عمق الأزمة
-ما من أحد يدرك عمق الأزمة. أن يكون ثمن فنجان القهوة في أحقر مقهى
في وسط البلد أزمة لا يمكن تخطيها، فلا تقولي لي، أنه لا يوجد خطأ في مكان ما..
هكذا قال لي صديقي شاعر العامية المخلص جدا لإنسانيته. ومنذ تلك
اللحظة وأنا أتساءل بيني وبين نفسي، هل ينبقي دائما أن تركب السياسية على
الأدب؟ وهل ينبغي أن تنبع أي ثورة من منابع الفقر؟ ثم إن هناك شيء أفظع، وهو أن
تلك القهوة التي يتحدث عنها صديقي، بنها مغشوش أصلاً، فهل ينبغي من البداية أن
أدفع ثمن غش أصحاب المقهى لي، وكأنها خدمة يقدمونها لي مقابل ثمن ما ينبغي أن
أدفعه؟
اليوم تذكرت كلمة صديقي هذا بينما أجلس في الطابق الأعلى لحزب
التجمع في ميدان طلعت حرب، أنظر من النافذة الألوميتال الى سيارات الشرطة
المتكدسة على رصيف جروبي ثلاثة صفوف وأقول لصديقي الفنان التشكيلي الذي اصطحبني
إلى الحزب: ألا يعتبر هذا إشغالا للطريق؟ دول راكنين صف تالت يعني! المفروض
نبلغ عنهم شرطة المرور..
صديقي الفنان التشكيلي "المستقل"، المنضم إلى حزب التجمع، وأصدقائه
في الحزب الذين ذهبنا لزيارتهم قبل المظاهرة بساعة، لم يضحكوا.. نظروا لي
وكأنني أقول شيئاً بائخاً جداً.. ثم أخذوا يتحدثون عن أهمية عدم اشتراك الحزب
في ترشيحات الرئاسة، وعن أهمية تفعيل دور الحزب في دعم الحركات السياسية
المستقلة.. لكنني لست هنا أكتب لأتحدث عن هذه الأشياء، فهي بالنسبة لي طارئة
وليست أساسية ذلك لأنني ذهبت من صديقي الفنان التشكيلي إلى حزب التجمع كنوع من
أنواع المجاملة ورغبة مني في رؤية منظر الشارع المكدس بسيارات الأمن المصفحة من
طابق علوي. كنت أريد أن أرى المنظر كاملاً..
في مقهى الحرية بباب اللوق، كنت أجلس ذلك الصباح ذاته، عندما دخل 12
فرد يرتدون ملابس "مدنية" ويبدو أنهم منقسمين بين لاعبي كاراتيه ولاعبي بوكس أو
ما شابه.. أنا أذهب إلى مقهى الحرية كل يوم تقريبا، وهذه هي أول مرة أراهم
فيها.. دخلوا جميعا معاً، وبنظرة يبدو عليها إنهم مستعدين لتكسير المقهى لو
اعترض على وجودهم أحد. دخل عليهم "وليم" القهوجي وسألهم: تشربوا حاجة يا بهوات؟
المشاريب علينا طبعاً.". فرد وحد منهم 6 ببس و6 فيروز" فرد عليه وليم بتذاكي
وهو يرمي لي نظرة جانبية كأنما يريد أن يحذرني منهم عالماً بأنني قد لا أنتبه
من تلقاء نفسي: "الباشا شكله مش غريب، ألا هو الاسم إيه؟"
كنت ساعتها أفكر في فؤاد عبد المجيد، هذا المتصوف الفنان.. وكانت
على لساني أحد مقاطع أغانيه التي يكللها صوته الهامس بروح من التواضع والمحبة:
"نحن في بحر نعاني، كل صب في اتجاه، ليلنا وجدا نغني، كل شادٍ ما شجاه"
أنا أيضا كنت أغني ساعتها بصوت هامس، بينما أنظر إلى القهوة
المغشوشة المقدمة لي، والتي أتيت خصيصاً لشربها، وأنا أعرف: سيأتي أحد الأصدقاء
حتماً، وسيدفع لي ثمنها. بينما أحدثه عن الجمال المعماري لمنطقة ميدان طلعت حرب
(سليمان باشا سابقاً) ذلك الجمال الذي تغطيه اللافتات النيون الفاقعة والتراب
والسيارات المصفحة التي لم تأخذ من الزيتون سوى لونه، وعساكر الأمن المركزي
المحشورون بداخلها كأسود رومانية تم تجويعها عمداً لتنتظر لحظة إطلاقها في حلبة
المسرح.
أضيفت في 17/10/2005 / خاص القصة السورية
أحلامي
عندما كنت صغيرة، حلمت. لم أكن بعد أعرف معنى ذلك. ولا أعرف المرادفة التي تعبر
عن هذه الأشياء التي تحدث لي بعد أن أغمض عيني بقليل. لم أستطع أن أسأل أمي:
"أماه؟ أنا أحلم. فهل هذا طبيعي أم أنني مريضة؟" لم أستطع، لأن كلمة "حلم" لم
تكن بعد دخلت قاموس الكلمات التي أعرفها. لكنها بدأت تحدث لي وأتذكرها. ولا
أعرف من اين أتت. الصراحة انني لم اكن أتخيل أن الأحلام تأتي للواحد. كنت أظن
أنني عندما أنام يأخذني السرير إلى مكان ما، ثم يعيدني في الميعاد المناسب
للاستيقاظ للذهاب إلى الحضانة. لذلك، في الصباح ، كنت آخر من يزيح عن رأسه
الغطاء لكي ينزل من السرير: كنت أخاف أن أفتح عيني بينما أنا في أحد الأماكن
التي يأخذني السرير لها، فأتوه ولا أعرف طريق العودة إلى البيت وحدي. أفتح عيني
بعدما أسمع أصوات كل من في البيت وأميزها جيداً.
وكنت أحب تلك الأماكن وهؤلاء الأشخاص وتلك الأحداث التي يعرفني عليها سريري..
حتى أنني كنت أربت على سطح سرير عندما أستيقظ وشكرها - كنت أظن السرير مؤنثاً –
وكنت أظنه أمي. لم أستوعب أبدا في هذا السن أن لكل واحد أم واحدة وأب واحد.
كانت أمي أمي، وجدتي لأمي أمي، وسريري أمي، وأسوان أمي، ورأس البر أمي، والشجرة
التي ترتكن بجزعها على شرفة حجرة نومي أمي.... وكان أبي أبي. والأقصر أبي،
والبحر أبي، وبيانو المدرسة أبي، بل إن القمر الذي أراه يزول في الفجر من شرفة
الصالون أبي، كذلك المقعد البني المخملي الوثيل الذي أحبه قرب مدخل شرفة
الصالون.. كلهم كانوا آبائي.. يبدو لي أيضا أنني لم أكن أستوعب فكرة الأسرة
الواحدة. فقد كان لي إخوة أيضاً ألعب معهم، هم الصلصال والتلفزيون والمنبه وعلب
دواء جدتي لأمي ومكحلتها النحاسية اللون، الملابس التي أختارها...الخ.. بل وكان
لي أطفال أيضاً. أريد إبنا من الشيكولاتة، فآكل الكثير من الشيكولاتة حتى تكبر
معدتي وتلدها لي.... وكانت أصابعي لعبي. أصابع يدي وقدمي على حد سواء. أغرسها
في أخي الصلصال حتى نلعب بها معاً..أدورها وألففها حول خيوط السكوبيدو صديقي.
أجعلها تتحدث إلى أبي البيانو وتحتضن أبي المقعد وتختبر درجة حرارة أمي الشجرة
بالضغط على لحائها. وكنت أحيانا أستلقي على ظهري، وارفع رجلي وأجعل من يدي
ورجلي اشجاراً تتحدث أغصانها إلى بعضها البعض، عن الغابة التي نمَت على
أطرافها، عن الهواء الشديد الذي يعصف بها بحيث يجعل أوراقها (أصابعي العشرين)
تعصف على فروعها (ذراعي وساقيّ) التي تتمايل بعنف تكاد معه تنقصف.. هكذا كنت
أحاول أن أشكر سرير.. بأن ألعب هذه اللعب فوقه أو تحته، أو مستنده إليه حتى
آخذه معي إلى أماكن ما أخترعها له، مثلما يأخذني وأنا نائمة إلى أماكن يعرفها
ويطلعني عليها.. لكن أول لعبة جعلته بشاركني فيها، كانت "رأيي". حيث كنت أجلس
على السرير أهرش شعري بيديّ الاثنين بينما أخرج خرج لساني وأحاول أن أراه وأن
أصدر به أي صوت وهو خارج هكذا عن فمي..
عرفت كلمة رأي قبل أن أعرف كلمة حلم، وكلمة شرود. حدث ذلك في سن الثالثة. كان
أبي قد اخترع تقليدا في الأسرة وهو أن يكون هناك ساعتين كل خميس، من الساعة
الخامسة حتى السابعة مساءً، يجلس فيها كل أفراد الأسرة الأكبر من ثلاث سنوات.
في هذه الجلسة الأسبوعية يقول فيها كل واحد ما يضايقه من الآخر ويناقشه في حضور
الآخرين حتى يتوصل المتخاصمان إلى حل يصفوا بعدها الجو بينهما. في هذه الجلسة
أيضا يمكن لمن شعر خلال الأسبوع أنه أخطأ في أمر ما، أو هناك أمر يؤرقه طوال
السبوع ولا يفهمه أو لا يجد له تفسيرا، أن يعرض على الجميع هذا الأمر ليناقشوه
معاً. وفي هذه الجلسة أيضا، نناقش مصروف البيت الأسبوعي، ونختار حسب الظروف
المادية وظروف الامتحانات نوع الفسحة الأسبوعية التي سنقوم بها يوم الجمعة.
عندما أتممت الثالثة من عمري. بدأت أداوم على حضور مجلس الأسرة هذا المنعقد
أسبوعيا. لم أفهم ما يجري. لكن أبي سألني: "وانتِ ما رايك؟" نظرت إليه ببلاهة
واندهاش. لم أفهم معنى الكلمة. كانت أول مرة أسمعها. نظرت لأمي أستفسر. قالت:
"يا حبيبتي. هذا أمر طبيعي جدا. تحدثنا هنا عن أشياء ونريد أن نأخذ رأيك". كان
ردي بالنفي. قالت أمي: "إذاً أنتِ لا توافقين."
