أعلنت الوحدة
أعلنت الوحدة وأغلقت باب الطيبة إلى الأبد باب الرياء, ارتداني ثوب الحزن
فجأة, ولم أعد أطيق حتى ضحكة غضبي ولا كسر الأطباق, حتى نفسي التي لم تعد
تريد أن تكون نفسي لم أعد أطيق رؤيتها طردتها من الدماء, ولا منظر خارطة
طريق دوائري الزرقاء حول مقلتي التي تنبأ عن هجوم التراب, سكنني الصمت
العاري والجمود المنتقم من أوهامه, والدموع تحفر لنفسها خندق الرحيل لكن
أمطار أفكاري تخرب عليها فرصة الهروب وتردم عليها رمال السراب, لقد أصبحت
الحسناء الشاردة بدل النائمة في قفص النسيان, من أنا حتى يخون جسدي روحي
ويرحل في أضلاعه, بينما رائحته يجب أن تبقى هنا, وماذا أفعل أنا في هذا
المكان, بينما يجب أن أكون في مكان آخر أتناول أوجاعه, وماذا تزيد عني تلك
الأفواه التي تتمحلق بعبارات مرتجلة, على الأقل,, على الأقل أنا أقولها من
قلبي من أعماق قلبي, وكل لحظة يشهق تنهيدي بدمعة, لكنها تعلق عند حدود
جفوني حيث تقبع دورية العدو المرمش بالكحول, لا يمكنك أن تقول أحبك وترحل,
الحب سيجعلك تبقى عندما الحب يرحل, مع حقائب المجهول, وفي النهاية عليك أن
تعترفي, أن شخصية الحزن تضفي عليك نوع من الانبهار, نوع من القوة, نوع من
الكبرياء.
كنت أجلس مع روحي عندما دخل جسدي إلي, ماذا تريد أين كنت, كأنك كنت هنا منذ
قليل هذه الرائحة ليست بغريبة علي, لم يكترث ومر عبر الكراسي المحنطة منذ
ثوان, ثم جلس يقرأ.!! أضحكني ولا أريد أن أضحك, أنت ..!!.
إلى متى سأبقى
أتحمل اتهاماتك العشوائية جزافاً أو ربما تتحملني, لماذا لا ترد هل أكل
الصوص لسانك كما أكلتني, هل لديك موعد جديد كالعادة, أخجلت ساعتك من كثرة
النظر إليها أو كان لونها أحمر منذ التقينا أول مرة على السجادة, أتذكر في
الشهر الثالث عشر والفصل الخامس من السنة, عندها فقط رسمتك على مسودتي جسد
ميت فارغ, أجل لا تضحك يا عمري أنا, أجل إنك جسدي الذي لا يريد أيضاً أن
يتركني وشأني, وما شأنك وشأن بيتي, أنا حرة أصففه كيفما أشاء, ودع نفسي
وشأنها ويا ليتها تدعك وترفض ما أشاء, وترحل بعيد .. بعيد عني.
كان حبك
مسودتي التي بيضتها بدمي الذي راح, على روزنامة حائط المطبخ منذ أول ليلة
كانت تقرأ ثم أصبحت صفراء, وعندما فتحت شراييني صرخت من وجعها بذور التفاح,
أحقاً عدت تتحدث مع الجراح, لما تريد دوماً أن نفتعل الشجار كل صباح, هل
أصبحت عندك هواية أم ماذا..؟؟.
أنا لم أكن يوماً كما تصفني ألا تخجل من
نفسك, لما لا تفهم أريد أن أبقى وحدي أهو عيب أم حرام أم افتعلت المحرمات,
أرحني من رأسك, أجل نحن هكذا ننسى أشياء كثيرة جميلة فعلناها, مقابل شيء
واحد سيء لم نفعله, بينما أنت روح قلبك اللامبالاة, أشربت قهوتك على الشرفة
الداكنة بالآلام, ونسيت كرسيك في قهوة العم صالح الذي افتقدك منذ عهد
الانقراض, وظن أنك كنت تقتله, حسناً لا ترد ومن يحتاج منك لجواب, دخلت
غرفتي الباردة وحبست وحدتي كي لا يحرمني منها كل مرة, أرني الآن كيف
ستقابلها, ماذا قلت لم أسمع ..؟؟ هل نفذت من عندنا القهوة, لكن لا..لا
تحضر سواها اصنع من أحزاني قهوة مرة, وتعال لأحكي لك قصة الجسد الخائن علك
صباحاً تستيقظ وتجد نفسك ميت بالمرة, في علبة الأثرياء
...
