الأديب والدولة
في عصر الملوك، والحكم المطلق، حَدَثَ جَدَثٌ فذ في
تاريخ العالم، كان منطلقاً لأفكار جديدة وأحداث دامية على المسرح الأوروبي،
ففي عام ألف وستمائة وتسعة وأربعين، قهر البرلمان الإنكليزي في حرب مسلحة،
ملك الإنكليز شارل الأول من آل ستوارت فحكم على العاهل بالموت، وسقط الرأس
الملكي على التراب مضرجاً، معفراً، بينما كان الثائر كروميل، يقفز إلى
العرش ليجعل منه جمهورية الكومونولث البريطاني عام ألف وستمائة وواحد
وخمسين.
لقد ذعر العالم واستبد به خوف شديد. وكان أديب
فيلسوف من رعية الملك يشاهد الحدث الدامي على المسرح الرهيب، فيفرق لـه
قلبه وتميد له أعصابه، وهو بعد، وليد عصر اجتاحته المخاوف وزعزعته الأحداث
بين داخلية وخارجية، ومواطن وطن تكاد تمزقه مطامع الطامحين إلى العرش بينما
الصراع العنيف على سيادة البحار يبلغ الذروة بين الأسطول البريطاني الناشئ،
والارمادا الإسبانية التي لا تقهر. وقد ألقى الفيلسوف نظرة على عصره فقال:
ولدت أنا والخوف توأمين.
في هذا الوسط المحموم، وأمام مشاهد الدم، والذعر،
وبين نيران مشادة فكرية عارمة ارتفعت إلى فوق لتطال حقوق الملوك، وسلطة
السماء، وصحة التوراة، وحصانة الدين، ظهر (توماس هوبس) في ميدان المشادة
بكتابه الشهير (ليفياتان)، الذي اعتبره تاريخ الفلسفة السياسية، سفر
الأسفار، وتوراة العصر، ومورد كل مثقف فيما يلي من العصور يشرب منه ويرتوي
أو يملح فمه فيلقي فيه حجراً. فمن هو هذا (الليفياتان) وهو اسم لحيوان هائل
الحجم من التوراة يتخذه الفيلسوف عنواناً ورمزاً لما تتمثله أفكاره
وتأملاته؟؟؟؟ لنبدأ بصورة الليفياتان التي ظهرت على صفحة الغلاف في الطبعة
الأولى من الكتاب. ثم بموجز عن وصف الكتاب لها.
تمثل الصورة عملاقاً إنسانياً ضخماً كث الشعر، أسمر
الوجه، حاد النظرات، يطل بنصف جسمه من وراء التلال، فوق المدينة وقصورها
وحقولها، وقد نقش على صدره وذراعيه خليط محشود من ألوف الرؤوس والأجساد
البشرية التي بدت وكأنها تؤلف بدقائقها تكوين جسده الهائل. وقد أمسك بيمناه
سيفاً مشهوراً فوق المدينة وضاحيتها، وبيسراه صليباً. ثم يأتي عنوان الكتاب
ضمن إطار من الصور التي تمثل قلعة، وكنيسة وتاجاً، ومدفعاً، وصاعقة، ومعركة
على أحصنة، ورهباناً بمسوح طويلة..! فماذا وراء الصورة؟!
يقول هوبس في المقدمة أن باستطاعة الفن أن يصنع
حيواناً، ويقلد به صورة الإنسان أروع مخلوقات الطبيعية. أن ليفياتان هذا،
الذي يسمى الشيء العام، أو الدولة، هو بالواقع صنيعة فن لا أكثر. وقد صنعه
الإنسان على مثاله، بحجم أضخم وقوة أكبر ليعيش في حمايته، ويتلقى منه
الحياة والحركة فالمكافأة والقصاص، وثراء جميع الأفراد قوته، وسلامة الشعب
وظيفته، والعدل والقانون عقله وإرادته، الوئام عافيته، والفتنة مرضه والحرب
الأهلية موته. ثم إن هذه العقود بالتراضي بين الأفراد التي ألفت وجمعت
أجزاء جسده، تشبه صوت الله عندما أمر بخلق الإنسان.
وهكذا فإن ليفياتان العملاق هو الدولة، وهؤلاء
الأفراد هم مادة كيانه. لقد اعتصروا أنفسهم في أهدابه طائعين لا مكرهين،
لأنهم رغبوا أن يصنعوه بفنهم من أجسادهم فقط: أما أرواحهم فلأنفسهم،
ولربهم. ومهما يكن من أمر نفوسهم، فهم مدعوون إلى الاندماج في الدولة
اندماجاً تفقد معه كل إرادة، وليس أمامهم سوى الطاعة المطلقة.
وليس من سيادة في نطاق الحكم للدولة، والكنيسة جزء
من الدولة. ولعله من الواضح أن الفيلسوف يصدر في أحكامه عن وساوس ذاته،
ومخاوف محيطه، فيجعل هدف الدولة الأول أن تحافظ على السلامة وتضمن
الاستقرار الداخلي، لتتفرغ إلى مقارعة العدو الخارجي. والتاريخ، لا يظلم
(هوبس) إذ يلجأ بخوفه إلى عملاق الدولة، لأن كل كيان اجتماعي تتهدده الفتنة
ويتربص به الأعداء لابد أن يجتمع ويحشد قواه، ويتنازل عن كثير من حاجاته
وحرياته، ليضعها في خدمة الدولة، مهما كان لونها، ونوع الحكم فيها.
على أن الخوف يبلغ مبلغه في نفس هوبس، فيذهب مذاهب
عقلية مادية في تقسيم الإنسان إلى إنسان طبيعي، وإنسان اجتماعي. فالإنسان
في طبيعته ورغم عقله ذئب لأخيه الإنسان شرس شرير، لا يجتمع إلا على نفع،
ولا يتقارب إلا لدافع أذى، فردي عريق في فرديته وهو إما قوي فيصرع، أو ضعيف
فيتقي الأذى بالحيلة، والخداع. أما وأنه في صراع دائم مع سواه من أمثاله،
الذين ينازعونه رزقه ومجالات حياته فإنه لا مجال لزراعة، أو صناعة، أو علم
أو أدب، وأي حياة اجتماعية، ولا معنى للاستقرار والتملك، (وكل شيء هو ملك
المقتدر طالما هو قادر على الاحتفاظ به). بذلك يرفض هوبس نظرية أرسطو
المشهورة بأن الإنسان حيوان اجتماعي، ويصر على أن الطبيعة لم تضع فيه غريزة
الاجتماع، ولا يجتمع إلا بدوافع عقله وبحساب نفعه عندما يتهدده الموت
والدمار، فيمر مقسوراً من حالة الطبيعة إلى حالة الاجتماع، ويصنع بفنه
ووعيه سلطة عليا يقيمها على نفسه، بعقد يعقد بين كل فرد من الأفراد ويتنازل
الجميع لها عن حقوقهم الطبيعية، فتغدو هذه السلطة أو هذا الطرف الثالث كما
يسميه، جمعية كانت أم فرداً، ذا سيادة عليا لا تنتقل ولا تتجزأ. لأن العقد
يتم بين الأفراد أنفسهم لا بينهم وبين الشخص الثالث المتنازل له، عن كل حق،
وعن كل حرية يمكن أن تؤذي السلام. فالحقوق الطبيعية، لا تبقى لدى الأفراد
لتكون حجة في تحديد السلطة المطلقة كما أرادها بعض الفلاسفة قبل هوبس، ومن
بعد، بل هي تنصهر انصهاراً تاماً في إرادة الحاكم المطلق.
وإن يكن من وظائف السلطان المطلق، تسوية القانون
ونشر العدل، وتشغيل العاطلين عن العمل، وصيانة الملكية، وتأمين الرخاء
العام، وحماية الضعيف من القوي، وتوزيع الأراضي على الفلاحين، فإن من
واجباته أن يكون قوياً أبداً، فإذا ضعف، أو هزمه في حرب أعداؤه من الداخل،
كان ذلك المبرر الوحيد ليخرج المتعاقدون عن طاعته، ولهم أن ينضموا إلى صف
عدوه وقاهره طالما أنه قادر على تأمين حياتهم، وضبط نظام مجتمعهم.
وهكذا فإن جماع نظرية هو بس سلطان مطلق قوي ينال
قوته وهيبته من أفراد الشعب المتعاقدين فيما بينهم، لا من السماء ولا من
الكنيسة ولا من سلطات غيبية. فكان أقوى الفلاسفة الذين فصلوا الدين عن
الدولة. وجعل الملك تحت رحمة (القوة) وحدها إذا كان بها جديراً، وإلا فإن
دمه مهدور، وسلطانه زائل. ولقد قيل في هوبس يومئذ أنه سوط الإرهاب في
زمانه. لقد خافه الملوك، ورجال الدين معاً، فلحق به وصف هوبس الملحد، كما
لحق بسلفه مكيافيللي وصف مكيافيللي المجرم.
ولكن الملوك وهم يأمرون بإخفاء كتبه، كانوا
يتناولونها، ليقرأوها في سرهم وليتعلموا كيف يبررون سلطانهم المطلق، وإن
باتوا يخافون على أنفسهم من نقمة الشعب، بعد أن زالت عنهم حماية السماء.
ولقد كان هوبس أول فيلسوف ظهر على أنقاض القرون الوسطى، فبنى علمه السياسي
على قواعد ثلاث، هي قواعد الدولة الحديثة مهما كانت أشكالها: أولها فكرة
الدولة كأمة واحدة، وكوطن، وكان التجمع القومي من قبل أن يوضحه هوبس موزعاً
بين الأفراد بالنسبة إلى المدينة التي تطويهم جدرانها أو الحرفة التي
ينتسبون إليها أو الدير الذي يلتفون حوله أو البارون الملاك، أو الملك
والسلطة الدينية فنسفت نظرية هوبس كل هذه المؤسسات لتنشئ مؤسسة الدولة كأمة
واحدة.
وثاني القواعد التي أطلقها هوبس هي (الفردية) فاعترف
بقيمة الفرد، وخطره معاً، وإن يكن قد ألبسه جلد الذئب بالنسبة لأخيه وجاره
وأراد لـه التنازل الطوعي عن حريته في سبيل الأمن والسلامة وبحجتهما. وثالث
القواعد: الاختصاص في الحكم، وعلى ضوء هذه النظرية أخرج الدين من إدارة
الدولة على أنه غير ذي اختصاص، فالفرد يتوجه بوجدانه إلى ربه عن طريق
كنيسته، ولكن ليس من شأن هذه المؤسسة الدينية أن ترعى مصالحه الزمنية. وقد
رأينا من قبل، ما ترمز إليه صورة (ليفياتان) وهو يمسك بيمناه السيف،
وبيسراه الصليب فاجتمعت لـه السلطتان الكبريان في عصر هوبس، ومن تحت، تجتمع
في ظل العملاق كل رموز الدولة الأمة، من قلعة الإقطاعي، إلى دير رجل
الدين... الخ.
