الرّحيم
عند الطرف البعيد البعيد من المدينة، وتحديدا من الجهة المحاذية
للجبال الوعرة المليئة بالصخور والكهوف والعظام المتحللة لحيوانات وبشر مروا من
هنا، أو هربوا من هناك من المدينة ؛ هناك بالتحديد وجده بعد أن وصل إلى أذنيه
نشيجه الذي بدا له مواءًأ غريبا ،وبعد أن اشتم رائحته التي سارت الريح بها اليه
سير صبايا يعرفن قدْرهن من الجمال يتبخترن تيها ودلالا. كان طفلا في الثانية أو
الثالثة من العمر بين بقايا ثياب ممزقة وأحذية كائنات بشرية متناثرة بعضها ما
تزال الأرجل فيها حتى أعلى الركبة. وكانت هناك قطع متناثرة من اللحم الفاسد
والرؤوس التي التصق الشعر بالدم فغطى وجوهها . أجساد أخرى صغيرة وكبيرة الحجم
كانت متفحمة.
لم يفهم ما جرى. لكنه تذكر انه سمع أصواتا مرعبة في السماء وعلى
الأرض . أصوات كانفجارات البراكين يتبعها رجفة كارتجاف الأرض حين يشاكسها
زلزال.
لم يفهم ما ألجأ هؤلاء البشر إلى منطقته حيث الماء قليل والصيد أقل.
فكل يومين أو ثلاثة قد يتاح له أن يغافل أرنبا يقضم بقايا عشب نبت بأعجوبة من
تحت صخرة والأرنب عند لهفته هنا قد ينسى حذره. أما هو فهنا قد يضطر أحيانا الى
أكل السحالي والجراذين.
فماذا كانوا يتوقعون أن يجدوا هنا.
فهـِمَ – بصورة غائمة وبما أتيح له من تلافيف دماغية بسيطة- أنهم
هربوا من شيء وان هذا الشيء لم يكن مما يُجدي الهربُ منه؛ فأن تواجهه أو تهرب
منه. النتيجة واحدة كتلك التي شاهدها ذات مرة في منطقة أخرى بعيدة عن هذه. ماعز
أغرتها الأعشاب المتفرقة فتاهت عن راعيها في بطن الوادي ووجدت عشرين مفترسا إلا
قليلا يهجمون دفعة واحدة . تمزقت هي حقا ولكن تمزق معها أبضا كثير من أجساد
الضباع والذئاب وابن آوى وحتى بعض النسور تكسرت أجنحتها. كان الجوع قد انسى
الجميع أن من الممكن تقاسم الغنيمة.
لكنه أيضا في مسلسل الغموض الكبير هذا لم يفهم كيف أن الزلازل
والبراكين لم تنل من هذا الطفل الذي يكاد يكون رضيعا.
كان جائعا لكنه نسي جوعه ؛ فقد أدهشه أن الطفل حين رآه صمت، ومشى
بتعثر نحوه وسمعه يقول " بوبي" و يكررها وهويمسح على رأسه ورقبته وذيله ثم أخذ
يضحك ويشده من ذيله.
من بوبي هذا الذي يحبه هذا الصغير إلى حد أن يعانق اسدا أشقاه الجوع
بين هذه الجبال. أهو اسد آخر؟ لا أسد غيره في الاقليم المحاذي للمدينة التي
تسميها الطيور مدينة المحبة. هنا لا حُب، لا ألفة ،لا لعب . هنا مخالب وأنياب
وقضم وتمزيق وبلع وهضم وبحث من جديد. ثم إن اسم بوبي هذا لا يوحي بحياة البراري
والقفار. "بوبي" اسم يخجل أسد وقور مثله أن يحمله. شعر فعلا بالقرف والحرج
لكنه أدرك أن هذا مجرد طفل ولا يقصد الحط من مقام أسد عظيم مثله فكتم زمجرة
غاضبة كادت تفلت من بين شدقيه المليئين بالوبر.
كان الطفل يلبس ملابس جميلة ونظيفة خلا بعض الغبار والدم الذي ربما
جاءه من الكائنات البشرية التي ينتمي لها . وكان في رقبته سلسلة .وشعره مقصوص
بعناية من حول الرأس فوق الاذن فيما ترك الباقي طويلا يلمع كالكستناء المذهب
تحت الشمس، كم يعبث البشر بأطفالهم ليبدوا كتلك الكائنات التي نراها قادمة من
السماء ولكنهم يتركونهم في القفار بين أجساد ممزقة. وهو شيء لا يمكنه فهمه.
فكر الأسد فيما يمكن أن يفعله لهذا الصبي الذي من الواضح أنه وحيد
وفاقد لكل شيء. هل يصحبه قريبا من مدينة المحبة ويرميه قريبا منها؟
تلك مخاطرة كبرى فقد حاول بعض الثعالب والذئاب والضباع ذلك فلم
يعودوا أو عاد بعضهم يقولون بأنهم بحثوا كثيرا عن لحم يؤكل فلم يجدوا وطاردهم
بعض الشبان بالعصي ولكثرتهم هربوا. وهو وحيد. صحيح أنه أسد واسمه يسقط سراويل
أشجع الشجعان ولكنه وحيد ،والكثرة تغلب الشجاعة.
كان أسدا وفي جوفه قلب أسد. قلب كالصخر لم يعر ف الحزن يوما،
والرحمة شيء مات أبوه وأمه قبل أن يعلماه إياها لكنه حين سمع الطفل يبكي ويقول
"مم" ويشير الى فمه عرف أنه يريد أن يأكل فتحرك في قطعة الصخر التي في جوفه شيء
دافئ كسائل يريد أن يخرج ليواسي الطفل فخرج من عيينه نقاط ماء مالح.
ابتلغ غصته وسأل : ماذا يمكن أن يطعم طفلا كهذا؟ هل يأكل دودأ،
حراذين أم أنه كالأرنب يأكل العشب او أوراق الشجر؟
أحزنه الطفل كثيرا ، وتراءى له أنه وحيد- مثله - وسيكبر هكذا . فأحس
أن القدر رماه إليه وربطه به ربطا لا فكاك منه. وحيدان في قفر. يا لحكمة
الأقدار فمن للوحيد إلا الوحيد؟!
أركبه على ظهره ومضى يبحث عن طعام وماء له ؛ سيجرب إطعامه أي شيء
حتى يستقر على شيء فيسعى الى إحضاره له إذا أمكن. للطفل الحق في البقاء كأي
كائن ، يجب أن يساعده ليعيش ويكبر ويصبح ذا شأن . ومن يدري قد يعود الى
المدينة ويصبح زعيما فيها وقد يأمر بالسماح للاسود بالاقامة وتوفير اللحوم
الطازجة اللذيذة لها فيها.
اما هو الاسد الذي يعيش عند الطرف البعيد البعيد من المدينة وتحديدا
من الجهة المحاذية للجبال الوعرة المليئة بالصخور والكهوف والعظام المتحللة
لحيوانات وبشر مروا من هنا أو هربوا فإنه الان بحاجة الى البقاء ليقوم برسالته
خير قيام.
شعر بالتعب من ثقل الطفل على ظهره. " أنا لم أحمل أحدا يوما على
ظهري؛ أقصى ما فعلته هو أن أجُرّ الفريسة إلى ظل شجرة، أو إلى داخل مغارة
لآكلها دون تنغيص من ضبع أو ثعلب."
اقعى متأملا الطفل. سال نفسه وهويشعر بشيء من التعاسة:" من ألقاه
إليّ ، لو كان أكبر لما تجشمت هذا العناء،بالتأكيد من فعل بجماعته من تمزيق
ليسوا أسودا. الأسود لا نقتل ونلقي. إنها نقتل لنأكل. ليسوا ثعالب ولا ضباع. لا
أظنهم بشرا فأنا أعرف البشر أعرفهم من المدينة تلك. مدينة المحبة والسلام ..
مدينة العصافير الملونة التي تمر بنا وتلقي التحية من عل. لم أسمع عن أحد
قـُتِل فيها حتى من دخلها منّا واصطاد كانوا يكتفون بطرده وإخافته كي لا يعود.
من فعل هذا إذن؟ يتعب دماغي تصورُ شكله وأرجوا ألا أراه!"
وعاد إليه جوعه مختلطا ببكاء الصبي "مم" "مم" "مم" . يا لها من
اسطوانه لعينة لا تفعل فيه شيئا الا ان تثير تعبه وجوعه أكثر. هل يظن هذا
الصغير أنه وحده الجائع في هذا الكون؟ ألا يعلم أنه بد لبوبي أن ياكل أيضا
ليبقى ويتابع هذه الرسالة التعسة . وغرق في التأمل ثانية. " قد أبحث لهذا الطفل
عن غذاء، وقد لا أجد؛ وسيموت هذا الطفل البريء، وأنا أيضا سأموت إن لم آكل ولن
أواصل رسالتي . كانت لحظات أحس فيها بالدوار وهو ينظر إلى فخذي الطفل البضتين
وبطنه السمين.
كان يجب أن يواصل ويبقى . أما مضت نصف ساعة طويلة بطول الدهر وهو
يحاول أن يكون رحيما؟ أما ذرف الدموع من أجله، وحمله على ظهره، وسمح له أن يشد
ذيله ؟
ولكن لكل شيء نهاية. لكل شيء نهايااااهم.
أضيفت في 19/11/2006/ خاص القصة السورية
/ المصدر: الكاتب
حمار في عتمة الغاب
حمار حقيقي كان ذاك الذي انتشى بالاحلام والاماني حتى اشعرته
بارتفاع دائم في حرارة رأسه. حمار بقوائم أربعة تنتهي بحوافر شبه دائرية، بذيل
طويل ينتهي بكشة شعر كتلك التي كان يحملها الكتبة والبهوات ذوو الطرابيش في
مصرقبل الخمسينيات من القرن العشرين ينشون بها الذباب الذي كان جنود الانجليز
المستعمرين يتندرون ويسمونه "الطائر الوطني".
حمار حقيقي كان ذاك بنهيق أجش ينتهي بزعيق رفيع حاد كصوت كوابح
سيارة ذابت تماما وبدات تحتك باسطوانة العجلة.. نهيق كان يخجل أن يطلقه الا في
مناسبات كفرح شديد لموت اسد فاتك أو ضبع غادر أو ابن آوى طالما عمل كعميل نائم
لسيد ما من اسياد الغابة. حمار وابن حمار باذنين طويلتين كذراعي هوائي تلفاز
سوى ان رأسه كان كصندوق العجب بفتحة كبيرة في الامام وقطع بيضاء مستطيلة متراصة
في المنتصف يستخدمها لأكل العشب وأحيانا لاغاظة بقية الحيوانات حين يبتسم فرحا
ببياضها دون حاجة لمعجون أسنان.
حمار اتخذ من الاركان القصية في الغابة مسكنا لا ينتظر فيه زمنا
يكفي ليعتبره موطنه . لكنه كان يشعر دائما ان الغابة عالمه ووطنه.
الغابة الضخمة المتشابكة الاشجار المظلمة من منتصفها بل ومن اولها
واخرها واطرافها التي ما كان أحد يعرف اسمه او حجمه او رغباته او امانيه او
احلامه أو حتى الفصيلة التي ينتمي اليها. حيوانات الغابة كانت تمر به في أوقات
متباعدة دون ان تلتفت اليه وحتى صوته الاجش ذو الكوابح الذائبة الماسحة لم يكن
ليثير فيها اكثر من انزعاج بسيط يعبر عنه كل حيوان بطريقته الخاصة لكنها جميعا
لم تكن لتهتم حتى الى مصدر الصوت.
كانت تلك مشكلة صاحبنا الحمار .كانت أمانيه تتفجر في رأسه كالينابيع
او تهطل من سقف جمجمته الذي يشبه جناحي نسر بلا رأس، وكان يتمنى بينه وبين نفسه
لو عرفت الحيوانات بأن هناك حمارا في هذا العالم يحتل جزءا من الفضاء الكوني .
احتلال ليس بسوء الاحتلالات التي يقوم بها البشر خارج غابته كالتي سمع همهمات
ذات مرة بين قرد وغزال لبشر جاءوا من أماكن بعيدة متفرقة وحلوا محل شعب آخر لا
يذكر بالضبط اسمه بلسيني او مسكيني او ربما فلسطيني أو شيء من هذا القبيل ، بل
ودب الخلاف بين تيس وابن عرس (بالسين المهملة) على احتلال اخر سموه الاحتلال
الامريكي للعراق وقد سمع باذنيه التيس يعتبره احتلالا رحيما يخرج من سماهم
عراقيين من جحيم "دانتي" الى فردوس "ميلتون" بل وشبهه باحتلال دولة سماها
بريطانيا "العظمى" للمسكين او البلسين وسلموها لمهاجرين مقطوعين من شجرة رحمة
بأهل البلسين من قرف تكوين دولة والقلق بشأن نظام "دي" مقراطي أم "ديك" تاتوري
ووجع الرأس من قصة راح حاكم وجاء حاكم والتصق كبقايا لبان في صوف.
أما احتلاله فهو احتلال كائن حي بشحم ولحم واحساس لفراغ لا مكان
محدد له في زمان غير محدد ايضا . مكان مشاع وزمان مشاع .فمرة يكون في هذا الحيز
في هذا الزمان ويكون بعدها في حيز آخر في زمان آخر.
ولم تكن تلك الامنية الوحيدة التي تبرك على قلب أخينا الحمار فهناك
امنيته الاثيرة الى قلبه التي لطالما تثنت امام عينيه جارية خلاسية الملامح
بعيون لم يتجاوزها اتساعا الا فرجة أمل في صدر مظلوم بفرج الله القريب. أمنية
بأن يفعل شيئا في هذه الغابة يجعلها أجمل ، يجعلها منيرة بدلا من هذه الظلمة
القاتمة التي تسكن جوفها وتجثم على صدرها كاحتلال بغيض او كوحش على باب مدينة
جعل كلمة ارادها جوابا حدا بين الموت وبين الحياة ، ظلمة تعمي قلوب حيواناتها
فلا تعود تميز بين ما يجب وما لا يجب ما هو خير وما هو شر ما هو حق وما هو
باطل ما هو حيواني وغير حيواني. أجل لطالما همس لنفسه بأن عتمة الغابة سبب كل
الخطايا التي تقع فيها وها هو يحاول ان يتذكر بالضبط ما قاله ذلك الكناري
الجميل الذي حلق بألم ذات يوم من فوق الغابة وخفق بجناحيه خفقات ست ارتحل بعدها
مسرعا والضيق يفتت غناءه الجميل الذي تحول الى تفاؤل مضيء بالتشاؤم. قال شيئا
مثل" الظالم سخيف".
*
وفي تأملاته العميقة التي أتاحها له إقصاء الحيوانات على اختلاف
اجناسها والوانها وأصنافها له أو ربما عتزاله صخب الغابة المخضب دائما بحمرة
النفاق والاستغلال والمصلحة المائلة للسواد كدم المنخنقة توصل الى أن العتمة
ربما ما كانت من طبيعة الغابة بل من بعض ما فيها . وكان سهلا عليه ان يتوصل الى
استنتاج انه لو كانت العتمة مقصودة فسيكون من تسبب فيها غير قادر على الخروج
الى النور والعيش باسترخاء تحت خيوط الشمس الدافئة الحنونة. وسيعمل – والكلام
للحمار- على ابقاء العتمة خالدة مخلدة. وكثيرا ما لاحظ ان الحيوانات العشبية
تترك العشب في احيان كثيرة وترفع ابصارها الى السماء في وصلة شكر صامتة كلما لا
حت ومضة هنا او ومضة هناك من رسل الشمس تنفذ من بين الاغصان المتشابكة بما يشبه
حبكة مؤامرة أما الحيوانات اللاحمةفكانت تسارع الى التواري بسرعة خلف اشجار
ضخمة او في دغل كثيف او شقوق غائرة في ارض الغابة.
وكثيرا ما فكر أخونا الحمار بطريقة لانارة الغابة . لكنه كان بحاجة
– وظني والله أعلم ان ذلك كان من منطلق إيمانه الراسخ بالديمقراطية والتعددية
والشورى التي لم يتعلمها من أحد ولم يسمع عنها من اي تلفزيون رسمي- لأن يطرح
افكاره على بقية حيوانات الغابة. فوقف في الطريق كما كان يفعل من قبل حين كانت
ينتظر أن يحييه أحدهم – هر مثلا- بكلمة " السلام عليكم يا أخ" او "مرحبا يا
رفيق حمار" من خنزير مثلا طمعا في البدء بنوع من الحوار الحيواني مع "الآخر"
وتلاقح الافكار و"إنجاب" فكرة أو حتى فكر .وقف في منتصف طريق حتى الزواحف لا بد
أن تمر منه في الغابة رغم أنه أدرك بعد تأمل طويل بان نسبة احتمال تحقق
الحوار الحيواني في الغابة لا تزيد على نسبة تخلي نمر مثلا عن حقه في الصيد في
اي جزء من الغابة، وأن جُلَّ او ألطف ما يمكن توقعه هو أن يسمع عبارة " اقلب
سحنتك من الطريق وله حمار" تأتيه من كلب دخل الغابة خطأ ويتعامل بفوقية مكشوفة.
