أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 29/01/2009

دراسات أدبية - القصة في القرآن / قصص من القرآن

نماذج من قصص منوعة في القرآن3
 

 

لقراءة المشاركات

 

 

المشاركات

قصة شمويل

قصة اليسع

قصة حزقيل

قصة موسى

قصة داوود قصة سليمان قصة العزيز قصة ذكريا ويحيى

قصة عيسى

قصة محمد ص

 

نماذج من قصص الأنبياء في القرآن3

قصة موسى الكليم عليه الصلاة والتسليم

 

 

وهو موسى بن عمران بن قاهث بن عازر بن لأوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام.

قال تعالى:

{واذكر في الكتاب موسى، إنه كان مخلصا وكان رسولاً نبياً * وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه ونجيا * ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا} (سورة مريم:51ـ53)

(إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً) أي: تجبر وعتا وطغى وبغى، وآثر الحياة الدنيا، وأعرض عن طاعة الرب الأعلى، (وجعل أهلها شيعاً) أي: قسم رعيته إلي أقسام، وفرق وأنواع، يستضعف طائفة منهم، وهم شعب إسرائيل الذين هم من سلالة نبي الله يعقوب ابن نبي الله ابن خليل الله، وكانوا إذ ذاك خيار أهل الأرض، وقد سلط عليهم هذا الملك الظالم الغاشم الكافر الفاجر، ويستعبدهم ويستخدمهم في أخس الصنائع والحرف وأردئها وأدناها، ومع هذا (يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين).

وكان الحامل له على هذا الصنيع القبيح أن بني إسرائيل كانوا يتدارسون فيما بينهم ما يأثرونه عن إبراهيم عليه السلام، من أنه سيخرج من ذريته غلام يكون هلاك ملك مصر على يديه. وذلك ـ والله أعلم ـ حين كان جرى على سارة امرأة الخليل من ملك مصر، من إرادته إياها على السوء وعصمة الله لها. وكانت هذه البشارة مشهورة في بني إسرائيل، فتحدث بها القبط فيما بينهم، ووصلت إلي فرعون فذكرها له بعض أمرائه وأساورته وهم يسمرون عنده، فأمر عند ذلك بقتل أبناء بني إسرائيل، حذراً من وجود هذا الغلام، ولن يغني حذر من قدر.

وذكر السدي عن أبي صالح وأبي مالك، عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن أناس من الصحابة: أن فرعون رأى في منامه كأن ناراً قد أقبلت من نحو بيت القدس، فأحرقت دور مصر وجميع القبط، ولم تضر بني إسرائيل، فلما استيقظ هاله ذلك، فجمع الكهنة والحذقة والسحرة، وسألهم عن ذلك، فقالوا: هذا غلام يولد من هؤلاء، يكون سبب هلاك أهل مصر على يديه، فلهذا أمر بقتل الغلمان وترك النسون.

والمقصود أن فرعون احترز كل الاحتراز ألا يوجد موسى، حتى جعل رجالاً وقوابل يدورون على الحبالى، ويعلمون مقيمات وضعهن، فلا تلد امرأة ذكراً إلا ذبحه أولئك الذباحون من ساعته. وعند أهل الكتاب: أنه إنما كان يأمر بقتل الغلمان، لتضعف شوكة بني إسرائيل، فلا يقاومونهم إذا غالبوهم أو قاتلوهم. وهذا فيه نظر، بل هو باطل، وإنما هذا الأمر بقتل الولدان بعد بعثة موسى، كما قال تعالى:

{فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم} (سورة غافر:25)

ولهذا قالت بنو إسرائيل لموسى:

{أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا} (سورة الأعراف:129)

فالصحيح أن فرعون إنما أمر بقتل الغلمان أولاً، حذراً من وجود موسى.

وقد ذكر غير واحد من المفسرين: أن القبط شكوا إلي فرعون قلة بني إسرائيل، بسبب قتل ولدانهم الذكور، وخشي أن تتفانى الكبار مع قتل الصغار، فيصيرون هم الذين يلون ما كان بنو إسرائيل يعالجون، فأمر فرعون بقتل الأبناء عاماً وأن يتركوا عاماً، فذكروا أن هارون عليه السلام ولد في عام المسامحة عن قتل الأبناء، وأن موسى عليه السلام ولد في عام قتلهم، فضاقت أمه ذرعاً واحترزت من أول ما حبلت، ولم يكن يظهر عليها مخايل الحبل، فلما وضعت ألهمت أن اتخذت له تابوتاً، فربطته في حبل وكانت دارها متاخمة للنيل فكانت ترضعه، فإذا خشيت من أحد وضعته في ذلك التابوت، فأرسلته في البحر، وأمسكت طرف الحبل عندها، فإذا ذهبوا استرجعته إليها به.

قال تعالى:

{وأوحينا إلي أم موسى أن أرضعيه، فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني، إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين * فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزنا، إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين * وقالت امرأة فرعون قرت عين لي ولك، لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً وهم لا يشعرون} (سورة القصص:7ـ9)

قال السهيلي: واسم أم موسى "أيارخا" وقيل: "أياذخت"، والمقصود أنها أرشدت إلي هذا الذي ذكرناه، وألقى في خلدها وروعها ألا تخافي ولا تحزني فإنه إن ذهب فإن الله سيرده إليك، وإن الله سيجعله نبياً مرسلا، يعلي كلمته في الدنيا والآخرة، فكانت تصنع ما أمرت به، فأرسلته ذات يوم وذهلت أن تربط طرف الحبل عندها فذهب في النيل، فمر على دار فرعون (فالتقطه آل فرعون)، قال الله تعالى: (ليكون لهم عدواً وحزناً) قال بعضهم: هذه لأم العاقبة، وهو ظاهر إن كان متعلقا بقوله: (فالتقطه). وأما إن جعل متعلقاً بمضمون الكلام، وهو أن آل فرعون قيضوا لالتقاطه ليكون لهم عدواً وحزناً، وصارت اللام معللة كغيرها، والله أعلم. ويقوي هذا التقدير الثاني قوله: (إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين) أي: هم أهل لهذا التقييض، ليكون أبلغ في إهانتهم وأقوى في حسرتهم، أن يربوا عدوهم في دارهم، ولهذا قال: (ليكون لهم عدواً وحزناً).

وذكر المفسرون: أن الجواري التقطنه من البحر في تابوت مغلق عليه، فلم يتجاسرن على فتحه، حتى وضعنه بين يدي امرأة فرعون "آسية" بنت مزاحم بن عبيد بن الريان ابن الوليد الذي كان فرعون مصر في زمن يوسف. وقيل: إنها كانت من بني إسرائيل من سبط موسى. وقيل: بل كانت عمته، حكاه السهيلي، فالله أعلم. فلما فتحت الباب وكشفت الحجاب، رأت وجهه يتلألأ بتلك الأنوار النبوية والجلالة الموسوية، فلما رأته ووقع نظرها عليه أحبته حبا شديداً جداً، فلما جاء فرعون قال: ما هذا؟ وأمر بذبحه، فاستوهبته منه ودفعت عنه، وقالت: (قرة عين لي ولك) فقال لها فرعون: أما لك فنعم وأما لي فلا أي لا حاجة لي به. و"البلاء موكل بالمنطق"!.

 

قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وأبو عبيدة والحسن وقتادة الضحاك وغيرهم (وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً) أي: من كل شيء من أمور الدنيا إلا من موسى (إن كادت لتبدي به) أي: لتظهر أمره وتسأل عنه جهرة (لولا أن ربطنا على قلبها) أي: صبرناها وثبتناها (لتكون من المؤمنين) وقالت لأخته، وهي ابنتها الكبيرة (قصيه) أي: اتبعي أثره، واطلبي لي خبره (فبصرت به عن جنب) قال مجاهد: عن بعد. وقال قتادة: جعلت تنظر إليه وكأنها لا تريده، ولهذا قال: (وهم لا يشعرون) وذلك لأن موسى عليه السلام لما استقر بدار فرعون أرادوا أن يغذوه برضاعة فلم يقبل ثدياً ولا أخذ طعاماً، فحاروا في أمره، واجتهدوا على تغذيته بكل ممكن فلم يفعل؛ كما قال تعالى: (وحرمنا عليه المراضع من قبل) فأرسلوه مع القوابل والنساء إلي السوق؛ لعلهم يجدون من يوافق رضاعته، فبينما هم وقوف به والناس عكوف عليه إذ بصرت به أخته، فلم تظهر أنها تعرفه بل قالت: (هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون) قال ابن عباس: لما قالت ذلك، قالوا لها: ما يدريك بنصحهم وشفقتهم عليه؟ فقالت: رغبة في سرور الملك ورجاء منفعته.

فأطلقوها وذهبوا معها إلي منزلهم، فأخذته أمه، فلما أرضعته التقم ثديها وأخذ يمتصه ويرتضعه، ففرحوا بذلك فرحاً شديداً، وذهب البشير إلي "آسية" يعلمها بذلك، فاستدعتها إلي منزلها وعرضت عليها أن تكون عندها، وأن تحسن إليها، فأبت عليها، وقالت: إن لي بعلاً وأولاداً، ولست أقدر على هذا إلا أن ترسليه معي، فأرسلته معها، ورتبت لها رواتب، وأجرت عليها النفقات والكساوي والهبات، فرجعت به تحوزه إلي رحلها، وقد جمع الله شمله بشملها.

قال الله تعالى: (فرددناه إلي أمة كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق) كما وعدناها برده ورسالته، فهذا رده، وهو دليل على صدق البشارة برسالته (ولكن أكثرهم لا يعلمون). لما ذكر تعالى أنه أنعم على أمه برده لها وإحسانه بذلك، وامتنانه عليها، شرع في ذكر أنه لما بلغ أشده واستوى، وهو احتكام الخلق والخلق، وهو سن الأربعين في قول الأكثرين، آتاه الله حكماً وعلماً، وهو النبوة والرسالة التي كان بشر بها أمه حين قال: (إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين).

ثم شرع في ذكر سبب خروجه من بلاد مصر، وذهابه إلي أرض مدين، وإقامته هنالك حتى كمل الأجل وانقضى الأمد، وكان ما كان من كلام الله له، وإكرامه بما أكرمه به، كما سيأتي. فقال تعالى: (ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها) قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة والسدي: وذلك نصف النهار، وعن ابن عباس: بين العشاءين. (فوجد فيها رجلين يقتتلان) أي: يتضاربان ويتهارشان (هذا من شيعته) أي: إسرائيلي. (وهذا من عدوه) أي: قبطي، قاله ابن عباس وقتادة والسدي ومحمد ابن إسحاق.

(فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه) وذلك أن موسى عليه السلام، كانت له بديار مصر صولة، بسبب نسبته إلي تبني فرعون له وتربيته في بيته، وكانت بنو إسرائيل قد عزوا وصارت لهم وجاهة، وارتفعت رءوسهم بسبب أنهم أرضعوه، وهم أخواله أي من الرضاعة، فلما استغاث ذلك الإسرائيلي موسى عليه السلام على ذلك القبطي أقبل إليه موسى (فوكزه) قال مجاهد: أي طعنه بجميع كفه، وقال قتادة: بعصاً كانت معه (فقضى عليه) أي: فمات منها.

وقد كان ذلك القبطي كافراً مشركاً بالله العظيم، ولم يرد موسى قتله بالكلية، وإنما أراد زجره وردعه، ومع هذا (قال) موسى: (هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين * قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم * قال رب بما أنعمت علي) أي: من العز والجاه (فلن أكون ظهيراً للمجرمين).

يخبر تعالى أن موسى أصبح بمدينة مصر خائفاً ـ أي: من فرعون وملئه ـ أن يعلموا أن هذا القتيل الذي رفع إليه أمره، إنما قتله موسى في نصرة رجل من بني إسرائيل، فتقوى ظنونهم أن موسى منهم، وترتب على ذلك أمر عظيم. فصار يسير في المدينة في صبيحة ذلك اليوم (خائفاً يترقب) أي: يتلفت، فبينما هو كذلك، إذا ذلك الرجل الإسرائيلي الذي استنصره بالأمس يستصرخه، أي: يصرخ به ويستغيثه على آخر قد قاتله، فعنفه موسى ولامه على كثرة شره ومخاصمته، قال له: (إنك لغوي مبين) ثم أراد أن يبطش بذلك القبطي، الذي هو عدو لموسى وللإسرائيلي، فيردعه عنه ويخلصه منه، فلما عزم على ذلك وأقبل على القبطي (قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس أن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين).

والمقصود أن فرعون بلغه أن موسى هو قاتل ذلك المقتول بالأمس فأرسل في طلبه، وسبقهم رجل ناصح من طريق أقرب (وجاء رجل من أقصى المدينة) ساعياً إليه، مشفقاً عليه، فقال (يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج) أي: من هذه البلدة، (إني لك من الناصحين) أي: فيما أقوله لك. قال الله تعالى: (فخرج منها خائفاً يترقب)، أي: فخرج من مدينة نصر من فوره على وجهه لا يهتدي إلي طريق ولا يعرفه، قائلاً:

{رب نجني من القوم الظالمين * ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل * ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان، قال ما خطبكما، قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير * فسقى لهما ثم تولى إلي الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير} (سورة القصص:21ـ24)

يخبر تعالى عن خروج عبده ورسوله وكليمه من مصر خائفاً يترقب، أي: يتلفت، خشية أن يدركه أحد من قوم فرعون، وهو لا يدري أين يتوجه، ولا إلي أين يذهب، وذلك لأنه لم يخرج من مصر قبلها. (ولما توجه تلقاء مدين) أي: اتخذ له طريقاً يذهب فيه: (قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل) أي: عسى أن تكون هذه الطريقة موصلة إلي المقصود، وكذا وقع، فقد أوصلته إلي المقصود وأي مقصود. (ولما ورد ماء مدين) وكانت بئراً يستقون منها، ومدين هي المدينة التي أهلك الله فيها أصحاب الأيكة، وهم قوم شعيب عليه السلام، وقد كان هلاكهم قبل زمن موسى عليه السلام في أحد قولي العلماء.

ولما ورد الماء (وجد عليه أمة من الناس يسقون * ووجد من دونهم امرأتين تذودان) أي: تكفكفان عنهما غنمهما أن تختلط بغنم الناس. وعند أهل الكتاب أنهن كن سبع بنات، وهذا أيضاً من الغلط، ولعلهن كن سبعاً ولكن إنما كان تسقى اثنتان منهن، وهذا الجمع ممكن إن كان ذاك محفوظاً، وإلا فالظاهر أنه لم يكن له سوى بنتين.

(قال ما خطبكما، قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير) أي: لا نقدر على ورود الماء إلا بعد صدور الرعاء لضعفنا، وسبب مباشرتنا هذه الرعية ضعف أبينا وكبره، قال الله تعالى: (فسقى لهما). قال المفسرون: وذلك أن الرعاء كانوا إذا فرغوا من وردهم، وضعوا على فم البئر صخرة عظيمة فتجئ هاتان المرأتان فيشرعان غنمهما في فضل أغنام الناس، فلما كان ذلك اليوم جاء موسى فرفع تلك الصخرة وحده، ثم استقى لهما وسقى غنمهما، ثم رد الحجر كما كان، قال أمير المؤمنين عمر: وكان لا يرفعه إلا عشرة، وإنما استقى ذنوباً واحداً فكفاهما.

ثم تولى إلي الظل، قالوا: وكان ظل شجرة من السمر، وروي ابن جرير عن ابن مسعود: أنه رآها خضراء ترف (فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير). سمعته المرأتان فيما قيل، فذهبتا إلي أبيهما، فيقال إنه استنكر سرعة رجوعهما، فأخبرتاه بما كان من أمر موسى عليه السلام، فأمر إحداهما أن تذهب إليه فتدعوه (فجاءته إحداهما تمشي على استحياء) أي: مشي الحرائر، (قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا) صرحت له بهذا لئلا يوهم كلامها ريبة، وهذا من تمام حيائها وصيانتها (فلما جاءه وقص عليه القصص) وأخبره خبره، وما كان من أمره في خروجه من بلاد مصر فراراً من فرعون، (قال) له ذلك الشيخ (لا تخف نجوت من القوم الظالمين) أي خرجت من سلطانهم فلست في دولتهم. وقد اختلفوا في هذا الشيخ من هو؟ فقيل: هو شعيب عليه السلام، وهذا هو المشهور عند الكثيرين، وممن نص عليه الحسن البصري، ومالك بن أنس، وجاء مصرحاً به في حديث، ولكن في إسناده نظر.

 

والمقصود: أنه لما أضافه وأكرم مثواه، وقص عليه ما كان من أمره بشره بأنه قد نجا، فعند ذلك قالت: إحدى البنتين لأبيها: (يا أبت استأجره) أي: لرعي غنمك، ثم مدحته بأنه قوي أمين. قال عمر وابن عباس وشريح القاضي وأبو مالك وقتادة ومحمد بن إسحاق وغير واحد لما قالت ذلك، قال لها أبوها: وما علمك بهذا؟ فقالت: إنه رفع صخرة لا يطيق رفعها إلا عشرة. وإنه لما جئت معه تقدمت أمامه، فقال: كوني من ورائي، فإذا اختلف الطريق فاحذفي لي بحصاه أعلم بها كيف الطريق.

(قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج، فإذا أتممت عشراً فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين). ثم قال تعالى: (ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل)، يقول: إن موسى قال لصهره: الأمر على ما قلت، فأيهما قضيت فلا عدوان على والله على مقالتنا سامع وشاهد، ووكيل علي وعليك، ومع هذا فلم يقض إلا أكمل الأجلين وأتمهما وهو العشر سنين كوامل تامة.

فلما أراد فراق شعيب سأل امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به، فأعطاها ما ولدت غنمه، من ما له لون من ولد ذلك العام، وكانت غنمه سوداء حساناً، فانطلق موسى عليه السلام إلي عصا قسمها من طرفها ثم وضعها في أدنى الحوض، ثم أوردها فسقاها. قالوا: واتفق ذلك في ليلة مظلمة باردة، وتاهوا في طريقهم فلم يهتدوا إلي السلوك في الدرب المألوف، وجعل يوري زناده فلا يوري شيئاً، واشتد الظلام والبرد.

فبينما هو كذلك إذ أبصر عن بعد ناراً تأجج في جانب الطور ـ وهو الجبل الغربي منه عن يمينه ـ (فقال لأهله امكثوا إني آنست ناراً) وكأنه، والله أعلم، رآها دونهم؛ لأن هذه النار هي نور الحقيقة، ولا يصلح رؤيتها لكل أحد، (لعلى آتيكم منها بخير) أي: لعلى استعلم من عندها عن الطريق (أو جذوة من النار لعلكم تصطلون) فدل على أنهم كانوا قد تاهوا عن الطريق في ليلة باردة ومظلمة. لقوله: في الآية الأخرى:

{وهل أتاك حديث موسى * إذا رأى ناراً فقال لأهله امكثوا إني آنست ناراً لعلى آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى} (سورة طه:9ـ10)

فدل على وجود الظلام وكونهم تاهوا عن الطريق، وجمع الكل في قوله في النمل:

{إذ قال موسى لأهله إني آنست ناراً سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون} (سورة النمل:7)

وقد أتاهم منها بخبر وأي خبر، ووجد عندها هدى وأي هدى، واقتبس منها نوراً وأي نور؟!. قال الله تعالى:

{فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين}

أي: أنا رب العالمين الذي لا إله إلا هو، الذي لا تصلح العبادة وإقامة الصلاة إلا له. ثم أخبره أن هذه الدنيا ليست بدار قرار، وإنما الدار الباقية يوم القيامة، التي لابد من كونها ووجودها (لتجزي كل نفس بما تسعى) أي: من خير وشر، وحضه وحثه على العمل لها ومجانبة من لا يؤمن بها ممن عصى مولاه واتبع هواه، ثم قال مخاطباً ومؤانساً ومبيناً له أنه القادر على كل شيء، الذي يقول للشيء كن فيكون:

{وما تلك بيمينك يا موسى} (سورة طه:17)

أي: أما هذه عصاك التي تعرفها منذ صحبتها

{قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى} (سورة طه:18)

أي: بلى هذه عصاي التي أعرفها وأتحققها،

{قال ألقها يا موسى * فألقاها فإذا هي حية تسعى} (سورة طه:19ـ20)

فلما رجع أمره الله تعالى أن يمسكها (قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى) فيقال: إنه هابطها شديداً، فوضع يده في كم مدرعته، ثم وضع يده في وسط فمها. وعند أهل الكتاب: أمسك بذنبها، فلما استمكن منها إذا هي قد عادت كما كانت عصاً ذات شعبتين، فسبحان القدير العظيم، رب المشرقين والمغربين!. ثم أمره تعالى بإدخال يده في جيبه، ثم أمره بنزعها فإذا هي تتلألأ كالقمر بياضاً من غير سوء، أي: من غير برص ولا بهق، ولهذا قال:

{اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم يدك إلي جناحك من الرهب} (سورة القصص:32)

قيل معناه: إذا خفت فضع يدك على فؤادك يسكن جأشك. والمقصود أن الله سبحانه وتعالى لما أمر موسى عليه السلام بالذهاب إلي فرعون

{قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون * وأخي هارون هو أفصح مني لساناً فأرسله معي ردءاً يصدقني، إني أخاف أن يكذبون * قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون} (سورة القصص:33ـ35)

قال الله تعالى مجيباً إلي سؤاله: (سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً) أي: برهاناً (فلا يصلون إليكما) أي: فلا ينالون منكما مكروهاً بسبب قيامكما بآياتنا، وقيل ببركة آياتنا (أنتما ومن اتبعكما الغالبون).