من فلسفة روسو بعد هوبس:
بعد قرن كامل بمئة عام على الضبط، يظهر إلى العالم،
كتاب آخر، كان في تاريخ الفكر السياسي بارقة من بوارق العبقرية الفلسفية هو
كتاب العقد الاجتماعي لجان جاك روسو، ولقد اخترت الآن (روسو) اختياراً
مقصوداً، وبعد مئة عام بين ليفياتان، والعقد الاجتماعي، لأن فلسفة الحياة
الاجتماعية التي طمح الأدباء إلى وضعها في الإطار السياسي المناسب، وأقول
الأنسب، للإنسان والمجتمع، هذه الفلسفة، لا تزال تفتش عن الحلقة المفقودة
التي مر بها الإنسان من حالة الطبيعة إلى حالة الاجتماع. وكان روسو مثل
هوبس، يقول بنظرية العقد أيضاً كحلقة المرور ـ ولكن الزمن الذي مر بتجاربه
وأحداثه، قد أضفى على عقد روسو، ألواناً من المعرفة الجديدة جعلته أعظم
سعة، وأبعد طموحاً، وأكثر تعقيداً.
بالعقد الاجتماعي الذي يعقده كل فرد مع نفسه يتنازل
عن المساواة والحرية ليتناولهما ثانية بين مجموعة أقرانه تحت ظل ما سماه
روسو (الإرادة العامة). ففي ظل هذه الإرادة العامة، يعطي كل فرد نفسه
للمجموع، ولا يعطي نفسه لأحد. وكل يتناول من الآخر، ما أعطاه إياه بقدر
متساو، إذن فكل واحد يكسب بقدر ما يخسر، أو هو بالتالي مرتبط وليس بمغلوب.
وإن يكن عنصر الحرية غير مفتقد في المجموع، فإن عنصر الطاعة متوفر في الوقت
ذاته، إذ بلا طاعة، لا يقوم شعب، ولا ذات مشتركة، ولا عمل سياسي: ولقد دار
روسو دورات عنيفة، ومعقدة، حول موضوع الإرادة العامة، والإرادات الخاصة،
حتى ليظن أنه لم يخترع هذا الاصطلاح، إلا لتحقيق المساواة التي ينشدها أكثر
مما ينشد الحرية. وروسو، الشاعر الناقد الحساس ابن الشعب أحق من يشعر
بفداحة الظلم الاجتماعي الذي يضع في الطبقة العليا، أصحاب المصالح الكبرى،
والامتيازات من أرستوقراطي زمانه، وفي الطبقة الدنيا، حشود الفقراء
والمحرومين. وهو بالرغم من أنه حاول بالتعقيد والتفاصيل المتلابسة إلا ينكر
حق الحرية على الفرد المساوية حريته الطبيعية، في ظل الإرادة العامة، فقد
أراد أن يؤكد المساواة دون أن يمس الحرية، وترك تقريب الأبعاد بين
المتخومين والمحرومين، للسلطة الوسيط بين الأفراد، وبين الإرادة العامة،
وهذه السلطة سماها الحكومة التي كان يكره أن يفترض مجرد وجودها، ولكنها داء
لا غنى عنه.
ثم أتى روسو بالقانون فوضعه فوق الهرم السياسي ليحقق
المساواة. ولينصف الفرد من طغيان الفرد الآخر في مجالات الحياة الاجتماعية،
وعندما تهبط به تأملاته من حالق المثالية إلى حضيض الوقائع، يروعه أن تصبح
الدولة سوقاً لتجارة الحرية كما يقول: أحدهم يبيع وآخر يشتري، فقال إذا
أردتم للدولة بقاء، فقربوا ما بين المنعم عليهم والمحرومين، فلا يصبح مواطن
بحريته قادراً أن يشتري حرية الآخرين. ثم لا يقول لنا كيف.. وبأي أسباب يتم
هذا التقارب، بل إنه ليشعرنا بعجزه ويهدد الدولة التي لا تحقق المساواة
بالانحلال، وبانقلاب نظام الإرادة العامة إلى طغيان.
وبالواقع أن روسو، كفردي متمسك بفرديته ـ حاول بقوة
المنطق المتدفق أن يجمع بين حسنات الحياة الفردية التي يعشقها ك شاعر
متأمل، ومنافع التعايش المشترك وهي أعنف محاولات الإنسان الفيلسوف والإنسان
الحاكم معاً ـ فوقع في مزالج التناقض مرات وترك بعض الخيوط تنساب من نظريته
على الأرض مرتبط بسواها أو بأي شيء فهو قد أعرض عن سهولة الحل الذي وقع
عليه هوبس، بتسليمه زمام الأفراد المتعاقدين أحراراً إلى سلطان فرد. لأن
روسو يقوم بالأساس على كره الحكم الفردي والطغيان. وبذلك يتصل بجذور الثورة
الفرنسية التي عندما قامت بعد حين، لم تر أمامها سوى روسو كتاباً ناطقاً،
فأعلنت الجمعية الوطنية أنها تمثل الإرادة العامة، وألغت جميع المؤسسات
والجمعيات على اعتبار أن الإرادة العامة لا تتجزأ ـ وهي نظرية روسو ـ الذي
لا يسمح لإرادات متجمعة أن تتناقض مع الإرادة العامة الواحدة. ولقد كان
الثائرون يمنحون من (روسو) لتوطيد الحكم الثوري المطلق، كما كان الملوك
يقرأون هوبس في السر ليجدو لأنفسهم مبررات الطغيان. لقد أراد روسو أن يعزز
قوة (الإرادة العامة) فجعل لها قوة السلطان المطلق، وبرر لها القوة سلاحاً،
تضع به الجزء في خدمة الكل، تماماً كما تعطي الطبيعة الجسد العضوي سلطاناً
مطلقاً على جميع الأعضاء، كما يقول ـ وهي نظرية فاسدة كما نرى.
ثم يخشى الفيلسوف على الفرد أن تنعدم فرديته في ظل
هذا السلطان المجتاح فيعود ليرد عليه حقوقه الطبيعية، كإنسان إزاء حقوقه
الأخرى كإنسان اجتماعي، فالفرد بهذا، إنما يعطي المجموع، من أمواله، وحريته
وقوته، ما هو ضروري للمجموع ويحتفظ لنفسه بما تبقى وبما هو ضروري لذاته
وكأن أحداً يسأل روسو المتشكك المتملص من تداخل شباكه بصعوبة: ومن يقدر هذا
العطاء، فيسارع إلى الجواب وهو بعد حريص على سلطان الإرادة العامة: إن
السيد وحده، حقيق بهذا التقدير.
من هذا السيد، وما هي هذه السيادة؟ كيف نعبر عنها
بالحكم السياسي؟! جواباً على هذه الأسئلة يستعرض روسو أنواع الحلول، وهو
راغب في الأصل أن يحكم الشعب مباشرة، فلا يفسده، تدخل الوسيط. ولما كان
لابد للإرادة العامة من إدارة ـ وقد وضع لها تشريعاً عبقرياً عظيماً أي
دستوراً عبر عن إرادتها ـ فإن روسو يستعرض أشكال الحكام وهي معروفة في
زمانه: فإما أن تكون الإدارة للشعب أو لأكثريته بالاقتراع. وهذه هي
الديموقراطية، أو تكون لعدد محدود وهذه هي الأرستقراطية، أو تكون لحاكم فرد
يستمد الجميع منه أسباب السلطان وهي النظام الملكي، وهو إذ يرفض الحكم
الأرستقراطي رفضه حكم الفرد، لا يرضى أيضاً بالديموقراطية كحكم الشعب، يشرع
وينفذ معاً. وكأنه في طموحه وارتفاعه، ييأس من بلوغ وقائع الحياة هبوطاً
دون أن يحطم مثاليته فيكتب وكأنه يصيح ألماً: (إذا وجد شعب من آلهة، كان
باستطاعته أن يحكم نفسه حكماً ديموقراطياً). ثم يقول إن الشعب لا يمكن أن
يظل مجتمعاً في جمعية واحدة دائمة الانعقاد، ليحكم، وقد يصبح ذلك في دولة
صغيرة، ذات تقاليد ساذجة، وأفراد مزودين بالشجاعة والتسامح، وإلا فالحرب
الأهلية، والاضطرابات الداخلية، وهي التي يتضور روسو منها هلعاً، مثل هوبس،
ومثله يشرع السلطان المطلق، ووحدة الدولة، إزاء تنازع الأفراد وتقارع
الإرادات الخاصة.
إذن لابد من التمثيل ولابد من سلطة تنفيذية لا يخضع
لها الأفراد إنما يخضعون للقانون وحده، المثل الأسمى للإرادة العامة. ولما
كانت السلطة التنفيذية كما شاهدها روسو أمامه في جنيف حيث كان يعيش،
وقوامها المجلس العام المؤلف من مجموع المواطنين، ثم المجلس الصغير المندوب
للتنفيذ، تحاول باستمرار الإساءة إلى الإرادة العامة، وتمتد على حسابها،
فقد قرر والتجربة أمامه أن مصير كل حكم سياسي إلى هوان فزوال، بالرذيلة
التي تقرض فيه وهي رذيلة الشيطان الذي لا يشبع سلطة وقوة، حتى يموت الجسد
العضوي بالشيخوخة. ثم يحاول روسو أن يعالج داء السلطة، بإقامة سلطان الشعب
مباشرة في جمعيات وطنية دائمة وهذه غير محتملة الإمكان في كل مكان لأن
الحرية ثمرة كما يقول ـ لا تعيش في كل إقليم، وهو يردد بذلك قول سلفه
مونتسكيو. ويحاول روسو أن يعالج الداء فيعود إلى التاريخ مستنجداً، وإذا به
مع سبارطة، مع القضاة يفصلون بين الحكومة والسيادة ـ وإذا به مع روما مع
قضاة الشعب، لا يشرعون ولا يحكمون، ولكنهم يتصرفون كيفما يشاؤون في الحكم
والتشريع لتسوية النزاع بين الشعب والحكومة. وأخيراً فها هو في روما ثانية
مع الدكتاتور، الذي يفصل في النزاع، عندما تكون سلامة الدولة في خطر فيقف
روسو معجباً بالليفياتان المنقذ، لأن السلامة الوطنية عنده فوق كل اعتبار،
ولا بد أن يوجد ذاك الفرد على هامش العقد الاجتماعي، ليتولى في ظروف
استثنائية. ويبرر روسو هذا الاستسلام بعدما صدعه البحث والتنقيب. بأن الشعب
لم يتنازل عن إرادته العامة، وهل يريد السيد أن تهلك الدولة؟!
فالعبرة في روسو، ليست النهاية التي بلغها، وقد أعلن
عجزه عن بلوغها، واستسلم لليأس عندما نادى بشعب الديمقراطية، شعب آلهة،
ولكن العبرة في هذه الدورة الكاملة التي أحاط بها بكل مفاهيم المجتمع فكانت
مبادئه بصرف النظر عن وهمية العقد الذي أمر الإنسان من حالة الطبيعة إلى
حالة الاجتماع ـ وهي مبادئ سيادة الشعب، وتعبير القانون عن هذه السيادة،
ووحدة الدولة، وفضيلة الإنسان، المكتسبة في الوسط الاجتماعي بتوطيد الحرية
والمساواة، والشك في خلق السلطان الذي يحاول أبداً أن يسيء استعمال ما بين
يديه من سلطة، والحدود التي تخيلها لإنقاذ سيادة الشعب مرة وسلامة الدولة
مرة أخرى ـ كانت هذه المبادئ أساساً لبحوث إضافية في التفكير السياسي، وعلم
الاجتماع كما كانت منطلق ثورة فكرية اجتاحت أوروبة وكانت فرنسا في البدء
مسرحاً لها. ولقد جاءت الثورة الفرنسية على صورة روسو ومثاله مشوشة مضطربة
متدفقة فكأن الفيلسوف يصفها بواقعها عندما كانت وساوسه تصور لـه كيف يحكم
الشعب مباشرة في دولة كبيرة ثم كيف ينهار الحكم في حروب أهلية ساحقة.
