ليلة
عيد
رغم اتباعي كل النصائح التي تكتبها الصحف للتغلب على الأرق لا أشعر أن عيني
ستغمضان الليلة , الساعة تقارب الثانية وغداً أمامي يوم حافل ... هل ألجأ
الى الوسيلة القديمة بإحصاء الخراف ؟ ولكن خراف الطفولة الوديعة تفر مني
كلما حاولت الاقتراب منها , لذلك سأعد الخراف التي نذرتها عبر حياتي في
سبيل تحقيق مختلف الأمنيات . المشكلة أنني قد لا أتذكرها جميعاً , فلكثرتها
أصبحت تشكل قطيعاً وستحتاج قريباً الى راع يهتم بها , والأسوأ من ذلك أنني
غير قادرة على الوفاء بأي نذر من هذه النذور وهذا سيترتب عليه نتائج خطيرة
حسبما حذرني شيخي ... دائماً أقنع نفسي بأن نيتي الصافية ستشفع لي فما ان
تتوفر لدي النقود الكافية حتى أشتري الخراف دفعة واحدة وأنحرها في مكان
مقدس , سأبدأ بحمل صغير نذرته أيام المدرسة في حال استجاب الله لدعائي
وغابت المعلمة ... والثاني سأسوقه للذبح مشفقة عليه فهو يذكرني بوائل لأنه
الثمن الواجب تأديته مقابل أول رسالة حب , وفترة الجامعة لم تخل من بضعة
خراف بعضها للنجاح في مواد مستعصية وبعضها للفوز بوظيفة , وأكبرها حجماً
نذرته على مذبح حقدي تجاه الحاج أكرم الذي عملت في متجره الفخم بائعة ملابس
مع مجموعة من زميلاتي في الجامعة, فبعد شهر من العمل الشاق قدم لكل منا
ظرفاً مغلقاً فيه أجورنا , كنا متحمسات جداً وننتظر نهاية الدوام لنخرج الى
السوق ونشتري ما يلزمنا في بداية العام الدراسي , ولا أنسى وجوه صديقاتي
عندما فتحنا الظروف لنكتشف أن ما فيها أقل بكثير من توقعاتنا , ولنعرف بعد
ذلك أنه احتسب علينا ثمن الطعام الذي كان يطعمنا إياه ... لم نفعل شيئاً
وقتها ورضينا بما قدمه لنا من نقود وانضم خروف جديد الى قائمة الخراف
المنذورة راجية من كل قلبي أن يموت الحاج أكرم أو يفلس ,مع أن آخر خبر
سمعته عنه اقدامه على زيجة جديدة .
على كل حال أرى أن علي تمييز الخراف عن بعضها لكيلا أخلط بينها , فحتى
بالنسبة للبشر الذين لا يعنيني أمرهم سرعان ما أنسى أشكالهم وأسماءهم مما
يؤدي الى ارتكاب حماقات كثيرة في تعاملي معهم , فما بالكم بالأمر مع الخراف
؟ وربما من الأفضل الاعتماد على الترقيم لأن مسألة العلامات جربتها مرة ولم
تنجح , وذلك عند حضوري أحد الاجتماعات وكنت مكلفة بكتابة المحضر . أكثر من
عشرة مدراء جلسوا حول طاولة مستطيلة,وجدت صعوبة كبيرة في التمييز بينهم
وخصوصاً أنهم كهول فلو كانوا شباباً لكان الأمر أسهل , إذ عادة ما يتميز
الشاب بشيء ملفت كتسريحة شعره أو ثيابه أو اسلوب حديثه , أما في حالتي فقد
كان الكهول الموجودين يرتدون جميعاً بدلات رسمية مع ربطات عنق , وصلعاتهم
تلتمع تحت ضوء النيون , وأغلبهم يرتدي نظارات طبية ويرددون نفس المصطلحات .
حاولت في البداية تمييزهم من ألوان ربطات العنق دون فائدة , فما كان مني
إلا أن وزعت عليهم ورقة ليدونوا عليها أسماءهم , ثم رحت أضع بجانب كل اسم
رقماً محدداً حسب مكان جلوس صاحبه بالنسبة لي , وصرت أكتب في المحضر ( شدد
رقم 7 على ضرورة تفعيل الخطوات اللازمة للاصلاح الاداري ) أو ( أشار رقم 2
الى أهمية تكثيف الجهود للنهوض بالخطط الانتاجية والاستثمارية ) وبعد ذلك
طابقت الأرقام مع الأسماء فكانت النتيجة مرضية . حاولت الاقتراب من الخروف
الأحمر لأدمغه برقم على ظهره فإذا به يفاجئني متذمراً : لو أنني اتبعت
النصيحة لما كنت اليوم هنا ... دهشت , فخارج برامج الأطفال لم أعرف خروفاً
ينطق ! بدا يائساً من مصيره , وراح ينظر في عيني بجرأة أحرجتني : ( "ليس
الذئب سوى مجموعة خراف مهضومة " هذا هو الشعار الذي تفتحت عليه عيوننا
وردده الكبار أمامنا دوماً , ليصبح هاجس الخوف الوحيد في حياتنا هو الذئب .
كانت حياتنا مرسومة بدقة , ننام دون نعاس ونصحو بلا يقظة , فأوقاتنا خاضعة
لنظام القطيع المقدس , نخرج الى المرعى في الصباح لنتنافس على عشبة خضراء
نجترها في ظل شجرة , المهم ألا نحاول تخطي حدودنا , والخروف الذي يجرؤ على
الابتعاد عن رفاقه سيكون مصيره الموت بين أنياب الذئب كما حدث لبعض
المتهورين ... إلى أن صادقت الخروف الأسود الذي حاول اقناعي أن طرف المرعى
ليس نهاية العالم وأن خلف الجبل أرض فسيحة تعيش فيها مخلوقات كثيرة لا
نعرفها , ودهشت عندما أخبرني أن الذئب مجرد وهم مختلق , وان الخراف التي
اختفت قتلتها كلاب الراعي ) أشفقت عليه فحاولت طمأنته : أيقن يا صديقي
بالعمر الطويل مادمت عندي , فلا رغبة لدي بذبحك حالياً بل قد أجد لك نعجة
مناسبة لتتكاثروا وأستطيع الاستفادة من نسلكم في نذور مقبلة فما زال أمامي
امنيات كثيرة وجوهرية تنتظر التحقيق , حاول الحمل الثوري الاعتراض محاولاً
اقناعي بأنه لا يرغب إلا بحياة البرية الطليقة , ولكنني وجدته متفلسفاً
أكثر مما ينبغي لخروف وتوقعت منه المشاكل لذلك تحولت عنه متظاهرة باستقبال
ضيوف , اتجهت الى البيت حيث دخلت أختي وزوجها وأولادهما يرتدون ثياب العيد
وفي أيديهم علب الحلوى , اقترب مني الأطفال متمنين لي عاماً سعيداً , ووجدت
أن من اللائق أن أوزع عليهم بعض النقود ( عيديات ) رغم غصتي من الحال الذي
عاد بها هذا العيد حيث لا أحبة ولا بيداء دونهم , إضافة إلى خاطرتي الخبيثة
بأن من المفروض أن يكون هؤلاء الأطفال أولادي أنا ! تركت العائلة مجتمعة
وعدت إلى الحظيرة حاملة حزمة برسيم أبحث عن الخروف الذي نذرته من أجل
العريس ,لم أعثر عليه بين قطيعي فتذكرت أنه مازال حملاً صغيراً في البادية
ومن المبكر إحضاره إلى هنا , ويجب الآن أن أهتم بنفسي لتعويض العريس الذي
خطفته أختي مني , ففي ذلك اليوم كان مقرراً أن أدخل وحدي لمقابلة الخاطبات
باعتباري سمراء وليس من المستحسن أن أعرض مع أختي الشقراء سوياً لأن
المقارنة لن تكون بصالحي , دخلت وجلست معهم , ويبدو أن أمي توجست من
نظراتهن متوقعة ألا أعجبهن , وخافت أن نخسر العريس الدسم فسارعت إلى إدخال
أختي , وطبعاً كان واضحاً من التعليق أنها حازت الرضى من جهة بياض بشرتها
وزرقة عينيها , مع تحفظهن على نحولها , مما استدعى القيام بجهود مكثفة من
قبل أمي للعمل على تسمينها ,فصارت الأكلات الدسمة من نصيبها وأعفيت من
أعمال البيت , وما لبث جسدها أن اكتنز وصار بإمكانها أن تنعم بالثوب الأبيض
والزغاريد ...
بينما صور الزفاف تتابع أمام عيني رأيت أبي يدخل باب الحديقة مع رجل لا
أعرفه, استغربت إذ أنني على ما اذكر تركته ورجال العائلة داخل البيت
مشغولين بمتابعة النقل التلفزيوني لمعارك تدور على أطراف بغداد , وينتظرون
أن يسود جو ربيعي معتدل ليتمكنوا من المشاركة في القتال شخصياً . نهضت
لأنسحب إلى غرفتي خشية أن تقع علي عينا الرجل الغريب لكن أبي أسرع تجاهي
وقام بتقييد أطرافي بالحبال دون أن أستطيع إبداء أي نوع من الاحتجاج, وتقدم
الرجل الغريب حاملاً بيده سكيناً كبيرة وهو يطمئن أبي أنه سيستخلص له الجلد
نظيفاً جداً ليتمكن من الاستفادة منه في الشتاء ثم يسأله عن مناسبة الأضحية
لأفهم أنني منذورة في سبيل أن تسير الدبابات التي توقفت فجأة في الميدان.
في اللحظة التي أصبحت فيها السكين فوق عنقي رأيت الزمن يمتد أمامي بلا
بداية ولا نهاية , وكانت روحي تتسكع عبر الدهور مغيرةً في كل مرة أثوابها
دون أن يتغير جوهرها عندما تمتم الرجل قارئاً الفاتحة ابتهلت أن أخلق في
المرة القادمة وتكون السكين في يدي وليست فوق عنقي . وسرعان ما أحسست
بالسائل الدافئ يدغدغ صدري ثم وجدت ابن اختي واقفاً أمامي وبيده مسدس مائي
يقهقه قائلاً: استسلمي يا خالتي ... نهضت من الفراش وقلت له: أنا مستسلمة
منذ زمن طويل.
دائما" كنت أعتقد أن شمشون هو الوحيد الذي ارتبط مصيره بشعره حيث لم
يستطع اعداءه القضاء عليه إلا بقص هذا الشعر عبر مكيدة دبرتها امرأة , أما
شعري فما عرفت أنه بهذه الخطورة لو لم يتحول الى مشكلة ايديولوجية بيني
وبين من أحببت . غريب أن يجدل الشعر والايديولوجيا والحب ضمن ضفيرة واحدة !
منذ طفولتي امتلكت شعرا" طويلا" كثيفا" يكاد يغطي نصفي العلوي , والاحساس
الوحيد الذي خلقه كان مستمدا" من فخر أمي به عندما تمشطه بعناية وتضفره
جديلتين معلقة في طرفيهما الشرائط الملونة .
عندما بلغت التاسعة عشرة
من عمري فككت ضفائري كرغبة طبيعية لأنثى يهمها الاختيال بشعرها أمام من تحب
, كنت قد تعرفت على خالد وأحببته لصلابة أخلاقه واستقامته , علاقتي به
أمدتني بالقوة اللازمة لفتاة خجول في بداية حياتها إذ تعلمت منه الكثير
فصرت أكثر معرفة بالناس والعادات ضمن مجتمع المدينة الذي دخلته , وبدأت
أجيد التحكم بانفعالاتي وضبط ألفاظي لكيلا أجرح من حولي وأثير الحساسيات ,
واهتماماته الدينية بدت لي فرصة جيدة لأتعرف على ثقافة مجهولة نوعا" ما
بالنسبة لي , احترمت قناعاته بينما لزم الصمت تجاه قناعاتي على أمل أن
يتمكن من تغييري في المستقبل . صحيح أن مشوارنا كان يتعرض للقطع أكثر من
مرة عندما
يحل موعد صلاته مما جعلني خبيرة بموقع كل مسجد في دمشق , وصحيح أن تقطيبة
ترتسم على جبينه إزاء عبثي ومزاحي, ولكن رغم هذا ساد سلام نسبي بيننا ساهمت
العاطفة الصادقة في ارسائه . وبعد أن تجاوزنا الكثير من المنعطفات الخطيرة
في طريق حبنا جاءت مشكلة شعري لتهدم كل شيء , عندما طلب مني أن أربط شعري
لأن منظر تهدله على كتفي وملامسته لخصري يثير مشاعر الرجال , ظننته يمزح
فلم أهتم بكلامه وبقيت أتعامل مع شعري حسب مزاجي وحسب حالة الطقس .
تبين لي بعد ذلك أن شعري كان بمثابة الجمرة التي أججت الحريق , فعقب تلك
المناقشة صار متحفزا" لنقد كثير من عاداتي التي سكت عنها سابقا" , وبدأ
بتقييم أصدقائي ومعارفي حسب مقاييسه الخاصة والقائمة على فرز الناس الى
فئتين : صالح وطالح
!