وقوفه هذه المرة هناك له أهداف تكبر في رأسه كالشهوة في صدر الفاسق
وقد عدها مرة بعد مرة كي لا تخونه الذاكرة اللعوب : أولا إشعار الحيوانات
بوجوده لتكوين علاقة حيوانية سوية فالتجاهل والاقصاء من حيوان تجاه أخيه
الحيوان سيؤدي به الىالعزلة الحمار في غابة تؤدي الى موته وتعني في جميع
الاحوال أن الغابة خسرت حمارا قد لا يمكن تعويضه. والحق انه شعر بالرثاء لنفسه
عند ةهذه النقطة من التأمل وانتقل بفكره الى ثانيا: جمع الحيوانات على مباديء
تعايش سلمي قائم على احترام حيوانية كل حيوان وبالتالي التوقف عن أكل لحم أي
حيوان عشبي دون استشارته ؛ أواه لكم تمنى لو جاءه أسد أو فهد وقال له :" أخي
الحمار. لقد مضى وقت طويل لم آكل فيه شيئا وأنت تعلم ان اللحم هو ما يقوم عليه
حياتنا نحن الليوث . فأرجو ان نتباحث في مسألة أكلك . ارجوك فكر في الأمر ورد
علي . رد علي بسرعة فقد اموت قريبا ان لم أحصل على لحمك وستموت معي لبؤتي
الجميلة المطيعة وأشبالي عدتي للمستقبل حين أصبح اسدا عجوزا اخس من كلب حين لا
اترك لها شيئا. نحن كالايتام معلقون في رقبتك."
الله ، كم ستكون المكاشفة والمناقشة أخوية. بالطبع لن يُسلّم جسده
بسهولة للاكل فهو ليس حمارا خالص الحمرنة، ولكن قد يتوصلان عبر مفاوضات مرحلية
يكتفي فيها الليث بقضم اجزاء غير حساسة من جسده وتأجيل مفاوضات الحل النهائي
الى أن يشاء الله حيث قد يموت الليث او قد يموت هو قبلها كما حديث مع زميله
حمار جحا . قد يقترح عليه ان يتزوج حمارة وينجب (أقرارا)** فيقدم له واحدا منها دون علم أمه فداءا للمجموع فهو مضطر عندها الى
قبول الشعار السائد في عالم الغابة "الفرد للمجموع". لم لا تكون مباحثات تحدد
مصالح الليث ومصالح الحمار ؟ مصالح آكلات العشب وآكلات اللحوم ؟ لماذا يجب ان
يكون لحم الحمار هو المجال الحيوي للاسد او يكون الاستقلال التام او الموت
الزؤام شعار الحمار؟ وهنا بلغ به الخيال افقا بعيدا رحبا جعله يرفع قائمتيه
الاماميتين ويدق بحافره على جذع شجرة متشقق دقات متتالية كرئيس جلسة برلمان
عاصفة ،وهتف بجرأة وسّعَت منخريه لتخرج أنفاسه ملتهبة بالنشوة " على الجميع
احترام مبادئ الديمقراطية وأبسط الحقوق الحيوانية الحق في الحياة والامن
والغذاء" ثم رفع رأسه ونهق بسعادة وأردف :" والنهيق أيضا".
لكنه فطن أن هناك مشكلة وهي ان الحيوانات آكلة اللحوم سترفض منطقه
وستتهمه بأنه حمار متخلف لأنه اذا لم تأكل الحمير من أمثاله او النعاج او
الارانب أو التيوس فماذا بحق الله ستأكل. ورغم فرحه بأن هذا يعني أن الحيوانات
على الأقل ستتحدث إليه مما يفتح أمامه آفاق واسعة للحوار كحمار، الا أنه شعر
بالقلق ياكل حواشي صدره ؛ اذا رفضت الحيوانات مساعيه سيعود الى مشكلته الاساسية
وهي الاحساس بأنه لا شيء.. عدم .. فراغ .. في هذه الغابة وستمتد عتمة الغابة
أكثر فأكثر الى داخل قلبه وهو أمر أهون عليه أن يقع بين فكي "هـِزَبر" من تلك
التي تأكل دون أن تكون جوعى من أن يتحمل عتمة الغابة في داخلة ثانية واحدة. فهو
الان بات يشعر أن عتمة الغابة هي عدوه الاول .. عدوه الاصلي .. وعدوه الرئيسي.
تراقصت في ذهنه فكرة فسرى في جسدة تيار ضخم من الفرح حتى وصل الى
قدميه الخلفيتين فارتفعتا رفسا ورقصا متكررا ومتحررا من ظل الكآبة التي ران
عليه منذ لحظات سوداء . سينطلق الى خارج الغابة ويأتي بقبس . واشتد انفعاله
ورقص وهو يدور بعنف حول نفسه لم يخرجه منه الا صوت كالرعد ارتجت له الغابة.
تبعه صوت كانهيار صخري أجفل الطيور واطارها من أعشاشها ثم كخكخة كصوت تكسر جمجة
حيوان بكف اسد ثم طرطقة أجنحة ضخمة في أعالي الأشجار.
لم يكن بحاجة للنظر حوله ليعرف ماهية تلك الاصوات فارتخاء يديه
وقدميه ووقوف شعر جسمه كله واهتزاز ذيله ووقوف أذنيه بصلابة فوق صندوق العجب
جعله يدرك أنه في حضرة سادة الغابة من اسود ونمور وضباع وفهود وعلوج وافاع وحتى
الصقور والنسور والغربان والبوم كانت تطير وتحط وتطير وتحط من شجرة الى أختها
وتشحذ مناقيرها بانتظار اللحم المكتنز الذي "نبز" من الارض وهبط الى الطريق
العام في هذا المساء الجائع.
هي ذا أمنيته تتحقق اخيرا! ولكن ما هذا الخوف الذي يركبه ويجعله
كبقية طعام في بطن فيل من فيلة أبرهة الاشرم وهو يهرب أمام الطيور الابابيل؟
وما هذا الماء الاصفر الدافئ الذي "دش" على فخذيه؟ هل هو الوقت المناسب ليلوم
نفسه على هذه الوقفة في متتصف الطريق عند دخول الليل بالضبط؟ اي غابة هذه التي
يريد تنويرها؟ سمع نفسه يهمس بالسؤال الاخير حين وجد أن عيون سادة الغابة كانت
مثل المصابيح الكهربائية التي تضيء شوارع مدن البشر والتي سمع خلسة الكلب
القادم خطأ الى الغابة يتحدث عنها). وكان هناك زئير مرعب وعواء وفحيح وكان هناك
وجوه عابسة وأجساد قوية تحلقت حوله وبدات تقترب مضيقة الحلقة شيئا فشيئا ولم
يلمح أبدا شيئا ينم عن استعداد للحوار او الاستشارة او تقرير المصير. وباتت
الغابة جسدا شهيا وأنياب.
" لحظة عصيبة حقا" حدث نفسه. " كنت اطمح فقط في أن أكون جزءا من
هذه الغابة. امد يدا في بنائها. لطالما رفضوني واهملوني وجعلوني في كثير من
الاحيان أتصرف كحمار مزيف لم تربه أمه على أصول الاتيكيت الحيواني " قالها بأسى
وقد أغمض عينيه وسط الجوقة الثائرة التي تلاطمت أصواتها من حوله. " اما وقد
عرفوا أنني موجود واحتل جزءا من هذا العالم دون اساءة لأحد اللهم الا إلى العشب
الذي أطعم أو الطريق التي أودعها مخلفاتي القابلة للتحويل على أية حال ، أما
وقد عرفوا فلم يبدر منهم الا تلك الانياب الحادة والشخرات والنخرات كأن هذه
الدنيا خلت من الحمير غيري " قالها وغضب مكتوم يتصاعد عبر منخريه ويتسلل بثبات
الى دماغه الصغير تحت الهوائيين المنتصبين الى السماء . " حقيقة ولدت حمارا
بأذنين طويلتين وحوافر وذيل ينتهي بمنشة ذباب رائعة ولكني لن اسمح للتاريخ بأن
يسجل بانني حمار خانع مستكين أمام هذه الانياب التي تمرست على الفتك في عتمة
غابة لا تضيئها الا مصابيح عيونها هي فقط."
كانت الطريق أمامه شبه مغلقة ومعتمة تنذر بالتمزيق وتدفق الدم
وتملؤها أجساد الاسد ولبؤته وأشباله لكن العيون التي تقادحت بالشرر اضاءت فسحة
منها، فتحرك بقلب كالصخر نحو تلك الفسحة فيما توترت قدماه الخلفيتان ورفع رأسه
عاليا ونهق كما لم ينهق في حياته بذلك العلو والفخامة والسمو أحس معها أن أغصان
الاشجار تتعانق فرحا والنسمات التي كانت تمر بالغابة مرور المؤمن بباب خمارة
مسحت على جبينه وجففت عرقه بلطفها المعهود ،وكتمل وعيه بنفسه وهي تندفع إلى
الأمام وفي عيينه ومض ضوء بدد عتمة الغابة كما تمنى ذات مرة.
*
إميل حبيبي ؛مقدمة روايته "سداسية الأيام الستة"
**
أقرار جمع (قـُر) وهو صغير الحمار باللهجة الفلسطينية الدارجة
أضيفت في 01/02/2006/ خاص القصة السورية
/ المصدر: الكاتب
سُلَّـــــم التـحدي
سبعــون ومضة
وومضة قصصية
1
إعادة نظر
التقطها من أحد الأزقة وهي تموء بلوعة ..بجوع.
فكر " قد تصطاد الفئران في البيت وتؤنس وحدتي".
لكنها عندما لم تصطد أي فأر ، وعندما زالت اللوعة من موائها ، ولم
تكتف بلحس أطباقه، ورغبت في اختيار المكان الذي تنام فيه،
أعادها الى الزقاق .
2
تحية مشروطة
كان يمشي الهوينى . ثوبه يطمح في الوصول الى الركبة ، لكنه يرتد إلى
تصف الساق بحسرة. تدلى طرفا كوفيته على جانبي صدره كشراع سفينة تبحر دون بوصلة
. كانت يده تمتد بين الفينة والأخرى لتقيس كم زادت لحيته عن مدى قبضته.
مر بجانبي. فقلت بنية إفشاء السلام :"السلام عليكم."
انتظرت "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، لكن ما وصل إلى مسمعي
كان كلمة (سلام ).
كان ذلك بعد نظرة من طرف العين إلى بذلتي التي كنت أراعي أن تكون
فضفاضة،
وإلى لحيتي التي لم أفكر يوما بقياس طولها.
3
الحزب أولا
انضم إلى تلك الجمعية الخيرية و صوت الأمين العام لا يزال يطن في
أذنيه:" الهدف خدمة الحزب والدين !".
و رشح نفسه لانتخابات الهيئة الإدارية للجمعية مدعوما بأصوات إخوانه
الحزبيين،وكان صوت الأمين العام لا يزال يطن في أذنيه " الهدف خدمة الحزب
والدين!"
وحين نبهه رئيس الجمعية الى أن غيابه عن حضور اجتماعات الهيئة
الإدارية، واجتماعات اللجنة التي تصدى لرئاستها عطل اتخاذ قرارات هامة قال
وعينه على ساعته:" المهرجانات الحزبية كثيرة هذه الأيام " ثم همس :" والقضايا
المطروحة في الجمعية ليست من الأولويات."
قال ذلك و صوت "الأمين" لا يزال يطن في أذنيه.
4
ركبة ونصف
"سأضع حدا لهذا التسيب و الانحراف عن المسار."
كان يقول ذلك وقد شع وجهه بحمرة مشبعة بزرقة كمن صفع ولم يرد :
"سأكون مثل صدام !"
ولوح بقبضته فثبت السكرتير نفسه في كرسيه ،وكان المراسل واقفا فجلس.
لم يريا من قبل غضب رئيس الجمعية الذي استطرد بصوت كالرعد:
" سيغضب أقوام، ويريحوننا من وجوههم."
بدأ اجتماع الهيئة الإدارية . قال الرئيس:" هناك أناس يطعموننا جوز
فارغ. سنعيد تشكيل اللجان ". قال القوم المعنيون : وراء الأكمة ما وراءها.
سنقعد لك على ركبة ونصف ."
ابتسامة صفراء ركبت الفتحة الواسعة التي كانت تهدر قبل قليل :"
(باطل ). نشطب البند ولا نحوجكم لتلك الجلسة !"
5
"حامل النعجتين"
بدت حركة شدقيه وهو يصف إنجازات اللجنة التي يرأسها كحركة فكي كلب
ينقل العظمة من جانب الى آخر متلذذا. تحدث عن الأهداف والخطط والنشاطات . رفض
كثيرا من التعديلات . وطلب صلاحيات إضافية ،وضم لجنة اخرى تحت رئاسته. الاعضاء
الآخرون كانوا نائمين بانتظار ان ينهي حديثه ووجدوا أيديهم ترتفع بالموافقة.
بعد ان انفض اجتماع الهيئة الإدارية ، عرج على السكرتير وقال : "
اتصل بأعضاء اللجنة، وقل لهم إن هناك اجتماعا الساعة الرابعة ،وأي عذر من
الأعذار السابقة للغياب مرفوض . هذا هو الشهر الخامس ولم تجتمع اللجنة سوى مرة
واحدة .
قال السكرتير بهدوء :" أذكر جنابكم أنه عن أربعة من بين الخمسة
اجتماعات تغيبت أنت ؛ فاحتجوا هم ولم يحضروا الخامس."
6
شتاء عمان
الأبواب والنوافذ المغلقة أشعرته بالحاجة الى الخروج من البيت.
صعد الى السطح، ورمق الغيوم السوداء التي بدأت تتجمع منذ مساء
الأمس.
ولاحظ أن غيوم عمان لا تأتي فجأة .
ولا تجتمع فجأة
ولا تمطر فجأة
وأنها حين تأتى تكون حبلى .
وحين انتقلت عيناه بين جبالها التي استلقت على ظهرها كأنها تنتظر
وعد السماء ،هاله أن كل جبل كان ثديا أحاطت به البيوت بحرارة .
ولاحظ أن حليب هذه الأثداء
لم يحرم منه الأبناء رغم ان آباءهم مختلفون
ولم ينضب وإن تَقَطَّر
ولا يزال طازجا إلى يوم الرباط
عندها ملأ رئتيه من هوائها ،وهو يتمتم :" أي أم أنت يا عمان؟!"
7
مواهب
حين كانت في مكتب الرئيس التنفيذي للمؤسسة المصرفية متعددة
الجنسيات، وبمحض الصدفة وهي تكشف تنورنها القصيرة، وتسحب جورب النايلون الطويل
إلى ما فوق الركبة اكتشف الرئيس أن لديه طابعة ذات مواهب .
ولم يكد يسقط الجفن على الجفن بعد اختبار المواهب أصبحت مشرفا.
وحين تأكد للرئيس أن مواهبها أكثر عمقا وغموضا من مجاهل أفريقيا
أصبحت تحمل توقيع "ب".
وجاء رئيس تنفيذي جديد ،وبمحض الصدفة اكتشف أنها لا ترهق صدرها
بحمالة صدر.
وحين تأكد له أن باطن افريقيا يخفي اكثر مما يخفي سطحها ،أيقن ان من
الظلم دفن مواهبها في توقيع صغير فمنحها (أ) فاخرة تعلوها همزة بصلابة تتعب
الفم واللسان. وأصبحت مديرا لشؤون الموظفين.
وجاء رئيس تنفيذي جديد ،و أثناء إجراءات التسليم والاستلام بينه
وبين الرئيس المغادر قال الأخير : " ستكتشف أن مديرة شؤون الموظفين موهوبة !"
فرد الآخر بثقة :" لا داعي لذلك يا سيدي ؛فلا يوجد أحد لا يعرف
مواهبها!"
8
عن الرجال والظلال
في النسمات الربيعية من العشرين من عمره كتب روايته الأولى؛ فقيل له
إنه بحاجة لأن يدفن رأسه في الكتب ،وينصب شراعه في بحور العلم.
مع براعم الثلاثين وبعد ان تحول الى فأر كتب ،وتفلطح رأسه علما ،كتب
روايته الثانية فقيل له إنه بحاجة للخبرة.
