صوباشي عريس
جلّ ما كان يشغلني في الظروف النسوية هو انتحال حواسي في محاولة منّي لاشتمام
رائحة الإبط التي لطالما حلمت بها.
كانت قد تبرجت بكل ما أوتيت من مستحضرات التجميل، لا لاستقطاب أفكاري المشتتة
فحسب، وعيوني التي كانت تلوح في سماء المقهى؛ بل لتفادي أي خسارة لها معي
أستنبطها من بين الكلمات، وأيضاً لإتاحة الأحلام لمزيد من المعجبين إذا أمكن .
. فأنا وكما هي تعلم أرتدي حذاءً توقف استيراده منذ أعوام لانعدام جاذبيته
ولسوء سمعة صانعيه.
وصلت وجلست على الطرف المقابل بينما كنت قد أعددت مكاناً بجانبي يتّسع لها
ولكلبها الطفيف الذي التقيته أول مرة أمام المكتبة العامة ينتظرها ريثما تعود
من زيارة لصديقتها التي كانت تعمل هناك؛ ذلك الكلب الذي كان يشاركني الرأي في
صديقتها تلك، والذي كان يدفع بي للاعتقاد جازماً بأنني سأكون زوجها في المستقبل
لوقوعها في حبه قبلي.
بدأت حديثها بتوبيخي بجديّة متعمدة لأنني استهنت بقدرات خالها الجنسية، فهو لا
ينجب إلّا قططاً برّية يأتي بها من الحقول لسد هوّة عاطفية تشكّلت لديه بسبب
عدم إنجابه للأطفال ولتحميل الآلهة أيضاً عرفاناً له بهذا الجميل؛ وكأن هذه
القطط كانت تموء إليه بأن يتبناها وبأنها لم تكن تهنأ قبل لقائه بحياتها بين
أفياء الكرز والليمون.
عاودت توبيخي ثانية ولكن هذه المرة لأنني طلبت لنفسي كأساً من القهوة، فما معنى
أن أطلب سبعة فناجين من القهوة بينما باستطاعتي أن أدمجها في كأس واحد يلبي
حاجتي في تضييع أثمن الفرص عليها في رؤية ذلك النادل السمج صديقها.
وتوالت النصائح والتوجيهات في طرق الحديث وفي ابتكار أساليب جديدة من شأنها أن
تستأصل بعضاً من همجيتي في التعامل مع من حولها.
حين أنهت حديثها أشرت إليها بأنني سأكون على جاهزية قصوى لأي استعطاف طاريء،
وأنني سأكون الفارس المنتظر لفتاة تحلم ببورجواز في عصر لفقراء مثلي.
يا لسذاجتي ذات حلم !!
الدّالية التي زرعها جدّي أصبحت اليوم تغطي كامل الرواق إلى حيث الأريكة
الخشبيّة التي كانت تحملني وإياه قبل سنين بعيدة . . لم يبقَ شيء حولها يغذي
ذاكرتي ويعيدني طفلاً إليه لأدلل نفسي التي تواضعت له كل السنين التي تلت
رحيله.
رائحة الصباحات القديمة والأوراق النديّة كانت لا تزال تعبق من محراثه الخشبي
الحزين والمتراخي أمام ما توصلت إليه العلوم الحديثة من تقنيات جعلت من الأرض
أمّاً متآمرة على أبنائها اللاهثين وراء الذهب.
سارعت الخطو في لقاء الذكريات إلى ما تبقّى لي من ساعات صغيرة قبل خروجي إلى
العمل الجديد في مصنع الأحذية الذي جاء به رئيس الناحية لتشغيل العاطلات عن
الزوجيّة وعويل الأطفال .
