موقد الاحلام
كم وطأتني الاحلام .. وأنا أنوء بحملها .. أطنان .. أطنان من الاحلام ..
تثقل كواهلي .. لكنني استمريء ذلك والوذ بألمه .. فأنا عاشق متيم بالحلم
..فحياتي صحراء قاحلة ليس لي فيها سوى حلم هو عبارة عن واحة خضراء وسط بحر
من الرمال السافية .. حتى صار عندي الحلم كالروض في العام الارمل !! . بل
صارت حياتي ماءاً راكدا أخشى ما أخشاه أن يأسن اذا ما ضيعت احلامي .. كأن
حياتي وقوف في قلب الصحراء تنتظر السحابة ـ الحلم ـ : (( غيمة محلاة بالبرق
في وسطها واطرافها تمطر بماء الورد من طل وطش .. وتنثر حصى الكافور كانه
صغار البرد . )) .
بل رحت اعتقد بان نهاري بدون حلم كنهار لم تنضخه الشمس ولم تنديه السحب ،
وليلي بدون حلم .. كليل لم تطرزه النجوم .. ولم يفضضه القمر . عدت ادراجي
الى البيت تتقدمني خيول الاحلام الوردية .. واجر خلفي قطارات الاحلام
الكسيحة .. وانا اترنم هياما بحلمي بقول الشاعر : ـ
يامن اياديه عندي غير واحدة ..
ومن مواهبه تنمو من العددِ
مانابني من زماني قط نائبـــة ..
الا وجدتك فيــها اخذاً بيدي
*****
ولكن ما ان داست قدماي عتبة الباب حتى لفحني ضرام أوار فتفصد عرقي ميزابا
.. : أي اماه أبعث النمرود او نيرون ؟ فقالت : صه .. بل برد وسلام عليك ..
هذه محرقة اوهامك واحلامك التي كادت تودي بك !! هات .. خيولك وعجل بقطاراتك
الى هذا الموقد .. بحقي عليك .. ان عرفتك الا ابنا باراً مطيعا .. وهي تردد
على مسامعي قول الحكيم : (( هلك من ليس له حكيم يرشده )) .. والحال اني ليس
الى ردها مآل .. لان عاقبة العقوق اهوال كما كنت اعتقد .. فطأطأت دامعا
ومرددا قول الشاعر :
ما حيلة العبد والاقدار جارية ..
عليه في كل حال ايها الرائي
القاه في اليم مكتوفا وقال لــه ..
أيـــاك أيـــاك ان تبتل بالماءِ
فقالت يابني لا عليك ، اني رايت اني احرق احلامك واوهامك .. بل انقيك منها
كما اموص الثوب من الادران فانظر ما تقول ؟ ، فقلت يا اماه افعلي ما ترين
ستجدينني ان شاء الله من الصابرين .
فقالت : بوركت ياولدي .. ، وقد تهللت اساريرها .. وترددت بين نور وجهها
البهي الضاحك .. وبين السنة النيران التي تلحس صفحة السماء ولا تخلف الا
رماد احلامي وفراشاتي المتهافتة على اللهيب .
ثم قالت : الحمد لله يابني الان وقد عدت الى ذاتك ونفسك وشخصك واهلك بعد ان
رحلت مديدا وسافرت بعيدا في عالمك الغريب والعجيب .
فقلت لها : انما انا طوع امرك .
قالت : اذن هات يدك اليمنى .. لاضع فيها هذا السوار النحاسي الذي كلفني
كثيرا لادخره لهذا اليوم .. فاياك اياك ان تنزعه من معصمك الايمن ولولبرهة
واحدة لا في ليلك ولا في نهارك .. اتفهم يابني .
فقلت لها : لكن يااماه ! ..
فقالت : اياك اياك .. ان تفعل الا ما آمرك به ..
فتضرعت اليها بعد ان قبلت يدها .. وضمتني الى صدرها وقالت : لكن يابني
حرارة دموعك .. قد حرقت قلبي .. ليس في اليد حيلة .. هذا قدرك .. وليس لك
ان تفر من قضاء وقدر انت صريعهما .. لان هذا علاجك الوحيد من اوصابك
المزمنة .. ليس امامك الا الكي بالنار وتزيين معصمك بهذا السوار .. وها انا
فعلتهما ... !!
ثم اردفت قائلة : هذا السوار يفيدك في حياتك .. لبدنك ونفسك لحياتك وواقعك
لكل شيء الا انه ليس له علاقة بقلبك قط .. فافهم كلامي واعرف مرامي ..
يابني انا اشعر بضعف حالي واظني مفارقتكم عما قريب فاحفظ عني اثنتين وضعهما
قرطين في اذنيك : الاولى ان لاتنزع هذا السوار من معصمك ابداً ، والثانية :
حذار من ان ترتد الى عالمك الغريب عالم الاحلام والهلوسات .. لانك من
المفروض ان تكون قد طلقته طلاقاً بائناً بينونة كبرى كما امرتك بذلك !! .
فقلت : يااماه لكن قلبي اصبح مطاف كل القلوب التي تدرك الجمال ..
فقالت : يابني اجعل من قلبك اركيلة .. امتص زائريه ثم انفثهم مع زفيرك
واقتهي من فنجان سوارك النحاسي تعش سعيدا ما حييت ..
