الحداد السوري الشرس الذي أصبح كاتباً وحطم كل شيء
حاوره من دمشق: ناظم مهنا
بعد غياب دام سنوات، عاد زكريا تامر إلى دمشق مرة أخرى آتياً من مغتربه
الانجليزي. وكان تامر منذ حوالي السنتين، بدأ يزور دمشق زيارات قصيرة ومتقطعة،
ويبدو هذه المرة انه سيمضي فيها فترة أطول.
يرى البعض في هذه العودة نوعاً من
المصالحة مع المدينة التي خاصمها يوماً، رغم أنه كتب فيها وعنها أجمل القصص!
ويؤكد هو أنه وهو في البلد البعيد (اكسفورد) لم يغادر مسقط رأسه في الحي
الدمشقي القديم، حي
البحصة. وليس هذا مجرد كلام، فالمدينة مدينته، وموطن صباه
وشبابه.
وهو دمشقي حتى العظم. ولا بد لكل إنسان من أن يكون له مسقط رأس يستطيع
الذهاب إليه، حسب رأي ديوستفسكي. حاجة زكريا تامر إلى العودة، ليست نابعة من
الحنين إلى مسقط الرأس، وأرض الطفولة، فهو قوي وقاس، وأكبر من أن يستهلكه
الحنين، بل هو دافع الفضول والرغبة بالاكتشاف، لأنه يريد ان يتحقق بنفسه،
ويخترق الأقنعة، أقنعة المدينة وأقنعة البشر.
هذه اللوثة المعرفية التي تصيب
المبدعين عادة، هي التي تجعل زكريا تامر يتجول في كل مكان في دمشق، مستنفراً
كامل حواسه، يريد أن يعرف ما الذي جرى، وما الجديد في المدينة، بعد غيابه عنها،
وكيف يعيش الناس فيها ويتدبرون أمورهم! زكريا تامر يزور المكاتب التي عمل بها
سابقاً، ومقهى الروضة، ويجالس الأدباء الجدد الذين تعرف عليهم للتو.
لا أعرف كل
الأماكن التي زارها في دمشق، لكنني أعرف أنه تجول كثيراً في شوارعها وأحيائها
القديمة والجديدة، ترافقه في كثير من الأحيان زوجته السيدة ناديا أدهم. جمعتنا
سهرة في بيت أحد الأصدقاء في دمشق، حضر زكريا وناديا مع صديق آخر، دون موعد
مسبق، وتحدث عن حياته في اكسفورد، وعن ذكرياته في دمشق، وعن الأدب والأدباء،
وعن أسعار الخضار وأسعار البيوت.
عايش زكريا الحياة الأدبية السورية منذ
الخمسينات وحتى مطلع الثمانينات من القرن الماضي، بفاعلية كبيرة، وكان من أبرز
وجوهها، ليس بسبب المواقع التي استلمها، وهي كثيرة، بل لكونه مبدعاً، أثار
جدلاً منذ أول قصة نشرها عام 1957 في مجلة النقاد الدمشقية لصاحبها سعيد
جزائري.
بصراحته المعهودة تحدث هذه المرة، عن تلك الفترة وعن كتابها، الأحياء
منهم والأموات، عن سعيد حورانية، وحنا مينة، وصدقي إسماعيل، وعلي الجندي، وسعد
الله ونوس .. وكان قاسياً في بعض الأحيان، فهو لا يهادن ولا يجامل.
ويستطيع
بطريقته الحكائية الآثرة، ولهجته الشامية (الزكرتاوية) أن يكون من كبار
الظرفاء. وعلى طريقته في كتابة القصة الموجزة والمكثفة، يروي أحداثاً صغيرة
ولماحة. في هذا الجو الحميم، جدد زكريا موقفه السلبي والقديم من النقاد العرب
والسوريين بشكل خاص.
قال: لا يهمني النقد، سواء أكان سلبياً أو إيجابياً،
كلاهما يضر بالكاتب. وهو مثل الأرجنتيني بورخيس، لا يقرأ ما يكتب عنه.