أخذت المكان الذي كنت أرتمي إلى زاوية من الأريكة، محاولاً أن لا أثقل الذاكرة
بزاوية اخرى لإستحضار المشهد المحبب لدي حين كانت جدتي تأتينا بالفطور المعشّق
بالتراب وبرائحة الماعز الجبلي . . لنبدأ مع إبتسامتها المفعمة نهارنا الخالي
سوى من ممازحته وتعطيله في البحث عني بين الحقول الواصلة رأس النبع.
كبرت تلك الساعات فوق جسدي النحيل ورأيت معها عيونه تثبت في عيوني ويداه
تتلمسان صحوتي على صوت بائع المياه المتجول بين أزقّتنا الغارقة بالأحلام
وبالذكريات.
هوَ كلانا
يصدع صدر السماء بتقاريره الكاذبة عني، ثم يعود إليَّ ليقول بأنه . . وليد
ينابيع الأرض الحارّة!!
تعبت من رؤيته كل صباح يخرج من بين الدساتير ووجبات العشاء البائتة برائحته
المتحللة تعبق حصاً في وجهي؛ كأن ليس لي عملاً في هذه الدنيا إلّا أن أخرج
بألاعيبه الوسخة إلى حيّز الذاكرة.
"الأغبياء لا يموتون، إنّما هم يتبدلون فقط "
قالها لي في أكثر مناسبات الفرح التي جمعتنا سوية، كنت أثني دائماً على هذا
القول المشين ولم أدرك حينها بأن شعباً لي كان يقترف الإسم فيها.
كم أنا قوم طيّعون . .
يطلب موتي علانية عبر شاشات الحياة التي نصبها من أجلي عند مداخل القارات وفي
قلب المحيطات كي يتسنى لأبناء الهلاك مشاهدة زوالي أثناء رحلاتهم المتكررة نحو
شطب ما تبقّى لي من ملامح عربية.
وأنا؛ الطيب المستكين دائماً،
سطح مستو لا أملك إلّا تأشيرة عبور مزركشة يحملها هو عني في جيبه الزعيري حتى
لا أسقط فوق ترابٍ وطنيٍّ يتشمم أعضائي على مدار الساعة في محاولة إستقراء
مستحثّة لإرتدادات الموت بداخلي.
نهاية الماء
دخل مسرعاً إلى غرفة نومها بعد سماعه صوت صراخها. كان قد أنهى لتوّه عملاً بدأه
منذ ساعات الصباح، ركض باتجاه النافذة ورمى بنفسه إلى داخل الغرفة . . كان يعلم
بأنها لن تفتح الباب لطروحات أسئلته اللامتناهية. وجدها تقف أمام المرآة تغسل
شعرها وتطلق صرختها عند ملامسة الماء لبشرة وجهها الناعمة . .
الأمطار لم تقم الطقوس الشتائيّة المعتادة في تلك البلاد . . الجو كان بارداً
حد الصقيع، لكنها آثرت الصراخ على التماهي مع تلك الاوساخ الملبّدة بالعرق
الدافيء تحت وطأة تقلباته المرهقة أثناء نومه الطويل . . راح يسأل عن لون شعرها
وكيف تحمّله تلك الألوان المثيرة قبل كل دعوة لهما لحضور مراسم استقبال أحد
المسؤولين الذين نادراً ما أصبحوا يسألون عن اسمه، فصار معهم يستذكر اسمها
للتدليل عن نفسه في زياراتهم المتلاحقة لمنزلهما القديم عند أطراف المدينة . .
تعبت أحواله جرّاء هيجاناتها المتتالية أمام زبائنه البسطاء الذين قدموا لتخليص
قوائمهم المتهالكة من السواد الأعظم الذي كان يجتاح أسواق اللحوم بعد نفاذ
السلطة الإداريّة هناك وانتظار التعيينات الجديدة التي ستعيد توزيع الأدوار في
حياتهما الممتدة إلى أبعد من حدود المتوسّط الذي طالما أحبا مجالسة ذكرياتهما
القديمة على شواطئه العاشقة للسّرو والزيتون.
طلب منها حمل الأولاد والذهاب بهم إلى غرفة في الطابق العلوي والبقاء هناك
ريثما ينتهي من مسألة كانت عالقة لم يسعه إخراجها من أبواب المنزل المشرّعة على
الحديقة التي كانت تقضي فيها ساعات غيابه البعيد عنها، تداعب خلالها أغصان
الصفصافة التي أهدتها إياها والدتها قبل خروجها من منزل عائلتها في الجانب
الآخر للمدينة.
حملت أبناءها وصعدت إلى الطابق العلوي، توجهت بهدوء إلى غرفة الحمام وبللت
شعرها كعادتها بالماء البارد . .
عاد لها لون شعرها البني الداكن،
أخذت مقعداً بين أبنائها وجلست تنتظر القادمين إليها بعد أن فرغوا من مسألة
كانت عالقة وصوت رصاصة لم تستدع صرختها بعد ذلك اليوم.
بجانب الصخرة هناك
خرج من بيننا ووقف على الصخرة هناك ليكشف لنا سراً كان يحتفظ به لطوال اليومين
السابقيين . . قال بأنه لم يدر هل إن ما رآه كان خيالا جميلا تحول إلى مسخ قذر
فور ملامسته الهواء، أم إنه كان حقاً سبباً في ارتجاجه المفزع أمامنا. بعضنا
ترك الحكاية في صوته المتدلِ على شفتيه المرتجفتين وإبتعد، ونحن بقينا ننتظر
النهاية التي كانت تبتعد عنا هي ايضاً لما أحدثته تلك القصة المجون من صدمات
توالت ترطم عقولنا الصغيرة وقدراتها على تسويغ ما لم يكن لتحتمله الحياة أصلاً.
"عن ماذا تتحدث أيها الأبله السقيم!؟"
صرخ أحد أصدقائنا في وجهه وهو يرتعد لسماعه أن الفتاة في القصة كانت تبيع الملح
لأحد القتلة المأجورين الذي إعتاد تدليس ضحاياه بملحها قبل إنفاقه الروح منها .
. ركضنا نحوه نكمم فمه كي لا يفسد علينا النهاية، وطلبنا الإستماع لما تبقى له
من قصته التي كانت تعيد إلينا ذكريات لم تكن بعيدة عن مدرس الرياضيات الذي وقع
من أعلى شجرة الكيناء التي تسلقها من أجل إلتقاط الكرة لأبناءه، ليبقي ذلك
المسكين يحلق في السماء ينظر بأسى إلى جسده الملقى على الأرض أمام زوجته
وأبناءه الذين راحوا يرفعون يده لتصطدم مثقلة بالتراب.
كانت الحكاية كلما إقتربت من نهاية ما، دخلتها شخوص جديدة لأحداث جد شيقة كانت
تدفع مسرعة نحو نهاية اخرى لم نتوقع وجودها في قصة قاربت تفاصيلها حكايات الريح
وتلك الفتاة التي فقدت والديها وعاشت حياتها تبحث عن شخص كان عرف والدتها التي
قلدتها صورة لها، ولتدرك لاحقاً بأن أحداً لم يرها يوماً وبأنها جاءت بها في
زيارة ثم رحلت بعد أن تركتها عند باب لأحد الصاغة في المدينة.
ارتجل صديقنا من على تلك الصخرة بينما كنا لا نزال نشده حلوقنا وننتظر النهاية
. . مشى إلى بُعد خطوات عنا ليسقط هو أيضاً مثقلا على التراب منهياً بنفسه
الحكاية التي بدأها هو معنا عندما كنا صغاراً نضحك على شعره المتناثر فوق رأسه
الطويل.
مجزرة التلّ
هذا الخفقان المتسارع لا ينبيء بالمزيد، فالبارحة استيقظت على أصوات إنهيارات
ضخمة أزعجت مناماً كنت أنتظره منذ رأيتها تقطع الشارع بحماسة من وجد قطعة
أثريّة من عصور ما قبل التاريخ . .
أقفلت باب الغرقة خلفي لفكرة أحملها مذ كنت صغيراً عندما وقفت إلى باب منزلنا
بصحبة والداي وهما يودّعان طبيب العائلة الذي جاء يسأل عن حالتي بعد أن تقيأت
ملعقة نحاسيّة تنتمي لمجموعة الملاعق الخاصّة بعمتي العجوز، قالوا حينها بأن
الطبيب لن يعود لرؤيتي ثانية، عرفت فيما بعد بأنه سلك الطريق الأسهل إلى أسفل
البناية عن طريق المصعد الكهربائي الذي كان عالقاً في إحدى الطوابق العلويّة.
خرجت بعدها لمشاهدة ما تبقى من التلّة التي تملّكها أحد المقاولون العتاة الذي
كانت تربطه بالنائب عن منطقتنا صلات قربى وتماثل عجيب في إختيار الزوجات.
ستزول التلّة عمّا قريب، وسيبنى في المكان مجمّع تجاري وُضِع تصوّر له على
لافتة مهيبة بداية الطريق إلى فسحة من المقاعد الحجريّة التي تبعثرت حول
السنديانة وحول نبع المياة القديم الذي كان سبباً في إستيطان الأجداد لهذة
المنطقة.
السنديانة لاقت مصيرها على شكل حلقات مستديرة إتخذها أصحاب الآليات الثقيلة
مقاعدا لهم يتبادلون على سنيها الكثيرة سيرتهم المعدنيّة وضحكاتهم التي ما زالت
تبحث في معنى السعادة.
ذاكرة أخرى
كان آخر ما حملت ذاكرتي: فَرَاش كثيف غطّى وجهي بالكامل وطفلتي الصغيرة سُميّة
التي ما زلت أتحسس دمها فوق يدي حتى بعد آخر الضوء من تلك الحياة السابقة.
البقاع كما كل الأرض اللبنانيّة نال حصّة لا بأس بها من حماقات الحرب الأهليّة
التي إشتغل على إشعالها جمع وفير من القادة المتخلفين وبعض من شركات السلاح . .
وجهة السلاح الوحيدة كانت الإنسان، والرصاص الأصفر كان وجهه يخرق صدورنا يحمل
شرور الدنيا وأتعاب الموت العامل بين أبناء الوطن الواحد.
لست أنا من مات في ذلك المساء . . كانت زوجتي من غطى الفَرَاش وجهها، فأنا مع
من تبقى لي من عائلتي كنا في الباح الخلفي بينما قمري وسُميّة إختبئتا في غرفة
الجلوس عند الحائط القبلي البعيد . .
كم كانتا جميلتين والموت يخرج بهما من تلك النافذة التوأم حيث جلسنا سوية حتى
آخر الليل نتحدث عن جمالهما وعن ليل لازوردي غريب كان يجتاح قلوبنا في آخر
ليالي العمر الجميل لي معها.
لم تنتهِ الحرب يومها عندما عبر المسلحون بيتنا في المساء وعلى رؤوسهم تبريكات
قادة فصائلهم وطوائفهم المتناحرة الداعية للقتل المنظم إلّا بعد أن أطلقوا إحدى
القنابل إلى غرفة في بيتي أشاعت به سيرة الموت المقيت.
قررت يومها ترك الأحقاد لشاغليها ولم أعلن ثأرها أمام من حضر جنازها . .
تورّم رأسي من حجم الشعور بفقدها ومن سطوة الأقدار وأخطاء الموت المتكررة في
سحق المولعين بالجَمال وتفادي أولئك الأنذال الساقطين بتركهم يعيثون ألماً في
الدنيا.
لا تبتعدي حبيبتي أكثر من هذا، هي بضع سنين ساذجة أقضيها بذاكرة أخرى لكِ وتعود
بي الدنيا إليكِ من جديد.
|