فتمتمت مع نفسي بقول الشاعر :
لو كنت اشرح ما القـــاه من حرق ..
من سقام ومن وجد ومن قلق
لم يبق في الارض قرطاس ولا قلم ..
ولا مداد ولا شيء من الـورق
*****
فهلت دموعي مطراً .. في أرضي السبخة منذ اليوم .. والذي يبدو أنها لاتروي
نبتة .. في هذه الفلاة ، بينما كانت أحلامي نهراً رقراقاً يجري في روحي
ووجداني ..!!..
كنت فرط الام أحلامي أئن .. وفي لظى الشوق أحترق .. رغم أني
ملزم بواقع يضرب بطنانه عليّ بكل قساوة العهود .. وصلابة الأعراف .. وقداسة
الطاعة ، لكنني كلما تأملته مليا ًوجدته مجرد خال في وجنة أحلامي غير
المباحة ..ولكم بدت شبابيك مراودة أحلامي متهتكة المصاريع .. وكلما حاولت
تلك الأحلام النفاذ من الأبواب حرة .. سارعت الى إيصادها وأحكام إغلاقها ..
لكنها تنفذ من الشبابيك مضطرة وتشعل تنور قلبي مرغماً .. لكنني أخشى أن
يسلخ جلدي سلخاً .. لذلك قمت بإخاطة شفتي حتى لاتنبس او تهمس فيراق دمي
الفوّار بمحبة أحلامي .. قطرات دمي تضاجع الأحلام بلسان صدق رقيق الكلمات
ليس بألفاظه وتعبيراته بل بدموع صيرت ظهري صخرة توجع سياط جلاديها ..
وفي غفلة من غفلات الواقع كلما عثرت بحلم رأيت على خده لون سنابل القمح
الباسقة تحت لهيب شمس اوجاع ظهري المحدودب من الصباح الى المساء .. وفي ظل
اثمي هذا وشعوري بالذنب .. تحكي لحاظ هذا الحلم أسرار النجوم .. نجوم سماء
السواد التي تطوي درب أوهامي .. وتغسل مقلها في موقد أحلامي .. أحلام
وأحلام عثرت بها .. أعرف انها محرمة .. وأعرف أن عثراتي غير محسوبة ..
وأعرف أنها تراودني عن نفسي من حيث لاأحتسب .. لكنني بريء من مداعبتها أو
منادمتها براءة الذئب من دم يوسف !! .
*****
هاتف نزع الكرى .. من جوانح افلجها الجوى .. بل هاتف فاقم الوجيب .. ليتني
لي ان اجيب ، الّح الهاتف : انك عثرت بحلمك الجديد حتى كبوت على ناصيتك اما
ترى الى قولك :
مأملتي بالبوح .. واللوم اوله
عاذلتي بالصمت .. والدمع يجلله
فإنسابت على شفتي كلمات .. (( ان سر خلودنا في المحبة )) ..
وقلت وكان حلمي يردد معي قول الشاعر :
سلام من خزائن لطف ربي .. على من عندها روحي وقلبي
لكنني لم اذق عسيلة حلمي .. ولم اطعم شهده إلاّ لماما .... وماهو الا كلمح
البصر حتى اخذ الحلم منحى آخر
........................................................ : (( كل ما
اعرفه انني وجدت في ما املك سوارا بلوريا ظاهره كباطنه يسر الناظرين ،
فزينت به معصم يدي اليسرى .. وكنت ارتدي قميصا ذا اكمال طويلة .. فما راعني
الا والسوار قد ادمى معصمي بدم عبيط .. وبلل كم القميص فجعله قانيا ..
فوجدتني اهرع الى الطبيبة وكانت جارتنا لكنني لم اتذكر من الذي انتزع
السوار من يدي انا ام الطبيبة !! ..
قامت الطبيبة بواجبها على اكمل صورة فنظفت الجروح وعقمتها وكتبت لي وصفة
طبية قائلة : هذا علاجك الوحيد .. ، وكانت مادة دوائية واحدة .. بعدها ذهبت
الى الصيدلية لاقتناء الدواء .. ففوجئت بالصيدلاني وهو يناولني حقيبتين
ملئتا بتلك المادة الدوائية ..
وقال : لابد من تناول هذه المادة وبكل هذه الكميات وبحسب الجرعات اليومية
الصغيرة .. وفي هذه اللحظات حضر شخص من اقاربي وقام بحمل الحقيبتين واخذني
الى بيتي .. )) .
*****
وعندما استيقظت باكرا وليت شطري الى العرافة .. فلما عرفتني صاحت بي :
واخيرا اصبحت من زبائني .. فقلت لها : لي اليك حاجة ان لاتفشي سري ، على ان
تكون هذه الزيارة الاولى والاخيرة .. فقالت : لك ذلك لوصدقت الاماني !! ..
فقلت لها هات بصريني بعد ان تلوت عليك من رؤياي ماسمعت ، فقالت : اما
السوار فانت تعرف تفسيره واما كونه بلوريا مزججا فلانه يشي بحسن طوية
المكنى وسريرته شفيفة .. وقد زينت به معصمك بوله وهذا يعني صدق نواياكما
معا ..
واما تزيينك لمعصمك بذياك السوار .. فهذا يعني رغبات متبادلة بين الاثنين ،
فقلت لها : لكنه ادمى معصمي .. اتنسبين السبب الى المعصم ام الى السوار؟ ،
فقالت يابني لعله حدث كون للسوار ثم رددت قول الشاعر:
فكان ما كان مما لست اذكــره
فظن خيرا ولا تسال عن الخبر
وقالت : ولعلّ السوار سيخبرك بالامر لانه لايكتمك سرا ......!.
ثم اردفت : اما من انتزع السوار من معصمك فانك لاشعوريا تريد ان ترمي
الطبيبة بهذه الجريرة ! .. وسوف تبقى ندوب الجروح ماثلة على معصمك ما حييت
! .. وتشير الحقيبتان من الادوية الى ان شفاءك سيستغرق سنين طوال ، فقلت
لها : وهل لي امل في الشفاء ؟ . فقالت :ـ تلمس اذنيك .. ففعلت ، لكنني
ارتعدت وصرخت موليا : سابحث عن قرطي المفقود ! فصاحت بي : ليس لك امل في
الشفاء مالم تحافظ على قرطيك والا فانتظر حتوفك كما تنبأت لك قارئة الكف من
قبل ! وبينما انا ابحث عن القرط التفت الى معصمي الايمن فاذا بالقرط معلق
بالسوار النحاسي !!! .
عين السمكة
نضارة الشباب هربت من ملامحها .. ولم تدع خلفها سوى أوشال كبرياء تدب في
عروقها الثكلى .. ربما كان يخالجها إحساس عميق أن ما تفعله مجرد زيف ..
ترى هل أن الوضوح والبوح بالحقيقة سيقنعها .. أنها تخاف على هذا الشي
الجميل في حياتها من الضياع ؟ .. العاطفة الراقية الجميلة الشفافة ! .. كل
شيء قبض ريح .. حياتها أصبحت كمدينة مسجاة على صناديق الديناميت .. هاهي
وحيدة كدمعة يتيمة .. فقد توفي الأب العليل الذي هجرته الأم مبكراً وتوارت
في دهاليز الحياة وهمومها كطير يتلاشى في الأفق ، .. نعم لقد أدت ما عليها
.. رعت أباها ومكنت لأشقائها حتى كونوا أسرهم ، واليوم تتلمس منهم شيئاً من
الجفوة .. وفقدت كلماتهم الدفيء العاطفي الذي كان يميزها .. لا يضيرهم
غيابها .. ولا يكترثون لها قليلاً آو كثيراً !!! والأنكى من ذلك انضمامهم
الى زوجاتهم في الكيد لها .. لقد أخطأوا في حقها وتنكروا لجميلها وتجاهلوا
حبها الكبير وتضحيتـها الأسطورية ، .. فقد رفضت الزيجات المعروضة عليها
جميعاً من أجلهم وان كانت هي البكر بينهم :
قالت معلمتها ايام التلمذة وهي تداعبها .. وتنهرها من معاقرة الحزن :
- في رضاب الزمن حلاوة وفي فمه تبسم ونداوة وعلى محياها طلاوة .
- ليس لك يا ست ان تعبثي بقناعاتي .. كأنها فاقدة الوعي بما يشبه الموت
السريري ! .
تتذكر جيداً كلمات والدتها .. وهي تراها للمرة الأخيرة .
- لكني اكتشفت ان الدهر يصر على الاحتفاظ بغموضه .
- نعم يا أمي فهو لا يتحدث عن نفسه إطلاقا.. ويختار اجابات مقتضبة ومبتسرة
.. كأبكم يتأتي في كلامه .
ويعلق الاب على كلمات زوجته التي خلعته كثوب بالٍ .
- فلم يكن غموضه الا كتمان اسرار عنيفة يعانيها وتسري في دمه .
- يا أبتي يعانيها ونعانيها .. وتسري في دمه ودمائنا !.
انزلق الدمع من عينيها جدولين - توجس وحيرة .. اترتق ذاتها بصدغها
المشروخ ؟ … ام تقتات اشلاؤها الجذلى من اوصاب تذرف آهات تموسق آلام
الحرمان ؟ املاً في ان ترسي في مرافئ راحة طالما افتقدتها !! .. في
البداية توجست ريبة من نواياه … اذ جاءها في وقت كانت توطد نفسها خلاله على
العيش ضمن زمر الفتيات العوانس اللواتي يحفل بهن المجتمع ، كان وليد موظفاً
بسيطاً .. لم يحصل على تعليم متقدم .. لكنه يدعي انه بصدد اكمال تعليمه
الجامعي لتحسين وضعه الوظيفي .
قررت (( ترياق )) ان تغادر حالة العنوسة .. ولكن لا يعني ذلك ان نفسها
خالية من مساحة من التشاؤم .. لعلها تتصالح مع الزمن .. ام انه صلح مؤقت
ومضلل ؟ .. اذ كانت ترى بان الرجال يقدمون الحياة بطريقة مخادعة فيها
الكثير من الغواية !! كثعالب تمتهن المراوغة والزوغان .. ان من تزوجته بعد
طول انتظار كان رجلاً تخترق حياته مشكلات لاقبل له بها .. شخصيته تتكيف مع
المشكلات وتتوائم معها وكأنه واياها توأمان!!.. لكنها شعرت ان هذا الرجل
يأخذها الى عالمه رغم اهتراءه على نحو جارف ، وشعر هو بذات الاحساس المشبوب
.. فجأة تغيرت ظروفه جذرياً .. اذ تم الاستغناء عنه في عمله .. فاتجه للعمل
في القطاع الخاص ففشل ايما فشل وكادت ان تتلاشى احلامه .. ففكرت بالنيابة
عنه في ان يرمم نفسه .. وان يصارح ذاته بعيوبه الحقيقة .. لتصلحه وتنتشله
من سبة الضعة وتضعه على جادة الامل .. تعاون الزوجان على بناء منزل العمر
بطابقين .. وانجبا من الاولاد اربعة ..
ذات يوم جاءها وليد يتصبب عرقا .. يبدو شاحباً كليمونة .. ففاجأته بسؤال:
- بودي ان اسألك ما اذا كان هناك أي شيء حدث قد يعكر صفو مودتنا ؟
لم يجرؤ على التخلص من المشكلات التي نسجت حوله خيوطها .. فانفجر في نفسه
لعناً وسباً وهددها بالويل والثبور اذا لم تقم له نقاط المتاريس مرة اخرى
!.. ليس له ان يوقف نفسه عند حدها ويقول لها : كفي ! .. فترياق اصبحت في
نظره عجوزاً شهباء .. نحيفة تبدو كما لو كانت مومياء حية، منذ ان تزوجها
كان يتصرف بحذر شديد كأنه يتحرك فوق طبقة رقيقة من الثلج .. وعبثاً حاول
اخفاء الحقيقة عنها بعد ان تلمس في عينيها الباكيتين تمرداً والماً لم
يعهدهما فيها من قبل .. وكان من المستحيل ان يرى عينيها الباكيتين وهما
تستغيثان طلباً للعرفان بالجميل .. ضاع كبرياؤه المفتعل .. لكنه انتفض
منزعجاً وكأنه قد قرسه دبور :
-لقد فعلتها وتزوجت امرأة اخرى !!! .
كان للانتقام رائحة في ذلك المنزل .. واية محاولة لرأب الصدع لم تكن سوى
نوعاً من مبارزة طواحين هواء .. ورغم ان ترياق كانت تحترق كأنها بقايا موقد
في ساعاته الاخيرة .. لكنها لم تزل في وسعها ان تفعل الكثير .. قالت له:
-لا أدري أي مخبول افتى باغراق هذا المنزل في بحر من العذاب ؟ .
وكما لو كان كلباً يبصبص اجاب :
-النساء يتسلقن راس الرجل باسرع من القردة اذ تتسلق الاشجار العالية .
اكتنفت حياة وليد فصول مريبة .. فهو شقيق لاخوة يحظون باهتمام والدهم الا
هو ، يحرمه ابوه من اشياء عديدة وحقوق طبيعية لانه من ام اخرى .. فضلا عن
ان سبب نبذه له هو شكه في بنوته له ّّ .. كما كان وليد على علاقة بأمرأة
مطلقة منذ شبابه ، وان هذه المرأة آوته لسنوات وتزوجته سراً .. ثم هجرته
كطفل مهمل ، لم يكتف بذلك حتى اسكن زوجته الجديدة في الدور العلوي وأمر
ترياق بالبقاء في الدور الارضي .. زينت له اوهامه ان يتنمر عليها وان
يوصمها بعقد محتده الذي يعاني من فاقة وتسفل .. فقد اذله قانون العفة
الحديدي . اذا لم يقطر الدم على ملاءة السرير ليلة الزفاف فان العواقب قد
تكون كارثية .. تجلس النسوة اليائسات امام الباب متربصات مثل الصقور ..
ينتظرن خروج دليل العفة .. للمفاخرة امام الاخرين !!.. جهش وليد بالتباكي
وقال بصوت متهدج :
-لكنني ياترياق لم أر منديل البراءة .. الا تتذكرين ؟ !! .
فاسرتها في نفسها بعد ان ازكم روحها عطن خلقه .. واعتصر قلبها سوء سريرته
وضغث طويته ، لم يقنعه ما فعل حتى تجنى عليها وظلمها ظلماً فادحاً .. نظرت
الى يدها فاذا هي جذاء .. ورنت الى فعلة بعلها فاذا هي طخية عمياء ..
فانطوت على صدر موغر وصبرت الى حين .. وبملمس ناعم كثوب الافعى .. اقنعت
وليد بان يكتب الدور الارضي من المنزل باسمها .. وهكذا تمت الصفقة الملغومة
كحل يرضي جميع الاطراف .. تنفست الصعداء وهي تلوح بصك الملكية .. ومــن غير
هوادة وبتهور الناشز طلبت اليه ان يتولى حضانة اطفالهما !!! .. فصعق صارخاً
بها :
-هذا ليس ما اتفقنا عليه .
-لكن الجميع يعرف ان هذا الاتفاق ليس الا دعابة سخيفة .
كانت تتجنب البوح بخصوصياتها .. اذ لم يعرف ان لها صديقة تستأمنها على
اسرارها .. كانها دائماً كان لديها امر يجب ان لايطلع عليه سواها .
-نعم لم يبق الا التفاصيل ! .
-يابغاث .. هلا علمت ان الشياطين تعيش في التفاصيل .
