجلده حتّى الصباح .. "الكل" يتحاشى أنفاس الآخر..إنها الكرامة المرتبطة
بالزمن..بالتقاليد..التي تتوارى عن الأنظار...
اجتمعت لحظة الصباح في كومة "الكارتون" مُشتعلة لتدفئ الأجساد
المستعدة لاستقبال برودة المكتب والموظف وصمت الزجاج...
هو..لا يستطيع أن يتجاوب مع الانتظار، علامة المهمّش..المشهد الذي
يرفض كل انتماء...
إنه من الجيل الذي يرث الانتظار كل أحلام جيله ما تزال عذراء في
قاعة الانتظار الكبرى..كأن البطالة لا تكفي لتغيير المفاهيم والمواقف التي
تجيد الوصاية على الآت ...وصاية المفاهيم أقسى من محاولة نحث الجديد منها
...كان يردد ذلك أمام علامات رفض أستاذ الفلسفة لوجهة نظره... لا يمكن
للفلسفة أن تعيش حاضرها بدون نحثها لمفاهيم جديدة ووضع أخرى في سياقات
مبتكرة .. التوتر طريقة غير مألوفة لنقل الأمل إلى مسألة ذاتية..لهذا أصبح
الشغل لديه ضرورة أوكسجينية .. جواب يستحث ، يستصرخ كل الأسئلة التي تُحيل
مدينة "الآخر" إلى ملامسة وعناق مستحيل الخلاص والتّناهي...
..وجد نفسه أمام الزجاج الصامت..التحرك وحده لايفسر الصّمت..إن
للزجاج..القناع، سحر ينَفِّر، يفرض نظامه العام على المسافة بين المُرسِل
والمتلقّي..
ـ اسمك (زعق الموظف بصوت جاف)
ـ سندباد..(أمسيو).
وبنبرة مستهزئة ..
ـ هل أنت بري أم بحري ..
ـ لم أجد لي صفة أخرى برسم الازدياد..
ـ خُذ إملأ هذه الاستمارة ...
خانة العينين الخضر....
خانة الشعر الأشقر...
خانة......
انتفضت بداخله ذاكرة الأسئلة.. وكان رنين كلمة "خيانة " أقوى..
ـ لكن ..إننا ...إنكم في بلاد "اكحل الراس؟؟".
سفرتك السابعة لن تتكرر...!!!
ـ .... ولكنّي "تمتّعت " بتكرار الليلة رقم 557 ..أمسيو.. لقد
شملتني الأيام بترف البطالة ..أريد أن أجول في بلاد الله الواسعة...
صفعته حرارة الشمس إنه ينام واقفا .. ويحلم متمدّدة كرامته ومتوارية
عن الأنظار...
..صمت رهيب احتل صورة الواقف ـ الميت..الذي تراكم الرّفض وذاب في
زمن الإبحار قبل انسحاق الفُرجة في بلاد الناس..
.. كان بداخله سفر عميق يتحرك بعالمه لفتح الداخل وإفراغه ثم
الاحتفال بالهيكل المُتكرر حُلما ودُمية في خريطته والحاضر في نسق الأشياء
فُرجة واقفة وفُزاعة تتفتّت في نمو الأشكال والألوان.
... سفر يخلخل نظام الأشياء ...لا يصله إلا بالموت... في الموت يجد
موته الطولي ...في استمرار تساؤلاته التي فقدها منذ ولادة " الشهادة " في
كراساته المدرسية..
لمَّ أحزمته ، اتجه إلى المرسى ..اتصل ب "السَّمْحار
الكبير"*..بادره هذا قائلا والسفر يستبسل متسللا إلى الجيوب...
ـ غريب ، سندباد!!! لقد نشروا بالجريدة الرسمية أنك ممنوع من
الإبحار...
..كان "الكل" يتعلم كيف يصرخ ..كيف يستغيث.. كيف يمضغ خبزه الحافي
.. لاحظ أن رفيقه الإفريقي الأسود يحمل قربة ماء عذب لتكون أول جرعة له
"هناك"..من المنبع "هنا"...
رجع إلى نفسه يتمتم في صمت ..
ـ يخامرني إحساس أن هذه الرحلة ستكون عجائبها أغرب ..يمكن أن تُضيف
شيئا جديدا إلى جنسيتي وشخصيتي وكينونتي ..شكلا ومضمونا..أحلامي في الليلة
الماضية كانت متسكِّعة ...حزينة ..مغتربة ..أحلامي السابقة تحقق جُل
المشرَّد منها..أحلامي هي هويتي ..من لا أحلام له لا هوية له..
...شهرزاد هي أصدق من روى عنّي ..لقد وقعت في فخ الحكاية ..فأجل
شهريار قتلها حتّى أصبح القتل مَلغِيّا لأجل الإدمان على الحكي..فغدت
حكايتي علامة تُؤجل القتل ..لكن..حُلم هذه الليلة لغز حيّرني ..رمز بمغالق
كثيرة ...كيف..كيف سيكون لي ذرية بعيون خُضر وشعر أشقر..؟؟!!!
...كان مغلقا أذنيه على الأسماع.. صخب نُزلاء (قارب الموت) ملأ
مخاوفه وزعزع ثقته في المركب القديم .. لقد احتل ركنا ضيِّقا كأنه مُنكمش
في صندوق..علبة السردين أرحم... تعلق بخشبة يجانبها ويحتضنها الرُّقود
كعادته..تحرسه عين السُّهاد..إن التجربة علّمته أن سيف القدر يسبقه دائما
إلى شطِّ النجاة..يحتكر معه السّفر والمسافر...
مخاض البحر بمنطقة البوغاز يلد الرعب والغرق والموت..لا راحة
للمُهمَّش والقصِي إلا في الأعماق... تُلِحّ علية شهرزاد أن يغرق.. ينهي
عذابه.. يضع لحياته معنى..يتفتّق تشكيلا بصدر الأخبار..أن يخرج من حالة خلق
إلى حالة وعي..
..لكن السندباد كان يطالب الحكاية أن تصمُد.. تستميت.. يطالب شهرزاد
ألاّ تُصادر حكايته بصراخ الديك … حتّى يخترق الزمن الآتي ويضع لمصيره
طُقوسا وقوانين آخر سفرة له نحو بلاد العجم... رغبة تستطيع أن تُصور الزمن
بدون قامة، بدون جذور..كي يستخرج "هناك" وثيقة ازدياده باسم "السندباد
البحريّ بعينين خضر وشعر أشقر...وكرامة "ربّما" تحيى بعيدة عن الأنظار...
نحن ورثة الانتظار..
تجهله مرآة الصباح لم يتعرف على وجهه الحزين ..لم يبكي على أحد منذ
زمان .. وهو اليوم يتفجر فيه إحساس عارم بالبكاء ..يخنق فيه امتداد النظر
..تكسرت تحت راحتيه المدينة المحنطة التي يسكنها ..كان يقف كلما مرت أمامه
جنازة .. وعندما يرفع الشهادة أمامها تأتيه الرغبة في أن يصبح مصورا هاويا
لكل الجنازات التي تحتفل بها مدينته ..أن يقيم لها معرضا بالمدفن المهجور
.. كان يحس أنه ينتظر دوره الذي ينام مع حظه العاثر في كل كؤوس الشاي التي
تَشربُه..
..لقد مل من انتظار الآتي الذي لا يأتي..
منذ أن دخل إلى المصلحة ملأ استمارة الدخول إلى سيادة المدير .. في
البدء كان يريد أن يتملى بطلعة سيادته البهية ويقدم فروض الطاعة والولاء..
وهو الآن ما زال ينتظر الرد الشريف.. وقد ازدحم الزمن على مشارف الطريق ..
ولم يعد لموضوع المقابلة السابق معنى ..
يأتي يوميا لتفقد الرد بمقابلة معاليه و باسمرار يجلس في قاعة
الانتظار له مكان مألوف يراقب من خلاله الجرس الذي يأمره بالخروج من قاعة
الانتظار ..
أحيانا تكون القاعة غاصة بالمنتظرين يقرؤون في وجوه بعضهم صدأ تلك
اللحظات ويستريحون في أعين ساهمة تقرا بعضها ..
كان دائما يتساءل عن عدم وجود النساء بقاعة الانتظار تلك ...
أين توجد قاعة انتظار النساء ؟
...ما معنى وجود تلك المرآة المحاذية لباب سيادة المدير.
أحيانا يخون الضجر الجالسين على الكراسي الخشبية الصماء ، يتململون
يمينا وشمالا فتنتفض رائحة عرق بليد تزكم أنوف المكان..
كان حتى من حالفه الحظ ووقف أمام جلالة السيد المدير يحس كأنه ما
يزال بقاعة الانتظار..
عندما يتحدث الداخل إليه ويعرض بضاعته الشرعية يفرقع السيد المدير
أضلاعه ويطرد رائحة الواقف بالرش من عطره الثمين..
وحده العطر من كان يحظى باستقبال سعادة المدير..
وحده الأكسجين من كان يدخل إلى رئة معاليه بدون واسطة..
لم يكن سيادته يسمح للشاي أن يدخل عليه ..
قبل أن يقدم القهوة هدية للسدة العالية..
لم يكن يسمح للشاويش أن يدخل من الباب حتى ينظر إلى المرآة و يضع
وجهه بقاعة الانتظار..
ولم يكن يرضى أن تدخل عليه ابنته حتى تأتي به كوَلِي أمرها..
مرة سمع من خلسة عينيه وهو يضع كأس الشاي على المكتب ..وفي غفلة
السيد المدير المستدير بوجهه نحو الحائط .. همسا لطيفا كأنه صادر من حنجرة
مغني افترسته الألحان عند آخر الليل.
إنني ما زلت أنتظر رد معاليه على طلبي..نعم..نعم..بالطبع ..بالطبع
سيدي ..لقد ملأت استمارة الدخول..شكرا .. شكرا ..أنا في الانتظار..
خرج الشاويش للمنتظرين بقاعة الانتظار وطمأن الحضور بأن سيادته
موجود وهو الآن في مكالمة هاتفية مهمة..
قلت وقالت
وبيننا الجنة وناري..
قلت لها: أتستطيع امرأة ما.. أن تخلط دم آدم بالحناء وتتخضب؟
قالت لي وابتسامتها مشتعلة في إيقاع كل الهوامش...
نعم، إذا عدتُ مرة أخرى إلى الجنة..
قلت لها: سمعت أنك ستعودين إلى الأرض بقلبين غاضبين.
قالت لي: سينوب قلب التفاحة عن الملامح التي لا تُسامح..
قلت لها: لماذا تقفين على باب الحكمة وقد أكلت من شجرة المعرفة..
قالت لي : عطر الجنة له روعة الذكورة..والحياة لا تستغني عن "أنتِ"
المؤنثة..
قلت لها: رقيقة أنت، والحب خشن أعمى..
قالت لي: تطالعنا الأقداح ..بصمتها.. ولا نعرف للحب سوى أزقة من
الملح..
قلت لها: تصوّري يا أم نزار أن أقتلع أبواب الدرب الخشبية، كي أكتب
على ضوء احتراقها رسالة حبنا القديم..
قالت لي: وهل رأيتني يا أبا أسامة قد علّقت عشقنا الناري في
الدولاب.
مكناس 09/10/2005
شرنقةُ أحلامٍ
عاهرةٍ...
المساء شاحب، أعمدة المصابيح ما تزال واقفة بدون ملل، كل شيء يدعو
إلى مغادرة الدّروب ،الرذاذ يداعب خياشيم المدينة، الحي موحش مليء بالوحل
،الفراغ أكل نداءات الأطفال ، الهواء مخنوق.. كل المارة يمشون وراء أرجلهم
لا يلتفتون .. طيش الأطفال قد عبث بكل شيء... بزمنهم وزمن عاشوراء...
وهو شاب يثير الاشمئزاز في السابعة عشر من عمره، نحيل، ذابل
العينين، أحمر الأنف لونه أسمر داكن، في عينيه بريق، كل الحي لا يرتاح
لخشونة مظهره، يحمل صندوق التلميع الخشبي، يحتضنه في إهمال،عينيه مسمّرتين
على أرجل المارة ..الكل يمشي أمامه.. هذا الكل يستعجل خطاه نحو نهايته،
الخطوات لا تنتهي.. حي العوادين طويل الخُطى ، والزاوية التي يحتلها "سَّبَّاطَه"
ضيقة كان يسميها قبر الحياة ...شرنقة تفتح دراعيها للزاهد والعابد والسكير
والكثير من فتيات الشارع أو الزُّقاق...
الفتور الصباحي يعم كل شيء .. نظرات المارة لا تخلو من إدانة يرقبون
جسد اللّعنة الذي يحتمي بعَرائه من لسع العراء..وهو تحت هذه النظرات
القاتلة كان يطلب منّي أن يستقيل من حكايتي أو أن أضعه في الدفء مكافأة له
على قبوله البطولة في أقصوصتي...
تجلس بقربه عجوز لا يعرف أحد لها عنوانا أو إسما حقيقيا .. رسم
الزمن على وجهها صراعها الخفي مع الخبز .. زعقاتها تطرد السكينة .. إنها
تصيح لا تمل ولا تنتهي .. إنها حسب طه .. فقط تطلب "مال الله من عباد الله
" إنها القدر الذي بدأ، سعلاتها المتواصلة ونظراتها الملتصقة بجيوب المارة
تطرد زبائن التلميع.. إنها قدر جميع سكان المدينة البيضاء حين تُصرِّح
بأنها المعمّرة التي تنتظر صفارة النهاية كي ترتاح من غربة هذا العالم
القاطن في اللامعنى...
لقد عرف أخيرا أن اسمها ميلودة زيان... شمطاء مملكتـ(نـ)ـا...
الزبون لا يجيب عن سؤال الشاب المتكرر..نظراته حادة وصامتة..
تابع الشاب كعادته غير مكترث.. إنه تاريخ حياته يحكيه بالنيابة عن
السارد لكل المتلقّين، حيث بدأ في بيع الماء والنعناع بمحطة المسافرين.. إن
الدخول إلى الاستجداء السردي من الضعيف نحو القوي يبدأ بالحكي.. ويتمطى
نحو دلالته المشمولة بكراهية المعاني العربيدة والمزروعة في حنايا الكلمات
الشمطاء...
طالعه الشخص المرمي فوق صندوقه بلهجة آمرة.
ـ أتعبتني بقصّتك ..الله يتعبك...
ـ آسف سيدي، بعد دقائق ستنتهي قصّتي... ستنساها، ستنسى كل شيء.. كل
شيء يحتل زاوية التهميش قد حكمتم عليه حتما بالنسيان أنتم مهمّشي الدرجة
الثانية.. ثم صمت ابتلع لسانه..لم يكن لقصّته من إثارة كان عليه أن يمر
كصبي لحلاق الحي كي يُتقن ثرثرتَ الغشاوة على أعين الزبناء..بينما صمته
الطويل أمام الأحذية جعله يعرف طباع الناس من طريقة ربطهم لشرائط
أحذيتهم...
ويده تجري فوق سطح الحداء ، بدأت قطرات المطر تنبطح على سطح هذا
الفضاء الزنديق الذي لا يُنبث سوى الاسمنت ..الكون يجري..تبتل الدرهمان في
يده، مكسب زهيد يُسكت حظه النائم، في صدره تراتيل وحشرجة.. تعاوده الدوخة
مرّة أخرى..الأشياء تقترب منه وتبتعد.. الهواجس لاتفارق رأسه المملوء
بالهذيان الذي انفلت من رقابتي عليه ..إنه يقترب منّي.. فهو يريد أن يهمس
في أذني أن داخله يأمره بالتنكر الأعمى لمملكة أحلامه الكسيحة.. يتحكّم في
الزمان..زمن هيّج الاحتفال بآخر ليلة من وهج العام الحالي..
ـ يجب أن تحتفل.. أن نحتفل يا سباطة ..يجب أن...يجب..
ترامى بأذنه صوت جاره الإسكافي وهو يدفع عربته المليئة بالأحذية
البالية نحو مخبئه..
- الليل تختّر " نعم يجب أن تحتفل ..ها ها ها ، زمَّ شفتيه.. زوج
حداء آخر وسيرحل إلى عالم الأحلام..راح في تفكير ثم ردد " يا ريت"
الكل من حوله لم يعد فيه شيء هادئ، بداخله بركان من الرقص والغناء
وهذه الليلة تكتب على صفحاتها الوردية ثالوث النعيم ، الخمر والبغاء
والتّعهُّر...
حدّق شاردا في لا شيء..واحتفل، كل شيء يبتاعه رخيصا ..إنها عجائب
دُنياهم تجيء إليه في حُلمه، ليس لأحلام الشارد ثمن .. لقد ألحّ عليّ مرة
أن أُُرَفِّه عنه من سِجْن الحكي ومنطقِه ..فقد أراد أن يرتاد حفلات "الدّيسكو"
كالآخرين وينام في فراش وثير بمنزل مكيّف معلّق على سقفه شاشة "نوميريك"
كبيرة تسقط منها كل الأجساد ..الجسد الأنثوي في بارابولات(نـ)ـا، بقنوات
إكس..إكس...
كنت أرفض أن أتخيّله كما يتخيّلُ نفسه، كل شيء بالحكي ممكن كأن
أجعله ذات صباح يعثر على حقيبة مملوءة بالأوراق النقدية وأُلغي أخلاقيات
التصريح بها لدى مركز الشرطة كما يصرح بذلك كل وُجهاء المدينة ..
كنت ذات يوم سأسقط في فخ البطل الذي يصرّح رسميا بأنه تقني معلوميات..
لكن للحكي صرامته بالرغم من أن خمرة المخيال تفعل بالسارد الأعاجيب...تابعت
وأنا أتأسف على انحدار دموعه من المآقي..
تكوّم بعد ذلك في الرُّكن كالزّبالة بلا حدود ، اقشعرّ بدنه من
لسعات البرد التي تقتطع من جسده الحرارة ورعشة الأطفال في حضرة طقوس
الاستماع إلى خرافة "مَمَّا غولَه" ، لفَّ عباءته البالية حولهَ وغمغم في
إعياء..
ـ حتّى الخطيئة تجد مكانا تستقر فيه...
بدأ يراجع ذكرياته، اكتشف أن معظم ذكرياته أحداث صغيرة وتافهة،
كالجواب الذي لا يعرف غيره ، جئت من حيث لا أعرف ..
بحث لشجونه عن كفن، انتصب في ضلوعه الخريف وفي رأسه خرائب الذكرى،
ازداد انكماشا بالركن كأنّما يفر من نفسه،من فجر العام الجديد،دخّن سيجارة
بداخلها حشيش ، ثم غاب يتفرّج على أحلامه..
كل من مرّ في صباح اليوم الموالي بحي العوّادين يرى في أسفل الحائط
انتفاضة من بقايا ورق السّجائر .. وطعم الحشيش ..
اليوم فقط .. استيقظ قبل الريح وهو يعرف أنّ المارة و...أعينهم
مغمضة من كثرة السهر سيقولون له تلك الجملة التي كرهها من أعماقه......كل
عام وأنت بخـــــــــــيــــــــــــــــررررررر
ألا تدري.. أنا سميحة
وقفت ممشوقة القد.. يبدو على محياها وقار مصطنع شحدته تفاصيل الأيام
التي تراكمت فوق عينيها..
دخلت عمارة كان يسكن فيها أحد من تربت على يديه ..كل التفاصيل ما
تزال قابعة مستسلمة لم تتحرك إلا في واجهة الأشياء..حتى طُعم المرارة التي
كانت تجده كلما نزلت من شقته لم يبق له نفس الرنين... وقد التصقت آنذاك
معاني الأشياء لديها في البدء بمعرفة معنى الاحتلال لغة واصطلاحا ومعنى
الشرف ..والمبادئ ..والنضال ووو ..
وهي الآن قد جاءت بعد ثلاثين سنة لتحيي معه ذكرى الايام الخوالي..
طرقت الباب..سمعت صوتا مبحوحا يجيبها بمشقة وراء الباب..من
الطارق..قريب أم غريب.؟
ردت وفي صوتها غنج واضح القسمات..ويلي..افتح وسترى.. خايف يا أستاذ
..ولاّ إيه.. قريب طبعاااااااااا..
فتح الباب على مصراعيه ..بدت عليه الدهشة و الاستنكار من جحوض
عينيه.. تسمر في مكانه يتأمل امرأة في خريف عمرها ..ناضجة تلبس من أحدث
مودة ..فالديباردور الوردي لا يلائمها أما الميني فونتر الأبيض فقد مسخها
... وتركها بدون هوية..
تصنَّع الصبر ثم قال ... يا مرحبين ..حضرتك مين .. وعايزة مني إيه..
شهقت بابتسامة عريضة ثم قالت ألا تدري يا أستاذ ..أنا تربية يديك
... لقد عجنتني طفلة ثم شابه ..فكنت جميلة في أخلاقي ..أنشد الحرية من سجني
..كنت مناضلة في شرودي..في صمتي وفي غضبي ..لكنك تركتهم يخبزوني كيفما
شاؤوا ..فأصبحت كما ترى ...يقاسمني الاحتلال لغة العينين ..ويستبيح من جسدي
أشجاره ...ومنذ طعنته الأولى وأنا مدمنة على كل طعناته ..وقد كنت تقول لي
أن الاستسلام الأول ..حينما يتسلل إلى تاريخ العرب ..ستصبحين نبتة بدون
جذور..كيف خانك خيالك وآمنت بوضع السلاح..وتركتني عارية ألتف بعباءتي
..وأختبئ من عذريتي..أنت ظالم يا أستاذ ..ألا تدري أنهم حولوا تقاطيع جسمي
إلى دمية وتفاصيل اسمي إلى طفولة مشردة .. وما تنفع الحجارة التي راودتَها
في كتاباتك.. الخنجر يقابله الخنجر ..وما حجارة الجدار الذي هدموه فوق رأسي
سوى فاتحة حزن طويل مفتوح على الأطلال......أنا كبرت الآن ..وجئت فقط يا
أستاذ زكي لأعلمك بقراري.. وقد رفعت عليك دعوى قضائية ستصلك استدعاؤها مع
أحد الحوامات التي تمر أما م تلفازك ..
لم يتركها الأستاذ أن تُتْمِم لَمّ جراحها حتّى صرخ في وجهها..حَدَّ
الله ما بيني وبينك يا شيخة... معاد الله أن أكون قد خبزت مثلك يوما ...
ألم تقرئي روايتي..زمن الغياب ..التي كبرت مع السلاسل..كانت فيه البطلة
تغني للحرية ..وتحلم بالتجوال في المدينة باسم كل النساء...
قرأتها بكل جوارحي .. وأسردها عند كل مساء لمن يتنزه في جسدي ..
قال وهو يهم بإغلاق الباب...من أرسلك عندي ..كيف تعرفين كل تفاصيل
حياتي ...ألا تدري أنني كاتب فقط..لم أخبز أحدا ..لقد غلطت في العنوان...
تابعت في لهفة...أستاذ ..أستاذ زكي ألا تعرفني ...ألا تدري أنك أنت
الذي خلقتني..أنا سميحة..
|