وقال
أيضاً: ناديا تقرأ ذلك وتلخصه لي. وتذكرت أني قرأت حواراً معه نشر عام 1972 في
مجلة المعرفة السورية، جاء فيه: «معظم الذين يكتبون نقداً، ينطلقون من العواطف
التي لا يقف وراءها رصيد فكري صلب وواضح، فيأتي نتاجهم تعابير سطحية عن
انفعالات مائعة.
وحتى المحاولات التي توهم القراء بأنها تملك الخلفية الفكرية
المنشودة، هي محاولات سجينة لأطر جامدة، وكليشات جاهزة، ومخططات ذهنية، وتقع
فريسة لآلية تتنافى وبديهيات الخلق الفني، آلية تشنق الفن باسم الفكر المتطور
المتقدم».
ويقول تامر، لقد اقتنعت بالسير في عالم يخلو من النقاد، وخاصة بعد أن
عرفت نقاداً هم الفصل المبتذل في مسرحية هزلية. ويرى أن النقد فاعلية أدبية
تابعة وقاصرة، رغم صداقته المعروفة لكبار النقاد العرب والسوريين، مثل: محيى
الدين صبحي، وحسام الخطيب، وجلال فاروق الشريف، وخلدون الشمعة، وكمال أبو ديب،
وغيرهم، ومعظم هؤلاء كتبوا عن قصصه! بلغت أعمال زكريا تامر حوالي عشر مجموعات
قصصية، وثلاث للأطفال، وكتاب مقالات قصيرة، هو: هجاء القتيل لقاتله.
ربما يعد
هذا النتاج قليلاً بالنسبة لعمر زكريا الإبداعي، ولكنه نوعي ومؤثر! وزكريا تامر
من المبدعين العرب الذين أنقذوا فن القصة القصيرة من الانقراض، من خلال إصرارهم
على كتابة هذا الفن. واعترف زكريا انه لم يحاول كتابة الرواية، ويعتبرها فن
الثرثرة بامتياز، وهو أيضاً في هذا الموقف يتقاطع مع بورخيس، وقال، انه يحب
القصة، لأنه يستطيع أن يقول فيها كل ما يريد وبشكل طريف.
وقال انه لا يجهد نفسه
في كتابة القصة أو الخاطرة الأدبية أو الزاوية الصحفية، يمكنه أن يكتب في أي
مكان، في الطريق أو في السوق أو في البيت، ومن العادات التي اعتاد أن يمارسها
هناك، أن يركب القطار مسافة ساعة، ويعود، فقط من أجل السفر، وأن نشاطاً ذهنياً
يمنحه إياه هذا السفر المجاني. وهو يحب اكسفورد لأنه يتجول فيها بحرية وبعيداً
عن أعين الناس، وهناك لا يضطر أن يهتم كثيراً بمظهره وهندامه مثلما يفعل هنا.
وتحدث عن طريقة غير دارجة نهجها في كتابة القصة هناك، وإن كانت ليست نادرة في
آداب العالم، استخدمها السورياليون، كما استخدمها بعض الشعراء العرب القدامى،
مثل: أبي العبر، وأبي الشمقمق، كلاهما من العصر العباسي. طريقة زكريا في أن
يغمض عينيه ويفتح القاموس، ويمرر سبابته على الصفحة ليختار كلمة يقيم عليها
قصة. قد يعتبر البعض أن في ذلك مثلبة تحسب عليه، لكنها طريقة في الإبداع،
وعلينا بالثمرة أولاً، ثم يأتي الناطور لاحقاً.
سئل عن الكتاب الذين أثروا فيه،
وأجاب: أنا ابن تجربة حياتية بالدرجة الأولى، اكتشفت القراءة بنفسي منذ سن
مبكرة، كنت أقرأ أي كتاب يقع بين يدي حتى لو كان في الزراعة أو في الاقتصاد أو
في العلوم العسكرية أو في الأدب. منذ سن الثالثة عشرة جذبني شكل الكتاب، والحرف
المطبوع، وقرأت الشعر والسير الشعبية وتأثرت بها.