ومع إطلالة الأربعين برأسها الأشيب، وبعد ان سود بحبر المران مئات
الألوف من الأوراق، ودفع بها الى بائع الفلافل ،كتب روايته الثالثة ؛فقيل له إن
الناس لا تعرفه.
ومع دخوله الخمسين بمفاصله المهترئة ، وبعد ان حلف لكل المخلوقات
إنه كاتب، واقتنعوا ووعوا؛كتب روايته الرابعة فقيل :" إما أن تنشر على حسابك أو
تبحث عن واسطة " .
لكن الخمسين ألصقت قدميها بالحائط وقالت" من هذا المراح لا رواح
"،و توفي بالجلطة والصدمة والانهيار العصبي والانفصام وتصلب الشرايين وحب الوطن
والحلم العربي والوجع الإنساني.
ومن قبره في "مقبرة سحاب" المختلطة تابع تسابق النقاد للحديث عن
إبداع كاتب اختار أن يعيش في الظل .
9
هي وصديقتها
جلستا على مقعد خشبي تحت ظل شجرة سرو اختزنت تحت قشورها آلاف
الحكايات.
عينا (سماح) كانتا تلاحقان طيف كل( ذكر) حتى لو كان ذكر ذبابة.
وتكتشف حين كان يمر شاب يروق لها أن خصلة من شعرها تعيق النظر إليه ،وتعيقه
من رؤية سواد عينيها، فتزيحها وتبدل وضع رجليها لتكشف التنورة عن أقصى ما يسمح
بالكشف عنه. لم تكن تعد ضربات قلبها حين تغرق في بعض المرح واللهو وأشياء أخرى
.
عينا (صالحة ) كانتا تلاحقان عيني ( سماح) ،وتدرك ان جميع النظرات
تنصب على صديقتها ،وتتحاشى النظر إليها حين تجد أن أشعة الشمس لا تصل الى شعرها
ونحرها. وكانت تجد في المرح واللهو إبحارا بين المجرات وأشياء أخرى، وتنتظر
جناحين يحملانها الى عش جميل وكتاكيت تمد مناقيرها .
فجأة انتفض شاب كسمكة في طرف خيط.تقدم ..عرف نفسه باسم (غنام).
وبجرأة ذي الخبرة طلب من (سماح) ان تسير معه .
بعد شهرين جلست (سماح) على المقعد الخشبي ذاته، وفي خيالها تراقصت
بذلة زفاف صديقتها (صالحة) على (غنام) والعبارة الأخيرة التي واجهها بها :" من
تجود لك تجود لغيرك".
فانحدرت دمعة من عينها مسحتها بطرف خمارها ،وهي ترمق صديقة جالسة
بجوارها تتابع طيف كل رجل .
10
ذاكرة بلا ثقوب
اقترب منها ..اقترب .. اقترب كثيرا
وحين ابتعد
كانت المرأة التي تسكن ذاكرته امرأة ترى صورتها في عينيه ولا تراه.
11
ذاكرة ذات ثقوب
اقترب منها .. اقترب .. اقترب كثيرا
وحين ابتعد
كانت المرأة التي تسكن ذاكرته امرأة تنسى بقايا الطعام بين أسنانها
، وملح العرق تحت إبطيها وتطالبه بحقها الشرعي .
12
الطلقة والرأس
قال :" سأغير !"
وكان قلبه وعقله وأطرافه تعزف لحنا واحدا.
وفجأة ، سمع صوت زجاج نافذته يتهشم ، وطلقة تسكن رأسه؟!!
13
الأحضان الدافئة
قال :" سأغير !"
وكان قلبه وعقله وأطرافه تعزف لحنا آخر.
وفجأة ، سمع طرقا على الباب، ووجد أحضانا دافئة و"بوكيه" ورد ؟!!
14
قبل الطلقة والرأس
قال :" سأغير !"
لكن رعشة تلبست جسده ، وحجارة تكومت في حلقه.
فجأة ، سمع صوت زجاج نافذته يتهشم ، وطلقة تمر من جانب أذنه: فصرخ
قبل الطلقة الثانية " سأغير ملابسي وأنام ".
15
سندباد
عاد السندباد الذي لم يغادر مدينته قط
مدينته التي أدخلت الشمس الى بيت عفتها .. عاد من جولة في شوارعها،و
بعد أن اكتشف أن غض البصر بات أشق من "تبليط البحر".
انثنى الى زوجته" زاد المعاد".
ولكنه وجد ان نمل الرغبة هجرها في تلك اللحظة . و تذكر أن مباشرتها
وهي غير راغبة سيكون ضربا من العنف قد يجعله مطلوبا لحماة الأسر ،وأن (التعدد)
موضة قديمة لمجتمع ذكوري متسلط. وتذكر ان الشوارع ستظل تتقيأ طوفان العري ،وأن
النمل قد لا يعود حين يريده ،بعد أن صار طوع يدها ولسانها.. عندها تذكر دفتر
أرقام الهواتف المهمل.
ومنذ ذلك اليوم لم يكف عن ممارسة( التعدد ) بين أرقامه ؟!!
16
"كله بثوابه "
في طريق عودته الى البيت من العمل ،غبط نفسه كثيرا على نجاحه في
التوفيق بين متطلبات شخصية زوجته النزاعة الى التحرر، وبين متطلبات الأسرة
والبيت . وابتسم وهو يتذكر بلاهته حين كان يعارض خروجها من البيت للعمل بحجة
أن دور المرأة في البيت كبير، ويتجاوز الطبخ والنفخ والجلي والمسح. وسخر من
النتيجة التي كان يصل إليها دائما ان الأسرة من غير استقرار المرأة في بيتها
ستتحطم. وتمنى في تلك اللحظة لو انه لا يقود السيارة ليفرك يديه بحبور لأنه
استقدم "سيريلانكية" ذكية تعرف كيف تتعامل مع الأطفال. وحين قطع الهاتف النقال
ماراثون أفكاره قال لزوجته متنهدا بتفهم :" لا بأس ، أليس الأمر جيدا لمستقبلك
المهني؟ (باي حبيبتي ).وحين وصل الى البيت وجد ابنه والسيريلانكية يشعلان الشمع
والبخور لتمثال صغير لبوذا.
15
الروح والأرض
على أحد أطراف المخيم المحصورة بين طوق من الجبال جلس وسرح بنظره
الى البعيد أجابت الزفرة التي خرجت من رئتيه أسئلة نشبت كالنار في حناياه :
- ماذا لو بعت كل شيء واشتريت بندقية ؟
- ماذا لو حميت عرضك يومها بصدرك بدلا من ساقيك؟
أكنت تتسول حق العودة ،وحنان( الأم)م المتحدة؟
16
عن الجرائد والرمان
حين مد قدمه الى تلك الجريدة ليدفع بقصة جديدة للنشر، لمح بعض
الوجوه التي ذكرته بأسماء تستوطن الصفحات كنتساريم" في القطاع.وحامت الأسئلة
في زوايا مخه وظلت تئز . دس يديه في جيبيه عاجزا فوجدهما فارغين، وسقطت عيناه
على صدره ؛ فوجده بستان رمان خرب، واستقرتا على ساقيه فأحسهما كخشب "الطوبار
". "فقلب" وجهه وخرج.
17
إهتراء
بعد أن اهترأ القفل على شفتيه، وبعد أن اهترأ لسانه الساكن في قعر
فمه، وبعد أن اهترأ حلقه ، وبعد أن اهترأ العشب الأخضر على قمم جبال وطنه، وبعد
أن اهترأ الغلاف الجوي الذي يتنفس .
تكلم ..
لكن الآذان كانت قد اهترأت أيضا.
18
صحبة الكلاب
"الكلب صديق للإنسان " . الكلب رمز الوفاء "
اعترف أنني كنت تحت تأثير حمى هذه الشعارات حين أدخلت كلبي "
تشيرتشل " الى حياتي . " وقد سار مركب الصداقة بيننا ردحا من الزمن على مياه
وادعة حتى ذابت المسافة التي تفصل (أنا )ابن آدم عن (هو ) ابن الكلب ، و حتى
بلغ بي ان كنت اترك أخي يتحدث وحده وانتبه الى نباح " تشيرتشل " ، وحتى وطنت
النفس ان أوصى له براتب تقاعدي بعد وفاتي . وحتى حرمت نفسي من اللحم وأطعمته .
وفي أحد الأيام أحببت ان أفاجئه أحضرت له عظمة وأنا أتخيل نفسي داخلا إليه بها
أقول " سيربرايز " فيقول " عضم عضم " .فقد كانت تلك طريقة "تشيرتشل" الحبيب في
تحوير صوته من (عو عو) الى ما يحب. وكنت قد اكتشفت هذه الموهبة لديه يوم ان
سافرنا معا بالطائرة الى اليابان ومررنا من فوق الخليج العربي فهتف " نفط
نفط". وعندما أعطيته العظمة غرق في الشم والمص واللحس والعض .فرغبت في ان
أمازحه – كصديق والله - فمددت يدي لأسحب العظمة من أمامه. وكانت المرة الأخيرة
التي أرى فيها يدي بخمسة أصابع.
19
الحكاية ببساطة
أستطيع ان ألخص لك الأمر كما حدث معي بالضبط . كنت مثل من دخل
قرية بعيدة عن مدينته ،ثم حدث شجار ما فتمزقت ملابسه، واضطر الى شراء ملابس
جديدة . لم يكن هناك في القرية سوى متجر واحد لبيع الملابس.فيعرض عليه ما
عنده . وما عنده لم يكن في كثير او قليل كما يريد . بالطبع لك حرية الاختيار
بين ان تشتري او لا تشتري ؛ أي إما ان تظل بملابس ما بعد الشجار، او تبحث عما
يناسب طولك وحجمك. وفي الغالب لن تجد وستلبس اقرب شيء لما يناسبك .
-اعتقد أنني فهمت ولكن ماذا عما تؤمن به ؟
- هذا بالضبط ما أحاول قوله بعد أن وصلت الى هذا الكرسي .
20
اختيار
تكلم بعد صمت
طويــــــــــــــــــــــــــــل،
ولم يصمت بعدما
اختــــــــــــــــــــــــــــار
أن يتكلم.
21
ثلاثية سليموفيتش
(1)
الجلاد والضحية
حين سقط كان اسمه رجب سليموفيتش .
لكنه قبل ذلك كان نيكولاي مكسيموفيتش . شهد بذلك جواز السفر
وبقية الوثائق الثبوتية الأخرى التي رغم انه دفع عشرة آلاف مارك ألماني ليحصل
عليها ، لم تكن تساوي اكثر من قيمة يمين مسلم أمام صربي .
بعد ان دفع المبلغ صار صربيا نقيا ، وما عاد مسلما شقيا.
وحين كان اسمه مكسيموفيتش سجل في ذاكرته أنه أذاق حد السكين طعم
أكباد مائة طفل مسلم ، وانه لم يحدث أبدا ان كان من بين الخمسين عجوزا الذين
قتلهم أحد تزيد المسافة بينه وبينه عن بضع سنتمترات. وسجلت أيضا أنه كان يغتصب
الفتاة المسلمة مرتين ؛ الأولى ليخلق انطباعا لديها؛ والثانية ليضمن ان
الانطباع لن يزول .
وحين كان اسمه نيكولاي مكسيموفيتش ، لم يسأل نفسه لماذا - وهو
المسلم - يفعل ذلك .
لكنه حين عرف انه سيموت ، وعاد اسمه رجب سليموفيتش ، سأل نفسه :"
لماذا رجب ؟ لماذا ؟"
أجاب نفسه بأسى :" الجلاد كثيرا ما ينجو"
(2)
الضحية والضحية
[رجب سليموفيتش ] سقط برصاصة واحدة.
وحوله كتيبة كاملة من الصرب . كانوا يعرفون أن الراكع على الأرض
كان بطلهم نيكولاي مكسيموفيتش. لكنهم قالوا له إما ان تموت بيدك وبمسدسك او
نقتلك نحن.
" يريدون رأسك ليس لأنك لبست جلدهم وخدعتهم. بل لأن جلدك الحقيقي
ظهر. الخداع لم يزعجهم إذ أن "رادوفان" نفسه أرسل يقول إنك أول مسلم يكسب
احترامه ؛ لأنك الوحيد الذي خدم الصرب دون مقابل . كان سعيدا جدا فأصر ان
يعطوك ميدالية قبل أن يقتلوك."
حين أطلق [ رجب سليموفيتش ] الرصاصة على قلبه كان يهمس ": الجلاد
نجا".
(3 )
الجلاد فقط
راقبوه حين تكوم على الأرض.
-" ما زال يتنفس ."
-" ثوان ويموت."
-" هل أجهز عليه ؟"
-" هل أنت مجنون .دعه يتألم قليلا."
22
حلقة الصمت
كانت الفرصة مواتية له تماما.
الآن يستطيع ان ينتصف من كل الذين ظلموه. سيلاحقهم في منامهم و
صحوهم .. ولعبهم وجدهم و حين يأكلون وحين يشربون ...
سيكون ظلهم المرعب .
وحين بدأ بالضحية الأولى على قائمته الطويلة ،وجد أن يده لا تمتد
لتمسك بالأشياء ، وان الضحية لا تراه ،ولا تسمعه ، و لا تشعر بوجوده . أصمم
ذاك أم عمى أم جنون ؟
فاجأه الجواب كثيرا ،فعاد الى صمته الذي كان عليه في الحياة الدنيا.
23
افتح يا سمسم
العيون التي ضربها الرمد الهابط من أقطاب الأرض ابيضت ، والحناجر
المتشققة من الصراخ الباطني صافحها التئام . فقد تكلم.
- " تكلم ؟!!؟
- أخيرا تكلم ."
- " ماذا قال؟"
- "لا"
- "أخيرا ..أخيرا .. أخيرا .. أخيرا .. أخيرا .. أخيرا ..
أخيرا .. أخيرا. أخيرا سننصب رقابنا ..سنعيش .. سنفرح .
24
خطيئة لا يغفرها الرب
سرحت بنظرها الى الجبال القاتمة اللون التي تطوق المستوطنة من
بعيد. هالها حجم الصخور والحجارة التي تحملها تلك الجبال. أزاحت وجهها بقوة عن
النافذة، والتفتت نحوه وهو يمشط الخصلتين الطويلتين المنسدلتين من فودي
ابنهما .
همست :
" يتسحاق هل نحن زناة ؟؟"
انتفض صعقا وقال:" أولغا هل جننت . نحن مؤمنون ولا نزني ؟"
- إذن لماذا يرجموننا بكل تلك الحجارة ؟!!"
25
بانتظار الصباح
ككل يوم صلى الفجر ،وجلس ينتظر الإفطار من بين يدي زوجته "أم
العبد". صحن زيتون .. زيت وزعتر .. "باطية" الخبز .. إبريق الشاي .. شربة
الفخار. ككل يوم . أم العبد تطالعه بأخبار الليلة الفائتة :" داهموا بيت سالم
الأجرب .. اسروا ابن العمشا .. "طخوا "وراء الملثمين الذين جرحوا أحد العملاء
."
هز رأسه وهو يتناول رغيفا ،ويمزقه وفي ذهنه رقبة الجندي الإسرائيلي
الذي بصق في وجهه عصر أمس عند الحاجز الرابع عشر على مدخل القرية، ثم قال
كالمفلوق :" مثل كل يوم .. الصبح قريب يا أم العبد .. قريب "
26
كشف حساب
بدأت زهرتها بالتفتح ؛فرفضت القائمة المحددة بالممنوعات. وأدارت
ظهرها لأشياء كثيرة. وحين بدأت أوراق زهرتها تتساقط تذكرت أشياء كثيرة .
ولما سقطت آخر الأوراق … .. .. ..
لم تجد إلا الله والذكريات.
27
اللعبة
كلهم هناك
وحده هنا.
نادى كالمذبوح:" أيها السادة . لا يستطيع أحد ان يناور مثلي .. او
يحاور مثلي .. أو يداور مثلي . قاومت وساومت وهادنت ،ولكنهم يريدونني الآن
خارج اللعبة.ومع أن أطراف اللعبة الآخرين لم يتغيروا ، إلا انهم يريدون
دائما أن أكون أنا من يخرج من اللعبة . واللعبة من غيري تصبح بلا قواعد البتة
.هذه هي قضيتي أيها السادة ."
من بعيد جاءه صوت تصفيق . ثم صمت .
28
الضريبة
ذات صباح ، أعد قهوته ، وجلس منتظرا ان توصله في طريقها الى عملها
بسيارتها إلى عمله . تأملها وهي تعد زينتها ثم سأل:
- "لماذا تصرين على الخروج بكامل زينتك للعمل او للزيارة
بينما تمضي أيام دون ان تتزيني لي ؟"
فردت دون ان تلفت إليه:
- "أنت زوجي ."
