ست قصص قصيرة جدًا
باقة الغربيـــة
1 - وطـــن
أحب بلاده بتفاصيلها الكبيرة والصغيرة.
قرأ الأحرف ف لـ سـ ـط ـيـ ـن على تضاريس شكلت هذه الحروف.
ابتسم وهو يتنسم عطرها.
حين ابتعد عنها تاه في وحدته، فألف سورة جديدة هي "سورة الوطن".
وقد أطلق عليها اسم حبيبته.
2 - صورة سوداء
الوحش الضاري يعتدي علينا بينما نحن منهمكون في أعمالنا.
نسمع الصراخ والاستغاثة...
ولا نجرؤ على الفعل.
رأيته يُجلس أعز أصدقائي على خازوق، وصديقي يصرخ وهو عار...
لم أجرؤ على الفعل.
وعندما أقبل عليّ لم يجرؤ أحد على مقاومته.....
ولم أصرخ...
بل تمكنت –قبل وصوله - من أن أرسم صورة سوداء لي وهي قاعدة على خازوق .
3 - حَيـــرة
أحس عميقاً بحضورها...وبلغة عينيها......
كان يحس بنشوة اللقاء، وكانت تغرد على شجرته الصبوات...
قالت له بجِــد:
-أنت عندي مثل أخي...
فاحتار ماذا يقول... وماذا يفعل!
4 - حـــرام
بادرت وجاهرت بحبها.
ولما احتضنها حتى الثمالة قالت له بجد:
- حرام ....حرام !!!
ولما رأى إصرارها على قولها خرج إلى المنطقة الحرام.......
5 - شخص واحد
صلى الحفيد كما صلى أبوه...
صلى الأب كما صلى جده...
صلى الجد كما صلى التابعون وتابع التابعين بإحسان إلى يوم الدين ...
قطعوا طريقاً واحدة، ودعَوا نفس الدعوات:
أن ينصرنا ويهزمهم، أن يحفظنا ويلعنهم...
وعلى الرغم من أن الجيل تلو الجيل كان يمضي في نفس الطريق إلا أن عالم
الآثار لم يجد على الرمال إلا آثار قدمين اثنتـــين.
6 - الخبز الوفير
كلما كتب قصيدة كانوا يقولون له:
- هذا الكلام لا يُطعم خبزًا !
فقرر يوما أن يشتري خبزًا وفيرًا.......
ليُطعم به الناس.
سمــك
سألته وهي تهاتفه : أي الطعام أحب إليك ؟
أجابها بلا تردد : سمك !
ولم تكن تحب السمك ......
وألفت نفسها بعد أيام تكثر من شراء السمك للعائلة ، تقدمه مقليًا
ومشويًا و تأكله بشهية ....
وتساءلت العائلة : ما سر شراء السمك بهذا القدر ....ترى هل رخص
السمك ؟
الفيل وعزرائيل
انتفخ كثيرًا كثيرًا حتى أصبح فيلاً ....
داس على بيوض الطيور .
ولما ضعف رقد لأول مرة على التراب ......وتضاءل كثيرًا كثيرًا حتى
غدا مثقال ذرة .
وكان هناك رجل يجلس على شجرة ، وينتظر ....وفي يده عود .
وردة الفرحان
ظلت وردة الفرحان تبيع الزهور ، وتقدمه وهي تبتسم لكل العشاق
الذين يرتادون معرض البيع في البلدة .
يشتري الناس ، ويمضون دون أن تسمع دعوة لها .....
وفي المساء كانت تتساءل وما زال فوح الأزهار يعبق :
ترى من أين سيشتري ذلك الرجل البعيد لي باقة زهر ؟
شيخٌ وأمنية ...
شيخ وخط الشيب رأسه، واشتعل حافظة وذكريات، هضيم تكاد تجاعيد وجهه
تقول إنه تجاوز الثمانين. لحية قصيرة يتأنق في شكلها، وكأنها مرسومة على
وجهه، يختبئ بعباءته المقصبة ويتكئ على وسادته كلما وهنت قواه.
على رف من خزانته تتكدس عشرات الكراسات، هي بمجموعها مختارات الحاج
أو مؤلفاته، فإذا تطرقنا إلى موضوع فإنه سرعان ما يشير إلى كراسة معينة،
يفتحها وكأنه يعرف تماماً أين وجهته.
نأتي إليه ساعات المساء فنراه مستغرقاً في القراءة في كتب لونها
أصفر، وطباعتها رديئة، يتصفحها من غير نظارة على عينه. يقرأ وهو يبتسم
أحياناً، يرفع تجاعيد جبينه آنا اخر، يهز رأسه يميناً ويساراً، أو طوراً من
أعلى إلى أسفل.
إذا أمّ غريب منزله يصاب بالذهول، فكأن أمامه شريط تسجيل يتحرك،
وامّا نحن فقد كنا نتلهف عن حكاياته، حتى لو أعادها أكثر من مرة، فهو
يقدمها بصورة مغايرة وعلى طبق جديد.
يعشق السفر، كان في صباه يعلّم الكتاتيب في مضارب البدو، ويتاجر
كالعطارين الذين يتنقلون على بهائمهم من قرية إلى أخرى، ولكن الربح الحقيقي
عنده إذا تعرف على شخص يحب الأشعار والأسمار والكتب-"كنز الكتب أفضل من كنز
الذهب"- كان يقول ويشير إلى كتاب " المستطرف"! " انظروا لقد سجلت اسم ابني
على الكتاب قبل أن يولد، بل قبل أن أعرف أمه".
حج إلى بيت الله الحرام. فأضاف إلى كراساته كراسة جديدة- الحج سفر،
صدقني "حجّة وفرجة". صحبته في أكثر من سفرة، وعندما كنت اقلّه بسيارتي كان
يسعد كطفل صغير وجد لعبته.
--" في نيتي أن أزور القدس الشريف، فهل لديك متسع من الوقت
لمرافقتي؟".
-" أتشرف بصحبتك، فأنا أبحث عن مصدر مخطوط في المكتبة الإسلامية".
سارت السيارة صوب القدس.
تدخل في نفسية الشيخ:
شيئان لا استطيع التحديق طويلاً بهما: الشمس والموت. لن اكون نهباً
للفناء، خير الطرق للتنعم بما بقي لي من الحياة أن أتجاهل الموت. سأموت
وحدي، وسيبقى العالم مستمراً من بعدي، هذا الشارع ستمر من فوقه سيارات
كثيرة. الناس الذين سيشاركون في جنازتي سينفضّون بعد ساعة، وينسونني في
غمرة حياتهم، ساعي البريد سيتوقف عن زيارتي. جسدي سيأكله الدود.
لو يأتي الإنسان في جولة قصيرة بعد موته بعشرين سنة ويكون ضيفاً على
ابنائه وأحفاده…لو
لماذا يحافظ الانسان فقط من بين مخلوقات الله على موتاه ويعمل على
صيانتهم؟ ربما لأن البشر يتهربون من الفناء والعدم.
ما لي وللموت؟ من يمتلك الحياة لا يمكن أن يخاف الموت.
عندما وصلنا القدس تبدّت عليه أمارات الإعياء، وسار ببطء وتثاقل،
حتى وصل رحاب المسجد الأقصى فدبت فيه حيوية غريبة، نشط، وألقى نظراته في
الرحاب. كان في عينه بريق أو دموع، وكانت حمرة الأجفان تنم عن ألم شديد.
قبة … مدافن… تكايا …، خطوط…، كل شيء هنا عريق. ربما صلى هنا صلاح
الدين. وربما هناك خطب عمر. وها أنت يا جدي تصلي. عريق عريق!
مرّ بالقرب من بوابة الحرم جندي من( الفلاشا)، يحمل عصاً مدببة قد
تكون أكبر من حجمه. تأوه الشيخ آهة طويلة، وهو يزفرها نحو الأعلى، حرك يديه
بانفعال وكأن حكة اصابتهما، ارتجفت أسنانه، وما لبث أن أركن جسمه على عمود
في صحن الحرم.
-"أتعرف، ممّ أخشى؟"
قلت وكأنني أتابع رحلة الموت:
-" أنت تخشى الموت فهذا طبيعي في جيلك".
-" نعم. أخشى الموت،..ولكن…"
-" ولكن ماذا؟"
- " قبل أن تكون صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي " وقطع جملته وقال:
"أريد أن أموت في وقت مناسب! أتسمع؟". ونقل نظراته بيني وبين الصخرة وبين
جهة السماء:
" أريد أن اموت في وقت مناسب".
وقوف على الضريح
لكثرة ما سمع محمد من أصحابه عن قدراتهم الخارقة أصابته نوبة ملحة
من
التساؤل : لماذا أنا لا .. ؟!
فهذا يصب الماء صبًا ، وذاك فعلها لخمس مرات وما زال كالعصفور . هذا
فتن النساء ، وذاك يطلعه على رسائل شوق محترق يشي بأن وراءه ممارسة لحمية
شرسة ... وقعد هو والله وشخص ثالث يتناجون ...
واتفقوا على أن يظل الشخص الثالث مستعدًا يقظًا وثابًا و" لعين
الوالدين " طوال شهرين بالتمام والكمال .
سعد أولا بهذه الفكرة ، وبقي الشخص الثالث في أوج نشاطه مستوفزًا
حتى عزت عليه أماكن العمل ، فكان يثور ويستبد حتى أصبح خطرًا ... عدوانيًا
... شرسًا .
وألقي بمحمد في السجن حتى يفتحوا .
تمنى محمد أن يهدأ هذا الجبار ، أن يغير أسلوبه ، أن يسكن وهيهات ،
فالمدة لم تنقض ، والقرار قرار . ومات محمد ، وبقي الشخص الثالث يقظًا يكاد
يفتق مواقعه بغضب ، فالباقي من الزمن شهر .
ووقف الشخص الثالث كالمئذنة منتصبًا على ضريح محمد .
أنــَفـَــة
جلس حمدي السكاك في غرفة الاستقبال ملقيًا رجلاً على رجل ، دافعًا
بكليته إلى الأمام ، وقد اتكأ على وسادة وثيرة .
كانت نظراته تشي بأنه يدفع الكلمات قسرًا ، وبأنه تواضع كثيرًا حتى
شرّف منزلي -
بيته الصغير .
رن جرس الهاتف ، وطلب الصوت البعيد حضرته ....قدمت له السماعة ،
ولم أكن أدري أنني في خدمة الرجل العظيم .
كانت كلماته مع الآخر خفيضة قصيرة ، وكأنه سيدفع حساب كل كلمة من
حساب عظمته .
انتهت المكالمة ، وظننت أن ضيفي سيعيد السماعة مكانها ما دام الهاتف
أقرب عليه ، ولكنه بقي يحملها ، وألمح لي بإشارة أن أعدها .
-هل أطلب منه أن يعيد السماعة هو ؟
-لا، هو ضيفي ، احتملها ، يالله .. ...ثم إنه مسترخٍ على الكنبة ،
ويبدو أنه تعب . وماذا يضيرني إن أعدتها أنا ؟
-هؤلاء الناس لا تحترمهم أكثر مما يجب ، تقدم له رأس الإصبع يقضمونه
كله .
إنك ستضره قبل أن تضر الناس ، أخرجه من وهمه ، وقل له بهدوء : " ولا
تصغر " ،
أعدها !
-لا ، إنه ضيف . " سأقوم وأنا عمر وسأعود وأنا عمر " ........
أعدت السماعة مكانها ، وقد ارتفعت حرارة جسمي .
* * *
شرب الرجل قهوته ، وما لبث أن انهمك في عضو بارز في وجهه ، دس
سبابته فيه ، وأخذ ينكت النَّغَف . أخرج أولا قطعة ، وأخذ يكوّرها بين
إصبعيه ، حتى اختار اللحظة الملائمة فألقاها طريحة على السجادة .
دس ثانية سبابته ، وعمّق رحلته في جيوب أنفه . وعاد بعد مغالبة
بقطعة أخرى أكبر من المخبآت . كوّرها ودوّرها ، حتى إذا ما تغافلت عنه
ألقاها بعيدًا ناقفًا إياها لتلتصق بالباب .
وعادت سبابته ثالثة بسلك مخاطي ، فلم تطق إصبعاه هذه السيولة اللزجة
، واحتار ماذا يفعل ...
تداركت الأمر ، وجعلت مناديل الورق على المنضدة أمامه مباشرة ، وقلت
مواصلا حديثي عن الوضع المحلي ، وكأني لا أتابع رحلاته في هذا البارز من
وجهه :
" والسلوك عند علماء النفس المحدَثين مجموع ما يقوم به الكائن الحي
من ردود فعل مترتبة على تجاربه السابقة ، سواء أكانت مشتركة بين أفراد
النوع ، أم خاصة بفرد دون آخر . وهو يتضمن الأفعال الجسمانية الظاهرة
بالدرجة الأولى .
عبد الحي
تقوم من النوم ، تنهض ، تتوثب ، تخرج إلى العمل ، تتحرك – في الحركة
بركة - ، تهدأ......... ثم تنام .
هكذا كنت كل يوم تبعث الدفء فيما حولك ، تشع ذكاء ورواء ، عينك لا
تكل عن متابعة ومملوءة بالحياة ، ترهف السمع كلما سمعت خبرًا ، تتقصى وتفكر
في الأبعاد .
تتمنى أن تحب كل النساء ، تنسى أن بعض الناس لا يحبونك ، ولا
يطيقونك ، يكرهونك ، يطردونك ، لكن حبك أقوى من كراهيتهم .
تحلم أن تنتصر عليهم ، تساعدهم ، تشاركهم تتغلب عليهم بعنفوانك .
وتخضع لهم ، فالحياة أخذ وعطاء ، ولوج وخروج ، قوة وضعف .
تراقب مناظر الطبيعة الشائقة المتسعة منها والمنفرجة ، المنفسحة
منها والضيقة ، المائية والجبلية ، البيضاء والخضراء .
يوم أن مت يا عبد الحي . لم يقرءوا لك الفاتحة ، ولا سورة يس ، ولم
يدر بك أحد ، لم يكفنوك ساعة الدفن بقليل ، لم يسألاك : ما دينك ومن ربك
وما الذي مت عليه ؟ ولم تقل لهما بلسان طلق بلا فزع .. .. وبلا جزع : "
الكافي لي ولكم الله " ، وبقيت في " نومة الغزال " ، عينك نصف مفتوحة ،
تدفع فلا تتحرك ، ولا تحمل عصاك لتتوكأ عليها .
نومة ليست هنيئة ، فيها أحلام مزعجة مرعبة – والله أعلم – فيها سكون
غريب مريب .
لعلك تمنيت أن تقطع نفسك من الوريدين ، ولم تجرؤ أن تفعل .
ثلاث سنين في ذكرياتك .
ثلاث سنين .
يوم أن كنت تقفز على ظهر الحصان دفعة واحدة ، فيعجب الناظرون ،
وتلعب بالسيف مثل قفقاسي رشيق . ها قد جلست تندب حظك كالنساء ، ولا يدري
ببكائك سواي ، ترثي ماضيك ، وتلف جسمك بأوراق الخريف الصفراء ، ولا يقرأ
أفكارك غيري .
كنتُ أنا وعبد الحي في رحلة ممتعة رائعة جُبنا فيها سحر بلاد الشرق
، وكان عبد الحي كتابًا في يميني ،
وقلمًا امتشقه ،
وسلاحًا ماضيًا له حجة قوية دافعة وهبه الله إياها ، فيستطيع أن
يقنعك بصحة الشيء ونقيضه .
قلت له : أتكهن أنك ورضوان يوم القيامة ستكونان في استقبال الطيبين
، فأنت تعبد الله في حركاتك ، تذكره قيامًا وقعودًا وعلى جنبك .
وغضب عبد الحي لكلامي ...... وتولى .
ثم إذا به يقذف نفسه في النار ؟، يبحث عن ممثلة تشرب وتزني وتتدلل ،
ويعود إلي ، وآثار الحروق بادية على ساقه .
ضحكت كثيرًا ، فأخذ المارون يضحكون على ضحكي لغرابته وحدّته ،
وبقينا نضحك ...... حتى نام عبد الحي .
عدت وحيدًا أحمل سبحته وعمامته ، وعلّقتها في صدر بيتي ، فلا يكاد
يراها أحد حتى يقرأ الفاتحة على روح عبد الحي ، وبعضهم كان يدّعي قراءتها
بحركة يمسح بها يده على وجهه ، ومع ذلك فالكل يذكرونه بالخير ، يعون مآثره
وأفضاله وبركاته ، وعبد الحي
لا يستيقظ .
أخذ الناس يتذكرون نومة أهل الكهف ، وتحدثوا عن الطعام الذي سيأتي
به أحدهم ، وعن المسجد الذي سيقوم تخليدًا لذكراه .
صار النائم شبحًا يطالع بين الفينة والأخرى ، يعرفونه فلا ينكرونه .
الظاهرة مقبولة وطبيعية ، لعله من الأولياء الصالحين أو تابع من
التابعين ، عادوه يوم مَرِض ،
وودّعوه يوم أن سافر إلى الحج ،
واستقبلوه يوم أتى بالمسابح والتمر .
وعند عودته أخذ يخطب عاريًا ، عاريًا يخطب ، لحيته تهتز يمينًا
ويسارًا ، وحركته في إيقاع الإيمان المستبد .
قرأت له بعض الآيات معزيًا ، وأذكر منها ( ..... والعاقبة للتقوى )
، فأصحاب الدنيا ملّوا سماعك ، وبقي لك أهل الله .
أتى برفقتي ، ولبس ملابسه المعلقة على صدر غرفتي ، وجلس يحدثني عن
ماض عريق ، ويجمّل لي المستقبل الزاهر :
كل يوم أجمل من سابقــهِ ،
وكل تجربة أروع من سابقتها ،
تركته في تهيج عنيف " إكستازا " حادة ، كأنه صوفي استغرق في الوجد
.
وعدت إلى بيتي لأبكي صديقي الأثير عبد الحي .
|