الطقس جيد في الخارج فلماذا أشعر بالسوء, يا إلهي ما هذا الملل وبعده ملل
ثم أيضا ملل, أنت إلى أين لا تخرج وتترك وحدتي وحدها, أخاطبك أنت .. لا
ترحل, كيف دخلت نسمة باردة من صحن التنور, أغلقت الباب حسناً, كما تريد
اذهب, لكن لا تنس أن طريق العودة تعثر بالنور, خرج يشتري قهوة إذاً, كانت
تنتظره عند المدخل تلك الخائنة الجبانة لما يلف ويدور, وكنت أعلم أنه
يقابلها لكن ماذا أفعل وماذا أستطيع أن أفعل سوى النواح, والقهر المتوفر
والمتاح, ورغم أني حذرته مراراً أن لا يفعل ذلك ولكنه يفعل, ويقابلها سراً
كي لا يسبب لي الجراح, ما أخف دمك عماه..!!.
وما الخطأ إن قابلها في غرفة
المدخل, كي لا أشتم رائحة الخيانة التي دفنتها عدة مرات ولم أبخل, ثم توجهت
لارتاح, وأعدت الوردة إلى غصنها, والعصفور إلى سمائه مع الرياح, كان علي أن
أفعل عمل مفيد أثناء غيابه, أأنظف مزهرياتي, لا بل ألون المرايا بالشمع
الذهبي, أو أزين مشاعري من لامبالاتي إلى كذبي, أو ماذا بقي لأفعله, أتعلم
الصمت, أم أرسم روح وقربها موت, تمزقت الأفكار في رأسي حتى شعرت بالنعاس
واقتربت من الوقت, هذا التلفاز لم أشاهده منذ سنين, يا ترى ماذا يكونان
يفعلان الآن, وماذا يقول لها وماذا تهمس له, على أي حال إنه معطل, لا وقت
لديه لأخذه للتصليح فمواعيده الغرامية, اقتربت لتدخل ذلك الكتاب الذي
يتحدثون عنه كثيراً, كأن اسمه كان غينيس للأرقام القياسية, ولم يكن ينتهي
التسجيل, كدموعي وجروحي التي لا تريد أن تنتهي وربما هي الأحق في تثبيتها
في ذلك المجلد لعلي أنال الشهرة والمركز الأول بالتعتير, وكلما حدث شيء
يسجلوه في ذلك الكتاب فلما لا يسجلون من هو صاحب أحسن خلق أو أعلى نسبة
خيانة على الأقل كنوع من التغيير, ما هذا الصوت..!! آه إنه اتصال إنه هو يا
إلهي هل سمعني, اتصل بي ليسألني عن شيء ما قد قمت بتوقيعه, وثيقة أي وثيقة
..؟؟ لا أنا لم أوقع على أي وثيقة, ولا حتى وثيقتي, ما هذا الهراء الذي
تقوله, إن هذا تبلي هذا افتراء, ولن أسمح لك بفعل ذلك بي, أين أنت على أي
حال, وماذا تفعل ..؟؟ لن أبين له أني أعرف أين هو ومع من, لا
أريده أن يعرف أني أعرف, حسناً هذا ما أردت أن تقوله على أي حال, شكراً
لاتصالك, أرجو ألا أكون قد عطلت عليك مسلسل غرامك, أعلم أن جل ما يريده هو
أن يثير أعصابي ويحتقرني حتى وهو جالس معها لا يضيع أي فرصة أبداً, ولا
يدعني أعش شبابي ولو لحظة من دونه, إنه كاتم صوتي لكن بشكل عالي وهذا شيء
عادي, وألم يبقى لديه إلا هذه الورقة لينشغل بها من صفحة ميلادي, هيا عزيزي
لتتقدم وتفترش رمال سرابي فأنت خندقي الذي لبسته بأعوادي, بعدما اشتقت
لتنقلاتك القتيلة هنا وهناك, من صورة إلى صورة, تأخذ عنك نفسي عزائي, نفسي
العمياء.