وقال في سورة طه:

{اذهب إلي فرعون إنه طغى * قال رب اشرح لي صدري * ويسر لي أمري * وأحلل عقدة من لساني * يفقهوا قولي} (سورة طه:24ـ28)

قيل: إنه أصابه في لسانه لثغة، بسبب تلك الجمرة التي وضعها على لسانه، والتي كان فرعون أراد اختبار عقله، حين أخذ بلحيته وهو صغير، فهم بقتله، فخافت عليه آسية، وقالت: إنه طفل، فاختبره بوضع تمرة وجمرة بين يديه فهم بأخذ التمرة فصرف الملك يده إلي الجمرة، فأخذها فوضعها على لسانه فأصابه لثغة بسببها؛ فسأل زوال بعضها بمقدار ما يفهمون قوله: ولم يسأل زوالها بالكلية.

فأتياه فقالا له ذلك، وبلغاه ما أرسلا به من دعوته إلي عباد الله تعالى وحده لا شريك لك، وأنه يفك أسارى بني إسرائيل من قبضته وقهره وسطوته، ويتركهم يعبدون ربهم حيث شاءوا، ويتفرغون لتوحيده ودعائه والتضرع لديه. فتكبر فرعون في نفسه وعتا وطغى، ونظر إلي موسى بعين الازدراء والتنقص قائلاً له: (ألم نربك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين؟) أي: أما أنت الذي ربيناه في منزلنا، وأحسنا إليه، وأنعمنا عليه مدة من الدهر؟.

وقوله:

{وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين} (سورة الشعراء:19)

أي: وقتلت الرجل القبطي، وفررت منا، وجحدت نعمتنا.

{قال فعلتها إذا وأنا من الضالين} (سورة الشعراء:20)

أي: قبل أن يوحي إلي وينزل على

{فقررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكماً وجعلني من المرسلين} (سورة الشعراء:21)

ثم قال مجيباً لفرعون عما امتن به من التربية والإحسان إليه:

{وتلك النعمة تمنها على أن عبدت بني إسرائيل} (سورة الشعراء:22)

أي: وهذه النعمة التي ذكرت؛ من أنك أحسنت إلي وأنا رجل واحد من بني إسرائيل تقابل ما استخدمت هذا الشعب العظيم بكماله، واستعبدتهم في أعمالك وخدمتك وأشغالك.

{قال فرعون وما رب العالمين * قال رب السماوات والأرض وما بينهما، إن كنتم موقنين * قال لمن حوله ألا تستمعون * قال ربكم ورب آبائكم الأولين * قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون * قال رب المشرق والمغرب وما بينهما، إن كنتم تعقلون} (سورة القصص:21ـ24)

 

فلما قامت الحجج على فرعون، وانقطعت شبهه، ولم يبق له قول سوى العناد، عدل إلي استعمال سلطانه وجاهه وسطوته.

{قال لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين * قال أو لو جئتك بشيء مبين * فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين} (سورة الشعراء:29ـ33)

وهذان هما الرهانان اللذان أيده الله بهما، وهما العصا واليد، وذلك مقام أظهر فيه الخارق العظيم، الذي بهر العقول والأبصار، حين ألقى عصاه، فإذا هي ثعبان مبين، أي: عظيم الشكل، بديع في الضخامة والهول، والمنظر العظيم الفظيع الباهر، حتى قيل: إن فرعون لما شاهد ذلك وعاينه، أخذه رعب شديد وخوف عظيم، بحيث إنه حصل له إسهال عظيم أكثر من أربعين مرة في يوم، وكان قبل ذلك لا يتبرز في كل أربعين يوماً إلا مرة واحدة، فانعكس عليه الحال.

وهكذا لما أدخل موسى عليه السلام يده في جيبه واستخرجها، أخرجها وهي كفلقة القمر تتلألأ نوراً يبهر الأبصار، فإذا أعادها إلي جيبه واستخرجها رجعت إلي صفتها الأولى. ومع هذا كله لم ينتفع فرعون ـ لعنة الله عليه ـ بشيء من ذلك، بل استمر على ما هو عليه، وأظهر أن هذا كله سحر، وأراد معارضته بالسحرة، فأرسل يجمعهم من سائر مملكته، ومن هم في رعيته وتحت قهره ودولته، ثم حضوا بعضكم بعضاً على التقدم في هذا المقام؛ لأن فرعون قد وعدهم ومناهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً.

{قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى * قال بل ألقوا، فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى * فأوجس في نفسه خيفة موسى * قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى * وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا، إنما صنعوا كي ساحر، ولا يفلح الساحر حيث أتى} (سورة طه:65ـ69)

لما اصطف السحرة، ووقف موسى وهارون عليهما السلام تجاههم، قالوا له: إما أن تلقي قبلنا، وإما أن نلقي قبلك (قال بل ألقوا) أنتم، وكانوا قد عمدوا إلي حبال وعصى فأودعوها الزئبق وغيره من الآلات التي تضطرب بسببها تلك الحبال والعصي اضطراباً يخيل للرائي أنها تسعى باختيارها، وإنما تتحرك بسبب ذلك، فعند ذلك سحروا أعين الناس واسترهبوهم، وألقوا حبالهم وعصيهم، وهم يقولون:

{بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون} (سورة الشعراء:44)

وذلك أن موسى عليه السلام لما ألقاها، صارت حية عظيمة ذات قوائم، فيما ذكره غير واحد من علماء السلف، وعنق عظيم وشكل هائل مزعج، بحيث إن الناس انحازوا منها وهربوا سراعاً، وتأخروا عن مكانها وأقبلت هي على ما ألقوه من الحبال والعصي، فجعلت تلقفه واحداً واحداً في أسرع ما يكون من الحركة، والناس ينظرون إليها ويتعجبون منها، وأما السحرة فإنهم رأوا ما هالهم وحيرهم في أمرهم واطلعوا على أمر لم يكن في خلدهم ولا بالهم ولا يدخل تحت صناعتهم وأشغالهم، فعند ذلك وهنالك تحققوا بما عندهم من العلم أن هذا ليس بسحر ولا شعوذة، ولا محال ولا خيال، ولا زور ولا بهتان ولا ضلال؛ بل حق لا يقدر عليه إلا الحق؛ الذي ابتعث هذا المؤيد به بالحق، وكشف الله عن قلوبهم غشاوة الغفلة، وأنارها بما خلق فيها من الهدى، وأزاح عنها القساوة، وأنابوا إلي ربهم وخروا له ساجدين، وقالوا جهرة للحاضرين، ولم يخشوا عقوبة ولا بلوى: (آمنا برب هارون وموسى).

قال سعيد بن جبير وعكرمة والقاسم بن أبي بردة والأوزاعي وغيرهم: لما سجد السحرة رأوا منازلهم وقصورهم في الجنة تهيأ لهم، وتزخرف لقدومهم، ولهذا لم يلتفتوا إلي تهويل فرعون وتهديده ووعيده.

وذلك لأن فرعون لما رأى هؤلاء السحرة قد أسلموا وأشهروا ذكر موسى وهارون في الناس على هذه الصفة الجميلة، أفزعه ذلك، ورأى أمراً بهره، وأعمى بصيرته وبصره، وكان فيه كيد ومكر وخداع، وصنعة بليغة في الصد عن سبيل الله، فقال مخاطباً للسحرة بحضرة الناس: (آمنتم له قبل أن آذن لكم) أي: هلا شاورتموني فيما صنعتم من الأمر الفظيع بحضرة رعيتي؟! ثم تهدد وتوعد وأبرق وأرعد، وكذب فأبعد قائلاً: (إنه لكبيركم الذي علمكم السحر). والمقصود أن فرعون كذب وافترى وكفر غاية الكفر في قوله: (إنه لكبيركم الذي علمكم السحر) وأتى ببهتان يعلمه العالمون بل العالمون في قوله:

{إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون} (سورة الأعراف:123)

وقوله: (لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف) يعني: يقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى وعكسه،

{ولأصلبنكم أجمعين} (سورة الأعراف:124)

أي: ليجعلهم مثلة ونكالاً لئلا يقتدي بهم أحد من رعيته، وأهل ملته، ولهذا قال: (ولأصلبنكم في جذوع النخل) أي: على جذوع النخل، لأنها أعلى وأشهر

{ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى} (سورة طه:71)

يعني: في الدنيا.

{قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات} (سورة طه:72)

أي: لن نطيعك ونترك ما وقر في قلوبنا من البينات والدلائل القاطعات (والذي فطرنا) قيل: معطوف، وقيل قسم (فاقض ما أنت قاض) أي: فافعل ما قدرت عليه (إنما تقضي هذه الحياة الدنيا) أي: إنما حكمك علينا في هذه الحياة الدنيا، فإذا انتقلنا منها إلي الدار الآخرة صرنا إلي حكم الذي أسلمنا له واتبعنا رسله،

{إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى} (سورة طه:73)

أي: وثوابه خير مما وعدتنا به من التقريب والترغيب، (وأبقى) أي: وأدوم من هذه الدار الفانية، وفي الآية الأخرى:

{قالوا لا ضير إنا إلي ربنا منقلبون * إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا} (سورة الشعراء:50ـ51)

أي: ما اجترمناه من المآثم والمحارم

{أن كنا أول المؤمنين} (سورة الشعراء: 51)

أي: من القبط، بموسى وهارون عليهما السلام.

والظاهر من هذه السياقات أن فرعون ـ لعنه الله ـ صلبهم وعذبهم رضي الله عنهم قال عبد الله بن عباس وعبيد بن عمير: كانوا من أول النهار سحرة، فصاروا من آخره شهداء بررة!. ويؤيد هذا قولهم:

{ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين} (سورة الأعراف:126)

قال المفسرون وغيرهم من أهل الكتاب: استأذن بنو إسرائيل فرعون في الخروج إلي عيد لهم، فأذن لهم وهو كاره، ولكنهم تجهزوا للخروج وتأهبوا له، وإنما كان في نفس الأمر مكيدة بفرعون وجنوده، ليتخلصوا منهم ويخرجوا عنهم. وأمرهم الله تعالى ـ فيما ذكره أهل الكتاب ـ أن يستعيروا حلياً منهم، فأعاروهم شيئاً كثيراً، فخرجوا بليل فساروا مستمرين ذاهبين من فورهم، طالبين بلاد الشام، فلما علم بذهابهم فرعون حنق عليهم كل الحنق، واشتد غضبه عليهم، وشرع في استحثاث جيشه وجمع جنوده ليلحقهم ويمحقهم.

قال الله تعالى:

{وأوحينا إلي موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون * فأرسل فرعون في المدائن حاشرين * إن هؤلاء لشرذمة قليلون * وإنهم لنا لغائظون * وإنا لجميع حاذرون فأخرجناهم * من جنات وعيون * وكنوز ومقام كريم * كذلك وأوروثناها بني إسرائيل * فأتبعوهم مشرقين * فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون * قال كلا، إن معي ربي سيهدين * فأوحينا إلي موسى أن أضرب بعصاك البحر، فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم * وأزلفنا ثم الآخرين * وأنجينا موسى ومن معه أجمعين * ثم أغرقنا الآخرين * إن في ذلك لآية، وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم} (سورة الشعراء:52ـ68)

قال علماء التفسير: لما ركب فرعون في جنوده، طالباً بني إسرائيل يقفو أثرهم، كان في جيش كثيف عرمرم ، حتى قيل: كان في خيوله مائة ألف فحل أدهم، وكانت عدة جنوده تزيد على ألف ألف وستمائة ألف. فالله أعلم. والمقصود أن فرعون لحقهم بالجنود، فأدركهم عند شروق الشمس، وتراءى الجمعان ولم يبق ثم ريب ولا لبس، وعاين كل من الفريقين صاحبه وتحققه ورآه، ولم يبق إلا المقاتلة والمجادلة والمحاماة، فعندها قال أصحاب موسى وهم خائفون: (إنا لمدركون) وذلك لأنهم اضطروا في طريقهم إلي البحر فليس لهم طريق ولا محيد إلا سلوكه وخوضه، وهذا ما لا يستطيعه أحد ولا يقدر عليه، والجبال عن يسرتهم وعن أيمانهم وهي شاهقة منيفة، وفرعون قد غالقهم وواجههم، وعاينوه في جنوده وديوشه وعدده وعدته، وهم منه في غاية الخوف والذعر، لما قاسوا في سلطانه من الإهانة والمكر.

 

فلما تفاقم الأمر، وضاق الحال، واشتد الأمر، واقترب فرعون وجنوده في جدهم وحدهم وحديدهم، وغضبهم وحنقهم، وزاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، فعند ذلك أوحى الحليم العظيم القدير، رب العرش الكريم، إلي موسى الكليم: (أن اضرب بعصاك البحر)، فلما ضربه يقال إنه قال له: انفلق بإذن الله، ويقال: إنه كناه بأبي خالد، فالله أعلم.

قال الله تعالى: (فأوحينا إلي موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فريق كالطود العظيم)، ويقال: إنه انفلق اثنتي عشرة طريقاً، لكل سبط طريق يسيرون فيه، حتى قيل: إنه طار فيه أيضاً شبابيك ليرى بعضهم بعضاً! وفي هذا نظر؛ لأن الماء جرم شفاف إذا كان من ورائه ضياء حكاه.

فأراد موسى عليه السلام أن يضرب البحر بعصاه ليرجع كما كان عليه، لئلا يكون لفرعون وجنوده وصول إليه، ولا سبيل عليه، فأمره القدير ذو الجلال أن يترك البحر على هذه الحال، كما قال وهو الصادق في المقال:

{ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم * أن أدوا إلي عباد الله، إني لكم رسول أمين * وأن لا تعلوا على الله، إني آتيكم بسلطان مبين * وإني عذت بربي وربكم أن ترجعون * وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون * فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون * فأسر بعبادي ليلاً إنكم متبعون * واترك البحر رهواً، إنهم جند مغرقون * كم تركوا من جنات وعيون * وزروع ومقام كريم * ونعمة كانوا فيها فاكهين * كذلك، وأورثناها قوماً آخرين * فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين * ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين * من فرعون، إنه كان عالياً من المسرفين * ولقد اخترناهم على علم على العالمين * وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين} (سورة الدخان:17ـ33)

فقوله تعالى: (واترك البحر رهواً) أي: ساكناً على هيئته، لا تغيره عن هذه الصفة، قاله عبد الله بن عباس ومجاهد وعكرمة والربيع والضحاك وقتادة وكعب الأحبار وسماك بن حرب وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغيرهم. فلما تركه على هيئته وحالته وانتهى فرعون، فرأى ما رأى وعاين ما عاين، هاله هذا المنظر العظيم، وتحقق ما كان يتحققه قبل ذلك من أن هذا من فعل رب العرش الكريم، فأحجم ولم يتقدم، وندم في نفسه على خروجه في طلبهم والحالة هذه حيث لا ينفعه الندم، لكنه أظهر لجنوده تجلداً وعاملهم معاملة العداء، وحملته النفس الكافرة والسجية الفاجرة، على أن قال لمن استخفهم فأطاعوه، وعلى باطله تابعوه: انظروا كيف انحسر البحر لأدرك عبيدي الآبقين من يدي، الخارجين عن طاعتي وبلدي؟ وجعل يوري في نفسه أن يذهب خلفهم، ويرجو أن ينجو هيهات، ويقدم تارة ولكنه يحجم تارات!.

فذكروا أن جيريل عليه السلام تبدى في صورة فارس راكب على رمكة حائل، فمر بين يدي فحل فرعون لعنه الله، فحمحم إليها وأقبل عليها، وأسرع جبريل بين يديه فاقتحم البحر، واستبق الجواد وقد أجاد، فبادر مسرعاً، هذا فرعون لا يملك من نفسه شيئاً، ولا لنفسه ضراً ولا نفعاً، فلما رأته الجنود قد سلك البحر اقتحموا وراءه مسرعين، فحصلوا البحر أجمعين أكتعين أبصعين. حتى هم أولهم بالخروج منه، فعند ذلك أمر الله تعالى كليمه فيما أوحاه إليه أن يضرب بعصاه البحر، فضربه فارتطم عليهم البحر كما كان، فلم ينج منهم إنسان.

قال الله تعالى:

{وأنجينا موسى ومن معه أجمعين * ثم أغرقنا الآخرين * إن في ذلك لآية، وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم} (سورة الشعراء:65ـ68)

أي: في إنجائه أولياءه فلم يغرق منهم أحد، وإغراقه أعداءه فلم يخلص منهم أحد، آية عظيمة وبرهان قاطع على قدرته تعالى العظيمة، وصدق رسوله فيما جاء به من ربه من الشريعة الكريمة والمناهج المستقيمة.

 

 

قصة حزقيل

قال الله تعالى:

{ألم تر إلي الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم، إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون} (سورة البقرة:243)

قال محمد بن إسحاق، عن وهب بن منبه: إن كالب بن يوفنا لما قبضه الله إليه بعد يوشع خلف في بني إسرائيل حزقيل بن بوذي، وهو ابن العجوز، وهو الذي دعا القوم الذين ذكرهم الله في كتابه فيما بلغنا. (ألم تر إلي الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت)

قال ابن إسحاق: فروا من الوباء فنزلوا بصعيد من الأرض، فقال لهم الله: موتوا، فماتوا جميعاً، فحظروا عليهم حظيرة دون السباع، فمضت عليهم دهور طويلة، فمر بهم حزقيل عليه السلام فوقف عليهم متفكراً، فقيل له: أتحب أن يبعثهم الله وأنت تنظر؟ فقال: نعم، فأمر أن يدعو تلك العظام أن تكتسي لحماً، وأن يتصل العصب بعضه ببعض، فناداهم عن أمر الله له بذلك، فقام القوم أجمعون وكبروا تكبيرة رجل واحد.

وقد أسباط، عن السدي، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن أناس من الصحابة في قوله: (ألم تر إلي الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم) قالوا: كانت قرية يقال لها دراوردان قبل واسط، وقع بها الطاعون، فهرب عامة أهلها فنزلوا ناحية منها، فهلك من بقى في القرية، وسلم الآخرين فلم يمت منهم كثير، فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين، فقال الذين بقوا: أصحابنا هؤلاء كانوا أحزم منا لو صنعنا كما صنعوا بقينا، ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن معهم، فوقع في قابل، فهربوا وهم بضعة وثلاثون ألفاً حتى نزلوا ذلك المكان وهو واد أفيح. فناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من أعلاه، فماتوا، حتى إذا هلكوا وبقيت أجسادهم مر بهم نبي يقال له حزقيل، فلما رآهم وقف عليهم فجعل يتفكر فيهم ويلوي شدقيه وأصابعه، فأوحى الله إليه، تريد أن أريك كيف أحييهم؟ قال: نعم، وإنما كان تفكيره أنه تعجب من قدرة الله عليهم، فقيل له: ناد، فنادى: يا أيتها العظام إن الله يأمرك أن تجتمعي فجعلت العظام يطير بعضها إلي بعض، حتى إذا كانت أجساداً من عظام، ثم أوحى الله إليه، أن ناد: يا أيتها العظام إن الله يأمرك أن تكتسي لحماً، فاكتست لحماً، فاكتست لحماً ودماً وثيابها التي ماتت فيها، ثم قيل له: ناد، فنادى: أيتها الأجساد إن الله يأمرك أن تقومي فقاموا.

قال أسباط: فزعم منصور عن مجاهد أنهم قالوا حين أحيوا: سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت، فرجعوا إلي قومهم أحياء يعرفون أنهم كانوا موتى، سحنة الموت على وجوههم لا يلبسون ثوباً إلا عاد كفناً وسخاً، حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم. وعن ابن عباس أنهم كانوا أربعة آلاف، وعنه ثمانية آلاف، وعن أبي صالح تسعة آلاف، وعن ابن عباس أيضاً: كانوا أربعين ألفاً. وعن سعيد بن عبد العزيز: كانوا أهل أذرعات. وقال ابن جريج عن عطاء: هذا مثل، يعني أنه سيق مثلاً مبيناً أنه لن يغني حذر من قدر!. وقول الجمهور أقوى أن هذا وقع.

وقد روي الإمام احمد وصاحبا الصحيح من طريق الزهري، عن عبد الحميد بن عبد الحرمن بن زيد بن الخطاب، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن عبد الله بن عباس، أن عمر بن الخطاب خرج إلي الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه؛ فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام، فذكر الحديث. يعني في مشاورته المهاجرين والأنصار فاختلفوا عليه، فجاءه عبد الرحمن بن عوف، وكان متغيباً ببعض حاجته فقال: إن عندي من هذا علماً، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا كان بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه، وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه". فحمد الله عمر، ثم انصرف

وقال الإمام: حدثنا حجاج ويزيد المفتي، قالا: حدثنا ابن أبي ذؤيب، عن الزهري، عن سالم، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة؛ أن عبد الرحمن بن عوف أخبر عمر وهو في الشام عن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا السقم عذب به الأمم قبلكم، فإذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض أنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه. قال: فرجع عمر من الشام وأخرجاه من حديث مالك عن الزهري بنحوه.