29
قرارات عاجلة
-"يجب ان تقبل بي كما أنا . وإذا لم تفعل هناك رجال كثيرون غيرك،
ونساء كثيرات غيري."
- "سأفكر ."
- " لا . لا تفكر . قرر الآن ."
- " لماذا ؟"
- "إذا فكرت ستُحسم النتيجة ،ولن يكون أمامي مجال لتغيير رأيي"
30
خطوات
- " امممممم !كم هي جميلة ."
تردد قليلا ثم اختلس نظرة.
- انظر لشعرها ..لقوامها .. لمشيتها. يااااااااااه كم هي
ساحرة "كانها تمشي على رمشي !"
تردد ثم نظر .
- انظر الى .. . حرارتي ارتفعت.
تردد ثم نظر ثم بسر ثم تولى و أدبر .
قهقه الشيطان طويلا ثم قال: أين تمضي ؟
31
"أمريكا" تسكن بيتنا
- "ابنك صغير فلم تسمح له بمشاهدة الأفلام الأمريكية؟"
- (من تعلم لغة قوم أمن شرهم )!
ثم تحول الى صغيره وقال:
- "هل حفظت كلمات إنجليزية يا محمد ؟"
- " نعم بابا : فاك ، شيت ، بيتش . كيل هيم ."
32
الشاكي والباكي
من "مينيسوتا" إلى نيويورك قطع أحمد العربي مئات الأميال حتى وصل
الى تمثال الحرية.وقف قبالته وقال له : أرأيت ما يفعلون بنا؟
مال التمثال نحوه وقال :" أنظر الى يمينك ؟"
كانت هناك امرأة بيضاء تبكي ومعها رجل أشقر يحاول التخفيف عنها
كانت تقول:
-" أرأبت ما يفعلون بنا؟"
33
عمامة أمريكية
التفت الحجاج الى رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة ثم الى
أعضائها وقال:"
يا معشر الأمم ،
أنا ابن جلا و طلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني
وانتقل ببصره الى وجوه مندوبي الدول المارقة وبقية الدول
الإسلامية وقال:
إني أرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها ،وإني والله لصاحبها. وتذكروا
من لم يكن معي فهو ضدي .
ووضع العمامة على رأسه فإذا هي مخططة بخطوط حمراء كسياط ابليس
وتنتشر في طرفها نجوم كالبثور.
34
الرجل الذي بصق على نفسه
خرج من هناك .وقف أمام المكان قليلا . هم بمتابعة طريقه. لكنه
تنبه فجأة الى انه عار تماما. أحس بان بطنه كالربع الخالي . في اللحظة التي
حاول فيها الهرب اتضح له ان الأصفاد اثقل من ان تسمح له بذلك.
عندها بصق على نفسه لأنه دخل مصرفا.
35
يولد الإنسان حرا ثم ..
سأله ونار في القولون تجري :
-"هل عملت في بنك؟"
-"لا ؟!"
-"أنا عملت. "
هز الآخر كتفيه بغير مبالاة: "وماذا في ذلك ؟"
فخلع ملابسه كلها. فظهر أثر طوق على رقبته ، وقيد على معصميه . أما
ظهره فكان يجأر من أثر السياط.
36
الفَراش العاري
رآهم يخرجون من مصرف ويتراكضون في كل الاتجاهات كمن يفر من الجذام
. كانوا عراة وبطونهم تلتصق في ظهورهم.
ثم رآهم مرة اخرى يعودون في شباك كتلك التي يصيدون بها الفراش .
نظر الى سرواله المرقع وكسرة الخبز التي "يقرقطها " وتمطى بسعادة.
37
مقابلة
وسط الحصار كانا واقفين . كانا ينتظران رصاصة انفلتت بقرف من
مطلقها. ومن بعيد تعالى نباح كلاب من أطراف المخيم . قال المحاصر لزميله
المحاصر:
- "أتسمع أصوات الكلاب ؟"
- "نعم . وما الغرابة ؟"
- " تذكرني بسؤال مثل المكوك في رأسي ؛ الكلب الافرنجي ينبح
ويعض عدوه،والكلب العربي يصمت ويهز ذنبه ؟!"
- ( .. ..)
38
الإرهاب والهَرْبَرة
اتخذ الحاضرون مجالسهم في قاعة فسيحة خلت من الورود، ومن زجاجات
المياه المعدنية. كان الاجتماع قد اعد على عجل .ودعي الحاضرون من جميع
الأقطار العربية .و كان هناك الدكتور والعلامة واللوذعي والجهبذ والأستاذ
الدكتور . وقف رئيس الجلسة ، وطلب من الحاضرين الوقوف دقيقة صمت على شهداء
برجي نيويورك. ثم بدأ الجلسة قائلا :" أيها السادة نجتمع اليوم للاتفاق على
إدخال كلمة هربرة -دون ترجمة- إلى معاجم اللغة العربية . ويجب ان نضع لها
تعريفا محددا لتختلف عن كلمة إيواء حيث يشمل الإيواء الدول والأفراد
بينما الهربرة تشمل الدول فقط .من يوافق ؟"
رفع الجميع أيديهم موافقين وقلوبهم تفيض شكرا أن الكلمة لم تكن
"الإرهاب" .
39
الذيل المحمي
قالت الجدة لحفيدتها المراهقة :
- "في البدء كانت المرأة حرة ،ثم اكتشفت أن لها ذيلا جميلا:
فلعبت به وكان ذلك مع ابن صاحب الكهف المجاور . فلما علم والدها بذلك قطع ذيلها
ومنعها من مغادرة الكهف إلا بإذن مغادرة خطي منه. واليوم نما الذيل ثانية ،
واكتشفت المرأة جماله وبدأت تلعب به كما تشاء .ارتعشت الحفيدة ومدت يدها الى
ذيلها لتخفيه. فسارعت الجدة الى القول :" لا يا حبيبتي . ارفعي ذيلك، وأظهري
محاسنه ، بل زينيه بالورود وعطريه. فللذيل قانون يحميه؟"
40
أفضال بني الأصفر
بذهول وغبطة تساءلت الحفيدة :
- "جدني ، من وضع القانون الذي أعاد لنا حرية اللعب بذيولنا؟"
- " من غيرهم ؟ بنو الأصفر تسلم لي عيونهم الزرق ."
- "كيف بدأ الأمر ؟"
- ذهب الرجال لاغتصاب الأرض وبقيت النساء .قالوا فلتخرج
النساء فقلن عيب . فقالوا لا عيب اليوم .و اكتشفوا _ لا نفد وقود صواريخهم
العابرة للقارات _ أن المبيعات تزداد ،وان النساء سلع متعددة الأغراض . واليوم
حين تكسد البضاعة يلوحون للناس بذيل الأنثى ؛ فصار لا شيء يباع او يشترى دونه.
41
منطق
صرخت الحفيدة :" جدتي لا زلت خائفة من رد فعل الرجل .انه قوي،
وغبي وغادر."
- "قلت لك هناك قانون ،ولن يسمح له بان يلعب بذيله، وإلا قطع
من جذوره."
- "جدتي لا احب هذا التهديد .إن لم يلعب الرجل بذيله، فما جدوى
حريتنا ؟"
42
حكمة
بدا عظم وجهه بارزا ، واصطك فكاه ، وهو يقول لزميله المستلقي على
بعد أمتار منه :
- في تلك الأيام كان أشد ما يؤرقني المرأة . أتعرف من هو
الرجل الوحيد .. أعني الوحيد من بين خلق الله كلهم الذي لا تلفت نظره امرأة
متبرجة مهما بلغ جمالها؟
- من ؟
- إنه الميت .
فصدرت خشخشة غيظ من عظام زميله وقال:
-أطبق فكيك ،وأغلق تابوتك .
43
غزاة القبور
فتح التابوت لدى سماعه أصواتا كثيرة ونحيبا فوق سطح الأرض . أدار
جمجمته ونظر ، فرأى رجالا يحملون تابوتا ،ورجالا آخرين ونساء حوله . كانت
النساء ترتدي فساتين سوداء . لكن الفستان منها كان بحاجة الى فستان آخر كي
يغطي ما انكشف من البدن.
نادى الميت زميله : هيه عبد الله.
- ماذا ؟
- أترى نساء الدنيا؟
- نعم كل يوم نراهن ، ماذا في ذلك ؟
- أتعرف لم يلبسن هكذا ؟
- إنهن حزينات .
- حزينات يا حمار و يكشفن عوراتهن؟؟! إنهن يفعلن ذلك من أجلنا
. ألم اقل لك؟ لم يبق سوى الأموات
44
اختبار مرفوض
ابتعد كثيرا حتى نسيت ملامحه.
وعاد . فعرفته على خليفته الجديد. و ألقت إليه بصورة من ورقة
التفريق بالغيبة، وهي تقول :" أنا لا احب الاختبارات".
45
خلع
بعد سلسلة لقاءات توعية وتثقيف في أحد الصالونات الثقافية ،شعرت
انه لا بد من تجديد في البيت .فقالت للنجار : اخلع هذا المسمار ،وذلك الإطار،
وذلك الشيء .
ثم سألته بفضول : هل تعرف طريقة لخلع الزوج؟
46
هو والطاولة
كان شعرها المستعار ، و"طقمها" الأسود يقول للجميع إنها سيدة مجتمع
. وكانت أحاديثها الصحفية والإذاعية، واتهامها للمجتمع(الشرقي ) بأنه متخلف
تقول إنها من النخبة . ورغم أنها عودته أن يكون وراءها دائما ،فقد كانت تراعي
مشاعره أحيانا. ولهذا كانت تحب أن تجري الكثير من الأشياء من تحت الطاولة .
ولما تعب ذات يوم من المشي وراءها ، قال لها :" إما أنا وإما
الطاولة ؟!!"
فاختارت الطاولة .
47
فوضى وحمقى
في الطريق الى عمله في شركة التامين التقط عددا من الصحف المحلية
وبضع مجلات. على مكتبه وجد تقريرا حول حريق مصنع دهانات كبير قدرت خسائره
بالملايين. فضل ان يبدأ بتصفح الجرائد والمجلات مع فنجان قهوته المعتاد. لم
يجد شيئا في المجلات غير ما تقيأته من صور نساء فضلن أن يتصورن دون لباس . في
إحدى الصحف طالعته عناوين " الإساءة الجنسية للأطفال" و "رجل يسجن لاعتدائه
جنسيا على ابنته" ،" و"كاهن بريطاني يغتصب ولدا " " وعنوان " مدافعة قوية عن
حقوق المرأة تطالب بتشريع يحمي السحاقيات " وعنوان آخر : " متهم باغتصاب
امرأة يعترف :" لم احتمل كل ذلك العري ؛ انه ضرب من الحصار ؛ طوفان لا يتوقف
". ألقى الصحف جانبا والتقط التقرير :" مادة( الثينر) سريعة الاشتعال كانت
موضوعة في براميل غير محكمة الإغلاق في ساحة المصنع . بالقرب منها موقف سيارات
و مرآب تشحيم وتعبئة وقود . العمال يدخنون ،ولا توجد لافتة ممنوع التدخين ،
أسلاك الكهرباء مدلاة ، وغير مغطاة وغير موضوعة في أنابيب ."
غمغم :" فوضى كبيرة . كل شيء تُرك للحمقى. لا عجب أن يحدث كل ذلك"
وألقى بالصحف والمجلات في سلة المهملات.
48
سلم التحدي
"سأقول للذي رماني الساعات في قاعة الانتظار .. سأقول له بعد أيام
من "اذهب وعد ، ورح وتعال " .. أجل سأقول له بصلابة أن ليس من حقه ان "يمرمطني"
بسبب حركة تحركها لساني لغير الأكل.
سأقول له بتحد إنني مواطن ، ولي حقوقي التي كفلها الدستور .
وسأقول له بقسوة إن أساطيل الأمم المتحدة ستتحالف لحمايتي لأن غصن
إعلان حقوق الإنسان لا يزال أخضرا.
سأقول له بشجاعة إنني مثله بالضبط من لحم ودم ومشاعر .
سأقول له بكرامة إنني فقير معدم وعلى وشك ان "اشحذ " في " مجمع
رغدان".
سأقول له ما هو افظع .. سأقول له :" اتركني ،ولك علي أن أخرس ما
حييت."
ولكن مهلا !
هذا بئر السلم ..
لا.
علي صعود السلم .. استعنا بالله."
49
سُنَّة
كان عمره لا يزيد على عدد أوراق زهرة ، أما جسمه فكان بحجم كلب
فتي.
كان ذلك عندما صرخ :" دعه يعمل .. دعه يمر ".
بعد موت والده ، استقر في بطنه ميراث اخوته ،وعلمهم السياحة في
الأرض. وبعد ان أكل كل الخراف والعجول في مزارع جيرانه صار بحجم فيل . وأصبح من
الصعب ان يشبع ، فصار يقتل ويأكل بني البشر .
ازداد ضخامة حتى صارت قدمه بحجم بلاد ما بين النهرين . وصار يقول
ويفعل ما يريد. ولم يشته زوجة جاره وحسب ، بل جعله حاملا لمنشفته أيضا.
ولما صار طوله قريبا من طول جبال الأوراس ،وعرضه كعرض صحراء
"أريزونا "،ولم ير من حوله إلا نعاجا ،جلس على قمة جبل، و صرخ صرخة عظيمة : "
أنا ربكم الأعلى."
ولما خرجت الألف من حلقه ،امتشقت الغيوم ألسنة حمراء و لسعته بها،
وماج البحر حتى علا ناصيته، و تشقق الطور من تحته.
ولما الماء غيض ، والجودي لملم ما من أجزاءه تبعثر، و ألسنتها
أغمدت الغيوم، و فيما بينها الأشياء تناجت: أين من زعم إنه ربنا؟!
50
حيثما تكون" غايوس" أكون" غايا"
تواجها مرة بعد مرة.
في كل مرة كان يقول لها إنه يريد امرأة ودودة ولودة تقر في بيتها ،
وتضمد آثار السياط من على ظهره وتمسح على رأسه حتى ينام .
وفي كل مرة كانت تقول إنها تريد رجلا لا يعاملها كمطية لم تركب
،ودرة لم ثقب، ويردفها خلفه . تريد زوجا يركب وإياها عربة بحصانين .. رجلا لا
يسأل عن الغبار على فستانها، ولا يعد شعرات رأسها ليعرف إن سقطت إحداها على
وسادة رجل آخر. ونفخا في صور الوداع.
وصادفت رجالا كثيرين قبلوا شروطها ؛ لكنهم وقفوا على عتبة القلب ،
وطرقوا الباب فلم يفتح.
وصادف نساء كثيرات قبلن الشروط ؛لكنهن وقفن على عتبة القلب ،وطرقن
الباب فلم يفتح.
حين وجدت الساكن بين أضلعها يفتح أبوابه فجأة ،قررت أن تقبل
شروطه.وفي اللحظة التي فتحت بابها لتخرج إليه، كانت يده تمتد لتطرقه.
51
الواحة
مر بدوي برجل بدا من سحنته أنه من أهل المدينة . وكان المدني يتفيأ
يافطة.
سأل البدوي :" ما يبقيك في هذه الصحراء القاحلة ؟"
قال المدني :" لا سيارة عندي و لا حمار ."
قال البدوي :" على ذكر الحمار ، أنا أمي لا أقرأ . ما المكتوب على
اليافطة وما قصتها؟
قال المدني : تعلم يا أخا العرب أن واحة كانت في هذه البقعة .وقد
فرح بها ساكنوها أول الأمر. ولما وجد كبراؤها أن صغارها غرهم النعيم وصاروا
ممن يحبون العلم والتعليم ،وطالت رقابهم الى ما متع الله به غيرهم، اخذوا
يقطعون الأشجار من أطراف الواحة، ويجففوا ينابيعها ينبوعا ينبوعا حتى لم يبق
من الواحة إلا هذه اليافطة التي كتب عليها " واحة الديمقراطية ".
52
الحجاب والحرب
كانت تضغط على لوحة المفاتيح بحرارة وضيق :
- قلنا كما نصحتمونا إن الحجاب كمبيالة سقطت بالتقادم. رجال
الدين كذبونا. جعلنا الكاميرا والمحجبة مثل العين المجردة والجرثومة ، وجعلنا
الحياة جنة لمن رأته نارا تحرق رأسها ،وتوجنا للجمال ملكات ؛ لكن الشعر
والنحر والصدر عزت على ضوء الشمس، و على العيون التي تلهث وراء الصيد . قلنا
في المدارس كما قال الإنجليز في الصين :" ممنوع دخول الكلاب والحجاب " فازداد
سمكا ."
جاءها الرد يقطر سلاسة:
- "قوانين منع التجول جميلة إذا جربت .