عرضت حتى الآن نموذجين من نماذج نظرة الفلاسفة
المفكرين إلى الدولة، في القرنين السابع عشر والثامن عشر، الأول منهما
نموذج للتفكير الفلسفي الواقعي ـ وقد مثله هوبس الإنكليزي حتى أصبح فيما
بعد مدرسة للواقعية السياسية ـ والثاني منها نموذج للتفكير الفلسفي
المثالي، وقد مثله روسو الفرنسي. وغدا في تاريخ الفلسفة وبحث أنظمة الحكم
السياسي مدرسة كبرى تتلمذ عليها كثيرون من مفكرين ورجال دولة وظلوا يبحثون
وما زالوا، في كيفية إخراج هذه المثالية إلى نطاق العمل، وكيف يمكن أن تصبح
الإرادة العامة واقعاً، وكيف يمكن ترجمتها إلى نظام حكم.
ورأيتم معي ـ في روسو على الأخص ـ كيف تترامى نجوم
المثاليات على الأرض حصى جامدة وقد غادرت الأرض قبل قليل كالصواريخ
وكالأسهم النارية في أعياد الليل، تنطلق ناراً، وتفرخ في الفضاء نجوماً
وألواناً تشرئب لها الأعناق، وتتابعها الأبصار، ثم لا تلبث أن تهوي إلى
الأرض منطفئة رويداً رويداً فلا تبلغها إلا مادة باردة. رأيتم هذا، ولعلكم
ترون معي أن هذه الحجارة الساقطة من الأبراج المنهارة لا غنى عنها لكل من
أراد أن يبني شيئاً في التفكير السياسي الحديث ـ فالحجارة ذات جبوهر كامن،
وإن تكن هندسة البناء قد خان مهندسها الفن. وأي فن أمنع على الإنسان، منذ
أرسطاطاليس إلى كارل ماركس من فن بناء دولة، وتشييد ملك على أساس العدل
والحرية وإقامة التوازن بين حقوق الفرد وسلطان الدولة.
وإني لا أرجو أن تكون هذه النماذج والأخيلة من روسو
وهوبس وراءنا أبداً ونحن نوغل في بحث الدولة صعداً حتى منتصف القرن التاسع
عشر، في وسط أوروبي مرت على مسارحه أكبر تجارب الحكم ومدارس التفكير
السياسي في موضوع الفرد والدولة.
يوصف النصف الأول من القرن التاسع عشر وهو على بعد
مئة عام من روسو، بأنه عصر الحرية الفردية الغالبة، ومن أدبائه وكتابه،
البارزين جون ستوارت ميل، وهربرت سبنسر. ومن نظرييه في الحقل الاقتصادي،
جيريمي بنتام، وآدم سميث. ويوصف النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى
الحرب الكونية الأولى، بأنه عصر انتكاس الحرية الفردية، لمصلحة المجموع.
ومن الجدير ذكره في البدء وفي كلا الحالين أن علم الاقتصاد دخل الحياة
العامة مع القرن التاسع عشر، فبدل المفاهيم، وطور الأحداث. فالعامل
الاقتصادي في مطلع القرن الذي اتخذ لـه (حرية العمل) شعاراً كان بالواقع في
أساس اعتناق مبدأ الفردية السياسية، وهكذا تأثر هربرت سبنسر (الفردي) بآدم
سميث الاقتصادي وبالمفهوم السائد آنئذ عن الحرية الاقتصادية الملقى زمامها
بأيدي الأفراد، بعيداً عن تدخل الدولة. كذلك فإن الجنوح إلى تقييد الحرية
الفردية لمصلحة المجموع، وإلى دراسة نشاط الفرد من ناحية طغيان حريته على
وسطه، كان ضرورة ملزمة أقرها العامل الاقتصادي نفسه، بتفاقم شأن الصناعة
وبظهور العامل إلى جانب رأس المال، وتعقد أسباب الحياة الاقتصادية واحتلال
التوازن الاجتماعي بين العمل والدخل، وبين العامل وصاحب المال: قيم
اجتماعية جديدة، لابد من مجابهتها بفلسفة جديدة.
وحسن بي قبل أن أستطرد في شرح المبادئ الفردية
الجماعية التي شب اصطراعها ولا يزال منذ أواخر القرن التاسع عشر، أن أذكر
بإيجاز أن الظاهرة الكبرى التي طغت على هذا العصر، وميزته عن عصر روسو، هي
ظاهرة العلوم الجديدة التي كان لا مناص للأدباء والفلاسفة من الرجوع إليها،
والمتح من أصولها. وكان أول هذه العلوم علم الحياة، البيولوجيا، والاقتصاد
السياسي، ثم انضم إليها علم التشريع ووسع على النفس دائرة الفلسفة السياسية
توسيعاً كبيراً، وأخذ الباحثون يحللون على هديه مظاهر الحياة الاجتماعية،
وبواطنها الخفية. كذلك تكشفت مجاهل التاريخ للباحثين، فأخذ أصحاب النظريات
الفلسفية يستلون منه ما يشاؤون من أسلحة، لتدعيم نظرياتهم والتاريخ ترسانة
من الأسلحة، تعطي كل خصم سلاحاً مناسباً يقارع به خصمه. وأتى علم السلالات
البشرية ـ الانتروبولوجيا، فأضاف أنواراً كشافة على أعماق التاريخ البعيدة.
وكان لابد للفيلسوف السياسي. أن يلم بالاكتشافات الجديدة المتزايدة عاماً
بعد عام وإن يصوبها على سلوك الإنسان السياسي، وكان لهذه البلبلة محاذيرها
في أن الفلسفة الاجتماعية أخذت في البدء تستخدم أدلة البيولوجيا، أو
السيكولوجيا، أو الانتربولوجيا لتفسير بواعث السلوك الإنساني في الحياة
الاجتماعية على أساس العلم الواحد منعزلاً عن الآخر، كأن ترد كل مظاهر
السلوك إلى بواعث باطنية بحتة، أو تزعم بأن طبيعة الدولة كطبيعة الجسد
بيولوجيا، يتحرك أفرادها، كما يتحرك أعضاء الجسم الواحد أو يوضع العامل
الاقتصادي في المقام الأول من بواعث السلوك، أو يردف إلى آخر العوامل
المؤثرة. ثم استطاعت الفلسفة الاجتماعية والأدب الاجتماعي عامة أن يتحرر من
هذا التجاذب، ليجزم أن الطبيعة الخلقية في الإنسان لا يمكن أن تُعزل في
فراغ، بل هي وطيدة الواشجة بالتكوين الطبيعي، وبالحافز الاقتصادي والوضع
الحقوقي، وبالغرائز الاجتماعية والمؤسسات التي عرفت في مجرى التاريخ والتي
كانت في منابعه ـ فلا يمكن للتفكير السياسي أن يحجب نفسه عن هذه الحقائق
كما أنه لا يمكن لفرع واحد من هذه العلوم أن ينفرد أو يتقدم على سواه في
إيضاح واقع المجتمع الإنساني وتقدير قيمه. فهو مع سواه حزمة أنوار، ووحده
ليس إلا دليلاً مضللاً.
من هنا نشرف على ساحة الصراع في ميدان النظريات
الاجتماعية والسياسية، لنرى التناقض في استخدام مفاهيم العلوم الناشئة بقصد
الانحراف بهذا الأدب عن طريق البحث، إلى طريق الحصر والإلزام والتوجيه.
فمنذ أخذ العامل الاقتصادي يستوي بأثره الواسع في الحياة العامة، نشأت بعلم
الاقتصاد مدرستان: المدرسة التي تستند إلى الاقتصاد لتجعل من مبدأ العمل
الحر ـ مبدأ سياسياً، والمدرسة التي استندت إلى نفس العامل، لتجعل من تدخل
الدولة في عمل الأفراد مبدأً سياسياً أيضاً.
ولقد دارت المدارس الفلسفية كلها في القرن التاسع
حول موضوع الفرد والدولة، مدفوعة بالحافز الاقتصادي الصناعي وبالحافز
الاقتصادي التوسعي معاً، إذ أعقبت تضخم الصناعة، حاجة تلازمها وهي تصريف
الإنتاج. وانتقلت النظرية من ميدان حرية العمل، إلى ميدان توجيه العمل، ومن
فكرة عدم التدخل إلى فكرة التدخل، ومن حدود الحاجة المحلية إلى آفاق العالم
الخارجي. وهكذا يرافق نظرية التدخل مبدأ التوسع لإيجاد أسواق خارجية ومنه
انطلق التوسعيون والاستعماريون إلى نظرية حاول مخترعوها أن يضعوا لها
قالباً إنسانياً وما هي إلا حجج هزيلة للتدخل الخارجي، فسموها (عبء الرجل
الأبيض).
وواضح من هذا الاصطلاح أن الرجل الأبيض إنما يتوسع
في آسيا وأفريقيا حاملاً رسالة في التمدين، وليس فتح الأسواق الجديدة
للصناعة المتضخمة هدفاً لـه ولهذا الاتجاه موضوع آخر، يحتاج إلى فصل خاص
يخرج بنا عن نطاق بحثنا بالرغم من اتصاله به، فحسبي الإشارة إليه عبوراً
ونحن لا نزال في موضوع الدولة والفرد وحدود كل منهما في تماسه مع الآخر.
إذن فالعامل الاقتصادي، كان مبعث ثورة جديدة في
العالم، لم تقتصر على تطوير نظرية الدولة والفرد فحسب، بل تعدتها إلى نطاق
عالمي أوسع، هو نطاق الدول كلها، والإنسانية جمعاء. ومن هذه المنافذ تدق
الاشتراكية أبواب أوروبة دقاً عنيفاً، بدأ من الربع الأخير من القرن التاسع
عشر، لتؤلف من العمال، جامعة واحدة تناهض جامعة رأس المال، وتذهب إلى أبعد
من ذلك، فتشرع الجامعة الإنسانية للعمال أينما كانوا، ضد رابطة رؤوس
الأموال أينما كانت، لأن الحدود القومية غدت مع أوج عصر المواصلات أضيق من
أن تتسع لمعالجة المعضلات الكبرى على صعيد الدولة الواحدة، وكانت نظرية
كارل ماركس، محاولة جديدة لإعادة النظر في مفاهيم التاريخ، والاقتصاد
معاً.