قال محمد بن إسحاق: ولم يذكر لنا مدة لبث حزقيل في بني إسرائيل، ثم إن الله قبضه إليه، فلما قبض نسى بنو إسرائيل عهد الله إليهم، وعظمت فيهم الأحداث وعبدوا الأوثان، وكان في جملة ما يعبدونه من الأصنام صنم يقال له بعل، فبعث الله إليهم إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران.

قلت: وقد قدمنا قصة إلياس تبعاً لقصة الخضر، لأنهما يقرنان في الذكر غالباً، ولأجل أنها بعد قصة موسى في سورة الصافات، فتعجلنا قصته لذلك، والله أعلم. قال محمد بن إسحاق فيما ذكر له عن وهب بن منبه قال: ثم تنبأ فيهم بعد إلياس وصيه اليسع بن أخطوب عليه السلام.

 

 

 

قصة اليسع

 

وقد ذكره الله تعالى مع الأنبياء في سورة الأنعام في قوله:

{وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً، وكلاً فصلنا على العالمين} (سورة الأنعام:86)

وقال تعالى في سورة ص:

{واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل، وكل من الأخيار} (سورة ص:48)

قال ابن إسحاق: حدثنا بشر أبو حذيفة: أنبأنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، قال: كان بعد إلياس اليسع ـ عليها السلام ـ فمكث ما شاء الله أن يمكث يدعوهم إلي الله مستمسكاً بمنهاج إلياس وشريعته حتى قبضه الله عز وجل إليه، ثم خلف فيهم الخلوف، وعظمت فيهم الأحداث والخطايا، وكثرت الجبابرة، وقتلوا الأنبياء، وكان فيهم ملك عنيد طاغ، ويقال إنه الذي تكفل له ذو الكفل إن هو تاب وراجع دخل الجنة فسمى ذا الكفل. قال محمد بن إسحاق: وهو اليسع بن أخطوب.

وقال الحافظ أبو القاسم بن عساكر في حرف الياء من تاريخه: اليسع هو الأسباط ابن عدي بن شوتلم بن أفرائيم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل. ويقال: هو ابن عم إلياس النبي عليهما السلام. ويقال: كان مستخفياً معه بجبل قاسيون من ملك بعلبك، ثم ذهب معه إليها، فلما رفع إلياس خلفه اليسع في قومه، ونبأه الله بعده. ذكر ذلك عبد المنعم بن إدريس، عن أبيه، عن وهب بن منبه، قال: وقال غيره: وكان الأسباط ببانياس. ثم ذكر ابن عساكر قراءة من قرأ اليسع بالتخفيف والتشديد، ومن قرأ والليسع وهو اسم واحد لنبي من الأنبياء. قلت: قد قدمنا قصة ذا الكفل بعد قصة أيوب عليه السلام، لأنه قد قيل إنه ابن أيوب، فالله تعالى أعلم.

قال ابن جرير وغيره: ثم مرج أمر بني إسرائيل وعظمت منهم الخطوب والخطايا، وقتلوا من قتلوا من الأنبياء، وسلط الله عليهم بدل الأنبياء ملوكاً جبارين يظلمونهم، ويسفكون دماءهم، وسلط الله عليهم الأعداء من غيرهم أيضاً، وكانوا إذا قاتلوا أحداً من الأعداء يكون معهم تابوت الميثاق الذي كان في قبة الزمان، كما تقدم ذكره، فكانوا ينصرون ببركته، وبما جعل الله فيه من السكينة والبقية مما ترك آل موسى وآل هارون.

فلما كان في بعض حروبهم من أهل غزة وعسقلان غلبوهم عليه وقهروهم على أخذه فانتزعوه من أيديهم، فلما علم بذلك ملك بني إسرائيل في ذلك الزمان مالت عنقه فمات كمداً. وبقى بنو إسرائيل كالغنم بلا راع؛ حتى بعث الله فيهم نبياً من الأنبياء يقال له شمويل، فطلبوا منه أن يقيم لهم ملكاً ليقاتلوا معه الأعداء، فكان من أمرهم ما سنذكره مما قص الله في كتابه.

قال ابن جرير: فكان من وفاة يوشع بن نون إلي أن بعث الله عز وجل شمويل بن بالي أربعمائة سنة وستون سنة. ثم ذكر تفصيلها بمدد الملوك ملكوا عليهم، وسماهم واحداً واحداُ وتركنا ذكرهم قصداً.

 

 

قصة شمويل عليه السلام

 

هو شمويل، ويقال: له أشمويل بن بالي بن علقمة بن يرخام بن اليهو بن تهو بن صوف بن علقمة بن ماحث بن عموصا بن عزريا. قال مقاتل: وهو من ورثة هارون، وقال مجاهد: هو أشمويل بن هلفاقا، ولم يرفع في نسبه أكثر من هذا، فالله أعلم. حكى السدي بإسناده عن ابن عباس وابن مسعود وأناس من الصحابة والثعلبي وغيرهم أنه لما غلبت العمالقة من أرض غزة وعسقلان على بني إسرائيل وقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وسبوا من أبنائهم جمعاً كثيراً، وانقطعت النبوة من سبط لاوي ولم يبق إلا امرأة حبلى فجعلت تدعو الله عز وجل أن يرزقها ولداً ذكراً، فولدت غلاماً فسمته أشمويل، ومعناه بالعبرانية إسماعيل، أي: سمع الله دعائي.

فلما ترعرع بعشته إلي المسجد وأسلمته عند رجل صالح فيه يكون عنده ليتعلم من خيره وعبادته، وكان عنده فلما بلغ أشده بينما هو ذات ليلة نائم إذا صوت يأتيه من ناحية المسجد، فانتبه مذعوراً، فظنه الشيخ يدعوه فسأله: أدعوتني؟ فكره أن يفزعه فقال: نعم نم، فنام. ثم ناداه الثانية فكذلك ثم الثالثة فإذا جبريل يدعوه، فجاءه فقال: إن ربك قد بعثك إلي قومك. فكان من أمره معهم ما قص الله في كتابه.

{ألم تر إلي الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً تقاتل في سبيل الله، قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا، قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا، فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم، والله عليم بالظالمين * وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً، قالوا أتي يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه، ولم يؤت سعة من المال، قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم، والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم * وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين * فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده، فشربوا منه إلا قليلاً منهم، فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين * ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا افرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين * فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين} (سورة البقرة:246ـ251)

قال أكثر المفسرين: كان نبي هؤلاء القوم المذكورين في هذه القصة هو شمويل وقيل: شمعون، وقيل: هما واحد. وقيل: يوشع، وهذا بعيد لما ذكره الإمام أبو جعفر بن جرير في تاريخه أن بين موت يوشع وبعثه شمويل أربعمائة سنة وستين سنة، فالله أعلم.

والمقصود أن هؤلاء القوم لما أنهكتهم الحروب، وقهرهم الأعداء، سألوا نبي الله في ذلك الزمان، وطلبوا منه أن ينصب لهم ملكاً يكونون تحت طاعته ليقاتلوا من ورائه ومعه ومن بين يديه الأعداء، فقال لهم:

(هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله) أي: وأي شيء يمنعنا من القتال (وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا) يقولون: نحن محروبون موتورون فحقيق لنا أن نقاتل عن أبنائنا المنهورين المستضعفين فيهم المأسورين في قبضتهم.

قال الله تعالى:

{فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم، والله عليم} (سورة البقرة:246)

كما ذكر في آخر القصة أنه لم يجاوز النهر مع الملك إلا القليل، والباقون رجعوا ونكلوا عن القتال. وقال لهم نبيهم:

{إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً} (سورة البقرة:246ـ251)

قال الثعلبي: وهو طالوت بن قيش بن أنيال بن صرار بن لحوب بن أفيح بن أريش ابن بنيامين بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل. قال عكرمة والسدي: كان سقاءً، وقال وهب بن منبه: كان دباغاً، وقيل غير ذلك، فالله أعلم. ولهذا (قالوا أتي يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه، ولم يؤت سعة من المال)

ولقد ذكروا أن النبوة كانت في سبط لاوي، وأن الملك كان في سبط يهوذا، فلما كان هذا من سبط بنيامين نفروا منه، وطعنوا في إمارته عليهم، وقالوا: نحن أحق بالملك منه، وقد ذكروا أنه فقير لا سعة من المال معه، فكيف يكون مثل هذا ملكاً؟. (قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم)

قيل: كان الله قد أوحي إلي شمويل أن أي بني إسرائيل كان طوله على طول هذه العصا، وإذا حضر عندك يفور هذا القرن الذي فيه من دهن القدس فهو ملكهم، فجعلوا يدخلون ويقيسون أنفسهم بتلك العصا، فلم يكن أحد منهم على طولها سوى طالوت، ولما حضر عند شمويل فار ذلك القرن فدهنه منه وعينه للملك عليهم، وقال لهم (إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم) قيل: الطول، وقيل: الجمال، والظاهر في السياق أنه كان أجملهم وأعلمهم بعد نبيهم عليه السلام (والله يؤتي ملكه من يشاء) فله الحم وله الخلق والأمر (والله واسع عليم).

(وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين)

وهذا أيضا من بركة ولاية هذا الرجل الصالح عليهم ويمنه عليهم أن يرد الله عليهم التابوت الذي كان سلب منهم وقهرهم الأعداء عليه، وقد كانوا ينصرون على أعدائهم بسببه (فيه سكينة من ربكم) قيل: طست من ذهب كان يغسل فيه صدور الأنبياء. وقيل: السكينة مثل الريخ الخجوح. وقيل: صوتها مثل الهرة إذا صرخت في حال الحرب أيقن بنو إسرائيل بالنصر (وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون) قيل: كان فيه رضاض الألوح وشيء من المن الذي كان نزل عليهم بالتيه (تحمله الملائكة) أي: باهرة على صدق ما أقوله لكم، وعلى صحة ولاية هذا الملك الصالح عليكم، ولهذا قال: (إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين).

وقيل: إنه لما غلب العمالقة على هذا التابوت وكان فيه ما ذكر من السكينة والبقية المباركة، وقيل: كان فيه التوراة أيضاً، فلما استقر في أيديهم وضعوه تحت صنم لهم بأرضهم، فلما أصبحوا إذا التابوت على رأس الصنم فوضعوه تحته"، فلما كان اليوم الثاني إذا التابوت فوق الصنم، فلما تكرر هذا علموا أن هذا الأمر من الله تعالى، فأخرجوه من بلدهم وجعلوه في قرية من قراهم، فأخذهم داء في رقابهم، فلما طال عليهم هذا جعلوه في عجلة وربطوها في بقرتين وأرسلوهما، فيقال: إن الملائكة ساقتها حتى جاءوا بها ملأ بني إسرائيل وهم ينظرون كما أخبرهم نبيهم بذلك، فالله أعلم على أي صفة جاءت به الملائكة، والظاهر أن الملائكة كانت تحمله بأنفسهم كما هو المفهوم من الآية، والله أعلم. وإن كان الأول قد ذكره كثير من المفسرين أو أكثرهم.

(فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده)

قال ابن عباس وكثير من المفسرين: هذا النهر هو نهر الأردن، وهو المسمى بالشريعة فكان من أمر طالوت بجنوده عند هذا النهر عن أمر نبي الله له عن أمر الله له اختباراً وامتحاناً: أن من شرب من هذا النهر اليوم فلا يصحبني في هذه الغزوة، ولا يصحبني إلا من لم يطعمه إلا غرفة في يده. قال الله تعالى: (فشربوا منه إلا قليلاً منهم).

قال السدي: كان الجيش ثمانين ألفاً، فشرب منه ستة وسبعون ألفاً، فبقى معه أربعة آلاف كذا قال. وقد روي البخاري في صحيحه من حديث إسرائيل وزهير والثوري، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب، قال: كنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر، ولم يجاوز معه النهر، ولم يجاوز معه إلا بضعة عشر وثلثمائة مؤمن.

وقول السدي: إن عدة الجيش كانوا ثمانين ألفاً فيه نظر؛ لأن أرض بيت المقدس لا تحتمل أنه يجتمع فيها جيش مقاتلة يبلغون ثمانين ألفاً، والله أعلم قال الله تعالى: (فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده) أي: استقلوا أنفسهم واستضعفوها عن مقاومة أعدائهم بالنسبة إلي قلتهم وكثرة عدد عدوهم.

(قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين)

يعني: ثبتهم الشجعان منهم، والفرسان أهل الإيمان والإيقان، الصابرون على الجلاد والجدال والطعان. (ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا افرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين) وطلبوا من الله أن يفرغ عليهم الصبر، أي: يغمرهم به من فوقهم فتستقر قلوبهم ولا تقلق، وأن يثبت أقدامهم في مجال الحرب، ومعترك الأبطال، وحومة الوغي، والدعاء إلي النزال، فسألوا التثبيت الظاهر والباطن وأن ينزل عليهم النصر على أعدائهم وأعدائه من الكافرين الجاحدين بآياته وآلائه، فأجابهم العظيم القدير السميع البصير الحكيم الخبير إلي ما سألوا، وأنالهم ما إليه فيه رغبوا. ولهذا قال: (فهزموهم بإذن الله).

أي: يحول الله وقوته لا بحولهم، وبقوة الله ونصره لا بقوتهم وعددهم، مع كثرة أعداءهم وكمال عددهم، كما قال تعالى:

{ولقد نصركم الله ببدرٍ وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون} (سورة آل عمران:123)

وقوله تعالى:

{وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء}

فيه دلالة على شجاعة داود عليه السلام، وأنه قتله قتلاً أذل به جنده وكسر جيشه، ولا أعظم من غزوة يقتل فيها ملك عدوه فيغنم بسبب ذلك الأموال الجزيلة، ويأسر الأبطال الشجعان والأقران، وتعلو كلمة الإيمان على الأوثان، ويدال لأولياء الله على أعدائه، ويظهر الدين الحق على الباطل وأوليائه.

وقد ذكر السدي فيما يرويه أن داود عليه السلام كان أصغر أولاد أبيه، وكانوا ثلاثة عشر ذكراً، كان سمع طالوت ملك بني إسرائيل وهو يحرض بني إسرائيل على قتل جالوت وجنوده وهو يقول: من قتل جالوت زوجته بابنتي وأشركته في ملكي، وكان داود عليه السلام يرمي بالقذافة وهو المقلاع رمياً عظيماً، فبينما وهو سائر مع بني إسرائيل إذ ناداه حجر أن خذني فإن بي تقتل جالوت؛ فأخذه، ثم حجر آخر كذلك ثم آخر كذلك، فأخذ الثلاثة في مخلاته، فلما تواجه الصفان برز جالوت ودعا إلي نفسه، فتقدم إليه داود فقال له: ارجع فإني اكره قتلك، فقال: لكني احب قتلك.

وأخذ تلك الأحجار الثلاثة فوضعها في القذافة، ثم أدارها فصارت الثلاثة حجراً واحداً، ثم رمى بها جالوت فلق رأسه وفر جيشه منهزماً، فوفى له طالوت بما وعده فزوجه ابنته، وأجرى حكمه في ملكه، وعظم داود عليه السلام عند بني إسرائيل وأحبوه، ومالوا إليه أكثر من طالوت. فذكروا أن طالوت حسده وأراد قتله، واحتال على ذلك فلم يصل إليه، وجعل العلماء ينهون طالوت عن قتل داود، فتسلط عليهم فقتلهم حتى لم يبق منهم إلا القليل، ثم حصل له توبة وندم وأقلع عما سلف منه، وجعل يكثر من البكاء، ويخرج إلي الجبانة فيبكي حتى يبل الثرى بدموعه، فنودي ذات يوم من الجبانة: أن يا طالوت قتلتنا ونحن أحياء وآذيتنا ونحن أموت؛ فازداد لذلك بكاؤه وخوفه واشتد وجله، ثم جعل يسأل عن عالم يسأله عن أمره وهل له من توبة، فقيل له: وهل أبقيت عالما؟! حتى ذلك على امرأة من العابدات فأخذته فذهبت به إلي قبر يوشع عليه السلام، قالوا: فدعت الله، فقام يوشع من قبره فقال: أقامت القيامة؟ فقالت: لا، ولكن هذا طالوت يسألك: هل له من توبة؟ فقال: نعم: ينخلع من الملك ويذهب فيقاتل في سبيل الله حتى يقتل. ثم عاد ميتاً.

فترك الملك لداود عليه السلام، وذهب ومعه ثلاثة عشر من أولاده فقاتلوا في سبيل الله حتى قتلوا، قالوا: فذلك قوله: (وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء). هكذا رواه ابن جرير في تاريخه من طريق السدي بإسناده، وفي بعض هذا نظر، ونكارة والله أعلم. وقال محمد بن إسحاق: النبي الذي بعث فأخبر طالوت بتوبته هو اليسع بن أخطوب حكاه ابن جرير أيضاً.

وذكر الثعلبي أنها أتت به إلي قبر شويل فعاتبه على ما صنع بعده من الأمور، وهذا أنسب، ولعله إنما رآه في النوم لا أنه قام من القبر حياً، فإن هذا إنما يكون معجزة لنبي، وتلك امرأة لم تكن نبية، واله أعلم. قال ابن جرير: وزعم أهل التوراة أن مدة ملك طالوت إلي أن قتل مع أولاده أربعون سنة، فالله أعلم.

 

 

قصة داود عليه السلام

 

هو داود بن إيشا بن عويد بن عابر بن سلمون بن نحشون بن عوينادب بن إرم بن حصرون بن فارض بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عبد الله ونبيه وخليفته في أرض بيت المقدس. قال محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه: كان داود عليه السلام قصيراً أزرق العينين، قليل الشعر، طاهر القلب، نقيه.

تقدم إنه لما قتل جالوت وكان قتله له فيما ذكر ابن عساكر عند قصر أم حكيم بقرب مرج الصفر، فأحبته بنو إسرائيل ومالوا إليه وإلي ملكه عليهم، فكان من أمر طالوت ما كان وصار الملك إلي داود عليه السلام، وجمع الله له بين الملك والنبوة بين خير الدنيا والآخرة، وكان الملك يكون في سبط والنبوة في آخر، فاجتمع في داود هذا. وهذا كما قال تعالى:

{وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين} (سورة البقرة:251)

أي: لولا إقامة الملوك حكاماً على الناس لأكل قوي الناس ضعيفهم؛ ولهذا جاء في بعض الآثار: "السلطان ظل الله في أرضه". وقال أمير المؤمنين عثمان بن عفان: إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. وقد ذكر ابن جرير في تاريخه أن جالوت لما بارز طالوت فقال له: اخرج إلي وأخرج إليك، فندب طالوت الناس، فانتدب داود فقتل جالوت.

قال وهب بن منبه: فمال الناس إلي داود حتى لم يكن لطالوت ذكر، وخلعوا طالوت وولوا عليهم داود، وقيل: إن ذلك عن أمر شمويل، حتى قال بعضهم: إنه ولاه قبل الوقعة. قال ابن جرير: والذي عليه الجمهور إنه إنما ولي ذلك بعد قتل جالوت، والله أعلم، وروي ابن عساكر عن سعيد بن عبد العزيز أن قتله جالوت كان عند قصر أم حكيم وأن النهر الذي كان هو المذكور في الآية. فالله أعلم.

وقال تعالى:

{ولقد ولقد آتينا داود منا فضلاً يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد * أن اعمل سابغات وقدر في السرد، واعملوا صالحاً، إني بما تعملون بصير} (سورة سبأ:10ـ11)

وقال تعالى:

{وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير، وكنا فاعلين * وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم، فهل أنتم شاكرون} (سورة الأنبياء:79ـ80)

أعانه الله على عمل الدروع من الحديد ليحصن المقاتلة من الأعداء، وأرشده إلي صنعتها وكيفيتها: (وقدر في السرد) أي: لا تدق المسمار فيفلق ولا تغلظه فيفصم، قاله مجاهد وقتادة والحكم وعكرمة. قال الحسصن البصري وقتادة والأعمش: كان الله قد ألان له الحديد حتى كان يفتله بيده لا يحتاج إلي نار ولا مطرقة، قال قتادة: فكان أول من عمل الدروع من زرد، وإنما كانت قبل ذلك من صفائح، قال ابن شوذب: كان يعمل كل يوم درعاً يبيعها بستة آلاف درهم. وقد ثبت في الحديث: "أن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وأن نبي الله داود كان يأكل من كسب يده".

وقال تعالى:

{واذكر عبدنا داود ذا الأيد، إنه أواب * إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشى والإشراق * والطير محشورة، كل له أواب * وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب} (سورة ص:17ـ20)

قال ابن عباس ومجاهد: الأيد: القوة في الطاعة. يعني ذا قوة في العبادة والعمل الصالح، قال قتادة: أعطى قوة في العبادة فقها في الإسلام، قال: وقد ذكر لنا أنه كان يقوم الليل ويصوم نصف الدهر.

وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "احب الصلاة إلي الله صلاة داود، وأحب الصيام إلي الله صيام داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً، ولا يفر إذا لاقى"

{إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشى والإشراق * والطير محشورة، كل له أواب} (سورة ص:18ـ19)

كما قال:

{يا جبال أوبي معه والطير} (سورة سبأ:10)

أي: سبحي معه.

قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد في تفسير هذه الآية: (إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشى والإشراق) أي: عند آخر النهار وأوله، وذلك أنه كان الله تعالى قد وهبه من الصوت العظيم ما لم يعطه أحداً، بحيث أنه كان إذا ترنم بقراءة كتابه يقف الطير في الهواء يرجع بترجيعه ويسبح بتسبيحه، وكذلك الجبال تجيبه وتسبح معه كلما سبح بكرة وعشيا، صلوات الله وسلامه عليه.

 

وقال الأوزاعي: حدثني عبد الله بن عامر قال: أعطي داود من حسن الصوت ما لم يعط أحد قط، حتى إن كان الطير والوحش ينعكف حوله حتى يموت عطشاً وجوعاً، وحتى إن الأنهار لتقف!. وقال هب: كان لا يسمعه أحد إلا حجل كهيئته الرقص، وكان يقرأ الزبور بصوت لم تسمع الآذان بمثله، فيعكف الجن والإنس والطير والدواب على صورته، حتى يهلك بعضها جوعاً.

وقال أبو عوانة الأسفراييني: حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، حدثنا محمد بن منصور الطوسي، سمعت صبيحاً أبا تراب، ح، قال أبو عوانة: وحدثني أبو العباس المدني، حدثنا محمد بن صالح العدوي، حدثنا سيار هو ابن حاتم، عن جعفر، عن مالك، قال: كان داود عليه السلام إذا أخذ في قراءة الزبور تفتقت العذارى، وهذا غريب. وقال عبد الرزاق عن ابن جريج: سألت عطاء عن القراءة على الغناء، فقال: وما بأس بذلك؟ سمعت عبيد بن عمران يقول: كان داود عليه السلام يأخذ المعرفة فيضرب بها فيقرأ عليها فترد عليه صوته يريد بذلك أن يبكي ويبكي.

وقال الإمام احمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت أبي موسى الأشعري وهو يقرأ فقال: "لقد أوتى أبو موسى من مزامير آل داود"

وهذا على شرط الشيخين ولم يخرجاه من هذا الوجه.

وقال احمد: حدثنا حسن، حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لقد أعطى أبو موسى من مزامير داود" على شرط مسلم.

وقد روينا عن أبي عثمان النهدي أنه قال: لقد سمعت البربط والمزمار، فما سمعت صوتا احسن من صوت أبي موسى الأشعري. وقد كان مع هذا الصوت الرخيم سريع القراءة لكتابه الزبور،

كما قال الإمام احمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن همام، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خفف على داود القراءة، فكان يأمر بدابته فتسرج، فكان يقرأ القرآن من قبل أن تسرج دابته، وكان لا يأكل إلا من عمل يديه"

وكذلك رواه البخاري منفرداً به عن عبد الله بن محمد، عن عبد الرزاق به، ولفظه: "خفف على داود القرآن، فكان يأمر بدوابه فتسرج، فيقرأ القرآن قبل أن تسرج دوابه ولا يأكل إلا من عمل يديه". ثم قال البخاري: ورواه موسى بن عقبة، عن صفوان هو ابن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أسنده ابن عساكر في ترجمة داود عليه السلام في "تاريخه" من طرق عن إبراهيم بن طهمان، عن موسى بن عقبة، ومن طريق أبي عاصم عن أبي بكر السبري، عن صفوان بن سليم به. والمراد بالقرآن هاهنا الزبور الذي أنزله عليه وأوحاه إليه. وذكر رواية أشبه أن يكون محفوظاً فإنه كان ملكاً له أتباع، فكان يقرأ الزبور بمقدار ما تسرج الدواب، وهذا أمر سريع مع التدبر والترنم والتغني به على وجه التخشع، صلوات الله وسلامه عليه.

وقد قال الله تعالى:

{وآتينا داود زبوراً} (سورة النساء:163)

والزبور كتاب مشهور وذكرنا في التفسير الحديث الذي رواه احمد وغيره أنه أنزل في شهر رمضان، وفيه من المواعظ والحكم ما هو معروف لمن نظر فيه. وقوله: (وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب) أي: أعطيناه ملكاً عظيماً وحكماً نافذاً. وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي عباس: أن رجلين تداعيا إلي داود عليه السلام في بقرة، ادعى أحدهما على الآخر أنه اغتصبها منه، فأنكر المدعى عليه فأرجأ أمرهما إلي الليل، فلما كان الليل أوحى الله إليه أن يقتل المدعى، فلما أصبح قال له داود: إن الله أوحى إلي أن أقتلك فأنا قاتلك لا محالة، فما خبرك فيما ادعيته على هذا؟ قال: والله يا نبي الله إني لمحق فيما ادعيت عليه، ولكني كنت اغتلت أباه قبل هذا، فأمر به داود فقتل. فعظم أمر داود في بني إسرائيل جداً وخضعوا له خضوعاً عظيماً، قال ابن عباس وهو قوله تعالى: (وشددنا ملكه)، وقوله تعالى: (وآتيناه الحكمة) أي: النبوة (وفصل الخطاب) قال شرح والشعبي وقتادة وأبو عبد الرحمن السلمى وغيرهم: فصل الخطاب الشهود والإيمان، يعنون ذلك: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر". وقال مجاهد والسدي: هو إصابة القضاء وفهمه. وقال مجاهد: هو الفصل في الكلام وفي الحكم، واختاره ابن جرير.

وهذا لا ينافي ما روي عن أبي موسى الأشعري أنه قال: أما بعد: وقال وهب بن منبه: لما كثر الشر والشهادات الزور في بني إسرائيل أعطى داود سلسلة لفصل القضاء، فكانت ممدودة من السماء إلي صخرة بيت المقدس، وكانت من ذهب، فإذا تشاجر الرجلان في حق فأبهما كان محقاً نالها والآخر لا يصل إليها، فلم تزل كذلك حتى أودع رجل رجلاً لؤلؤة، فجحدها منه، وأخذ عكازاً وأودعها فيه، فلما حضرا عند الصخرة تناولها المدعي، فلما قيل للآخر خذها بيدك عمد إلي العكاز فأعطاه المدعي وفيه تلك اللؤلؤة وقال: اللهم إنك تعلم أني دفعتها إليه، ثم تناول السلسلة فنالها، فأشكل أمرها على بني إسرائيل، ثم رفعت سريعاً من بينهم.

ذكره بمعناه غير واحد من المفسرين. وقد رواه إسحاق بن بشر عن إدريس بن سنان، عن وهب به بمعناه.

{وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب * إذ دخلوا على داود ففزع منهم، قالوا لا تخف، خصمان بغى بعضنا على بعض، فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا سواء الصراط * إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب * قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلي نعاجه، وإن كثيراً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وقليل ما هم، وظن داود إنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب * فغفر له ذلك، وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب} (سورة ص:21ـ25)

وقد ذكر كثير من المفسرين من السلف والخلف هاهنا قصصاً وأخباراً أكثرها إسرائيليات ومنها ما هو مكذوب لا محالة. تركنا إيرادها في كتابنا قصداً واكتفاءً واقتصاراً على مجرد تلاوة القصة من القرآن العظيم، والله يهدي من يشاء إلي صراط مستقيم. وقد اختلف الأئمة في سجدة "ص" هل هي من عزائم السجود، أو إنما هي سجدة شكر ليست من عزائم السجود؟ على قولين: قال البخاري: حدثنا محمد بن عبد الله، حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي، عن العوام قال: سألت مجاهداً عن سجدة "ص" فقال: سألت ابن عباس من أين سجدت؟ فقال: أو ما تقرأ:

{ومن ذريته داود وسليمان} (سورة الأنعام:84)

{أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} (سورة الأنعام:90)

فكان داود ممن أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي به فسجدها داود عليه السلام، فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد قال الإمام احمد: حدثنا إسماعيل هو ابن علية، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال في السجود في "ص": ليست من عزائم السجود، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها. وكذا رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث أيوب، وقال الترمذي: حسن صحيح، وقال النسائي: أخبرني إبراهيم بن الحسن المقسمي، حدثنا حجاج بن محمد، عن عمرو بن ذر، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في "ص"، وقال: "سجدها داود توبة، ونسجدها شكراً" تفرد به احمد، ورجاله ثقات.

وقال أبو داود: حدثنا احمد بن صالح، حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح، عن أبي سعيد الخدري، قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر "ص"، فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد معه الناس، فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد معه الناس، فلما كان يوم آخ قرأها بلغ السجدة تشزن الناس للسجود، فقال: "إنما هي توبة نبي ولكن رأيتكم تشزنتم" فنزل وسجد. وتفرد به أبو داود وإسناده على شرط الصحيح

وقال الإمام احمد: حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا حميد، حدثنا بكر، هو ابن عمر، وأبو الصديق الناجي، أنه أخبره أن أبا سعيد الخدري رأى رؤيا أنه يكتب "ص"، فلما بلغ إلي التي يسجد بها رأى الدواة والقلم وكل شيء بحضرته انقلب ساجداً، قال: فقصها على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزل يسجد بها بعد. تفرد به احمد. وروى الترمذي وابن ماجه من حديث محمد بن يزيد بن خنيس، عن الحسن بن محمد بن عبيد الله بن أبي يزيد، قال لي ابن جريج: حدثني جدك عبيد الله بن أبي يزيد، عن ابن عباس قال: جاء رجل إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني رأيت فيما يرى النائم كأني أصلي خلف شجرة، فقرأت السجدة فسجدت الشجرة بسجودي، فسمعتها تقول وهي ساجدة: "اللهم اكتب لي بها عندك أجراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وضع عني بها وزراً، واقبلها مني كما قبلت من عبدك داود". قال ابن عباس: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قام فقرأ السجدة ثم سجد فسمعته يقول وهو ساجد كما حكى الرجل عن كلام الشجرة. ثم قال ابن عباس: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قام فقرأ السجدة ثم سجد فسمعته يقول وهو ساجد كما حكى الرجل عن كلام الشجرة. ثم قال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

وقد ذكر بعض المفسرين أنه عليه السلام مكث ساجداً أربعين يوماً، وقاله مجاهد والحسن وغيرهما، وورد في ذلك حديث مرفوع، لكنه من رواية يزيد الرقاشي، وهو ضعيف متروك الرواية. قال الله تعالى: (فغفرنا له ذلك، وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب). أي: أن له يوم القيام لزلفى، وهو القربة التي يقربه الله بها ويدنيه من حظيرة قدسه يسببها، كما ثبت في الحديث: "المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذي يقسطون في أهليهم وحكمهم وما ولوا".

وقال الإمام احمد في مسنده، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا فضيل، عن عطية عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن احب الناس إلي الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلساً إمام عادل، وإن أبغض الناس إلي الله يوم القيامة وأشدهم عذاباً إمام جائر" وهكذا رواه الترمذي من حديث فضيل بن مرزوق الأغر به، وقال: لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا عبد الله بن أبي زياد، حدثنا سيار، حدثنا جعفر بن سليمان، سمعت مالك بن دينار في قوله: (فغفرنا له ذلك، وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب) قال: يقوم داود عليه السلام يوم القيامة عند ساق العرش، فيقول الله: يا داود مجدني اليوم بذلك الصوت الحسن الرخيم الذي كنت تمجدني في الدنيا، فيقول: وكيف وقد سلبته؟ فيقول: إني أرده عليك اليوم. قال: فيرفع داود بصوت يستفرغ نعيم أهل الجنان. يقول تعالى:

{يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله، إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} (سورة ص:26)

هذا خطاب من الله تعالى مع داود، والمراد ولاة الأمور وحكام الناس، وأمرهم بالعدل واتباع الحق المنزل من الله، لا ما سواه من الآراء والأهواء، وتوعد من سلك غير ذلك وحكم بغير ذلك، وقد كان داود عليه السلام هو المقتدى به في ذلك الزمان في العدل، وكثرة العبادة، وأنواع القربات، حتى إنه كان لا يمضي ساعة من أناء الليل وأطراف النهار إلا وأهل بيته في عبادة ليلاً ونهاراً، كما قال تعالى:

{اعملوا آل داود شكراً، وقليل من عبادي الشكور} (سورة سبأ:13)

قال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن بسام، حدثنا صالح المرى، عن أبي عمران الجوني، عن أبي الجلد، قال: قرأت في مسألة داود عليه السلام أنه قال: يا رب كيف لي أن أشكرك وأنا لا أصل إلي شكرك إلا بنعمتك؟ قال: فأتاه الوحي، أن يا داود ألست تعلم أن الذي بك من النعم مني؟ قال: بلى يا رب، قال: فإني أرضى بذلك منك. وقال البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، قال: قال داود: الحمد لله كما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله، فأوحى الله إليه: إنك أتعبت الحفظة يا داود!. ورواه أبو بكر بن أبي الدنيا عن علي بن الجعد، عن الثوري مثله. وقال عبد الله بن المبارك في كتاب "الزهد": أنبأنا سفيان الثوري، عن رجل، عن وهب بن منبه، قال: إن في حكمة آل داود: حق على العاقل ألا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفضي فيها إلي إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه، وساعة يخلي بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل، فإن هذه الساعة عون على هذه الساعات وإجمام للقلوب. وحق على العاقل أن يعرف زمانه، ويحفظ لسانه، ويقبل على شأنه. وحق على العاقل أن يعرف زمانه، ويحفظ لسانه، ويقبل على شأنه. وحق على العاقل ألا يظعن إلا في إحدى ثلاث: زاد لمعادة، ومرمة لمعاشه، ولذة في غر محرم.

وقد رواه أبو بكر بن أبي الدنيا، عن أبي بكر بن أبي خيثمة، عن ابن مهدي، عن سفيان، عن أبي الأغر، عن وهب بن منبه، فذكره. ورواه أيضاً عن علي بن الجعد، عن عمر بن الهيثم الرقاشي، عن أبي الأغر، عن وهب بن منبه فذكره، وأبو الأغر هو الذي أبهمه ابن المبارك في روايته، قاله ابن عساكر. وقال عبد الرزاق: أنبأنا بشر بن رافع، حدثنا شيخ من أهل صنعاء يقال له أبو عبد الله قال: سمعت وهب بن منبه، فذكر مثله. وقد أورد الحافظ ابن عساكر في ترجمة داود عليه السلام أشياء كثيرة مليحة منها قوله: كن لليتيم كالأب الرحيم، وأعلم أنك كما تزرع كذلك تحصد. وروى بسند غريب مرفوعاً: "قال داود: يا زارع السيئات أنت تحصد شوكها وحسكها".

وعن داود عليه السلام أنه قال: مثل الخطيب الأحمق في نادي القوم كمثل المغني عند رأس الميت. وقال أيضاً: ما أقبح الفقر بعد الغنى، وأقبح من ذلك الضلالة بعد الهدى. وقال: انظر ما تكره أن يذكر عنك في نادي القوم فلا تفعله إذا خلوت. وقال: لا تعدن أخاك بما لا تنجزه له، فإن ذلك عداوة ما بينك وبينه. وقال محمد بن سعد: أنبأنا محمد بن عمر الواقدي، حدثني هشام بن سعد، عن عمر مولي عفرة، قال: قالت يهود لما رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوج النساء: انظروا إلي هذا الذي لا يشبع من الطعام، ولا والله ما له همة إلا إلي النساء، وحسدوه لكثرة نسائه وعابوه بذلك، فقالوا: لو كان نبيا ما رغب في النساء، وكان أشدهم في ذلك حيى بن أخطب، فأكذبهم الله وأخبرهم بفضل الله وسعته على نبيه صلوات الله وسلامه عليه، فقال: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله) يعني الناس: رسول الله صلى الله عليه وسلم

{فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً} (سورة النساء:54)

يعني: ما آتى الله سليمان بن داود كانت له ألف امرأة، سبعمائة مهيرة وثلاثمائة سرية، وكانت لداود عليه السلام مائة امرأة منهن امرأة أوريا أم سليمان ابن داود التي تزوجها بعد الفتنة، هذا أكثر مما لمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر الكلبي نحو هذا: وإنه كان لداود عليه السلام مائة امرأة ولسليمان ألف امرأة، منهن ثلاثمائة سرية.

وروى الحافظ في تاريخه في ترجمة "صدقة الدمشقي" الذي يروي عن أن عباس من طريق الفرج بن فضالة الحمصي، عن أبي هريرة الحمصي، عن صدقة الدمشقي، أن رجلا سأل ابن عباس عن الصيام فقال: لأحدثنك بحديث كان عندي في البحث مخزوناً، إن شئت أنبأتك بصوم داود فإنه كان صواماً قواماً، وكان شجاعا لا يفر إذا لاقى، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "افضل الصيام صيام داود، وكان يقرأ الزبور بسبعين صوتاً يكون فيها، وكانت له ركعة من الليل يبكي فيها نفسه، ويبكي ببكاء كل شيء، ويصرف بصوته المهموم والمحمول"

وإن شئت أنبأتك بصوم ابنه سليمان، فإنه كان يصوم من أول الشهر ثلاثة أيام، ومن وسطه ثلاثة أيام، ومن آخره ثلاثة أيام، ويستفتح الشهر بصيام ووسطه بصيام ويختمه بصيام.

وإن شئت أنبأتك بصوم ابن العذراء البتول عيسى ابن مريم، فإنه كان يصوم الدهر، ويأكل الشعير، ويلبس الشعر، ويأكل ما وجد ولا يسأل عما فقد، ليس له ولد يموت ولا بيت يخرب، وكان أينما أدركه الليل صف بين قدميه وقام يصلي حتى يصبح، وكان رامياً لا يفوته صيد يريده وكان يمر بمجالس بني إسرائيل فيقضي لهم حوائجهم. وإن شئت أنبأتك بصوم أمه مريم بنت عمران، فإنها كانت تصوم يوماً وتفطر يومين. وإن شئت أنبأتك بصوم النبي العربي الأمي محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، ويقول إن ذلك صوم الدهر. وقد روي الإمام احمد عن أبي النضر، عن فرج بن فضالة، عن أبي هرم، عن صدقة، عن ابن عباس مرفوعاً في صوم داود.

 

 

 

قصة سليمان عليه السلام

 

قال الحافظ ابن عساكر: هو سليمان بن داود بن إيشا بن عويد بن عابر بن سلمون ابن نخشون بن عمينا اداب بن إرم بن حصرون بن قارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم أبي الربيع، نبي الله ابن نبي الله. جاء في الآثار أنه دخل دمشق، قال ابن ماكولا: فارص بالصاد المهمة، وذكر نسبه قريباً مما ذكره ابن عساكر.

قال الله تعالى:

{وورث سليمان داود، وقال يا أيها الناس علمناه منطق الطير وأوتينا من كل شيء، إن هذا لهو الفضل المبين} (سورة النمل:16)

أي: ورثه في النبوة والملك، وليس المراد ورثه في المال؛ لأنه قد كان له بنون غيره، فما كان ليخص بالمال دونهم، ولأنه

قد ثبت في الصحيح من غير وجه عن جماعة من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث ما تركنا فهو صدقة"

وكذلك ما عداها من الحيوانات وسائر صنوف المخلوقات، والدليل على هذا قوله بعد هذا من الآيات: (وأوتينا من كل شيء) أي: من كل ما يحتاج الملك إليه من العدد والآلات والجنود والجيوش والجماعات من الجن والإنس والطيور والوحوش والشياطين والسارحات والعلوم والفهم والتعبير عن ضمائر المخلوقات من الناطقات والصامتات، ثم قال: (إن هذا لهو الفضل المبين) أي: من بارئ البريات وخالق الأرض والسماوات، كما قال تعالى:

{وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون * حتى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون * فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين} (سورة النمل:17ـ19)

يذكر تعالى ما كان من أمر سليمان والهدهد، وذلك أن الطيور كانت على كل صنف منها مقدمون، ويقومون بما يطلب منهم، ويحضرون عنده بالنوبة كما هي عادة الجنود مع الملوك. وكانت وظيفة الهدهد على ما ذكره ابن عباس وغيره أنهم كانوا إذا أعوزوا الماء في القفار في حال الإسفار يجئ فينظر لهم هل بهذه البقاع من ماء، وفيه من القوة التي أودعها الله تعالى فيه، أن ينظر إلي الماء تحت تخوم الأرض، فإذا دلهم عليه حفروا عنه، واستنبطوه وأخرجوه واستعملوا لحاجتهم. فلما تطلبه سليمان عليه السلام ذات يوم فقده ولم يجده في موضعه من محل خدمته (فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين) أي: ما له مفقود من هاهنا، أو قد غاب عن بصري فلا أراه بحضرتي؟ (لأعذبنه عذاباً شديداً)، توعده بنوع من العذاب اختلف المفسرون فيه، والمقصود حاصل على كل تقدير، (أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين) أي بحجة تنجيه من هذه الورطة.