53
سقوط
لاحقت عيناه التفاحة وهي تهوي على الأرض من أعلى غصن في الشجرة .
ولم يفته ارتعاش أوراق صفراء اخرى، وهي تنزل ثم تستقر على الأرض جافة لا أمل في
عودتها.
لم يفكر في نيوتن ولا قوانينه . لم يفكر كذلك في الحياة أو الموت.
فكر فقط في أن المسألة مسألة وقت .
عندها صار ضروريا ان يختار بين الحركة أو الانتظار .
54
تعريف
سأل البروفيسور طلابه الذي جلسوا كمجموعة من قطع إسفنجية جاهزة
لامتصاص ما يرشح من علمه:" ما معنى الدولة المارقة ؟"
صمتوا إذ عودهم أن يسأل ثم يجيب . لكن طالبا كان قد تلقى منذ يومين
إنذارا بالفصل بتهمة التفكير المستقل قال: " الدولة التي تفضل ان تزول هي
وشعبها ولا تسلم ذقنها لأمريكا."
قال البروفيسور وقد شعر بأنها المرة الأخيرة التي سيراه فيها:" فما
معنى الدولة غير المارقة؟"
رد الطالب وقد صار عند الباب :" إنها الدولة التي تفضل ان يموت
شعبها إن لم يسلم ذقنه لأمريكا".
55
هذيان
هز البروفيسور ديفيد شتاين أستاذ علم النفس الاجتماعي في جامعة(اكسوايزي)رأسه
وهو ينظر الى بطاقة تشخيص الحالة التي وردته من أحد الأصدقاء شرق الأوسطيين .
وبعد أن وضع سماعة الهاتف دَوَّن ملاحظات زميله الدكتور برايان والاص . ثم عاد
وطلب الرقم المقابل لكلمة الاتصال المباشر وقال : " هاي . شتاين يتكلم .
تحليلنا لحالة خلط المريض بين هولاكو وبوش، وشارون و هتلر وجدار الضفة وجدار
برلين بأنه ضرب من " الهذيان الأصولي "، ومظهر لنوازع إرهابية غائرة في اللاوعي
. وبما ان الكاتب المعني أصولي فانصح بأن تسلطوا عليه أصدقاءكم من العلمانيين .
ستجد الكثير منهم في الصحف والمجلات والحانات والمواخير وبجانب أربطة أحذيتكم.
56
صيف المدينة
في كل صيف يجمع مؤونة أشهر ، يغلق الأبواب ، وينزل الى بئر السلّم
،و يقاطع الشوارع طيلة الصيف .
ومن خلال العتمة التي لا تتيح له ان يرى شيئا ،كان يذكر نفسه دائما
بأنه حاول ان يغض البصر كثيرا حتى تعب من السقوط على وجهه.
57
بانتظار البعث
حين أحس بأن هاتفه أصبح كمجاري باريس يصب في نهر السين والجيم،
ودماغه كفأر ابيض في القفص المتلفز ، والأقمار الصناعية تصور العصارة النشاز
في خلايا دماغه.
وحين نظر حوله ،ووجد الأفواه مفتوحة لأي شيء ، ولغير شيء ،و الأيدي
تصافح الجديد مع أنها تعرف انه القديم .
حزم أمتعته القليلة ،
و آوى الى الكهف.
58
طاقية الإخفاء
بعد أربعين يوما في حجرة مغلقة أبوابها حديد وراءها صنديد ،
خرج؛ فصفعت الشمس عينيه . ولما أحس انهم زرعوا العيون في ظهره، بحث
عن طاقية الإخفاء ،وبعد تعب ونصب ، وخسائر في الأموال والأنفس وجدها . لكنه لم
يهنأ بلبسها ،فقد دخلت البلاد في عهد الديمقراطية السعيد.
59
بارادوكس
-"بعد مفاوضات شاقة مع صندوق النقد الدولي صارت البلاد تعيش في
بحبوحة ."
- "وفيم كانت قبل ذلك ؟"
60
أحلام قابلة للهضم
نصفه الغربي يأكل نصفه الشرقي.
نصفه الغربي يطعم نصفه الشرقي.
نصفه الغربي يحرم نصفه الشرقي.
نصفه الغربي يبتعد غربا ويمعن.
نصفه الشرقي يقترب شرقا ويمعن.
والشق يكبر.
والشق يخرج منه ألف شق.
وكل شق يقضم جزءا من أحلامه .. ينتظر لعلها تعود .. لكنها لا تعود.
61
الخارطة
دفع إليه بورقة ملفوفة : " هذه هي الخارطة ، ستدلك على الطريق ."
- "هل ستوصلني الى هدفي ؟"
- " ما هدفك ؟"
- " أن ارتاح ."
- " سترتاح بالتأكيد، ولكنك ستضحي وتتعب حتى تصل الى نهاية
الطريق ."
وحين وصل الى نهاية الطريق لم يكن قد تبقى منه سوى قدميه، وضبع آخر
ينتظر بفارغ الصبر.
62
أمنية
تابعها ببصره وهي تسير في أرجاء البيت بهمة رغم أعوامها الستين.
حاول ان يتذكر عدد السنوات التي ربطتهما معا ففشل . لكنه عرف فقط انه حين
تزوجها كان في بداية اكتشاف ذكورته، وأن أول حيضها كان بعد الزواج.
قال لها بحنان عز على النضوب : " ليت يومي يأتي قبل يومك !"
نظرت بجزع إليه وقال :" لماذا ؟
- إن مت قبلي ستكون المرة الأولى التي تتخلين فيها عني "
- " و ان مت قبلي ستكون المرة الأولى التي تتخلى فيها عني"
- " ليت الموت وسادة واحدة تجمع رأسينا معا؟؟!!
63
حيران
- ما رأيك هل سيمنح فلان الثقة ؟
- لا .
- إذن سأمنح الثقة . ولكن ماذا عن فلان الثاني ؟
- سيمنح الثقة .
- إذن سأمتنع . و ماذا عن فلان الثالث ؟
- سيمتنع أيضا .
- إذن سأتغيب عن الجلسة.
64
تداول للسلطة
اتفقا على تداول السلطة في البيت. وأن ينفذ كل منهما ما يأمر
الآخر.
اليوم الأول كان يومه . نسيت ان تعد قهوته ،فوبخها . وكسرت كوبا،
فشتمها، رفعت صوتها محتجة، فصفعها.
وانتهى اليوم وهي تتوسد ذراعه بعد أن اقسم إن عقله لم يكن معه.
اليوم التالي كان يومها. لم يقل لها "صباح الخير يا حبيبتي" .
فأمرته ان يغسل السجاد، وينظف المطبخ، ويلمع حذاءها . سألها الى أين هي خارجة،
فحلفت بأن تخلعه . رفع صوته محتجا. فأشارت إلى الباب وقالت :" برّه !"
مع أن النهار لم يلوح بيديه مودعا.
65
شرق وغرب
كثيرا ما كان يصاب بدوخة . رشة ماء ويصحو . أو ينقل إلى المستشفى .
حقنة "أنسولين " فيقوم كالغزال. لكنه ذات يوم كحلي اللون كان يسير في الجزء
الغربي من المدينة .جاءته الدوخة، فسقط أرضا. وسمع صوتا من وراء زجاج أحد
المتاجر يقول :" اطلبوا الإسعاف."
في السيارة تذكر المرة الأخيرة التي سقط فيها . كان ذلك في الجزء
الشرقي من المدينة . اجتمع عليه خلق كثير ، ورشوا الماء .أوقفوا سيارة تاكسي،
وصعد معه اثنان إلى المستشفى، وظلا معه حتى خرج.
وفي اليوم التالي جاءا يقرعان جرس بيته، ومعهما شيء قد لف بورق
هدايا .
66
المدينة والحصان
حين كان بدويا في الصحراء كان يركض كحصان بلا سرج .
وكان أيضا ينام على الجنب الذي يريحه .
وعندما دهمته المدينة وتعلّب في إسمنتها؛ صار حصانا مسرجا يطوق فمه
حبل، وينام على الجنب الذي يريح غيره.
67
الرحلة
على ضفة النهر العظيم جلس يرقب الماء الجاري الذي لا يعود.
و بعينين قاومتا سنوات ثمانين ،راقب الفقاعات –صغيرة وكبيرة- وهي
تطفو على السطح وتختفي .
ارتفعت نظراته الى الأفق متأملا . ومن بين الطعام الكثير الذي جمعه
لرحلته
أكل قليلا،
وشرب قليلا ،
ثم صلى طويلا ،
ثم تكور على نفسه منتظرا كفقاعة.
68
سؤال عمره ثلاثمائة عام
دخل المنزل ومعه بعض أكياس الطعام . بدت مارثا كأنها عادت من
الخارج للتو. كان وجهه شاحبا . سألته: " هل أنت بخير "
رد بفتور :" أظن ذلك ."
- " ما هذا الشحوب إذن؟"
- " كدت اقتل في وسط المدينة في تبادل إطلاق نار بين الشرطة
وأفراد عصابة. خذي هذا طعام الكلب ."
- " ما هذا ؟ لماذا أحضرت نوعا رخيصا . ماثيو لن يحبه ؟"
- "أنت تعلمين الظروف إرهاب وضرائب وغير ذلك من القاذورات.
يقولون من اجل أبنائنا في الشرق الأوسط؟"
- " أجل ."
- " ولكني لا أفهم هؤلاء السياسيين . لماذا يجب علينا ان نعلم
العالم كيف ينام المرء مع زوجته ؟!"
- " يا عزيزي . من قبل الاستقلال ورجالنا يتوهمون انهم الأكثر
فحولة في العالم؟"
69
الكلاب البيضاء
حين عاد من زيارة لأقاربه في الولايات المتحدة ، كان يحمل في
ذاكرته صورا ومشاعر مختلطة . كان لا يزال يذكر تلك الملاحظة الغريبة التي
التقطتها عينه وأذنه.
رأى الكثير من الكلاب هناك . كانت سائمة في الشوارع والأزقة الخلفية
. كلاب ضالة . ولم يقبع في ذاكرته كثيرا ما وجده لوهلة غريبا من أنها كانت
سوداء أو ملونة .و إنه لم يشاهد بينها كلبا ابيض . فحين سأل قالوا إنها ليست
بحاجة لأن تبحث عن طعامها . الطعام يأتيها الى البيت. ما أدهشه حقا هو أنه في
كل مرة كان يمر بكلب ضال يشعر بأنه لا يحفل به. وفي كل مرة كان يمر بالقرب من
بيت فيه كلب ابيض يرتفع النباح :كأجراس الإنذار .
70
حمل كاذب
جاءها المخاض،
فاستندت الى جذع النخلة القديمة الوارفة . هزتها . و أعطت وأعطت لكن
المولود المنتظر لم يأت.
جاءها المخاض ثانية ،فاستندت الى إطار السيارة الطويلة الفاخرة.
أعطت وأعطت لكن المولود لم يأت.
جاءها المخاض ثالثة . وحارت ِإلامَ تستند . ولم تعط . وظلت تنتظر
.عيونهم تراقب بطنها ،والأرض من بين رجليها . وتصارخ أصحاب الحمل وأولياؤه
ومحبوه و كارهوه واختلطت دعاواهم . قال نفر منهم :" النخلة القديمة هي السبب."
قال نفر اخر :" بل السيارة التي لم تصنعوها بأيديكم هي السبب."
بصقت عليهم وقالت :" بل ظهوركم الناشفة هي السبب."
71
رجلان وظل واحد
افترش عشب الأرض غير عابئ بما يدب تحته . راقب الشمس وهي تتقدم على
استحياء من حبيب مجهول تواعده ساعة الغروب . ومسح ببصره الأجواء ليلتقط نجمة
طالما انتظرت بلهفة ان ينام السميران. كانت كلمات الاعتذار قد أخذت ألوانها
من شفتيه المزرقتين نزقا . كان سيشرح لها لماذا لم تعد ترى إلا سامرا واحدا
يتأوه وحيدا في ليل إفريقي المولد .وكان سيرشوها ببعض العزاء بأن الشمس أيضا
افتقدت رجلين كانا يتبادلان الظل، والآن أصبحا رجلين و ظلين حين اكتشف أحدهما
فجأة ان في علم الحساب ما يسمى عملية القسمة. وتنهد وفي خياله صورة تهتز ،وفي
صدره حشرجة قلب عند ذلك اللقاء الذي لا تعرف متى يحين. كان ذلك بعد ان جف ورق
الشجر، وسقط . وبعد ان كفكفت السماء من بكاء دموعها، وبدأت في نسج بساط علاقة
مع الأرض ينوء بألوان تجهل البساطة.
مد الآخر يده مسلما : كيف الحال ؟
علت وجهه دهشة بدأ برسمها منذ قال الآخر ذات يوم ساحبا ظله:" واحد
والباقي واحد"، فرد قائلا:
-" يبدو انك تعرفني ؟ من الأخ ؟
دهش الآخر أيضا :" ألا تعرفني ؟ ألا تعرفني ؟"
مرارة تجتاح المساحات المتبقية في حلقه :" لو عرفتك من قبل أكنت
أسال الآن؟
كتبت هذه
الومضات
القصصية بين 20 أيلول 2003 و20 تشرين الأول من العام نفسه
أضيفت في 04/12/2005/ خاص القصة السورية
/ المصدر: الكاتب
ضحكات حاييم
1
أول الغيث
وراء الطاولة الكبيرة التي تفصل بينهم تمترس كل منهم على كرسيه. بدا
سطحها واسعا بحجم البحر الأحمر . على جدران القاعة الكبيرة اصطفت صور جميع
الحاضرين . كان كل منهم يتشبث بطرفه كما يتشبث بحافة قارب تقاذفه أمواج متلاطمة
. نلسون الرجل الأشقر الضخم الذي جاء من المدينة المجاورة ضرب الطاولة
بحذائه فاهتزت الأكواب والفناجين ،أجفل الأشخاص المحيطون بالطاولة.صرخ بصوت
عال وبنبرة حادة قاسية وخلفه يقبع رجل ضئيل طويل الوجه مقوس الآنف اسمه
حاييم :
-ستطلّقها .
الرجل
الذي لوحت وجهه شمس الرافدين رد بهدوء اقرب إلى البلادة والغباء على طلب السيد
نلسون :
-لماذا ؟
-لان زواجك بها يشكل خطرا على جميع العائلات. و أنا وعائلتي أول
المتضررين .
ورمى بقية الأشخاص الموجودين حول الطاولة بنظرة تحد وتهديد
:"ولن نسمح بذلك . "
بدوا كتمائيل خشبية جفت الكلمات في أفواهها، لكنهم أومؤوا موافقين
.
رد الرجل الأسمر بعناد :"ولكن لماذا يكون زواجي من "صامدة " خطرا
على أمن العائلات؟"
-"لأنك تزوجت من امرأة ذات حسب و نسب و أصول ؛ مما يجعلك تنتمي إلى
طبقة لا تستحقها . طبقة زوجتك رفيعة و أنت رقيع ذو اصل وضيع ."
-" أنا لا أؤمن بالتفاوت الطبقي ، وقد قبلت بي ،ومثلها يقبل بمن
يسعى لامتلاكها ."
-" حتى لو قبلت بك فذلك نتيجة خداعك و تضليلك لها . ثم أنت لم تحصل
عليها وفق الأعراف والتقاليد المتبعة . هل أخذت إذنا من أهلها .. من مجلس
عائلتها .. من مجلس عائلات المدينة ؟ لم تفعل . تزوجتها سرا. هذا الزواج لن
يصمد ."
-"ولكني احبها و تحبني . ثم إنني لست وحدي الذي فعل هذا . انظر
مثلا حاييم . حاييم تزوج من" ديمونة" قبلي بكثير رغما عن الجميع ، وقد طالبته
كل المجالس أن يعلن زواجه لكنه رفض ."
تكور حاييم على نفسه خلف نلسون."
ضرب نلسون الطاولة بعنف و قد احمر وجهه ، و خرج الزبد من شدقيه :
" لا شأن لك بحاييم ".
همهم الآخرون وقال مستر فوكس الذي اعوج لسانه بلهجة" الكوكني "
اللندنية : " نعم حاييم شيء آخر "
رد الرجل الأسمر بعناد أشبه بالغباء و اقرب إلى البلادة :
-"لماذا ؟ هل يعني كون حاييم شريكا لك في كثير من شركاتك معاملتنا
بصورة مختلفة ؟"
-" لا شأن لك به وحسب ."
-"ولكن هذا ظلم . كل لي وله بمكيال واحد !"
-" كيف أكيل لكما بمكيال واحد وأنت صعلوك و هو شريف . أنت مضلل
مستبد متعصب و هو واضح وشفاف و صادق و حر وديمقراطي ."