وعلى ضوء النظرية الماركسية والنظريات الاشتراكية
السائدة في أواخر القرن التاسع عشر التي كان فيها لستورات ميل الإنكليزي
وهنري جورج الأمريكي وبرودون الفرنسي، بالإضافة إلى ماركس ـ دراسات
وتوجيهات قوية التأثير، نشأت في أوروبة مدارس وأحزاب اشتراكية متعددة، مهما
اختلفت فإنها على وفاق على إنهاء عهد الحرية الاقتصادية. لأن هذه الحرية
إلى جانب الملاكين وأصحاب رأس المال، غدت عبودية وشقاء للملايين من
الفلاحين والعمال. فإذا كانت الحرية، معنى تتضمن القدرة على استعمالها فإن
الحرية في ظل الإقطاعيات الكبرى والأموال الضخمة، أصبحت نظاماً سياسياً يضع
الحرمان مع العجز إلى جانب الأكثرية في حكم يزعم لنفسه عنوان الديمقراطية
أي حكم الشعب، فالاشتراكية الماركسية، تدعو إلى الانقلاب العام بلا تدرج،
لأن وسائل الإنتاج يجب أن تكون ملكاً للمنتجين وهم العمال، فلزم أن تكون
الحكومة منهم ولهم. والثروة التي أنتجتها الجمعية العامة يجب أن تكون لها
كلها ـ وهنا نلمح مثالية روسو بوضعه الإرادة العامة في رأس الجهاز السياسي
ـ والشعب في قمة الحكم بلا وسيط.
أما الاشتراكية الوطنية أو العمالية غير الثورية،
فقد دعت إلى تمثيل القيم الاجتماعية الجديدة ـ كما يسميها الفابيانيون،
جماعة برنارد شو في بريطانيا عن طريق النظام البرلماني واللا مركزية في
الحكم، وتتولى المجالس البلدية كثيراً من سلطات مجلس النواب المركزي.
ولبست كل اشتراكية محلية لبوس الوسط وحاجاته قياساً
على القيم الاجتماعية الجديدة فانصب هدف الاشتراكية البريطانية مثلاً على
دخل الأرض لا على رأس المال، وطالبت بجعل الأرض كلها ملكاً للدولة، لتوزيع
الدخل والعمل توزيعاً عادلاً ـ باعتبار أن الملكيات الكبيرة، إنما تحصل على
(دخل غير مكسوب) أي غير محصل بالعمل.
وهذا نرى أن علم الاقتصاد السياسي قد ولد أنماطاً
وأشكالاً متضاربة لسلطان الدولة في تنظيم أو قلب الأوضاع الاجتماعية لا
تزال موضع جدل، وصراع وتجارب كبرى، منها تلك التجربة الضخمة التي تجري بين
شعوب الاتحاد السوفييتي، ومنها تجارب ذهب ريحها في إيطاليا وألمانيا حيث
كانت تقوم في ظل ما يسمى الاشتراكية الوطنية أو الاشتراكية السنديكالية.
إن هذا (اللفياتان) العملاق الذي وضعه (هوبس) غدا مع
الأيام، أكثر تعقيداً وهولاً، وغدت الحاجات الاجتماعية المتراكبة تدعوه إلى
ما هو أثقل من السيف بيمناه، والصليب بيسراه، وسنرى الآن على ضوء العلوم
الجديدة، كيف تغدو صناعات اللفياتان في العالم، وهي فن قائم بذاته ـ من
أمنع الصناعات على ذكاء الإنسان. فلنلق نظرة خاطفة على التفكير السياسي في
القرن التاسع عشر، تتنازعه تيارات متضاربة كل منها يدعي نسباً عريقاً
للعلم.
كان هربرت سبنسر مؤلف كتاب (ألفرد ضد الدولة) وأحد
رواد المدرسة العلمية في التفكير السياسي الأوروبي، أعنف رجال هذه المدرسة
الذين استندوا إلى العلم، في التفريق بين وظائف الدولة مع تحديدها تحديداً
ضيقاً، وبين وظائف الفرد في المجتمع بإطلاقها إطلاقاً، ولذلك اخترته دليلاً
في هذه الدراسة.
ولقد طفق سبنسر يرسم نوعاً من المشابهة بين جهاز
الإنسان العضوي، وجهاز الدولة أوصله إلى الجزم بأن الدولة مؤلفة من جهازين:
عصبي، وغذائي، فالأول للحرب فقط والثاني للحياة العامة، بمعنى أن كل عضو
يعيش بما يعمل، وغذاؤه على قد وظيفته، فالجهاز الغذائي لا يتلقى أوامره من
الجهاز العصبي إلا في حالات تمس سلامة الدولة وأهمها الحرب أو اتقاء شر حرب
عدوانية. وعلى هذا فالدولة يجب أن تبقى بعيدة عن ممارسة أي سلطة توجيهية في
شؤون المعارف والصحة، والدين والتعايش المشترك.. وما إلى ذلك.
كذلك استغل رجال هذه المدرسة العلمية في التفكير
الفلسفي، المبادئ السائدة في علم الحياة، لتبرير التنازع وبقاء الأنسب،
كقاعدة للحياة الاجتماعية. فما على الدولة إلا أن تقيم مسرحاً بحواجز من
حبال حوله، تترك للناس فيه حرية الصراع المطلقة، ليتغلب من أوتيت لـه
الغلبة، ولن يرفع يده إلى فوق في نهاية الدورة إلا الأصلح والأنسب.
وانطلق أكثر أنصار الحرية الفردية في أوروبة وعلى
الأخص بريطانيا، من نظرة حقوق الإنسان الطبيعية، التي يدعمها علم الحياة ـ
كما يقوم سبنسر ـ لتثبيت مبدأ حرية العمل الاقتصادية ـ بمعنى أن الفرد، وإن
قبل حياة الاجتماع وألزم نفسه بضرورتها وقيودها رغبة في التعاون، والعمل
المشترك للخير العام، فهو لا يفقد كل حقوقه، وعلى الأخص حقوق التملك،
وحماية الملكية كذلك فهو لم يقبل على حياة المجتمع مختاراً بقصد إنشاء
الدولة، بل لتحديد نطاق شمولها.
وواضح من هذه النظريات السياسية التي تعالج على ضوء
العلم، أن العلم سخر تسخيراً لاستنباط المبررات لمبدأ سياسي مقرر مسبقاً.
ومن هذا الاستنباط، يزرقون التهاتر في الحجج المدعومة بالعلم فيصبح علم
الحياة، سلاحاً بيد النظرية الفردية والنظرية الجماعية معاً. فإن يصح تشبيه
الجسد الاجتماعي بالجسد الطبيعي، فإن نظريات سيادة الدولة أولى أن تستمد
مبادئها من هذا التشبيه، لأن الأعضاء في الجسد لا تشكل وحدات ذات إرادة
ولأنها تعمل للمجموع، ولا وجود لها مستقلة عنه.
فالقول بالتركيب العضوي الاجتماعي، يجعل الأفراد في
الدولة كالأعضاء في الجسد خاضعين لمركز أعلى يوجه فعالياتهم ونشاطهم. وهذا
واضح البطلان لأن الفرد إبدع، والعضوية وظيفة.
كذلك إذا صح تطبيق مبدأ تنازع البقاء وبقاء الأصلح
على الأفراد في مجتمع منظم، لا عمل فيه للدولة إلا مراقبة الصراع ضمن شريط
الحلبة فإن القائلين بمذهب القوة، دون الحق، أولى أن يفيدوا من هذا التطبيق
لأنه في مذهب القوة والقسر لا يبقى مجال لأن يتمتع أي إنسان بحريته وبحقه
في المساواة مع مواطنيه أمام القانون. وإن صح تطبيق الصراع، وبقاء الأصلح
بين الأفراد، فمن شأنه أن يطبق في مجالات عالمية أوسع بين الدول ليذهب
ضعيفها ويبقى قويها، كما تهدف إليه تماماً نظريات التفوق والعرق، والسيادة
العالمية. ومن الطريف في باب هذه المفارقات أن نظرية الحقوق الطبيعية،
تناولها في نفس العصر سبنسر الإنكليزي، ليدعم بها حرية الفرد الاقتصادية
والفكرية وهيغل الألماني ليبلغ بها ذروة التمجيد للفرد ثم يتناولها من بعده
في خط منحن ليبلغ بها تخصيص (الذات) بنوع من العبادة لا تلبث أن تؤلف الحجر
الأساسي في بناء الاشتراكية الألمانية التي تحقق ـ كما تقول ـ ذات كل فرد
ألماني، بتحقيق الذات الجرمانية الكبرى، وفي ظل هذه الغيبية، تُوطأ حقوق
الفرد الاقتصادية والفكرية، لأن الذات العليا تولت عنه العمل والتفكير
معاً.
ومنذ زمن ليس ببعيد قال موسوليني: إن الإنسان حر في
المجموع وبه. والمجموع وحده يستطيع أن يكون دولة ذات سيادة لا تتسامح إزاء
أي نقاش أو رقابة.
ويجدر بنا هنا أن نذكر بأن الخط غير المستقيم الذي
وصل هيغل بهتلر وموسوليني، كانت نقطة الانطلاق فيه فلسفة روسو في عدم تجزئة
(الإرادة العامة) التي أراد لها سيادة مطلقة، وعجز عن تصويبها تصويباً
واقعياً. فجاء بعض الفلاسفة بعده ليبدأوا من حيث انتهى هو ـ ويجعلوا من
جهاز الدولة تجسيداً للإرادة العامة.
كذلك بدأت النظريات السياسية عملية التضليل في
استعمال علم النفس، وشرح تأثير الغرائز الفردية في الحياة الاجتماعية،
بقياس الأدنى على الأعلى، أي بقياس النفس الفردية على النفس الجماعية
وبقياس الحياة الحيوانية على الحياة الإنسانية. فتوصل رجال هذه المدرسة ـ
وأكثرهم فرنسيون ـ تارد، ياجيهو، دور كهايم، غوستاف، لوبون ـ إلى نتائج نهض
لها خصوم يقارعونها في ميدان علم النفس أيضاً، كما حدث في ميدان علم
الحياة. مثال ذاك أن يدرس المجتمع على أساس غريزة التقليد. فالتقليد كما
يقول: ياجيهو ـ هو منطلق تكون العادات في مجتمع ما. فالصفات الغالبة هي
التي يجول حولها الناس ليقلدوها، وما تزال هكذا، حتى تحل عادة محل عادة،
وتعامل مكان تعامل، وبذلك يغلب التقليد على الإبداع في حياة الإنسان
المتطور. ولو أن هذا صحيح لما خرج الإنسان بالتقليد عن مدارج الحيوان عبر
ملايين السنين.