قال الله تعالى: (فمكث غير بعيد) أي: فغاب الهدهد غيبة ليست بطويلة، ثم قدم منها (فقال) لسليمان (أحطت بما لم تحط به) أي: طلعت على ما لم تطلع عليه (وجئتك من سبأ بنبأ يقين) أي: بخبر صادق (إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم) يذكر ما كان عليه ملوك سبأ في بلاد اليمن من المملكة العظيمة والتبابعة المتوجين، وكان الملك قد آل في ذلك الزمان إلي امرأة منهم ابنة ملكهم لم يخلف غيرها فملكوها عليهم. وذكر الثعلبي وغيره أن قومها ملكوا عليهم بعد أبيها رجلاً فعم بعد الفساد، فأرسلت إليه تخطبه فتزوجها، فلما دخلت عليه سقته خمراً ثم حزت رأسه ونصبته على بابها، فأقبل الناس عليها وملكوها عليهم وهي بلقيس بنت السيرح وهو الهدهاد. وقيل شراحيل بن ذي جدن بن السيرج بن الحارث بن قيس بن سيفي بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وكان أبوها من أكابر الملوك، وكان قد تأبى أن يتزوج من أهل اليمن، فيقال: إنه تزوج بامرأة من الجن اسمها ريحانه بنت السكن، فولدن له هذه المرأة واسمها تلقمة، ويقال لها: بلقيس.

وقد روى الثعلبي من طريق سعيد بن بشير عن قتادة، عن النضر، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: كان أحد أبوي بلقيس جنيا" وهذا حديث غريب وفي سنده ضعف.

وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث عوف، عن الحسن، عن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن أهل فارس ملكوا عليهم ابنة كسرى قال: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"

ثم ذكر كفرهم بالله وعبادتهم الشمس من دون الله وإضلال الشيطان لهم وصده إياهم عن عبادة الله تعالى وحده لا شريك له الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما يخفون وما يعلنون، أي: يعلم السرائر والظواهر من المحسوسات والمعنويات: (الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم) أي: له العرش العظيم الذي لا أعظم منه في المخلوقات.

فعند ذلك بعث سليمان عليه السلام كتابه يتضمن دعوته لهم إلي طاعة الله وطاعة رسوله والإنابة والإذعان إلي الدخول في الخضوع لملكه وسلطانه، ولهذا قال لهم: (ألا تعلوا علي) أي: لا تستكبروا عن طاعتي وامتثال أوامري (وائتوني مسلمين) أي: واقدموا على سامعين مطيعين بلا معاودة ولا مراودة، فلما جاءها الكتاب مع الطير، ومن ثم اتخذ الناس البطائق ولكن أين الثريا من الثرى! تلك البطاقة كانت هي طائر سامع مطيع فاهم عالم بما يقول ويقال له، فذكر غير واحد من المفسرين وغيرهم أن الهدهد حمل الكتاب، وجاء إلي قصرها، فألقاه إليها وهي في خلوة لها، ثم وقف إلي مشورتها (قالت: يا أيها الملأ إني ألقى إلي كتاب كريم) ثم قرأت عليهم عنوانه أولاً: (إنه من سليمان) ثم قرأته: (وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وائتوني مسلمين) ثم شاورتهم في أمرها وما قد حل بها، وتأدبت معهم وخاطبتهم وهم يسمعون (قالت: يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون) تعني: ما كنت لأبت أمراً إلا وأنتم حاضرون (قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد) يعنون: لنا قوة وقدرة على الجلاد والقتال ومقاومة الأبطال، فإن أردت منا ذلك فإنا عليه من القادرين (و) مع هذا فـ (الأمر إليك فانظري ماذا تأمرين) فبذلوا لها السمع والطاعة وأخبروها بما عندهم من الاستطاعة، وفوضوا إليها ذلك الأمر، لترى فيه ما هو الأرشد لها ولهم.

فكان رأيها أتم وأشد من رأيهم، وعلمت أن صاحب هذا الكتاب لا يغالب ولا يمانع ولا يخالف ولا يخادع (قالت: إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون) تقول برأيها السديد: إن هذا الملك لو قد غلب على هذه المملكة لم يخلص الأمر من بينكم إلا إلي، ولم تكن الحدة الشديدة والسطوة البليغة إلا على (وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون) أرادت أن تصانع عن نفسها وأهل مملكتها بهدية ترسلها وتحف تبعثها، ولم تعلم أن سليمان عليه السلام لا يقبل منهم والحالة هذه صرفا ولا عدلاً، لأنهم كافرون، وهو وجنوده عليهم قادرون. ولهذا لما (جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما أتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون) هذا وقد كانت تلك الهدايا مشتملة على أمور عظيمة، كما ذكره المفسرون.

 

ثم قال لرسولها إليه ووافدها الذي قدم عليه والناس حاضرون يسمعون: (ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون) يقول: ارجع بهديتك التي قدمت بها إلي من قد من بها، فإن عندي مما قد أنعم الله علي وأسداه إلي من الأموال والتحف والرجال ما هو أضعاف هذا، وخير من هذا الذي أنتم تفرحون به وتفخرون على أبناء جنسكم بسببه (فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها) أي: فلأبعثن إليهم بجنود لا يستطيعون دفاعهم ولا نزالهم ولا ممانعتهم ولا قتالهم، ولأخرجنهم من بلدهم وحوزتهم ومعاملتهم ودولتهم أذلة (وهم صاغرون) عليهم الصغار والعار والدمار. فلما بلغهم ذلك عن نبي الله لم يكن لهم بد من السمع والطاعة، فبادروا إلي إجابته في تلك الساعة، واقبلوا بصحبة الملكة أجمعين سامعين مطيعين خاضعين، فلما سمع بقدومهم عليه ووفودهم إليه قال لمن بين يديه ممن هو مسخر له من الجان ما قصه الله عنه في القرآن:

{قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين * قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك، وإني عليه لقوي أمين * قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك، فلما رآه مستقراً عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإن ربي غني كريم * قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون * فلما جاءت قيل أهكذا عرشك، قالت كأنه هو، وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين * وصدها ما كانت تعبد من دون الله، إنها كانت من قوم كافرين * قيل لها ادخلي الصرح، فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها، قال إنه صرح ممرد من قوارير، قالت ربي إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين} (سورة النمل:38ـ44)

لما طلب سليمان من الجان أن يحضروا له عرش بلقيس، وهو سرير مملكتها التي تجلس عليه وقت حكمها، قبل قدومها عليه (قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك) يعني: قبل أن ينقضي مجلس حكمك، وكان فيما يقال من أول النهار إلي قريب الزوال يتصدى لمهمات بني إسرائيل وما لهم من الأشغال (وإني عليه لقوي أمين) أي: وإني لذو قوة على إحضاره وأمانة على ما فيه من الجواهر النفيسة لديك: (قال الذي عنده علم الكتاب) المشهور أنه آصف بن بزخيا وهو ابن خالة سليمان، وقيل: رجل من مؤمني الجان كان فيما يقال يحفظ الاسم الأعظم، وقيل: رجل من بني إسرائيل من علمائهم، وقيل: إنه سليمان، وهو غريب جداً، وضعفه السهيلي بأنه لا يصح في سياق الكلام، قال: وقد قيل فيه قول رابع وهو جبريل، (أنا آتيك بما قبل أن يرتد إليك طرفك) قيل: معناه قبل أن تبعث رسولاً إلي أقصى ما ينتهي إليه طرفك من الأرض ثم يعود إليك.

(فلما رآه مستقر عنده) أي: فلما رأى عرش بلقيس مستقراً عنده في هذه المدة القريبة من بلاد اليمن إلي بيت المقدس في طرفة عين (قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر) أي: هذا من فضل الله علي وفضله على عباده ليختبرهم على الشكر أو خلافه (ومن شكر فإنما يشكر لنفسه) أي: إنما يعود نفع ذلك عليه (ومن كفر فإن ربي غني كريم) أي: غني عن شكر الشاكرين، ولا يتضرر بكفر الكافرين. ثم أمر سليمان عليه السلام أن تغير حلي هذا العرش وتنكر لها ليختبر فهمها وعقلها، ولهذا قال: (ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون * فلما جاءت قيل: أهكذا عرشك؟ قالت كأنه هو) وهذا من فطنتها وغزارة فهمها؛ لأنها استبعدت أن يكون عرشها لأنها خلفته وراءها بأرض اليمن ولم تكن تعلم أن أحداً يقدر على هذا الصنع العجيب الغريب، قال الله تعالى إخباراً عن سليمان وقومه: (وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين * وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين) أي: ومنعتها عبادة الشمس التي كانت تسجد لها هي وقومها من دون الله اتباعاً لدين آبائهم وأسلافهم لا لدليل قادهم إلي ذلك ولا حداهم على ذلك.

وكان سليمان قد أمر ببناء صرح من زجاج وعمل في ممره ماء، وجعل عليه سقفاً من زجاج، وجعل فيه من السمك وغيرها من دواب الماء، وأمرت بدخول الصرح وسليمان جالس على سريره فيه: (فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين) وقد قيل: إن الجن أرادوا أن يبشعوا منظرها عند سليمان وأن تبدي عن ساقيها ليرى ما عليهما من الشعر فينفره ذلك منها وخشوا أن يتزوجها؛ لأن أمها من الجان فتتسلط عليهم معه. يذكر تعالى أنه وهب لداود سليمان عليه السلام، ثم أثنى عليه تعالى فقال: (نعم العبد إنه أواب) أي: رجاع مطيع الله، ثم ذكر تعالى ما كان من أمره في الخيل الصافنات، وهي التي تقف على ثلاثة وطرف حافر الرابعة، والجياد وهي المضمرة السراع.

قال الله تبارك وتعالى:

{فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين} (سورة سبأ:14)

عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان سليمان نبي الله عليه السلام إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه فيقول لها: ما اسمك؟ فتقول كذا، فيقول: لأي شيء أنت؟ فإن كانت لغرس غرست، وإن كانت لدواء أنبتت فبينما هو يصلي ذات يوم إذا رأى شجرة بين يديه، فقال لها: ما اسمك؟ قالت: الخروب، قال: لأي شيء أنت؟ قالت: لخراب هذا البيت، فقال سليمان: اللهم عليها حولاً والجن تعمل، فأكلتها الأرضة فتبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا حولاً في العذاب المهين". قال: وكان ابن عباس يقرؤها كذلك فشكرت الجن للأرضة فكانت تأتيها بالماء

كان سليمان عليه السلام يتجرد في بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين وأقل من ذلك وأكثر، يدخل طعامه وشرابه، فأدخله في المرة التي توفى فيها فكان بدء ذلك أنه لم يكن يوم يصبح فيه إلا نبتت في بيت المقدس شجرة فيأتيها فيسألها، ما اسمك؟ فتقول الشجرة: اسمي كذا وكذا، فإن كانت لغرس غرسها، وإن كانت نبتت دواء لكذا وكذا، فيجعلها كذلك حتى نبتت شجرة يقال لها الخروبة، فسألها: ما اسمك؟ قالت: أنا الخروبة، فقال: ولأي شيء نبت؟ فقالت: نبت لخراب هذا المسجد، فقال سليمان: ما كان الله ليخربه وأنا حي، أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس، فنزعها وغرسها في حائط له، ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئاً على عصاه فمات، ولم تعلم به الشياطين، وهم في ذلك يعملون له يخافون أن يخرج فيعاقبهم، وكانت الشياطين تجتمع حول المحراب، وكان المحراب له كوى بين يديه وخلفه، فكان الشيطان الذي يريد أن يخلع يقول ألست جليداً إن دخلت فخرجت من ذلك الجانب، فيدخل حتى يخرج من الجانب الآخر، فدخل شيطان من أولئك، فمر، ولم يكن شيطان ينظر إلي سليمان عليه السلام وهو في المحراب إلا احترق، فلم يسمع صوت سليمان، ثم رجع فلم يسمع، ثم رجع فوقع في البيت ولم يحترق ونظر إلي سليمان عليه السلام قد سقط ميتاً، فخرج فأخبر الناس أن سليمان قد مات، ففتحوا عنه فأخرجوه ووجدوا منسأته، وهي العصا بلسان الحبشة، قد أكلتها الأرضة، ولم يعلموا منذ كم مات، فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت منها يوماً وليلة، ثم حبسوا ذلك النحو فوجدوه قد مات منذ سنة، وهي قراءة ابن مسعود: فمكثوا يدأبون له من بعد موته حولاً كاملاً، فأيقن الناس عند ذلك أن الجن كانوا يكذبون، ولو أنهم علموا الغيب لعلموا بموت سليمان، ولم يلبثوا في العذاب سنة يعملون له، وذلك قول الله عز وجل: (فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين) يقول: تبين أمرهم الناس أنهم كانوا يكذبونهم، ثم إن الشياطين قالوا للأرضة: لو كنت تأكلين الطعام أتيناك بأطيب الطعام، ولو كنت تشربين الشراب سقيناك أطيب الشراب، ولكنا سننقل إليك الماء والطين، قال: فهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت. قال: ألم تر إلي الطين الذي يكون في جوف الخشب فهو ما يأتيها به الشيطان تشكراً لها. وهذا فيه من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب.

عن عثمان بن أبي شيبة أن سليمان بن داود عليهما السلام قال لملك الموت: إذا أردت أن تقبض روحي فأعلمني قال: ما أنا أعلم بذلك منك، إنما هي كتب تلقى إلي فيها تسمية من يموت. قال سليمان لملك الموت: إذا أمرت بي فأعلمني، فأتاه فقال: يا سليمان قد أمرت بك، قد بقيت لك سويعة، فدعا الشيطان فبنوا عليه صرحاً من قوارير ليس له باب، فقام يصلي فاتكأ على عصاه، قال: فدخل عليه ملك الموت فقبض روحه وهو متوكئ على عصاه، ولم يصنع ذلك فراراً من ملك الموت، قال: والجن تعمل بين يديه وينظرون إليه يحسبون أنه حي، قال: فبعث الله دابة الأرض يعني إلي منسأته فأكلتها حتى إذا أكلت جوف العصا ضعفت وثقل عليها فخر، فلما رأت الجن ذلك انفضوا وذهبوا، قال: قوله: (فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين).

عن ابن عباس أن ملكه كان عشرين سنة وكان عمر سليمان بن داود عليهما السلام نيفاً وخمسين سنة وفي سنة أربع من ملكه ابتدأ ببناء بيت المقدس فيما ذكر، ثم ملك بعده ابنه رخعيم مدة سبع عشرة سنة فيما ذكره ابن جرير، وقال: ثم تفرقت بعده مملكة بني إسرائيل.

 

 

 

قصة العزيز

 

قال الحافظ أبو القاسم بن عساكر: هو عزيز بن جروة، ويقال ابن سوريق بن عديا ابن أيوب بن درزنا بن عرى بن تقي بن أسبوع بن فنحاص بن العازر بن هارون بن عمران.

وقال إسحاق بن بشر: أن عزيزاً كان عبداً صالحاً حكيماً، خرج ذات يوم إلي ضيعة له يتعاهدها، فلما انصرف أتى إلي خربة حين قامت الظهيرة وأصابه الحر، ودخل الخربة وهو على حماره فنزل عن حماره، ومعه سلة فيها تين وسلة فيها عنب، فنزل في ظل تلك الخربة وأخرج خبزاً يابساً معه، فألقاه في تلك القصعة في العصير ليبتلى ليأكله، ثم استلقى على قفاه وأسند رجليه إلي الحائط، فنظر إلي سقف تلك البيوت، ورأى ما فيها وهي قائمة على عروشها، وقد باد أهلها ورأى عظاماً بالية فقال: (أنى يحيى هذه الله بعد موتها) فلم يشك أن الله يحييها، ولكن قالها تعجباً، فبعث الله ملك الموت فقبض روحه، فأماته الله مائة عام.

فلما أتت عليه مائة عام، وكانت فيما بين ذلك في بني إسرائيل أمور وأحداث، قال: فبعث الله إلي عزيز ملكاً فخلق قلبه وعينيه لينظر بهما فيعقل كيف يحيي الله الموتى، ثم ركب خلقه وهو ينظر، ثم كسا عظامه اللحم والشعر والجلد ثم نفخ فيه الروح، كل ذلك وهو يرى ويعقل، فاستوى جالساً، فقال له الملك: كيف لبثت؟ قال: لبثت يوماً، وذلك أنه كان لبث صدر النهار عند الظهيرة وبعث في آخر النهار والشمس لم تغب، فقال: أو بعض يوم ولم يتم لي يوم، فقال له الملك: بل لبثت مائة عام، فانظر إلي طعامك وشرابك، يعني الطعام الخبز اليابس، وشرابه العصير الذي كان اعتصره في القصعة، فإذا هما على حالهما لم يتغير العصير والخبز اليابس، فذلك قوله: (لم يستنه) يعني: لم يتغير.

وكذلك التين والعنب غض لم يتغير شيء من حالهما، فكأنه أنكر في قلبه، فقال له الملك: أنكرت ما قلت لك؟ انظر إلي حمارك فنظر إلي حماره قد بليت عظامه وصارت نخرة، فنادى الملك عظام الحمار، فأجابت وأقبلت من كل ناحية حتى ركبه وعزيز ينظر إليه، ثم ألبسها العروق والعصب، ثم كساها اللحم ثم أنبت عليها الجلد والشعر، ثم نفخ فيه الملك فقام الحمار، رافعاً رأسه وأذنيه إلي السماء ناهقاً يظن القيامة قد قامت، فذلك قوله: (وانظر إلي حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلي العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً). يعني: وانظر إلي عظام حمارك كيف يركب بعضها بعضاً في أوصالها، حتى إذا صارت عظاماً مصوراً حماراً بلا لحم، ثم انظر كيف نكسوها لحماً: (فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير) من إحياء الموتى وغيره.

قال: فركب حماره حتى أتى محلته فأنكره الناس وأنكر الناس وأنكر منزله، فانطلق إلي وهم منه حتى أتى منزله، فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة قد أتى عليها مائة وعشرون سنة كانت أمة لهم، فخرج عنهم عزيز وهي بنت عشرين سنة كانت عرفته وعقلته، فلما أصابها الكبر أصابها الزمانة، فقال لها عزيز: يا هذه أهذا منزل عزيز؟ قالت: نعم هذا منزل عزيز، فبكت، وقالت: ما رأيت أحداً من كذا وكذا سنة يذكر عزيزاً، وقد نسيه الناس، قال: فإني أنا عزيز، كان الله أماتني مائة سنة ثم بعثني، قالت: سبحان الله! فإن عزيزاً قد فقدناه منذ مائة سنة فلم نسمع له بذكر، قال: فإني أنا عزيز، قالت: فإن عزيز رجل مستجاب الدعوة يدعو للمريض ولصاحب البلاء بالعافية والشفاء، فادع الله أن يرد علي بصري حتى أراك فإن كنت عزيزاً عرفتك.

قال: فدعا ربه ومسح بيده على عينيها فصحتا وأخذ بيدها وقال: قومي بإذن الله، فأطلق الله رجليها، فقامت صحيحة كأنما نشطت من عقال، فنظرت فقالت: اشهد أنك عزيز. وانطلقت إلي مجلة بني إسرائيل وهم في أنديتهم ومجالسهم، وابن لعزيز شيخ ابن مائة سنة وثماني عشر سنة، وبني بنيه شيوخ في المجلس فنادتهم، فقالت: هذا عزيز قد جاءكم. فكذبوها، فقالت: أنا فلانة مولاتكم دعا ربه فرد علي بصري وأطلق رجلي، وزعم أن الله أماته مائة سنة ثم بعثه، قال: فنهض الناس فأقبلوا إليه فنظروا إليه، فقال ابنه: كان لأبي شامة سوداء بين كتفيه، فكشف عن كتفيه فإذا هو عزيز، فقالت بنو إسرائيل: فإنه لم يكن فينا أحد حفظ التوراة فيما حدثنا غير عزيز وقد حرق بختنصر التوراة ولم يبق منها شيء إلا ما حفظت الرجال فاكتبها لنا، وكان أبوه سروخاً قد دفن التوراة أيام بتختصنر في موضع لم يعرفه أحد غير عزيز، فانطلق بهم إلي ذلك الموضع فحفره فاستخرج التوراة وكان قد عفن الورق ودرس الكتاب.

قال: وجلس في ظل شجرة وبنو إسرائيل حوله فجدد لهم التوراة، ونزل من السماء شهابان حتى دخلا جوفه، فتذكر التوراة فجددها لبني إسرائيل، فمن ثم قالت اليهود عزيز ابن الله، للذي كان من أمر الشهابين وتجديده التوراة وقيامه بأمر بني إسرائيل كان جدد لهم التوراة بأرض السواد بدير حزقيل، والقرية التي مات فيها يقال لها ساير اباذ. قال ابن عباس: فكان كما قال الله تعالى: (ولنجعلك آية للناس) يعني: لبني إسرائيل، وذلك أنه كان يجلس مع بنيه وهم شيوخ وهو شاب، لأنه مات وهو ابن أربعين سنة، فبعثه الله شاباً كهيئته يوم مات. قال ابن عباس: بعث بعد بختنصر، وكذلك قال الحسن.

والمشهور أن عزيزاً نبي من أنبياء بني إسرائيل، وأنه كان فيما بين داود وسليمان وبين زكريا ويحيى، وأنه لما لم يبق في بني إسرائيل من يحفظ التوراة ألهمه الله حفظها، فسردها على بني إسرائيل، كما قال وهب بن منبه: أمر الله ملكاً فنزل بمعرفة من نور فقذفها في عزيز فنسخ التوراة حرفاً بحرف حتى فرغ منها.

وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنا أولى الناس بابن مريم، والأنبياء أولاد علات، وليس بيني وبينه نبي"

وقال وهب بن منبه: كان فيما بين سليمان وعيسى عليهما السلام. وقد روي ابن عساكر عن أنس بن مالك وعطاء بن السائب أن عزيزاً كان في زمن موسى بن عمران، وأنه استأذن عليه فلم يأذن له، يعني لما كان من سؤاله عن القدر، وأنه انصرف وهو يقول: مائة موتة أهون من ذل ساعة.