قلت: "طبعاً لا أوافق! رأيي تخصني وسألعب بها وحدي. ولن أسمح لأحد أن يأخذها
مني. فقط أرجو منكم إذا كانت فعلا هذه "الرأي" لي، أن تخبروني أين أشتريها وبكم
هي حتى أدخر من مصروفي ما يكفي لآخذها معي إلى حجرتي."
كانت أيضا كلمة "مصروف" كلمة جديدة. لكنني عرفتها قبل كلمة رأي، واعتدتها
بسرعة. فقد كانت كلمة تتكرر على مسامعي يومياً. قبل الدخول إلى باب الحضانة،
يقول أبي :"خذي يا حبيبتي، هذا مصروفك. اشتري به ما تشائين."… كنت أريد أن
أشتري رأيي. لكني لم أجده في كانتين الحضانة، ولا عند "عم شعبان" بائع الحلوى
المجاور، ذلك الرجل العجوز الطيب الذي لا تفارقه ابتسامته التي تعلن عن فم بلا
أسنان تقريباً، والذي كان عنده دائما لبان السجاير، والربسوس والشيكولاتة
المسكوكة على هيئة عملات، ولا عند محل "صباح الخير"، محل لعب الأطفال الموجود
في ركن الشارع، والذي كنت أظن ان اسم صاحبه "صباح الخير"، هناك كنت أجد الصلصال
الذي أحبه، والدفوف البلاستيكية الصغيرة، والبيانو اللعبة الذي يصدر أصواتا
تشبه الاكسليفون، والاكسليفون نفسه مثلما أجد خيوط سكوبيدو البلاستيكية
الملونة، والخرز وخيط السنارة. لكنني لم أجد رأيي.
لم أستطع الانتظار إلى الاسبوع التالي لكي أطرح محنتي في مجلس الأسرة. بعد أيام
قليلة وبينما يأخذني أبي معه مساءً لشراء العيش الفينو والتمشية قليلا بحزاء
النيل، قررت أن أخبره بالموضوع. فهو الوحيد في الأسرة الأسمر مثلي تماماً. وكان
هذا يعني لي، أنني عندما سأكون في حجمه سأصبح هو. كنت في تلك الفترة لا أميز
الناس باعتبارهم أطفال وكبار، ولا بنات وأولاد. كان الناس عندي يتميزون بأحجام
الجسم، وألوان الجلد. قلت له كيف أنني بحثت عن رأيي في محل اللعب، وفي محل
الحلوى، وعند البقال وفي الصيدلية، ولكني لم أجده عندهم. كل ما وجدت هو أنهم
يضحكون. فهل رأيي هذا يدغدغ؟ وأنني عندما أجده سأضحك مثلهم؟ ثم أين أجده؟..
ابتسم أبي. كان هذا أول حوار حميم بيننا. وبعدها توالت الحوارات.. قال أبي: "يا
حبيبتي، رأيك لا يمكن أن تشتريه. رأيك تجديه بداخلك. يجلس في رأسك ويخرج من
لسانك." أخذت أهرش في رأسي ثم بسرعة أخرج لساني وأحاول أن أنظر له وهو خارج فمي
لكي أرى رأيي.. لكن والداي كانا يقولان إنه من العيب أن نهرش هكذا أو نخرج
لساننا أمام الناس.. فصرت ألعب برأيي وحدي في حجرتي، وعلى سرير العزيز…
باب العالم ونافذته
سحب رجل أسمر مفتول العضلات الباب الحديدي الأخضر الكبير. كان جلبابه معقوداً
بصورة غريبة عليّ بحيث يخرج من فتحة الجيب. وكانت يده الضخمة بلون الشيكولاتة
تهز جنزير الباب، فتحدث صليلا يثقب طبلة أذني. لم يزعجني في الصوت سوى ارتفاعه،
مثله مثل كل شيء حولي، كان مرتفعا بحيث لا يمكنني أن أطاله. لو كان هذا الصوت
أكثر خفوتا لكأن أشبه بصوت إلقاء قطعة معدنية في ماء النهر. وكان سيصبح جميلا.
عندما انفتح الباب، بدت حديقة صغيرة وجميلة من الصبارات الضخمة، يمكن للواحد أن
يختبئ خلفها. لم أكن خائفة. ولا سعيدة. كنت ألمس كل ما يمر بي. على بعد بضعة
سلالم وقفت قاعدة تمثال من الرخام الأبيض، فوقها تمثال يالحجم الطبيعي من المرر
للعذراء والطفل. لم أكن ساعتها أعرف أنه تمثال العذراء والطفل. لكنه كان حانيا
جدا ومريحا. لولا أنه أبيض هكذا.... كان لونه يقف بيني وبينه. فأنا بسماري،
عندما أكبر لن يمكنني أن أصبح هذا التمثال. كان التمثال عاليا جدا بحيث أنه بدأ
يختفي عن عنيني كلما صعدنا السلم. استطعت أن ألمس القاعدة الرخامية فقط. كان
عليها لوحة معدنية بلون جميل ومريح (عرفت بعدها أسماء المعادن وعرفت أن اللوحة
كانت نحاسية) عليها كتابة بارزة كانت تدغدغ باطن كفي وأنا ألمسها بحيث عرفت
إنها تحدثني. شعرت بعناقها. ولم أفهم معاني الحروف اللاتينية.
دخلنا حجرة صغيرة قابلتنا فيها امرأة قصيرة الشعر، نحيفة وطويلة وسمراء. انحنت
نحوي وربتت على شعري. فتحت باباً أبيض في الجدار المقابل وقالت: "يمكنكم انتظار
دوركم هناك." أعطت ورقة لأمي. جلسنا في الحجرة الرخامية المقابلة على مقاعد
خشبية ملساء بلون الشيكولاتة أيضاً. سألني أبي: "يعجبك المكان؟" فأجبته: "نعم"
بينما أهز قدميّ وأحاول أن تتمكن عيني من رؤية السقف. كان السقف شديد العلو
والبياض بحيث يحتاج الكثير من التركيز لكي أراه. وكانت النوافذ طويلة وعريضة.
تطل على الشارع خارج المدرسة.
مشينا تتقدمنا راهبة عجوز بزيها الرمادي الفاتح اللون، وبانحاءة ظهرها التي
جعلتها قريبة مني أكثر من أي شخص آخر، نجتاز ممر إلى آخر، ونصعد سلما لآخر. حتى
وصلنا إلى باب حضرة الناظرة. هنا قالت الراهبة العجوز ذات البسمة والانحناءة:
"حظ سعيد". ابتسم لي وغمزت بعينها ثم رحلت. ظرقت أمي الباب والتقطت يدي. دخلنا
أولاً ثم دخل أبي. كان في الثالثة والأربعين من عمره.
أمي أعطت الورقة الصغيرة للراهبة الجالسة خلف المكتب الأبيض العريض (حضرة
الناظرة) أو كما يسمونها في المدرسة "الراهبة العليا". نظرت الراهبة من تحت
نظارتها ذات الإطار البلاستيكي الأسود العريض، إلى الورقة. أخرجت ملفاً من بين
الملفات الموجودة على مكتبها وبدأت ترح بعض الأسئلة على والديّ. كانت أمي
تجيبها متحمسة وبينما تفعل ذلك تحاول أن تجلسني على رجليها بينما أنا أتشبث
بالوقوف لامسة بيدي مقعد أبي. ومواجهة بنظري وجه الراهبة العليا تارة، والحوش
الواسع للمدرسة تارة. ذلك الحوش ذو الشجر الكثيف والعشب وأيضاً تمثال آخر
للعذراء والطفل تطابق تماماً تمثال المدخل. في تلك اللحظة ظننته التمثال ذاته
وقد جاء إلى حيث يمكنني أن أنظر إليه من النافذة. وكأن هذا التمثال الحاني
المفرح لولا لونه الذي يشعرني بلأسى على نفسي، يريد أن يكون بجانبي. لم يكن من
الصعب علينا أنا والتمثال أن نتبادل الحديث، فأنا أعرف لغة الصامتين: تعلمتها
من جدتي لأمي ذات النصف المشلول، والتي تحدثني بالنظرات. كانت صحبة التمثال
مفرحة وجميلة. ولم أدرك معها متى رحل والداي. فقط ودت هذه السيدة خلف المكتب
ذات الزي الغريب تنادي اسمي مرارا وتكرارا حتى أنتبه لها. نظرت إليها أخيراً.
أخذت تطلب مني أشياء عجيبة وتافهة مثلا: تضع أمامي كرات من الحلوى الملونة
وتسألي ما هذه وما لونها.. أو تقول لي: معنا برتقالة وبرتقالة فما حصيلة عدد ما
معنا من البرتقال.. كيف أقول لها إننا ليس معنا برتقال أصلاً وأنها تكذب؟ أنا
الضيفة عندها وينبغي أن أكون مهذبة.. تطلب مني أن أجلس حيث كانت أمي تجلس
مسبقاً وأن أرسم لها شيئاً.. كيف يمكنني هذا والمقعد موضوع بحيث يلامس جنبه
الخشب الأمامي للمكتب. ولو جلست عليه لن أتمكن من الرسم لأن الورقة التي تركتها
لي على المكتب يستدعي لكي أرسم عليها أن ألوي جسدي بحيث لا يمكنني أبداً أن
أفعل.. من الغير منطقي أن أقبل ما تطلب مني، ومن غير اللائق أن أرفض.. بقيت
صامتة. سألتني إن كان عندي أصدقاء؟ هل علاقتي طيبة بأختي؟ هل أنا أحس أنني
وحيدة؟ كيف أجيبها على هذه الأسئلة؟ ليس من اللائق التحدث عن أمور البيت
للغرباء، أليس كذلك يا أمي؟ لكن أمي ليست هنا. اختفت فجأة هي وأبي وتركاني مع
هذه الغريبة التي تعجبني نظرتها من تحت النظارة بصورة ما. وأحس إنها شقية وتريد
أن تلعب معي. لكننا لسنا أصدقاء بعد.. بقيت صامتة إلى أن نبقى أصدقاء. ويبدو
أنها تفهمت هذا جيدا. بدا لي أنها تعرف هي أيضا كيف تكلم الصامتين. وفرحت بذلك
جداً. أخذت أحد الجرائد وبدأت تقرأ غير مهتمة بي. لكنها لم تطلب مني الانصراف..