كذلك انطلق البعض من الأبعاد البعيدة من تكون
الجماعات البشرية، ليدرسوا السلوك الإنساني على ضوء علم النفس دون أن
يأخذوا بالاعتباران السيكولوجية البدائية لا يمكن أن تسري مبادئها على
جمعية منظمة حديثة غدت فيها الحياة مجموعة مركبة من العقد، مهما يكن تأثير
الغرائز واللاوعي، في السلوك الإنساني. مثال ذلك أيضاً أن أرباب مذهب اللذة
الذين يعتبرون اللذة غاية تنشد لذاتها، ينكرون ـ تحت تأثير التحليل النفسي
ـ أن يقصد الإنسان من وراء أي عمل سوى سعادته، وسروره ولذته، مهما كانت
مظاهره قادرة على طي الهدف البعيد. فإذا قيل إن الإنسان قد تدفعه حماسته
للحقيقة أن يذهب إلى المحرقة في سبيلها، أو أن المؤمن بعقيدة، أو فكر، إنما
يتحمل من أجلها أنواع الاضطهاد والعذاب، أو أن شخصاً عادياً يشاهد طفلاً
يغرق في النهر، لا يتردد عن إلقاء نفسه في الماء لإنقاذه، كان الجواب أن
الشهيد الذي يتوجه إلى المحرقة أو المقصلة، إنما يجنب نفسه عذاباً كبيراً،
إذ يشعر بأن العار الذي سيلحقه من خيانته مبدأه، أو حقيقته، هو أعظم من
عذاب النار. وإن الذي يلقي بنفسه لينقذ غريقاً إنما يسعده أني يرى أهل
الطفل حوله سعداء، وكل لـه أسلوبه في متابعة اللذة. وواضح أن إنكار الصفة
الخلقية السامية على الإنسان وتحليل سلوكه على أساس ابتغاء النفع أو اللذة،
هو إنكار للقيم المجردة التي يمكن للإنسان وحده أن يتابعها بين مخلوقات
الطبيعة. والعلم عاجز بعد عن أن يحلل بقواعده، الجامدة ألوان النفس
الإنسانية مهما بالغ في إرجاعها إلى أصولها وأعماقها، كما هو عاجز عن أن
يدرك بالمحسوسات سر الجمال في لوحة من لوحات رافاييل، وأن يضبط بمقاييس
وأوزان روعة بيت من الشعر، أو مقطعاً من سمفونية.
إن الفلاسفة، وبعضهم علماء مثل توماس هكسلي، لا
يحجبون أبصارهم عن أضواء العلم ليزجُّوا سلوكية الإنسان في ميثولوجيات
افتراضية، ولكنهم ينكرون على المتمذهبين بالعلم والمسخرين قواعده وقياساته،
تطبيق سنن الطبيعة الكونية على الإنسان الاجتماعي تطبيقاً شاملاً. صحيح أن
الإنسان هو عبد الطبيعة، ولكنه سيدها أيضاً، ولقد وضعه مصيره بين عجزه
وطموحه، كما يقول هكسلي ـ لتكون حياته أبدا حياة كفاح، وشقاء وتفوق. فإذا
كانت الطبيعة تقول بتنازع البقاء وبقاء الأنسب، فهو يدعو إلى التعاون في
سبيل أنسب بقاء لأكبر عدد، ففي العالم الذي ينشد لا يبقى الأنسب بجسده،
وقوته، وبطشه، بل بذكائه، وعقله. وهكذا يحاول الإنسان وقف عمل الطبيعة
الكونية لتعمل القيم الخلقية، ويحول التنازع من أجل البقاء، وهذا النوع من
التنازع، هو الذي يفتح الأبواب لمساهمة الفكر البشري في تحسين نوع البقاء،
وإلا فبماذا يتميز الإنسان عن الحيوان وشريعة المدينة عن شريعة الغاب.
يروي هيرودتوس، أبو التاريخ، ونقل عنه داروين، أنه
في الحرب القبلية القديمة، كان الأبناء المحاربون يحافظون على أطفالهم
ونسائهم، ويقتلون آباءهم، أو يأكلونهم. لأن الأولاد والنساء، حاجات البقاء
بعد التنازع، ولأن الآباء الشيوخ عبء لا مناص من اطراحه في المعركة التي
تقرر البقاء أو عدم البقاء ـ بهذا تقضي الطبيعة البيولوجية.
إن صحت الصورة، ولتكن صحيحة، فإنني أفضل عليها صورة
للشاعر فرجيل في (الاينياد) وقد مثلت البطل، وهو يمشي إلى الأمام، يقود
ابنه بيمينه، ويحمل أباه على كتفيه. إنني لا أنكر بعض الحقيقة في صورة
البيولوجي، ولكن بأي حجة أستطيع أن أنكر وجه الحقيقة في صورة الشاعر؟ بل أي
علم يمنعني من أن أرجح واقع هذه الصورة على تلك؟!
الجواب يسير. إن العلم يقف عند حدوده في أجواء
الإنسان العليا، ويتجاوز اختصاصه عندما يخرج من القيم المحسوسة إلى القيم
الوجدانية، والخلقية. إن العلم بكل ما هيأه للإنسان من وسائل الثراء،
والقوة والرخاء، ووسائل الإرهاب، والفتك والتدمير، ليس خيراً مجرداً، أو
شراً مجرداً، فالعلم لا يأبه لنتائج ما يمنح، ولا العلماء ينظرون إلى ما
وراء حقائق العلم، فلم يخطر ببال داروين، أن يضع علمه في خدمة نظريات
الحرية أو الطغيان أو الخير أو الشر إطلاقاً. فإذا سلمنا بحقيقة حياد
العلم، وجب أن نترك تحديد ميدان الخير والشر، والنفع والضرر، لمهندسي
الحياة البشرية، وهم الباحثون والمفكرون، الذين إن تجردوا في البحث وأحاطوا
به، كانوا أولى من يوجه إلى استعمال أسباب العلم حيث يجب أن تُستعمل في حقل
الخير العام. لأن هذا النوع من الأدب وهو أدب الثقافات والإنسانية مجتمعة
قادر وحده أن يلقي نظرة شاملة على البرج الضخم من جميع جوانبه. كذلك يجب أن
نعرض عن الفلسفة التي تتخطى حدودها، لتعتدي على حقائق العلم، وفي الوقت
نفسه، يجب أن نسلم بوجود حدود للعلم في دراسة سلوك الإنسان الاجتماعي،
ونظامه السياسي، ولا يمكنه أن يتعداها إلا عاثراً.
وإن صح هذا أيضاً، فأولى أن يكون صحيحاً عندما يتصدى
فرع واحد من فروع العلم، كالاقتصاد، أو علم الحياة أو علم النفس منفرداً
ليستبد في تعليل سلوكية الإنسان المتطور.
رأينا معاً، في عرض سريع أعترف بقصوره عن الإحاطة ـ
لأن الموضوع أجل من أن يحصر بين دفتي محاضرة ـ كيف عالجت الفلسفة
الاجتماعية والسياسية موضوع الفرد والدولة عن طريق (هوبس) و (روسو) وكيف
تناولت المدارس العلمية الحديثة هذا الموضوع الآخذ بالتوسع أبداً، عبر
القرون الثلاثة الأخيرة، وإن تكن الفلسفة اليونانية قد أرست قواعده منذ
أربع وعشرين عاماً. وقد رأينا معاً خلال المدارس والنظريات والمذاهب، وعبر
الأحداث الانقلابية في القرن التاسع عشر، وأهمها الحدث الصناعي ـ أن مرد
الموضوع إلى نقطة البداءة فيه، وهي أن الإنسان أراد أبداً أن يصنع بنفسه
دولة صناعية فنية بارعة ـ كما يقول هوبس ـ فماذا يعطيها، وماذا يأخذ منها؟!
وما هي حدوده وما هي حدودها؟! وكيف يوفق بين مصيره كإنسان ومصيره كمواطن،
وعضو في مجتمع؟!، أي جزء من نفسه أسلمه للدولة، وأي جزء منه اعتصم به
عزيزاً منيعاً؟! هل يستطيع أن يسيطر على الآلة التي اخترعها لنفسه، أم أن
الأمر مصيره إلى اختلال التوازن بين الدولة والإنسان، ولا بد لـه من أن
ينهار في عبادة العجل الذهبي؟! وهل من سبيل لإنقاذ الإنسان المغلوب على
أمره. وما هي؟! سنحاول الجواب بإيجاز ضمن حدود أدب المحاضرة ـ إذا صح
التعبير ـ والمشقة كل المشقة في التزام هذا الأدب.
لقد رأينا هوبس، يعطي الدولة كل شيء، لأن الخوف في
قلبه القلق يستبد بتفكيره فبناء الدولة على أساس الأمن الداخلي، والسلامة
الخارجية، وهو أساس لا يزال الآن وسيبقى أبداً من وراء كل بناء للدولة،
تمزقها الاضطرابات ويهدد سلامتها العدو. ففي جو القلق والخوف لا مجال
للتجربة الفردية، فلا مجال إذن للحرية نفسها، فالحرية مقرونة بالقدرة على
التجربة. لذلك نمت الديمقراطية التطورية، وعاشت أيامها الحافلة في بلاد مثل
بريطانيا، وأمريكا وسويسرة، حيث أحاطت نفسها بأسباب السلامة والعزلة،
وأفسحت المجال، لصراع الأفكار والآراء والتفاعل الاجتماعي على رحبه. فصراع
الإنسان الحديث ضد الحروب إنما هو بالأصل صراع ضد القوى التي لا تحتجز
حريته فحسب، بل تلجم تفكيره وتهدر قيمته كإنسان وتحول دون تعاقب التجارب،
في سبيل حياة أفضل لا تقوم على السيف ولا تذهب بالسيف. فالحروب عامل رجعي
في سير الحضارة، يعود بها القهقرى إلى عملية الصراع والانتخاب الطبيعي
بينما يتولى العقل الإنساني إرادة الانتخاب والتطور، ليقرر وحده مصير
الإنسان على ضوء القيم، لا على ضوء السنن الطبيعية.
هناك حالة ثانية غير حالة السلامة الخارجية المهددة
تبرر تدخل الدولة وذلك عندما تنشأ قيم اجتماعية جديدة، لا طاقة للفرد أو
لمؤسساته في معالجتها وتسويتها، بحيث يغدو عجزه سبيلاً إلى حالتين: إما
الفوضى أو حكم الطغيان، مثال ذلك نشوء (العمل) في القرن التاسع عشر كقيمة
اجتماعية جديدة، إلى جانب رأس المال أو ضد رأس المال. وواضح أن قفزة العمل
إلى ميدان الاقتصاد، قد بدلت إلى حد بعيد كما سبق وعرضنا مفاهيم الحرية.
فالمالكون سعداء يدافعون عن حريتهم وليس عن فكرة الحرية. فإذا اتسعت الهوة
بين المحرومين والمالكين، اختل التوازن الاجتماعي وضاعت قيمة أساسية من قيم
الدولة وقد كتب (توكفيل) فيلسوف الحرية الأمريكية قائلاً إن روح
الديمقراطية في هذا العصر هي الزحف المشترك نحو التساوي. في الانتفاع من
نعمة الحرية.
كذلك فإنه بين القيم الاجتماعية الجديدة التي أسلم
الفرد أمرها إلى الدولة بلا تردد ـ أو سلم بها نظرياً على الأقل ـ منذ أن
ذرت الاشتراكية، تسمى قضية الدخل غير المكسوب التي سبق أن أشرت إليها. وهي
قضية المئات يجوعون، أوهم دون مستوى العيش اللائق بكرامة الإنسان، بينما
يعيش سواهم من الملاكين من دخل لم يكسبوه بجهدهم. وهنا تدخل الدولة ـ
والفرد عاجز ـ لتجعل الأرض ملكاً لها، وتعطي لها قيمة اجتماعية جديدة. وما
يقال في توزيع ثروة الأرض، وثروة العمل، من حيث الدولة واعتداؤها على حرية
الفرد، يقال في نشر التعليم، وصيانة الصحة العامة، وتنظيم مواصلات الدولة.