لا يكفي أن نقول عن قصص زكريا
تامر ان عالمها طريف وحسب، بل لا بد من الإشارة إلى عمقها وأصالتها النادرة،
وقد اخترق منذ بداياته تقليدية السرد القصصي العربي، وفتح لنفسه أفقاً ميزه عن
الجميع، ووسم قصصه بالتفرد، والأصالة والجدة في آن، بالإضافة إلى شاعريتها
وكثافتها.
ولكل هذه الأسباب، استحق هذا العصامي، والحكواتي البسيط أن يكون
كاتباً عالمياً. وحين نقلت له ما قاله هاني الراهب عنه، قبل أيام من رحيله، أنه
يعتبره من أهم مبدعي القصة في العالم.. اغتبط زكريا ونظر إلى السيدة ناديا
بسرور، وقال: أنا أعرف رأي هاني بي، وسبق أن قاله لي.
وعن تكريمه رسمياً في
سورية، قال: إن أفضل تكريم بالنسبة لي أن يعيش المواطنون حياة كريمة، وهذا ما
قاله للمسؤولين السوريين أيضاً. كتب زكريا تامر للأطفال وللكبار، وميز في
كتاباته بين اللغة الموجهة لكل منهما، لكنه ظل في معظم ما كتب طفلاً يخاطب
أطفالاً.
من دنيا الطفولة وما تزخر به من عذوبة، وخيال، وشقاوة، وأحلام، اغترف
زكريا تامر، ولكن أي عمق في هذا الطفل الذي رسخ صورة الحاكم الجائر المستبد،
كوحش شره ونهم، وصورة البطل في التاريخ كمأساة، والإنسان كرهينة تتطلع إلى
الحرية.
في قصصه الشخصيات واقعية، لكنها تمضي في حقول غير واقعية، فالأحياء
يكلمون الأموات، والأشجار تتحدث للنهر، والمذبوح يحاكم الجلاد. وكما في خيال
الأطفال، كل جماد يمكن أن يتحول إلى حي ناطق. وكما يبرع في التكثيف وخلق الحدث
الحكائي، كذلك يبرع في الحوار، حيث يبدو أحياناً عادياً إلى درجة السذاجة،
وبريئاً إلى حد البلاهة، لكنه، ومن حيث هو كذلك، في غاية الرشاقة والتأثير،
والمفارقة الأهم عنده، تكمن في التمازج بين الطفولة والقسوة، بين ما هو طري
وجاف.
وهذه هي شخصية زكريا تامر كما أراها، القاسي واللين. وعن جانب الشراسة
فيه، كتب صديقه محمد الماغوط: «بدأ زكريا تامر حياته حداداً شرساً في معمل،
وعندما انطلق من حي البحصة في دمشق بلفافته وسعاله المعهودين ليصبح كاتباً، لم
يتخل عن مهنته الأصلية، بل بقي حداداً وشرساً ولكن في وطن من الفخار، لم يترك
فيه شيئاً قائماً إلا وحطمه، ولم يقف في وجهه شيء سوى القبور والسجون لأنها
بحماية جيدة».
أضيفت في 25/06/2005/ خاص القصة السورية / عن الشرق الأوسط 24
يونيو 2005
الجوائز
تمنح في أرذل العمر لأنه لا يوجد في العالم رامبو آخر
منذ اكثر من ثلاثين عاما، وزكريا تامر يكتب هذا اللون من القصة
القصيرة، واذا كانت مجموعته الاولى (صهيل الجواد الابيض) قد صدرت في طبعتها
الاولى عام 1960م،
فمعنى ذلك ان الكاتب قد بدأ رحلته الكتابية في خمسينيات القرن
العشرين، ليس طول الفترة من الابداع هي التي تثير الانتباه، الا ان هذه النصوص
الباهرة التي تشد قارئها وتجبره على المتابعة المتحفزة والممتعة والقلقة هي
التي تفعل فعلها.