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نبي من الأنبياء تحت شجرة فلدغته نملة، فأمر بجهازه فأخرج من تحتها، ثم أمر بها فأحرقت بالنار، فأوحى الله إليه: فهلا نملة واحدة"

فروى إسحاق بن بشر عن ابن جريج، عن عبد الوهاب ابن مجاهد، عن أبيه أنه عزيز. وكذا روى عن ابن عباس والحسن البصري أنه عزيز.

 

 

 

قصة زكريا ويحيى عليهما السلام

 

قال الحافظ أبو القاسم بن عساكر في كتابه التاريخ المشهور الحافل: زكريا بن برخيا، ويقال: زكريا بن دان، ويقال: زكريا بن لدن بن مسلم بن صدوق بن حشبان بن داود ابن سليمان بن مسلم بن صديقة بن برخيا بن بلعاطة بن ياخور بن شلوم بن بهفاشاط ابن إينامن بن رخيعم بن سليمان بن داود، أبو يحيى عليه السلام، من بني إسرائيل. دخل البثنة من أعمال دمشق في طلب ابنه يحيى، وقيل: إنه كان بدمشق حين قتل ابنه يحيى، والله أعلم. وقد قيل غير ذلك في نسبه، ويقال فيه زكريا بالمد والقصر، ويقال: زكرى أيضاً.

والمقصود أن الله تعالى أمر رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقص على الناس خبر زكريا عليه السلام، وما كان من أمره حين وهبه الله ولداً على الكبر، وكانت امرأته مع ذلك عاقراً في حال شبيبتها، وقد أسنت أيضاً، وحتى لا ييأس أحد من فضل الله ورحمته ولا يقنط من فضله تعالى، فقال تعالى: (ذكر رحمة ربك عبده زكريا * إذ نادى ربه نداء خفياً). قام من الله فنادى ربه مناداة أسرها عمن كان حاضراً عنده مخافته، فقال: يا رب، يا رب. فقال الله: لبيك لبيك لبيك، (قال: رب إني وهن العظم مني) أي: ضعف وخار من الكبر، (واشتعل الرأس شيباً)، استعارة من اشتعال النار في الخطب، أي: غلب على سواد الشعر شيبه، وهكذا قال زكريا عليه السلام:

{إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً} (سورة مريم:4)

وقوله:

{ولم أكن بدعائك رب شقياً}

أي: ما دعوتني فيما أسألك إلا الإجابة، وكان الباعث له على هذه المسألة أنه لما كفل مريم بنت عمران بن ماثان، وكن كلما دخل عليها محرابها وجد عندها فاكهة في غير أوانها ولا أوانها، وهذه من كرامات الأولياء، فعلم أن الرازق للشيء في غير أوانه قادر على أن يرزقه ولداً، وإن كان قد طعن في سنه

{هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء} (سورة آل عمران:38)

وقوله:

{وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقراً}

قيل: المراد بالموالي العصبة، وكأنه خاف من تصرفهم بعده في بني إسرائيل بما لا يوافق شرع الله وطاعته، فسأل وجود ولد من صلبه يكون برأ تقياً مرضياً، ولهذا قال: (فهب لي من لدنك) أي: من عندك بحولك وقوتك (وليا يرثني) أي: في النبوة والحكم في بني إسرائيل (ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا) يعني: كما كان آباؤنا وأسلافه من ذرية يعقوب أنبياء، فاجعله مثلهم في الكرامة التي أكرمتها بها من النبوة والوحي، وليس المراد هاهنا وراثة المال كما زعم ذلك من زعمه من الشيعة.

فلما بشر بالولد وتحقق البشارة شرع يستعلم على وجه التعجب وجود الولد له والحالة هذه (قال رب أني يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقراً وقد بلغت من الكبر عتياً) أي: كيف يوجد ولد من شيخ كبير، قيل: كان عمره إذ ذاك سبعاً وسبعين سنة، والأشبه والله أعلم أنه كان أسن من ذلك وكانت امرأتي في حال شبيبتها عاقراً لا تلد، والله أعلم. وهكذا أجيب زكريا عليه السلام، قال له الملك الذي يوحي إليه بأمر ربه: (كذلك قال ربك هو على هين) أي: هذا سهل يسير عليه (وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً) أي: قدرته أوجدتك بعد أن لم تكن شيئاً مذكوراً، أفلا يوجد منك ولد وإن كنت شيخاً؟!

وقال تعالى:

{فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه، إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً، وكانوا لنا خاشعين} (سورة الأنبياء:90)

ومعنى إصلاح زوجته: أنها كانت لا تحيض فحاضت، وقيل: كان في لسانها شيء، أي بذاءة. (قال رب اجعل لي آية) أي: علامة على وقت تعلق مني المرأة بهذا الولد المبشر به، (قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سوياً) يقول: علامة ذلك أن يعتريك سكت لا تنطق معه ثلاثة أيام إلا رمزاً، وأنت في ذلك سوي الخلق صحيح المزاج معتدل البينة، وأمر بكثرة الذكر في هذه الحال بالقلب واستحضار ذلك بفؤاده بالعشي والإبكار، فلما بشر بهذه البشارة خرج مسروراً بها على قومه من محرابه، (فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا).

وفي قوله: (يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبياً) يخبر تعالى عن وجود الولد وفق البشارة الإلهية لأبيه زكريا عليه السلام، وأن الله تعالى علمه الكتاب والحكمة وهو صغير في حال صباه. قال عبد الله بن المبارك: قال معمر: قال الصبيان ليحيى بن زكريا: اذهب بنا نلعب، فقال: ما للعب خلقنا، قال: وذلك قوله: (وآتيناه الحكم صبياً). وأما قوله: (وحناناً من لدنا) فروي ابن جرير عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: لا أدري ما الحنان. ويحتمل أن يكون ذلك صفة لتحنن يحيى على الناس ولاسيما على أبويه، وهو محبتهما والشفقة عليهما وبره بهما. وأما الزكاة فهو طهارة الخلق وسلامته من النقائص والرذائل، والتقوى طاعة الله بامتثال أوامره وترك زواجره.

ثم ذكر بره بوالديه وطاعته لهما أمراً ونهياً، وترك عقوقهما قولاً وفعلاً فقال: (وبراً بوالديه ولم يكن جباراً عصياً) ثم قال: (وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً)، هذه الأوقات الثلاثة أشد ما تكون على الإنسان، فإنه ينتقل في كل منها من عالم إلي عالم آخر، فيفقد الأول بعد ما كان ألفه وعرفه، ويصير إلي الآخر ولا يدري ما بين يديه، ولهذا يستهل صارخاً إذا خرج من بين الأحشاء وفارق لينها وضمها، وينتقل إلي هذه الدار ليكابد همومها وغمها. وقال ابن المبارك عن وهيب بن الورد، قال: فقد زكريا ابنه ثلاثة أيام، فخرج يلتمسه في البرية، فإذا هو قد احتفر قبراً وأقام فيه يبكي على نفسه، فقال: يا بني أنا أطلبك من ثلاثة أيام وأنت في قبر قد احتفرته قائم تبكي فيه؟ فقال: يا أبت ألست أنت أخبرتني أن بين الجنة والنار مقام لا يقطع إلا بدموع البكائين؟ فقال له: أبك يا بني، فبكيا جميعاً.

وذكروا أنه كان كثير البكاء حتى أثر البكاء في خديه من كثرة دموعه. وذكروا في قتله أسباباً من أشهرها أن بعض ملوك ذلك الزمان بدمشق كان يريد أن يتزوج ببعض محارمه أو من لا يحل له تزويجها، فنهاه يحيى عليه السلام عن ذلك، فبقى في نفسها منه، فلما كان بينها وبين الملك ما يحب منها استوهبت منه دم يحيى، فوهبه لها، فبعثت إليه من قتله وجاء برأسه ودمه في طست إلي عندها، فيقال أنها هلكت من فورها وساعتها. وقيل: بل أحبته امرأة ذلك الملك وراسلته فأبى عليها، فلما يئست منه تحيلت في أن استوهبته من الملك، فتمنع عليها الملك، ثم أجابها إلي ذلك، فبعث من قتله وأحضر إليها رأسه ودمه في طست. ثم اختلف في مقتل يحيى بن زكريا هل كان بالمسجد الأقصى أم بغيره على قولين. فقال الثوري عن الأعمش عن شمر بن عطية قال: قتل على الصخرة التي ببيت المقدس سبعون نبياً منهم يحيى بن زكريا عليه السلام. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام، حدثنا عبد الله بن صالح، عن الليث، عن يحيى ابن سعيد، عن سعيد بن المسيب قال: قدم بختنصر دمشق فإذا هو بدم يحيى بن زكريا يغلي، فسأل عنه فأخبروه، فقتل على دمه سبعين ألفاً فسكن.

 

 

 

قصة عيسى ابن مريم عليه السلام

 

قال الله تعالى في سورة آل عمران التي أنزل صدرها وهو ثلاث وثمانون آية منها في الرد على النصارى، عليهم لعائن الله، الذين زعموا أن لله ولداً، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. قال أبو القاسم بن عساكر: مريم بنت عمران بن ماثان بن العازر بن بن اليود بن أخير بن صادوق بن عيازرو بن الياقيم بن أبيود بن زربابيل بن شالتال بن يوحينا بن برشا بن أمون بن ميشا بن حزقيا بن أحاز بن موثام بم عزريا بن يورام بن يوشافاط بن إيشا بن إيبا بن رخيعم بن سليمان بن داود عليه السلام، وفيه مخالفة لما ذكره محمد ابن إسحاق. ولا خلاف أنها من سلالة داود عليه السلام، وكان أبوها عمران صاحب صلاة بني إسرائيل في زمانه، وكانت أمها هي حنة بنت فاقود بن قبيل من العابدات، وكان زكريا نبي ذلك الزمان زوج أخت مريم أشياع في قول الجمهور، وقيل زوج خالتها أشياع، فالله أعلم.

وقد ذكر محمد بن إسحاق وغيره أن أم مريم كانت لا تحبل، فرأت يوماً طائراً يزق فرخاً له، فاشتهت الولد، فنذرت لله إن حملت لتجعلن ولدها محرراً، أي: حبيساً في خدمة بيت المقدس. قالوا: فحاضت من فورها، فلما طهرت واقعها بعلها: فحملت بمريم عليها السلام (فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت) وقرئ بضم التاء (وليس الذكر كالأنثى) أي: في خدمة بيت المقدس، وكانوا في ذلك الزمان ينذرون لبيت المقدس خداماً من أولادهم. وقولها: (وإني سميتها مريم) استدل به على تسمية المولود يوم يولد. وكما ثبت في الصحيحين عن أنس في ذهابه بأخيه إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحنك أخاه وسماه عبد الله.

وقولها: (وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) قد استجيب لها في هذا كما تقبل منها نذرها،

فقال الإمام احمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مولود إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مسه الشيطان إلا مريم وابنها"

وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل مولود من بني آدم يمسه الشيطان بإصبعه إلا مريم بنت عمران وابنها عيسى"

وقوله:

{فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً وكفلها زكريا}

ذكر كثير من المفسرين أن أمها حين وضعتها لفتها في خروقها. ثم خرجت بها إلي المسجد فسلمتها إلي العباد الذين هم مقيمون به، وكانت ابنة إمامهم وصاحب صلاتهم، فتنازعوا فيها، والظاهر أنها إنما سلمتها إليهم بعد رضاعها وكفالة مثلها في صغرها. ثم لما دفعتها إليهم تنازعوا في أيهم يكفلها، وكان زكريا نبيهم في ذلك الزمان، وقد أراد أن يستبد بها دونهم من أجل زوجته أختها أو خالتها على القولين، فشاحوه في ذلك، وطلبوا أن يقترع معهم، فساعدته المقادير فخرجت قرعته غالبة لهم، وذلك أن الخالة بمنزلة الأم.

وقالوا: وذلك أن كلاً منهم ألقى قلمه معروفاً به، ثم حملوها ووضعوها في موضع، وأمروا غلاماً لم يبلغ الحنث فأخرج واحداً منها، وظهر قلم زكريا عليه السلام، فطلبوا أن يقترعوا مرة ثانية، وأن يكون ذلك بأن يلقوا أقلامهم في النهر فأيهم جرى قلمه على خلاف جرية الماء فهو الغالب ففعلوا، فكان قلم زكريا هو الذي جرى على خلاف جرية الماء، وسارت أقلامهم مع الماء، ثم طلبوا منه أن يتقرعوا ثالثة فأيهم جرى قلمه مع الماء ويكون بقية الأقلام قد انعكس سيرها صعداً فهو الغالب ففعلوا، فكان زكريا هو الغالب لهم، فكفلها إذ كان أحق بها شرعاً وقدراً لوجوه عديدة.

قال الله تعالى:

{كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً، قال يا مريم أني لك هذا، قالت هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب} (سورة آل عمران:37)

واتخذ زكريا لها محراباً، وهو المكان الشريف من المسجد لا يدخله أحد عليها سواه، وأنها لما بلغت اجتهدت في العبادة، فلم يكن في ذلك الزمان نظيرها في فنون العبادات، وظهر عليها من الأحوال ما غبطها به زكريا عليه السلام، وأنها خاطبتها الملائكة بالبشارة لها باصطفاء الله لها، وبأنه سيهب لها ولداً زكيا يكون نبياً كريماً طاهراً مكرماً مؤيداً بالمعجزات، فتعجبت من وجود ولد من غير والدن لأنها لا زوج لها، ولا هي ممن تتزوج، فأخبرتها الملائكة بأن الله قادر على ما يشاء، إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون، فاستكانت لذلك وأنابت وسلمت الأمر لله، وعلمت أن هذا فيه محنة عظيمة لها، فإن الناس يتكلمون فيها بسببه، لأنهم لا يعلمون حقيقة الأمر، وإنما ينظرون إلي ظاهر الحال من غير تدبر ولا تعقل.

وكانت إنما تخرج من المسجد في زمن حيضها أو لحاجة ضرورية لابد منها أن استقاء ماء أو تحصيل غذاء، فبينما هي يوماً قد خرجت لبعض شئونها وانفردت وحدها في شرقي المسجد الأقصى، إذ بعث الله إليها الروح الأمين جبريل عليه السلام (فتمثل لها بشراً سوياً) فلما رأته (قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا). (قال إنما أنا رسول ربك) أي: خاطبها الملك قال: إنما أنا رسول ربك أي: لست ببشر، ولكنني ملك بعثني الله إليك؛ (لأهب لك غلاماً زكياً) أي: ولداً زكياً (قالت أني يكون لي غلام) أي: كيف يكون لي غلام أو يوجد لي ولد (ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً) أي: ولست ذات زوج وما أنا ممن يفعل الفاحشة، (قال كذلك قال ربك هو على هين) أي: فأجابها الملك عن تعجبها من وجود ولد منها والحالة هذه قائلاً هذا سهل عليه ويسير لديه، فإنه على ما يشاء قدير.

وقوله: (ولنجعله آية للناس) أي: ولنجعل خلقه والحالة هذه دليلاً على كمال قدرتنا على أنواع الخلق، فإنه تعالى خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، وخلق بقية الخلق من ذكر وأنثى. وقوله (ورحمة منا)، أي: نرحم به العباد بأن يدعوهم إلي الله في صغره وكبره في طفولته وكهولته، بأن يفردوا الله بالعبادة وحده لا شريك له، وينزهوه عن اتخاذ الصاحبة والأولاد والشركاء والنظراء والأضداد والأنداد. وقوله: (وكان أمراً مقضياً) يحتمل أن يكون هذا من تمام كلام جبريل معها يعني: أن هذا أمر قضاه الله وحتمه وقدره وقرره، وهذا معنى قول محمد بن إسحاق، واختاره ابن جرير ولم يحك سواه، والله أعلم.

قال محمد بن إسحاق: شاع واشتهر في بني إسرائيل أنها حامل، فما دخل على أهل بيت ما دخل على آل بيت زكريا. قال: واتهمها بعض الزنادقة بيوسف الذي كان يتعبد معها في المسجد، وتوارت عنهم مريم، واعتزلتهم، وانتبذت مكاناً قصياً، وقوله: (فأجاءها المخاض إلي جذع النخلة) أي: فألجأها واضطر الطلق إلي جذع النخلة، (قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً) فيه دليل على جواز تمني الموت عند الفتن، وذلك أنها علمت أن الناس يتهمونها ولا يصدقونها، بل يكذبونها حين تأتيهم بغلام على يدها، مع أنها قد كانت عندهم من العابدات الناكسات المجاورات في المسجد المنقطعات إليه المعتكفات فيه، ومن بيت النبوة والديانة، فحملت بسبب ذلك من الهم ما تمنت أن لو كانت ماتت قبل هذا الحال، أو كانت (نسياً منسياً) أي: لم تخلق بالكلية.

وقوله: (فنادها من تحتها)، وقوله: (ألا تخزني قد جعل ربك تحتك سرياً) (وهزي إليك بجزع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً) فذكر الطعام والشراب، ولهذا قال:(فكلي واشربي وقري عيناً)

قال عمرو بن ميمون: ليس شيء أجود للنفساء من التمر والرطب، ثم تلا هذه الآية.

وقال ابن أبي حاتم: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم وليس من الشجر شيء يلقح غيرها"

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أطعموا نساءكم الولد الرطب، فإن لم يكن رطب فتمر، وليس من الشجر شجرة أكرم على الله من شجرة نزلت تحتها مريم بنت عمران"

 

قصة عيسى ابن مريم عليه السلام

وقوله:

{فإما ترين من البشر أحداً فقولي إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً}

وهذا من تمام كلام الذي نادها من تحتها قال:

{كلي واشربي وقري عيناً فإما ترين من البشر أحداً}

أي: فإن رأيت أحداً من الناس (فقولي) له أي: بلسان الحال والإشارة (إني نذرت للرحمن صوماً) أي: صمتاً، وكان من صومهم في شريعتهم ترك الكلام والطعام، ويدل على ذلك قوله: (فلن أكلم اليوم إنسياً) فأما في شريعتنا فيكره للصائم صمت يوم إلي الليل.

وقوله تعالى:

{فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فريا * يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوءٍ وما كانت أمك بغيا} (سورة مريم:27ـ28)

ذكر كثير من السف ممن ينقل عن أهل الكتاب أنهم لما افتقدوها من بين أظهرهم ذهبوا في طلبها، فمروا على محلتها والأنوار حولها، فلما واجهوها وجدوا معها ولد فقالوا له: (لقد جئت شيئاً فريا) أي: أمراً عظيماً منكراً، وفي هذا الذي قالوه نظر، مع أنه كلام ينقض أوله آخره، وذلك لأن ظاهر سياق القرآن العظيم يدل على أنها حملته بنفسها وأتت به قومها وهي تحمله، قال ابن عباس: وذلك بعد ما تعالت من نفاسها بعد أربعين يوماً. والمقصود أنهم لما رأوها تحمل معها ولدها (قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فريا) والفرية: هي الفعلة المنكرة العظيمة من الفعال والمقال. ثم قالوا لها: (يا أخت هارون) قيل: شبهوها بعابد من عباد زمانهم كانت تسامية في العبادة، وكان اسمه هارون، قاله سعيد بن جبير، وقيل: أرادوا بهارون أخا موسى شبهوها به في العبادة، وأخطأ محمد كعب القرظي في زعمه أنها أخت موسى وهارون نسباً، فإن بينهما من الدهور الطويلة ما لا يخفي على أدنى من عنده من العلم ما يرده عن هذا القول الفظيع، وكأنه غره أن في التوراة أن مريم أخت موسى وهارون ضربت بالدف يوم نجى الله موسى وقومه وأغرق فرعون وملأه، فاعتقد أن هذه هي هذه.

وهذا في غاية البطلان والمخالفة للحديث الصحيح مع نص القرآن، كما قررناه في التفسير مطولاً، ولله الحمد والمنة. وقد ورد في الحديث الصحيح الدال على أنه قد كان لها أخ اسمه هارون، وليس في ذكر قصة ولادتها وتحرير أمها لها ما يدل على أنها ليس لها أخ سواها، والله أعلم. قالوا: (ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا) أي: لست من بيت هذه شيمتهم ولا سجيتهم ولا أخوك ولا أمك ولا أبوك، فاتهموها بالفاحشة العظمى ورموها بالداهية الدهياء. فذكر ابن جرير في تاريخه أنهم اتهموا بها زكريا وأرادوا قتله ففر منهم فلحقوه، وقد انشقت له الشجرة فدخلها، وأمسك إبليس بطرف ردائه فنشروه فيها كما قدمنا ومن المنافقين من اتهمها بابن خالها يوسف بن يعقوب النجار.