كنت أريد أن آخذ واحدة من قطع الشيكولاتة التي أمامها. وكنت أيضا أريد أن
أنصرف. لكنني لم أكن أريد أن أقطع عليها قراءتها للجريدة. اخذت قطعه الشيكولاتة
ووضعتها في فمي بورقتها الخارجية وجريت خارجة، أعبر الممرات والسلالم التي
عبرناها مسبقا إلى أن وصلت إلى سيارة أبي. لم يكن والداي هناك. وقفت عند
السيارة وأخرجت الشيكولاتة من فمي. فتحت الورقة وأكلت الشيكولاتة بسرعة قبل أن
يلحظ سرقتي لها أحد. ظهرت أمي مفزوعة قالت : انت هنا؟!.. فأجبت : "نعم" أخذتني
وصعدت إلى المدرسة مرة أخرى. رجت الراهبة العجوز أن تصطحبنا مرة أخرى إلى حضرة
الناظرة. طرقت أمي الباب بينما أبي يكتشف ورقة الشيكولاتة في يدي بينما يريد أن
يمسكها. قلت: "لم أجد شلة مهملات...". عندما دخلت شرحت أمي للراهبة العليا
لاهثة كيف أنها تخيلت أنها فقدتني وأنها وجدتني في النهاية عند سيارة أبي. قال
أبي إنه وجد غلاف الشيكولاتة هذا في يدي. نظرت لي الراهبة العليا من تحت
نظارتها. ولوحت لي بيدها كيف ألف حول المكت وأذهب إلى مقعدها. ذهبت. قالت:
"لماذا لم تطلبي الشيكولاتة مني؟" قلت: "لم أكن أريد أن أقطع عليك قراءتك.
ولهذا أيضا خرجت دون إذنك." قالت: "هل دلك أحد على الطريق؟" أجبت: "لا." نظرت
إلى الملف الأصفر أمامها وقالت بينما تكتب: " نقاط ضعف: فقدان الرغبة في
التعبير عن الذات. التصرف بدون استشارة الكبار. الانطوائية. نقاط قوة: حسن
التصرف مع الصراع الداخلي. القدرة الفطرية على التعلم. ميزة خاصة: البراعة في
التعامة مع الاتجاهات. أوافق.
عانقتني أمي بشدة بحيث شعرت إنها تريد أن تدق عظامي. وأخذت تلقي علي كل كلمات
المديح الممكن كأنها تريد أن تخجلني عن عمد، وتنهال عليّ بالقبلات المبللة
المقززة. نظر أبي لي وابتسم. وقفت الراهبة العليا وقال لي: عندما تأتين إلى
هنا ستعرفين كيف تجدين الطريق وحدك إلى مكتبي لو قابلت أية مشاكل." مدت كفها
لي وقالت: آنسة بهلول، يمكننا أن نصبح اصدقاء." صافحتها بابتسامة مرتاحة، بينما
لم تكن راحتى كافية لكي أطلب منها كأصدقاء أن تقرضني نظارتها لكي أرى من خلالها
كيف تراني.
موسى يخطط حرباً
كانت أحلامي الأولى قصيرة وكأنها مقتطفات من أحداث طويلة. ذات مرة كان موسي يقف
عند باب حجرة أسمنتية رمادية بلا طلاء، يخطط حربا. وكان الأعداء بالخارج
يتوعدونه هو وقومه. كان موسى يقف ظهرة للفتحة التي سيحل مكانها باب عندما يكتمل
طلاء الحجرة. وثلاثة رجال آخرون يقفون أمامه، ظهرهم لما سيكون لاحقاً الشرفة.
وكان يحدثهم بهمس وذعر واضحين على ملامحه. لم يكن أحد منهم يراني، وإلا لماذا
لم يوجه لي الحديث أحد. لم أكن حتى ذلك الحين شاهدت نفسي داخل حلم ما. لكنني
كنت أعرف أنه بما أنني أرى ما يحدث فأنا موجودة، وربما يقتلوني لو شاهدوني. أو
يخطفوني فلا أستيقظ في الصباح في بيت أبي. كان يبدو أن هؤلاء الأربعة هم الذين
استطاعوا الفرار من حادث ما مريع، وأن بقية جيشهم قد انخرط في المعارك بحيث لا
يمكن معرفة ماذا حدث له..
استيقظت مفزوعة. كدت أصرخ. لولا أني سمعت صوت أبي في حجرة الصالة يقرأ القرآن
كعادته في هذا الوقت المبكر من السحر. نظرت حولي. كانت الحجرة مازالت تهيم في
الإضاءة الأسطورية لهذا الوقت من اليوم، إضافة إلى نور الصالة الذي يصل طيفه من
عقب باب الحجرة، وكأن الشمس تشرق أسفل. كان أبي يقول فيما معناه : "يا بن أمي
لا تشد لحيتي". نظرت إلى الحجرة مرة أخرى. كانت أبعادها هي ذات أبعاد الحجرة
التي كان يقف موسى عند بابها، أي في ذات الاتجاه الذي أضع فيه رأسي. الفارق
الوحيد أن الحجرة التي أنا فيها مفروشة وعلى جدرانها طلاء. خرجت إلى الصالة
وجلست بالقرب من أبي. صمت أبي عن القراءة عندما لمحني. سألني لماذا أنا لست
نائمة فأجبته: هل تعرف واحداً اسمه موسى؟ فضحك أبي وقال: "كنت تتصنتين عليّ؟
موسى هذا أحد أنبياء الله، وأنا كنت أقرأ حكايته في القرآن." قلت له: أريد أن
أقرأ القرآن. عانقني أبي وقال حسناً.. اجلسي جواري وأنا أقرأ لك." كنت أعرف
أنني ما دمت إلى جواره، فأنا لست على سريري. إذاً لن يعيدني السرير إلى هذا
الفزع في عيون موسى وحلفائه الثلاثة. في المساء، عندما ذهبنا لشراء العيش
الفينو من أجل إفطار اليوم التالي، قلت لأبي ونحن نعبر كوبري الملك الصالح:
"أبي موسى وهارون أخان." قال أبي: "وكيف عرفت ذلك؟" قلت: "من أختى التي في
المرآة. فأنا عندما أحرك يدي اليسرى تحرك هي يدها اليمنى. يعني تفعل العكس.
ولهذا هي أختى التي تشبهني وتفعل عكسي. والآن انظر لفمي وأنا أنطق اسميهما:
مووووساااااا .... هاااااارووووون، في الأول أضم شفتي أولا ثم أفتحهما، وفي
الثاني أفعل العكس.. لذلك فهما شبيهان يفعل كل منهما عكس الآخر.." ضحك أبي لكن
القلق قد ظهر عليه.. بعد صمت قصير قال لي: "يبدو أنني سأبدأ في قراءة القرآن
عصرا أيضاً، حتى تتمكني من متابعتي وأناأقرأ لتعرفي حقيقة الأمور." قلت غاضبة:
" لكنني لم أكذب يا أبي. ما قلته حقيقي أيضاً" قال أبي وهو يربت على كتفي
بأطراف أصابعه: "نعم، حقيقي أننا نفتح فمنا ثم نضمه عند ذكر اسم هارون ونضمه ثم
نفتحه عند ذكر اسم موسى."
فرحت باكتشافي. وفرحت أكثر لأن أبي يعترف باكتشافي. وأنه يمكنني أن أتحدث معه
في هذه الأمور، طبعا بفضل رحلة العيش الفينو الذي نحتاجها كل مساء مادمنا نذهب
في الصباح للعمل وللحضانة.
أستطيع أن أراني
أول حلم أتذكر أنني رأيت فيه نفسي، وكان علي لكي أحكيه أن اقول أنا التي في
الحلم، مثلما أتحدث عن أختي باعتبارها أنا التي في المرآة، كان حلما قصراً
أيضاً. كنت أمشي في صحراء ما. لكن الظل كان في كل مكان. وكنت في الحلم أحدث ظلي
الذي على الأرض عن شيء ما. وكنت جادة جداً ومركزة تماماً فيما أتحدث فيه بحث لم
أكن أرى أين أضع خطوتي. وبينما أمشي في خط مستقيم من الشمال إلى الجنوب أمام
عيني التي تحلم. وظلي على عكسي متعامد على عيني التي تحلم أي متجه شرقا، كانت
هناك حفرة كبيرة وسط الرمال يمكنها أن تبتلع نخلة. وكنت أنا التي في الحلم أمشي
نحوها ولا أراها. وبينما أنا كذلك وبينما قدمي بدأت تشرع في لمس الفراغ الذي
سأقع فيه، جاء دب صغير وجلس في الحفرة، بحيث أنني استكملت المشي وكأنه لم تكن
حفرة هناك. أنا التي في الحلم لم ترى الدب. لكن أنا التي احلم رأيته. كان بلون
الظل في نهار الصحراء.
أطفال الحضانة في المدرسة لهم ركن خاص مسور، به ألعاب حركية كثيرة.
أرجوحات وغيرها مما لا أعرف اسمه. لم أكن أبدا أحب "الزحليقة" لذلك لم يكن
عليّ أن أتكبد عناء الصراع واللكز الذي تقوم به الطفلات لكي تتمكن من اعتلاء
الزحليقة والسقوط من فوقها صراخاً. كنت أفضل لعبة أخرى. لعبة السلالم. سلمان
قائمان يوصلهما من أعلى سلم أفقي. أصعد السلم حتى أصل إلى السلم الأفقي بأعلى،
أدخل من فتحاته وأنا أمسك به، وأؤرجح نفسي مثلما يفعل لاعبي العقلة. لم تكن هذه
اللعبة محبوبة من زميلاتي. لذلك لم يكن أيضا عليّ أن أتكبد عناء الشجار
لاعتلائها. كنت وحدي ألعب على راحتي بلا قلق. أتذكر أنني ذات يوم سألت أمي:
"لماذا لا نعيش على الشجر يا أماه؟" فأجابت: "يا حبيبتي... مثل العصافير؟"
فأجبتها باستنكار: "لا. مثل القرود! ونتأرجح بين الأغصان ونأكل موزا كثيراً
وفول سوداني!" كانت هذه الحوارات تقلق أمي. كانت تشعر بمسئولة مبالغ فيها. فأنا
هادئة جدا مهذبة وأكاد لا أتحرك في البيت، ولا أكسر شيئاً. لكني ألقي فجأة بجمل
كهذه: الحياة على الشجر مثل القرود..