ان الكاتب زكريا تامر يمثل ظاهرة، ربما تكون فريدة بين كتاب
القصة القصيرة في الوطن العربي، فضلا عن كونه على المستوى التاريخي، يمثل جيل
الرواد الاوائل في الوطن العربي، فان استمراره وتدفقه في كتابة هذا الجنس
الادبي والاخلاص له والتنويعات التي ادخلها على مجمل تقنياته وعدم التكرار في
الموضوعات والزوايا التي يدخل من خلالها الى جسد النص هي التي تفسر بعضا من
اسباب هذه الفرادة، كذلك فان الاكتناز اللغوي والتكثيف الشديد واللغة الموحية
السلسة التي تبلغ حدود الشعرية احيانا هي الاخرى تساهم في تعليل فرادة هذا
الكاتب.
ولد زكريا تامر بدمشق عام 1931، واضطر الى ترك المدرسة عام
1944م، وبدأ كتابة القصة عام 1958، وكتب ايضا المقالة القصيرة الانتقادية وقصص
الاطفال، ويقيم ببريطانيا منذ عام 1981.
حوار: مجدي ابوزيد
بدأ القصة في منتصف الخمسينيات كحالة كثير من كبار المبدعين
الذين بدأوا في العقدين الذهبيين الخمسينيات والستينيات. تعامل مع شظف الحياة
مبكرا حيث فرضت عليه العمل في مهنة تحمل اقصى المفارقة حين يتشكل من رحمها
وتفاصيلها مبدع بحجم زكريا تامر. ترك دراسته امعانا من الحياة في حرمانه من
ابسط حقوقه لممارستها ومع ذلك لم ييأس او يسلم ناصية موهبته لمنغصات الحياة هذه
المهنة هي الحدادة التي كان يقتات منها قوت حياته لكنه كان يستل خبز ابداعه من
قبضة المواجع والقلب النابذ لكل التفاهات والبلادات اذ تسلح بالغضب والتمرد،
استعان بالبصيرة لكي يقرأ ما خفي عن الجهلاء والمتعامين.
لم يسع الى الاضواء، كان يكتب في صمت وينشر في هدوء لكن يبدو
انه لم يتحمل الحياة حوله فغادر الى فضاء آخر ربما يحتويه فكانت لندن عاصمة
الضباب فعمل كمحرر لدى شركة رياض الريس وتولى عمله ايضا كمدير تحرير مجلة
الدستور وبدأ يلمع اسم زكريا تامر ولا غضاضة اذا قلنا ان مجموعة النمور في
اليوم العاشر هي التي لفتت الانظار لابداع هذا الرجل، فقد كانت صدمة بكل
المقاييس للذائقة العامة التي تعودت على الشخصيات الانسانية كمحور للحدث القصصي
ومجريات السرد الفني بعدها او قبلها بقليل بدأت ترجمة هذا السيل من الانتاج «التامري»
وقام البعض باعداد دراسات ورسائل ماجستير ودكتواره وهو مالم يحدث للكثير من
المبدعين اللهم إلا في مجال الشعر مثل الشاعر العراقي البياتي على سبيل المثال.
وزكريا تامر رجل رافض لكل شيء، لا يقبل مقولة ان مشروعه
الابداعي خارج من عباءة ما، يجزم انه خارج السرب وانه لايغرد بل يحمل ناقوس
الخطر بمعنى اخر لايشرح الواقع بل يشّرحه ويقترب بجرأة غريبة من الكتلة الغاطسة
تحت سطح الحياة المعروفة ليقدم لنا نماذج مهولة وغريبة عن الوعي الساذج لكنها
في نهاية الامر موجودة وبقوة لكنها تحتاج الى التبصر واعمال الوعي وفيما وراء
المنظور والمشهود.
اقتربت منه وانا ممتليء بتجربته القصصية التي تعتبر احدى
العلامات الفارقة في القص العربي.. كل ما امتلكه هو قسوته السردية، وقانونه
تجاه البشر ورعوده عن معنى الحياة وفحواها، حصان جامح لاتغريه البراري ولا
ليونة الاعشاب رجل لايعترف «بالفخفخة» الحياتية، لا تغويه الطقوس والمراسيم،
فهو وصيف المعاني المريرة، والقسوة المبررة والقوانين الانسانية المدفونة تحت
ركام الصمت والخنوع.. جعل النمور تعتاش على النباتات، وسخر الموتى «المحمودي»
لخدمة السلطان والجاه المستبد.. جمع بين رقة كاتب الاطفال وصلابة كاتب الكبار
اقتربت منه فوجدته هادئا مخفورا بالطيبة والياسمين «قلت في نفسي: ها انت تخسر
رهانك على طبيعة الرجل.. لكن ما ان بدأ الحوار حتى استعدت رهاني الرابح.. انه
زكريا تامر الفائز بجائزة العويس، مناصفة، عن القصة القصيرة.
ـ ماذا يعني لك
حصولك على جائزة العويس في حقل القصة القصيرة؟
ـ لقد سعدت حقاً بفوزي بجائزة العويس، فهي تكريم لي وللقصة القصيرة العربية،
فهذه أول مرة تمنح فيها جائزة العويس لكاتب لا يكتب غير القصة القصيرة، ويؤمن
بها جنساً أدبياً مؤهلاً للتطور والتجدد، وبأنها قادرة على تفجير طاقاتها
التعبيرية، والاستفادة من الأجناس الأدبية الأخرى.
ـ الجوائز
العربية متهمة بأنها تمنح غالباً للمبدعين في أغلب المجالات، وهم في أرذل
العمر، فما تعليقك على ذلك؟
ـ من الروائع ان تمنح الجائزة لكاتب لايزال شابا، لكن مانحي الجوائز لا
يستطيعون الاقدام على مثل هذه الخطوة، وهم مضطرون الى منح جوائزهم لمن قدم
انتاجاً متكاملاً، وله اسهاماته في تطوير الأدب والثقافة، خاصة ان الوطن العربي
لا وجود فيه لرامبو آخر. لكن في الحقيقة أنا مندهش من ان تمنح الجوائز لبعض
الشباب بينما أساتذتهم مركونون على الرف.
ـ بعض المبدعين
الفائزين بجوائز كبيرة تنتابهم حالة من الكسل الابداعي، فماذا عنك بعد حصولك
على هذه الجائزة الكبيرة؟
ـ ساذج من يظن ان الراحة المادية للكاتب تغريه بالتكاسل، فالكاتب مخلوق من لحم
ودم، ويحق له ما يحق لغيره من الكائنات البشرية، أما الأوهام الزاعمة بأن الفقر
ينمي الموهبة ويصقلها، وان الشقاء يشجع على الابداع والابتكار، لهي أوهام لا
يليق بها الا الدفن، ومادمت كنت أكتب بنشاط من دون أي تقدير معنوي أو مادي،
فليس من المعقول ان أستسلم للكسل بعد التقدير غير المتوقع الذي نلته، عموماً
أنا كتاباتي مجانية وليس لها ثمن، لأنها للحياة والانسان.
ـ كيف تنظر للقصة القصيرة؟ وهل ثمة تطورات لاحظتها في الأجيال
الجديدة من مبدعي هذا الفن؟
ـ القصة القصيرة هي بحق الغرفة الأنيقة التي تحتاج الى ذوق رفيع
وحساسية مرهفة لتأثيثها بعناية فائقة، وهي شكل من أشكال التعبير الأدبي القادر
على التطور والتجديد.
ـ البعض يقول ان القصة العربية القصيرة أخذت شكلها النموذجي
والمثالي على يد يوسف ادريس.. ما هو تعليقك؟
بغضب شديد:
ـ ما أكتبه من قصص ليس له أية علاقة بيوسف ادريس، وهذا القول
ليس انتقاصاً من المكانة الفنية ليوسف ادريس، بل هو وصف لأمر واقع. ولا وجود
لناقد عربي ادعى وجود مثل هذه الصلة بين عالمي القصصي وعالمه. يوسف ادريس نجح
في التواصل مع النماذج الحياتية بلحمها وشحمها وواقعيتها، بينما أنا قمت بأسطرة
الواقع عبر استدعاء واكتشاف نماذح انسانية لا تخطر على بال، لكنها موجودة. هذه
الأحكام غير منصفة، وتعبر عن قراءة يعوزها الوعي، فما أكتبه بعيد كل البعد عن
عباءة ادريس.
ـ هل لنا بتوضيح أكثر تفصيلا في هذا الموضوع؟
ـ لست ناقداً حتى أشمّر عن ساعدي وأحاول تحديدها اذا كان ادريس
يملك حقاً عباءة تحولت الى دار توليد لأفواج من الأدباء الجدد الحاملين
للروايات الادريسية يلوحون بها تخليدا للراحل الذي اختار التواري مبكراً تاركا
لهم عباءته. وإذا وافقنا مرغمين على القبول بالزعيم الأوحد في المجالات
السياسية، فهل المطلوب منّا متابعة المسيرة؟.. لماذا لا ننادي بالفريد الأوحد،
بمعنى تباين البصمات الكتابية على مستوى الابداع.
عموماً هذه الأحكام تعبّر عن حالة عربية متخلفة استمرأت شعار
الزعيم الأوحد في كل المجالات. ويجب ان تعرف ان يوسف ادريس اشتهر بجرأته
وبراعته في تصوير الواقع المصري، لكنه لم يشتهر ولم يعرف عنه انه كان مجدداً في
مجال الأساليب الفنية أو أشكال القصة أو قدرته على المغامرة الفنية.
ـ في فترة الخمسينيات وحتى منتصف السبعينيات كان بطل القصة هو
محور النص والمؤثر الوحيد في الأحداث، وهو ما يرفضه النقّاد والمعاصرون، حيث
فضّلوا ان تكون الشخصية علائقية، أي تستمد فاعليتها من خلال شخصيات هامشية
رافضين في الوقت نفسه الاتكاء على شخصية تاريخية بحجة ان دلالاتها الماضوية
تفتقر لخدمة المستقبل.. ما رأيك؟
ـ بالنسبة للجزء الأول من سؤالك: أنا لا أهتم بما يقوله النقاد
وبتصنيفاتهم الغريبة، فالناقد العربي في رأيي كائن غريب وطريف، فإذا كتبت عن
دمشق قالوا انه يقصد بيروت، ولو كتبت عن الشرق قالوا انه يعني الغرب... وهكذا.
أما بالنسبة للشخصية التاريخية فهي دليل آخر على رأيي في النقاد العرب وما
يلوكونه من عبارات فارغة، لأن استخدامي احيانا يعتبر وسيلة من وسائلي لاثراء
الواقع. تسليط المزيد من الاضواء على جوانب مظلمة، فكيف يمكن اضاءة الحاضر
واستشراف المستقبل دون اللجوء الى تجارب التاريخ وشخصياته.
ـ ما سر القسوة أو لنقل الافراط في القسوة ـ إن سمحت لنا ـ وذلك
عبر رسم شخصيات تصل لحد العجائبية المهينة احياناً؟
ـ سؤالك هذا يصلح لأن يسأله سائح لا يعرف الوطن العربي، لأنني
أزعم بأن أكثر قصصي قسوة هي أقل قسوة من الحياة العربية المعاصرة، وأنا لا
استطيع وصف السماء بجمالها الأزرق متناسياً ما يجري تحت تلك السماء من مآس
ومجازر ومهازل.. صدقني الأسطورة أصبحت أكثر تصديقاً من واقعنا المرير.