فإذا تفشت الأمية في مجتمع أصبح التعليم قيمة اجتماعية، للدولة مبرراتها في
معالجتها مباشرة. وإذا انتشر وباء بنتيجة العدوى والإهمال، عمدت الدولة إلى
ما يشبه النظام العسكري لمكافحة الداء الوبيل. كذلك فإن المواصلات في العصر
الحديث أصبحت من القيم الاجتماعية الجديدة التي يعجز الفرد عن التصدي لها
أو التفرد بها فبادرت الدولة إلى تنظيمها.
فإذا كان المبدأ المقرر لحياة ديمقراطية، يحكم فيها
الشعب بأي واسطة من وسائط الحكم ألا تمس حريته حرية الآخرين، وألا تحول
حريته دون انتفاع الآخرين من استعمال حريتهم ـ وأن يسعى وراء الخير لنفسه،
بوسائله الخاصة، دون أن يحجب الخير العام عن بقية أفراد المجتمع الذي يعيش
فيه بل أن يعمل من أجل هذا الخير العام ـ كان على الفرد أن يواجه أحد أمرين
عندما يخرج عن هذه المبادئ طغيان الدولة، أو طغيان الفوضى.
على أن الفرد، وهو يرى زحف الدولة على معاقله يوماً
بعد يوم، وقد تضاعفت حاجته، وتداخلت مواقف حياته، وطغت عليه الوسائل
المادية بين يديه مما خلقه ليكون وسيلة فكاد أن يكون غاية ـ ليخشى أن تصبح
الدولة بما توفر لها من أسباب السيطرة والقوة غاية، تنعدم فيها، وتتلاشى كل
إرادة مبدعة وفكرة حرة. لذلك فقد بادر في بعض المجتمعات إلى إنشاء منظمات
ومؤسسات على نطاق واسع كاتحادات نقابات العمال، والتعاونيات الزراعية
والصحية وعلى نطاق أقل سعة، كالأندية الرياضية، والمدارس والجمعيات
الثقافية والخيرية، تقوم بما يراد للدولة أن تقوم به مباشرة، حتى بات مصير
الديمقراطية معلقاً على نشاط هذه المؤسسات وحسن أدائها واجباتها. فإذا أراد
الفرد أن يحيا بالمجموع، وألا يكون هذا المجموع دولة تنقلب مع الزمن
طغياناً، فما عليه إلا أن يكثر من هذه الوحدات الاجتماعية العاملة على أساس
القاعدة العامة المقبول منطقها والتي تقول أن الأفراد إذا لم يعملوا
مجتمعين قامت الحكومة بالعمل عنهم ـ كما يقول توكفيل في كتابة (الديمقراطية
في أمريكا). ولا يعجب توكفيل أن يرى مئة ألف أمريكي يقررون مجتمعين عدم شرب
الخمور، فتلك هي طريقة صالحة للعمل والإعراب عن الرأي. ويستمر توكفيل
قائلاً: (ولو أن مئة ألف فرنسي اجتمعوا على مثل هذا المبدأ. لتفرقوا غداة
يومهم، وراح كل منهم يراجع الحكومة منفرداً طالباً إليها التدخل لمنع
المسكرات ومراقبة الحانات يريد بذلك التمييز بين العقلية الفرنسية والعقلية
والأمريكية.
وهنا في هذه الزاوية نعود فنذكر (روسو) الصارم، في
عدم تجزئته الإرادة العامة، وإصراره على منع نشوء المنظمات والتجمعات في
ظلها، خوفاً من أن يدين الأفراد بالولاء لها، وتنفقد الإرادة العامة
بتجزئتها، لذلك انطلق منه هيغل والمدرسة الألمانية في التفكير السياسي،
لتجعل التجمعات الفردية منوطة بإرادة الدولة وإدارتها، ومن هنا يظهر حكم
الدولة الطاغي، ولم يكن قط في حساب روسو أن تصبح فلسفته مطاراً لهبوط
النازية والفاشستية فوق الإرادة العامة. على أنه من ناحية أخرى، لابد من
الاعتراف بصحة جانب من جوانب نظرية (روسو) بأن الولاء للمؤسسة الخاصة التي
ينتمي إليها الفرد مباشرة ينقص لزاماً من ولائه للمؤسسة الأكبر التي هي
الدولة. إذ لو شاهد (توكفيل) الأمريكي، فيلسوف ديمقراطية القرن التاسع عشر،
كيف تغدو الحياة الأمريكية عقداً مركبة من منظمات وشركات ومذاهب وتحشدات لا
يعرف الفرد الدولة إلا عن طريقها لهالَـُه ما يرى. ومع ذلك، فإن الولايات
المتحدة الأمريكية، تبقى بنظامها السياسي والاجتماعي امنع الديموقراطيات
على الاشتراكية، لأن الفرد امتنع عليها بهذه المنظمة والوحدات الصغيرة التي
ينتمي إليها.
وعلى هذا، فبالرغم من امتداد الليفياتان في حياة
الفرد عن طريق تنظيم حياته الاجتماعية، ورغم قناعة الفرد في أحوال مركبة
العقد بأنه لا مهرب لـه من التنازل عن جزء أو أجزاء من فرديته العاجزة،
وعلى الأخص في عصر الصناعة الساحقة، فهو يطمع أبداً في صراع ليس لـه نهاية
ولن تكون لـه نهاية ـ إلى التحصن بمعاقله والامتناع على قانصه، وقد يسلم
يديه، ولكنه لن يسلم جناحيه، وقد يطأطئ رأسه، ولكنه لن يضعه بين قدميه. إنه
من نسل بروميثيوس العملاق العظيم الذي استل النار من الآلهة خلسة ليودعها
أيدي بني الإنسان، فيعملوا، ويبنوا؛ ويعمروا الأرض فعاقبه (زوس) بالصلب
مسمراً بين الصخور تسفعه الرياح، وتأكل قلبه النسور، ولكن صوته كان يعلو
على هدير الرعود فيسمعه (زوس) يتكلم عن اليوم الذي ينتصر فيه الخير؛ ويسحق
السلطان الظالم إلى الأبد.
ومن هذه النار المقدسة، سلالة الإنسان المفكر
الجريء، الذي أقرت لـه حقوقه في حرية الفكر، وأرادها معاقل لـه يعتصم بها
وهو ينزلق يوماً بعد يوم في التنظيم والتقنين، والتوجيه. إنها معاقل فردية
خالصة، لم يتنازل عنها الإنسان قط، في أظلم عهوده، بل كانت في أسوئها مراكز
انطلاقات متعاقبة في مصير الإنسانية المتطورة لأنها تناولت عملية التطور من
يد الطبيعة عبر الدهور لتضعها في يد الإنسان أخيراً.. وقد كانت العملية
خبطاً أعمى بلا هدف، فغدت بالعقل إدراكاً وهدفاً مقصوداً.
ومن هذه المعاقل الفردية ـ ولم تكن قط جماعية ـ
انطلقت الفلسفة والآداب والفنون والعلوم، وبها أشرق فجر الإنسان الذي انفصل
عن سديم الفوضى، كما انفصلت الشمس في البدء، وكان بعدها الكوكب الذي أنار
الوجود، وزين الكون، وجعل الحياة جديرة بمجد الإنسان.
من هذه المعاقل العليا التي شهدت الإنسان خالقاً
مبدعاً، صاح أرخميدس جذلاً: وجدتها وجدتها. ومشى (جوردانوبرونو) إلى
المحرقة، وتجرع سقراط السم، لأنهما قررا وجود حقائق غير مألوفة اعتبرتها
الأوضاع السائدة والمصطلحات الاجتماعية السياسية المتداولة ـ ثورة، عليها
وتحدياً لها وسخرية من سلطانها.
فكيف يمكن للإنسان أن يخدم التطور وقد طمح إلى زمامه
ليسير به مئة ألف عام في عام ـ وهو واضح لما تعورف عليه من معارف واصطلح
عليه من قيم وفرض أوضاع. أو ليس التطور تبدلاً أبداً وإذا أسنت الحياة في
نظام متحجر فمن ذا الذي يعيش على حفافي المستنقع؟ العقل المبدع، أما لحشرات
المستكية بالحمأ؟! ومن يكشف الحدث قبل وقوعه ويعلن الحقيقة عند ميلادها،
سوى هؤلاء الرواد الأفراد الذين لا يأبهون لمقررات ثابتة، وآراء رائجة
وتقاليد متداولة، إذا عزموا على مقارعتها؟! وهل كان جوردانوبرونو على صواب
عندما أعلن حركة دوران الأرض أم، نصوص التوراة... أم سيادة الكنيسة التي
رمته إلى النار، بعد أن قطعت لسانه.. ولم تعترف بحقائقه إلا بعد قرنين!!
وهل اعترفت؟!
من هنا تقر الجمعية المتمدنة، للفرد المفكر، حتى
حرية الخطأ، فلا تحاسبه عليه، لأن الرقي والصواب هما حصاد عملية التجربة
والخطأ، فإذا أردنا للإنسان بلوغ أهدافه البعيدة بالفكر والتجارب بلوغاً
واعياً حراً من فروض الطبيعة أو قسر الدولة، أو مصطلحات المجتمع، اعترفنا
لـه في البدء بحصانة معاقله الفكرية التي نبعت منها تيارات كرامة الإنسان
ومجده، وتفوقه، عبر تجارب كبرى من الخطأ والصواب.
إن أي جمعية منظمة عادلة واعية لا يكبر عليها أن تضع
الفكر الحر والمفكرين الأحرار فوق ضرورات الرائج والدارج، مهما كان للدولة
من مبررات في تقويم القيم الاجتماعية الجديدة والسيطرة عليها في سبيل
التوازن، والعدل، والخير العام، لأن اليد المقيدة لا توجب معها تقييد
الفكر، ولأن تجربة الخطأ والصواب يجب أن تستمر وراء حدود الزمان والمكان،
ولأن المفكرين والعلماء والأدباء ورسل الفن دائماً يمثلون وحدهم طموح
الاستمرار في كل ما هو جميل وحق وحقيقة. وهذه آثارهم في الدنيا، لا تزال
وستبقى العقد الذي لا ينفرط، والمصباح الذي لا يخبو والحكم الذي لا يزول
والصلة الواشجة بين الأزل والأبد. أنهم عزاء للعالم المادي المسكين،
المنهار في دوامة الغرق والانتحار، ينظر في الليل البهيم، إلى نجوم السماء،
ويوقن أن الكون لم ينطفئ بعد، ولن ينطفئ أبداً.
ومن هنا نقطة الانطلاق في اعتبار الحقيقة والجمال من
القيم غير الاجتماعية، لأنهما إنما ينشدان لذاتهما، دون ما نظر إلى
مردودهما في المجتمع، وحصادهما في حقل الخير العام، وأثرهما في الأخلاق.
فوجب بنتيجة هذا الاعتبار أن تخرج الآداب والفنون، والعلوم التي تنضوي تحت
راية الجمال والحقيقة، من حدود الدولة والقيم الاجتماعية إلى حدود الفرد
والقيم غير الاجتماعية.
فالفنون الجميلة، وإن تكن نفعية الأصل، فقد ارتقت
لتتجرد عن مظاهرها وبواعثها، وتصبح تعبيراً روحياً. فالرسم بدأ تمثيلاً
لمشاهد محسوسة لأغراض محدودة ثم غدا رمزاً لمرئيات قد لا تدرك بالعين
المجردة، لأن صاحب الفن أراد أن يمثل بها فكره لي واقعاً. وهكذا ينقل العمل
الفني من المشاهدة إلى التأمل، ومن الفائدة على القيمة ومن التصوير
الفوتوغرافي إلى اللوحة، وينتقل الناس حوله من رغباتهم النفعية إلى تذوق
الجمال نفسه. ومن حساب الجزئيات والمرئيات. إلى أجواء الغبطة، والطوبى حيث
الجمال غير مقترن بالجنس أو بالنفع وهي حالة نفسية، إذا اتصلت بالعامة، بله
الخاصة من الموهوبين كانت من أوصاف مجتمع راق، مرهف الحس، مهذب الذوق.
وما يقال في صاحب الفن المستغرق في رؤى الجمال، يقال
في العالم الذي يقضي الأيام والليالي يراقب زحف حشرة في طين، أو فوران بخار
في قدر لينفذ إلى حقيقة ما يرى، ويجيب على السؤال الأزلي، لماذا؟!
وفي الجواب على هذا السؤال، لا ينظر مخترع البارود
إلى ما قد يحدث البارود من نتائج التعمير أو التدمير.. كذلك لا يسأل الذي
يراقب الحياة في المريخ، أيكون هذا الكوكب صالحاً لحل أزمة ازدياد عدد
السكان في هذا العالم. حتى لو اقتنع مخترع البارود بأنه سيدمر العالم،
واقتنع عالم الأطباق الجوية بألاّ فائدة ترجى للأرض من البحث في السماء،
فلن يكف الواحد والآخر عن البحث توصلاً لذات الحقيقة.
فإذا قبلنا مبدأ لا اجتماعية هذه القيم، وجب ألا
نضعها في حيز الأعمال الصادرة عن الأنانية الفردية، لأنها قيم تسمو عن حدود
المجتمع والفرد معاً، فالساعي وراء التعبير عن قيمة جمالية بالرسم أو
بالنحت أو بالموسيقا أو بالشعر، أو الباحث عن الحقيقة المجردة بالعلم، لا
يسمو عن المجتمع فحسب بل عن ذاته أيضاً، وقد يلزم بتضحية كل الطموحات
والرغبات، ويثابر حتى الجوع والعري والموت. ولا سبيل للمجتمع الذي ينظر
باستهجان إلى هذه النفوس النادرة إلا أن يقرر أحد أمرين:
اعتبار هذا النشاط مؤذياً وهداماً، وغير خلقي ـ أو
الاعتراف بأن هذه المثالية في نشدأن الجمال والحقيقة، لا تقاس بمقاييس
الجمعية القائمة. أما وقد ثبت باليقين في تاريخ المجموعة البشرية الراقية
أن الجمال والحقيقة لم يكونا مصدر شر وأذى وفساد، فلا بد من تقرير الحقيقة
المقابلة وهي أن هذه القيم تخرج عن موازين القيم الاجتماعية، فهي ليست
نفعية ولا يجوز أن تضبط بحساب ما تقدم وما تأخر أو ما يجب وما لا يجب مهما
كان حصادها بالتالي منسجماً مع النفع العام، أو غير منسجم، متقيداً بالوجوب
الاجتماعي أو الخلقي أو غير متقيد. ومن هنا منشأ القوة في حاجة الحرية
لها.
ومع ذلك ـ وهنا أريد أن أحاول الخروج من سفسطة الجدل
حول وجود البرج العاجي أو عدم وجوده ـ فإن تقرير اجتماعية الفنون والعلوم،
كمعبرة عن قيم الجمال والحقيقة، لا ينفي عنها قط صفة عدم التحسس بنبضات
المجتمع حولها بل قد يكون التحسس أعمق، من حيث يبدو للعيون العاجزة أنه
أضعف. وقد يكون أرمى شعاعاً في شعاب المستقبل من حيث يبدو تافه الحاضر
سقيماً. وقد تظهر هذه النبضات في قصة تُروى، أو موسيقا تهدر، أو لوحة تزخر
بأمواج الضوء والظلال، وترتد إلى المجتمع في صور من الجمال والحقيقة، غير
المألوفة، ثم تخرج ثانية عن حدود الزمان المكان، لتبقى الصورة الحية
الخالدة لأنها تضع في الإطار أشباحاً تمر ووقائع تمحى وأهدافاً يطالها
المرء برأس أنفه، بل قد دمغت بالفن حقائق خالدة لا يستطيع أن يعيها سوى
أصحاب المواهب والعبقريات ـ فخرجت بالصورة من يومها إلى غد ليس لـه حدود
ومن مكانها إلى الآفاق التي لا يستوعبها مكان.
إن الشعوب التي لا يتوفر لها عنصرا الفعالية المبدعة
والفراغ الضروري، لممارسة هذه الرياضة الإنسانية السامية، في نشدأن الجمال
والحقيقة، يجب أن تكون شعوباً بدائية تعيش بغرائزها، وتلتهم من نزواتها، أو
شعوباً طغت عليها المادة، حتى باتت لا تعنى إلا بصناعة كل رخيص وقذر ـ كما
يقول كارلايل ـ والدولة التي توفرت لها الفعالية والفراغ فوضعتهما تحت
أبطها، لتوجه الأدب والفنون والعلوم، دولة محكوم عليها بالفشل لأن جهاز
الدولة لن ينال في معاصره منها سوى نماذج متشابهة في بوتقة التوجيه، لا
تلبث أن تنصب في الأسواق أكواماً، إلى جانب كل مقذوفات الآلة من أكوام
الأحذية، والأقنعة المستعارة ولعب الأطفال. فالأصالة في الإبداع الفني، وفي
الاكتشاف العلمي، وفي البحث الفلسفي الاجتماعي، لم تكن قط يوماً، وعبر ألوف
التجارب في التاريخ، من عمل الجماعات والدول بل من عمل الأفراد وحدهم. وقد
كانت حركة الجماعات في التاريخ، مزحفاً صاعداً، وراء الكلمة الرسالة التي
أعلنتها عبقريات الكشف والإبداع في الوقت المناسب، أو قبل الوقت المناسب.
وكانت الرسالة في حينها دعوة على الثورة وفي غير حينها أي قبل أوانها،
ذريعة للمجتمع أو للدولة في نفي الغريب عن مألوفها الجامد، واجتثاث الفساد
من طهرها الآسن.
وكثيراً ما انطلقت الرسالات الضخمة قبل اكتمال أسباب
النمو الاجتماعي الذي يلائمها، فدفعت بالتطور البشري مئات الأعوام وألوفها
إلى الأمام، في دوار صاعق، لم يمهل القوى الراكدة حتى تتألب على فعل
الرسالة المبدعة.
إن عمل الدولة في مد سلطانها، انحراف للحرية بالعدل،
والعدل شرط من شروط السلامة الاجتماعية؛ والسلامة الوطنية إنما هي واجب من
واجباتها واختصاص من اختصاصاتها تنجزه في حقل القيم الاجتماعية وحدها، وهي
قيم تتزايد مع حاجات العصر وتعقد مرافق الحياة العامة واستغلال الحريات
لتكون كسباً للبعض وحرماناً للآخرين.
إنما يساعدها في اختصاصها هذا رجال الفكر، والبحث
والفن، بما يصبونه مباشرة في الحقل العام إذا شاؤوا أو بما ينصب فيه
تلقائياً بعملية التفاعل بين الفرد والمجتمع أو بين القيم الاجتماعية
والقيم غير الاجتماعية وبذلك تتمكن الدولة من أداء رسالة العدل بالقسط
والميزان ـ لأن العدل ذو حدين في الدولة فهو إما عدل يمهد لجهاز الحكم سبيل
الطغيان، فهو عدل كاذب على حساب الحرية. وإما عدل موزون، يساوي بين الناس
في زحفهم المشترك إلى الانتفاع بنعمة الحرية. ولن تعدل الدولة أو تستطيع
العدل إذا لم تترك مناطق التفكير الفردي، حرة الينابيع، لتتلقى من تلك
المناطق روافد القيم الخالصة.
أن الدولة في تطلعها إلى هذه الروافد وفي عزمها على
الاستقاء منها، بتيسير مشاريعها إنما تقف من الأديب والفنان والعالم، موقف
من يلقي خبزه على وجه المياه ليجده بعد أيام كثيرة، فإذا لم يكن لديها ما
تلقيه، فلا أقل من أن تترك النهر صافياً حراً. كذلك لن تستطيع الدولة أن
تعتصر الورود، لتغل عليها زيتاً، إلا إذا انقلبت إلى رَبْعٍ معد للادخار
والاجترار، يستوي فيها الشوك والحصى وزنابق الحقل.
بل بإمكان الدولة التي أتيح لها أن تعتبر بتجارب
التاريخ وطمحت إلى إنشاء كيان اجتماعي يليق بكرامة الإنسان، أن تحيط مرابع
الفكر والمفكرين بأسباب العناية والرعاية ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً. وإلا
فالمفكرون بحكم معايشتهم للقيم وخوفهم على حريتهم، أقل الناس إقبالاً على
أسباب الرزق وتهافتاً على رعاية الدولة. ولن يكون موقفهم من حكامهم سوى
موقف ديوجين من الإسكندر في الحوار المأثور عنهما عندما قال القائد
للفيلسوف وهو قابع في برميله يأكل من أعشاب الأرض: ماذا عسى أن أفعل لك
أيها الحكيم؟! فأجاب الحكيم أزح ظلل عني فلا يحجب نور الشمس.
يبدو لي أنني أوشكت ختاماً ولم ينجل بعد المدى الذي
أريد أن يندفع معه كل لبس، هذا الخيط الدقيق الذي يجري بين الدولة والأديب،
على ما جرى فيه أسلوب القائد مع الحكيم، وهو أسلوب مَنًّ وتصاغر واحتراف
لباقة.