إلى جانب لعبة السلم، كنت ألعب أيضا بلا لعب. فلم أشعر أن بقية الألعاب أصدقائي
لكي أشاركهم أصابعي. كنت أجلس على الأرض الرملية لحوش الحضانة المستقل، وأغرس
يدي في الرمل ثم أجمعه وأنثره. أحفر فيه.. أردمه.. وكنت أعرف أنني لكي أصل إلى
مكتب الراهبة العليا سأخرج من باب الحوش إلى حوش ابتدائي، ومن سوره إلى الحوش
الكبير، أدخل المبنى الذي فيه بلكونة (الإذاعة المدرسية) وفي الدور الثاني بعد
الأرضي، يساراً، الباب الرابع. هناك مكتبها. لكنه كان ممنوع أن تخرج إحدى
طفلات الحضانة إلى حوش ابتدائي بدون أن تصاحبها مشرفة، ويكون هناك سبب قوي
لخروجها مثل رغبتها في دخول الحمام مثلاً.
كنت أجلس بهدوء على الرمل. ذات مرة أتذكرها جيداً. بينما أعبث بالرمل خرج لي
شيء أسود كبير وبدأ يمشي على يدي. كان شكله يدعو للفضول، وكذلك حركته. صرخت
إحدى الطفلات فتبعها الفصل جميعاً جاءت المشرفة ونفضت الشيء المتحرك الأسود عن
يدي وأخذتني لأغسل يدي، ثم صحبتني إلى الفصل. أخذت تعتذر بشدة. وتقول لي إن
الراهبة المسئولة عن سنة أولى وثانية حضانة لو عرفت بوجود هذه الخنفساء في
الرمال ستوبخها وربما تقطع عيشها. وأخذت ترجوني ألا أقول شيئاً. حتى لو قالت كل
التلميذات أنه كانت هناك خنفساء، وأنا نفيت ستأخذ بكلامي أنا لأنني من كانت
الخنفساء على يدي، أي أنا صاحبة الحدث. قالت لي: "أرجوك يا ابنتي اخفي رعبك
قدر المستطاع" قلت: مدام، أنا لست خائفة. لكنني أريد أن ألعب مع هذا الشيء
الأسود المتحرك. إنه يعجبني. عندما يكون على يدي وأوجه يدي ناحية الشمس، يصبح
أسوده فضياً وهذا يعجبني. أين يعيش هذا الشيء وماذا يفعل؟ أريد أن أعرف كل شيء
عن هذا الشيء الجميل" قالت: "لكنه أسود! ليس جميلاً! أسود مثل القلب الأسود
المليء بالأخطاء.. لا ينبغي أن نصادق هذه الأشياء ولا أن نلعب بها. ينبغي أن
نصادق زميلاتنا في الفصل ونلعب معهم. لماذا لا تلعبين مع زميلاتك؟"
في الفصل كنت ألعب المكعبات، والبازل والميكانوا، وأحب الحساب، وأموت غراما في
حصة الصلصال والعجينة البيضاء. كنت أحب الحصص جداً. كنا نتعلم أغنيات فرنسية
نفتح فمنا ونضمه كثيرا بينما نغنيها. كنت أحب هذا اللعب بعضلات فمي. هذا اللعب
الذي يخرج صوتا أيضا منغما من حنجرتي. أحببت الغناء. كان صديقاً جديدا أهداني
ألعابا جديدة. فصرنا نلعب معاً بحنجرتي ولساني وشفتي. كذلك كنت أحب الحصتين
الأخيرتين. بعد الفسحة الكبيرة، تخرج الطفلات اللاتي ينتظرهن أولياء أمورهن.
أما اللاتي سيرحلن بأتوبيس المدرسة فينتظرن حتى نهاية اليوم الدراسي للكبار.
حصتان للنوم. تقف مشرفة الفصل عند مكتب المدرسة. أما نحن فينبغي أن نضع أيدينا
ورأسنا على أدراجنا ونغمض عيوننا. أحيانا تحكي لنا المشرفة قصة ما. وأحيانا
تقول فقط ناموا. كنت أفضل عندما تقول ناموا. هكذا كان يمكنني أن أخترع لنفسي
قصصي الخاصة التي تتشكل أثناء ما أحكيها لنفسي بلا صوت. وبينما الزميلات يتأففن
من النوم هكذا ويبدأن في الشغب. وفي غالب الأحيان كنت الوحيدة في الفصل التي
يمكنها أن تبقى لساعة ونصف "نائمة".
في احد الأيام في نهايات فبراير تم استداء ولي أمري. قالت الراهبة
المشرفة على الحضانة: "خذي هذا الجواب اليوم وأعطيه لوالدتك". فعلت. عندما قرأت
أمي الجواب أصابها الرعب. سألتني: "كيف كان يومك في الحضانة؟" كعادتها. فأجبت:
"يوم حلو" كعادتي. فخرجت أمي عن وقارها وبدأت تنهال عليّ بالصراخ: "أنت كاذبة.
ماذا تفعلين في الحضانة. أكيد فعلتِ شيئاً خطأً. لماذا إذا يستدعونني بخصوصك
هكذا ويريدونني أن آتي بسرعة وللأهمية؟ ماذا فعلت؟" بقيت صامتة. واتهمتني أمي
بأنني أكيد فعلت ما يغضب لهذا فأنا لا أجد ما أدافع به عن نفسي.
يوم الأحد ظهراً جرتني من يدي إلى المدرسة. كان هذه هي المرة الثانية التي أرى
فيها المدرسة جميلة، هكذا بلا تلاميذ ولا صخب. فقط الراهبات وبعض المشرفات.
الممرات الرخامية. الحوش الكبير ذي التمثال الحاني. لكن هذه المرة لم يكن أبي
معنا. ولم نأت إلى المدرسة بسيارته. وأمي كانت تقبض على معصمي بعنف، وأنا
أتجرجر خلفها بينما تسرع هي خطوتها غير آبهة بي. ذهبنا إلى الفصل. كانت الراهبة
المشرفة على الحضانة بانتظارنا. كنت التلميذة الوحيدة وكان يمكنني أن أجلس إلى
أي طاولة أريدها. اخترت طاولة صفراء خشبية مغطاة بالفورمايكا. وأخذت أحك جلد
ذراعي بالفورمايكا البارد الناعم. كان شعورا لذيذاً.. قالت المشرفة لأمي:
"ابنتك ذكية وتتعلم بسرعة. تحب الألعاب اليدوية والرسم بالفلوماستر وستتعلم
الكتابة بسهولة، لأن الامساك بالقلم عندها أمر سهل. أيضاً عقلها يقظ جداً فهي
تحفظ ألحان الأغاني بلا نشاذ وهذا أمر صعب في سنها. كذلك تحل مسائل الحساب
بسرعة مذهلة بالنسبة لسنها. كما أنها يمكنها بسهولة تجريد الشياء. أي عندما
نقول عندنا خمسة كتاكيت وكتكوت تقول خمسة وواحد ستة، ولا تقول تقول ستة
كتاكيت." نظرت لي أمي بينما أنا منشغلة بلمس الفورمايكا، واكتشاف أنه يسخن
عندما أستمر في لمسه. استطردت الراهبة: "المشكلة إنها لا تتشارك مع أحد.
والأهم، هي لا تأخذ حقها أبداً. يعني لو أخذ أحدهم منها قلما ولم يعيده لها، لا
تسأل. أما هي فلا تطلب شيئا من أحد. ثم كيف لا تكون قد كونت صداقات حتى الآن،
ونحن نقترب من نهاية السنة الدراسية؟!.. هذا أمر مخيف. الطفل عليه أن يلعب. ليس
أن يذاكر فقط. وقد لاحظنا أنها في الفسحة لا تلعب مع أحد، وتجلس وحدها دائماً.
هل هي طفلة وحيدة؟" أجابت أمي: "لا أختها هنا في المدرسة في الصف الثالث
الابتدائي" قالت الراهبة: "حسناً انتظريني لحظة" جلست أمي على ركبتيها أمامي،
أمسكت بيدي وبدأت تعتذر عما بدر منها اليوم وبالأمس. عادت المشرفة بملف أختى
وكانت الدهشة واضحة على وجهها: "اختها مشاغبة. تسرق الساندويتشات من زميلاتها
وتضربهم بالكراسي! كيف أنك تسكتين على هذا الأمر؟! صحيح هي متميزة ودائما تطلع
الأولى على فصلها، لكن في مادة السلوك تأخذ أقل الدرجات دائماً. هل يمكن أن
تكون أختها تعاملها في البيت بنفس هذه الطريقة بحيث تعودت الطفلة أن يسرقها
الآخرين دون تزمر منها؟ هل يجعلها هذا تعتقد أن وحدتها وتجنبها للآخرين هو نوع
من الدفاع عن النفس عبر تجنب المشاكل التي قد تحدث لها لو اختلطت بالآخرين؟"
أجابت أمي مذعورة: "لا! لا! أختها تعاملها أحسن معاملة. بل إننا فكرنا في
الإنجاب أصلا مرة أخرى لأن أختها كانت تتمنى أن يكون لها أخت! إنها تحبها جدا
جدا وترعاها بلا كلل!" قالت المشرفة في حزم، أريد أن اسمع هذا من الطفلة نفسها،
أرجوك اخرجي الآن وسأوافيك بعد لحظات."
خرجت أمي والفزع والأسى لم يبارحا وجهها. قالت المشرفة: "حبيبتي، ما
سيقال هنا بيننا سيكون سرا بيننا ولن نخبر به أحدا نحن الاثنين، موافقة؟" قلت:
"حاضر". قالت: "ماذا تفعل أختك معك من الصباح إلى الليل؟" قلت: في الصباح أدخل
الحمام ثم أوقظها لتدخل. بعدها تساعدني في ارتداء الزي المدرسي وتصفف لي شعري
أمام المرآة. شعري خشن ويؤلمني عندما تصففه لي لكن هذا ليس ذنبها. أنا أحب أن
أكون وحدي أمام المرآة، لكنها لا تعرف ذلك. لذلك فوجودها معي في المرآة ليس
ذنبها أيضاً. في المساء ترتب لي حقيبتي المدرسية حسب جدول الغد." ربتت المشرفة
على كتفي وشكرتني. ثم طلبت مني أن ألعب في الحوش حتى تتحدث إلى أمي. دخلت أمي
وخرجت أنا. بقيت قرب الباب. قالت المشرفة لأمي: "هناك علاج نافع جداً هنا.