وبقدر إصراره على الانتقائية الشديدة لدى اختيار الأصدقاء كنت على عكسه
تلقائية للغاية حتى أن كثير من أصدقائي المقربين تعرفت عليهم مصادفة إما
في طريق سفر أو في غرفة الانتظار بعيادة طبيب الأسنان , دون أن اهتم بلحية
أحدهم سواء أرسلها أم حلقها , ولا بشعر احداهن ظاهرا" كان أم مخفيا" تحت
غطاء...
في ذلك اليوم كنا نتمشى قرب قلعة دمشق وكنا قد وصلنا الى طريق مسدود بخصوص
هذه المشكلة , أنا اعتبرتها مسألة مبدأ تتعلق به حريتي وشخصيتي , وهو قرر
أن التعايش مع خصلات شعري المشاغبة أصبح مستحيلا" ! وعلي أن أختار ...
وضعني على مفترق الطريق ودخل الى الجامع الأموي ليصلي المغرب , وقفت أتأمل
زجاجات العطر في المسكية منتظرة أن يخرج , طالت صلاته اكثر من المعتاد وفي
تلك الأثناء مر زميل لم أره منذ أيام الجامعة , سلم علي بحرارة وسألني :
ماذا تفعلين هنا ؟ هل تنتظرين أحدا" ؟ أجبته بالنفي قائلة أنني جئت لأشتري
عطر بنفسج ولكن لم أعثر على بغيتي فقال : مارأيك إذن أن نشرب قهوة في
مكان ما ... وافقت ومشيت معه تاركة الآخر يكمل صلاته على مهل , جلست مع
حسام وتكلمنا كثيرا" فحدثني عن عمله الجديد ونشاطاته الثقافية ولم يودعني
إلا بعد اتفاقنا على لقاءات أخرى , بعد ذلك صرنا ثنائيا" معروفا" في
المراكز الثقافية وفي اللقاءات التضامنية من أجل قضايا أعرفها وأتعاطف معها
وقضايا لم أسمع بها من قبل فأيدت حركات التحرير في أريتريا واستهجنت الحصار
الأمريكي على ليبيا وكوبا وجمعت المساعدات لأطفال السودان , بكيت معه في
الاحتفال بذكرى استشهاد غيفارا , ثم فرحت عندما أهداني ورودا" بمناسبة عيد
المرأة العالمي . ولتعلقي به احتملت على مضض وجود ضرائر غير تقليديات
يشاركنني به , فلم يكن من الممكن أن أجلس معه إلا ويأتي شارون فيلوث غطاء
طاولتنا بيديه الدمويتين , وإذا تمكنت من طرد شارون وصفا الجو للنجوى
يشرفنا الرفيق كيم ايل سونغ متأبطا" ذراع سلفادور الليندي ليشربوا قهوتنا
ويفسدوا جلستنا . حتى آمنت بأن الطريق الى القدس أيسر من الطريق الى بيت
الزوجية مع هكذا شخص !
في غمرة انشغالي مع حسام وقضاياه , وجدت أن شعري الطويل يعرقل تحركاتي
الثورية , وكان الحل بإرساله ضفيرة وحيدة على ظهري فأتخلص من عبء الاهتمام
اليومي به . في إحدى لحظات فراغه النادرة انتبه الى ضفيرتي وعلق : أصبحت
شبيهة ببطلة فيلم ( من أجل حفنة من الدولارات ) ابتسمت خجلة مما ظننته
إطراء , فتابع بحدة: ولكن لا أريدك أن تتشبهي بأولئك الأمريكيات ... أحب أن
تكوني مثل ايفيتا بيرون... لماذا لا تتركي شعرك يتطاير مع نسائم الحرية
بدلا" من تسريحة الجدات هذه ؟ ! ظللت دقائق مذهولة لا أجد ردا" وخصوصا"
أنني لم اعرف من هي هذه الايفيتا إذ تصورت أنه يقصد زوجة نيرون الطاغية
الروماني فعجبت لأن ما أعرفه أنها قتلت بوحشية على يد زوجها !
المهم أن حسن الحظ حالفني بعد ذلك , والحيرة التي أوقعني فيها نتيجة موقفه
الراديكالي من ضفيرتي لم تدم طويلا" بسبب توالي الأحداث الجسيمة التي طغت
على قضيتي , ففي تلك الأثناء جاء انهيار الاتحاد السوفييتي ليكون منعطفا"
خطيرا" في حياة حسام الذي دخل حالة كآبة طويلة لم أستطع إخراجه منها ,
فتابعت حياتي ورحت أتأقلم مع النظام العالمي الجديد , ولم ألبث أن قصصت
شعري حتى الأذنين تماشيا" مع موضة الشعر القصير.
|