نماذج من قصص الأنبياء في القرآن2
قصة لوط عليه السلام
ومما وقع في حياة إبراهيم الخليل من الأمور العظيمة: قصة لوط عليه
السلام وما حل بهم من النقمة العميمة. وذلك أن لوطا بن هاران بن تارخ ـ وهو
آزر كما تقدم ـ ولوط ابن أخي إبراهيم الخليل، فإبراهيم وهاران وناحور إخوة
كما قدمنا، ويقال: إن هاران هذا هو الذي بنى حران، وهذا ضعيف لمخالفته ما
بأيدي أهل الكتاب، والله أعلم.
وكان لوط قد نزح عن محلة عمه الخليل عليهما السلام بأمره له وإذنه،
فنزل بمدينة سدوم من أرض غور زغر، وكان أم تلك المحلة، ولها أرض ومعتملات
وقرى مضافة إليها، ولها أهل من أفجر الناس، وأكفرهم وأسوئهم طوية، وأردئهم
سريرة وسيرة، يقطعون السبيل، ويأتون في ناديهم المنكر، ولا يتناهون عن منكر
فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون. ابتدعوا فاحشة لم يسبقهم إليها أحد من بني
آدم، وهي إتيان الذكران من العالمين، وترك ما خلق الله من النسوان لعباده
الصالحين.
فدعاهم لوط إلي عبادة الله تعالى وحدة لا شريك له، ونهاهم عن تعاطي
هذه المحرمات، والفواحش والمنكرات، والأفاعيل المستقبحات، فتمادوا على
ضلالهم وطغيانهم، واستمروا على فجورهم وكفرانهم، فأحل الله بهم من البأس
الذي لا يرد ما لم يكن في خلدهم وحسبانهم وجعلهم مثلة في العالمين، وعبرة
يتعظ بها الألباء من العالمين.
أن لوطاً عليه السلام لما دعاهم إلي عبادة الله وحده لا شريك له،
ونهاهم عن تعاطي ما ذكر الله عنهم من الفواحش، لم يستجيبوا له ولم يؤمنوا
به حتى ولا رجل واحد منهم، ولم يتركوا ما عنه نهوا، بل استمروا على حالهم،
ولم يرعووا عن غيهم وضلالهم، وهموا بإخراج رسولهم من بين ظهرانيهم. وما كان
حاصل جوابهم عن خطابهم ـ إذ كانوا لا يعقلون إلا أن قالوا:
{أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون} (سورة النمل:56)
فجعلوا غاية المدح ذما يقتضي الإخراج! وما حملهم على مقالتهم هذه
إلا العناد واللجاج.
فطهره الله وأهله إلا امرأته، وأخرجهم منها أحسن إخراج، وتركهم في
محلتهم خالدين لكن بعد ما صيرها عليهم بحرة منتنة ذات أمواج، لكنها عليهم
في الحقيقة نار تأجج، وحر يتوهج، وماؤها ملح أجاج. وما كان هذا جوابهم إلا
لما نهاهم عن ارتكاب الفاحشة العظمى والفاحشة الكبرى، التي يسبقهم إليها
أحد من أهل الدنيا، ولهذا صاروا مثله فيها، وعبرة لمن عليها.
وكانوا مع ذلك يقطعون الطريق، ويخونون الرفيق، ويأتون في ناديهم،
وهو مجتمعهم ومحل حديثهم وسمرهم، المنكر من الأقوال والأفعال على اختلاف
أصنافه. حتى قيل: إنهم كانوا يتضارطون في مجالسهم، ولا يستحون من مجالسيهم،
وربما وقع منهم الفعلة العظيمة في المحافل ولا يستنكفون، ولا يرعوون لوعظ
واعظ ولا نميمة من ناقل، وكانوا في ذلك وغيره كالأنعام بل أضل سبيلاً، ولم
يقلعوا عما كانوا عليه في الحاضر، ولا ندموا على ما سلف من الماضي ولا
راموا في المستقبل تحويلاً فأخذهم الله أخذا وبيلاً.
وقالوا له فيما قالوا:
{ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين} (سورة العنكبوت:29)
فطلبوا منه وقوع ما حذرهم عنه من العذاب الأليم، وحلول البأس
العظيم، فعند ذلك دعا عليهم نبيهم الكريم، فسأل من رب العالمين وإله
المرسلين أن ينصره على القوم المفسدين فغار الله لغيرته، وغضب لغضبته،
واستجاب لدعوته، وأجابه إلي طلبته، وبعث رسله الكرام، وملائكته العظام،
فمروا على الخليل إبراهيم وبشروه بالغلام العليم وأخبروه بما جاءوا له من
الأمر الجسيم والخطب العميم:
{قال فما خطبكم أيها المرسلون * قالوا إنا أرسلنا إلي قوم مجرمين *
لنرسل عليهم حجارة من طين * مسومة عند ربك للمسرفين} (سورة الذاريات:31ـ34)
وقال:
{ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكو أهل القرية، إن
أهلها كانوا ظالمين * قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها، لننجينه
وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين} (سورة العنكبوت:31ـ32)
وقال الله تعالى:
{فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البرى يجادلنا في قوم لوط} (سورة
هود:74)
وذلك أنه كان يرجوا أن يجيبوا أو ينيبوا ويسلموا ويقلعوا ويرجعوا،
ولهذا قال تعالى:
{أن إبراهيم لحليم أواه منيب * يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء
أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود} (سورة هود:75ـ76)
أي: أعرض عن هذا وتكلم في غيره، فإنه قد حتم أمرهم، ووجب عذابهم
وتدميرهم وهلاكهم. (إنه قد جاء أمر ربك) أي: قد أمر به من لا يرد أمره، ولا
يرد بأسه، ولا معقب لحكمه، (وإنهم آتيهم عذاب غير مردود).
وذكر سعيد بن جبير والسدي وقتادة ومحمد بن إسحاق: أن إبراهيم عليه
السلام جعل يقول: أتهلكون قرية فيها ثلاثمائة مؤمن؟ قالوا: لا، قال: فمائتا
مؤمن؟ قالوا: لا، وقال: فأربعون مؤمناً؟ قالوا: لا، قال: فأربعة عشر
مؤمناً؟ قالوا: لا، قال ابن إسحاق: إلي أن قال: أفرأيتم إن كان فيها مؤمن
واحد؟ قالوا: لا
{قال إن فيها فوطاً، قالوا نحن أعلم بمن فيها} (سورة العنكبوت:32)
وعند أهل الكتاب أنه قال: يا رب أتهلكهم وفيهم خمسون رجلاً صالحاً؟
فقال الله: لا أهلكهم وفيهم خمسون صالحاً، ثم تنازل إلي عشرة، فقال الله:
لا أهلكهم وفيهم عشرة صالحون.
قال الله تعالى:
{ولما جاءت رسلنا لوطاً سيئ بهم وضاق بهم ذرعاً وقال هذا يوم عصيب}
(سورة هود:77)
وقال المفسرون: لما فصلت الملائكة من عند إبراهيم ـ وهم جبريل
ومكائيل وإسرافيل ـ أقبلوا حتى أتوا أرض سدوم، في صور شبان حسان، اختباراً
من الله تعالى لقوم لوط وإقامة للحجة عليهم، فاستضافوا لوطاً ـ عليه السلام
ـ وذلك عند غروب الشمس، فخشي إن لم يضفهم أن يضيفهم غيره، وحسبهم بشراً من
الناس، و (سيئ بهم ذرعاً وقال هذا يوم عصيب) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة
ومحمد بن إسحاق: شديد بلاؤه، وذلك لما يعلم من مدافعته الليلة عنهم، كما
كان يصنع بهم في غيرهم، وكانوا قد اشترطوا عليه ألا يضيف أحداً، ولكن رأي
من لا يمكن المحيد عنه.
وذكر قتادة: أنهم وردوا عليه وهو في أرض له يعمل فيها، فتضيفوا
فاستحيا منهم وانطلق أمامهم، وجعل يعرض لهم في الكلام لعلهم ينصرفون عن هذه
القرية وينزلون في غيرها، فقال لهم فيما قال: والله يا هؤلاء ما أعلم على
وجه الأرض أهل بلد أخبت من هؤلاء، ثم مشى قليلاً، ثم أعاد ذلك عليهم حتى
كرره أربع مرات، قال: وكانوا قد أمروا ألا يهلكوهم حتى يشهد عليهم نبيهم
بذلك.
وقال السدي: خرجت الملائكة من عند إبراهيم نحو قرية لوط. فأتوها نصف
النهار، فلما بلغوا نهر سدوم لقوا ابنة لوط تستقي من الماء لأهلها، وكانت
له ابنتان: اسم الكبرى "أريثا" والصغرى "زغرتا". فقالوا لها: يا جارية، هل
من منزل؟ فقال لهم: نعم مكانكم لا تدخلوا حتى آتيكم، فرقت عليهم من قومها،
فأتت أباها فقالت: يا أبتاه! أرادك فتيان على باب المدينة، ما رأيت وجوه
قوم قط هي أحسن منهم، لا يأخذهم قومك فيفضحوهم. وقد كان قومه نهوه أن يضيف
رجلاً فقالوا: خل عنا فلنضيف الرجال فجاء بهم فلم يعلم أحد إلا أهل البيت،
فخرجت امرأته فأخبرت قومها؛ فقال: إن في بيت لوط رجالاً ما رأيت مثل وجوههم
قط، فجاءه قومه يهرعون إليه.
وقوله: (ومن كانوا يعملون السيئات) أي: هذا ما سلف لهم من الذنوب
العظيمة الكبيرة الكثيرة
{قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم} (سورة هود:78)
يرشدهم إلي غشيان نسائهم وهن بناته شرعاً؛ لأن النبي للأمة منزله
الوالد، كما ورد في الحديث، كما قال تعالى:
{النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم} (سورة الأحزاب:6)
وفي قول بعض الصحابة والسلف: وهو أب لهم. وهذا كقوله:
{أتأتون الذكران من العالمين * وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم،
بل أنتم قوم عادون} (سورة الشعراء:165ـ166)
وهذا هو الذي نص عليه مجاهد وسعيد بن جبير والربيع بن أنس وقتادة
والسدي ومحمد بن إسحاق، وهو الصواب. والقول الآخر خطأ مأخوذ من أهل الكتاب،
وقد تصحف عليهم كما أخطأوا في قولهم: إن الملائكة كانوا اثنين، وإنهم تعشوا
عنده، وقد خبط أهل الكتاب في هذه القصة تخبيطاً عظيماً.
وقوله:
{فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد} (سورة هود:78)
نهى لهم عن تعاطي ما لا يليق من الفاحشة، وشهادة عليهم بأنه ليس
فيهم رجل له مسكة ولا فيهم خير، بل الجميع سفهاء، فجرة أقوياء، كفرة
أغبياء. وكان هذا من جملة ما أراد الملائكة أن يسمعوه منه قبل أن يسألوه
عنه.
فقال قومه عليهم لعنة الله الحميد المجيد، مجيبين لنبيهم فيما أمرهم
به من الأمر السديد:
{لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد} (سورة هود:79)
يقولون ـ عليهم لعائن الله ـ: علمت يا لوط أنه أرب لنا في نسائنا،
وإنك لتعلم مرادنا وغرضنا. واجهوا بهذا الكلام القبيح رسولهم الكريم، ولم
يخافوا سطوة العظيم، ذي العذاب الأليم. ولهذا قال عليه السلام
{لو أن لي بكم قوة أو آوى إلي ركن شديد} (سورة هود:80)
ود أن لو كان له بهم قوة، أو له منعة وعشيرة ينصرونه عليهم، ليحل
بهم ما يستحقونه من العذاب على هذا الخطاب.
وقد قال الزهري، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة، عن أبي هريرة
مرفوعاً: "نحن أحق بالشك من إبراهيم، ويرحم الله لوطاً؛ لقد كان يأوي إلي
ركن شديد، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي".
ورواه أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة. وقال محمد بن عمرو بن
علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"رحمة الله على لوط، لقد كان يأوي إلي ركن شديد ـ يعني: الله عز وجل ـ فما
بعث الله بعده من نبي إلا في ثروة من قومه"
وقال تعالى:
{وجاء أهل المدينة يستبشرون * قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون *
واتقوا الله ولا تخزون * قالوا أو لم ننهك عن العالمين * قال هؤلاء بناتي
إن كنتم فاعلين} (سورة الحجر:67ـ71)
فأمرهم بقربان نسائهم، وحذرهم الاستمرار على طريقتهم وسيئاتهم. هذا
وهم في ذلك لا ينتهون لا يرعوون، بل كلما نهاهم يبالغون في تحصيل هؤلاء
الضيفان ويحرصون، ولم يعلموا ما حم به القدر مما هم إليه صائرون، وصبيحة
ليلتهم إليه منقلبون. ولهذا قال تعالى مقسماً بحياة نبيه محمد صلوات الله
وسلامه عليه:
{لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون} (سورة الحجر:72)
وقال تعالى:
{ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر * ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا
أعينهم فذوقوا عذابي ونذر * ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر} (سورة
القمر:36ـ38)
ذكر المفسرون وغيرهم: أن نبي الله لوطاً عليه السلام جعل يمانع قومه
الدخول ويدافعهم والباب مغلق، وهم يرمون فتحه وولوجه، وهو يعظهم وينهاهم من
وراء الباب، وكل ما لهم في إلحاح وإنحاح، فلما ضاق الأمر وعسر الحال وقال
ما قال:
{لو أن لي بكم قوة أو آوى إلي ركن شديد} (سورة هود:80)
لأحللت بكم النكال. قال الملائكة:
{يا لوط إنا رسل لن يصلوا إليك} (سورة هود:81)
وذكروا أن جبريل عليه السلام خرج عليهم، فضرب وجوههم خفقة بطرف
جناحه فطمست أعينهم، حتى قيل إنها غارت بالكلية ولم يبق لها محل ولا عين
ولا أثر، فرجعوا يتحسسون مع الحيطان، ويتوعدون رسول الرحمن، ويقولون إذا
كان الغد كان لنا وله شأن!.
قال الله تعالى:
{ولقد راوده عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر * ولقد صبحهم
بكرة عذاب مستقر} (سورة القمر:37ـ38)
فذلك أن الملائكة تقدمت إلي لوط، عليه السلام، آمرين له بأن يسري هو
وأهله من آخر الليل:
{ولا يلتفت منكم أحد} (سورة هود:81)
يعني عند سماع صوت العذاب إذا حل بقومه، وأمروه أن يكون سيره في
آخرهم كالساقة لهم. وقوله:
{إلا امرأتك} (سورة هود:81)
على قراءة النصب؛ يحتمل أن يكون مستثنى من قوله: (فأسر بأهلك) كأن
يقول إلا امرأتك فلا تسر بها، ويحتمل أن يكون من قوله: (ولا يلتفت منكم أحد
إلا امرأتك) أي: فإنها ستلتفت فيصيبها ما أصابهم، ويقوى هذا الاحتمال قراءة
الرفع، ولكن الأول أظهر في المعنى. والله أعلم. قال السهيلي: واسم امرأة
لوط "والهة" واسم امرأة نوح "والغة".
وقالوا له مبشرين بهلاك هؤلاء البغاة العتاة، الملعونين النظراء،
والأشباه الذين جعلهم الله سلفاً كل خائن مريب:
{إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب} (سورة هود:81)
فلما خرج لوط عليه السلام بأهله، وهم ابنتاه، لم يتبعه منهم رجل
واحد، ويقال: إن امرأته خرجت معه. فالله أعلم. فلما خلصوا من بلادهم وطلعت
الشمس فكانت عند شروقها، جاءهم من أمر الله ما لا يرد، ومن البأس الشديد ما
لا يمكن أن يصد.
وعند أهل الكتاب: أن الملائكة أمروه أن يصعد إلي رأس الجبل الذي
هناك فاستبعده وسأل منهم أن يذهب إلي قرية قريبة منهم فقالوا: اذهب فإنا
ننتظرك حتى تصير إليها وتستقر فيها، ثم نحل بهم العذاب، فذكروا أنه ذهب إلي
قرية "صوعر" التي يقول الناس: غور زغر، فلما أشرقت الشمس نزل بهم العذاب.
قال الله تعالى:
{فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها وسافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل
منضودٍ * مسومة عند ربك، وما هي من الظالمين ببعيدٍ} (سورة هود:82ـ83)
قالوا: اقتلعهن جبريل بطرف جناحه من قرارهن ـ وكن سبع مدن ـ بمن
فيهن من الأمم، فقالوا: إنهم كانوا أربعمائة ألف نسمة، وقيل أربعة آلاف ألف
نسمة، وما معهم من الحيوانات، وما يتبع تلك المدن من الأرض والأماكن
والمعتملات. فرفع الجميع حتى بلغ بهن عنان السماء، حتى سمعت الملائكة أصوات
ديكتهم ونباح كلابهم ثم قلبها عليهم، فجعل عاليها سافلها، قال مجاهد: فكان
أول ما سقط منها شرفاتها.
{وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل} (سورة هود:82)
والسجيل: فارسي معرف، وهو الشديد الصلب القوي، منضود: أي يتبع بعضها
بعضاً في نزولها عليهم من السماء، مسومة: أي معلمة مكتوب على كل حجر اسم
صاحبه الذي يهبط عليه فيدمغه ثم قال:
{مسومة عند ربك للمسرفين} (سورة الذاريات:34)
وكما قال تعالى:
{وأمطرنا عليهم مطراً فساء مطر المنذرين} (سورة الشعراء:173)
وقال تعالى:
{والمؤتفكة أهوى * فغشاها ما غشي} (سورة النجم:53ـ54)
يعني: قلبها فأهوى بها منكسة عاليها سافلها، وغشاها بمطر من حجارة
من سجيل، متتابعة، مسومة، مرقوم على كل حجر اسم صاحبه الذي سقط من الحاضرين
منهم في بلدهم، والغائبين عنها من المسافرين والنازحين والشاذين منها.
ويقال: إن امرأة لوط مكثت مع قومها، ويقال: أنها خرجت مع زوجها
وبنتيها، ولكنها لما سمعت الصيحة وسقوط البلدة، التفتت إلي قومها وخالفت
أمر ربها قديماً وحديثاً، وقالت: واقوماه! فسقط عليها حجر فدمغها وألحقها
بقومها؛ إذ كانت على دينهم، وكانت عيناً لهم على من يكون عند لوط من
الضيفان.
{ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط، كانتا تحت عبدين
من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار
مع الداخلين} (سورة التحرير:10)
أي: خاتناهما في الدين فلم يتبعاهما فيه. وليس المراد أنهما كانتا
على فاحشة، حاشا وكلا، فإن الله لا يقدر على نبي قط أن تبغي امرأته، كما
قال ابن عباس وغيره من أئمة السلف والخلف: ما بغت امرأة نبي قط، ومن قال
خلاف هذا فقد أخطأ خطأ كبيراً. قال الله تعالى في قصة الإفك، لما أنزل
براءة أم المؤمنين عائشة بنت الصديق، زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم،
حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، فعاتب الله المؤمنين وأنب وزجر، ووعظ
وحذر، وقال فيما قال:
{إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه
هيناً وهو عند الله عظيم * ولولا إذا سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم
بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم} (سورة النور:15ـ16)
أي: سبحانك أن تكون زوجة نبيك بهذه المثابة. وقوله هاهنا:
{وما هي م الظالمين ببعيد} (سورة هود:83)
أي: وما هذه العقوبة ببعيدة ممن أشبههم في فعلهم. ولهذا ذهب من ذهب
من العلماء إلي أن اللائط يرجم؛ سواء كان محصناً أو لا، ونص عليه الشافعي
واحمد بن حنبل وطائفة كثيرة من الأئمة.
واحتجوا أيضاً
بما رواه الأمام احمد وأهل السنن من حديث عمرو بن أبي عمرو، عن
عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من وجدتموه
يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به"
وذهب أبو حنيفة إلي أن اللائط يلقي من شاهق جبل ويتبع بالحجارة كما
فعل بقوم لوط لقوله تعالى:
{وما هي م الظالمين ببعيد} (سورة هود:83)
وجعل الله مكان تلك البلاد بحيرة منتنة لا ينتفع بمائها، ولا بما
حولها من الأراضي المتاخمة لفنائها، لرداءتها ودناءتها، فصارت عبرة ومثلة
وعظة وآية على قدرة الله تعالى وعظمته، وعزته في انتقامه ممن خالف أمره،
وكذب رسله، واتبع هواه، وعصي مولاه، ودليل على رحمته بعباده المؤمنين في
إنجائه إياهم من المهلكات، وإخراجه إياهم من الظلمات إلي النور، كما قال
تعالى:
{إن في ذلك لآية، وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز
الرحيم} (سورة الشعراء:174ـ175)
وقال الله تعالى:
{فأخذتهم الصيحة مشرقين * فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة
من سجيل * إن في ذلك لآيات للمتوسمين * وإنها لبسبيل مقيم * إن في ذلك لآية
للمؤمنين} (سورة الحجر:73ـ77)
أي: من نظر بعين الفراسة والتوسم فيهم، كيف غير الله بتلك البلاد
وأهلها وكيف جعلها بعد ما كانت آهلة عامرة هالكة غامرة. كما روي الترمذي
وغيره مرفوعاً: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله". ثم قرأ:
{إن في ذلك لآيات للمتوسمين} (سورة الحجر:75)
وقوله: (وإنها لبسبيل مقيم) أي: لبطريق مهيع مسلوك إلي الآن. كما
قال:
{وإنكم لتمرون عليهم مصبحين * وبالليل، أفلا تعقلون} (سورة
الصافات:137ـ138)
وقال تعالى:
{ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون} (سورة العنكبوت:35)
وقال تعالى:
{فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين * فما وجدنا فيها غير بيت من
المسلمين * وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم} (سورة
الذاريات:35ـ37)
أي: تركناها عبرة وعظة لمن خاف عذاب الآخرة، وخشي الرحمن بالغيب،
وخاف مقام ربه، ونهى النفس عن الهوى، فانزجر من محارم الله وترك معاصيه،
وخاف أن يشابه قوم لوط. و"من تشبه بقوم فهو منهم"، وإن لم يكن من كل وجه،
فمن بعض الوجوه، كما قال بعضهم
فإن لم تكونوا قوم لوط بعينهم فما قوم لوط منكم ببعيد
فالعاقل اللبيب الخائف من ربه الفاهم، يتمثل ما أمره به الله عز
وجل، ويقبل ما أرشده إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من إتيان ما خلق له
من الزوجات الحلال، والجواري من السراري ذوات الجمال، وإياه أن يتبع كل
شيطان مريد، فيحق عليه الوعيد، ويدخل في قوله تعالى:
{وما هي م الظالمين ببعيد} (سورة هود:83)
قصة مدين قوم شعيب عليه السلام
كان أهل مدين قوماً عرباً يسكنون مدينتهم "مدين" التي هي قريبة من
أرض معان من أطراف الشام، مما يلي ناحية الحجاز قريباً من بحيرة قوم لوط،
وكانوا بعدهم بمدة قريبة. ومدين قبيلة عرفت بهم المدينة، وهم من بني مدين
بن مديان بن إبراهيم الخليل. وشعيب نبيهم هو ابن ميكيل بن يشجن، ذكره ابن
إسحاق.
قال: ويقال له بالسريانية يترون، وفي هذا نظر، ويقال شعيب بن يشخر
بن لاوي ابن يعقوب، ويقال: شعيب بن نويب بن عيفا بن مدين بن إبراهيم،
ويقال: شعيب ابن ضيفور بن عيتا بن ثابت بن مدين بن إبراهيم، وقيل غير ذلك
في نسبه. وقال ابن عساكر: ويقال جدته، ويقال أمه، بنت لوط. وكان ممن آمن
بإبراهيم، وهاجر معه، ودخل معه دمشق.
وعن وهب بن منبه أنه قال: شعيب وملغم ممن آمن بإبراهيم يوم أحرق
بالنار، وهاجر معه إلي الشام، فزوجهما بنتي لوط عليه السلام. ذكره ابن
قتيبة. وفي هذا كله نظر أيضاً. والله أعلم.
وذكر عمر بن عبد البر في "الاستيعاب" في ترجمة سلمة بن سعدي
العنتري: أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وانتسب إلي عنزة،
فقال: "نعم الحي عنزة مبغي عليهم، منصورون، رهط شعيب وأختان موسى"
فلو صح هذا لدل على أن شعيباً صهر موسى، وأنه من قبيلة من العرب
العاربة يقال لهم عنزة، لا أنهم من عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن
عدنان، فإن هؤلاء بعده بدهر طويل، والله أعلم. وفي حديث أبي ذر الذي في
صحيح ابن حبان في ذكر الأنبياء والرسل قال: "أربعة من العرب: هود، وصالح،
وشعيب، ونبيك يا أبا ذر".
وكان بعض السلف يسمي شعيباً خطيب الأنبياء، يعني لفصاحته وحلاوة
عبارته وبلاغته في دعاية قومه إلي الإيمان برسالته.
وقد روى ابن إسحاق بن بشر عن جويبر ومقاتل، عن الضحاك، عن ابن عباس
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر شعبياً قال: "ذاك خطيب
الأنبياء"
وكان أهل مدين كفاراً يقطعون السبيل ويخيفون المارة، ويعبدون
الأيكة، وهي شجرة من الأيك حولها غيضة ملتفة بها. وكانوا من أسوأ الناس
معاملة، يبخسون المكيال والميزان، ويطففون فيهما، يأخذون بالزائد، ويدفعون
بالناقص.
فبعث الله فيهم رجلاً منهم وهو رسول الله شعيب عليه السلام، فدعاهم
إلي عبادة الله وحده لا شريك له، ونهاهم عن تعاطي هذه الأفاعيل القبيحة من
بخس الناس أشياءهم وإخافتهم لهم في سبلهم وطرقاتهم، فآمن به بعضهم وكفر
أكثرهم، حتى أحل بهم الله البأس الشديد، وهو الولي الحميد.
كما قال تعالى:
{وإلى مدين أخاهم شعيباً، قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله
غيره، قد جاءتكم بينة من ربكم} (سورة الأعراف:85)
أي: دلالة وحجة واضحة، وبرهان قاطع على صدق ما جئتكم به وأنه
أرسلني، وهو ما أجرى الله على يديه من المعجزات التي لم تنقل إلينا
تفصيلاً، وإن كان هذا اللفظ قد دل عليها إجمالاً.
{فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم في الأرض بعد
إصلاحها} (سورة الأعراف:85)
أمرهم بالعدل ونهاهم عن الظلم، وتوعدهم على خلاف ذلك فقال:
{ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين * ولا تقعدوا بكل صراط}
أي: طريق.
{توعدون} (سورة الأعراف:85ـ86)
أي: تتوعدون الناس بأخذ أموالهم من مكوس وغير ذلك وتخيفون السبل.
قال السدي في تفسيره عن الصحابه: (ولا تقعدون بكل صراط توعدون) أنهم كانوا
يأخذون العشور من أموال المارة.
وقال إسحاق بن بشر بن الضحاك، عن ابن عباس قال: كانوا طغاة بغاة
يجلسون على الطريق، يبخسون الناس؛ يعني يعشرونهم، وكانوا أول من سن ذلك.
{وتصدون عن سبيل الله من آمن وتبغونها عوجاً} (سورة الأعراف:86)
ذكرهم بنعمة الله تعالى عليهم في تكثيرهم بعد القلة، وحذرهم نقمة
الله بهم إن خالفوا ما أرشدهم إليه ودلهم عليه. كما قال لهم في القصة
الأخرى:
{ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخيرٍ وإني أخاف عليكم عذاب
يوم محيط} (سورة هود:85)
أي: لا تركبوا ما أنتم عليه وتستمروا فيه، فيمحق الله بركة ما
بأيديكم؛ ويفقركم ويذهب ما به يغنيكم. هذا مضاف إلي عذاب الآخرة، ومن جمع
له هذا وهذا، فقد فاز بالصفقة الخاسرة!. فنهاهم أولاً عن تعاطي ما لا يليق
من التطفيف، وحذرهم سلب نعمة الله عليهم في دنياهم، وعذابه الأليم في
أخراهم، وعنفهم أشد تعنيف.
ثم قال لهم آمراً بعد ما كان عن ضده راجزاً:
{ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط، ولا تبخسوا الناس أشياءهم
ولا تعثوا في الأرض مفسدين * بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا
عليكم بحفيظ} (سورة هود:85ـ86)
قال ابن عباس والحسن البصري: (بقية الله خير لكم) أي: رزق الله خير
لكم من أخذ أموال الناس. وقال ابن جرير: ما فضل لكم من الربح بعد وفاء
الكيل والميزان خير لكم من أخذ أموال الناس بالتطفيف، قال: وقد روي هذا عن
ابن عباس.
وهذا الذي قاله وحكاه حسن، وهو شبيه بقوله تعالى:
{قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث} (سورة
المائدة:100)
يعني: أن القليل من الحلال خير لكم من الكثير الحرام، فإن الحلال
مبارك وإن قل، والحرام ممحوق وإن كثر. كما قال تعالى:
{يمحق الله الربا ويربي الصدقات} (سورة البقرة:276)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الربا وإن فإن مصيره إلي
قل". رواه احمد
أي: إلي قلة
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا،
فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما"
والمقصود أن الربح الحلال مبارك فيه وإن قل، والحرام لا يجدي وإن
كثر. ولهذا قال نبي الله شعيب:
{بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين} (سورة هود:86)
وقوله:
{وما أنا عليكم بحفيظ} (سورة هود:86)
أي: افعلوا ما آمركم به ابتغاء وجه الله ورجاء ثوابه، لا لأراكم أنا
وغيري.
{قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في
أموالنا ما نشاء، إنك لأنت الحليم الرشيد} (سورة هود:87)
يقولون هذا على سبيل الاستهزاء والتنقص والتهكم: أصلاتك هذه التي
تصليها؛ هي الآمرة لك بأن تحجر علينا فلا نعبد إلا إلهك؟ ونترك ما يعبد
آباؤنا الأقدمون وأسلافا الأولون؟ أو أنا لا نتعامل إلا على الوجه الذي
ترتضيه أنت، ونترك المعاملات التي تأباها إن كنا نحن نرضاها؟.
(إنك لأنت الحليم الرشيد) قال ابن عباس وميمون بن مهران وابن جريج
وزيد ابن أسلم وابن جرير: يقولون ذلك أعداء الله على سبيل الاستهزاء.
{قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقاً حسناً،
وما أريد أن أخالفكم إلي ما أنهاكم عنه، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت،
وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب} (سورة هود:88)
هذا تلطف معهم في العبارة، ودعوة إلي الحق بأبين إشارة. يقول لهم:
(أرأيتم) أيها المكذبون (إن كنتم على بينة من ربي) أي: على أمر من الله
تعالى أنه أرسلني إليكم (ورزقني منه رزقاً حسناً) يعني: النبوة والرسالة،
يعني وعمى عليكم معرفتها، فأي حيلة لي بكم؟. وهذا كما تقدم عن نوح عليه
السلام أنه قال لقومه سواء.
وقوله: (وما أريد أن أخالفكم إلي ما أنهاكم عنه) أي: ليست آمركم
بالأمر إلا وأنا أول فاعل له، وإذا نهيتكم عن الشيء فأنا أول من يتركه.
وهذه هي الصفة المحمودة العظيمة، وضدها هي المردودة الذميمة، كما تلبس بها
علماء بني إسرائيل في آخر زمنهم، وخطباؤهم الجاهلون. قال الله تعالى:
{أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا
تعقلون} (سورة البقرة:44)
وذكرنا عندها في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"يؤتي بالرجل فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه ـ أي: تخرج أمعاؤه من بطنه
ـ فيدور بها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار فيقولون: يا فلان ما
لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى: كنت آمر بالمعروف
ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه"
وهذه صفة مخالفي الأنبياء من الفجار والأشقياء، فأما السادة من
النجباء، والألباء من العلماء، الذين يخشون ربهم بالغيب، فحالهم كما قال
نبي الله شعيب: (وما أريد أن أخالفكم إلي ما أنهاكم عنه، إن أريد إلا
الإصلاح ما استطعت) أي: ما أريد في جميع أمري إلا الإصلاح في الفعال
والمقال بجهدي وطاقتي.
(وما توفيقي) أي: في جميع أحوالي (إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب)
أي: عليه أتوكل في سائر الأمور، وإليه مرجعي ومصيري في كل أمري. هذا مقام
ترغيب. ثم انتقل إلي نوع من الترهيب فقال:
{ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوحٍ أو قوم
هودٍ أو قوم صالح، وما قوم لوط منكم ببعيد} (سورة هود:89)
أي: لا تحملنكم مخالفتي ما جئتكم به على الاستمرار على ضلالكم
وجهلكم ومخالفتكم، فيحل الله بكم من العذاب والنكال، نظير ما أحله بنظرائكم
وأشباهكم؛ من قوم نوح وقوم هود وقوم صالح من المكذبين المخالفين.
وقوله: (وما قوم لوط منكم ببعيد)، قيل معناه: في الزمان، أي: ما
بالعهد من قدم؛ مما بلغكم ما أحل بهم على كفرهم وعتوهم، وقيل معناه: وما هم
منكم ببعيد في المحلة الكبرى. وقيل: في الصفات والأفعال المستقبحات؛ من قطع
الطريق، وأخذ أموال الناس جهرة وخفية بأنواع الحيل والشبهات. والجمع بين
هذه الأقوال ممكن؛ فإنهم لم يكونوا بعيدين لا زماناً ولا مكاناً ولا صفات.
ثم مزج الترهيب بالترغيب فقال:
{واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود} (سورة هود:90)
أي: أقلعوا عما أنتم فيه، وتوبوا إلي ربكم الرحيم الودود، فإنه من
تاب إليه تاب عليه، فإنه (رحيم) بعباده، أرحم بهم من الوالدة بولدها،
(ودود) وهو المجيب ولو بعد التوبة على عبده، ولو من الموبقات العظام.
{قالوا يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفاً}
(سورة هود:91)
روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والثوري أنهم قالوا: كان ضرير البصر.
وقد روي في حديث مرفوع: "أنه بكى من حب الله حتى عمي، فرد الله عليه بصره،
وقال: يا شعيب أتبكي خوفاً من النار؟ أو من شوقك إلي الجنة؟ فقال: بلى من
محبتك، فإذا نظرت إليك فلا أبالي ماذا يصنع بي، فأوحى الله إليه: هنيئاً لك
يا شعيب لقائي، فلذلك أخدمتك موسى بن عمران كليمي".
رواه الواحدي عن أبي الفتح محمد بن علي الكوفي، عن علي بن الحسن بن
بندار، عن أبي عبد الله محمد بن إسحاق الرملي، عن هشام بن عمار، عن إسماعيل
بن عياش، عن يحيى بن سعيد، عن شداد بن أوس، عن النبي صلى الله عليه وسلم
بنحوه. وهو غريب جداً، وقد ضعفه الخطيب البغدادي.
وقولهم:
{ولولا رهطك لرجمناك، وما أنت علينا بعزيزٍ} (سورة هود:91)
وهذا من كفرهم البليغ، وعنادهم الشنيع، حيث قالوا:
{وما نفقه كثيراً مما تقول} (سورة هود:91)
أي: ما نفهمه ولا نعقله، لأنا لا نحبه ولا نريده، وليس لنا همة
إليه، ولا إقبال عليه. وهو كما قال كفار قريش لرسول الله صلى الله عليه
وسلم:
{وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا
حجاب فاعمل إننا عاملون} (سورة فصلت:50)
وقولهم: (وإنا لنراك فينا ضعيفاً) أي: مضطهداً مهجوراً، (ولولا
رهطك) أي: قبيلتك وعشيرتك فينا (لرجمناك وما أنت علينا بعزيز).
{قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله} (سورة هود:92)
أي: تخافون قبيلتي وعشيرتي وترعونني بسببهم، ولا تخافون جنب الله،
ولا تراعوني لأني رسول الله؟ فصار رهطي أعز عليكم من الله
{واتخذتموه وراءكم ظهرياً} (سورة هود:92)
أي: جعلتم جانب الله وراء ظهوركم
{إن ربي بما تعلمون محيط} (سورة هود:92)
أي: هو عليم بما تعلمونه وما تصنعونه، محيط بذلك كله، وسيجزيكم عليه
يوم ترجعون إليه.
{ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل، سوف تعلمون من يأتيه عذاب
يخزيه ومن هو كاذب، وارتقبوا إني معكم رقيب} (سورة هود:93)
هذا أمر تهديد شديد ووعيد أكيد، بأن يستمروا على طريقتهم ومنهجهم
وشاكلتهم، فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار، ومن يحل عليه الهلاك
والبوار (من يأتيه عذاب يخزيه) أي: في هذه الحياة الدنيا (ويحل عليه عذاب
مقيم) أي: في الآخرة (ومن هو كاذب) أي: مني ومنكم فيما أخبر وبشر وحذر.
(وارتقبوا إني معكم رقيب) هذا كقوله:
{وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به، وطائفة لم يؤمنوا
فاصبروا حتى يحكم الله بيننا، وهو خير الحاكمين} (سورة الأعراف:87)
{قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا
معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا، قال أو لو كنا كارهين * قد افترينا على
الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها، وما يكون لنا أن نعود
فيها إلا أن يشاء الله ربنا، وسع ربنا كل شيء علماً، على الله توكلنا ربنا
افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين} (سورة الأعراف:88ـ89)
طلبوا بزعمهم أن يردوا من آمن منهم إلي ملتهم، فانتصب شعيب للمحاجة
عن قومه فقال: (أو لو كنا كارهين؟) أي: هؤلاء لا يعودون إليكم اختياراً،
وإنما يعودون إليكم ـ إن عادوا ـ اضطراراً مكرهين؛ وذلك لأن الإيمان إذا
خالطته بشاشة القلوب لا يسخطه أحد، ولا يرتد أحد عنه، ولا محيد لأحد منه.
ولهذا قال:
{قد افترينا على الله كذبا إن عنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها،
وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا، وسع ربنا كل شيء علماً
على الله توكلنا} (سورة الأعراف:89)
أي: فهو كافينا، وهو العاصم لنا، وإليه ملجأنا في جميع أمرنا. ثم
استفتح على قومه، واستنصر ربه عليهم في تعجيل ما يستحقونه إليهم فقال:
{ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين} (سورة
الأعراف:89)
أي: الحاكمين، فدعا عليهم، والله لا يرد دعاء رسله إذا استنصروه على
الذين جحدوه ومع هذا صمموا على ما هم عليه مشتملون، وبه متلبسون:
{وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذاً
لخاسرون} (سورة الأعراف:90)
قال الله تعالى:
{فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين} (سورة الأعراف:91)
ذكر في سورة الأعراف أنهم أخذتهم رجفة، أي: رجفت بهم أرضهم، وزلزلت
زلزالاً شديداً أزهقت أرواحهم من أجسادهم، وصيرت حيوانات أرضهم كجمادها،
وأصبحت جثثهم جاثية؛ لا أرواح فيها، ولا حركات بها، ولا حواس لها.
وقد جمع الله عليهم أنواعاً من العقوبات، وصنوفاً من المثلات،
وأشكالاً من البليات، وذلك لما اتصفوا به من قبيح الصفات، وسلط الله عليهم
رجفة شديدة أسكنت الحركات، وصيحة عظيمة أخمدت الأصوات، وظلة أرسل عليهم
منها شرر النار من سائر أرجائها والجهات.
ولكن تعالى أخبر عنهم في كل سورة بما يناسب سياقها ويوافق طباقها؛
في سياق قصة الأعراف أرجفوا بنبي الله وأصحابه، وتوعدوهم بالإخراج من
قريتهم، أو ليعودون في ملتهم راجعين. فقال تعالى:
{فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين} (سورة الأعراف:91)
فقابل الإرجاف بالرجفة، والإخافة بالخيفة، وهذا مناسب لهذا السياق
ومتعلق بما تقدمه من السياق.
وأما في سورة هود؛ فذكر أنهم أخذتهم الصيحة في ديارهم جاثمين، وذلك
لأنهم قالوا لنبي الله على سبيل التهكم والاستهزاء والتنقص:
{أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا وأن نفعل في أموالنا ما نشاء
إنك لأنت الحليم الرشيد} (سورة هود:87)
فناسبان يذكر الصيحة التي هي كالزجر عن تعاطي هذا الكلام القبيح
الذي واجهوا به هذا الرسول الكريم الأمين الفصيح، فجاءتهم صيحة أسكتتهم مع
رجفة أسكتنهم.
وأما في سورة الشعراء؛ فذكر أنه أخذهم عذاب يوم الظلة، وكان ذلك
إجابة لما طلبوا وتقريباً إلي ما إليه رغبوا، فإنهم قالوا:
{إنما أنت من المسحرين * وما أنت إلا بشر وإن نظنك لمن الكاذبين *
فأسقط علينا كسفاً من السماء إن كنت من الصادقين * قال ربي أعلم بما
تعملون} (سورة الشعراء:185ـ188)
قال الله تعالى وهو السميع العليم:
{فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم} (سورة
الشعراء: 189)
ومن زعم من المفسرين كقتادة وغيره: أن أصحاب الأيكة أمة أخرى غير
أهل مدين فقوله ضعيف. وإنما عمدتهم شيئان:
أحدهما: أنه قال:
{كذب أصحاب الأيكة المرسلين * إذ قال لهم شعيب} (سورة
الشعراء:176ـ177)
ولم يقول أخوهم، كما قال:
{وإلى مدين أخاهم شعيباً} (سورة الأعراف:85)
والثاني: أنه ذكر عذابهم بيوم الظلة، وذكر في أولئك الرجفة أو
الصيحة.
والجواب عن الأول: أنه لم يذكر الأخوة بعد قوله: (كذب أصحاب الأيكة
المرسلين) لأنه وصفهم بعبادة الأيكة، فلا يناسب ذكر الأخوة هاهنا، ولما
نسبهم إلي القبيلة ساغ ذكر شعيب بأنه أخوهم. وهذا الفرق من النفائس العزيزة
الشريفة.
وأما احتجاجهم بيوم الظلة؛ فإن كان دليلاً بمجرده على أن هؤلاء أمة
أخرى، فليكن تعداد الانتقام بالرجفة والصيحة دليلاً على أنهما أمتان
أخريان. فأما الحديث الذي أورده الحافظ ابن عساكر في ترجمة النبي شعيب عليه
السلام؛ من طريق محمد بن عثمان بن أبي شيبة، عن أبيه، عن معاوية بن هشام،
عن هشام ابن سعد، عن شقيق بن أبي هلال، عن ربيعة بن سيف، عن عبد الله بن
عمرو مرفوعاً: "إن قوم مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث الله إليهما شعيباً
النبي عليه السلام".
فإنه حديث غريب، وفي رجاله من تكلم فيه، والأشبه أنه من كلام عبد
الله بن عمرو؛ مما أصابه يوم اليرموك من تلك الزاملتين من أخبار بني
إسرائيل، والله أعلم. ثم قد ذكر الله عن أهل الأيكة من المذمة ما ذكره عن
أهل مدين من التطفيف في المكيال والميزان؛ فدل على أنهم أمة واحدة، أهلكوا
بأنواع من العذاب، وذكر في كل موضع ما يناسب من الخطاب.
وقوله:
{فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم} (سورة الشعراء: 189)
ذكروا أنهم أصابهم حر شديد، وأسكن الله هبوب الهواء عنهم سبعة أيام،
فكان لا ينفعهم مع ذلك ماء ولا ظل، ولا دخولهم في الأسراب، فهربوا من
محلتهم إلي البرية، فأظلتهم سحابة، فاجتمعوا تحتها ليستظلوا بظلها، فلما
تكاملوا فيه أرسلها الله ترميهم بشرر وشهب، ورجفت بهم الأرض، وجاءتهم صيحة
من السماء، فأرهقت الأرواح وخرجت الأشباح.
{فأصبحوا في دارهم جاثمين * الذين كذبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها،
الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين} (سورة الأعراف:91ـ92)
ونجى الله شعيباً ومن معه من المؤمنين، كما قال تعالى وهو أصدق
القائلين:
{ولما جاء أمرنا نجينا شعيباً والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت
الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين * كأن يغنوا فيها، ألا بعداً
لمدين كما بعدت ثمود} (سورة هود:94ـ95)
وقال تعالى:
{قال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذا لخاسرون
* فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين * الذين كذبوا شعيباً كأن لم
يغنوا فيها، الذين كذبوا شعبياً كانوا هم الخاسرين} (سورة الأعراف:90ـ92)
وهذا في مقابلة قولهم: (لأن اتبعتم شعيباً إنكم إذا لخاسرون). ثم
ذكر تعالى عن نبيهم: أنه نعاهم إلي أنفسهم موبخاً ومؤنباً ومقرعاً، فقال
تعالى:
{فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فكيف
آسى على قوم كافرين} (سورة الأعراف:93)
أي: أعرض عنهم موليا عن محلتهم بعد هلكتهم قائلا: (يا قوم لقد
أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم) أي: قد أديت ما كان واجباً على من البلاغ
التام والنصح الكامل، وحرصت على هدايتكم بكل ما أقدر عليه وأتوصل إليه، فلم
ينفعكم ذلك؛ لأن الله لا يهدي من يضل، وما لهم من ناصرين، فلست أتأسف بعد
هذا عليكم، لأنكم لم تكونوا تقبلون النصيحة، ولا تخافون يوم الفضيحة.
ولهذا قال: (فكيف آسى) أي: أحزن (على قوم كافرين) أي: لا يقبلون
الحق ولا يرجعون إليه ولا يلتفتون عليه، فحل بهم من بأس الله الذي لا يرد
ما لا يدفع ولا يمانع، ولا محيد لأحد أريد به عنه، ولا مناص عنه. وقد ذكر
الحافظ ابن عساكر في تاريخه عن ابن عباس: أن شعيباً عليه السلام كان بعد
يوسف عليه السلام. وعن وهب بن منبه: أن شعيباً مات بمكة ومن معه من
المؤمنين، وقبورهم غربي الكعبة بين دار الندوة ودار بني سهم.
قصة أيوب عليه السلام
قال ابن إسحاق: كان رجلاً من الروم، وهو أيوب بن موصى بن رازخ بن
العيص ابن إسحاق بن إبراهيم الخليل. وقال غيره: هو أيوب بن موصى بن رعويل
بن العيص بن إسحاق بن يعقوب، وقيل غير ذلك في نسبه. وحكى ابن عساكر أن أمه
بنت لوط عليه السلام، وقيل: كان أبوه ممن آمن بإبراهيم عليه السلام يوم
ألقى في النار لحرقه.
والمشهور الأول؛ لأنه من ذرية إبراهيم، كما قررنا عند قوله تعالى:
{ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون} (سورة
الأنعام:84)
ومن أن الصحيح أن الضمير عائد على إبراهيم دون نوح عليهما السلام.
وهو من الأنبياء المنصوص على الإيحاء إليهم في سورة النساء في قوله تعالى:
{إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلي نوح والنبيين من بعده، وأوحينا إلي
إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب} (سورة النساء:163)
فالصحيح أنه من سلالة العيص بن إسحاق، وامرأته قيل اسمها: "ليا" بنت
يعقوب، وقيل: رحمة بنت أفراثيم، وقيل: ليا بنت منسا بن يعقوب. وهذا أشهر
فلهذا ذكرناه هاهنا. ثم نعطف بذكر أنبياء بني إسرائيل بعد ذكر قصته إن شاء
الله، وبه الثقة وعليه التكلان.
قال تعالى:
{وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين * فاستجبنا له
فكشفنا ما به من ضر، وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى
للعابدين} (سورة الأنبياء:83ـ84)
وقال تعالى في سورة ص:
{واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب * اركض
برجلك، هذا مغتسل بارد وشراب * ووهبنا له أهله ومثلهم ومعهم رحمة منا وذكرى
لأولى الألباب * وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به، ولا تحنث، إنا وجدناه صابراً نعم
العبد، إنه أواب} (سورة ص:41ـ44)
وروي ابن عساكر من طريق الكلبي أنه قال: أول نبي بعث إدريس، ثم نوح،
ثم إبراهيم، ثم إسماعيل، ثم إسحاق، ثم يعقوب، ثم يوسف، ثم لوط، ثم هود، ثم
صالح، ثم شعيب، ثم موسى وهارون، ثم إلياس، ثم اليسع، ثم عرفي بن سويلخ بن
أفراثيم بن يوسف بن يعقوب، ثم يونس بن متى من بني يعقوب، ثم أيوب بن رازخ
بن آموص بن ليفرز بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم. وفي بعض هذا الترتيب نظر
فإن هوداً وصالحاً: المشهور أنهما بعد نوح وقبل إبراهيم. والله أعلم.
قال علماء التفسير والتاريخ وغيرهم: كان أيوب رجلاً كثير المال من
سائر صنوفه وأنوعه؛ من الأنعام والعبيد والمواشي؛ والأراضي المتسعة بأرض
الثنية من أرض حوران. وحكى ابن عساكر: أنها كلها كانت له، وكان له أولاد
وأهلون كثير. فسلب منه ذلك جميعه، وابتلى في جسده بأنواع من البلاء، ولم
يبق منه عضو سليم سوى قلبه ولسانه، يذكر الله عز وجل بهما، وهو في ذلك كله
صابر محتسب، ذاكر الله عز وجل في ليله ونهاره وصباحه ومسائه.
وطال مرضه حتى عافه الجليس، وأوحش منه الأنيس، وأخرج من بلده وألقى
على مزبلة خارجها، وانقطع عنه الناس، ولم يبق أحد يحنو عليه سوى زوجته،
كانت ترعى له حقه، وتعرف قديم إحسانه إليها وشفقته عليها، فكانت تتردد إليه
فتصلح من شأنه، وتعينه على قضاء حاجته، وتقوم بمصلحته، وضعف حالها وقال
مالها، حتى كانت تخدم الناس بالأجر؛ لتطعمه وتقوم بأوده، رضي الله عنها
وأرضاها، وهي صابرة معه على ما حل بهما من فراق المال والولد، وما يختص بها
من المصيبة بالزوج، وضيق ذات اليد وخدمة الناس، بعد السعادة والنعمة
والخدمة والحرمة. فإنا لله وإنا إليه راجعون!.
وقد ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل"
وقال: "يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في
بلائه"
ولم يزد هذا كله أيوب عليه السلام، ويضرب المثل أيضاً بما حصل له من
أنواع البلايا. وقد روى عن وهب بن منبه وغيره من علماء بني إسرائيل في قصة
أيوب خبر طويل؛ في كيفية ذهاب ماله وولده وبلائه في جسده، والله أعلم
بصحته. وعن مجاهد أنه قال: كان أيوب عليه السلام أول من أصابه الجدري.
وقد اختلفوا في مدة بلواه على أقوال: فزعم وهب أنه ابتلى ثلاث سنين
لا تزيد ولا تنقص. وقال أنس: ابتلى سبع سنين وأشهراً، وألقى على مزبلة لبنى
إسرائيل تختلف الدواب في جسده حتى فرج الله عنه، وأعظم له الأجر، وأحسن
الثناء عليه. وقال حميد: مكث في بلواه ثماني عشرة سنة.
وقال السدي: تساقط لحمه حتى لم يبق إلا العظم والعصب، فكانت امرأته
تأتيه بالرماد تفرشه تحته، فلما طال عليها، قالت: يا أيوب، لو دعوت ربك
لفرج عنك، فقال: قد عشت سبعين سنة صحيحاً، فهل قليل لله أن أصبر له سبعين
سنة؟ فجزعت من هذا الكلام، وكانت تخدم الناس بالأجر، وتطعم أيوب عليه
السلام.
ثم إن الناس لم يكونوا يستخدمونها؛ لعلمهم أنها امرأة أيوب، خوفاً
أن ينالهم من بلائه أو تعديهم بمخالطته، فلما لم تجد أحداً يستخدمها، عمدت
فباعت لبعض بنات الأشراف إحدى ضفيرتيها بطعام طيب كثير، فأتت به أيوب،
فقال: من أين لك هذا؟ وأنكره، فقالت: خدمت به أناساً. فلما كان الغد لم تجد
أحداً فباعت الضفيرة الأخرى بطعام فأتته به، فأنكره أيضاً، وحلف لا يأكله
حتى تخبره من أين هذا الطعام؟ فكشفت عن رأسها خمارها، فلما رأى رأسها
محلوقا قال في دعائه: (ربي إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين).
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو سلمة، حدثنا جرير بن حازم،
عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: كان لأيوب أخوان، فجاءا يوماً فلم
يستطيعا أن يدنوا منه من ريحه فقاما من بعيد. قال أحدهما لصاحبه: لو كان
الله علم من أيوب خيراً ما ابتلاه بهذا، فجزع أيوب من قولهما جزعاً لم يجزع
مثله من شيء قط، فقال: اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة قط شبعاناً وأنا
أعلم مكان جائع فصدقني، فصدق من السماء وهما يسمعان. ثم قال: الله إن كنت
تعلم أني لم يكن لي قميصان قط، وأنا أعلم مكان عار فصدقني. فصدق من السماء
وهما يسمعان. ثم قال: اللهم بعزتك، وخر ساجداً، فقال: اللهم بعزتك لا أرفع
رأسي أبداً حتى تكشف عني، فما رفع رأسه حتى كشف عنه.
وقال ابن أبي حاتم وابن جرير جميعاً: حدثنا يونس، عن عبد الأعلى،
أنبأنا ابن وهب، أخبرني نافع بن يزيد، عن عقيل، عن الزهري، عن أنس بن مالك،
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن نبي الله أيوب لبث به بلاؤه ثماني
عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد، إلا رجلين من إخوانه كانا من أخص إخوانه
له، كانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه: تعلم والله لقد أذنب
أيوب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين، قال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: منذ
ثماني عشرة سنة لم يرحمه ربه فيكشف ما به، فلما راحا إليه لم يصبر الرجل
حتى ذكر ذلك له، فقال أيوب: لا أدري ما تقول؟ غير أن الله عز وجل يعلم أني
كنت أمر على الرجلين يتنازعان، فيذكران الله فأرجع إلي بيتي فأكفر عنهما،
كراهية أن يذكر الله إلا في حق".
قال: "وكان يخرج في حاجته، فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يرجع،
فلما كان ذات يوم أبطأت عليه، فأوحى الله إلي أيوب في مكانه، أن
{اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب} (سورة ص:42)
فاستبطأته فتلقته تنظر، وأقبل عليها قد أذهب الله ما به من البلاء،
وهو على أحسن ما كان، فلما رأته قالت: أي بارك الله فيك! هل رأيت نبي الله
هذا المبتلى؟ فوالله القدير على ذلك ما رأيت رجلاً أشبه به منك إذ كان
صحيحاً، قال: فإني أنا هو، قال: وكان له أندران أندر للقمح وأندر للشعير،
فبعث الله سحابتين، فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى
فاض، وأفرغت الأخرى في أندر الشعير الورق حتى فاض"
لفظ ابن جرير، وهكذا رواه بتمامه ابن حبان في صحيحه عن محمد بن
الحسن بن قتيبة، عن حرملة، عن ابن وهب به. وهذا غريب رفعه جداً، والأشبه أن
يكون موقوفاً.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد،
أنبأنا علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس قال: وألبسه الله حلة من
الجنة، فتنحى أيوب وجلس في ناحية، فجاءت امرأته فلم تعرفه فقالت: يا عبد
الله، أين ذهب هذا المبتلى الذي كان هاهنا؟ لعل الكلاب ذهب به أو الذئاب،
وجعلت تكلمه ساعة، فقال: ويحك أنا أيوب قالت: أتسخر مني يا عبد الله؟ فقال
ويحك أنا أيوب قد رد الله علي جسدي.
قال ابن عباس: ورد الله عليه ماله وولده بأعيانهم، ومثلهم معهم.
وقال وهب بن منبه: أوحى الله إليه: قد رددت عليه أهلك ومالك ومثلهم
معهم فاغتسل بهذا الماء فإن فيه شفاءك، وقرب عن صحابتك قرباناً، واستغفر
لهم فإنهم قد عصوني فيك. رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا عمرو بن مرزوق، حدثنا
همام، عن قتادة عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة، عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: "لما عافى الله أيوب عليه السلام أمطر عليه جراداً
من ذهب، فجعل يأخذه بيده ويجعل في ثوبه، قال فقيل له: يا أيوب أما تشبع؟
قال: يا رب ومن يشبع من رحمتك"
وهكذا رواه الإمام احمد عن أبي داود الطيالسي، وعبد الصمد، عن همام،
عن قتادة به، ورواه ابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن محمد الأزدي، عن
إسحاق ابن راهويه، عن عبد الصمد به، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب، وهو على
شرط الصحيح، فالله أعلم.
وقال الإمام احمد: حدثنا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي
هريرة: أرسل على أيوب رجل من جراد من ذهب، فجعل يقبضها في ثوبه، فقيل: يا
أيوب، ألم يكفك ما أعطيناك؟ قال: أي رب ومن يستغني عن فضلك؟. هذا موقوف.
وقد روى عن أبي هريرة من وجه آخر مرفوعاً.
وقال الإمام احمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن همام بن منبه
قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"بينما أيوب يغتسل عرياناً خر عليه رجل جراد من ذهب، فجعل أيوب يحثي في
ثوبه، فناداه ربه عز وجل: يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى يا رب،
ولكني لا غنى لي عن بركتك". رواه البخاري من حديث عبد الرزاق به
وقوله:
{اركض برجلك} (سورة ص:42)
أي: اضرب الأرض برجلك، فامتثل ما أمر به، فأنبع الله عيناً باردة
الماء، وأمر أن يغتسل فيها ويشرب منها، فأذهب الله عنه ما كان يجده من
الألم والأذى، والسقم والمرض، الذي في جسده ظاهراً وباطناً، وأبدله الله
بعد ذلك كله صحة ظاهرة وباطنة، وجمالاً تاماً ومالاً كثيراً؛ حتى صب له من
الماء صباً، مطراً عظيماً جراداً من ذهب.
وأخلف الله له أهله، كما قال تعالى: (وآتيناه أهله ومثلهم معهم)
فقال: أحياهم الله بأعيانهم، وقيل: آجره فيمن سلف، وعوضه عنهم في الدنيا
بدلهم، وجمع له شمله بكلهم في الدار الآخرة. وقوله: (رحمة من عندنا) أي:
رفعنا عنه شدته وكشفنا ما به من ضر، رحمة منا به ورأفة وإحساناً.
{وذكرى للعابدين} (سورة الأنبياء:84)
أي: تذكرة لمن ابتلى في جسده أو ماله أو ولده، فله أسوة بنبي الله
أيوب؛ حيث ابتلاه الله بما هو أعظم من ذلك فصبر واحتسب؛ حتى فرج الله عنه.
ومن فهم من هذا اسم امرأته فقال: هي "رحمة" من هذه الآية فقد أبعد
النجعة وأغرق النزع. وقال الضحاك عن ابن عباس: رد الله إليها شبابها وزادها
حتى ولدت له ستة وعشرين ولداً ذكراً. وعاش أيوب بعد ذلك سبعين سنة بأرض
الروم على دين الحنيفية، ثم غيروا بعده دين إبراهيم. وقوله:
{وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث، إنا وجدناه صابراً نعم العبد
إنه أواب} (سورة ص:44)
هذه رخصة من الله تعالى لعبده ورسوله أيوب عليه السلام، فيما كان من
حلفه ليضربن امرأته مائة سوط، فقيل: حلف ذلك لبيعها ضفائرها، وقيل: لأنه
عارضها الشيطان في صورة طبيب يصف لها دواء لأيوب، فأتته فأخبرته فعرف أنه
الشيطان، فحلف ليضربنها مائة سوط. فلما عافاه الله عز وجل أفتاه أن يأخذ
ضغثاً، وهو كالعثكال الذي يجمع الشماريخ، فيجمعها كلها ويضربها به ضربة
واحدة، ويكون هذا منزلاً منزلة الضرب بمائة سوط ويبر ولا يحنث. وهذا من
الفرج والمخرج لمن اتقى الله وأطاعه ،ولاسيما في حق امرأته الصابرة
المحتسبة المكابدة الصديقة البارة الراشدة، رضي الله عنها.
ولهذا عقب الله هذه الرخصة وعللها بقوله: (إنا وجدناه صابراً نعم
العبد إنه أواب) وقد استعمل كثير من الفقهاء هذه الرخصة في باب الإيمان
والنذور، وتوسع آخرون لها حتى وضعوا كتاب الحيل في الخلاص من الإيمان،
وصدروه بهذه الآية الكريمة، وأتوا فيه بأشياء من العجائب والغرائب، وسنذكر
طرفاً من ذلك في كتاب "الأحكام" عند الوصول إليه إن شاء الله.
وقد ذكر ابن جرير وغيره من علماء التاريخ: أن أيوب عليه السلام لما
توفى كان عمره ثلاثاً وتسعين سنة، وقيل: إنه عاش أكثر من ذلك. وقد روى ليث
عن مجاهد ما معناه: أن الله يحتج يوم القيامة بسليمان عليه السلام على
الأغنياء، وبيوسف عليه السلام على الأرقاء، وبأيوب عليه السلام على أهل
البلاء. رواه ابن عساكر بمعناه
وأنه أوصى إلي ولده "حومل" وقام بالأمر بعده ولده بشر بن أيوب، وهو
الذي يزعم كثير من الناس أنه "ذو" الكفل" فالله أعلم، ومات ابنه هذا وكان
نبياً فيما يزعمون وكان عمره من السنين خمساً وسبعين. ولنذكر هاهنا قصة ذي
الكفل؛ إذ قال بعضهم: إنه ابن أيوب عليهما السلام، وهذه هي:
قصة ذي الكفل
الذي زعم قومه أنه ابن أيوب
قال الله تعالى بعد قصة أيوب في سورة الأنبياء:
{وإسماعيل وإدريس وذا الكفل، كل من الصابرين * وأدخلناهم في رحمتنا،
إنهم من الصالحين} (سورة الأنبياء:85ـ86)
وقال تعالى بعد قصة أيوب أيضاً في سورة ص:
{واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولى الأيدي والأبصار * إنا
أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار * وإنهم عندنا من المصطفين الأخيار * واذكر
إسماعيل واليسع وذا الكفل، وكل من الأخيار} (سورة ص:45ـ48)
فالظاهر من ذكره في القرآن العظيم بالثناء عليه مقروناً مع هؤلاء
السادة الأنبياء أنه نبي، عليه من ربه الصلاة والسلام، وهذا هو المشهور.
وقد زعم آخرون أنه لم يكن نبياً، وإنما كان رجلاً صالحاً، وحكماً مقسطاً
عادلاً، وتوقف ابن جرير في ذلك، فالله أعلم. وروى ابن جرير وابن أبي نجيح
عن مجاهد: أنه لم يكن نبياً وإنما كان رجلاً صالحاً، وكان قد تكفل لبني
قومه أن يكفيهم أمرهم، ويقضي بينهم بالعدل فمسي ذا الكفل.
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق داود بن أبي هند، عن مجاهد أنه
قال: لو أني استخلفت رجلاً على الناس يعمل عليهم في حياتي، حتى انظر كيف
يعمل؟. فجمع الناس فقال: من يتقبل مني بثلاث استخلفه: يصوم النهار، ويقوم
الليل، ولا يغضب.
قال: فقام رجل تزدريه العين، فقال: أنا، فقال: أنت تصوم النهار
وتقوم الليل ولا تغضب؟ قال: نعم، قال: فرده ذلك اليوم، وقال مثلها في اليوم
الآخر، فسكت الناس، وقام ذلك الرجل فقال: أنا، فاستخلفه.
قال: فجعل إبليس يقول للشياطين: عليكم بفلان، فأعياهم ذلك، فقال:
دعوني وإياه، فأتاه في صورة شيخ كبير فقير، وأتاه حين أخذ مضجعه للقائلة،
وكان لا ينام الليل والنهار إلا تلك النومة، فدق الباب فقال: من هذا؟ قال:
شيخ كبير مظلوم، قال: فقام ففتح الباب فجعل يقص عليه، فقال: إن بيني وبين
قومي خصومة، وإنهم ظلموني وفعلوا بي وفعلوا وجعل يطول عليه حتى حضر الرواح
وذهبت القائلة، فقال: إذا رحت فإني آخذ لك بحقك.
فانطلق وراح فكان في مجلسه، فجعل ينظر هل يرى الشيخ فلم يره فقام
يتبعه، فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس وينتظره فلا يراه، فلما رجع لى
القائلة فأخذ مضجعه أتاه فدق الباب، فقال: من هذا؟ فقال: الشيخ الكبير
المظلوم. ففتح له فقال: ألم أقل لك إذا قعدت فائتني؟ فقال: إنهم أخبث قوم،
إذا عرفوا أنك قاعد قالوا نحن نعطيك حقك، وإذا نمت جحدوني. قال: فانطلق
فإذا رحت فائتني.
قال: ففاتته القائلة، فراح ينتظر فلا يراه، وشق عليه النعاس، فقال
لبعض أهله: لا تدعن أحداً يقرب هذا الباب حتى أنام، فإني قد شق علي النوم،
فلما كان تلك الساعة جاء، فقال له الرجل: وراءك وراءك. فقال: إني قد أتيته
أمس فذكرت له أمري. فقال: لا والله، لقد أمرنا أن لا ندع أحداً يقربه، فلما
أعياه نظر فرأى كوة في البيت فتسور منها، فإذا هو في البيت، وإذا هو يدق
الباب من داخل، قال: فاستيقظ الرجل، فقال: يا فلان ألم آمرك؟ قال: أما من
قبلي والله فلم تؤت، فانظر من أين أتينا؟.
قال: فقام إلي الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه، وإذا الرجل في البيت
فعرفه، فقال: أعدو الله؟ قال: نعم، أعييتني في كل شيء ففعلت كما ترى
لأغضبك. فسماه الله ذا الكفل، لأنه تكفل بأمر فوفى به. وقدر روى ابن أبي
حاتم أيضاً عن ابن عباس قريباً من هذا السياق، وهكذا روي عن عبد الله بن
الحارث ومحمد بن قيس وابن حجيرة الأكبر، وغيرهم من السلف نحو هذا.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو الجماهر، أنبأنا سعيد بن
بشير، حدثنا قتادة، عن كنانة بن الأخنس، قال: سمعت الأشعري ـ يعني أبا موسى
رضي الله عنه ـ وهو على هذا المنبر يقول: ما كان ذو الكفل نبياً ولكن كان
رجلاً صالحاً يصلي كل يوم مائة صلاة، فتكفل له ذو الكفل من بعده فكان يصلي
كل يوم مائة صلاة، فمسي ذا الكفل. ورواه ابن جرير عن طريق عبد الرزاق، عن
معمر، عن قتادة، قال: قال أبو موسى الأشعري، فذكره منقطعاً.
فأما الحديث الذي رواه الإمام احمد: حدثنا أسباط بن محمد، حدثنا
الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله، عن سعد مولى طلحة، عن ابن عمر قال: سمعت
من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين ـ
حتى عد سبع مرات ـ لم أحدث به، ولكني قد سمعته أكثر من ذلك قال: "كان الكفل
من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله، فأتته امرأة فأعطاها ستين ديناراً
على أن يطأها، فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته أرعدت وبكت، فقال لها:
ما يبكيك؟ أأكرهتك؟ قالت: لا، ولكن هذا عمل لم أعمله قط، وإنما حملتني عليه
الحاجة. قال: فتفعلين هذا ولم تفعليه قط، ثم نزل وقال: اذهبي بالدنانير لك،
ثم قال والله لا يعصي الله الكفل أبداً، فمات من ليلته فأصبح مكتوباً على
بابه: قد غفر الله للكفل"
رواه الترمذي من حديث الأعمش به، وقال: حسن، وذكر أن بعضهم رواه
فوقفه على ابن عمر. فهو حديث غريب جداً، وفي إسناده نظر، فإن سعداً هذا
قال أبو حاتم: لا أعرفه إلا بحديث واحد. ووثقه ابن حبان، ولم يرو عنه سوى
عبد الله بن عبد الله الرازي هذا، فالله أعلم. وإن كان محفوظاً فليس هو ذا
الكفل، وإنما لفظ الحديث الكفل من غير إضافة، فهو رجل آخر غير المذكور في
القرآن. فالله تعالى أعلم.
قصة قوم يس
ومنهم أصحاب القرية أصحاب يس، قال الله تعالى:
{واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون * إذ أرسلنا إليهم
اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون * قالوا ما أنتم إلا
بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون * قالوا ربنا يعلم
إنا إليكم لمرسلون * وما علينا إلا البلاغ المبين * قالوا إنا تطيرنا بكم،
لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم * قالوا طائركم معكم، أإن
ذكرتم، بل أنتم قوم مسرفون * وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم
اتبعوا المرسلين * اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون * ومالي لا أعبد
الذي فطرني وإليه ترجعون * أأتخذ من دونه، آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن
عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون * إني إذاً لفي ضلال مبين * إني آمنت بربكم
فاسمعون * قيل ادخل الجنة، قال يا ليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني
من المكرمين * وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا
منزلين * إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون} (سورة يس:13ـ29)
اشتهر عن كثير من السلف والخلف أن هذه القرية "أنطاكية" رواه ابن
إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس، وكعب الأحبار، ووهب بن منبه، وكذا روى عن
بريدة بن الخصب وعكرمة وقتادة والزهري وغيرهم، قال ابن إسحاق فيما بلغه عن
ابن عباس وكعب ووهب أنهم قالوا: وكان لها ملك اسمه أنطيخس بن أنطيخس وكان
يعبد الأصنام، فبعث الله إليه ثلاثة من الرسل وهم: صادق، ومصدوق، وشلوم،
فكذبهم.
وهذا ظاهر أنهم رسل من الله عز وجل. وزعم قتادة أنهم كانوا رسلاً من
المسيح. وكذا قال ابن جريج، عن وهب، عن سليمان، عن شعيب الجبائي: كان اسم
المرسلين الأولين: شمعون، ويوحنا، واسم الثالث بولس، والقرية أنطاكية.
وهذا القول ضعيف جداً؛ لأن أهل أنطاكية لما بعث إليهم المسيح ثلاثة
من الحواريين كانوا أول مدينة آمنت بالمسيح في ذلك الوقت. ولهذا كانت إحدى
المدن الأربع التي تكون فيها بطاركة النصارى، وهن: أنطاكية، والقدس،
وإسكندرية، ورومية ثم بعدها إلي القسطنطينية ولم يهلكوا. وأهل هذه القرية
المذكورة في القرآن أهلكوا، كما قال في آخر قصتها بعد قتلهم صديق المرسلين:
(إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون) ولكن إن كانت الرسل الثلاثة
المذكورون في القرآن، بعثوا إلي أهل أنطاكية قديماً فكذبوهم وأهلكهم الله،
ثم عمرت بعد ذلك، فلما كان في زمن المسيح آمنوا برسله إليهم، فلا يمنع هذا،
والله أعلم.
فأما القول بأن هذه القصة المذكورة في القرآن هي قصة أصحاب المسيح،
فضعيف لما تقدم، ولأن ظاهر سياق القرآن يقتضي أن هؤلاء الرسل من عند الله.
وقال الله تعالى: (واضرب لهم مثلاً) يعني: لقومك يا محمد (أصحاب
القرية) يعني: المدينة (إذ جاءها المرسلون * إذا أرسلنا إليهم اثنين
فكذبوهما فعززنا بثالث) أي: أيدناهما بثالث في الرسالة: (فقالوا إنا إليكم
مرسلون) فردوا عليه بأنهم بشر مثلهم، كما قالت الأمم الكافرة لرسلهم،
يستبعدون أن يبعث الله نبياً بشرياً، فأجابوهم بأن الله يعلم أنا رسله
إليكم، ولو كنا كذبنا عليه لعاقبنا وانتقم منا أشد الانتقام (وما علينا إلا
البلاغ المبين) أي: إنما علينا أن نبلغكم ما أرسلنا به إليكم، والله هو
الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء (قالوا إنا تطيرنا بكم) أي: تشاءمنا بما
جئتمونا به، (لئن لم تنتهوا لنرجمنكم) قيل: بالمقال، وقيل: بالفعال، ويؤيد
الأول قوله: (وليمسنكم منا عذاب أليم) توعدوهم بالقتل والإهانة.
(قالوا طائركم معكم)أي: مردود عليكم (أإن ذكرتم) أي: بسبب أنا
ذكرناكم بالهدى ودعوناكم إليه، توعدتمونا بالقتل والإهانة (بل أنتم قوم
مسرفون) أي: لا تقبلون الحق ولا تريدونه. قال ابن جرير: والأول أوجه. وقوله
تعالى: (وجاء من أقصى المدينة) الإيمان بهم (قال يا قوم اتبعوا المرسلين *
اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون) أي: يدعونكم إلي الحق المحض بلا
أجرة ولا جعالة. ثم دعاهم إلي عبادة الله وحده لا شريك له ونهاهم عن عبادة
ما سواه مما لا ينفع شيئاً لا في الدنيا ولا في الآخرة.
(إني إذاً لفي ضلال مبين) أي: إن تركت عبادة الله وعبدت معه ما
سواه. ثم قال مخاطباً للرسل: (إني آمنت بربكم فاسمعون) قيل: فاستمعوا
مقالتي واشهدوا لي بها عند ربكم، وقيل معناه: فاسمعوا يا قومي إيماني برسل
الله جهرة، فعند ذلك قتلوه، قيل: رجماً، وقيل عضاً، وقيل: وثبوا إليه وثبة
رجل واحد فقتلوه. وحكى ابن إسحاق عن بعض أصحابه عن ابن مسعود قال: وطئوه
بأرجلهم، حتى أخرجوا قصبته.
وقد روي الثوري عن عاصم الأحول، عن أبي مجلز: كان اسم هذا الرجل
"حبيب ابن مري"، ثم قيل: كان نجاراً، وقيل: حياكاً، وقيل: إسكافاً، وقيل
قصاراً، وقيل: كان يتعبد في غار هناك، فالله أعلم. وعن ابن عباس: كان حبيب
النجار قد أسرع فيه الجذام، وكان كثير الصدقة فقتله قومه، ولهذا قال تعالى:
(قيل ادخل الجنة) يعني لما قتله قومه أدخله الله الجنة، فلما رأى فيها من
النضرة والسرور (قال يا ليت قومي يعلمون ? بما غفر لي ربي وجعلني من
المكرمين) يعني: ليؤمنوا بما آمنت به، فيحصل لهم ما حصل لي.
قال ابن عباس: نصح قومه في حياته بقوله: (يا قوم اتبعوا المرسلين)
وبعد مماته: (يا ليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين)
رواه ابن أبي حاتم. وكذلك قال قتادة: لا يلقى المؤمن إلا ناصحاً، لا يلقاه
غاشاً، لما عاين ما عاين من كرامة الله (قال يا ليت قومي يعلمون * بما غفر
لي ربي وجعلني من المكرمين) تمنى والله أن يعلم قومه بما عاين من كرامة
الله وما هو عليه!. قال قتادة: فلا والله ما عاتب الله قومه بعد قتله: (إن
كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون).
وقوله تعالى: (وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما
كنا منزلين) أي:وما احتجنا في الانتقام منهم إلي إنزال جند من السماء
عليهم. هذا معنى ما رواه ابن إسحاق عن بعض أصحابه عن ابن مسعود، وقال مجاهد
وقتادة، وما أنزل عليهم جنداً، أي: رسالة أخرى، قال ابن جرير: والأول أولى.
قلت: وأقوى، ولهذا قال: (وما كنا منزلين) أي: وما كنا نحتاج في
الانتقام إلي هذا حين كذبوا رسلنا وقتلوا ولينا (إن كانت إلا صيحة واحدة
فإذا هم خامدون).
قال المفسرون: بعث الله إليهم جبريل عليه السلام فأخذ بعضادتي الباب
الذي لبلدهم، ثم صاح بهم صيحة واحدة فإذا هم خامدون، أي: قد أخمدت أصواتهم،
وسكنت حركاتهم، ولم يبق منهم عين تطرف. وهذا كله مما يدل على أن هذه القرية
ليست أنطاكية؛ لأن هؤلاء أهلكوا بتكذيبهم رسل الله إليهم، وأهل أنطاكية
آمنوا واتبعوا رسل المسيح من الحواريين إليهم. فلهذا قيل: إن أنطاكية أول
مدينة آمنت بالمسيح.
فأما الحديث الذي رواه الطبراني من حديث حسين الأشقر، عن سفيان بن
عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: "السبق ثلاثة: فالسابق إلي موسى يوشع بن نون، والسابق إلي عيسى
أصحاب يس، والسابق إلي محمد علي بن أبي طالب"
فإنه حديث لا يثبت؛ لأن "حسين" هذا متروك شيعي من الغلاة، وتفرده
بهذا مما يدل على ضعفه بالكلية، والله أعلم.
قصة يونس عليه السلام
قال الله تعالى في سورة يونس:
{فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا
عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلي حين} (سورة يونس:98)
وقال تعالى في سورة الأنبياء:
{وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن
لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين * فاستجبنا له ونجيناه من الغم،
وكذلك ننجي المؤمنين} (سورة الأنبياء:87ـ88)
وقال تعالى في سورة الصافات:
{وإن يونس لمن المرسلين * إذ أبق إلي الفلك المشحون * فساهم فكان من
المدحضين * فالتقمه الحوت وهو مليم * فلولا أنه كان من المسبحين * للبث في
بطنه إلي يوم يبعثون * فنبذناه بالعراء وهو سقيم * وأنبتنا عليه شجرة من
يقطين * وأرسلناه إلي مائة ألف أو يزيدون * فآمنوا فمتعناهم إلي حين} (سورة
الصافات:139ـ148)
وقال تعالى في سورة نون:
{فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصحاب الحوت إذ نادى وهو مكظوم * لولا أن
تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم * فاجتباه ربه فجعله من
الصالحين} (القلم:48ـ50)
قال علماء التفسير: بعث الله يونس ، عليه السلام ـ إلي أهل "نينوي"
من أرض الموصل، فدعاهم إلي الله عز وجل، فكذبوه وتمردوا على كفرهم وعنادهم،
فلما طال ذلك عليه من أمرهم خرج من بين أظهرهم، ووعدهم حلول العذاب بهم بعد
ثلاث.
قال ابن مسعود ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة، وغير واحد من السلف
والخلف: فلما خرج من بين ظهرانيهم، وتحققوا من نزول العذاب بهم قذف الله في
قلوبهم التوبة والإنابة، وندموا على ما كان منهم إلي نبيهم، فلبسوا المسوح
وفرقوا بين كل بهيمة وولدها، ثم عجوا إلي الله عز وجل، وصرخوا، وتضرعوا
إليه، وتمسكنوا لديه، وبكى الرجال والنساء والبنون والبنات والأمهات، وجأرت
الأنعام والدواب والمواشي: فرغت الإبل وفصلانها، وخارت البقر وأولادها،
وثغب الغنم وحملانها، وكانت ساعة عظيمة هائلة.
فكشف الله العظيم ـ بحوله وقوته ورأفته ورحمته ـ عنهم العذاب؛ الذي
كان قد اتصل بهم سببه، ودار على رءوسهم كقطع الليل المظلم. ولهذا قال
تعالى:
{فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها} (سورة يونس:98)
أي: هلا وجدت فيما سلف من القرون قرية آمنت بكمالها، فدل على أنه لم
يقع ذلك، بل كما قال تعالى:
{وما أرسلنا في قرية من نبي إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به
كافرون} (سورة سبأ:34)
وقوله:
{إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا
ومتعناهم إلي حين} (سورة يونس:98)
أي: آمنوا بكاملهم. وقد اختلف المفسرون: هل ينفعهم هذا الإيمان في
الدار الآخرة، فينقذهم من العذاب الأخروي كما أنقذهم من العذاب الدنيوي؟
على قولين:
الأظهر من السياق: نعم، والله أعلم.
كما قال تعالى: (لما آمنوا) وقال تعالى:
{وأرسلناه إلي مائة ألف أو يزيدون * فآمنوا فمتعناهم إلي حين} (سورة
الصافات:147ـ148)
وهذا المتاع إلي حين لا ينفي أن يكون معه غيره من رفع العذاب
الأخروي، والله أعلم. وقد كانوا مائة ألف لا محالة، واختلفوا في الزيادة،
فعن مكحول عشرة آلاف،
وروى الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم من حديث زهير عمن سمع أبا
العالية؛ حدثني أبي بن كعب، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله:
{وأرسلناه إلي مائة ألف أو يزيدون} (سورة الصافات:147)
قال: "يزيدون عشرين ألفا". فلولا هذا الرجل المبهم لكان هذا الحديث
فاصلاً في هذا الباب
وعن ابن عباس: كانوا مائة ألف وثلاثين ألفاً، وعنه: وبضعة وثلاثين
ألفاً، وعنه: وبضعة وأربعين ألفا. وقال سعيد بن جبير: كانوا مائة ألف
وسبعين ألفاً. واختلفوا: هل كان إرساله إليهم قبل الحوت أو بعده؟ أو هما
أمتان؟ على ثلاثة أقوال، هي مبسوطة في التفسير. والمقصود أنه عليه السلام
لما ذهب مغاضباً بسبب قومه، ركب سفينة في البحر فلجت بهم، واضطربت، وماجت
بهم، وثقلت بما فيها، وكادوا يغرقون على ما ذكره المفسرون.
وقالوا: فتشاوروا فيما بينهم على أن يقترعوا، فمن وقعت عليه القرعة
ألقوه من السفينة ليتخففوا منه. فلما اقترعوا وقعت القرعة على نبي الله
يونس فلم يسمحوا به، فأعادوها ثانية فوقعت عليه أيضاً، فشمر ليخلع ثيابه
ويلقي بنفسه، فأبوا عليه ذلك، ثم أعادوا القرعة ثالثة فوقعت عليه أيضاً،
لما يريده الله به من الأمر العظيم.
قال الله تعالى:
{وإن يونس لمن المرسلين * إذ أبق إلي الفلك المشحون * فساهم فكان
المدحضين * فالتقمه الحوت وهو مليم} (سورة لصافات:139ـ143)
وذلك أنه لما وقعت عليه القرعة ألقى في البحر، وبعث الله عز وجل
حوتاً عظيماً من البحر الأخضر فالتقمه، وأمره الله تعالى ألا يأكل له
لحماً، ولا يهشم له عظماً، فليس لك برزق، فأخذه فطاف به البحار كلها، وقيل:
إنه ابتلع ذلك الحوت حوت آخر أكبر منه.
قالوا: ولما استقر في جوف الحوت حسب أنه قد مات فحرك جوارحه فتحركت،
فإذا هو حي فخر لله ساجداً، وقال: يا رب اتخذت لك مسجداً في موضع لم يعبدك
أحد في مثله. وقد اختلفوا في مقدار لبثه في بطنه؛ فقال مجالد عن الشعبي:
التقمه ضحى ولفظه عشية، وقال قتادة: مكث فيه ثلاثاً، وقال جعفر الصادق:
سبعة أيام، ويشهد له شعر أمية بن أبي الصلت:
وأنت بفضل منك نجيت يونسا وقد بات في أضعاف حوت لياليا
وقال سعيد بن أبي الحسن وأبو مالك: مكث في جوفه أربعين يوماً، والله
أعلم كم مقدار ما لبث فيه.
والمقصود أنه لما جعل الحوت يطوف به قرار البحار اللجية، ويقتحم به
لجج الموج الأجاجي، فسمع تسبيح الحيتان للرحمن، وحتى سمع تسبيح الحصى لفالق
الحب والنوى ورب السماوات السبع والأرضين السبع وما بينهما وما تحت الثرى.
فعند ذلك وهنالك؛ قال ما قال بلسان الحال والمقال، كما أخبر عنه ذو العزة
والجلال؛ الذي يعلم السر والنجوى، ويكشف الضر والبلوى، سامع الأصوات وإن
ضعفت، وعالم الخفيات وإن دقت، ومجيب الدعوات وإن عظمت، حيث قال في كتابه
المبين، المنزل على رسوله الأمين، وهو أصدق القائلين ورب العالمين وإله
المرسلين:
{وذا النون إذ ذهب} (سورة الأنبياء:87)
{مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت
سبحانك إني كنت من الظالمين * فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي
المؤمنين} (سورة القلم:48ـ50)
(فظن أن لن نقدر عليه) أن نضيق عليه، وقيل معناه: نقدر على التقدير
وهي لغة مشهورة، قدر وقدر كما قال الشاعر:
فلا عائد ذاك الزمان الذي مضى تباركت، وتقدر يكن، فلك الأمر
(فنادى في الظلمات) قال ابن مسعود وابن عباس وعمرو بن ميمونة وسعيد
بن جبير ومحمد بن كعب والحسن وقتادة الضحاك: ظلمة الحوت وظلمة البحر وظلمة
الليل. وقال سالم بن أبي الجعد: ابتلع الحوت حوت آخر فصارت ظلمة الحوتين مع
ظلمة البحر.
وقوله تعالى:
{فلولا أنه كان من المسبحين * للبث في بطنه إلي يوم يبعثون} (سورة
الصافات:143ـ144)
قيل معناه: فلولا أنه سبح الله هنالك، وقال ما قال من التهليل
والتسبيح، والاعتراف لله بالخضوع، والتوبة إليه والرجوع؛ للبث هنالك إلي
يوم القيامة، ولبعث من جوف ذلك الحوت. هذا معنى ما روي عن سعيد بن جبير في
إحدى الروايتين عنه.
وقيل معناه: (فلولا أنه كان) من قبل أخذ الحوت له (من المسبحين) أي:
المطيعين المصلين الذاكرين الله كثيراً، قاله الضحاك بن قيس وابن عباس وأبو
العالية ووهب بن منبه وسعيد بن جبير والسدي وعطاء بن السائب والحسن البصري
وقتادة وغير واحد، واختاره ابن جرير.
وشهد لهذا ما رواه الإمام احمد وبعض أهل السنن عن ابن عباس أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال له: "يا غلام إني معلمك كلمات: احفظ الله
يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلي الله في الرخاء يعرفك في الشدة"
وروى ابن جرير في تفسيره، والبزار في مسنده من حديث محمد بن إسحاق،
عمن حدثه، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما أراد الله حبس يونس في بطن الحوت أوحى
الله إلي الحوت: أن خذه ولا تخدش له لحماً ولا تكسر له عظماً، فلما انتهى
به إلي أسفل البحر سمع يونس حساً، فقال في نفسه: ما هذا؟ فأوحى الله إليه
وهو في بطن الحوت: إن هذا تسبيح دواب البحر، قال: فسبح وهو في بطن الحوت
فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا: يا ربنا إنا نسمع صوتاً ضعيفا بأرض غريبة!
قال: ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر، قالوا: العبد
الصالح؛ الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح؟ قال: نعم، قال:
فشفعوا له عند ذلك، فأمر الحوت فقذفه في الساحل"
كما قال الله:
{فنبذناه بالعراء وهو سقيم} (سورة الصفات:145)
هذا لفظ ابن جرير إسناداً ومتناً، ثم قال البزار: لا نعلمه يروي عن
النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد. كذا قال.
وقد قال ابن أبي حاتم في تفسيره: حدثنا أبو عبد الله احمد بن عبد
الرحمن ابن أخي وهب، حدثنا عمي، حدثنا أبو صخر، أن يزيد الرقاشي قال: سمعت
أنس بن مالك، ولا أعلم إلا أن أنساً يرفع الحديث إلي رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: "إن يونس النبي عليه السلام حين بدا له أن يدعو بهذه
الكلمات وهو في بطن الحوت قال: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من
الظالمين. فأقبلت هذه الدعوة تحت العرش فقالت الملائكة: يا رب صوت ضعيف
معروف من بلاد غريبة، فقال: أما تعرفون ذاك؟ قالوا: لا يا رب، ومن هو؟ قال:
عبدي يونس، قالوا: عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل ودعوة مجابة؟
قالوا: يا ربنا أو لا ترحم ما كان يصنعه في الرخاء فتنجيه من البلاء؟ قال:
بلى: فأمر الحوت فطرحه في العراء". ورواه ابن جرير عن يونس عن وهب به
زاد أبي حاتم: قال أبو صخر حميد بن زياد، فأخبرني ابن قسيط وأنا
أحدثه هذا الحديث، أن سمع أبا هريرة يقول: طرح بالعراء، وأنبت الله عليه
اليقطينة، قلنا: يا أبا هريرة وما اليقطينة؟ قال: شجرة الدباء، قال أبو
هريرة: وهيأ الله أروية وحشية تأكل من خشاش الأرض، أو قال: هشاش الأرض،
قال: فتفسخ عليه فترويه من لبنها كل عشية وبكرة حتى نبت.
وقال أمية بن أبي الصلت في ذلك بيتاً من شعر:
فأنبت يقطينا عليه برحمةٍ من الله لولا الله أصبح ضاويا
وهذا غريب أيضاً من هذا الوجه، ويزيد الرقاشي ضعيف، ولكن يتقوى
بحديث أبي هريرة المتقدم، كما يتقوى ذاك بهذا، والله أعلم. وقد قال الله
تعالى: (فنبذناه) أي: ألقيناه (بالعراء) وهو المكان القفر الذي ليس فيه شيء
من الأشجار، بل هو عار منها، (وهو سقيم) أي: ضعيف البدن، قال ابن مسعود:
كهيئة الفرخ ليس عليه ريش، وقال ابن عباس والسدي وابن زيد: كهيئة الصبي حين
يولد وهو المنفوس عليه شيء. (وأنبتنا عليه شجرة من يقطين) قال ابن مسعود
وابن عباس وعكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير ووهب بن منبه وهلال بن يساف وعبد
الله بن طاووس والسدي وقتادة والضحاك وعطاء الخراساني وغير واحد: هو القرع.
قال بعض العلماء: في إنبات القرع عليه حكم جمة، منها أن ورقة في غاية
النعومة، وكثير وظليل، ولا يقربه ذباب، ويؤكل ثمره من أول طلوعه إلي آخره،
نياً ومطبوخاً، وبقشره وببذره أيضاً، وفيه نفع كثير وتقوية للدماغ وغير
ذلك.
وتقدم كلام أبي هريرة في تسخير الله تعالى له تلك الأروية التي كانت
ترضعه لبنها وترعى في البرية، وتأتيه بكرة وعشية، وهذا من رحمة الله به
ونعمته عليه وإحسانه إليه، ولهذا قال تعالى: (فاستجبنا له ونجيناه من الغم)
أي: الكرب والضيق الذي كان فيه: (وكذلك ننجي المؤمنين) أي: وهذا صنيعنا بكل
من دعانا واستجار بنا.
قال ابن جرير: حدثني عمران بن بكار الكلاعي، حدثنا يحيى بن صالح،
حدثنا أبو يحيى بن عبد الرحمن، حدثني بشر بن منصور، عن علي بن زيد، عن سعيد
ابن المسيب قال: سمعت سعد بن مالك ـ وهو ابن أبي وقاص ـ يقول: سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اسم الله الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل
به أعطى، دعوة يونس بن متى"، قال: فقلت يا رسول الله هي ليونس خاصة أم
لجماعة المسلمين؟ قال: "هي ليونس خاصة وللمؤمنين عامة إذا دعوا بها، ألم
تسمع قول الله تعالى: (فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت
من الظالمين * فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين) فهو شرط
من الله لمن دعاه به"
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد الأحمر،
عن كثير ابن زيد، عن المطلب بن حنطب قال: قال أبو خالد: أحسبه عن مصعب ـ
يعني ابن سعد ـ عن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دعا
بدعاء يونس استجيب له"
قال أبو سعيد الأشج: يريد به: (وكذلك ننجي المؤمنين). وهذان طريقان
عن سعد.
وثالث أحسن منهما، قال الإمام احمد: حدثنا إسماعيل بن عمير، حدثنا
يونس ابن أبي إسحاق الهمداني، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سعد، حدثني والدي
محمد، عن أبيه سعد ـ وهو ابن أبي وقاص رضي الله عنه ـ قال: مررت بعثمان بن
عفان في المسجد فسلمت عليه، فملأ عينيه مني ثم لم يردد علي السلام، فأتيت
عمر بن الخطاب، فقلت: يا أمير المؤمنين؛ هل حدث في الإسلام شيء؟ قال: لا،
وما ذاك؟ قلت: لا، إلا أني مررت بعثمان آنفاً في المسجد فسلمت عليه فملأ
عينيه مني ثم لم يرد علي السلام، قال: فأرسل عمر إلي عثمان فدعاه فقال: ما
منعك أن لا تكون رددت على أخيك السلام؟ قال: ما فعلت، قال سعد: قلت: بلى،
حتى حلف وحلفت.
قال: ثم إن عثمان ذكر فقال: بلى، واستغفر الله وأتوب إليه، إنك مررت
بي آنفاً، وأنا أحدث نفسي بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لا والله ما ذكرتها قط إلا تغشي بصري وقلبي غشاوة.
قال سعد: فأنا أنبئك بها، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لنا
أول دعوة، ثم جاء أعرابي فشغله حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم
فاتبعته، فلما أشفقت أن يسبقني إلي منزله ضربت بقدمي الأرض، فالتفت إلي
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "من هذا؟ أبو إسحاق" قال: قلت: نعم يا
رسول الله، قال: "فمه؟" قلت: لا والله، إلا أنك ذكرت لنا أول دعوة، ثم جاء
هذا الأعرابي فشغلك، قال: "نعم، دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت (لا إله
إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين). فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط
إلا استجاب له".
ورواه الترمذي والنسائي من حديث إبراهيم بن محمد بن سعد به
أضيفت
في01/04/2006/ خاص القصة السورية /
لقراءة موضوع ذات صلة
(الإشارة
الجمالية في المثل القرآني / دراسة)
(مستويات
السرد الإعجازي في القصة القرآنية)
|