بوسعي أن أتمثل الدولة صاحب دار في جوار بستان وحشي،
أكلت الأشواك أعنابه منذ زمن فلم تذر فيه سوى الطحالب، والهشيم والحشرات
السامة، فهو إما أن يعنى ببستانه كجزء من أرضه ويزرع فيها الزهور، ويجري
بينها السواقي ليردها إلى حياته نعمة لنظره، وأرجاً لروحه ووحياً لتأملاته
وتجميلاً لحياته؛ وإما أن يشيح عن أرض لا قبل لـه بعرسها، فيقبع في وجاره،
ويصطلي بناره، ويغلق نوافذه إذ لا مكان لحياته الداخلية بالبستان، وهو بعد
في أمان. وأما أن ينصح لصاحب الدار جار لـه أن أزرع الفصة أو البطاطس في
بستانك وأقم في ركنه بعض دجاجات، فالأيام مقبلة؛ وزرعك موفور الريع. ففي
الحالتين الثانية والثالثة لا تستطيع الدولة أن تعطي أكثر مما لديها، ولا
أن ترتفع إلى ما فوق قامتها شأنها شأن صاحب هذه الدار، أما أن تزرع وتغرس
وتسقي وتطيب الثرى وترتقب الربيع، فإنها إنما تزرع لنفسها وتطيب الثرى
ثراها وترتقب الربيع ربيعها. فهي ليست ملزمة إلا بما تطيقه وتعيه وتشعر
بالحاجة إليه. وماذا يرتقب الأديب من دولة بدائية أو دولة لا تقيس القيم
إلا بمقاييس الإنتاج الزراعي والثروة الحيوانية؟! وبماذا يلزمها؟!
وسواء منحت الدولة، أم بخلت فما هو موقف الأديب،
وصاحب الفن وكل ذي موهبة مبدعة إزاءها؟
إنه مثل دولته وجمعيته ليس ملزماً، ويبقى الفرق
بينها وبينه، أنه ملهم. فإذا أقرت لـه بصفة الإلهام في علاقته معها، لا
بصفة الإلزام، استطاعت أن تعدل مع ذاتها ومعه وارتقبت منه خيراً من حيث تظن
أن لا خير منه.
إنه ملهم، ووشائج الإلهام هي هذه القيم العليا التي
تتصل جذورها بجذوره لأن التراب واحد وإن يكن ما بين السطح الذي يتحرك عليه
وعرانين الدوحة التي يسمو إليها ما بين كل قمة وكل تراب. إنه ملهم في كل
رعشة من رعشاته؛ وخطوة من خطواته. فإذا ما التقى بهذا الشيء العام. الذي
يسمى دولة، التقاء عفوياً كالتقاء النسائم بالزهور، ينشر أرجاً.. أو
كالتقاء الغيمة المكهربة بالأرض، يفجر صاعقة وناراً ودوياً، أدركنا أنه
الإلهام، الذي يضوع عطراً هنا، ويتفجر صواعق هناك. وتسألون لماذا لم ينشأ
في اللغة العربية في هذا العصر أدب عالمي رفيع، أو أدب بطولي جليل خالد..
أقول لكم لأن الأدب والفن لم يكن مصدرهما الإلهام، إلا في القليل من هذا
الأدب ولدى القليل من أربابه ـ وغالباً ما كان مصدرهما، انملتين تعصران
زهرة بعثت أمام الشاعر آخر أنفاسها الهالكة. أو هو عملية حداد يستبسط النار
من شحذ فولاذ على قطعة من صوان... وهذا كله ليس بالإلهام.. إنه عمل من صنع
الأيدي المحترفة، وصناعة من صناعات البلاستيك. بل هو أحياناً عمل من إنتاج
الحاجة الصارخة، والسياط القارعة تقول لـه اصنع... تقول لـه أنتج.. لماذا
لا تتحرك ولا تحرك ساكناً... ألا ترى إلى سواك.. ألا تشعر... ألا تتحسس...
ألا تفهم.. أليس عندك شعور؟! ويروح المسكين يعمل بمهارة صانع مأمور تحت
طائلة بقائه عاطلاً عن العمل.
أقول ملهم.. فاتركوه لإلهامه، واعترفوا بأنه ملهم.
فإن لم يكن صاحب إبداع، فإنه لن يأتيكم إلا بخرثى المتاع، وإن كان مبدعاً،
فارتقبوه وارتقبوا معه المعجزات.
ذروه وإلهامه، وحذار أن تقولوا لكل معتزل مبتهل، أنت
في (برج عاج) لأن بين ساكني بروج العاج، أناساً خانهم الإلهام وهم محسوبون
عليه ملهمين، فهربوا إلى البروج، حيث لا شيء إلا الصقيع وأجنحة الخفافيش.
أقول إنه ملهم، وهذه هي طريقه إلينا، وإلى الحياة
الدنيا، وعن طريق هذه القيم تتحرك روحه لتلامس المرئيات باحثاً أبداً عن
الجمال وراءها. فأين يجده؟!
منذ أجيال كان فتى مثله يبحث عن موضوع جماله، فعثر
على ابتسامة حائرة ـ لا يدري في أي زقاق ـ أخذها بين أنامله الراعشة،
وغرسها في شفتي (الجوكوندا) جمالاً خالداً.
ومنذ أجيال عثر المتنزه الوحيد على لؤلؤة في غلافها،
صقلها ثم سماها الإرادة العامة فرفعها إلى فوق ليضعها في صورة الشعب الذي
أحبه جمالاً مطهراً، وترك الصورة معلقة في مثالياتها لأنه خشي عليها من
حضيض الحكم، ومرض السلطان.
وظل فتى الصحراء يهيم في سعير القيظ حتى عثر على
العرارة الغبراء، ترسل آخر أنفاسها المحترقة، فصاح والشوق في روحه: تمتع من
شَمِّ عرار نجد...! فأي سحر أحال هذه الشيحة المرموضة جنة في نجد، ومن غير
الساحر الملهم يصل قلبه بقلب وطنه بصيغة هذا شأنها من صنع الجمال؟
كذلك خلق الشاعر ديار ليلى، وأخذ يطوف حولها بالحنين
وقد جعل بالإلهام ديار الجمال وطناً خالداً. وقد لا تكون الدار سوى بيت من
الشعر مهترئ وكلاب تنبح الطائف الغريب.
ومن لـه حاسة للشم؛ فليستنشق عبير الوطن الحبيب يمر
بالنسائم على جبينك وأنت واقف على طلل من إطلاله الدارسة، فأي عرش للجمال
أقامه شعراؤنا على الأطلال وأي حب أعظم من الذي يصل الترحل بالمقام والزوال
بالولاء الذي لا يزول.
فاتركوا الملهم وشأنه فهو لا يريد أن يعطي شيئاً ولا
أن يأخذ شيئاً... إنه الحب عبادة وكلما شعر بظل الدولة خفيفاً على حريته
شعر بأن ثمة شيئاً يملأ رحاب الشمس وهو الوطن وليس إلا الحرية دليل لـه نحو
مواقع الجمال.
فلنعد ثانية وأخيراً إلى الحرية كقيمة ولنلقِ نظرة
على الحرية التي أبدعت فلسفة جديدة لابد أن يظفر بها الإنسان مهما تردى في
مهاوي الضلال. لن أتحدث عن (بيرون) الشاعر، يذهب إلى اليونان ليقاتل فوق
أرضها إلى جانب شعب صغير يجاهد دون حريته ويكاد يهرق على ترابه دمه. وهو
تراب الفكر الجميلة التي ينتسب الشاعر الملهم إليها، بل أحدثكم عن فلاسفة
عاشوا في الأرض التي درج عليها بيرون وملتون وشكسبير وتحسبون أن هذه الأرض
التي يتغذى التنين فيها من حرية الشعوب أن يمكن أن يعيش فيها إنسان يدعى هـ
. ج ويلز وآخر يدعى سي . أي . م . جود
إنني أقدم ويلز وجود مثالين على أن الحرية بالقيمة
تخرج من المجتمع المحدود لتغدو نعمة للإنسان وأن الليفياتان الاستعماري
هناك على ضفاف (التايميز) لا يمكن أن يكون شيئاً جميلاً ولا أن يدعو إلى
احترام الحرية.
فالكلمة الآن لويلز. قبيل الحرب الكونية الماضية
عندما كان جبل البركان على وشك أن يتخمض بالكارثة، والكاتب يدعو إلى ثورة
عالمية ضد الحرب: أثورة عالمية؟! إن فرائصهم لترتعد، يجب أن يكون الرأي
العام جبهة ضد حكومات السيادة، لأن هذه الحكومات السيدة أصبحت مجرد آلات
حرب. وماذا يعني أن تزول هذه السيادة ويحل محلها سيادة السلم؟! يعني زوال
الإمبراطورية البريطانية والإمبريالية الجرمانية معاً؟! ولماذا لا يجب أن
نجابه هذا. أوَلابُدَّ من الدمار؟ والكلمة الثانية لجود أحد الفلاسفة
الأحياء كما أرجح، وهو ينظر إلى سعة الإمبراطورية البريطانية وضخامة
الليفياتان فيها... إمبراطورية تسيطر على خمسة أوقيانوسات وسبعة بحار وتؤلف
مساحتها 26 بالمائة من مساحة الأرض ويؤلف سكانها رقماً يزيد على مجموعة
أوروبة وروسية معاً. ماذا؟! أين تصب ثورة هذه الإمبراطورية في بريطانيا
طبعاً وبيد من؟! وهنا الجواب لجود الذي يقول ما من دولة بلغ ثراؤها في
التاريخ أضخم من ثراء بريطانية...
ومع ذلك فإن ثمانين بالمئة من رأس مال هذه البلاد
يملكه ستة بالمئة من الناس. ويهبط مستوى المعيشة بين الأفراد حتى ليصبح نصف
سكانها يعيشون في نظام سوء التغذية، أي دون المستوى المعاشي العادي.. أن
مجد الدولة ليس بمجدها الذاتي بل بأفرادها.
وهكذا فإن ويلز وجود ملهمان بالحقيقة والحرية غير
ملزمين بشيء إزاء دولتهما ومجتمعهما والستة بالمئة يملكون ثمانين بالمئة
ويؤلفون الرأي العام البريطاني.. فتفكيرهما لا اجتماعي، وحريتهما مثل حرية
سقراط في أثينة، توجب النهاية بالسم. والسم لا يستطيع أن ينهي أحداً... قيل
لسقراط: بدل آراءك في هؤلاء الناس، فلقد أفسدت الشباب. أجاب أنا أعترف
بجريمتي... وليس لكم علي سوى الطاعة وحكم القانون، وسأشرب السم قصاصاً لي.
وهكذا يستطيع المجتمع الضال أن يأخذ حياة سقراط ولكنه لن يأخذ فتيلاً من
حريته.
أذكر أنني شاهدت حادثة، أو أنني قرأتها في قصيدة أو
قصة عن جواد فتي أصيل أتى به قناصوه من البادية أو اشتروه وهو عنيد ممتنع
وأرادوه لحراثتهم وريهم، لأن من تقاليد القرية أن الحيوان خلق لمثل هذا،
سواء أكان الحيوان حصاناً كريماً أم بغلاً زنيماً، فربطوه إلى نير مع بغلين
ضخمين يدوران ليل نهار بعجلة تمتح الماء من البئر وعصبوا عينيه حتى لا يرى
في سيره الذي لا ينتهي أنه يدور على نفسه ولا يسير إلى جهة. ورفض الجواد
الفتي أن يسلم نفسه للنير ولمحاذاة البغال وللعصابة على عينيه وظل يقاوم
دفعاً والبغلان يشدان جذباً حتى أنهار على الأرض وداسته النعال الغليظة.
حتى الحيوان عندما يؤذى في قيمه يستطيع أن يكون شيئاً من سقراط الحكيم
|