ابنتك الكبيرة عندها طاقة هائلة، حاولي أن تجعليها تشعر بالمسئولية تجاه اختها
الصغيرة، أثناء وجودهما في المدرسة، وافهميها أن أختها الصغيرة تحتاج لرعايتها،
واجعليها تختار بعض الأصدقاء لها، وناقشيها في هذا الأمر، بحيث تكون النتيجة أن
الأصدقاء الذين يسكنون بالقرب منها ويركبون معها أتوبيس المدرسة هم الأولى
بالصداقة. هكذا يكون لها أصدقاء داخل وخارج المدرسة، وإذا فعلوا لها مكروها
تكون الأخت الكبرى هي التي تدافع عنها. هكذا ستتعلم الأخت الكبرى الاهتمام
بالآخرين، وتستخدم طاقتها في إرساء العدل، وتحس انها متميزة. ويكون أيضا
للصغيرة أصدقاء يخرجونها من وحدتها هذه غير الطبيعية. من الآن حتى الغد سأفحص
داخل الملفات من في سن ابنتك الصغيرة ويركب معها الاتوبيس وأخبرك بكل شيء عنها
تليفونياً."
أصابني الإحباط تماماً. هل ينبغي أن أصادق أشياء متحركة؟...أشياء للتعامل معها
ينبغي أن أتكلم؟ أن أرد على ما يقولون... يا دب أحلامي.. يا حارسي! انقذني من
هذا الشرك...
الجنة، والخديعة البيضاء
في حوش الابتدائي كانت زميلتان لي تلعبان نط الحبل. طلبت مني أختى أن ألعب
معهما. كما طلبت منهما أن تشركاني في اللعب ، وإلاّ... أمسكت كل واحدة منهما
بطرف الحبل وطلبن مني أن أأقفز دون أن ألمسه بينما هما يدورانه لأعلى واسفل. لم
أكن أرغب في اللعب. كنت أريد أن أجلس على السلم وأواصل حواري مع السماء
والأشجار والغربان المتناثرة هنا وهناك.. نظرت لأعلى كانت شجرة كثيفة أمامي،
بينما التلميذتان تحثانني على النط. انفتحت في الشجرة عين ومن داخل بؤبؤ العين
ظهر عجوز بلحية بيضاء يشبه "بابا نويل" لكنه لم يكن يرتدي زيه الأحمر. نظر لي
وهمس صوته في أذني بأن أصعد. لم أعرف كيف أفعل هذا. الشجرة عالية جدا. لكنني
أريد أن أصعد. قفزت لأعلى بكل عزمي.
من عين الشجرة دخلت. وما إن دخلت إلا واختفى الرجل العجوز. لكن أنفاسة وحركة
وجوده كانتا هنا، تماما خلف كتفي الأيسر. وكان هناك طريق طويل تحفه الأشجار من
الجانبين. طلب مني أن أمشي، فصارت الأشجار تعود للوراء. قطف زيتونة من إحدى
الشجيرات. زيتونة سوداء. أعطاها لي. كان طعمها يشبه طهم الأراسيا. ثم وجدت نفسي
مرة أخرى في الحوش المدرسي. لكن البنات لم تلتفتن لي. كأنهن لا ترينني. في ملعب
كرة السلة. في الركن البعيد الملاصق لباب خروج الأتوبيسات، وقف بائع بطيخ،
بعربته الخشبية المتجولة. كانت عباءته ولحيته يشبهان الرجل العجوز الذي يسكن
عين الشجرة. ذهبت إليه. كان بطيخه كله أخضر لامع وجميل، سوى بطيخة واحدة بيضاء
لزجة كأنها دهن. نظرت إليه. لكنه لم يجيبني... قررت أن آخذ البطيخة المختلفة.
وعندما رفعتها إلى يدي اختفى البائع واخفت عربته. وانفجرت البطيخة البيضاء وخرج
من داخلها دود أسود كثيف أخذ يدخل تحت جلدي ويحتل جسمي كله من الداخل. صرخت.
كان صوتي مكتوما. وكانت التلميذات مازلن يلعبن نط الحبل، وكنت أنا التي في ملعب
كرة السلة، ترى "أنا" التي تنط الحبل.. وكنت أنا التي تحلم مذعورة وأريد أن
أخرج من الحلم بسرعة. دخل أحد أتوبيسات المدرسة الحوش الكبير. توجهت إليه
بنظري، أنا التي أحلم، فأعطيت بذلك ظهري للتي تنط الحبل وللتي يغزوها الدود
الأسود، فلم أعد أراهما. كانت حركة الأتوبيس غير متوازنة. وكأنما سيقع من على
جرف ما.. وكنت أقف في الأتوبيس وعمري أكبر بكثير مما كنت عليه وأناأحلم بهذا
الحلم. كنت كبيرة وكأنما في نهايات إعدادي أو بدايات ثانوي.. وكنت أحاول تهدئة
الأطفال الصغار والتخفيف من شده رعبهم وصراخهم.
عندما استيقظت صرخت. استيقظت أمي. وجدتني أنظر إلى يساري وأنهار في بكاء شديد.
سألتني ما بي مذعورة. قلت لها: "الأراجوز الذي على الحائط يعاكسني!" فتحت أمي
النور. نظرت حيث أنظر وقالت لي: "انظري بنفسك. ليس هناك أراجوز. هذه شماعة
الحائط وهذا الزي المدرسي معلق عليها.".. عرفت ساعتها أن ما أراه في الظلام
يختلف عما أراه في النور. وأنه في النور هناك أشياء كثيرة تتنكر في هيئة أشياء
أخرى.. وأنني لن يمكنني أن أقنع أمي بما أرى. عرفت أن الكبار لا يرون ما أراه.
وأنه ينبغي أن ابتعد عنهم قدر المستطاع.
أطفأت أمي النور وخرجت. أغلقت الباب خلفها. نظرت إلى يساري. عاد الأراجوز يظهر
لي. وحدي معه في الحجرة. نظرت إليه مائلة براسي. مال براسه مثلي. ابتسم لي،
وكأنه يتحدى قوتي. وكأنه يقول لي لو استطعت ألا تخافي مني سنتمكن من أن نكون
أصدقاء. وهذا هو التحدي، لنرى إن كان يمكنك ألا تخافي مني. جازفت ونمت في
حضورة. في الصباح وأنا أرتدي الزي المدرسي، كنت أعرف أن الأراجوز موجود بداخله.
وأنه معي في المدرسة. وأنني كلما لمست ثيابي أتحدث إليه.
بعد هذه اللحظة صرت أضع زيي المدرسي دائما على شماعة الحائط. ولو ذهب إلى
الغسيل، كنت لا أهتم. الزي مجرد خدعة. يمكنني ببساطة أن أستحضر صورة الأراجوز
ونلعب معاً. كان الأراجوز يحكي لي حكايات عن كل الأشياء الجامدة. المقعد، سبت
الغسيل، الأحذية، الملابس الأخرى، .. كل شيء جامد. ومع الوقت بدأت هذه الأشياء
الجامدة تعتاد عليّ وتحدثني هي الأخرى، في الليل. قبل النوم. وأنا مستلقية
كالجماد على سريري العزيز.
تعلمت من الأراجوز ألا أخاف من هذه الأشياء. هي أمور طبيعية جداً أن يحدثني
الجمادات.. أن تلعب معي. أن تحكي لي حكاياتها. تدريجياً، صرت أنتمي لعالم آخر
لا يخص الكبار. بسرعة استطعت أن أتخلص من أمي أثناء المذاكرة. وبدأت أذاكر وحدي
منذ النصف الثاني من سنة أولى ابتدائي. صحيح كانت هناك التزامات على الواحد
تجاه هذا المجتمع، منها مثلا، أن يكون لي أصدقاء من البشر من سني، لكن هذه لم
تكن مشكلة. إذ أنها لا تعني سوى أن أعتذر عن اللعب معهم في الفسحة متحججة
بالذهاب إلى الحمام. وأن أبتسم كثيرا يوم عيد ميلادي الذي سينبغي علي أن
استقبلهم فيه، وأن نعمل زيطة. كنت أتركهن يعملن الزيطة وكنت أجلس أنا على سريري
لا مبالية. أبتسم واضحك لأن الأشياء الجامدة المتطايرة هنا وهناك بسببهن تستغيث
بي، وصار التحدي، هو أن تتصرف هذه الأشياء وحدها لتنقذ نفسها.. هذا ما فعلته
ماكينة الخياطة العتيقة ذات الأرجل المعدنية الثقيلة، التي وضعتها أمي في
حجرتي. عندما سقطت علي أرجلها أحدى "صديقاتي"، كسرت الماكينة رجلها وهددت بأن
تقع عليها وتسحقها. هنا لم تعرف صديقتي ماذا تفعل. فلو كانت رجلها هي التي
كسرت – وهذا كان سيعتبر طبيعياً – لكانت صرخت وشتمتني وخرجت لتجد العطف كله من
الجميع والاهتمام المركز نحوها. أما أن تكسر رأسها هي رجل الماكينة الصلبة،
وتقع تحتها، فهذا الرعب كله. اولا، الرعب من وقوع الماكينة فوق رأسها ، والثاني
كيف ستفسر كسرها لرجل الماكينة؟! صرخ الجميع وبدأوا يصحكون: "راسك أنشف من
الحديد يا هالة!" وأخذت هالة تعتذر مندهشة. ومن ساعتها لم تلمس أي شيء في
حجرتي.