اصبحت الان تفكر جدياً في الطلاق .. فهو افضل من العيش على الهامش .. ستهرب
منه مثل هروبها من العنوسة .. بل ستصير منذ اليوم حجر عثرة في طريقه ..
قالت في نفسها :
-سأزيلك من حياتي كما ازلت من قبل ( عين السمكة ) من قدمي ! .
بعد ان رمت اطفالها كنافر.. تقدمت بطلب الطلاق .. فشلت كل محاولات الاقارب
للاصلاح بين الطرفين .. رغم ان وليد عرض عليها على مضض وباستخذاء المستسلم
تطليق زوجته الاخرى .. مثل غريق يتعلق بقشة .
اتمت شهور العدة على احر من الجمر .. كأن ارتباطها بوليد كان شجى يعترض
حلقومها .. او قذى يدمي عينها .. لجت سادرة في غيها الثأري كموتور تنزف
كلومه ، وبخطوة جريئة وغير متوقعة .. اقدمت ترياق على الزواج من شخص آخر ..
واسكنته معها في نفس المنزل الذي يسكنه طليقها!! . ما أتته ليس رغبة في
ملذات ومتع .. اذ لم تكن سوى خرقة بليلة تتهرأ .. لكنها تشتمل على ارادة
محروثة بالنار وإن تضاوى جمرها .. لم تذق من حلو العيش الا صبابة .. انما
ارادت ان تبقر بطن الجحود ، اصيب وليد بحالة سيئة .. وتركته يأكل نفسه الى
الابد في بطنان الندم والتبكيت .. وبعد ان ابلس وجد ذات صباح بعيجاً في
داره .
انكرت زوجته الاخرى التهم الموجهة اليها قائلة :
-لقد تركته ثانية .. كما فعلت اول مرة .. ما عادت تغني ذيليته .. بعدما صار
وطراً نافقاً .
كما انكرت ترياق ذات التهمة قائلة :
-ليس بي حاجة الى قتله .. انما ارداه بهرج بلباله .
وظلت ترياق تبني على ليث اسرارها خرسانة صماء .. وتخترق له هاوية بلا قرار
وتحثو عليه دباباً ذا ذهول !!! .
المكافأة
إشرأبت الاغنام برؤوسها الى شفير الوادي .. وهي تتشوف الى خطر غشوم . غلالة
كثيفة من دخان الرعب تتصاعد امام اعينها .. الوادي المعشوشب ارتدى ثوباً
كأنه الشفق .. شواظ مثل اشواك العقارب تنغرز في شغاف قلوبها . ما ان عسعس
الذئب بملامحه المنقبضة حتى تصارمت الضأن .. وتصدعت قلوبها ، وشغر الوادي
منها .. فيما انجلت الغبرة عن كبش أقرن يعدو بأجناب تهتز من الفزع في اثر
الذئب المنطلق كالسهم . الراعي اعتقل لسانه .. حملق في الهول المرعب بعينين
متورمتين صعدت الدموع اليها .. وانفجرت شفتاه عن كلمات صامتة كريح عقيم ..
راحت قواه تخور مثلما يحترق عود جاف من التبغ .. وعصاه التي كان يهش بها
على غنمه ، صارت هشة لاتنفع حتى في المهارشة .
انطلقت رصاصة من بندقية فارس مستطرق ! .. فنكص الذئب على عقبيه هارباً ..
والكبش لما يزل يهرع اليه اينما ولّى ! .. طلقة ثانية حسبها اصابت من الذئب
مقتلاً .. تركته كومة بلا حراك ، لكن الخروف (( المسبوع )) لايني يجري بلا
هوادة كسيل منحدر .. حتى ارتطم بجثة الذئب .. وقف واجماً كمن اعضله أمر ..
جاء الراعي بعينين ستجحظان خارج رأسه في اية لحظة ! .. فيما زادت شرايين
رقبته انتفاخاً واستدارة .. حط الفارس على رؤوسهم كقدر .. فتح الذئب اشفار
عينيه .. ارتال من الابر المدببة تخترق صدغي الراعي المعقربتين .. اراد ان
يتعاقل ، لكنهما انتفضا عدواً باتجاه الجبل المطل على الوادي .. ومـا ان
حلّ الذئب بوكره حتى أومأ الى الراعي الذي جلس القرفصاء مرتعداً .. الى جنب
الذئب الذي غطّ في نوم عميق بعد جهد وتعب شديدين .. ربما لم يكن الذئب
جائعاً .. فيما راح الراعي يدور بعينيه دون ان ينبس ببنت شفة .. دون ان
يريم مكانه كقعدد .
بهت الفارس .. ثم طفق يقلب الرأي طويلاً .. وبعد ان زالت عنه غمة الدهشة ..
استعاد اتزانه .. بل نكأ جواده بمهماز .. سائقا الكبش المذهول امامه ..
واعاد لقطيع الغنم روعه ونزل به في الوادي المعشوشب .. ثم عاد ادراجه صوب
الجبل بحثا عن الراعي الذي اسّره الذئب !..حيث لايدري ما وطّن الذئب عليه
العزم : ايهصر الراعي بين ذراعين .. ام يفتت رأسه بضربة ناب قاتلة ؟ .. وما
ان صار الفارس على باب المغارة حتى اطلق في الهواء رصاصة مدوية .. نهض
الذئب مكشراً .. وبدت شرايينه المنتفخة في رقبته متصلبة مثل حبل مشدود من
الطرفين .. لكنه توارى في دهاليز المغارة المتشعبة .. فأبتسم الفارس في
اغتباط عندما رأي الراعي في مكانه لم يبرحه .. وقد حط عليه الرعب ، وملأ
عينيه النوم . ولكن ما ان جأر به حتى فزع وهرب مسابقاً للريح باتجاه الوادي
.. اراد الفارس ان يودعه بعد ان اطمأن عليه وعلى قطيعه ، فثارت في نفس
الراعي رغبة ملحة لمكافأة الفارس على صنيعه الجميل .. بيد انه كلما اقدم
على امر كهذا اسقط بيده .. وأخيراً قرر على مضض اهداءه الكبش (( المسبوع ))
.. فتمنع الفارس كثيرا في قبوله .. ثم اخذه بعد كثر الحاح وتوسل .. وسار به
الى حيث موطنه .. طالعته بعد طول مسير اضواء النجوم تتلألأ على صفحة ماء
النهر كسرب من الفراشات المتراقصة .. اراد الكبش ان يعب الماء فانهارت به
ضفة النهر لينزلق الى الاعماق .. ترجل الفارس من جواده وردد حكمته المعهودة
"
•ليس من الضروري ان يكون الفارس عبداً لسلاحه في كل مرة .
تجرد من اثوابه وبندقيته ونط الى اعماق النهر لانتشال الكبش .. وما ان صعد
به الى سطح الماء حتى قفز الكبش ، وبنطحه مباغته على ام رأس الفارس ..
ارسله الى قاع النهر البعيد واسدل على حياته النهاية الابدية .. خرج الكبش
من الماء يرقص وينتفض مولياً وجهه شطر الوادي .. استقبله الراعي بابتهاج
وانتزع من قرنيه المدماتين شوكة الموت .. وقال في نفسه :
•فما املته وانتظرته حدث بالفعل !!! .
هواجس
كان محفوظ لا يكترث بدروسه.. ربما لم يكن بليدا.. بل كان مسكونا بتقليد
الكبار كعجوز مخضته الحوادث.. وبصرته التجارب.. رغم انه غلام لم يراهق..
وجهه ناشف مخدود.. يصيخ السمع في مجالس الرجال.. ويرقب حركاتهم بحس دقيق
متسقط، والده لم يمتهن اي عمل من الاعمال المعروفة.. انه رجل أمي.. لكنه
ليس فلاحا ولا عاملا ولا راعيا ولا موظفا.. يتأنق في ملبسه.. ومما يزيد في
بهائه عندما يبتسم.. لمعان الذهب في احدى اسنانه.. رغم ان انطفاء احدى
عينيه يزيل ذلك البهاء عن مخيلة الرائين اليه.. ولعل ما يدعو الى القرف منه
ـ في نظر البعض ـ سحنته المربدة ووجهه المتجهم وخيلاؤه المهارش، في تلك
القرية التي راج فيها لغط واخز واستشرى همس مترع باللمز.. عن مشاهدة الناس
لوالد محفوظ وهو يزيل الغبار عن كتف ـ البيك احد كبار الملاك ـ الذي كان
يزور القرية للاشراف على مزرعته.. فيما كان يتبعه والد محفوظ كظله بذلة
وخشوع أثارت حفيظة أهل القرية وسخريتهم..
عدنا.. انا ومحفوظ من المدرسة.. نغذ السير في طريق غير ممهدة الى قريتنا
الجاثمة قرب الجبل كفرطوسة خنزير.. كانت حباحب المطر.. تغسل وجوهنا
المقترة.. قال محفوظ وهو يمحص النظر في التراب البليل: (نحن يجب ان نعمل لا
ان ندرس).. لم اجبه.. رمض وجهي.. اندلق الدمع من عيني كرد فعل شرطي على
حبيبات المطر الصافعة القريرة.. داخلني شعور بالمهابة له.. وكأنني امام شيخ
جليل ينطق بالحكمة.. احجم لساني عن الدوران.. لكنني همست في قرارة نفسي:
(وماذا يمكننا ان نعمل ونحن لم نسلخ العشر من العمر؟).. وقف كالجندي.. فاغر
الفم كالابله.. وقبل ان يروم مكانه.. قال بحزم وثقة عالية كآمر: (انا قررت
ان اترك المدرسة نهائيا).. كانت السماء تنفث انفاسا باهتة.. تسربلت
بالقنوط.. كأنه انتهرني بغلظة.. فيما احسست ان وجهه المسنون كمدفع رشاش يخز
اعطافي بوابل من الرصاص المدبب.. وتراءى لي.. انه ينزع ثوب الفضيلة..
ليرتدي ثوب الاثم ولكنني تمتمت.. (ان لم تترك المدرسة.. ففشلك مؤكد)
اقتربنا من القرية.. بدت لنا من قرب لابدة كقطعة قريرة.. ثم اقتربنا اكثر..
اتضح لنا ان اهل القرية يتجمهرون عند الساقية.. تناهت الى مسامعنا.. جلبة
وشغب نابح.. فتشنا تلافيف الذاكرة: (اهل القرية لا يفعلون ذلك الا في
المناسبات او لأمر مهم.. كما يفعلون في الاعراس او الاعياد او عند وفاة شخص
ما).. لم تلفنا الحيرة كثيرا.. ولم يطل القلق.. ما ان اطلعنا على الجمهور
حتى تبرع الكثير منهم لأخبارنا بما يميط اللثام عن الامر.. ويزيل ما يدور
في اذهاننا من استفهام.. قال احدهم بكلمات ذات اسنان: (ان والد محفوظ جاء
اليوم وهو يقود تراكتور ولكنه قبل ان يصل الى القرية.. جنحت به وهوت في
الساقية).. وخز نميم يسري في اجزاء جسمي.. وتراءى لي انهمار الماء النمير
على وجه محفوظ.. فيما لاح لي ان ضوءاً بهيجا يترشح منه.. قال اخر بأستغراب:
(انه لا يجيد القيادة.. لم يشاهد من قبل انه يقود حتى دراجة هوائية).. وقال
اخر بخبث.. فيما كانت تعلو محياه ابتسامة ماكرة: (فوجئ بأفعى تقطع طريقه
فداخله خوف أرعد فرائصه.. وساقه هلعه الى الساقية).. وتساءل آخرون بتعجب
يستبطن حسدا وجيعا: (من اين له هذا التراكتور.. وهو لم يشبع من خبز
الشعير؟).. الملوحة بلساني تتناسل.. اطيط الاطارات الباركة في الوحل
يتصاعد.. انطلق من خلفي صوت هامس كفحيح الافعى.. رقعته بنظرة مشدوهة..
امرأة شاخت كثيرا كلفافة نافقة.. مطت لسانها المحروق كجنح الليل.. تعتعت..
استرطت شفتيها الفاحمتين.. نطقت بصوت محشرج: (ان ابا محفوظ مجرد أجير ـ
وهذا التراكتور من املاك البيك ـ الذي ابطره الغنى.. والمشغول بتخمته عن
سغب الناس من حوله).. تمكن اهل القرية بجمعهم المكدود.. من تسوية الامر..
وتمالؤوا على اخراج (التراكتور) من الوحل وسط تفاقم عجيج الاصوات وصخبها..
ذهب محفوظ مزهوا مع والده الى منزلهما الطيني الكالح.. وفي اليوم التالي
ذهبا للعمل في مزرعة البيك.
انهيت دراستي الابتدائية.. قام في نفسي.. وكبر في وهمي.. انني سألثم صفحة
السماء.. وان الدنيا ستسكب على قدمي عواطفها.. سافرت مع ابي الى مركز
المحافظة لبعض المهام.. ورأيت لدى دخولنا السيارة محفوظا.. وقد شب عن
الطوق.. منهمكا كدوامة.. وعرفت فيما بعد انه يعمل كمساعد للسائق.. وسمعت
والدي يسأله عن والده.. وعما فعله.. خاصة وانه احيل الى المحكمة.. بعد فتحه
متجرا صغيرا، وباع بضاعة بسعر اعلى من المقرر.. قال محفوظ بلباقة: (تم
تسوية المسألة ودفعنا الغرامة).. جنح بي الخيال.. وجسم لي التمني.. كم كنت
اتطلع لان اعمل كمحفوظ.. واتصرف مثله: انه يتحدث امام الجميع بجرأة كبغي..
ويدخن السجارة كرجل.. لكن امي نفثتني بنظرة لائمة عاتبة.. وتأوهت كنخلة
مثقلة بالعنوق: (لا عليك سوى الاهتمام بدروسك.. وستكون موظفا لامعا
ووجيها.. فأنك ذكي وشاطر يا ولدي).. اشعر بدفء صوتها.. وحلو كلامها
المتهدج.. فأستسلم لرغبتها النبيلة.. وانا اومئ برأسي مطأطئا.. شريط من
الدموع ينسل من عينيها.. يسخن رأسي رحمة لها.. ألثم يدها فأشم رائحة
الجنة.. واسألها بتذلل: أذن فيم تبكين؟.. تربت على ظهري.. والبشر يطفح على
وجهها كملاك.
قررت انا وبعض زملائي الذهاب الى العاصمة لتقديم اوراق الانتساب الى
الجامعة.. (ونحن قادمون من سذاجة الريف وبراءته.. ولم يتسن لنا بعد لمس يد
الدنيا في صورها الاكثر فجاجة وفضاضة.. والانكى من ذلك.. اننا كنا نحسب ان
الحركة في المدينة الكبيرة ستكون دفاقة غنجة.. تتدحرج بشبق آسر.. بعيدا عن
جشوبة القرية.. ووحشة الحياة فيها).. وما ان دلفنا الى الحافلة حتى تناهى
الى مسامعي صوت أليف.. صوت محفوظ ـ صديقي القديم ـ قد أخشوشن ذقنه.. وراح
يحرك مقود الحافلة بذراع مفتول نفرت منه عروق غليظة.. عيناي تجوس خلال سطور
وجهه الممصوص.. ملامحه حادة مثلجة تؤلم العين.. لطعني بابتسامة ماكرة..
أسنانه صدئة مقززة.. تنحنح.. حرك سبابته وقال بفخار (لقد دفعت هذا الشهر
اخر اقساط ثمن هذه الحافلة ولله الحمد).