ذلك المغرور المتعجرف ما زال يكسر قلبي ويقذفه على شاهدتي قال كل شيء قابل
للكسر, ولم يزال يجرحني ويتألم عني قال جروحي مثل السحر, وتلاحقني ذاكرته
كأنها روح في ماء, لكن لا سيعود فكرسيه ما زال دافئاً ونفسي ما زالت هنا
وإن قابلها هناك, فلن تهرب من عروقها الدماء, أعلم أن لا ذنب له بل هي التي
كانت تعلن الوحدة عليه دائماً, فقد لاقت ممن كانوا حولها من تصرفات, حتى
تطايرت أحداقها مثل المفرقعات, وكان بإمكانه وبكل سهولة أن يرى كيف كانت
نيران الغضب تصب في قلبي كالرصاص, فكان من الممكن أن تخرج مني براكين الغضب
والجنون لكني تخلصت منها السنة الماضية فلن أقدر أن ألومه مهما مات, ولم
يتوقع أحد ما أنه كان طول تلك السنين يعيش مع جبل من أحزان, وشخصية هربت من
جسد سكران, وماذا حصل لنا بعد تلك السنوات, كنت كلما أنظر إليك, أرى ظلي
في عينيك, لما الآن لا أرى حتى عينيك ولا حتى الظلال, أريد أن أرى وأكحل
عيوني بصاحب هذا الصوت الحنون, الذي رافقني طوال حياتي حتى أصاب عقلي
الجنون, ولن أدخل فيك مرة ثانية حتى تعود الحياة تسير على السجاد المرصع
بحبات الجمر والليمون, ولا أدري لعله غلبني النوم حتى أني لم أشعر بوقت
عودته, لكن لمحت ابتسامته, ترقص على المخدة, كشيء يقفز هنا وهناك وقد أوقع
نظارتي وبعض من جدائلي البيضاء على المسودة, ولم أتجرأ على سؤاله لكنه كان
يتمتم في وجل, وجل ما فهمته أنه تصالح مع نفسه من الخجل, فقلت بصمت لقد عدت
إليك بمشاعر جديدة, لكن لم أستطع التأقلم معك, فلا ترغمني أن أنام باكية
قد حفظت درس أدمعك, ولما لا تخفف عني عناءاتك المفتعلة التي تظهر أمامي
فقط, هل ورثتها من أجسادك السابقة أم أحضرتها من عند جارك المحنط, بالله
عليك اترك وحدتي, فقد أعلنت ترك روح مسودتي, بعدما أصبحت من عداد
الأحياء.
والله لقد تعبت أعصابي وتلفت أحاسيسي, بالله كلمني فمن غيرك يسمع فجوري, لن
أقدر على التحمل أريد الخروج من دائرة قبوري, كلمني عن شيء أعرفه ولا تتعب
نفسك في البحث عن شيء أجهله تاه مني شعوري, كم تمنيت أن أعيش مع أشخاص
يقدرون ما أفعله لأجلهم, لكن لا يعرف الناس عني ما أعرفه عن نفسي ولا عنهم,
ورغم أننا نعيش تحت جسد واحد, إلا أننا نشعر وكأننا غرباء, في بئر بلا ماء,
بعدما أن شاء القدر أن نلتقي ويكون قلبك لي وقلبي لك جرفتنا الدماء, ومهما
جرى وسيجري, ذكراك في روحي تجري, فأنت في عروقي بحري, وفي كلماتي شعري,
صحيح أني لم أستطع فهم مشاعر قهر روحي, لأني أعرف تماماً أنك لن تشعر بأي
شعور ما لم تجربه, لكني كنت أفهم تماماً معنى جروحي, فهي كانت دوامتي تحت
البحر الذي كنت كل ليلة أشربه, وأصعب شعور يمكن أن يغير المرأة هو حركة
صغيرة لروح جديدة في رحمها, روح جديدة لن أسمح لأحد مهما كان أن يخونها,
فلا تقدم عطاءك بيد من رياء, كي لا يبقى ضميرك يوخزك طوال فترة موتك
بالهواء, فلا يوجد في رأسك سوى محطتان تقلبهم وتكررهم كل عام, وتوهم نفسك
أنهما عشر محطات مختلفة وتموت خوفاً إن شربت يوماً ما غير الماء, فما هذا
الذي تقوله نهاية المطاف, من محاولات ودوافع وما إلى ذلك, ما هي هذه
الهراءات التي أسمعها هنا الآن, ربما لم أحبك لكن من المستحيل أن أفكر
بقتلك, فأنا لا أحبذ فكرة القتل عندما أريد التخلص من الأشياء.
خارج الصورة دائماً
عندما عادت من أيام العدة وبعد غياب شعرت بأنه طويل وكما ذهبت عادت, شغلتها
عني أفكارها وحبها الجديد, وأنا أنتظر الفرج أو صحوة أو هزة عاطفية في
مشاعرها أو زلزال يهز جبلها الذي لم يرى بعد وادي الكذب والغدر الذي يحيط
به, وتسولت نظرة حب من بين عينيها ولم أجد شيئاً, فأيقنت أني كنت وما زلت
في حياتها خارج الصورة سواء قبل أو بعد وفاة والدي رحمة الله تعالى عليه.