فلما ضاق الحال وانحصر المجال وامتنع المقال، عظم التوكل على ذي الجلال، ولم يبق إلا الإخلاص والاتكال، (فأشارت إليه) أي: خاطبوه وكلموه، فإن جوابكم عليه وما تبغون من الكلام لديه، فعندها: (قالوا) من كان منهم جباراً شقياً: (كيف نكلم من كان في المهد صبياً) أي: كيف تحيليننا في الجواب على صبي صغير لا يقبل الخطاب، وهو مع ذلك رضيع في مهده، ولا يميز بين مخض المخض وزبده، وما هذا منك إلا على سبيل التهكم بنا والاستهزاء والتنقص والازدراء إذ لا تردين علينا قولاً نطقيا، بل تحيلين في الجواب على من كان في المهد صبياً فعندها:

 

{قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً * وجعلني مباركاً أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً * وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً * والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً} (سورة مريم:30ـ33)

هذه أول كلام تفوه به عيسى ابن مريم، فكان أول ما تكلم به أن (قال إني عبد الله) اعترف لربه تعالى بالعبودية، وأن الله ربه، فنزه جناب الله عن قول الظالمين في زعمهم انه ابن الله، بل هو عبده ورسوله وابن أمته، ثم برأ أمه مما نسبه إليها الجاهلون وقذفوها به ورموها بسببه بقوله: (آتاني الكتاب وجعلني نبياً) فإن الله لا يعطي النبوة من هو كما زعموا، لعنهم الله وقبحهم، كما قال تعالى:

{وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً} (سورة النساء:156)

وذلك أن طائفة من اليهود في ذلك الزمان قالوا: إنها حملت به من زني في زمن الحيض، لعنهم الله، فبرأها الله من ذلك، وأخبر عنها أنها صديقة، واتخذ ولدها نبياً مرسلاً أحد أولى العزم الخمسة الكبار، ولهذا قال: (وجعلني مباركاً أين ما كنت) وذلك أنه حيث كان دعا إلي عبادة الله وحده لا شريك له، ونزه جنابه عن النقص والعيب من اتخاذ الولد والصاحبة تعالى وتقدس: (وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً)، وهذه وظيفة العبيد في القيام بحق العزيز الحميد بالصلاة، والإحساس إلي الخليقة بالزكاة، وهي تشتمل على طهارة النفوس من الأخلاق الرذيلة وتطهير الأموال الجزيلة بالعطية للمحاويج على اختلاف الأصناف، وقرى الأضياف، والنفقات على الزوجات والأرقاء والقرابات، وسائر وجوه الطاعات وأنواع القربات.

ثم قال: (وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً) أي: وجعلني برا بوالدتي، وذلك أنه تأكد حقها عليه لتمحض جهتها إذ لا والد له سواها، فسبحان من خلق الخليقة، وبرأها، وأعطى كل نفس هداها (ولم يجعلني جباراً شقياً) أي: لست بفظ ولا غليظ، ولا يصدر مني قول ولا فعل ينافي أمر الله وطاعته. (والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً) وهذه المواطن الثلاثة التي تقدم الكلام عليها في قصة يحيى بن زكريا عليهما السلام.

ثم لما ذكر تعالى قصته على الجلية وبين أمره ووضحه وشرحه قال:

{ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون * ما كان لله أن يتخذ من ولد، سبحانه، إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون}

كما قال تعالى بعد ذكر قصته وما كان من أمره في آل عمران:

{ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم * إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون * الحق من ربك فلا تكن من الممترين * فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين * إن هذا لهو القصص الحق، وما من إله إلا الله، وإن الله لهو العزيز الحكيم * فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين} (سورة آل عمران:58ـ63)

ولهذا لما قدم وفد نجران وكانوا ستين راكباً يرجع أمرهم إلي أربعة عشر منهم ويثول أمر الجميع إلي ثلاثة هم أشرافهم وساداتهم، وهم العاقب والسيد وأبو حارثة بن علقمة، فجعلوا يناظرون في أمر المسيح، فأنزل الله صدر سورة آل عمران في ذلك، وبين أمر المسيح ابتداء خلقه وخلق أمه من قبله، وأمر رسوله بأن يباهلهم إن لم يستجيبوا له ويتبعوه، فلما رأوا عينيها وأذنيها نكلوا ونكصوا، وامتنعوا عن المباهلة، وعدلوا إلي المسالمة والموادعة، وقال قائلهم وهو العاقب عبد المسيح: يا معشر النصارى لقد علمتم أن محمداً لنبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم أنه ما لا عن قوم نبياً قط فبقى كبيرهم ولا نبت صغيرهم، وإنها للاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلي بلادكم، فطلبوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه أن يضرب عليهم جزية وأن يبعث معهم رجلاً أميناً، فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح.

والمقصود أن الله تعالى بين أمر المسيح فقال لرسوله:

{ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون}

يعني: من أنه عبد مخلوق من امرأة من عباد الله، ولهذا قال:

{ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون}

أي: لا يعجزه شيء ولا يكترثه ولا يئوده، بل هو القدير الفعال لما يشاء

{إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} (سورة يس: 82)

وقوله:

{إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} (سورة مريم: 36)

هو من تمام كلام عيسى لهم في المهد، أخبرهم أن الله ربه وربهم وإلهه وإلههم، وأن هذا هو الصراط المستقيم قال الله تعالى:

{فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم} (سورة مريم: 37)

أي: فاختلف أهل ذلك الزمان ومن بعدهم فيه. فمن قائل من اليهود: إنه ولد زنية، واستمروا على كفرهم وعنادهم. وقابلهم آخرون في الكفر فقالوا: هو الله، وقال آخرون: هو ابن الله.

 

وقال المؤمنون: هو عبد الله ورسوله وابن أمته وكلمته ألقاها إلي مريم وروح منه، وهؤلاء هم الناجون المثابون، والمؤيدون المنصورون، ومن خالفهم في شيء من هذه القيود فهم الكافرون الضالون الجاهلون، وقد توعدهم العلي العظيم الحكيم العليم بقوله:

{فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم} (سورة مريم:37)

قال البخاري: حدثنا صدقة بن الفضل، وأنبأنا الوليد، حدثنا الأوزاعي، حدثني عمير بن هانئ، حدثني جنادة بن أبي أمية، عن عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلي مريم وروح منه، والجنة الحق، والنار حق؛ أدخله الله الجنة على ما كان من العمل"

 

منشأ عيسى ابن مريم عليهما السلام

ولد ببيت لحم قريباً من بيت المقدس. وزعم وهب بن منبه أنه ولد بمصر، وأم مريم سافرت هي ويوسف بن يعقوب النجار وهي راكبة على حمار ليس بينهما وبين الإكاف شيء. وهذا لا يصح،والحديث الذي تقدم ذكره دليل على أن مولده كان ببيت لحم، كما ذكرناه، ومهما عارضه فباطل.

وذكر وهب بن منبه أنه لما ولد خرت الأصنام يومئذ في مشارق الأرض ومغاربها، وأن الشياطين حارت في سبب ذلك، حتى كشف لهم إبليس الكبير أمر عيسى، فوجدوه في حجر أمه والملائكة محدقة به، وأنه ظهر نجم عظيم في السماء، وأن ملك الفرس أشفق من ظهوره، فسأل الكهنة عن ذلك فقالوا: هذا لمولد عظيم في الأرض، فبعث رسله ومعهم ذهب ومر ولبان هدية إلي عيسى، فلما قدموا الشام سألهم ملكها عما أقدمهم فذكروا له ذلك، فسأل عن ذلك الوقت فإذا قد ولد فيه عيسى ابن مريم ببيت المقدس، واشتهر أمره بسبب كلامه في المهد، فأرسلهم إليه بما معهم وأرسل معهم من يعرفه له ليتوصل إلي قتله إذا انصرفوا عنه، فلما وصلوا إلي مريم بالهدايا ورجعوا قيل لها: إن رسل ملك الشام إنما جاءوا ليقتلوا ولدك، فاحتملته فذهبت به إلي مصر، فأقامت به حتى بلغ عمره اثنتى عشرة سنة، وظهرت عليه كرامات ومعجزات في حال صغره، فذكر منها أن الدهقان الذي نزلوا عنده افتقد مالاً من داره، وكانت داره لا يسكنها إلا الفقر والمحاويج فلم يدر من أخذها، وعز ذلك على مريم عليها السلام، وشق على الناس وعلى رب المنزل وأعياهم أمرها، فلما رأى عيسى عليه السلام ذلك عمد إلي رجل أعمى وآخر مقعد من جملة من هو منقطع إليه، فقال للأعمى: احمل هذا المقعد وانهض به، فقال: إني لا أستطيع ذلك، فقال: بلى كما فعلت أنت وهي حين أخذتما هذا المال من تلك الكوة من الدار، فلما قال ذلك صدقاه فيما قال، وأتيا بالمال، فعظم عيسى في عين الناس، وهو صغير جداً.

ومن ذلك أن ابن الدهقان عمل ضيافة للناس بسبب طهور أولاده، فلما اجتمع الناس وأطعمهم، ثم أراد أن يسقيهم شراباً، يعني خمراً، كما كانوا يصنعون في ذلك الزمان، لم يجد في جراره شيئاً فشق ذلك عليه، فلما رأى عيسى من ذلك منه قام فجعل يمر على تلك الجرار ويمر يده على أفواهها فلا يفعل بجرة منها ذلك إلا امتلأت شراباً من خيار الشراب، فتعجب الناس من ذلك جداً، وعظموه، وعرضوا عليه وعلى أمه مالاً جزيلاً فلم يقبلاه، وارتحلا قاصدين بيت المقدس، والله أعلم

أن أبي هريرة قال: إن عيسى ابن مريم أول ما أطلق الله لسانه بعد الكلام الذي تكلم به وهو طفل، فمجد الله تمجيداً لم تسمع الآذان بمثله، لم يدع شمساً ولا قمراً ولا جبلاً ولا نهراً ولا عيناً إلا ذكره في تمجيده، فقال:

اللهم أنت القريب في علوك، المتعالي في دنوك، الرفيع على كل شيء من خلقك، أنت الذي خلقت سبعاً في الهواء بكلماتك مستويات طباقاً، وأجبن وهن دخان من فرقك فأتين طائعات لأمرك، فيهن ملائكتك يسبحون قدسك لتقديسك، وجعلت فيهن نوراً على سواد الظلام، وضياء من ضوء الشمس بالنهار، وجعلت فيهن الرعد المسبح بحمدك، فبعزتك يجلو ضوء ظلمتك، وجعلت فيهم مصابيح يهتدي بهن في الظلمات الحيران.

فتباركت اللهم في مفطور سماواتك وفيما دحوت من أرضك دحوتها على الماء فمسكتها على تيار الموج الغامر، فأذللتها إذلال المتظاهر، فذل لطاعتك صعبها، واستحيا لأمرك أمرها وخضعت لعزتك أمواجها، ففجرت فيها بعد البحور الأنهار، ومن بعد الأنهار الجداول الصغار، ومن بعد الجداول ينابيع العيون الغزار، ثم أخرجت منها الأنهار والأشجار والثمار، ثم جعلت على ظهرها الجبال فوتدتها أوتاداً على ظهر الماء، فأطاعت أطوادها وجلمودها. فتباركت اللهم فمن يبلغ بنعته نعتك أم من يبلغ بصفته صفتك؟ تنشر السحاب وتفك الرقاب وتقضي الحق وأنت خير الفاصلين، لا إله إلا أنت سبحانك أمرت أن نستغفرك من كل ذنب، لا إله إلا أنت سبحانك سترت بالسماوات عن الناس، لا إله إلا أنت سبحانك إنما يخشاك من عبادك الأكياس، نشهد أنك لست بإنه استحدثناك، ولا رب يبيد ذكره، ولا كان معك شركاء يقضون معك فندعوهم ونذرك، ولا أعانك على خلقنا أحد فنشك فيك، نشهد أنك أحد صمد لم تلد ولم تولد ولم يكن لك كفواً أحد.

وقال إسحاق بن بشر: عن جويبر ومقاتل، عن الضحاك، عن ابن عباس، أن عيسى ابن مريم أمسك عن الكلام بعد أن كمهم طفلاً حتى بلغ ما يبلغ الغلمان، ثم أنطقه الله بعد ذلك الحكمة والبيان، فأكثر اليهود فيه وفي أمه من القول، وكانوا يسمونه ابن البغية، وذلك قوله تعالى: {وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً}

قال: فلما بلغ سبع سنين أسلمته أمه في الكتاب، فجعل لا يعلمه المعلم شيئاً إلا بدره إليه فعلمه أبا جاد، فقال عيسى: ما أبو جاد؟ فقال المعلم: لا أدري، فقال عيسى: كيف تعلمني ما لا تدري؟ فقال المعلم: إذاً فعلمني، فقال له عيسى: فقم من مجلسك، فقام فجلس عيسى مجلسه، فقال: سلني، فقال المعلم، فما أبو جاد؟ فقال عيسى: الألف آلاء الله، والباء بهاء الله، والجيم بهجة الله وجماله، فتجعب المعلم من ذلك فكان أول من فسر أبا جاد. ثم ذكر أن عثمان سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فاجابه على كل كلمة بحديث طويل موضوع، لا يسأل عنه ولا يتمادى.

وهكذا روي ابن عدي من حديث إسماعيل بن عياش عن إسماعيل بن يحيى، عن ابن أبي مليكة، عمن حدثه، عن ابن مسعود، عن مسعر بن كدام، عن عطية، عن أبي سعيد، رفع الحديث في دخول عيسى إلي الكتاب وتعليمه المعلم معنى حروف أبي جاد، وهو مطول لا يفرح به. ثم قال ابن عدى: وهذا الحديث باطل بهذا الإسناد لا يرويه غير إسماعيل وروي ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة قال: كان عبد الله بن عمر يقول: كان عيسى ابن مريم وهو غلام يلعب مع الصبيان، فكان يقول لأحدهم: تريد أن أخبرك ما خبأت لك أمك؟ فيقول: نعم، فيقول: خبأت لك أمك كذا وكذا، فيذهب الغلام منهم إلي أمه فيقول لها. أطعميني ما خبأت لي، فيقول: وأي شيء خبأت لك؟ فيقول: كذا وكذا، فتقول له: من أخبرك؟ فيقول: عيسى ابن مريم.

فقالوا: والله لئن تركتم هؤلاء الصبيان مع ابن مريم ليفسدنهم، فجمعوهم في بيت وأغلقوا عليهم، فخرج عيسى يلتمسهم فلم يجدهم، فسمع ضوضاءهم في بيت فسأل عنهم، فقالوا: إنما هؤلاء قردة وخنازير، فقال: اللهم كذلك، فكانوا كذلك. وقال إسحاق بن بشر: عن جويبر ومقاتل، عن ابن عباس قال: وكان عيسى يرى العجائب في صباه إلهاماً من الله، ففشا ذلك في اليهود، وترعرع عيسى، فهمت به بنو إسرائيل، فخافت أمه عليه، فأوحى الله إلي أمه أن تنطلق به إلي أرض مصر، فذلك قوله تعالى:

{وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلي ربوة ذات قرار ومعين} (سورة المؤمنون:50)

وقد اختلف السلف والمفسرون في المراد بهذه الربوة التي ذكر الله من صفتها أنها ذات قرار ومعين، وهذه صفة غريبة الشكل، وهي أنها: (ربوة) وهو المكان المرتفع من الأرض الذي أعلاه مستو يقر عليه وارتفاعه مستع، ومع علوه فيه عيون ولدت فيه المسيح وهو نخلة بيت المقدس، ولهذا

{ناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سرياً} (سورة مريم:24)

وهو النهر الصغير في قول جمهور السلف. وعن ابن عباس بإسناد جيد أنها أنهار دمشق، فلعله أراد تشبيه ذلك المكان بأنهار دمشق، وقيل ذلك بمصر، كما زعمه من زعمه من أهل الكتاب، ومن تلقاه عنهم، والله أعلم. وقيل: هي الرملة.

وقال إسحاق بن بشر: قال لنا إدريس عن جده وهب بن منبه، قال: إن عيسى لما بلغ ثلاث عشرة سنة، أمره الله أن يرجع من بلاد مصر إلي بيت إيليا. قال: فقدم عليه يوسف ابن خال أمه، فحملهما على حمار حتى جاء بهما إلي إيليا، وأقام بها، حتى أحدث الله له الإنجيل وعلمه التوراة، وأعطاه إحياء الموتى وإبراء الأسقام، والعلم بالغيوب مما يدخرون في بيوتهم وتحدث الناس بقدومه، فزعوا لما كان يأتي من العجائب، فجعلوا يعجبون منه، فدعاهم إلي الله، ففشا فيهم أمره.

 

 

سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم

تعرف على حبيبك محمد صلى الله عليه وسلم

 

1. اسمه

محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة وأمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب ابن مرة.

 

2. حمله

كانت آمنة تقول ما شعرت أني حملت ولا وجدت له ثقلاً كما يجد النساء، إلا أني قد أنكرت رفع حيضتي.

 

3. مولده

ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين الموافق 10 من ربيع الأول وكان قدوم أصحاب الفيل.

 

4. أسماؤه

محمد واحمد والماحي (يمحو به الكفر) والحاشر (يقدم الناس بالحشر) والعاقب (آخر الأنبياء)، ونبي الرحمة، ونبي التوبة، ونبي الملاحم (الحروب)، والمقفي (بمعنى العاقب) والشاهد، والمبشر، والنذير، والضحوك والقتال، والمتوكل، والفاتح، والأمين، والخاتم، والمصطفى، والرسول، والنبي، والأمي، والقثم (المعطاء للخير).

 

5. مرضعاته

أول من أرضعه "ثوبية" بلبن ابن لها "مسروح" أياماً قبل أن تقدم حليمة .. وكانت قد أرضعت قبله حمزة رضي الله عنه، ثم جاءت حليمة السعدية وأخذته عندها لرضاعته.

 

6. وفاة والده

خرج والد عبد الله إلى الشام في تجارة مع جماعة من قريش، فلما رجعوا مروا بالمدينة وعبد الله مريض، فقال أتخلف عند أخوالي بني عدي بن النجار، فأقام عندهم مريضاً شهراً ثم توفى بالمدينة وعمره 25 سنة، وكان ميراثه خمسة أجمال وقطعة غنم فورث ذلك رسول الله وكانت أم أيمن تحضنه واسمها بركة.

 

7. وفاة والدته

ذهبت أمه به إلى المدينة وعمره ست سنين إلى أخواله بني النجار تزورهم ومعها أم أيمن تحضنه فأقامت عندهم شهراً ثم رجعت فتوفيت "بالأبواء"

ولهذا فإنه في عمرة الحديبية قال رسول الله "إن الله قد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه"

فأتاه فأصلحه وبكى عنده، وبكى المسلمون لبكائه، فقيل له في ذلك فقال أدركتني رحمتها فبكيت.

 

8. صفاته

كان رسول الله ربعة ليس بالطويل ولا القصير وليس بالآم ولا شديد البياض، رجل الشعر ليس بالسبط ولا الجعد يضرب شعره منكبيه. قال أنيس ما مسست حريراً ألين من كف رسول الله، عظيم الفم طويل شق العين، مدور الوجه أبيض يميل إلى الاحمرار، شديد سواد العين، غليظ الأصابع واسع الجبين، خشن اللحية، سهل الخدين، عريض الصدر، أشعر الذراعين والمنكبين، طويل الزندين.

 

9. أولاده

أول من ولد له القاسم ثم زينب ثم رقية ثم فاطمة ثم أم كلثوم ثم ولد له في الإسلام عبد الله وأمهم جميعاً خديجة وأول من مات من ولده القاسم ثم عبد الله. كما ورزق إبراهيم من مارية القبطية إلا أنه توفى وعمره ستة عشرة شهراً.

 

10. من معجزاته

ـ القرآن.

ـ الإسراء والمعراج.

ـ حنين جذع النخلة.

ـ تفجير الماء من بين أصابعه.

ـ الإخبار بالأمور الغيبية.

ـ تسليم الحجر والشجر عليه.

ـ الأخبار بالأمور المستقبلية.

ـ انشقاق القمر.

ـ تكثير الطعام والشراب ببركته.

ـ علاجه لأمراض الصحابة بدعائه ومسحه بيده.

ـ الاستجابة لدعائه.

ـ قتال الملائكة معه.

ـ وقد ذكر الشيخ عبد العزيز السلمان في كتابه من معجزات الرسول 194 معجزة يمكنهم الرجوع إليها.

 

11. زوجاته

خديجة بنت خويلد

كانت متزوجة من اثنين قبل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهي أول من أسلم، ولقد سلم الله عليها عن طريق جبريل، ولم يتزوج النبي عليها حتى ماتت، ومكث معها 24 سنة وأشهر، وكان وفياً لها بعد موتها يبر أصدقاءها ويكثر من الدعاء لها والاستغفار لها كلما ذكرها.

 

عائشة بنت أبي بكر الصديق

رآها النبي في المنام قبل أن يتزوجها مرتين، وتزوجها وهي بنت سبع سنين وزفت إليه وهي بنت تسع سنين وتوفى عنها وهي بنت ثماني عشرة سنة، وكان يلعب معها ويقبلها وهو صائم، ويدعو لها، وقالت أنها فضلت على نساء النبي بعشر: أنه لم ينكح بكراً غيرها ولم ينكح امرأة أبواها مؤمنين مهاجرين غيرها، وأنزل الله براءتها من السماء، وجاء جبريل بصورتها في حريره، وكانت تغتسل مع النبي في إناء واحد، وكان ينزل عليه الوحي وهو معها، وقبض وهو بين سحرها ومات في الليلة التي كان الدور عليها فيها ودفن في بيتها.

 

حفظة بنت عمر بن الخطاب

وقد عرضها والدها على أبي بكر حتى يتزوجها فلم يحبه وكذلك على عثمان فلم يحبه فلبث ليالي ثم خطبها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال أبو بكر لعمر فإنه لم يمنعني من خطبتها إلا أني سمعت رسول الله يذكرها ولم أكن لأفشي سر رسول الله، وقد طلقها النبي ثم راجعها، وقد توفيت سنة 41 هـ وقد بلغت 60 سنة.