احتفلت امي ووزعت الحلوى.. انه اول ايام الوظيفة.. بعد حصولي على الشهادة
الجامعية.. لم استلم مهام الوظيفة في اليوم الاول.. قيل لي: علام العجلة؟
ستعمل حتى تكل وتمل.. من دون عائد ذي شأن.. وطفق الجميع يدفعون في وجهي
بحزمة من الاستفسارات والاستنكارات لم تكن بي حاجة اليها.. ساد في ذهني هرج
حائر.. لكنني باغتهم بصوت متردد ومنطفئ مستفسرا عن مراسيم بدء العمل
ومنتهاه.. فكان جوابهم.. يعاليل تندر وتهكم.. اضطرتني ان انكص على اعقابي..
لتغيبني الباب الخارجية للدائرة.. وانا أسر في طويتي ـ برما اسفا: (أيهزم
أملي قبل ان يرى النور؟).. ورحت أذرع شوارع المدينة.. وأتصفح واجهات المحال
والدور.. كضليل يعوم في متاهات القتامة.. اجهد في ان ازيح السجف الذي ران
على افكاري.. ولم افق الا وانا اقف امام دار فخمة مبهرجة بألوان الف ليلة
وليلة.. حتى اذا ما اقتربت من الباب.. ألفيتني ـ وانا اشاهد سيارة فارهة
تحط داخل الدار.. أدور حول نفسي.. كمن صفع على ام رأسه.. وبين تخليطي راعني
الذي كتب على باب الدار.. فأمسكت أنفاسي.. ووليت الدار أدباري.. وعدت
قافلا.. وانا أبرطم.. (لله درك يا محفوظ.. هل صرت عينا من أعيان البلد..
واثرى أثريائه؟.. وانت لم تتم حتى الدراسة الابتدائية.. لله في خلقه
شؤون).. غفر الله لك يا اماه. وانا اتذكر كلماتك القنوعة: (لا تعجل يا بني
على حظك.. فالرزق مقسوم).. لكن الان وقد ايقنت بأن الرزق لا يطال
بالاستحقاق.. بل يؤخذ غلابا.
اضجرتني الرتابة.. واقنطني قفر حياتي.. وحبسني ناموس العزلة. واذلني عمود
الاملاق.. فأنا نيفت على الاربعين بشباب غارب.. وطفقت تمور في دواخلي عواصف
من الهواجس والنذر.. وما فتأت تنتابني نوبات من الهلع والفزع من المستقبل
المجهول.. فأنا لم املك مالا ولا عقارا ولا زوجة اسكن اليها.. والايام
تلفني مسرعة عجلى.. فضلا عن ان الشهادة الجامعية ما عادت تجدي.. ومرتب
الوظيفة لا يساوي ثمن حذاء.. حتى أعز جلسائي ـ الكتاب ـ شاح عني بوجهه
بعدما بهظ ثمنه.. وتعذر علي اقتناؤه.. فاستعضت عنه بالسير بحذاء كحافر حصان
مطرقع في طرق وازقة المدينة.. ترويحا للنفس.. وهروبا من هواجسي المرعبة..
وتسكينا لجيوش اليأس التي احتلت آمالي وسحقت احلامي.. حتى وجدتني اقف ثانية
ـ مبهورا ـ امام دار محفوظ.. وانا ارجف كقصبة في مهب الريح.. فيما صكت
مسامعي من داخل الدار ضحكات مغناجة تفرقع.. رحب بي بجفاء بعد ان تعرف علي
بصعوبة مفتعلة.. بهتت اشلائي الضاوية وبعد ان عرف عني ما عرف.. دعاني للعمل
عنده في شركته التجارية.. على ان يمنحني عشرة اضعاف ما اتقاضاه من مرتب
وظيفتي الحكومية.. أبشم بالجواب.. دون ان أنبس ببنت شفة.. قال محفوظ وانا
أهم بدخول مكتبه الوثير: (تأكد ان ستنجح في عملك ما أطعت رب العمل.. هكذا
أوصاني والدي).. أومأت علامة الرضا وقلت في نفسي (لكنني لا اجيد نفض الغبار
عن الاكتاف يا سيدي).. ضرب كتفي الضامر بكف ثقيلة.. وشخص ببصره الي.. وزم
شفتيه.. ولوح برأسه.. وتوارى.. (حقا ابن أبيه.. واعترف أنه غلبني.. وعرف من
اين تؤكل الكتف.. تركني أغرق في بحر الفكر.. وفاز هو في لجة العمل).. قلبت
اوراق كتاب عتيق متهالك كعليل.. أتلع رأسه بوقاحة من الباب ونهشني بقوله:
(ها.. ماذا تفعل.. ألم أنهك عن غيك.. لقد نصحتك قبل ثلاثين عاما.. وها أنت
لم تتعظ).. فسقط الكتاب من يدي مرفرفا كطير مذبوح.. لم أحر جوابا كأبكم..
فيما رحت أقلب جداول حسابات المكتب بافتعال مفضوح.. رمقني بنزق كعاق.. ولوح
بيده علامة الامتعاض والسخرية..: (يا أماه.. وتتنبئين لي بالوجاهة.. ان
المأفون يسخر بي.. يا اماه).. مأفون ولكن صيته قد طبق الافاق.. قالت ذلك
باستنكار.. لمست يدي بكفها الذي ينبض بالحنان.. وهي تنتشلني من أعماق
اليأس.. بابتسامة شفوق.
|