-" وهل أنت الحر والديمقراطي ؟ هل نكشف المستور ؟ ثم إنه مثلي لم
يستشر أحدا ."
-" لكنك أمرت زوجتك أن تضرب زوجة أخيك . لقد " سلطت زوجتك لتعتدي
على أحد اخوتك وجيرانك . حاييم لم يفعل ."
-" هل نسيت ضرب حاييم لجيرانه ، وإخراجهم من بيوتهم، واستيلائه
عليها بالقوة ، و رفضه إعادتها إليهم ، والتصالح معهم .هل نسيت الكتف الذي
"تسلفه "" له كلما ارتقب حماقة سوداء؟"
-"هذا موضوع آخر سنحله بمعرفتنا . …
همهم الآخرون :" طلقها وأرحنا و أرح نفسك يا أخي . طلقها."
مال نلسون إلى الكوكني. تهامسا. وقف الكوكني وقال :
-"لقد اتفقنا على أن نعطيك مهلة .بعدها سندخل بيتك ،ونأخذها منك
،وسنطردك ،وان قاومت قتلناك . سنعطيك ثلاثة أيام لتطلقها."
-"أستشير إخوتي وأعطيكم الرد ."
-"ثلاثة أيام فقط!"
من خلف نلسون كان حاييم يحاول جاهدا كتم ضحكاته.
2
إضاءة من الرجل الأسمر
متناثرون كحجارة سوداء على جانبي طريق صحراوي متلهف للحياة.
تشدهم خيوط لا تراها العيون ، خيط يشد الأيدي التي امتدت إلى
الدولار ، ويكبلها حين يحيق الخطر بتلك الديار..
خيط يفتح يدين ضارعتين أن احمنا من ذلك الجار ..ينسيهم أنهم اخوة
وأن الجار ولو جار..
خيط يفتح يدا سمنتها العمولات ،والصفقات.
اخوتي يتمايلون تيها بين نشوة الماضي ،وعز الحليف ،وتحت الأقدام
يتلوى التضامن ،
مصالحنا يقولون..وجودنا ينعبون ..كراسينا يولولون ..
تلك ترانيم تسبح في أفواه اخوتي .. ومع أني لا أنكر أني منهم إلا
أنني ما رهنت مصالحي ..وجودي .. كرسيي لحفار آبار النفط ..لصاحب حرب النجوم
..يأبى هذا الرأس الجالس بين كتفي ..أن يقول نعم ..حين تكون نعم ..أشبه بنغم
..يوم تطوى النفوس وتلف يد حاييم على الرقاب حبل العولمة.
3
بالشكر تدوم النعم
الكراسي حبلى بالجالسين . وحرارتها ارتفعت في بداية الجلسة، ثم
عادت تنعم ببرودتها المعتادة ، وحين غادرها شاغلوها همس كرسي لصاحبه الذي نصب
جذعه بفخر فارغ :" الحمد لله أننا لا نشهد تغييرا يذكر بين جلسة وأحرى من جلسات
الاخوة، وأننا بقينا على حالنا دون كسر ، دون خلع، حتى ولا ضربة مسمار.
رد الآخر بأسف ممزوج بالشماتة :" الرجل الأسمر لم يحصل من اخوته
على أكثر من رفض لتهديدات نيلسون مع النصيحة بالطلاق "
4
إضاءة من نلسون
"عزيزي حاييم :
ما زلت اذكر كيف كانت أيدينا تتشابك ، ونحن نغني بانفعال و حماس
شديدين:
عند أنهار بابل
هناك كنا
حين تذكرنا صهيون
هناك كنا
من بابل يبدأ كل شيء .سنعود من هناك يا حاييم، ونقف على صهيون و
تتشابك أيدينا ثانية، وننشد من جديد .بانتظار قيامة السيد."
5
وينهمر المطر
تمترس كل منهم على كرسيه وراء الطاولة الكبيرة التي تفصل بينهم .بدا
سطحها واسعا بحجم البحر الأبيض المتوسط . وتشبث كل منهم بطرفه كما يتشبث بحافة
قارب تتقاذفه أمواج متلاطمة . كانت الصور جميعا تصطف على الحائط عدا صورة
الرجل الأسمر.ضرب الرجل الأشقر الضخم الطاولة بهراوته بقوة فتناثرت الأوراق
من أمام الجالسين واختلطت . أزاحها بصلف وصرخ بصوت حاد ونبرة قاسية :
-ستطردها هي وبقية "الزعران"
رد الأخ التاجر بهدوء و بلهجة اقرب إلى المساومة :
-"لماذا؟"
-" لان وجودها و "الزعران " الآخرين في بيتك يشكل خطرا على أمن
العائلات كلها، و يسبب لي الضرر بصفة خاصة ."
ألح التاجر وهو يبحث عن منفذ :
-لماذا؟
-" لأنني جارك الآن . أخشى على مالي وعيالي وخدمي وحشمي ؟"
-ولكن " الكرمية " ليست كزوجة الرجل الأسمر . إنها مسكينة ومظلومة
. لقد طردها حاييم من بيت أخي بعد استيلائه عليه . و لا أسمح لها إلا بالثرثرة
"
-"إنها في دارك وفي حمايتك .أنت تؤوي الزعران، وسوف تحاسب على ذلك"
-رد التاجر وهو يحس بساقيه تخوران :
-وما العمل ؟
أحس نلسون بالخور الذي بدا يتسلل إلى نفس التاجر فقال :
-" تسلمه لي وتصالح حاييم و تطيب خاطره و تمنع عنه أية محاولة
لإيذائه ."
لكن التاجر لم يقاوم إغراء المساومة .
-وماذا احصل بالمقابل ؟
هز نلسون رأسه ساخرا :
- " أخرجك من دماغي " !!
من خلف نلسون كان حاييم يحاول جاهدا كتم ضحكاته.
6
المشهد الأخير
تسمر كل منهم في كرسيه وراء الطاولة الكبيرة التي تفصل بينهم .بدا
سطحها واسعا بحجم المحيطات كلها . جدران القاعة خلت من صور الحاضرين خلا صورة
نلسون. جاهد كل منهم متشبثا بطرفه كما يتشبث بحافة قارب يمسك دفته ربان واحد
. الخليط العجيب من الأشقر و الأسمر و الأحمر و الزنجي والأصفر كلح لونه،وصار
كلون وجه فر منه الأمل، وطارحَتهُ الصفعاتُ الخوفَ. نظراتهم التصقت بالأرض.
فجأة تحول نلسون إلى" روبوت" عملاق . ارتفعت يد لتضرب الطاولة؛فتكور الجميع
على أنفسهم، وهم يمسكون بسراويلهم .انتظروا أن يقول شيئا. لكن الذي تقدم
وتكلم كان حاييم .
* * * * * * *
شهادة المؤلف
أنا الموقع أدناه تعيم الغول " المشار إليه لاحقا في هذه الشهادة
بالمؤلف " اشهد بهذا أن الراوي الحصيف قد روى الأحداث التي اتفقنا على روايتها
، غير أنه تصرف ـ بموافقتي ـ في بعض المواقف لضرورات تتعلق باحترام قانون
المطبوعات والنشر.
نعيم الغول
المؤلف
قول مستدرك :فوجئت أثناء مراجعتي للنص أن الأوراق بدأت تهتز، وسمعت
صيحات من بين ثناياها، وحين أخذت اقلبها قفزت شخصيات القصة ، وأخذت تلوح
بأياديها بغضب . وكان علي أن استمع لما يقوله كل منهم .
وقد بدأ نلسون قائلا :
- يا حضرة المؤلف لقد قمت أنت و راويك بعمل غير أخلاقي حين كذبتم
وأظهرتموني بمظهر العدواني والطامع إلى توسيع مناطق نفوذ عائلتي وأنني مجرد
إمعة لحاييم .
أجبت بدهشة لجرأته : ولكنك كذلك .
-لا لست كذلك . أنا الأقوى والأغنى والأعلم والأوسع خبرة ولست
متخلفا مثل بقية الناس ؛ فمن حقي أن أقود الجميع ،وأن أريهم حدود الخير لهم
وهذا يكفي .
-.. .. ..
انتفض الرجل الأسمر بعنف وقال : " وأنا كنت وما زلت ضحية تآمر
وصمت الجميع ، ومع ذلك اكتفيتما بتصويري بالعنيد و الغبي، وقتلتماني ولم
تصوراني بصفتي الرجل الوحيد في زمن الخصيان ، ولم تعطياني فرصة لإثبات قدرتي
على فرض ما أريد على الجميع بما فيهم نلسون.
-أعتقد انك ضعيف الحساب ، وأنك بحاجة لتغيير نظاراتك الطبية.
لا بد لي من تعديل شهادتي والاعتراف بأن
الراوي لم يقل ما أريد ربما لأنه وجد الأمر اكثر تعقيدا ؛ مما جعله يروي
بصورة خاصة . أظن أن علي القيام بنفسي بذلك فربما استطعت أن أصور ما أريد:
ضحكات حاييم
أنا فرانك روود نلسون الحفيد الأكبر لأغلي نلسون الذي انحدرت
منه أسرتي التي تبتلع ثلث مدينتنا الكبيرة . بعد وفاة آخر محافظ انقسمت
المدينة إلى أحياء متناحرة على تجارة الذهب الأبيض والرقيق الأبيض وعلب الليل
الخضراء . في كل حي عششت عائلة . وكان لي صهر اسمه حاييم و... .. ..
أضيفت في 07/11/2005/ خاص القصة السورية
/ المصدر: الكاتب
خمسة عصافير لأم كايد
شعور طاف أرجاء جسدي بأنني انتزعت من طبق عسل حمتُ حوله كثيرا كنحلة
حتى نجحت في الهبوط على طرفه بعد أن اجتزت المسافة بين التذوق والتلذذ. بحلقت
بعينين ناعستين محمرتين الى مصدر الصرخة التي اقتلعت أذني و"النخزة" التي تركت
تمزقا عضليا في كتفي؛فوجدت زوجتي وقد دلت رأسها الذي يشبه تلك الكتل النارية
الضخمة الملتهبة بالنار والدخان التي يلعب بها أطفال " بطن الهواء " الكوكب
المجاور لكوكبنا "الأرض الجديدة".
قالت بسرعة :" أم كايد تجلس على الكرسي المعلق في باحة البيت
الخارجية، وتريد خمسة عصافير وستردها آخر الشهر".
كنت غارقا في حلم عسلي قبل أن توقظني. همست لنفسي:" أم كايد ، أم
كايد، لا أذكر واحدة بهذا الاسم في الحلم . لا أظنها كانت في الحلم. ولا أظن
أنها تستحق خمسة عصافير" ولكني استعذت بالله من الشيطان الرجيم كما علمنا
المهاجرون الأوائل الى الأرض الجديدة بأن نقول حين نخلط بين الأشياء التي لا
علاقة لبعضها ببعض مثل زوجتي والجمال مثلا أو جارتنا والعفة أو حكومتنا وحل
مشكلة البطالة والفساد، والترهل الإداري، والمحسوبية، والتمييز بين سكان الكوكب
الأصلي والمهاجرين.
لكن فكرة أن تستشيرني زوجتي في أمر كهذا أشعرتني بنشوة يشعر بها من
أعطى دورا هاما لأول مرة، كما إن فكرة أن تجلس أم كايد على الكرسي المعلق ضربت
داخل رأسي بقوة كمرور ماء بارد على ضرس استوطنه السوس. فأم كايد امرأة ضربت
بالطول قدرا اكبر بكثير مما يقدر لامرأة عادية، والكرسي يعمل بالليزر النووي
المقاوم للجاذبية على ارتفاع معين ، واصطدام قدمي أم كايد بالأرض وهي جالسة
عليه سيفشل آلية عمله ، إنه أمر محتم،والمشكلة أن هذا الكرسي لا يصنع في كوكبنا
بل في "جرف الروم" الكوكب الذي جاء إليه نسل شعب من سكان كوكب الأرض القديمة
اسمه "أميركان" وهم ماهرون في الصناعة، واحتلال الكواكب، والتعالي على شعوب
الكواكب الاخرى، والكيل بمكيالين. وبعد أن احتج سكان كوكب الأرض الجديدة على
احتلال "جرف الروم" لكوكب "شِقاق" الصغير المجاور، وطالبوا بمقاطعة صناعات
الأميركان سيكون صعبا استيراد كرسي مثله خاصة وإنني احتججت مثل غيري على ذلك
الاحتلال.
استعذت بالله من الشيطان الرجيم وتذكرت أن أم كايد امرأة أرملة
توفي زوجها بحادث اصطدام في سماء المدينة لباص جوي كان يستقله بسفينة جوية
خردة لم تكن مؤمن عليها، و"ربان العلالي" كان دون العمر القانوني ، ووالده
يتعاطى حبوب "الولدنة" التي أعلنت وزارة الصحة أنها من المخدرات المصنفة
بالسوداء.
وتذكرت أن أم كايد قالت لزوجتي بعد يومين وهي تبكي بحسرة : " أبو
السائق "المولدن" قال لهم (أعطوا الأرملة واحدا من أولادي فأنا لا أملك ريشة
عصفور واحدة) تخيلوا كلام هذا المسطول." ولما باعوا السفينة الجوية
المتسببة بالحادث ليدفعوا التعويض لأم كايد وجدوا أن اثنين من نفاثاتها
معطوبان، وان محركها المستورد من كوكب "الفطافيط" غير اصلي وبالنتيجة لم يشترها
أحد. المهم أن أم كايد قبلت بأحد الأبناء الذكور، ورفضت أخذ أي من البنتين
لأنها تعرف أن الفتاة لن تتزوج قبل سن الخامسة والثلاثين وفق قوانين كوكبنا
الخاصة بالأحوال الشخصية التي سنها مجلس الأعيان النسوي ، وبالتالي سيتعين
عليها أن تنفق على تعليمها وتدريبها المهني ومصاريف الشاب الذي تختاره من
"قائمة الحب" الشهرية التي تنشرها وزارة شؤون المرأة لمنع تكون العقد والكبت
في حياة المرأة، ولن تستطيع أن "تشغلها" في أية مهنة حين تكبر لأن قوانين
الكوكب تحظر وجود وظيفة لا يعمل بها الأنثى و الذكر معا؛ ولذا لا بد من شريك
ذكر، وأين ستجد الشريك الذكر الراغب بالعمل الذي يقبل بأن يعمل في مدينتها؟
وإن وجدته من بين شباب المدينة فيجب عليها أن تغير مكان إقامتها ليصبح مدينة
أخرى؛ فقوانين "الأرض الجديدة" تمنع أن يكون الشريكان من نفس المدينة.
كانت تطمح بتربيتها للذكر أن تستفيد على الأقل من إدراجه على قائمة
الحب ومن إيرادها سيصرف عليها وعلى الشاب التي ستختاره أيضا. كانت تحاول
الاستفادة من القوانين الى أقصى ما تستطيع.
أغمضت عيني بقرف ؛ لقد صارت القوانين أكثر من عدد سكان كوكبنا
الصغير وهو ليس إلا صخرة عرضها مئة فرسخ فلكي وطولها مئة وثمانين فرسخا فلكيا
عائمة في الفضاء فكيف لو كان كجرف الروم أو الفطافيط؟
سألت وبقايا التقزز على لساني:" هل قالت بأنها ستعيد الخمسة
عصافير؟"
"نعم آخر الشهر"
" كيف ستدبر المبلغ؟"
" لا أدري. لعلا ستتقدم بطلب إعانة إلى قسم مكافحة التسول."
" سمعت انه سيحول الى وزارة بعد أن استفحل عدد المتسولين خاصة بين
صفوف الطبقة الوسطى. قرأت بحثا يقول إن أجدادنا المهاجرين الأوائل جاءوا وهم
يأملون بحل مشكلة التسول من بين مشكلات أخرى كالحرب والسلام والعلم والرفاهة
والمرأة ،ولكن وبعد ألفي عام على هذا الكوكب لم ننجح إلا بحل مشكلة المرأة ،
واصبح لدينا مشكلة الرجل بعد أن صدر القانون الأخير الذي يسمح بزواج المرأة من
خمسة رجال وتحريم الطلاق الا بقرار جمهوري،وانتشرت حبوب "الولدنة" وما نزال
نستلم المعونات من "جرف الروم" مقابل نسيان أصولنا ، وتغير الاسم القديم للعملة
فصار "عصفور" والجزء المئوي منه "ريشة" بعد أن اصبح قادرا على الطيران من
الجيوب ، وانتهينا الى اقتراح إنشاء وزارة لضبط التسول. "
" هناك أمور لا تحلها الأماني ، يحلها فقط إيقاف نزيف الجيوب الى
الجيوب، والتوقف عن الحديث السخيف عن حقوق الرجل والمجتمع النسوي والثقافة
الأموية والحداثة والعولمة التي ستجلب علينا الويلات وتزيد من فراغ جيوبنا
ولكنكم لا تفهمون هذه الأمور أيها الرجال فتفكيركم يصب فقط في إبراز مفاتنكم
،وبمناسبة الجيوب سآخذ المبلغ من جيبك."