حتى في الكلية كنت خارج رحمتها كلياً, فعندما كنت أتأخر قليلاً عن المحاضرة
لا تسمح لي بالدخول, وتصرخ علي أمام الطلاب وتطردني, بينما تسمح لطالبة
أخرى بالدخول, فلماذا تفعل بي ذلك وما الذي فعلته لها, وبدراسة تطبيقية لا
إنسانية أرادت أن تعرف ردت فعلي وفعل مشاعري عندما تناولت خدي بتلك اليد
التي طالما قبلتها وعانقتها برقتي, كنت في حديقتها كوردة في تربة الألم,
كنت أنادي صوتي في زجاجة السقم, كانت لا تشعر بكل هذا وأنا أشعر بكل هذا,
كنت أحبها وهي ضعيفة, ولم تسامحني وهي قوية, ولا تعرف أن الصمت عن الحق
سيفقدني أول علامات إنسانيتي, وأول خيوط كرامتي, ويموت الكبرياء كل يوم مئة
مرة, ويحترق قلبي كل لحظة مليون مرة, ولا أجد على خدها دمعة هاربة من أجمل
عيون رأتها عيوني, وقد أذابت دموعي الحارقة.
قسوة قلبي ولو كان من حديد,
منذ افتقدت نظرتها الصادقة سكن البرد عظامي وتعلق بها وكأنها أمه تنهيد,
وكان كلامها سحر يدغدغ ثورة غضبي لتهدأ ثورتي, وكانت ترى حتى رواسب في
داخلي دفينة محطمة تزحف نحو مخيلتي, أعلم علم اليقين أن ثمة وردة جرحتها
بأشواكها, وأن هناك سر في قلبها لا يعلم به إلا الذي خلقه في قلب الأم,
وكادت على وشك أن تفقده ويرحل عنها, قاومت بكل قوة فوجدت نفسها قوية على
يتيمتها البنت الوحيدة الضعيفة, والتي تعرف أنها لن تفتح فمها أمامها بروح
كلمة, توفي والدي وتركها شابة عذبة الجمال, فقررت أن تموت معه وهي معنا.
فماذا فعلت بعقلها وباسمها وبذكراها وبابتسامتها, قلبت كل أوضاع قلبها, لم
تجد أمامها إلا أن تفضل أخي علي, كان كل ظنها بذلك أن يبقى شيء من الرجال
في البيت, لتغلق به كلمات غريبة, خاصة من الأقارب, كلمات تلدغ بلا أثر ولا
مبالاة, وكان معها حق أن تحزن لأجله كل ذلك الحزن, لأن لها معه عشرة عمر من
أيام المدرسة الثانوية, وهو من ساعدها حتى أكملت دراستها ووقف لجانبها حتى
أصبحت أستاذة في الجامعة, لا أنكر ذلك يا أعز الناس رغم أنك آلمتني عندما
ضربتني بكل قوتك من أجل أخي ولم يكن تصرفك بالحكيم لكن من سيفهم عليك إن لم
أفهم عليك أنا, من سيفهم سبب حزنك وقهرك ومن سيغتبه ويستوعبه غيري أنا,
وذلك اليوم جاء أخي ومعه صديقته وقلت له أن هذا سيغضبها كثيراً أخرجها من
البيت, ألا يكفينا أن الكلام علينا كل يوم يزيد بشيء حدث ولم يحدث, ولم
يستمع لي أبداً, وجلست في غرفتي أرتجف من خوفي عليها, ليتها تأتي ولا تسمح
لها عينيها ولا إدراكها برؤية ذلك حتى ينجلي, لكنها منذ دخلت من الباب
وكالعادة تذهب مباشرة لغرفة أخي كم تشتاق إليه وإن كانت معه, فهو شبيه
والده الذي فرح كثيراً عندما رزقا به وبالمقابل حزن جداً عندما رزقا..!! بل
بليا بي.
وانفجر غضبها عندما رأت ما رأت, وبجملة واحدة ثارت عليه عدد
ثوراتها علي دفعة واحدة, لكن أنا كنت أقبل اليد التي كانت تضربني, وهو ضرب
الإنسانة التي طالما دافعت عنه وبسببه كانت تؤلمني, وبكلمة واحدة ولم
تعدها, قالت له اخرج ولا تعد, ثم انهارت على الأرض كجبل من جليد فاتصلت
بخالتي التي جاءت بصحبة الطبيبة, وبعد أيام تحسنت قليلاً, ولكن لم تسمح لي
برؤيتها, فقلت لها والله ذلك آلمني أكثر مما لو أنك حطمت بالحديد جسدي, ولم
تزدني هذه الحادثة إلا بعدها عني, وحبست نفسها في سريرها ومرت الأيام بسرعة
وأنا أسرق نظرة منها كل ليلة وهي غارقة في أحلام ليست منها, وبصراحة ومن
ذلك اليوم لم نعد نرى أخي أبداً بالرغم من أنها حاولت مراراً إعادته, وطلبت
من خالتي ذلك, لكنه كان يرفض بشدة ويتكلم عنها بصورة سيئة, حتى توقفت خالتي
عن التحدث معه, وهي تقول لها في كل مرة حجة لتبعد عنها نار الحزن والأسى,
التي أشعلها في قلبها وهي مازالت تسامحه مهما فعل, ومازالت لا تتخيلني في
عقلها مهما فعلت, ومرت أيامنا التي كانت مضيعة للقلب والروح بهذه الصورة,
حتى عرفت من خالتي أنه قد تزوج وأنجب أيضاً, وأصبحت علاقتي بها ككلمات حب
خدرها الحنين, وكاد شبح مشاعري من نسيج وهمي, أن يقودني للرقود في مشفى موت
المجانين, وشيء واحد صبرني رضا الله وحبي لها, الذي نجاني من أمواج حزنها
التي تأخذني وتحضرني بها, وهي كانت تسبح بحب من دون طوق نجاة حتى جرفتها
موجة غادرة تحت الحضيض المالح, وأسرها في معتقل جسدها من دون سجان, بل كان
حزن ندمها هو سجانها, فقلت الله يا خالتي عسى ألا تعيد الأيام ذكرى مأساتي
ومصيبتي, وكبر ابن أخي الوحيد المدلل, ومن شابه والده ما ظلم, وهما من
امرأة لأخرى ومن سهرة إلى حفلة, وأنا من نجاح إلى تفوق ومن رضا إلى سعادة,
والحمد لله حتى وصلت إلى ما وصلت إليه حبي وعمري, أستاذة في الجامعة أجل
وأكملت ما بدأت به ولم تكمله, وفي ليلة كتبت على وثيقة ولادتها حياتي,
عندما دقت بيديها ولأول مرة في حياتها لم تدقها على باب جسدي, بل دقتها على
باب غرفتي, وبابتسامة أنارت نور ابتسامتي, تكلمت معي بروح التنهيد, وأخيراً
ذاب الجليد, وأعلن انتهاء الإعصار, الذي حصد مشاعري ودفنها في احتضار, ومن
وقتها لم يترك لي ولا نقطة بكاء تحت الباب, يا إلهي ما الذي تغير وجعلها
تدخل غرفتي بعد سنين عجاف, وتتذكر أن لديها ابنة تنتظرها وهي عطشة لحنانها
ورقتها وعطفها الذي كان محجوب عنها لسبب أو لآخر, والتي تتوق لنظرتها التي
تملأ قلبي سعادة ونشاط وحب وصبر, ربما كانت حياتنا كلها عيوب لكن صمتي ما
أسكتني, وجعل الأمور تخرج مني, لكن شيء ما كان يصبرني شيء بها يربطني, صدق
العاطفة الرحمانية, التي لن يستطيع أعظم مخترع في الكون أن يوجد ذرة منها.
جلست قربي وحدثتني ولم تكاد تراني ودموعها تتساقط فوق خدي, ورغم السعادة
التي غمرتني والهناء الذي رفرف حولي, ما زال خيط من الألم بين نظراتها يأرق
نظرتي, إنه دمعاتها الغالية التي تذبح بها فرحتي, وقلت لها في خجل عاد من
جديد بين حديث أم وابنتها, وقد غاب عني وانحرمت منه منذ سنين, أرجوك لا
تبكي فلم يؤلمني أكثر من ضرب الحبيب إلا هذه الدموع واللهيب, فتبسمت وقالت
لم أدري أن ابنتي أصبحت في بعدي عنها تقول الشعر والقصيد, وفي لحظة سريعة
تذكرت الماضي, عندها لم تعد تقوى دموعها على الرحيل, وفي سكون عجيب جاءت
خطوات خالتي بخبرها الذي أعادنا لدوامة الحزن مرة ثانية, جاءت لتأخذنا
لزيارة أخي في المشفى, لقد تعرض لجلطة في قلبه بعدما ضربه ابنه المدلل
وهرب بماله, وبقيت أنظر إليها لأرى ردة فعلها لكن من دون دراسة تطبيقية,
صدقاً تلك الدموع التي كانت لا تريد التوقف اختفت فجأة, ولم تذرف منها ولا
نصف دمعة, بل ولم تبدي أي شعور يخالف سعادتها, التي ولدت وولدتني معها من
جديد, بل قالت في قلبها, كانت أختك بسببك خارج حياتي والآن أنت خارجها,
وكما آلمت قلبي آلم الله تعالى قلبك, لكن واجبي وعاطفة الأمومة التي لن
تدركها وتشعر بها أبداً مهما فعلت, ستحتم علي أن أسامحك, ألم أقل لك أماه
أن لا أحد سيفهم عليك ويحضن أحزان عينيك ويقدر صنيعك غيري, ومما زاد فرحتي
رغم مصاب أخي, أنها كانت تدرك حبي لها, لكن كانت تخفي ذلك ليزيد حبها لي,
ومن وقتها لم أعد خارج صورة حياتها, بل أصبحت داخل عقلها وقلبها دائماً.
حديقة تحت الأرض
دقات حبات المطر على الشباك, ماذا تريد عند هذا المساء, هل أفتح لها لكن
أخاف أن تبللني وأنا أشعر بالبرد قليلاً, ويبدو أن هذه الليلة ستكون طويلة,
وقد جافاني النوم وبماذا سأفكر لأسلي نفسي العليلة, كنت دائماً أسمع كلمات
ترفعني من العنة, وأنا كل ما أريده أن أكون ولو حجر في الجنة, وما كنت
لأخاف عمري, والله تعالى كل ما خفته عمري, وذلك منذ بدأت أشعر بشيء غريب
يحدث هنا.
في هذا البيت وفي هذا المبنى, الذي يسكن في بالإضافة لنا بيت جدي
وعمومي, إنها حركات غريبة وكأنها تبدو كخيوط مؤامرة تحاك ضد أحد ما, ولم
أتخيل أبداً أن تكون ضدي أنا, بدأت أشتم رائحتها وكأنها تعطرني الآن, فبدأ
الخوف يصبح رفيقي, أجل بدأت أخاف, وأنا لا أعرف ما الذي يجري وراء الضفاف,
يبدو أن ثمة أنباء خرجت بشرها, وطارت حتى وصلتهم, ويبدو أنهم صدقوها قبل أن
يصدقوها مني, ولم يكن ذلك يهمهم على أي حال, لماذا ألم أكن تربيتهم أم ذلك
لم يكن معلوم, على أي حال من يكذب يرى الكل كاذب والباقي مفهوم, وبدأت
الأحاديث تدور حول حقيقتها التي صدقوها فقط, واستبعد الجميع كذبها وظنها,
وأقاموا الحد واتخذوا أمرهم, وشرعوا بوضع الخطة, وكأني أصبحت العدو الجبار
الواقف عند الممر والذي بعد قليل سيأخذ عمرهم, وبعد طول مباحثات وتفكير
واجتماعات, لاختيار المنفذ الصامت الشجاع, للمخطط الجديد وبكل اندفاع, الذي
سيعيد رفع الرأس ويغسل العار بورق الجهل والغباء, فرسى الاختيار على حفيد,
سيفعل ذلك ومن دون أي تردد ولا خوف ولا سؤال, سبحان الله تعالى القادر على
كل شيء, في يوم التنفيذ كان عندنا مستعد للقيام بمهمته النبيلة.
لكن ما حدث
لم يتوقعه أي إنسان, ولن يصدق حدوثه أي كائن لا يخشى جبروت الله تعالى, فقد
انهار المبنى الذي نسكن فيه والمؤلف من ثلاث طوابق, كيف ولماذا لا أحد
يعرف, وفقدت الوعي ولم أعرف بما حدث وكيف حدث, ولم أشعر بأي شيء بعد ذلك,
إلا عندما فتحت عيوني بصعوبة, وكنت في مكان آخر وكان قربي شخص لا أعرفه,
فقلت أين أنا, قال في المشفى فالمبنى الذين تسكنين فيه قد انهار ومات
الجميع, فقلت ولم أنا مازلت على قيد الحياة, قال لأنك تمنيت من الله تعالى
أمنية أتذكرين, أجل أذكر تمنيت ألا أموت إلا وأنا أصلي كيف عرفت, فقال
حسناً لا بأس عليك, الآن سيحقق الله تعالى لك هذه الأمنية, الله أكبر الله
أكبر يا إلهي إنه أذان الفجر.