صباح اليوم التالي قلت لأمي، أريد أن اتعلم الخياطة. لم أقل لها إن الماكينة
تصرفت بصورة يمكنني معها أن أعتبرها صديقة حميمة، اذ استطاعت أن تعتمد على
نفسها في الدفاع عن نفسها ضد هذه الطفلة الشرسة. لم أقل لها أنني رغبة في توصيل
هذا الاعتزاز الذي أحس به تجاهها أريد أن أتعلم لغتها كي يمكننا أن نتحاور بلا
سوء فهم. ألسنا في المدرسة نكتب بالقلم على قطعة من الورق، تلك اللغات التي
يعلمونها لنا لكي نكلم الفرنسيين والعرب والانجليز؟ لماذا إذاً لا يمكنني أن
أكتب بالخيط على قطعة من القماش أشياء يمكن أن تفهما الماكينة. مثلاً أن أعمل
لها كسوة من القماش الأبيض. أن اسمع صوتها وهي تكر وتتك لي ومعي وبسببي. ولكي
أفهم لغة الماكينة كان ينبغي أن أتعرف على مجتمعها. أصدقاءها. حياتها.. فحتى
ذلك الحين لم أكن بعد دخلت مجتمع أي من هذه الأشياء المحيطة. فقط كنت أستقبلها
في عالمي. عرفت المقص، والكربون، وورق الذبدة، والباترون والمارك والمازورة..
كانت الماكينة كإله ضخم تتجمع عنده وتنتهي خيوط الأحداث التي تحدث حوله. كانت
مهيبة. وكنت أصادقها وأشعر بفخر شديد. عندما وصلت إلى المرحلة الثانوية جاءت
أمي بماكينة جديدة كهربية. هنا توقفت تماماً عن الحياكة وانتبهت لأشياء أخرى.
أضيفت في
06/01/2005
اللعب بالظل
عندما كنت صغيرة. كانت أمي غالباً ما تجدني في أماكن غريبة. بعد بحث مضنٍ مشبع
بالقلق على غيابي واحتمالات اختطافي وفقداني في شوارع لم أكن أعرف أسماءها. كنت
طفلة مندفعة إلى الخارج في نظر أمي، فضولية، ومطمئنة لكل شيء. كانت أمي تقول لي
مؤنبة دائماً:
إنتي فاكره العالم كله أمك وأبوكي؟ فيه ناس أشرار ما يعرفوش ربنا ممكن يخطفوكي
ويغتصبوكي" وكنت أجيبها منجذبة إلى المغامرة بفرحة ساذجة غير فاهمة:
ياه!
وبالرغم من توافر اللعب الكهربية والمعدنية والبلاستيكية لديّ، بما في ذلك من
طائرات ومسدسات ودمى ذوات شعور صفراء مسترسلة لا تشبهني، إلاّ أنها تجد لعبة
ناقصة كل مرة. أقول لها إن اللعبة خرجت. الطائرة طارت. المسدس خرج يبحث عن لص
في العمارة المجاورة. والدمية تلو الأخرى ذهبت إلى مصفف الشعر، الخياطة، لشراء
مستلزمات البيت، أو تاهت وخطفوها ناس ما يعرفوش ربنا. وكلما بحثت أمي عني
وجدتني في النهاية منزوية في ركن الحائط ووجهي باتجاه الجدران. أو تحت السرير
متكومة ألعب بالأتربة العالقة بالأرض، أو مبرومة داخل الغطاء أو متقوقعة في
إحدى حقائب السفر الكبيرة المصنوعة من القماش الخشن. أحياناً، بعد فواصل طويلة
من النهر والعقاب، كنت أضطر أن أجلس في مكان ظاهر للجميع، ساعتها كنت أشكل
بالصلصال الملون قطعاً غريبة اعتبرتها أمي صوراً للعفاريت التي تظهر لي وتريد
أن تسكنني. بقلق زائد كانت أمي تواصل دفعي إلى حيز الضوء. وكنت، بكثير من
الطاعة النابعة من اللا مبالاة، أنظر إلى السرير والدولاب وسبت الغسيل الوسخ
والجدران والسقف، بابتسامة من يثق أن بإمكانه اللعب مع أي شيء.
ذات يوم اختفيت كعادتي. وأخذت أمي تبحث عني في كل الأماكن الخفية التي اعتادت
أن تجدني فيها لكنها لم تعثر عليّ. كان الصلصال متروكاً على الأرض وقد تشكل
بصورة عجيبة. كادت أمي أن تنهار وتصرخ بآيات قرآنية، عل كلام الله يعيدني إلى
حضنها. عندئذٍ سمعت عن يسارها ضجة مفاجئة. ضجة آتية من داخل دولاب الملابس.
فتحته ووجدتني واقعة من أحد رفوفه. قالت لي:
بتعملي إيه في الدولاب؟
باتفرج على الضَلمة يا ماما!
لازم تقلقيني عليكي؟ كان ممكن تغمضي عينك هتلاقي الدنيا ضلمة!
أيوة بس هو حد ممكن يشوف وهو مغمض عينه؟
طيب كنتي تقفلى النور وخلاص!
ماهو لو قفلت النور، بعد شوية هاشوف الأوضة.
تململت ماما، وأظنها قالت لنفسها إنها طالما وجدتني فلا داعي للجدال، لأنني
حتماً سأكسب. فسخرت مني سائلة:
وشوفتي الضلمة خلاص؟ ممكن تطلعي من الدولاب بقى!
أيوة شفتها. كان لونها بني. وخشنة زي فروة الخروف بتاع العيد. بس ماكانش الخروف
إندبح. ما كانش فيه في الضلمة دم.
لم يكن أمام أمي ساعتها سوى الانفعال والتوبيخ لكسري رف الدولاب. أما عن
الظلمة، فلم نتحدث عنها بعد ذلك أبداً. هاجت أمي وعلا صوتها وراحت يداها تخبطان
الهواء وعيناها تتوهجان كعفريت من الخوف عليّ والرثاء لحالي وقد استدرجني الجن
إلى الظلام ليتلبسني. في النهاية، بكت أمي واحتضنتني بينما كنت ما أزال مذهولة
لقدرتها على فعل كل هذه الحركات وقول كل هذا الكلام والتنفس في آن واحد! كانت
في تلك اللحظة عملاقة بالنسبة لي وشديدة العبقرية. غير أن ما جنيته جراء فعلتي
كان حرماني من دخول الدولاب وتحت السرير وحقائب السفر إلى الأبد، بلا مبرر
مفهوم.
لكن هذا لم يمنعني من ممارسة ألعاب أشد خطورة. ألعاب اضطرت أمي بسببها أن تخلع
كل مرايات البيت. فقد كنت ما إن أجد مرآة إلاّ وأقف أمامها. أمد يدي وجانب وجهي
ثم أنفجر من الصراخ والبكاء:
عايزة أسلم عليها! عازة أبوسها!
فتقول ماما:
هي مين دي يا حبيبتي؟
صاحبتي إللي في المرايا!
مين!!!
انزعجت أمي ووقع قلبها في رجلها رعباً من مصادقتي لقريني. أما أنا فلم أكف عن
البكاء والصراخ شارحة لها:
- كل ما أمد أيدي اليمين عشان اسلم عليها تمد إيدها الشمال عشان تغيظني! وكل ما
أحاول أبوسها في خدها تديني بقها وتطلع لي لسانها! أنا ما عملتلهاش حاجة والله
يا ماما! هي بتعاملني كدة ليه؟ ليه مش عاوزة تسلم عليّ؟ هي ما بتحبنيش ليه؟ أنا
باحبها.
هنا تأكدت أمي أن الأمر جد خطير. وإن بنتها الصغيرة ملبوسة فعلاً. فشعرت أن هذا
أمر أكبر من قدراتها على الاحتمال. عند هذا الحد، عرضت الأمر على أبي. لأنني
كنت قد انهرت تماماً ورفضت الطعام واللعب بسبب هذا النبذ الاجتماعي الذي تمارسه
عليّ صورتي في المرآة. كان ذلك يوم جمعة في الشتاء. لكنه كان مشمساً على غير
العادة. دخل أبي حجرتي صباحاً ليوقظني:
صباح الخير يا حبيبتي. قومي. الشمس صحيت من الصبح!
فأجبته بيأس لا مثيل له:
يعني إيه؟ ثم عاودت إدخال رأسي في الغطاء لا أريد أن أرى أو أكلم أحداً. فأشاح
أبي الغطاء عن وجهي وقال لي مشاكساً:
يعني ممكن نلعب مع ضلها.
رفعت رأسي إليه بنظرة متسائلة، فرفع أبي يده إلى ضوء الشمس فانعكس ظل يده على
الجدار المقابل. مد كفه ثم الكف الآخر بحركات مدروسة بحيث يشبه الظل شكل بعض
الحيوانات. وقال:
ده ديب الشمس. ودي غزالة الشمس. الديب بيجرى ورا الغزالة عاوز ياكلها! نعمل إيه
عشان الغزالة تهرب من الديب، رغم إن الدنيا شمس وممكن يشوفها في كل حته؟
وأخذ أبي يحرك كفيه في مراوغة وسرعة جعلاني انتبه. فبدأت أنا الأخرى أفكر
وأحاول أن أشكل بكفي شيئاً وأرفعه في دائرة الظل والضوء:
وده أرنب يا بابا. ممكن الديب يسيب الغزالة ويجري ورا الأرنب؟"
أنزل أبي كفه التي تمثل الغزالة ضاحكاً ولف الذراع الذي أنزل كفه حول كتفي،
مطمئناً لانهماكي في اللعبة ونساني لصديقة المرآة. قال:
وليه لأ!
وانفجرنا حماسة في اللعب، حتى إذا ما اشتبكت يدانا التين تمثلان الذئب والأرنب
في عراك الصياد والفريسة ضحكنا ضحك ذئب طيب عجوز يأكل أرنباً ساذجاً سعيداً.
أدركت إذاً شيئاً جديداً. عرفت أن الشمس مثلها مثل الظلمة، يمكن اللعب بها. قال
أبي إنني يمكن أن ألعب بالشمس صباحاً إلى الغروب، يعني إلى الوقت الذي ترجع فيه
إلى أهلها حتى لا يقلقوا عليها في الظلام. ومع الوقت، تآخيت مع لعبة الشمس، حتى
أنني كنت ألعبها ليلاً فأخذت أرسم شموساً كثيرة في كل أركان الحجرة وجدرانها.
شموسا أعطيها ظهري ليلاً وألعب بظلها. لكن الأمر اشتد تأزماً. إذ لم تكن شموس
الليل مضيئة بما يكفي للعب. الشموس هنا، مرسومة بأقلام فلوريسنت. لكن لا غزالة
تظهر ولا ذئب ولا حتى الأرنب الذي رسمته مرة بالظل على الجدار.
عدت أمتنع عن الطعام واللعب وأقضي اليوم كله باكية تحت الأغطية. أخذ أبواي
يدفعانني للاستيقاظ دفعاً. لكنني لم أكن أجد أي حافز لذلك. ثم مع الوقت نسي
أبواي الأمر واعتبرا أن تكاسلي دلع وسوء تربية منهما لأنهما يجيبان كل طلباتي.
هنا بدأت الكوابيس تظهر لي. كنت أصرخ ليلاً لأن "أراجوز على الحيطة بيضحك
عليّ". فتهرع أمي إليّ وتبسمل موقدة النور لترى أن هذا الأراجوز ليس إلاّ ملابس
الحضانة المعلقة على شماعة الباب. تمصمص أمي شفتيها وتتركني وحدي عقاباً على ما
ظنته رغبة مني في لفت الانتباه. لكنني مع الوقت والحزن والرعب بدأت أحاول النوم
بعيون مفتوحة. فصرت أرى من التعب أثاث الحجرة يطبق على أنفاسي في الظلام
ويتماوج مستعداً للوقوع على رأسي كلما مرت في الشارع سيارة بكشافات عالية
الإضاءة. كانت أشباح الشجر في الشارع تطل عليّ من النافذة فأتداخل في الأغطية
أكثر.
اشتدت عليّ الحمى والعرق والشحوب والنحولة لكن أحداً لم ينتبه، إلي أن فقدت هذه
الذاكرة تماماً وتحولت مع الوقت والحزن واليأس والخضوع إلى تلميذة نجيبة وإبنة
طائعة تساهم في ترتيب البيت. ولا أحد يدرك لماذا في المصائف أترك نفسي من
الخامسة صباحاً حتى الخامسة مساءً بجلدي كله معرض للشمس يختزنها، وفي الليل
أتركه لرطوبة الرمل المبلول والهواء البارد والظلام، صامتة، لا أخبر الكبار
الذين لا يفهمون شيئاً، ولا أصادق غير الطبيعة أحداً.
بعد عشرين سنة من ذلك كله، جاءت إليّ أمي بكريم لتفتيح البشرة وإزالة النمش
وبالخبر السعيد عن عريس ابن حلال ومتدين من عائلة غنية. قالت:
عشان النمش ده يروح. انتي بقيتي عروسة.
ابتسمت متذكرة دمى الطفولة والمسدسات والطائرات. شكرتها ووضعت الكريم على رف
الدولاب. ثم بدأت أحدث نفسي: النمش، بذور الشمس على وجهي التي زرعتها كل هذه
السنين لن يحصدها الكريم. ثم بدأت أحدث الكريم: بتعمل إيه في الدولاب؟ بتتفرج
على الضلمة؟ ثم عدت لأمي التي قالت عائدة بذاكرتها السعيدة إلى بداياتي:
تعرفي؟ كان المفروض تتولدي أول مارس. لكن باين إنك كنتي بتحبي الضلمة جوة بطني
لدرجة خلتك ماتنزليش إلاّ تسعة مارس.
ابتسمت. ابتسامة هادئة وبصوت محايد تعلمته مع مرور الزمن، قلت لها:
آسفة تعبتك معايا تسع أيام زيادة على التسع شهور..باين عليا كنت مشروع حمار
وفشل! انتي عارفة الحمار بيولد بعد عشر شهور
حمار يا بنت الكلب! أنا حمار!
لأ أنا.
وبيدي رسمت لها على وجهي أذنين طويلتين وجعلتها تنظر لانعكاس ظلي هكذا على
الحائط المقابل للشمس، وبدأن أنهق.
سعاد
كأشياء كثيرة يمكنها أن تولد من غيرها ثم تستقل، خرجت شخصية سعاد من جملة لتشق
طريقها في رواية كاملة. يقول الكاتب مثلاً: "كانت سعاد تحسن العزف على
الاكسيليفون، في ركن حجرتها الصغيرة وسط الريف الأخضر." فتنطلق سعاد رغماً عنه
لتختبئ وسط الحقول وتراقب أشكال السحب وتتخيلها حيوانات. تطيِّر طيارتها
الورقية في وقت الظهيرة، ولا تطير طائرتها لأنه لا هواء يحملها. أو تصعد سعاد
سطح الدار لتصفق للحمام العائد إلى أعشاشه في الغروب وتلوح بالعلم الأحمر. ذلك
العلم الذي لن يرمز بالضرورة لشيء على المستوى السياسي أو الفكري. فسعاد لا
تجيد السياسة ولا تعرف شيئاً عن الأفكار. سعاد، تحسن تخيل السحب فقط. ومن
الجملة الأولى، تملي بذلك شروط وجودها. من جملة:"لا سياسة. لا أفكار. فقط خيال
وسحب."
ومثلما يمكن لسعاد أن تخرج من جملة، يمكن لروزال أن تخرج من الجدار الباطني
لدرابزين السلم، في آخر دور، من عمارة في حي عشوائي داخل منطقة شعبية مأهولة
بالسكان. منطقة كانت سعاد قد انتقلت إليها بعد زواجها من شاب جاء ذات يوم مع
أبيه ليشتري أرضاً من والدها. ولما تبادلا النظرات الأولى، عرفت سعاد أنه من
نصيبها. لم تفرح ولم تكتئب. كانت كعادتها راضية بالأمر الواقع وممتنة للمقادير
التي تدفع بحياتها العملية إلى أن تُصنَع، بما أنها –سعاد- لا تتدخل في أمور
كهذه أبداً. فكيف لها أن تتدخل، وهي تعرف أن كل شيء مكتوب، هي، التي ولدت من
جملة. فقط تراقب السحب طالما هذه إرادة المؤلف.
لم يستطع الزوجان إلاّ تبادل النظرات الأولى. لأن الشاب قد أصيب صغيراً في حادث
أفقده الكلام، مما جعل من نظراته وإشاراته حروفاً. لطلب الشاي يصفق مرة، للقهوة
مرتين، للجنس ربتة على ركبتها، أو على المقعد الواقع بجواره، ذلك إن لم تكن
جالسة.
سعاد ومحمود يعيشان من تأجير الأرض التي اشتراها والده من والدها الذي رفع
سعرها تعويضاً عن المهر. قال الأب: بيته لا يطل على الشمس، كل الشبابيك تطل على
المنور. انسي تماماً موضوع السحاب هذا وارجعي لعقلك. وقالت أمها: ربنا يرزقك
بالخلف الصالح يا بنتي. بالولد. ثم أخذ محمود زوجته إلى المدينة.
لم تجد سعاد مشكلة كبيرة في مصادقة الجيران ومع بائعة محل البقالة وبائعات سوق
الاثنين. كانت تفعل تماماً مثلما تمليه عليها جمل الكاتب. فكيف لها أن تتمرد
الآن وهي لا تعرف جيداً السياق الجديد الذي وضعها فيه. تستيقظ في الفجر لتصلي
وتنظف البيت وتعد قهوة زوجها. تميل عليه لتوقظه بربتات طويلة متصلة على كتفه.
تكبس له ظهره ليصحو. يغتسل ويشرب قهوته بينما تكون هي قد نزلت السوق تشتري خضار
الصباح وتأتي له بالسجائر والجرائد. بالجبن واللبن والطعمية السائبة.
ولأن الكاتب خلق لسعاد زوجاً دون أن يفهم طبيعته، ذلك لكونه أخرس لا يتحدث عن
نفسه، فكر أنه ليس على سعاد أن تغادر البيت وهو نائم، متغاضياً عن تفصيلة شربه
للقهوة قبل أن تعود هي بالسجائر. ولأنه –الكاتب- لا يدخن لأنه من أنصار حماية
البيئة، لم يكن يدرك أهمية سيجارة الصباح قبل مغادرة السرير، بالنسبة لشاب أبكم
يجلس في فراغ البيت طوال اليوم. أما سعاد، فكعادتها صارت راضية بمشيئة الكاتب،
غير أن هذا الأمر كان يوتر محمودا الذي ظل يكتم غيظه ولا يعرف كيف يفهم سعاد
أهمية هذه السيجارة بالنسبة له، بما أنها هي أيضاً لا تدخن، وإنه لو كتب لها ما
يريد قوله فهي لن تفهم، لأن الكاتب جعلها أمية. ولو أطلعت الجيران على الورقة
التي سيكتبها لها عن أهمية سيجارة الصباح، فإنهم سيقرؤونها ويعرفون سر البيت
ويتناقلونه بطبيعة الحال في منطقة شعبية كهذه.
أخذ محمود يحدث نفسه منفعلاً ومحبطاً لكون سعاد تطيع الكاتب أكثر مما تطيعه.
وساورته الشكوك في أن هناك تواطؤا ما بينهما ضده. فماذا يمنعها إن لم يكن الأمر
كذلك أن تذهب إلى فصول محو الأمية؟ شعر محمود أنه عاجز عن فهم طبيعة هذا
التواطؤ. وأنه العاجز، لا يفهمه أحد في هذه القصة. ولا يهتم بأمره أحد. أما
سعاد، جدتي، عندما رسب البن كله في القاع ، ولم يشرب محمود، جدي، القهوة
وخاصمها لتواطؤها مع الكاتب ضده، وجدت نفسها أمام جدار أبيض وحدها. بسكين
المطبخ أخذت تحفر وجوها وأطيافاً على الجدار. ومن وقت لآخر تمر عليها بينما
تذهب من المطبخ إلى حجرة النوم، وتنظر إلى سرها الصغير الذي حفرته بسكين برغم
أنف الكاتب. وبرغم أنانية زوجها. قالت لي جدتي، وهي قعيدة الفراش في أواخر
الثمانينات من عمرها، بعد أن مات زوجها وورثت خرسه من شدة الحزن عليه، قالت
بعينيها اللتين أسلمتاني مع طول التحديق فيهما، لغة أفهمها غير الكلام، قالت
كانت مهرتها روزال محفورة على جير الحائط الأبيض. وكانت هي، كل ليلة، بعد أن
ينام زوجها، وينام الكاتب، تمتطيها عوضاً عن السحب.
ماذا تعني الانثى!
1- انتحار . الخميس 11 يناير 1996
تبدأ الحياة مرة أخرى بعد عاصفة شديدة. كأن يحاول المرء الانتحار مرات متتالية
يربطها خيط هستيري من الرغبة في التفتت والانفجار والتلاشي. وعندما تفشل
المحاولة، بعد أن يكون المرء قد عاش إغماءة ليومين بعد مرور العاصفة، يفيق كأنه
وُلِد مرة أخرى، بخبرة سالفة عليه، يذكِّر نفسه بها في كل لحظة. يتمرد عليها
وعلى نتائجها. يهجرها إلى مخاطر جديدة. وعواصف جديدة. خبرة تشبه خبرة الأبوين
الذين يجهدان في أن يحقناها في ابنهما ويفشلان. تبدأ حياة جديدة لا ترتبط
بالقديمة إلاّ من حيث أن الأولى انتهت حيث بدأت الأخرى، تلك التي تريد أن تغامر
مثلها مثل سابقتها. ومثل سابقتها أيضاً تعبرها عواصف وانتحارات وبدايات جديدة.
كل الأشياء متشابهة من حيث أنها تبدأ وتنتهي وتتمرد على سابقتها. تأمل فيما
يأتي معها وتحقد على الآتي بعدها. للجديد سحر المرغوب، البكر، الذي لم تطأه
قدم. للجديد سحر السبق والريادة.. الجديد سرعان ما ننطق به فيتحول إلى ماض. إلى
ذاكرة. والذاكرة هي التي تعيش لأنها تقبل بأن تتصف بالقدم برغم أنها تتجدد كل
لحظة. والقديم، مازال تأثيره يحيا في تمرد الشخص المتذكر مثلما في حنينه، أو في
رغبته في التجديد. والجديد هو طعام الذاكرة الطازج، التي دائماً ما تشتهيه.
عندما سألته عن أخبار عواطفه، قال لها: "لا جديد". كان يبدو عليه السأم، كأنه
ميت، بعينين يمتصهما جفناه. نظر إليها. ابتسمت بهدوء. غاص في أحضانها. كانت
الحجرة مرتبة نظيفة تبرهن على بصمة أمه المنطبعة داخل المكان. لوى رأسها وضغطها
بين فخذيه ففهمت ما عليها أن تفعل. أغمضت عينيها وشدت عضلات فكيها عليه. تساءلت
بينها وبين نفسها: متى ستنتهي هذه المهزلة؟! لكنها لم تبادر أبداً بحسم الأمور.
كان قد عاد لتوه من البلد. حيث رقدت أمه بجوار أبيه في مثواها الأخير.
2- المتاحة والمرغوبة. الجمعة 12 يناير 1996
كانت تجلس بين صديقيها. أحدهما شاعر والآخر مغنٍ. أمامها الطاولة وسور الكازينو،
فالنيل. أما الصديقان فكانا يتواجهان والطاولة بينهما. هكذا شغلا ضلعين
متوازيين وشغلت هي رأس الطاولة. كان هذا مريحاً للأعصاب.. أن تتأمل مويجات
النيل ويستغرقها هذا التحرك البطيء الذي لا ينتهي. كان كل منهما خارجا من علاقة
عاطفية أنهتها أنثاه بصورة مؤلمة وقاطعة. كان كل منهما شاردا مع نفسه.
بدأ الشاعر في محادثتها: كانت أول مرة أعمل فيها جنس. كأنها خطفتني وطارت. أنا
مش عاوزها. بس صعبان عليّ.
لم تكن تنصت كسابق عهدها. مسحوبة إلى لا شيء. كان رأسها لا يحتمل مكاناً لآخر.
عندما شعر الشاعر أنها لا تقول له الجمل التي يريد سماعها تركها وشأنها وأخذ
يردد شعره بصوت هامس. عندئذ بدأ المغني دوره في الكلام. محترماً انتظار الشاعر
من إنهاء كلامه. قال لها: تعرفي، أخذت تحويشة العمر. الشقة والشبكة والمهر. كل
حاجة. مش مهم. في كل الأحوال ماكنتش هاقدر أعيش في الشقة مع حد غيرها. لو هي
تقدر بقى، هي حرة. بس أنا صعبان عليّ.
كانت الفتاة جالسة مواجهة للنيل. تبتسم. تحاول أن تمزح متحرجة وغير واثقة من
قدرتها هذه الليلة على أن تقول للناس ما يريدون سماعه. فتركها المغني لمزاحها
منفعلاً عليها. ثم صمت. فسمع همس الشاعر. وبعد انتهاء الشاعر من الهمس بقصيدته،
غنى المغني. وأخذ الاثنان يتناوبان الغناء والشعر والنظر بحماس إلى بعضهما
البعض وقد تركا الفتاة تشرب قهوتها. لم يسألها أحد منهما عما بها. ولا عن سبب
ارتباكها هذا اليوم. لم يعتد أحد أنها تتكلم عن شيء يخصها. قاطعتهما فجأة
قائلة: حلمت بكابوس البارحة. لكن أحداً لم ينتبه.
3- الدائرة. السبت 13 يناير 1996
كان الشارع غاصاً بالمارة برغم المطر الشديد المتساقط. كانوا جميعاً يهرولون.
أما هي، فكانت متوترة. مرت برجلين كانت تعرفهما، لكنها لم تتعرف عليهما في تلك
اللحظة. سألتهما عن مكان الحمام فذهبا معها لإرشادها إليه ووقفا عند الباب. كان
المطر يسقط أيضاً في الحمام العمومي ذي الكبائن الأربعة. وما أن يلمس المطر
الجدران حتى تصبح لزجة مطاطية. لكن المطر يحافظ على صفته البللورية. كان المنظر
جميلا ومخيفا في الوقت نفسه. منظر كاد يجذبها إليه لكنها رجعت ونظرت خلفها، كان
الرجلان قد اختفيا وحلت محلهما سيدة في الأربعين ترتدي زياً عسكرياً وملامح
وجهها متآكلة يخرج من فمها مخاط أبيض يشبه جير حوائط الحمام وقد حوله المطر إلى
مطاط أبيض. قالت السيدة لها: انتي خايفة ليه؟ ده ابني الصغير. هايدخل معاكي.
هنا ظهر فجأة شيء بدين أبيض كالمطاط، أطرافه ضخمة ومتآكلة وكرشه يهبط ويرتفع
فرحاً مع قفزاته. كان يقفز ولا يمشي. لم تكن لقدميه سيقان. ازداد فزع الفتاة
مخلوطاً بدهشتها وفضولها وترددها. كانت السيدة تشبه أمها. وكانت تطمئنها بلزوجة
مرعبة.
اقترب ابن السيدة فجأة من الفتاة بكرشه ورفع
يديها من إبطيها كي لا تقاومه. ثم حدث شيء يشبه الصعق بالكهرباء منه تجاهها.
كانت لنظرته قسوة وإصرار.
عندما أفاقت من الحلم، لم تستطع التعامل مع أمها ولا أن تذاكر. تركت البيت
والمحاضرات وذهبت إلى صديقتها المتدينة التي قرأت على رأسها القرآن ثم تركتها
لصديقيها اللذين أرادا محادثتها، ثم صديقها القديم، الذي نفى لها وجود العفاريت
وأخذها في حضنه عنوة بعد أن لوى عنقها وأنزل رأسها بين فخذيه.
منذ ذلك الحين، عرفت أن الدوائر التي تسقط كل منها في الأخرى على هيئة دوامة
صغيرة نواتها حجر صغير في المركز، قد قررت أن تتخذ من الآن فصاعداً شكلاً
حلزونياً.
4- تكرار. الثلاثاء 23 يناير 1996
عندما قال لا
جديد، عرفت أن جديداً سيبدأ. أسمته جديداً لأنه سيحدث بهدف تجديد شعور ما، أو
علاقة ما. ابتسمت ابتسامة ضعيفة لا تتسم بالسعادة. كانت تعرف أن هذه البرقة في
عينيه تبحث عن جديد من خلالها، بينما ما يسعى إلى تحقيقه معها، سيحدث فقط "من
جديد." التبس الماضي الملتبس من علاقتها بالحاضر الفارغ من العلاقات. والتبس
معنى عناقهما الماضي بالعناق "الجديد". وأدركت أن كل ما أراده هو الرجوع إلى
الماضي. بحيث يحل الرجوع إلى الماضي محل
الحاضر أثناء حدوث الحاضر نفسه. عندئذ، أدركت أنه سيكتب روايات تقليدية، مضفياً
عليها مسحة بوليسية للتشويق. وأنه سيفعل من الآن فصاعداً، كل ما كانت أمه رحمها
الله تطلبه منه. سيتزوج من فتاة لا تجارب لها. وسينجب ابناً ويسميه يوسف.
كان يحاول تكرار الماضي. هي، جزء من الماضي الآن. لكنها كانت تعرف أنه لم يكن
مجرد تكرار للفعل. بل كان الفعل نفسه نقطة انطلاق في الماضي. نقطة رسمت دائرة
متصلة لطرفها الآخر من الحاضر. عادة ما تكتمل الدائرة عند التقاء نقطتين تتجه
كل منهما زمنياً عكس اتجاه الأخرى. بينما يتكرر الحادث الواصل بين النقطتين.
لكن التكرار هنا لم يكن متطابقاً. فلم تكن هناك رغبة من إي منهما في إعادة
علاقة مضت. كان فعلهما حدثاً لا يستند إلى شيء غير حدوثه ذاته. ولهذا، لم تكتمل
الدائرة. وبدأ الشكل الحلزوني يعبر عن نفسه، فينفر قطبا الدائرة من بعضهما
البعض تنافراً يؤكد اشتراكهما في نوع واحد من المغناطيس سالباً كان أو موجباً.
لا يهم. فالتقييم مرجأ إلى يوم القيامة.
بعد ان ارتاحا من جسديهما. قالت له:
"أقمت علاقات كثيرة في حياتي. كأني أبحث عن شيء لا أجده كل مرة. وأكرر المحاولة
ربما أجده. الأمل شيء خادع جداً. وكأنه شيئ لا يمكنني الشفاء منه أو حتى مجرد
اكتشافه إلاّ مع التكرار. تقدر تقول عليّ مجربة."
"لم أستطع أن أحب غيرك. طبعاً تبدو الجملة مثل جمل الكليشيهات, لكن الكليشيهات
التي تكررت بحيث فقدت معناها، لا يكون هناك ما يعبر عنا أفضل منها عندما نترك
أنفسنا على سجيتها."
كانا يمشيان في شارع مليء بأعمدة النور المطفأة
ليلاً. وكانت تضرب بكفها الأعمدة بشكل لا إرادي. كانت الضربة تتكرر. والعمود لم
يكن هو ذات العمود.
|