" لم لا تعطيها من جيبك. إنها تقصدك أنت على أية حال؟"
خمد الشعور بالأهمية التي منحتني إياها استشارة زوجتي لي فقد كان
الهدف أن أدفع من جيبي ، حاولت أن انبش في ذاكرتي مرة أخرى عن مكان في الحلم
لأم كايد متحاشيا اصطدام عيني بعيني زوجتي كي لا تكتشف أتني أفكر بغيرها فأتعرض
للضرب المبرح أو تتزوج عَلَيّ لتثير غيرتي فالقانون يحظر على الرجل مجرد تصور
امرأة أخرى.
" هذا مستحيل ، على "الأرض الجديدة" المرأة لا تعطي للمرأة شيئا ؛
سيكون إخلالا بقانون عدم التمييز بين الجنسين . يجب أن يعطيها رجل أو أن تعطي
هي رجل. هذا من أبجديات ما درسناه في الابتدائية. المرأة والرجل شريكان ويكمل
الواحد منهما الآخر وهما متساويان تماما كتلك الخريطة للأرض القديمة التي كانت
عليها قارتا أفريقيا وأمريكا الللاتينية ،مع بعض الحقوق الإضافية للمرأة
بالطبع بسبب تكوينها الفسيولوجي ، ألم تكن هذه وسيلتنا لوأد المجتمع الذكوري؟"
تأملت صدر زوجتى المنطادي وقامتها التي لم تتجاوز ارتفاع طاولة
الطعام،وسألت نفسي كيف تغير ذوقنا نحن الرجال وصرنا نغرم بكل هذه الكتل اللحمية
والشحمية، وانتصب عود أم كايد الفارع النحيل في مخيلتي.
" حسنا ، متى ستردها؟"
" آخر الشهر"
" دائما تقول هذا"
" وتفعله. لم تتأخر يوما واحدا منذ عشر سنوات"
" هذا يعني أنها لم تعد الخمسة عصافير أبدا. صحيح أنها تعيدها آخر
الشهر لكنها تستردها أوائل الشهر. يعني كأنها تسلفنا المبلغ آخر الشهر وتسترده
منا أوله. يا الهي وأنا الذي كنت أظنها تستدينه."
" لم يخطر هذا ببالي."
" ذلك لان العصافير لا تخرج من جيبك ،أرجوك ردي لها الخمسة عصافير،
وقولي لها لا داعي لإعادتها أبدا."
وعدت للنوم من جديد أطارد حلمي الذي أشعرني بلذة غريبة أيضا لم أشأ
أن أفيق منها، لذة الشعور بأنني أكثر من ذكر.
أضيفت في 27/06/2005/ خاص القصة السورية
/ المصدر: الكاتب
دائرة اللوم
سحب نفسا عميقا من سيجارته، وتحجرت حدقتا عينيه على منظر بعيد لم يستطع
من حوله أن يروه معه. مع الدخان الرمادي المنبعث من فمه جاءت كلماته تقطر حيرة:
" لا أستطيع أن ألوم ذلك الشرطي الذي دخل الى المقهى، ووقف بالقرب من
طاولة صاحبها، وتفرس بوجه ينطق بالحزم وخطورة ما جاء من أجله في الوجوه المكبة
على أوراق الشدة أو النرجيلات أو الغارقة بوحول النهار الذي ارتحل منذ ساعات
قليلة. ولا ألومه حين اقترب من الطاولة التي كنت أجلس إليها في مثال هذا الركن
المنزوي تماما في مثل هذه الأمسية. لا من الصعب أن ألومه حين شدني من ياقة
قميصي، وأنهضني وهو يقول:" محمود خميس؟ إننا نبحث عنك منذ يومين. تعال معي."
من يلوم شرطيا يؤدي واجبه إذا صفعك أمام الجميع واقتادك أمامه وقبضته
تدق ظهرك بين الصفعة والركلة؟ لا يا أصدقائي سيكون ذلك من الظلم الكبير."
ساد الصمت فيما عامت كلماته في أدمغتهم محاولة الاستقرار في منطقة
الفهم الكامل. تخلص أحدهم من وجع الفهم والتفكير وقرقر بنرجيلته. سال آخر وهو
يحدق في تلك الرعشات المتلاحقة بالقرب من عين محدثه محمود خميس:" كيف لا تلومه
وقد اقتادك دون أن يقول شيئا عن سبب اعتقالك؟"
توقفت الارتعاشات حين اختلست شفتاه ابتسامة صغيرة بدت كشرخ في جدار:
" لن تلومه لأنه مأمور بالا يقول شيئا. هنا لا أحد يقرأ الحقوق على
أحد"
علق صاحب النارجيلة:" حتى المحامي خريج الحقوق لا يقرأ الحقوق."
علق آخر:" المحامي يقرأ حقه عليك فقط."
ضحكوا ليخفوا الفقاعات التي بدأت تتصاعد في أمعائهم كاشفة عن قرحات
مزمنة. تابع محمود خميس:" لا، أقول بجد.. بعد أن اقتادني خارج المقهى قذف بي
داخل سيارة كانت تنتظر، وبسرعة وجدت الشرطي الجالس داخلها يمسك بيدي ويقيدهما."
-ألم تسأل لما أخذوك؟
-بالطبع سألت ولكني سمعت كلمة واحدة
-نحن أسفون مجرد اشتباه أو على أقل تقدير : "يتعرف في المركز"؟؟
-لا قالوا : اخرس.
سمر نظراته على أحدهم . طالت النظرة قليلا فتنحنح الآخر ونظر في اتجاه
آخر.
" في المركز ركلني عريف النظارة في مؤخرتي، وأغلق علي الباب بعد أن
اطمأن أنني اصطدمت بسطل مليء بالبول. لا أستطيع أن ألوم العريف فقد قال لي أدخل
قبل ذلك لكني وقفت وقلت له إن من حقي أن اعرف ما يحدث لي. اعتقد أن هذا الكلام
يكفي ليطير عقل أي شخص حليم ، فما بالك بعريف مسكين مهمته فتح النظارة وإغلاقها
ثم يأتيه من يقول له حقي و"زفتي". لا . هذا أيضا لا يلام"
كان الاهتمام قد احتل محاجر عيونهم لدرجة انهم لم يسمحوا لها أن ترمش.
بينما أشعل محمود سيجارة جديدة من تلك التي انطفأت.
" لكن لحظات الخوف والانتظار لم تدم. حقيقة يا إخوان لم اشعر بسعادة
قدر ما سعدت تلك اللحظة التي فتح فيها العريف الباب ونادى اسمي. فرحت حتى إنني
صافحت زملاء النظارة اللذين لم اعرف أسماءهم بعد، ولم اعرف قصصهم، ولم يعرفوا
قصتي، ولكني مع هذا بدأت بمصافحتهم مودعا بسعادة غامرة . كدت أن أصافح العشرة
الملتصقين كركاب حافلات النقل العام لدرجة انك تستطيع أن تعرف أن كان الواحد
منهم قد أزال اللوز أم لا.
لكن العريف جذبني بشدة وصاح بصوت مدو: "لسه بدري" .
لكن عصافير السعادة لم تطر إلا عندما حشروني في غرفة التحقيق
وسألوني:" أين المسروقات؟"
مرة سمعت شخصا يصف شيئا اسمه الهلع لكني عرفته حين مات لساني في فمي
وهبط قلبي وأحسست به بين رجلي. صرخت بدهشة :
" أية مسروقات يا سيدي؟ والله لا أعرف شيئا عما تتكلمون".
بسرعة تبادلوا النظرات وابتسموا. قال ضابط بنجمتين:" لقد حلف. لقد
حلف."
رد شرطي آخر التصقت بذراعه ثلاث شرائط: "أنا سمعته سيدي . اسمع "وله"
ما دمت حلفت فآنت كذاب. الآن عليك أن تخلق المسروقات، وتعترف عن كل جماعتك، وعن
التجار الذين وزعت عليهم المسروقات. جماعتك اعترفوا عليك."
أنا لا أستطيع أن ألوم الضابط والوكيل حين جمعوا كل ما يستطيعون من قوة
عضلات وسماكة أسلاك كهرباء و بدءوا بالانتقال ملمتر ملمتر ضربا على جسمي كأنهم
قوات تحالف تحرر بلدا من بلدان محور الشر . كيف ألومهم وقد أصررت بأنني برئ.
أتعرفون ما القصة يا إخوان؟ أخي يعمل في أحد البنوك. أخي الأكبر مروان. وهو
مدير فرع الآن. لم يرض عن تركي للمدرسة مبكرا ولا عن عملي تارة "كونترول" باص،
وأخرى صبي قهوة، وتارة امضي أوقاتي نائما بعد سهرة طويلة على التلفزيون. فدبر
لي قرض باص صغير لتوزيع البضائع على تجار المفرق. وبدأت أدور على تجار الجملة
والمصانع آخذ بضاعة وأوزعها. وتعرفت يوما على أحد الموزعين الذي قال انه يعرف
مصنعا يستطيع أن يعطيني بضائع بأرخص من هذه بكثير، وعلي أن أوزعها على تجار
المفرق، والربح كبير ومضمون. ودلني على المكان وكان "هنجرا" كبيرا. وبدأت
أتعامل معهم. وعرفت من التحقيق انهم لصوص يسرقون البضائع، ويعيدون بيعها عن
طريق موزعين صغار مثلي. وحين ألقي القبض عليهم لم يعترفوا بان لا دخل لي بالأمر
بل قالوا إني شريك لهم.
رغم أنني ضربت ضربا يهد الجبال هدا إلا أنني لا ألوم الضابط والوكيل،
إذ أمامهم اعتراف أفراد عصابة على شخص بأنه منهم. وهذا الشخص ينكر. لو كنتم
مكانهم هل تضعون احتمالا بان أفراد العصابة كاذبون؟ هل ستقولون الكلام الفاشل
:" المتهم برئ حتى تثبت إدانته؟" هل ستخرفون بتخاريف منظمات الرفق بالإنسان
وتقولوا هذا إنسان ولا يجوز تعذيبه وانتزاع الاعتراف منه بأية صورة من الصور؟
لو كنتم مكانهم هل ستذهبون وتتعبون أنفسكم وتتحرون عن ماضي هذا الشخص وتتأكدوا
من براءته؟ أم تتعبون الطريق الأسهل والأسرع والأضمن والأعقل وهو الضرب المفضي
فقط للاعتراف؟
سال أحدهم :" وهل اعترفت؟"
شخر من أنفه: " طبعا اعترفت، وبدأت أعطيهم أسماء ذات اليمين وذات
الشمال. فحولوني الى المدعي العام. سأذكره بخير ما حييت. لقد رأى آثار التعذيب
علي، ويبدو أنه تألم كثيرا لحالي. أتعلمون يا شباب ؟ ما أعظم إنسانية الانسان
حين يكون في منصب كبير ويتألم مع أخيه الانسان .. مع إنسان حقير الشأن مثلي،
ويأمر بإعادتي الى النظارة حتى تشفى الكدمات والجروح والقروح. يا لهذا المدعي
العام الطيب! لو رأيتموه وهو واقف أمام القاضي يصور الوطن خاليا من أمثالي. كم
كرهت نفسي وقتئذ وشعرت بأنني وصمة عار في جبين الوطن. هل سمعتم بشخص اسمه أحمد
شوقي؟ أنا لا أعرف أحدا قال مثل أحمد شوقي شيئا جميلا في الوطن حتى سمعت ذلك
المدعي العام. يا إخوان حب الوطن مؤثر جدا عند من طبقوا القانون علي، مع هذا لا
أفهم لماذا ما يزال الوطن بحاجة الى الكثير من التقدم رغم وجود كل هذا الحب في
قلب ذلك الشرطي والوكيل والعريف والضابط والمدعي العام؟ صدقوني أنا لا ألومهم
فهناك أوامر الحاكم الإداري ينبغي عليهم تنفيذها. الأوامر واضحة : لا رافة ولا
شفقة مع المشتبه به محمود خميس حتى يعترف. وهل تظنون أنني ألوم المحافظ لا قدر
الله ؟ ألا يتبع هو أيضا أوامر الوزير والوزير أيضا يطبق القانون والقانون يقول
بان للحاكم الإداري أن يفعل ما يراه مناسبا لحفظ الامن والنظام وممتلكات الناس.
وهذا ما فعلوه معي. ومع المجموعة السافلة التي جرت رجلي في القضية. وقد نظف
الوطن مني مدة سبعة أعوام أصدرها القاضي، وقد رأيت وجهه وهو ينطق بالحكم. كان
كوجه شخص وجد جرذا ضخما قذرا في فراشه. حين نظر الى أحسست أنني ذلك الجرذ.
فعقب قائلا: "لو أن القانون جعل العقوبة الاعدام " فعصا" لارتاح ضميري أكثر."
وأنا لن احلف حتى لا تقولوا كما قالوا في المركز : قالوا للحرامي
احلف.." أتظنون أنني ألوم القاضي حين لم يقبل ادعاء المحامي بأن اعترافي انتزع
انتزاعا وقدم تقريرا طبيا يشهد بان آثار الجروح والقروح تدل على أنها حديثة
العهد. بصراحة المحامون في واد والمدعي العام والشرطة والقانون في واد آخر.
المحامي يا إخوان "غائب طوشة". ولهذا لا ألومه.
قال أحدهم وقد بدا غيظه واضحا على وجهه: "سبع سنوات في السجن وتعذيب
وبهدلة ثم لا تلوم أحدا؟"
قال وهو يسحب آخر نفس من آخر سيجارة:" بلى ، ألوم .... ألوم ابن الكلب
الذي سألوه عندما استعصت ولادتي:" إما زوجتك وإما الجنين".
عنترة طليقا
عنترة فارس صحراء العرب وسيدها تاه في ليل السجن المسكوب على المدى
وفي قلبه خريطة لعيني عبلة اللتين احتضنتا أشجارا وسهولا وجبالا بحجم وجعه. لكن
ظلام الزنزانة الانفرادية حتَّ سواد وجهه فصار كلون الرماد الذي يحمي الجمر أو
يخنقه. وعنترة يوشك بعد خمسين عاما من غربته في المكان والزمان على الخروج.
والزفة بدأت تعد له. شيء ما حدث في غفلة من سيفه ورمحه وحصانه وقلبه الصخري جعل
الخروج والزفة ممكنين بعد هذا الوقت القصير جدا في عمر فرسان الأزمان الجائرة.
الذين زاروه منذ أيام اقسموا أن لونه تمادى في النزوح عن السواد: وإن لم يغز
وجهَه البرصُ بعد. ولم ينكروا بالطبع أن قزحيتي عينيه ظلتا في حالة حداد، وأن
البياض في أسنانه صار براقا ،وشفتيه ظلتا منتفختين كوسادتين من الصوف.
يذكر عنترة (كمن يفيق من الحلم بقاياه ) انه موعود بميدان يركض فيه
وبيوت فارهة تغنيه عن أعمدة خيمته المنهارة، وسيارة لا يجاريها حصانه الأبجر
الهزيل، وعشرات العبلاوات ذوات النهود المتفاوتة الأحجام ممن يجعلن عبلة مجرد
بدوية تحلم بالعشب لماعزها وبفارسها "أبي الفوارس" لينقذها بعد الغزو ويعيد لها
الإحساس بأنفاس الفجر التي تنسل في المكان دون حراسة أو رقابة.
ويذكر أنه موعود بحساب علني في المصرف المحلي وسري في مكان آخر لا يعرف
التأميم. عنترة أيضا موعود بحقيبة وزارية يورث محتوياتها لسابع سلالة من أحفاده
فهو يعرف أن الحقائب الوزارية في صحراء قومه جعلت بديلا عن الضمان الاجتماعي
لمن يعرف كيف يصهر كلماته ثم يصبها في قالب عمرُه بعمر فقدان الأمل والحرية
التي نشدها ذات يوم لجلده الأسود.
عنترة يأمل كثيرا بالمعجزات التي سيدرها عليه لونه الجديد. لكن السادة
أنفسهم الذين عادوا الى ما وراء البحار ما يزالون يشيرون إليه في رسائلهم
الإلكترونية بالعبد.
حمائم مرزوق
مرزوق ذو الملامح السمراء التي ورثها عن أمه القادمة من أعماق الصعيد
المصري "تصعد" إلى سطح الدار وفتح باب "الخم"* حيث تجمعت حمائمه التي نزل إلى
سوق الحمام واشتراها من مصروفه وعيدياته التي جمعها على مدى سنتين. كان من
بينها حمائم مصرية وشامية وبالطبع الكثير من الحمام البلدي. وابتسم بفرح حين
استشعر اليقين بأن حمائمه ستسبق حمائم ابن جيرانهم الذي أحضرتها له أمه الروسية
من جورجية وأوكرانية ليتذوق معنى تحليق الحمام الحر.
همس : "ستحلقين أعلى وابعد."
كان قد لاحظ بعد عودته من صلاة الفجر في المسجد أن الغيوم سارت أمام
الريح إلى أماكن أخرى بعيدة كقوافل تنقل الحرير والبشائر. ألجمه الدفء قليلا،
وود لو بقي هكذا ساكنا طوال العمر تحت سماء صافية بلا مطر، وشمس لا تحجبها
غيوم. "برجمت"* بعض الذكور للإناث داخل الخم. فقرر أن يضع حدا للغواية "الخـُمـِّيـَّة
" فأخذ الحمائم البلدية والشامية والمصرية وأطلقها في الشمس.
قال لها:" هناك مساحة في الأجواء لم تصلي إليها بعد . اذهبي إليها
وعودي لي بخبرها."
تلك البقعة كانت خلف الأفق ،وكان كثيرا ما يجلس مع والده يحدقان إليها
حيث يحاول الوالد أن يشرح له ما يوجد خلفها، والولد يلح على أبيه بالذهاب
إليها، والوالد يرد بأنه حاول ذات يوم فسقط على رقبته وكادت تدق عنقه، وأنها
واسعة وبعيدة يضيع الفرد الواحد فيها وأنها تحتاج الى بحر من الناس كي تمتلئ
وتفيض بجمالها على من يحبها. ومرزوق في كل مرة يقف غاضبا ويقول :"يوما ما سأذهب
وحدي."
حوَّم السرب في الجو، وكان يبدو من بعيد كمتزلج على الماء يدور مع
الموج يعلو ويهبط ويتمايل. وبين الفينة والأخرى كان يرى السرب يلمع حين ترتد
أشعة الشمس عن أبدان الحمائم فتبدو كقناديل تتنقل في السماء ترسل أضواءها
إشارات فرح الى الأرض الحزينة.
استسلم مرزوق قليلا للحظات انكسار القيود تلك.
ومرت ثوان قبل أن يسمع إطلاق نار كثيف باتجاه سربه الذي كان يمتص اصفر
الشمس وازرق السماء بوله و نشوة. ورأى حمائمه تخر الواحدة تلو الأخرى.
ركض كامرأة تلاحق لصا خطف طفلها الذي جاءها بعد عقم سنين، وحين وصل
الى البقعة التي تلقت جثث حمائمه وجدها ترابا احمر ربما من البكاء أو ربما من
دم سال ويختلط به. أولاد كثيرون وقفوا ينظرون بحزن. بعضهم أمسك بعيدان وأخذا
يرسم على التراب أجسام الحمائم سأل : "أين هي ؟" قالوا : جاء رجال بسرعة وكان
معهم رجل يبدو كصياد محترف وكان يوجه إليهم الأوامر.
وقالوا : سمعناه يقول :" خذوا الجريحة إلى المستشفى وادخلوها باسم
نزيل هارب. الحمائم الميتة ادفنوها فورا واكتبوا سبب الوفاة . تلك الحمراء
الضخمة "ضحية جرائم الشرف" والبيضاء الناصعة " الحرية اللامسؤولة " والبنِّية
"الغاء الحدود القطرية " والسوداء "الإرهاب".
فتح مرزوق الخم ثانية فوجد الذكور ما تزال "تبرجم" للإناث في وصلة
غواية لا نهاية لها. تناول بعضها وأطلقه باتجاه تلك البقعة . ومرت ثوان قبل أن
يرى نفسه يركض مع طوفان من أولاد وبنات الحي باتجاه البنادق وهم يصرخون " دعوها
تحلق".
إضاءات :
الخم
: بيت الطيور الداجنة وخاصة الدجاج والحمام.
البرجمة:
الصوت الذي يخرجه ذكر الحمام لأنثاه أثناء التودد والمغازلة.
أضيفت في 12/05/2005/ خاص القصة السورية
/ المصدر: الكاتب
توجيهي
البيت حجرتان وصالة.
حجرة ينحشر فيها الأولاد والبنات ، وحجرة ينحشر فيها الأب،
والأم، وجنينها، ورضيعها.
في الصالة ينحشر الجميع.
في الصالة جلس الأب مقتحما عظام رقبة ولده القادم للتو من
امتحان الثانوية العامة لمادة الرياضيات.
" حل الأسئلة مرة أخرى ، وأفهمني أين الغلط." قال الأب وهو يشفط
سيجارته مستنجدا بها أن تبقيه حيا حتى يطمئنه ولده أن كل شيء على ما يرام، وأن
آماله غير قابلة للتبخر.
انهمك الابن في حل السؤال الأول ، فالثاني فالثالث، وقفز عن
الرابع، وأجاب نصف الخامس، وسلم الورقة لأبيه، وما يزال هناك الكثير من الأسئلة
.
" هكذا أجبت." صوته كان مختنقا.
نظر الأب في الورقة كما ينظر إلى برقية. احمرت عيناه ، وصاح من
أعماقه:" حمار مثل أبيك. كم دعوت الله أن أكون آخر حمار في العائلة. يا الهي ما
هذا العِرقُ الذي لا يجف."
يده سبقته إلى خد ابنه.
البيت حجرتان وصالة.
في الصالة تكوم الأولاد والبنات في ركن منتظرين أن تبدأ حفلة
الجَلدِ بالجملة التي تتم في مناسبات كهذه.
في إحدى الحجرتين ألقى الابن رأسه على صدر أمه العريض وبكى.
في الحجرة الثانية انتظر الأب الأم قليلا ،وحين لم تأت نظر إلى
الحزام الجِلدي الذي ورثه والده عن جده . ألقاه بعيدا، وجلس على حافة السرير ،و
انفجر بالبكاء وحيدا.
8/1/2005
قطيع
بعيدا عن جلبة الأقنعة في الشوارع الإسفلتية السوداء وتاركا قناعه فيها وقف.
دخلت رائحة التراب ورطوبة العشب خياشيمه متوحدة مع خلاياه. تنفسها بعمق كغواص
يحشر الهواء في أكياس صدره قبل الغوص. وأخرج هواء مكبوتا منذ سنين. واتته
رغبة بالنداء والصياح حين اكتشف جسده واقفا في المدى الأخضر . لكنه تنبه فجأة
أن لسانه بدا يتدلى، وأذنيه ترتخيان، وأطرافه تطلب الأرض. كان ذلك حينما شاهد
قطيعا من الأغنام يسير مطأطئ الرأس باتجاه بحيرة مجاورة داهمتها المدينة
بمجاريرها. تعلقت عيناه بالكبش الضخم ذي القرنين الملتفين . استمع إلى وقع
أقدامها المنتظم، وثغائها المتقطع. لحظة كالبرق تلاقت عيناه بعيني كبشه، واكتشف
جسده ثانية على أربع مطأطأ رأسه و يثغو.
قُبَّرة الحقول
قلت لعبد الجبار موظف الداخلية مساء ذلك اليوم :"آسف"
وقلت إنني طبيب قلب وحسب.
وفي "الحقيقة" هو يعرف ذلك، ويعرف أنني شاعر وقاص وروائي ورسام تشكيلي وممثل
مسرح وتلفزيون وسينما. فنان شامل كما يقولون.
ولكنه حين جاء بها . قلت آسف.
الحقيقة لم أكن افهمها أيضا. لم افهم تلك المرأة أبدا. وكنت – وأظنني ما أزال –
اعتقد أن من الصعب أن تطوقها بذراعيك . امرأة بمثل عنفوانها، رجل واحد لا
يكفيها. كما لا يمكن امتلاكها بخاتم في أي إصبع من أصابع اليد، ولن تربطها ولا
بأطفال حتى ولو كانوا ذوي أجنحة مثنى وثلاث ورباع. ومع هذا فرغبات الرجال جميعا
ترحل إليها دون سام ..دون ملل. حتى النساء في أعماقهن يتمنين أن تحل فيهن
قبرة حقول عساها تكون جواز سفرهن إلى قلوب الرجال.
ورغم أنها كانت كابنة المختبرات، لا أب ولا أم ، إلا أنها كانت مغرورة
بجمالها، وملاحقة الجميع لها، وتَمنيهم ودَّها.
عبد الجبار أيضا كان يريدها. ربما كانت له أسبابه التي لا أعرفها ،ولكني
اعرفه. عبد الجبار لا يطيق أن يرى شيئا عصيا على التطويع ،فكيف بامرأة مشكلتها
أنها عصية على الرجال . مشاكسة لكل النساء؟
ولهذا أظن أنه كان يلاحقها ويطاردها. بعنف أحيانا، وحين يلتقي معها وجها لوجه
في زقاق يطبق عليها حتى يكاد يخنقها، لولا تدخل "أهل الخير والإصلاح" من أمثالي
في كل مرة.
فكيف يدخل معها الآن إلى عيادتي "أنغجيه"؟ كيف صادقها؟ هل استغل حب الظهور
لديها؟ أم تعبت هي من لعبة القط والفأر؟
معرفتي به تقول إنه حين لا ينجح بأسلوب يلجا إلى غيره. ربما تعب هو الآخر –
أقول ربما- وريثما يلتقط أنفاسه فضل "في هذه المرحلة" أن يحتويها. ولابد انه
أقنعها أن له أصدقاء في كل مكان يستطيعون العناية بها وتلميعها وإبرازها على
المسرح والتلفزيون والفضائيات. وهو كموظف في الداخلية لن يعدم وجود أصدقاء
ومعارف في كل مكان.
لا بد انه أقنعها بذلك. وهي امرأة قبل وبعد كل شيء. وما المرأة ؟ مزمار تنفخ
فيه فيزمر، ويستجيب لحركات الأصابع فيتلون الصوت كما يشاء الزمار.
حين جاء بها إليّ . لم اصدق ما رأيت. قلت آسف على الفور. نعم قلت آسف، وأنا
اشعر بالأسف فعلا، لا لأنني لا أريد مساعدتها، بل لأنها ليست وظيفتي. أنا طبيب
"قلوب" ولست أخصائي تجميل لامرأة باتت مشوهة.
مزامير لعودة العصفور
(مع هوامش وحاشية)
اللوحة
انتصب الزمن مسافة مئات الكيلومترات المربعة وتلون بالأحمر المسفوح المتقطر،
والأبيض الملوث بالاستسلام، والأسود الغادر، والأخضر الذي لا يزال يانعا. هذا
الزمن افترش نفسه . أعلاه غيوم تلبدت في الركن القصي( سوداء مكفهرة). أعلاه
أيضا لاحت بوادر زرقة سماوية انسكب منها شعاع اصفر حط على جناحي عصفور يتجه نحو
شجرة بدت وحيدة رغم وجود أشجار كثيرة حولها لكنها فعلا كانت كفتاة طويلة العنق
منتصبة القامة بين أتراب لها علت وجوههن صفرة الغيرة رغم ما يبدو من تطويقهن
لها بالمحبة. اسفل الكيان الزمني تشكل تراب بني تخضب بحناء الحنين الحر ، وزجل
الحزن الأصفر الثاوي في أوراق تساقطت ردحا من الزمن أيضا وما بقي منها سوى ذكرى
بأنها سقطت فقط لتبقى ملامسة لذلك التراب.
العصفور
عيناه وعاءان يختزلان لون التراب ، ذكرى الأوراق، عناد الساق من الشجرة ،
تنحنيان كقوس قزح بين الفروع والأغصان تحطان على عش خولة ببرقة ثهمد، ولكنه كان
ما يزال متماسكا :
تغير العش منذ غادرته منذ سنوات أصابها الخرف(هامش).
/ أهو الزهيمر / أم طول الأمل؟
تغيرت الشجرة منذ غادرتها منذ سنوات أصابها القرف(هامش)
/ من يغترب لا أبا لك يقرف.
تغيرت أنا منذ غادرتهما منذ سنوات غرها الترف (هامش)...
/ والتقمه الحوت، وفي بطنه قرأ يونس سر العولمة
تغير كل شيء حولكما منذ غادرتكما منذ سنوات بيع منها الشرف(هامش)
/
ليس الملح ارخص الأشياء.
العش
فمه منفغر بعشق ووله إلى الآتي من بعيد . يعد ريشاته ريشة ريشة . يكتشف انه جاء
"ممعوطا" ولم يبق منه إلا نتف ريش وقوادم ، وما يبقي جناحيه قادرين على
التحليق. لعله احتفظ بجناحيه لهذه الزمنية :
تغير العصفور منذ غادرني منذ سنوات قيدها الانتظار(هامش)
/ كسأم زهير بن آبي سلمى
تغيرت الشجرة منذ غادرنا منذ سنوات تتهددها النار(هامش)
/ من مستصغر الشرر
تغيرت أنا منذ غادرني منذ عدة سنوات بللتها الأمطار (هامش)
/ قمة الأرض حمضية.
تغير كل شيء حولنا منذ غادرني منذ عدة سنوات عجاف......
/ حتى بعد يوسف ؟؟!
الشجرة
ارتحالك يا عصفور فيه طول ،وفي تلك البلاد غول ، أتأكل الكلاب وتموت جوعا؟
لعمري حارت العقول. انشر جناحيك على ورقي. أعطيك بعض خضرتي - ما تبقى منها-
ليوم الوصول ليوم الوصل :
تغير العصفور منذ غادرنا منذ عدة سنوات حبلى بالردى ...
/الرائيليون/ الدجال/ ثقب الأوزون
تغير العش منذ غادرنا منذ عدة سنوات خنقها الأكسجين الزائد....
/ بكين / القمح/ صك غفران للبورنو.
تغيرت أنا منذ غادرنا منذ سنوات لطالما انحنيت للريح الغربية .......
/ لا أحد صدق ريتشارد قلب الأسد
تغير كل شيء من حولنا منذ غادرنا منذ عدة سنوات روعها لاقتلاع....
/ الجرافات تتبع الجنود والميركافا تتبع جنرالات يتبادلون أنخابا ثمالتها الدم
قامت اللوحة بما عليها فحبسته محلقا في قفص الغيم طائرا نحو عشه مغتنما ذاك
الزمان الذي ازرقت سماؤه فجأة.
أحس العصفور بدنو اللحظة ففرد جناحيه واخرج مفتاح عشه ورفض الحلول والتناسخ
والتوطين والتلقين . كان يخشى شيئا واحدا ألا يجدهما حيث تركهما: شجرته وعشه.
وحين وجدهما وجد المعنى.
من انتظاره الكئيب، استيقظ العش على رفرفة الجناحين، فانتظر الوصول . انتظر .
أوه كم أحب الانتظار هذه المرة. وكان سعيدا لأن الشجرة ظلت مكانها ،وإلا لتاه
عصفوره .
لبست الشجرة كل ما لديها من أوراق خضراء ولم تأبه لدود الربيع الذي تلولب نحو
أوراقها. كانت سعيدة لأن العش انتظر، وإلا لما عاد عصفورهما.
حاشية
يحكى أن عصفورا اسمه ايهاب كان يعيش قرب البحر ويقتات على ما
تلقيه الحيتان الطيبة من اسماك فقست حديثا ويأتيه بها المد. فلم يمض الوقت
المأمول ،واعتلى عرش البحار الحوت الأبيض، وحبس المد ،ونثر على الساحل ثعابين
سوداء تشبه سوالف الاشكناز، وصار على العصفور إما أن يقاتل أو يرحل، ففضل أن
يقاتل لكن منقاره سقط عند أول مواجهة، فصار على العصفور أن يرحل ليعيش (هامش)
ويحكى أن صديقنا ايهاب خبأ في أعماقه حلما بالعودة(هامش)
وراقب في غربته تساقط ريشه (هامش) ،واحترق بالعجز.
ولما صار واجدا (هامش)– وقف على صخرة (هامش)
هنالك دعا ايهاب ربه. ونام ولما أفاق كان البحر يقبل قدمي
الصخرة، واسماك فقست حديثا تنتظر. تقول الأسطورة إن منقاره كان فاسدا(..)
-أو لينجو بريشه!
- تقول الأسطورة إن الأحلام كانت ممنوعة في زمنه ؟
- تقول الأسطورة إن عوامل التعرية حوله كانت كثيرة؟!
- وكان من قبل فاقدا...
– تقول الأسطورة إن أحدهم نجح في حفر كلمة " حق العودة " عليها
،ومات إثرها في أحد السجون؟؟؟؟؟؟؟!
|