قال أجل, فقلت يا فرحة قلبي هل ستكون صلاتي
الأخيرة صلاة الفجر, أشكرك وأحمدك يا الله, قال هيا إلى الصلاة إذاً, لكن
من أنت, قال أنسيتني أنا عملك, هيا.. هيا انهضي للصلاة اذهبي وتوضئي من هنا
الحمام, دخلت لأتوضأ وعندما خرجت لم أجده, فدعوت له وشكرته من كل قلبي,
وارتحت كثيراً ووقفت على سجادة الصلاة, أكاد أطير من سعادتي, وعند السلام
الأخير سلمت الروح وأخذ الله أمانته التي أوزعها عندي طاهرة عفيفة, وحقق لي
أمنيتي الوحيدة في حياتي, وما الغريب في ذلك, وهو الله الذي لا إله إلا هو
التواب الرحيم القادر على كل شيء, سبحانه وتعالى له الفضل أحمده وأشكره
على كل شيء, وعند طلوع الشمس دخلت الممرضة لتجهزني للرحيل الأخير, وعندما
رأتني على الأرض صرخت بقوة فاجتمع الجميع عند باب غرفتي, ثم جاءت الطبيبة
المناوبة والمسؤولة عني وصعقت عندما رأتني ميتة على سجادة الصلاة وقالت
الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد عبده ورسوله, كيف تحركت
أقسم والله أنها كانت على حافة الموت, وأنها كانت مشلولة تماماً, حتى أنها
لم تكن تستطيع تحريك ولو إصبع يدها, ولا أمل منها لا مستحيل هذا مستحيل لا
إله إلا الله, وبعد ذلك قررت الطبيبة أن تسأل عني وتعرف ما سر حكايتي,
وسألت عني الجيران الأقرب إلينا, فقالوا لها لا يعرف بأمرها سوى مختار
الحي, فذهبت عنده وسألته, فقال لها بعد تردد, ما كنت لأعلم بالأمر لولا
أني سمعت بالصدفة اثنين من الأحفاد يتحدثان عنه, فقالت وماذا سمعت, قال لها
أن ثمة خبر جاءهم عن علاقتي بشاب وأني تورطت معه وحملت منه أيضاً, فثار
جنونهم وقرروا قتلي, دون حتى أن يتأكدوا من الأمر ولا حتى أن يسألوني, وفي
يوم التنفيذ انهار المبنى هكذا فجأة ولم يعرف أحد كيف ولماذا, فسألته
الطبيبة وأنت ما رأيك بالفتاة, قال وما أهمية رأي والله تعالى قد أنزل
عقابه عليهم, وعدالته ورحمته عليها, إذاً كل ما في الأمر إشاعة أحيكت ضدي,
وانتهت بالتدبير بقتلي, ومن أقرب الناس إلي.
ألم يفتحوا القرآن أبداً
ليقرؤوا الآية الكريمة ,وقوله تعالى : بسم الله الرحمن الرحيم ( يا أيها
الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا
على ما فعلتم نادمين) صدق الله العظيم ....أم أنهم يفتحونه ليتفرجوا على
صور الكلمات فقط, أجل لقد سألت عني بكل شوق وصدق وعرفت أن كل ما تمنيته في
حياتي أن أسكن حديقة غناء عذبة بعدما يسكن جسدي تحت هذه الأرض المباركة
بإذن الله تعالى, وأن أكون ولو حجر أو ورقة شجر أم حفنة تراب فيها, أجل
إنها وبعدما عرفت قصتي, وحقيقة براءتي وحسن سيرتي, قررت أن تسير دربي, وأن
تتمنى أمنيتي.
وردة لا تريد السباحة في شبر ماء
اليوم عيد ميلادها, فتحتُ صندوق مدخراتي الذي أكل الغبار غطاءه الأحمر,
وعلى ثيابي نثر بقية غباره الأسود, وأما ما تبقى منه فقد نثرته في الهواء
وهو متعباً من النوم طوال تلك الأيام فوق غطاءٍ خشبي كئيب, ثم أخرجت
المدخرات التي كنت أدخرها لأشتري أغلى هدية لأغلى الناس, وككل صباح معطر
بوجهها الباسم الطاهر, قلت لها صباح الخير, قالت صباح النور يا وردتي, ولم
تقل شيئاً عن مناسبة اليوم, ربما نسيت أو تناست حسناً هذا جيد, لأجعلها
مفاجأة لا تنسى, ثم خرجت مسرعة كي لا تقول لي لا تنسي درس السباحة, وكدت
أنجح بذلك لكن لم تكتمل فرحتي.
فقد نزلت إلي عبر درجات خجولة كلماتها العذبة, وهي تقول حبيبتي لا تنسي درس
السباحة بعد المدرسة, لكن لم أجعلها تشعر أني سمعتها, وقلت آه تنسى مناسبة
اليوم وتتذكر درسي في السباحة, الذي لا أريده ليس لعدم حبي لرياضة السباحة,
فهي مفيدة جداً لجسم الإنسان, بل لأن مدربي يحملني ويرميني في الحوض وكأنني
كرة ماء, فأخاف جداً, خاصة عندما أكاد أن أغرق, أو أشعر أني أغرق, فيمد لي
تلك العصا التي لا أراها إلا بصعوبة ..
ورن جرس الانصراف فهربت بعيداً عن درس السباحة, وإن سألتني لما لم أذهب
سأقول لقد نسيت, وإن قالت إنها أخبرتني وأنا أنزل الدرج سأقول لم أسمعك.
يا إلهي إن ذلك كذب لكن ماذا أفعل الوقت قصير ويجب أن أشتري هدية رائعة
لها, وغداً إن شاء الله سأعوض هذا الدرس وأمري إلى الله, وكنت قد قررت منذ
فترة أن أشتري لها وردة وما أجمل من الورد لأغلى الورود وأعطرها, فتوجهت
عند بائع الورود وكانت هذه أول مرة أدخل فيها محل ورود, ولا أدري لما لم
أشعر بالسعادة عندما دخلته, ربما لأني كنت أسمع بكاء أحدٍ ما, لكن المهم
اخترت وردة لا مثيل لها وسألته عن سعرها, فقال سعر صرخت بسببه حتى سُمعَ
صوتي لآخر الشارع, فخرجت هاربة وكأني رأيت شبحاً, وقلت هل أصبح سعر الورد
هكذا, ألم أكن أعيش في هذا البلد أم لا, وعلى الرصيف الآخر لمحت صديقتي
العزيزة وهي تحمل وروداً, فقلت الحمد لله إنها غنية جداً ولن تمانع من
إعطائي واحدة, فقلت لها يا صديقتي الرائعة هل من الممكن أن تعطيني وردة
واحدة فمعك الكثير منها, لكنها رفضت بشدة وعبست في وجهي, فتشاجرت معها
وغضبت كثيراً, وقلت لها أي الصديقات أنتِ, ثم تركتها ورحلت بعيداً, وفي
عيني دمعة تحرق قلبي وروحي..
لكني لم أفقد الأمل, وخطر ببالي أن أقطف وردة من حديقة بعيدة, ولا أحد هناك
سيعرفني, دخلت حديقة كان فيها ورود رائعة الجمال, وقلت وما حاجتي لتلك
اللئيمة, فاقتربتُ منها بحرص وبعدما تأكدت أن لا أحد يراني, مددت يدي
لأقطعها, فصرخت آه جرحتني أيتها الوردة, وبينما كنت أتألم نزلت على الجرح
قطرات ماء ندية, إنها دموع تلك الوردة المسكينة, نظرتُ إليها ولم أصدق نفسي
بأن وردة تحدثني, استمعت إليها بكل ود وحب, قالتْ أرجوك لا تقطعيني لا أريد
الحياة في شبر ماء, بعيداً عن هذه الحديقة الغناء, قلتُ لها لن أقطعك
اطمئني, لن أرميكِ أسيرةً في كأس ماء, كما يرميني المدرب في حوض الماء,
ويتركني لأمري ومصيري ..
وقلت في نفسي كيف ستعبرين عن حبك وإخلاصك لها, بوردة ستحرمينها من حب
الطبيعة والحرية والحياة, وهل ستهديها الحياة بوردة فارقت الحياة, ثم بكيتُ
كما لم أبكي في حياتي, وعدتُ البيت والدم يقطر من إصبعي.
بعدما مررتُ على مكتبة, وجدتُ فيها بطاقات جميلة جداً, فاشتريتُ واحدة
وكتبتُ عليها, إلى أغلى وردة في حديقة حياتي, عيد سعيد يا مهجة قلبي وروحي
وجنة عمري, وعندما رأيتُ ابتسامتها شعرتُ بسعادةٍ مُلءُ السماءِ والأرضِ
وهي تأخذ الهدية مني ولم تسألني عن شيء, عندها أدركتُ أن ما من هدية أغلى
من هذه الابتسامة الصادقة الطاهرة, وهذا القلب الذي يشع حباً وحناناً وطيبة
ودفئاً, وعندما قرأتْها قالتْ بسرور الحمد لله أنكِ لم تحضري لي وردة,
وكأنها كانتْ تشعر بأني كنتُ سأهُديها وردة, بل وإنها لم تكن جاهلة بمناسبة
اليوم, فقد كانتْ تريد مفاجئتي كما أردت مفاجئتها, ثم قلتُ لها لماذا..؟
فقالتْ لأن قطع الورود حرام, ونظرتُ إليها ضاحكة, فقالت ماذا..؟ ما الأمر.
فقلت لا.. لا شيء فقط أحبك يا أغلى البشر ...
|