ـ هل انعكس عملك كحوار في هذه القسوة الابداعية؟
ـ أشكرك على هذه الالتقاطة الجميلة، لكن يجب ان تعرف انني عملت
نجاراً ايضاً، وعملي كحداد في بداية حياتي ليس له دور، أي دور في اسطرة الواقع،
او في القسوة عليه، بل ان دوره ينحصر في كيفية تعاملي مع الواقع، لانني اعتبره
مجرد مادة خام قابلة للتشكل، والحداد هنا قادر على ان يصنع من قطعة حديد واحدة
مئات من الاشكال، كل شكل له استخدام مختلف عن الاخر، ولقد علمتني الحدادة
القدرة على استيلاد اكثر من واقع مرير يختفي في الواقع السائد والمألوف لنا،
لذلك ما اكتبه لا اعتبره قسوة، كل ما افعله هو ان اضع القارئ امام المسكوت عنه،
او غير المقروء، او المدجن.
ـ«النمور
في اليوم العاشر» هي التي قدمت زكريا تامر للناس، رغم انه يكتب القصة منذ منتصف
الخمسينيات، هذه القصة التي انتهت باستئناس النمرالى ان تحول الى حيوان
كاريكاتوري.. هل هذا هو رهانك على الانسان العربي؟
ها انت وقعت في الخطأ الذي وقع فيه كثير من النقاد والقراء.
لم يفكر احدكم، او بذل جهداً فكرياً في معنى اختياري للنمر
كنموذج لهذه القصة. النمر يا عزيزي هو الحيوان الوحيد الذي يستطيع ان يعود الى
طبيعته الحيوانية في اية لحظة مهما حاولت ان تدعي ترويضه واستئناسه في السيرك
مثلاً.. لذلك فإن قصة النمور في اليوم العاشر تعني في المقام الاول ان الانسان
العربي سيعود الى طبيعته الانسانية الحقة ليصلح الاوضاع العائلية، والدليل على
ذلك ما يحدث في فلسطين المحتلة الان.
ـ لكنك انهيت
القصة على ان النمر تحول بشكل نهائي الى كائن يخضع لشروط سيده؟
ـ وهل مطلوب مني ان اضع الحلول لكي تتحول قصصي الى خطبة منبرية عصماء.. القصة
الحقيقية هي التي تتسم بالنهايات المفتوحة، وليس ذنبي انك اخفقت انت وغيرك في
فهم دلالة وجود النمر كبطل لقصتي.
ـ وما دلالة اليوم العاشر؟
ـ لا دلالة ولا يحزنون انها مجرد صدفة وهي من عندياتي.
ـ ما جديد تامر زكريا الابداعي؟
ـ لدي ثلاث مجموعات قصصية بعنوان الاغتيال، ولماذا سكت النهر،
وسنضحك، قد ترجمت الى اللغة العربية. اما مجموعة «نداء نوح» فقد ترجمت الى
الايطالية. ولقد صدر لي هذا الشهر مجموعة قصصية جديدة بعنوان «تكسير ركب».
ـ لماذا اشعر من خلال صوتك وملامح وجهك بأنك غاضب من شيء ما، او
ناقم على اشياء حدثت لك في هذه الرحلة؟
ـ كم وددت ان تعفيني من هذا السؤال، لكنني سوف اقول لك ما يصلح
للنشر.. جائزة سلطان العويس معروفة ومهمة للمبدعين العرب، وكل يوم تكتسب
مصداقية ما.. ولقد انتظرت طويلاً ان يرشحني ناقد او مفكر، او مبدع كبير، فلم
يحدث، وكنت اشعر بضيق شديد من هذا التجاهل لي. وعندما علمت ان المبدع بامكانه
ان يرشح نفسه، استغربت كثيراً من هذا الذي يقول عن نفسه «انا مبدع كبير يستحق
جائزة» .. وظللت على هذا الاستغراب والرفض، حتى وجدت الوقت يمر وانا ارى كبار
المبدعين يرشحون انفسهم، ويفوزون، لذلك قمت بترشيح نفسي للجائزة، وهذا الامر
يحزنني جداً رغم فوزي بالجائزة. اما باقي الامور فلا داعي لها منها لأني اشعر
بالاشمئزاز بمجرد تذكرها.
|