 

زينب بنت جحش

تزوجها النبي وعمرها 35 سنة، سنة 3 هجرية وكان قد استخار بها ربه فقال تعالى: (وتخفي في نفسك ما الله مبديه) فكانت زينب تفخر على أزواج النبي وتقول زوجكن أهلوكن وزوجني الله تعالى وكانت تقية وصادقة الحديث وتكثر من صلة الرحم وتكثر من الصدقة، وتوفيت سنة 20 هـ وصلى عليها عمر بن الخطاب.

 

"أم حبيبة" صفية بنت أبي العاص

هاجرت إلى الحبشة مع زوجها فتنصر زوجها ومات، فتزوجها النبي وهي بأرض الحبشة وأرسل للنجاشي رسول الله وأصدقها النجاشي 400 دينار عن رسول الله وأرسلها النجاشي مع شرحبيل في سنة 9 هـ. وتوفيت سنة 44 هـ.

 

زينب بنت خزيمة

وتسمى أم المساكين لأنها كثيراً ما تطعم المساكين. وتوفيت ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم حي وقد مكثت عند رسول الله ثمانية أشهر.

 

ميمونة بنت الحارث

وهبت نفسها للنبي، قال تعالى: (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين) وتزوجها حين اعتمر بمكة وتوفيت سنة 61 هـ.

 

جويرية بنت الحارث

تزوجها النبي بعد ما اعتقها حيث كانت من سبايا بني المصطلق، ولقد اعتق الله لها مائة أهل بيت من بني المصطلق فكانت أعظم بركة على قومها وتوفيت سنة 50 هـ.

 

صفية بنت حيي

وكان أبوها سيد بني النضير وجعل رسول الله عتقها صداقها، وقد دخل عليها رسول الله وهي تبكي فقالت له حفصة وعائشة ينالان مني، يقولان نحن خير منك نحن بنات عم رسول الله، فقال لها النبي ألا قلت لهن كيف تكن خيراً مني وأبي هارون، وعمي موسى وزوجي محمد، وتوفيت سنة 50 هـ.

 

سودة بنت زمعة

تزوجها النبي في السنة العاشرة ولما أسنت هم بطلاقها فقالت له لا تطلقني وأنت في حل مني، فأنا أريد أن أحشر في أزواجك وإني قد وهبت يومي لعائشة فأمسكها رسول الله حتى توفى عنها وتوفيت في آخر خلافة عمر.

 

ما أكرم الله به محمداً صلى الله عليه وسلم في الدنيا

 

أخذ العهد له

قال تعالى:

{وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين "81" } (سورة آل عمران )

 

كان نبينا عندما كان آدم في طينته

قال رسول الله "إني عند الله لخاتم النبيين وأن آدم لمنجدل في طينته"

 

هو أول المسلمين

قال الله تعالى:

{أمرت لأكون أول من أسلم} (سورة الأنعام)

 

خاتم النبيين

قال رسول الله "مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنياناً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة؟

فقال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين"

 

هو أولى الأنبياء من أممهم

"إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا". وقصة صيام يوم عاشوراء.

 

أزواجه أمهات المؤمنين

قال تعالى:

{النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم "6"} (سورة الأحزاب)

 

إنه منة على المؤمنين

"لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم..".

 

إنه خير الخلق

قال رسول الله: "أن الله اصطفى كنانه من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم" وقال: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر"

 

رحمة للعالمين

{وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين "107"} (سورة الأنبياء)

 

أمان لأمته

قال تعالى:

{وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم "33"} (سورة الأنفال)

وقال رسول الله: "النجوم أمنة السماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي"

 

عموم رسالته

قال تعالى:

{وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً "28"} (سورة سبأ)

 

تكفل الله بحفظه

قال تعالى:

{والله يعصمك من الناس "67"} (سورة المائدة)

وقال تعالى:

{أنا كفيناك المستهزئين "95"} (سورة الحجر)

 

التكفل بحفظ دينه

قال تعالى:

{إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون "9"} (سورة الحجر)

 

لم يناده باسمه

قال تعالى:

{يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك "67"} (سورة المائدة)

قال تعالى:

{يا أيها النبي حسبك الله "64"} (سورة الأنفال)

 

النهي عن مناداته باسمه ورفع الصوت فوقه

قال تعالى:

{لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً "63"} (سورة النور)

قال تعالى:

{لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي "2"} (سورة الحجرات)

 

فرض بعض شرعه في السماء

عن ابن مسعود قال: "أعطى رسول الله ثلاثاً (يعني ليلة الإسراء) أعطى الصلوات الخمس، وأعطى خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئا المقحمات (الذنوب المهلكات)".

 

استمرار الصلاة عليه

قال تعالى:

{إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما "56"} (سورة الأحزاب)

كلمة يصلون تقتضي التجديد والاستمرار.

 

القسم به

ـ القسم بحياته قال تعالى:

{لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون "72"} (سورة الحجر)

ـ القسم ببلده قال تعالى:

{لا أقسم بهذا البلد "1" وأنت حل بهذا البلد "2"} (سورة البلد)

ـ القسم له قال تعالى:

{والنجم إذا هوى "1" ما ضل صاحبكم وما غوى "2"} (سورة النجم)

 

الإسراء والمعراج

ونال فيها شرف تكليم الله تعالى له ورؤية الجنة والنار وسماع صريف الأقلام. وإمامته بالأنبياء بالمقدس قال رسول الله:

"وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء .. فكانت الصلاة فأممتهم.."

غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر

قال تعالى:

{إنا فتحنا لك .. إلى أن قال: "ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر}

 

تأخير دعوته المستجابة

قال رسول الله: ".. وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة".

 

إسلام قرينه له

قال رسول الله: "ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وإياي إلا إن الله أعانني عليه فأسلم فلم يأمرني إلا بخير"

 

قرنه خير القرون

قال رسول الله: "بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرناً.."

 

ما بين بيته ومنبره روضة

قال رسول الله: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي"

 

رؤيته في المنام حق

قال رسول الله: "من رآني في المنام فقد رآني حقاً.."

 

يرى من وراء ظهره

قال رسول الله: "فوالله ما يخفي علي خشوعكم ولا ركوعكم إني لأراكم من وراء ظهري"

 

خاتم النبوة

عن جابر قال: رأيت خاتماً في ظهر رسول الله كأنه بيضة حمام" وهو خاتم النبوة بين كتفه.

 

فضائل جمة

قال رسول الله: ".. أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً وأعطيت مفاتيح خزائن الأرض وبينما أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت بين يدي قال أبو هريرة: "فذهب رسول الله وأنتم تنتشلوها"

 

اطلاعه على المغيبات

قال عمر: "قام فينا النبي مقاماً فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم وحفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه".

 

ما أكرم الله به محمداً صلى الله عليه وسلم في الآخرة

 

وصف بالشهادة

قال تعالى:

{فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً "41"} (سورة النساء)

 

أول من يبعث وأول شافع

قال رسول الله: ".. وأول من ينشق عنه القبر .. وأول شافع وأول مشفع"

 

الأنبياء تحت لوائه

قال رسول الله: ".. ما من أحد إلا وهو تحت لوائي يوم القيامة ينتظر الفرج، وإن معي لواء الحمد، أنا أمشي ويمشي الناس معي حتى آتى باب الجنة"

 

أول من يجيز الصراط

قال رسول الله: "فأكون أول من يجيز من الرسل بأمته"

 

أول من يدخل الجنة

قال رسول الله: "وأنا أول من يقرع باب الجنة"، وقال: "آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن من أنت؟!

فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت لا افتح لأحد قبلك"

 

له كرسي عن يمين العرش

عن عبد الله بن سلام: إن أكرم خليفة الله أبو القاسم ثم قال فإذا كان يوم القيامة بعث الله الخليقة أمة أمة ونبياً نبياً حتى يكون احمد وأمته آخر الأمم مركزاً قال: فيقوم فيتبعه أمته برها وفاجرها ثم يوضع جسر جهنم فيأخذون الجسر فيطمس الله أبصار أعدائه فيتهافتون فيها من شمال ويمين وينجو النبي والصالحون معه، فتتلقاهم الملائكة فتريهم منازلهم من الجنة على يمينك، على يسارك حتى ينتهي إلى ربه فيلقي له كرسي عن يمين الله ثم ينادي مناد أين عيسى وأمته".

 

أكثر الأنبياء تبعاً

قال رسول الله: "أنا أكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة"

 

أعطى الكوثر

قال رسول الله: "بينما أنا أسير في الجنة إذا أنا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف، فقلت ما هذا يا جبريل؟! قال هذا الكوثر الذي أعطاك ربك"

 

إعطاؤه الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود

وذلك ثابت في الحديث المشهور بالدعاء بعد سماع الأذان.

 

الشفاعة

لأهل الصغائر والكبائر ولدخول الجنة ولأهل الموقف لتعجيل الحساب.

 

ثناء الله تعالى عليه ومدحه إياه

 

طهارة النبي

قال تعالى:

{كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم "151"} (سورة البقرة)

قال علي بن أبي طالب أي "نسباً وطهراً وحسباً ليس في آبائي من لدن آدم سفاح وعن ابن عباس قال في قوله تعالى:

{وتقلبك في الساجدين "219"} (سورة الشعراء)

أي من نبي إلى نبي.

 

الرحمة

{وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين "107"} (سورة الأنبياء)

.. زين الله محمداً بزينة الرحمة فكان رحمة، وجميع صفاته رحمة على الخلق، فمن أصابه شيء من رحمته فهو الناجي، فكانت حياته رحمة ومماته رحمة يعني للجن والأنس ولجميع الخلق فللمؤمن رحمة بالهداية ورحمة للمنافق بالأمان من القتل، ورحمة للكافر بتأخير العذاب.

 

الشاهد والبشير النذير

{يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً "45"} (سورة الأحزاب)

فهو شاهد على الخلق يوم القيامة وشاهد بوحدانية الله ولم يجعله الله مدعياً، كما أنه مبشر إلى الله وما عنده فمن لم يستجب كان منذراً لهم، ثم لا يكتفي بالتبشير والنذير وإنما يدعوهم بعد ذلك "وداعيا إلى الله".

 

السراج المنير

{وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً "46"} (سورة الأحزاب)

والسراج يؤخذ منه أنوار كثيرة فإذا انطفأت يبقى الأول. وكل صحابي أخذ من نور الهداية، ولهذا قال رسول الله "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" فلم يجعل أصحابه سرج وإنما نجوم، والنجم لا يؤخذ منه نور، ولهذا إذا مات الصحابي فالتابعي يستنير بنور النبي ولا يأخذ منه إلا قوله وفعله.

 

رفع الذكر

{ورفعنا لك ذكرك "4"} (سورة الشرح)

قال ابن عباس: يذكر مع الله في الأذان والإقامة والتشهد ويوم الجمعة على المنابر ويوم الفطر ويوم الأضحى وأيام التشريق ويوم عرفة، وعند الجمار، وعلى الصفا والمروة وفي خطبة النكاح، وفي مشارق الأرض ومغاربها ولو أن رجلاً عبد الله ولم يشهد أن محمداً رسول الله لم ينتفع بشيء وكان كافراً، وقيل رفعنا ذكرك عند الملائكة في السماء وفي الأرض عند المؤمنين ونرفع في الآخرة ذكرك بما نعطيك من المقام المحمود وكرائم الدرجات.

 

من صفاته صلى الله عليه وسلم

 

حلمه

روي أن النبي لما كسرت رباعيته وشج وجهه يوم أحد شق ذلك على أصحابه وقالوا لو دعوت عليهم فقال: "إني لم ابعث لعاناً ولكني بعثت داعياً ورحمة، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون"

 

كرمه

وحملت إليه تسعون ألف درهم فوضعت على حصير ثم قام إليها رسول الله فقسمها فما رد سائلاً حتى فرغ منها وجاءه رجل فسأله فقال له ما عندي شيء ولكن ابتع علي فإذا جاءنا شيء قضيناه فقال له عمر ما كلفك الله مالا تقدر عليه، فكره النبي ذلك فقال رجل من الأنصار يا رسول الله أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالاً فتبسم رسول الله وعرف البشر في وجهه وقال بهذا أمرت.

 

رحمته وشفقته

إن إعرابياً جاء للنبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه شيئاً فأعطاه ثم قال آحسنت إليك، قال الإعرابي: لا، ولا أجملت فغضب المسلمون وقاموا إليه فأشار إليهم أن كفوا ثم قام ودخل منزله وأرسل إليه وزاده شيئاً ثم قال: آحسنت إليك قال: نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة، فقال له النبي إنك قلت ما قلت وفي نفس أصحابي شيء فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي .. فلما كان الغد أو العشي جاء فقال النبي أن هذا ما قال فزدناه فزعم أنه رضي أكذلك؟ قال: نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً

 

وفاؤه

كان النبي إذا أتى بهدية قال اذهبوا بها إلى بيت فلانة فإنها كانت صديقة لخديجة وإنها كانت تحب خديجة.

ودخلت عليه امرأة فهش لها واحسن السؤال عنها فلما خرجت قال: "أنها كانت تأتينا أيام خديجة وأن حسن العهد من الإيمان"

 

تواضعه

لقد كان في بيته في مهنة أهله يغلي ثوبه ويحلب شاته ويرقع ثوبه ويخصف نعله ويخدم نفسه ويصم (يكنس) البيت ويعقل (يربط) البعير ويعلف ناضحه (الجمل) ويأكل مع الخادم ويعجن معها ويحمل بضاعته من السوق.

وخير بين أن يكون نبياً ملكاً أو نبياً عبداً فاختار أن يكون نبياً عبداً.

 

من مزاحه وضحكه صلى الله عليه وسلم

 

مع الجارية

قالت أم نبيط: أهدينا جارية وكنت مع نسوة ومعي دف أضرب به وأقول: أتيناكم أتيناكم، فحيونا نحييكم، ولولا الذهب الأحمر ما حلت بواديكم فقالت: فوقف علينا رسول الله فقال: ما هذا يا أم نبيط؟ فقلت بأبي وأمي يا رسول الله جاريه نهديها إلى زوجها، قال: فتقولين ماذا؟ "قلت فأعدت عليه" فقال: "ولولا الحنطة السمراء ما سمنت ذراريكم"

 

مع زوجاته

قالت عائشة أتيت بجريرة (شوربة) قد طبختها فقلت لسودة والنبي بيني وبينها. كلي فأبت أن تأكل فقلت لتأكلين وإلا لطخته وجهك، فأبت فأخذت من القصعة شيئاً فلطخت به وجهها فضحك رسول الله ورفع رجله من حجرها، وقال الطخي وجهها فأخذت شيئاً من الصعقة فلطخت به وجهي ورسول الله يضحك ..

 

مع إحدى النساء

جاءت امرأة يقال لها أم أيمن إلى رسول الله فقالت: إن زوجي يدعوك، قال: "من هو؟ أهو الذي بعينيه بياض؟" فقالت: أي يا رسول الله؟ والله ما بعينيه بياض؟ وكان يمزح معها

 

مع الأطفال

كان رسول الله يأخذ بيد الحسين بن علي رضي الله عنه فيرفعه على باطن قدميه ويقول "حزقة حزقة ترق عين بقه .."

وكان يدلع لسانه للحسن بن علي فيرى الصبي لسانه فيهش إليه.

 

مع أحد أصحابه

عن أنس أن رسول الله قال: "فاتني أزيهر أزيهر" وهو يقوم يبيع متاعه في السوق، وكان رجلاً دميماً فاحتقنه من خلفه، ولا يبصره الرجل، فقال: أرسلني: من هذا؟ فالتفت فعرف رسول الله فجعل لا يألو ما ألصق ظهره لصدر رسول الله حين عرفه. وجعل رسول الله يقول: "من يشتري العبد؟ فقال يا رسول الله إذن والله تجدني كاسداً، فقال رسول الله ولكن عند الله لست بكاسد

 

الإيمان به وثواب محبته صلى الله عليه وسلم

 

الإيمان به

قال رسول الله: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله"

 

وجوب طاعته

قال تعالى:

{يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله "20"} (سورة الأنفال)

وقال تعالى عن الكفار:

{يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسول "66"} (سورة الأحزاب)

 

لزوم محبته

قال رسول الله: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين"

وقال "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: ـ وذكر في الأولى ـ أن يكون الله ورسوله احب إليه مما سواهما .."

 

ثواب محبته

كان رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليه لا يطرف فقال: "ما بالك؟" قال: بأبي أنت وأمي أتمتع من النظر إليك، فإذا كان يوم القيامة رفعك الله بتفضيله فأنزل الله:

{ومن يطع الله ورسوله فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً "69"} (سورة النساء)

 

حب امرأة من الأنصار

أن امرأة من الأنصار قتل أبوها وأخوها وزوجها يوم أحد فقالت وما حال رسول الله؟ قالوا خيراً هو بحمد الله كما تحبي قالت: أرنيه حتى انظر إليه، فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل.

 

حب الصحابة له

سئل علي بن أبي طالب عن حب الصحابة للنبي فقال: كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ.

الاحترام والأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم

الإمام التجيبي رحمه الله

قال أبو إبراهيم التجيبي: "واجب على كل مؤمن متى ذكره أو ذكر عنده أن يخضع ويخشع ويتوقر ويسكن من حركته ويأخذ في هيبته وإجلاله بما كان يأخذ به نفسه لو كان بين يديه، ويتأدب بما أدبنا الله به.

الإمام مالك رحمه الله

كان مالك إذا ذكر النبي يتغير لونه فقيل له يوماً في ذلك فال لقد كنت أرى جعفر ابن محمد رحمه الله وكان كثير الدعابة والتبسم فإذا ذكر النبي عنده أصفر، وما رأيته يحدث عن رسول الله إلا على طهارة .. وكان بكاؤهم واصفرارهم رضي الله عنهم هيبة له وشوقاً للقائه.

الإمام ابن مهدي

وكان عبد الرحمن بن مهدي إذا قرأ حديث النبي أمرهم بالسكوت وقال: "لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي". ويتأول أنه يجب له من الإنصات عند قراءة حديثه ما يجب له عند سماع قوله.

الإمام مالك

قال إني احب أن أعظم حديث رسول الله ولا أحدث به إلا على طهارة، وأكره أن أحدث في الطريق أو وأنا قائم أو مستعجل وأحب أن أفهم حديث رسول الله.

 

من علامات الأدب والمحبة

1. الاقتداء به واتباع سنته والعمل بأقواله وأفعاله في المنشط والمكره.

2. كثرة ذكره والشوق للقائه.

3. تعظيمه عند ذكره وتوقيره وإظهار الخشوع والانكسار عند اسمه.

4. محبة من يحب من آل بيته وأصحابه وعداوة من عاداهم.

5. محبة القرآن الذي أتى به والاهتداء به والتخلق به

6. الشفقة على أمته ونصحهم والسعي في مصالحهم ورفع المضار عنهم.

 

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

 

المعنى

المقصود بالصلاة على النبي من الله رحمته ورضوانه وثناؤه عليه عند الملائكة ومن الملائكة الدعاء له والاستغفار ومن الأمة الدعاء والاستغفار والتعظيم له.

 

الصيغة

أفضل الصيغ اللهم صل علي محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وهناك صيغ أخرى، وأقل ما يجزئ هو: اللهم صل على محمد.

 

أوقات الصلاة

يوم الجمعة وليلتها، وعند الصباح والمساء، وعند دخول المسجد والخروج منه وعند قبره، وعند إجابة المؤذن، وعند الدعاء وبعده، وعند السعي، وعند اجتماع القوم وتفرقهم، وعند الفراغ من التلبية، وعند ذكر اسمه، وعند استلام الحجر، وعند القيام من النوم وختم القرآن، وعند الهم والشدائد وطلب المغفرة، وعند تبليغ العلم للناس، وعند الوعظ وإلقاء الدروس وعند خطبة الرجل المرأة في النكاح وفي كل موطن يجتمع فيه على ذكر الله.

 

ثواب المصلي

ـ قال رسول الله: "من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشر صلوات وحط عنه عشر خطيئات ورفع له عشر درجات"

ـ قال رسول الله: "من صلى علي حين يصبح عشراً وحين يمسي عشراً أدركته شفاعتي يوم القيامة"

ـ عن ابن مسعود قال رسول الله: "أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة" وفي بعض الآثار "ليردن علي أقوام ما أعرفهم إلا بكثرة صلاتهم علي"

ـ قال أبي بن كعب يا رسول الله إني أكثر من الصلاة عليك فكم اجعل لك من صلاتي؟ قال: "ما شئت" قال الربع قال: "ما شئت"، وأن زدت فهو خير قال الثلث؟ قال: "ما شئت وإن زدت فهو خير" قال النصف؟ قال: "ما شئت وإن زدت فهو خير" قال: "يا رسول فاجعل صلاتي كلها لك: "إذا تكفي ويغفر ذنبك"

أضيفت في01/04/2006/ خاص القصة السورية / لقراءة موضوع ذات صلة (الإشارة الجمالية في المثل القرآني / دراسة) (مستويات السرد الإعجازي في القصة القرآنية)

 

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية