أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 15/08/2024

دراسات أدبية - الأدب الصوفي / دراسات في الأدب الصوفي

 2 دراسات في الأدب الصوفي

 

 

لقراءة المشاركات

 

 

المشاركات

دانتي والتصوف 

بناء الإنسان في الفكر الصوفي 

 قراءة تحليلية في السيرة الشخصية للحلاّج

شيء من النقد الجديد للشعر الصوفي

 لماذا الصوفية... وكيف؟

الصوفي والفقيه سلطة التأويل في التاريخ العربي الإسلامي 

التصوف والأدب 

التأثير الصوفي في الفنون والثقافة الشعبية الجزائرية 

 

بناء الإنسان في الفكر الصوفي الإسلامي

 قراءة أوليّة في الأدب الصوفي

 

بقلم الكاتب: محمد سعيدي / جامعة مستغانم

 

غير مجد في هذا البحث الموجز التطرق إلى تعاريف التصوف وتتبع مفاهيمه، فهي كثيرة ومتشعبة وقد تتشعب بتشعب المدارس الصوفية وتتعدد بتعدد الرجال الصوفية في المدرسة الواحدة وقد استقلت بحوث ضافية بهذه المهمة1. ولكن تمت مقدمات لابد منها أضعها بين يدي القارئ ونحن بصدد تبيان تجليات بناء الإنسان في المنظومة الصوفية :

1- إن نفرا من الأدباء، والشعراء منهم بصفة أخص، حسبوا التصوف تمسكا بالرموز واستعارة لأسماء وألقاب كبار الصوفية فراحوا يحشدونها تباعا وهم لا يزيدون أن يلتحفوا مسوحا من الثقافة الصوفية الإسلامية لا غير، ولا يعيشون تجارب ولا يتذوقون وُجدا أو بتعبير آخر فإنهم يميلون إلى استثمار المعجم الصوفي ولا يتجاوزونه، فتغدو صوفيتهم مصطنعة وذابلة غير ذات إشعاع. وكثيرا ما تتجرد تلك المضامين الصوفية الحقّة عند هؤلاء الشعراء من مدلولها الصوفي ذي المنبت الإسلامي المثقل بالرموز والظلال الإسلامية.

فليس من التصوف في شيء تلك الكتابات الذاتية والتهويمات الوجدانية التي تطفح بها إبداعات أدبية، شعرية ونثرية معاصرة يكتب أصحابها تحت تأثيرات نفسية مختلفة يستجيبون فيها لذواتهم ولنوازعهم وميولهم.

وأعتقد أن الحكم النقدي الذي أطلق في العصر الحديث على جمع من الشعراء بكونهم "شعراء متصوفين" أو "شعراء ذوي نزعات واتجاهات صوفية"، لا يستند على فيض دراسة ولا يقوم على تحليل موضوعي مستفيض ولم يسلك نهج الاستقراء للإبداعات العربية والإسلامية والموازنة بينها وبين غيرها من الإبداعات العالمية، وهناك "حقيقة هامة لابد للدارسين في حقول الآداب العربية والفلسفية من أن يعرفوها هي أن النقد القديم استثنى التراث الصوفي من الدراسات الفنية ولا تزال هذه النظرة سائدة حتى الآن إلا في القليل النادر"2. فنحن بحاجة ماسة إلى دراسات جادة وجديدة تمحق الاختلاف بين النقاد حول المصطلحات الأدبية والعلمية والمعرفية بعامة وتنير سبيل الباحثين والدارسين بغية وضع الأمور في نصابها وقوالبها3. ففي الكثير من الدراسات النقدية المعاصرة يكتنف مصطلحَ "أدب التصوف" الكثيرُ من الغموض والإبهام حتى أضحى بعض الدارسين يلصقه عبثا بكل مبدع غارق في ذاتيته هائم في خياله. وإذا كان "التصوف يحلق بجناحين أحدهما الفلسفة والثاني الأدب بل إنه يمكن القول بأن التصوف أقرب إلى الأدب من إلى الفلسفة"4 فمن الحيف والقصور إذن أن يظل حبيس الأحكام الانطباعية بلا تفسير موضوعي وبلا سبر لأغواره الفكرية والفنية والرمزية ومن الشطط أن يخلط الدارسون والباحثون شعراء صوفيين بآخرين يحسبون على التصوف…

ولنأخذ - على سبيل المثال - الشعر الصوفي والشعر الرومانسي ومدى الاشتباه، إن لم نقل الاضطراب الذي قد يقع فيه غير قليل من النقاد في تفسير التجربة الشعرية وما يلحقها من إبداع شعري صوفي أو رومانسي، كلٌّ على حدة، وإلحاقهما بتياريهيا أو باتجاهيهما أو بمدرستيهما بسبب ما يحيط هذين الشعرين من تشابه ولاسيما في جانب الصور و الأخيلة5. ومع ذلك يبقى الشعر الرومانسي هو غير الشعر الصوفي، فالأول استجابة للذات نحو الذات، أما الثاني فهو استجابة للسمو نحو السمو، للذات نحو العلو.

2- يجب الوقوف موقف الدارسين المحللين أمام تلك الآراء المتناثرة في بطون كتب المستشرقين، ولا نسلم بموضوعيتها بله صحتها، فلقد كان للمستشرقين اليد الطولى في إبداء الكثير من النظريات والآراء النقدية حول تراثنا الإسلامي، ومنه التصوف... آراء أقل ما يقال عنها إنها لا تستند إلى الدراسة الشمولية التي تقوم على المنهج العلمي سبيلا، وعلى الموضوعية وسيلة وكانوا سببا في توجيه الفكر الإسلامي وجهة تتباين والأصول الإسلامية. ولا عجب فقد قام نفر من هؤلاء المستشرقين بتأليف "دائرة المعارف الإسلامية"، وفيها من الآراء والأخطاء ما لا يخفى على دارس منصف وما تزال هذه الآراء تسري عند تلامذتهم من الغربيين والعرب على حد سواء ممن تأثروا بهم إلى حد النقل الحرفي من كتبهم ومن هؤلاء المستشرقين نجد آربري, جب, مرجيلوت, نيلكوس من إنجلترا، وجولد تسهير من المجر وغيرهم.

3- غير صحيح تلك المبالغات التي مفادها أن التصوف الإسلامي يستمد أصوله من مؤثرات خارجية, أجنبية عنه ونحن إذ لا تنكر التأثير والتأثر بين الثقافات الإنسانية فإنا - في مجال التصوف - نقف موقف ريبة من هذا الرأي. فالتصوف مقامات "والمقام هو قيام العبد بين يدي الله عز وجل فيما يقام فيه من المجاهدات والرياضات والعبادات"6 والصوفي المسلم لم يجاوز في كل مقاماته حدود القرآن وسيرة الرسول (ص)، فمقامات الزهد والحب والتوكل والتوبة والذكر وغيرها تجد في القرآن الكريم والحديث الشريف مرتكزاتها، فهما الاثنان منبتها. وإن رابعة العدوية وهي شهيدة العشق الإلهي كانت أول من نادت في شعرها بحب الله بعيدا عن طمع في جنة أو خوف من نار، ولما تعلن عقيدة الحب في تقربها وتبتلها لله بقولها.

عرفت الهوى مذ عرفت هواك

وقـمت أنـاجيك يا من ترى

أحبك حبـين حـب الـهوى

فأما الذي هـو حب الـهوى

وأمـا الذي أنـت أهـل له

فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي  وأغلقت قلـبي عمن سواك

خفايـا القلوب ولست أراك

وحـبا لأنـك أهـل لذاك

فشغلي بذكرك عمن سواك

فكشفك للحجب حتى أراك

ولكن لك الحمد في ذا وذاك 

فلم تكن تحتاج في حبها هذا إلى اكثر من آيتين. الأولى، هي قوله تعالى : "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله"7. والثانية، هي قوله تعالى : "يا أيها الذين آمنوا من يرتدد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين"8. ولنقس على مقام الحب كل المقامات الصوفية فلا حياد فيها عن القرآن الكريم.

4- إن الأدب الصوفي على كثرته وثرائه يحتاج اليوم، وأكثر من ذي قبل إلى آليات قراءة ومناقشة وتحليل وغربلة بغية فك رموزه وتصفيته من شوائب علقت به على مر العصور. ذلك أن القراءة المتباينة والمتناقضة للنص الواحد قد جرّت ويلات على كبار الصوفية، فالشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي هو شيخ العارفين وإمام الصوفيين عند نفر من النقاد والدارسين. وهو على العكس من ذلك خارج عن جادة الصواب وينعت بأبشع النعوت عند آخرين.

والحلاج كذلك، هو الولي، التقي، النقي، الورع، عند أقوام. وهو نفسه الزنديق الملحد عند أقوام آخرين. والغريب أننا واجدون النص الواحد عند هؤلاء الصوفية الأقطاب يكون محل تفسير وتأويل بغير ضوابط منهجية فتنجرّ من وراء ذلك أحكام نقدية متباينة.9

ثانيا، بناء الإنسان : معنى البناء : ورد في لسان العرب لابن منظور: البَنْيُ نقيض الهدم. بنى البَنَّاءُ البناء بنيا وبناء وبِنًى. وقد تكون البناية في الشرف. يقول الشاعر العربي :

مـتى يبـلغ البنيان تمامه  إذا كنت تبنيت وغيرك يهدم

وبنى الرجلَ : اصطنعه. يقول الشاعر :

يبني الرجالَ وغيره يبني القرى  شتان بين قرى وبين رجال10

معنى الإنسان عند الصوفية : يذكر الجرجاني تعريفا شاملا للإنسان بقوله : "الإنسان هو الحيوان الناطق.. والإنسان الكامل هو الجامع لجميع العوالم الإلهية، والكونية الكلية، والجزئية. وهو كتاب جامع للكتب الإلهية والكونية، فمن حيث روحه وعقله كتاب عقلي مسمى بأم الكتاب، ومن حيث قلبه كتاب اللوح المحفوظ، ومن حيث نفسه كتاب المحو والإثبات، فهو الصحف المكرمة المرفوعة المطهرة، التي لا يمسها ولا يدرك أسرارها إلا المطهرون من الحجب الظلمانية. فنسبة العقل الأول إلى العالم الكبير وحقائقه بعينها نسبة الروح الإنساني إلى البدن وقواه، وإن النفس الكلية قلب العالم الكبير كما أن النفس الناطقة قلب الإنسان، وكذلك يسمى العالم بالإنسان الكبير".11

وقد شاع عند المتصوفة مفهوم الإنسان الكامل والمقصود به الرسول (ص). يقول الشيخ الجيلي في كتابه الإنسان الكامل في معرفة الأوائل والأواخر، وفي الباب الستين الذي يعنونه "بالإنسان الكامل وأنه محمد (ص) وأنه مقابل للحق والخلق"12 ويقول "اعلم حفظك الله أن الإنسان الكامل هو القطب الذي تدور عليه أفلاك الوجود من أوليه إلى آخره، وهو واحد منذ كان الوجود إلى الآبدين فاسمه الأصلي الذي هو له محمد وكنيته أبو القاسم ووصفه عبد الله ولقبه شمس الدين..."13

ومن هذه المعاني اللغوية للبناء والمفاهيم الصوفية للإنسان، يمكن أن نستخلص أن الإنسان كيان ووجود قابل لأن يُصطنع ويُبنى لبنة لبنة، وجزءا جزءا. وكما ينمو جسده ذاتيا فإن روحه قابلة للسمو إن هو تعهدها بالرعاية والسقاية شأنها شأن الجسد، سواء بسواء. كما أن محور عملية البناء في الوجود بأكمله هو الإنسان.

ففي الوظائف الثلاثة : الخلافة والعمارة والعبادة يكون الإنسان هو قطب الراحة الذي عليه مدار هذه الوظائف العظمى. إذن ليس غريبا أن يكون أدب الصوفية كله وبلا استثناء منصبّا على الإنسان بغية بنائه.

5- تجليات البناء : إن أهم مرتكز يستند عليه الصوفية في بناء الإنسان هو الروح وتهذيب النفس. فالإنسان روح وجسد متكاملان، إلا أنه لم يُكرَّم إلا بعد النفخ بالروح : "إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين ,فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين..."14

وأهم ما يقاس به الإنسان الفرد والجماعة الإنسانية في مساعيها الحضارية هو روحانياتها، وإرثها الروحي ولذلك كان الشاعر العربي يصدر عن رؤية كونية لما قرر هذه الحقيقة قبل قرون فقال :

يا خادم الجسم كم تشقى لخدمتـه

أقبل على النفس واستكمل فضائلها  أتطلب الربح فيما فيه خسران

فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان15 

وأول ما يسعى إليه الصوفية في أدبهم هو تبيان سبيلهم وإجلاء الغموض الذي قد يكتنف نهجهم فيعرّفون التصوف. يقول أحدهم :

ليس التصوف لبس الصوف ترقعه

ولا صياح ولا رقص ولا طـرب

بل التصوف أن تصفو بلا كــدر

وأن تُـرى خـاشعا لله مكتئبـا  ولا بكـاؤك إن غنى المغـنونـا

ولا اضطراب كأن قد صرت مجنونا

وتـتبع الحـق والقـرآن والدينـا

على ذنوبك طول الدهر محزونا16

وأكتفي بهذين النموذجين الشعريين على سبيل الاستشهاد والتمثيل وما يقتضيه مقام المداخلة. لكني أكاد أجزم أن الأدب الصوفي كله شعر ونثره يتجه هذا الاتجاه، حيث الدعوة إلى الإصلاح والتربية وإعلاء شأن العقل الإنساني إلى أسمى مراتبه حتى امتزاجه بالنقل في أرقى منزلته.

ولما يلتحم الشعر الصوفي بنثره، يتكون لدينا ديوان أدبي طافح بالمبادئ السامقة الرفيعة، التي تعد تفسيرا عمليا للقواعد الإسلامية التي تنبثق من القرآن الكريم والسنة الشريفة. ففي الأبيات السالفة الذكر يتحدد مفهوم التصوف عند أصحابه على أنه تقوى ووفاء وعفة وصفاء وعلم واقتداء...، وما هي إلا خلال بانية تؤسس للأخلاق باعتبارها جوهر الحضارة.

وجماع القول وصفوته، فإن التصوف وما يحتويه من أدب : شعره ونثره، وما يزخر به من ابتهالات وأدعية ومدائح وتوجيهات، ونصائح يعد بحق رافدا من روائد الثقافة الإسلامية في كل أبعادها، الدينية والفنية والأخلاقية والاجتماعية والإنسانية، وغيرها من القيم التي ترمي إلى بناء الإنسان. والأدب الصوفي أدب رساليّ، لم يُقل أو يُنظم لذاته بل لغاية سامية هي إعلاء الإنسان إلى مستوى عقيدته، فيكون فاعلا حضاريا في خلافته لربه وعبادته لخالقه وتعميره لأراضه.

 

الهوامش :

1- ينظر على سبيل المثال : د. عبد الرحمان بدوي : تاريخ التصوف الإسلامي من البداية حتى القرن الثاني، الكويت، وكالة المطبوعات، ط. 2، 1978، ص 5 وما بعدها.

2- محمد بن عبد الجبار النفري : المواقف والمخاطبات، تح، آرثر أربي، تقديم وتعليق د. عبد القادر محمود، مصر، الهيئة المصرية للكتاب، 1985، ص 11

3- من المحاولات الجادة في هذا المجال ما كتبه د. محمد مفتاح في كتابه : "دينامية النص" وفي الفصل الربع منه الذي يحمل عنوان "سيرورة النص الصوفي". إذ إنه يبين أركانا أربعة لكل كتابة : 1- الغرض المتحدث عنه، 2- المعجم التقني، 3- كيفية استعماله، 4- المقصدية، حتى يقال عنها إنها كتابة صوفية أو غيرها... ينظر، د. محمد مفتاح : دينامية النص، بيروت المركز الثقافي العربي، ط. 2، 1990، ص 129

4- محمد بن عبد الجبار النفري : المواقف والمخاطبات، مرجع سابق، ص 13

5- لابد من الإشارة عند التفريق بين المصطلحات، وتسمية الإبداع باسمه، ما قام به د. محمد مندور من تسمية الأدب المهجري بالأدب المهموس، على الرغم من النفحات الروحية التي تكسوه فتجعله قريبا من الأدب الصوفي، ولكنه لم يجرؤ على وسمه بهذه الصفة بل جعله أدبا مهموسا. ينظر، د. محمد مندور: في الميزان الجديد، تونس، مؤسسة ع. بن عبد القادر، ط. 1، 1988، ص 77 وما بعدها.

6- ينظر، د. عبد المنعم الحفني : معجم مصطلحات الصوفية، بيروت، دار المسيرة، ط. 2، 1987، ص 248

7- سورة آل عمران، الآية : 31

8- سورة المائدة، الآية : 54

9- ينظر، الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي : ذخائر الأعلاق شرح ترجمان الأشواق، تح، خليل عمران المنصور، بيروت، دار الكتب العلمية، ط. 1، 2000، ص 35-36

10- ينظر، لسان العرب لابن منظور، مادة : بني، ومادة : هدم.

11- علي بن محمد الشريف الجرجاني : كتاب التعريفات، بيروت، مكتبة لبنان، 1985، ص 39-40

12- ينظر، الشيخ عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي : الإنسان الكامل في معرفة الأوائل والأواخر، تح، أبو عبد الرحمان صلاح بن محمد بن عويضه، بيروت, دار الكتب العلمية, ط. 1، 1998، ص 207. ينظر كذلك، د. عبد الرحمان بدوي : الإنسان الكامل في الإسلام.

13- المصدر نفسه، ص 210

14- سورة الحجر، الآية 29

15- البيتان للشاعر أبى الفتح البستي، ينظر د.عمر فروخ : تاريخ الأدب العربي، ج.3، بيروت, دار العلم للملايين، ط.4، 1984، ص 49

16- ينظر، د.عبد المنعم خفاحي : الأدب في التراث الصوفي مصر, القاهرة، دار غريب للطباعة، ص 25-26

أضيفت في 07/06/2006/ خاص القصة السورية / أنظر (شخصيات صوفية)

 

 

دانتي والتصوف

 

دراسة كتبها: لوكا باتريتسي ترجمها: د. حسين محمود

 

أصبحت أوجه التماثل بين أعمال الشاعر الإيطالي الكبير دانتي أليجييري والأدب الروحي الإسلامي مقبولة حتي في الأوساط الأكاديمية الرافضة لفكرة وجود تبادلات متعددة بين الثقافتين الأوروبية والإسلامية. وفي هذه الدراسة تم إيضاح نقاط التلاقي بين أعمال الشاعر وأعمال أئمة الصوفية، بأسلوب يمكن حتي لغير المتخصصين أن يستوعبوه. وفضلا عن أنها مساهمة للتأمل في جذور أوروبا وثقافتها إلا أنها أيضا تفتح الباب أمام رؤية جديدة لنا من جانب أهل الفكر الأوروبي. فهناك من يرانا أصحاب إسهام فكري في الحضارة الإنسانية إلي جوار أصحاب الصوت العالي والعقل الفقير ممن يصمون الإسلام والمسلمين بالتخلف والإرهاب.

 

وأود أن أشير في هذه الترجمة إلي أنني اعتمدت في ترجمة الأبيات الواردة عن الكوميديا الإلهية علي الترجمة الفذة لحسن عثمان طبعة دار المعارف (ط2، 2002)، رغم أنني في بعض الحالات عدت إلي النص لكي أعتمد علي الترجمة الحرفية له في الحالات التي استدعت هذا، وهي التي تصرف فيها المترجم بالتأويل، ولأهداف تخدم الدراسة الحالية لم يكن هناك بد من إعادة التفسير أو العودة إلي حرفية النص حسب مرامي كاتب هذه الدراسة. كذلك أجد من الواجب توجيه الشكر إلي الشاعر الفيلسوف الدكتور حسن طلب لمراجعته الترجمة وملاحظاته السديدة عليها، وخاصة ما يتعلق بالمصطلحات الصوفية الواردة في الدراسة.

 

أصبحت أوجه التماثل بين أعمال دانتي والأدب الروحي الإسلامي مقبولة حتي في الأوساط الأكاديمية الرافضة لفكرة وجود تبادل كبير بين الثقافتين الأوروبية والإسلامية، وما يهم هذه الدراسة ليس البحث مرة أخري فيما إذا كانت توجد أو لا توجد أدلة مادية علي قدرة الشاعر الفيورنتيني علي قراءة التراث الاسلامي أو الاتصال المباشر بممثليه، وبصفة عامة مع العالم العربي في عصره، وهي مشكلة من الصعب حلها بوسائل البحث التأريخي العادي، وإنما تهدف الدراسة إلي الكشف عن بعض هذه التماثلات والتي يمكن أن نصادفها بصفة خاصة في الكوميديا (الإلهية). ولكن لابد من مقدمات عديدة لهذا.

 

في المائة عام الأخيرة تشكلت فئة من الباحثين الأكاديميين وغير الأكاديميين التي بدأت تدرس العلوم الشرقية باتباع منهج أقل تأثرا بالأفكار المسبقة، بما في ذلك الأفكار العقائدية، وعلي هذا النحو وجدت نفسها تعترف بوجود رابطة عميقة جدا بين التراث الروحي الإسلامي والغربي، ووصلت إلي نتيجة مؤداها أنها جميعا يمكن أن تكون ناشئة عن مصدر واحد مشترك، انفصلت عنه في عصر قديم جدا، وهو حدث تخلفت عنه آثار كثيرة وخاصة في الهندوسية، وأيضا في أنماط تراثية عديدة أخري منها ما يزال قيد الحياة ومنها ما اختفي. وعلاوة علي هذا فإن المسيحية الكاثوليكية، وهي الصورة التقليدية الأكثر انتشارا في الغرب، لا يمكن أن نقول إنها أصلية، علي اعتبار أنها اشتقت بعد سلسلة طويلة من التحولات جعلتها منبتة الصلة عن مصدرها، علي الأقل في مستوياتها الأكثر سطحية، عن تراث من نوعية سامية وبالتالي شرقية (1). أما التراث الذي تطور في أوروبا قبل ظهور المسيحية مثل ما يسمي الوثنية، والتراث الروماني أو السلتي،فقد تم النظر إليه أيضا علي أنه شيء غير متجانس معها، إلي أن جاء القرن الأخير عندما ظهر من دراسة أكثر تعمقا كيف يمكن أن يكون التقسيم الذي يميل إلي أن يضم المسيحية إلي ذلك التراث واضحا، وكيف كان الانتقال إليها أقرب إلي التمثل غير السلبي منه إلي الاستبدال التام، والكوميديا الإلهية نفسها هي مثال علي أن العالم الكلاسيكي والمسيحية يمكن أن يتصالحا بنظرة أكثر عمقا (2).

 

وتقتصر المقدمة الثانية علي الدراسات الدانتية، وخاصة في المائة سنة الأخيرة ، بالتوازي تقريبا مع الانفتاح الأكاديمي فيما يتعلق بالشرق، حيث بدأ النظر إلي عمل دانتي ليس فقط من ناحية أدبية وفقه لغوية محضة وإنما توجهت الدراسات أيضا إلي المذهب الروحي الذي اشتمل عليه العمل وعلاقاته مع المذاهب المسيحية الغريبة في عصره والتي اختفت حاليا (3).

 

وتهدف هذه الدراسة إلي الجمع يبن هذه الاتجاهات، وهي تركز فيها علي التماثل الذي يمكن أن نصادفه بين المذهب والطرق الروحية للمذاهب الإسلامية والمذهب الذي تشتمل عليه الكوميديا (والتي ربما كانت انعكاسا للمذاهب المسيحية المعاصرة لها) انطلاقا من اعتبارات الصلات المادية التي ربما نشأت بين العالمين في تلك اللحظة التاريخية المحددة (4).

 

الأدب الروحي الذي وصل إلينا والذي ما يزال يصل إلينا عن التصوف، والباطنية الإسلامية والذي قتل بحثا وبنتائج مختلفة في الغرب، والذي هو موجود دائما وفي كل مكان من العالم، لم يكن من الضروري دائما حجبه مثل شعر دانتي والمؤمنين في الحب (5)، وهو، حينما يحجب، فإنه ربما يفعل ذلك لكي يستطيع استخدام قوة التأثير الذي يمكن أن تكمن في الرمز علي العقل أكثر منه لأسباب حقيقية غير مستحيلة. وأرشدنا أسين بلاثيوس بوضوح إلي التشابهات الموجودة بين مذهب محيي الدين بن عربي والذي اعتبر المعلم الأكبر لمذهب الباطنية الإسلامي المتوفي عام 1240 والمذهب الوارد في كتاب دانتي (6)، وأظهر دارسون غيره كيف أن قصيدة مذهب الأسلوب الجديد (ستيلنووفو) استخدمت نفس الأدوات الأدبية للقصيدة العربية.

 

إن رحلة دانتي، وخاصة في مقطع المطهر، إنما هي رحلة تطهير نفس تحاول أن ترتفع إلي مرحلة تأمل الله، ترافقها في مسيرتها الصعبة مجموعة من الشخصيات: في البداية فيرجيليو ثم ستاتسيو وماتيلدا وبياتريتشه وأخيرا سان برناردو، والعلاقة معهم كما يوضحها دانتي لها تماثلات قوية مع تلك العلاقة التي يمكن تلمسها في الوصف الذي يقدمه لنا التصوف للعلاقة بين التلميذ والأستاذ الروحي (الشيخ ومريديه؟)، وسوف تبدأ الدراسة بمعالجة هذا الجزء من المذهب الذي يتعلق بالأدب علم الملاءمة الروحية. ونستطيع أن نجد للأدب آثارا في الأدب الصوفي كله فيما يتعلق بآداب معينة وخاصة في العلاقة بين الأستاذ والتلميذ (راجع حادث اللقاء بين موسي والخضر، القرآن: صورة 18 آيات 60­82) ولها أهمية قصوي بالنسبة لمسيرة الروح نحو الله، وسوف نحاول أن نكشف التشابهات التي يمكن أن توجد بينها وبين الكوميديا (الإلهية). ولغرض التبسيط سوف نفحص الشخصيات المختلفة التي تدخل الأحداث مع الشاعر بصفتها كيانا روحيا واحدا، بوظيفة واحدة تتوزع علي طول المسيرة في العوالم الثلاثة (7).

 

يصل فيرجيليو في اللحظة التي توقفه فيها ثلاثة من الوحوش عقب خروجه من الغابة المظلمة، وكان لوصول هذا الشاعر الروماني ما سمح له بالالتفاف حول العقبة، مشيرا إليه بطريق أطول ولكنه أكثر عتمة إلا أنه الطريق الوحيد الذي يمكن قطعه للوصول إلي حيوان الكلب. وأثناء عبور الجحيم كان فيرجيليو هو الذي سمح لدانتي بتجاوز العقبات والتي كانت سوف تحرم عليه لو كان وحده، وقد أراحه علي سبيل المثال عندما هاجمه علي أعتاب مدينة ديته خوف مثل ذلك الذي أوقفه في بداية رحلته، وفي النشيد الرابع والعشرين، بعد ذلك، كان فيرجيليو هو الذي استحثه بالقوة عندما جلس بعد أن استولي عليه التعب، عندئذ اهتم بحمايته ومرافقته حتي المطهر، حيث سيبدأ في القيام بوظيفة شديدة الأهمية في عملية التطهير الروحي للشاعر.

 

إن صورة المعلم الروحي لها أهمية كبيرة في المذاهب الشرقية، وخاصة في التصوف. في أيها الولد لأبي حامد الغزالي، والذي عرفه دانتي أيضا وأثني عليه (وذكره في عمله الوليمة Convivio "، وهو معروف في العصور الوسطي باسم لاتيني التحريف هو الجازل Algazel وموصوف وصفا جيدا):

اعلم أنه ينبغي للسالك وجود شيخ مرشد مرب ليخرج الأخلاق السيئة منه بتربيته ويجعل مكانها خلقا حسنا، ومعني التربية يشبه فعل الفلاح الذي يقلع الشوك ويخرج النباتات الأجنبية من بين الزرع ليحسن نباته ويكمله ريعه، ولابد للسالك من شيخ يؤدبه ويرشده إلي سبيل الله تعالي، لأن الله أرسل للعباد رسولا للإرشاد إلي سبيله. فإذا ارتحل، صلي الله عليه وسلم، فقد خلف الخلفاء في مكانه حتي يرشدوا إلي الله تعالي (...) ومن ساعدته السعادة فوجد شيخا كما ذكرنا، وقبله الشيخ، ينبغي أن يحترمه احتراما ظاهرا وباطنا، أما الاحترام الظاهر فهو ألا يجادله ولا يشتغل بالاحتجاج معه في كل مسألة وإن علم خطأه. (...) ويعمل ما يأمره الشيخ من العمل بقدر وسعه وطاقته. أما احترام الباطن فهو أن كل ما يسمع ويقبل منه في الظاهر لا ينكره في الباطن، لا فعلا ولا قولا، لئلا يتسم بالنفاق. (8)

 

من هذه الكلمات نستطيع أن نفهم كيف أن الدوافع التي دفعت دانتي إلي أن يتخذ شخصا آخر مرشدا له في رحلته قريبة من تلك التي عبر عنها الغزالي، وكيف أنه كان بالنسبة له معلما وهو اللفظ الذي كان ينادي به دانتي أكثر من مرة مرشده فرجيليو (المعلم الجميل في المطهر 12/3) ليس فقط لأسباب أدبية (من ناحيته كان فرجيليو ينادي دانتي بالولد الجميل، تماما كما كان الغزالي ينادي تلميذه): بهذه الطريقة فقط، وحسب التصوف، من الممكن التخلي عن الإرادة الشخصية واتخاذ إرادة الله هاديا، وهي إمكانية نراها أيضا في الكوميديا:

وكما يضحي ملائكتك بإرادتهم وهم يسبحون بحمدك

فليضح البشر بإرادتهم أيضا (9)

والشيخ المعلم أيضا طبقا لرأي الغزالي يجب أن يكون مؤهلا لأن يقود السالك (المريد) في مسيرته، لأنه بدوره قطع تلك المسيرة تحت إشراف شيخ معلم آخر، وأصبح مخولا من قبله بقيادة الآخرين. ومن ثم فإن المريد تتم قيادته خلال الطريق، المليء بالصعوبات والإغراءات الروحية، والذي سوف يسمح له، لو كان يمتلك المؤهلات والزهد اللازمة للوصول إلي الله (البقاء وهي المرحلة التالية للفناء عند الصوفي)، وهنا أيضا بخلاف التشابه بين الباب الضيق في الأناجيل المشابهة للطريق الضيق عند الصوفية يمكن أن نلاحظ أنه في بعض أجزاء المطهر تتم الاستعانة بنفس الرموز:

وأخذنا نصعد داخل الصخر المشقوق

وأطبق الجدار علينا من كل جانب (10)

... ولكن الصخر العالي أحدق بكلا الجانبين (11)

وهناك تماثل آخر يمكن أن نصادفه ويتمثل في التواضع: ففي التصوف يدخل التواضع ضمن الأدب تجاه المخلوقات ومن ثم تجاه الله، ولكنه أيضا منهج حقيقي ملموس للتحقق الروحي، والمثال الخاص في هذا المعني تمثله الطريقة المسماة الملامتية (من اللوم)، والتي تصف القاعدة فيها سلوكا متواضعا أشد التواضع، يكاد يصل إلي الإلغاء حتي أمام المخلوقات الأعلي روحا (12)، ويشارك معها نوع من البحث الواعي عن التواضع تجاه الناس إلي درجة تفرغ النفس من نفسها وتعدها لتلقي الحضرة الإلهية. الآن نستطيع أن نلاحظ أنه في أجزاء عديدة من قصيدته يجتهد دانتي في ممارسة التواضع، وهو يعرف بعد كل شيء بصورة جيدة جدا ضعفه الخاص فيما يتعلق بزيادة التكبر: البوصة التي طوق به نفسه في المطهر النشيد الأول البيتان الرابع والتسعين والثالث والثلاثين بعد المائة، هو رمز واضح علي التواضع، وفي النشيد العاشر يأتي ذكر أمثلة واضحة مثل رقصة النبي داوود، ومرتل المزامير المتواضع، في سفر الملوك النشيد السادس البيتان الحادي والعشرون والثاني والعشرون:

في حضور الرب، الذي اصطفاني، أرقص...

.... واجعل نفسي غير ذات قيمة وأتواضع...

إما أن يكون سلوك ترايانو مع الأرملة الصغيرة التي تسأله أن يقيم العدل، وإما في النشيد التالي الاستجداء من طاغية سيينا بروفنسانو سالفاني لجمع الأموال اللازمة لتحرير صديق عزيز من الأسر، هو الذي جعل دانتي يرتعش بكل حواسه، بالإضافة إلي أنه في النشيد الحادي عشر نري دانتي ينطوي علي نفسه وهو يحمل رمزيا الثقل الذي يحمله المتكبرون بالفعل لكي يخففوا من عقابهم، ثم يقارن في بداية النشيد التالي ثقله الروحي بحمولة ثور في الساقية.

 

إلي جانب هذا هناك بعض الأبيات التي يقارن فيها دانتي نفسه بطفل (13)، الصبي في المطهر النشيد السادس والعشرون البيت الخامس والأربعون والنشيد الحادي والثلاثون البيت الرابع والستون، والصبي الشاحب في الفردوس النشيد الثاني والثلاثون البيتان الثاني والخامس، أو يشبه نفسه بحيوان، فهو يكاد يشبه نفسه دائما بجرو صغير، أو طائر اللقلق الصغير في المطهر النشيد الخامس والعشرون البيت العاشر أو النعجة في المطهر النشيد الخامس والعشرون البيت السادس والثمانون، أو في الفردوس النشيد الثالث والعشرون الأبيات من الأول حتي الخامس عشر حيث يشبه العناية التي توليه بياتريتشه إياها برعاية طائر لفرخه، وأخيرا في استخدام تعبير النهر الصغير أرنو لتقديم نفسه في النشيد الرابع عشر من المطهر، نستطيع أن نري دانتي مأخوذا باجتهاده في التواضع الذي قد يصل إلي حد السذاجة، كأنه تواضع من لم يعتد علي التواضع، ويمارسه لأول مرة في حياته. وبمناسبة التواضع فإن النشيد الحادي عشر من الفردوس هام جدا لأنه يقدم شخصية القديس فرانشيسكو، والذي يشير إليه الشاعر، ومعه القديس دومينيكو، كأنه بركة أهدتها العناية الإلهية إلي الكنيسة، لكي يرشدها ويدعمها في لحظة شديدة الصعوبة. ويرجع دانتي في هذا إلي تفسير مشوق إلي زهد قديس اشيزي (في تماثل مثير مع الاسم القديم لأسيزي) غفي اللغة الإيطالية هناك تماثل في طريقة كتابة ونطق كلمة الزهد والتقشف واسم المدينة التي ينتمي إليها القديس فرانشيسكو ، يصل إلي حد التطابق في حالة اسم المدينة القديم ­ المترجمف والذي انتشر علي نطاق واسع في القرن الثالث عشر الميلادي في الأدب الفرانشيسكاني وخاصة في كتاب مجهول المؤلف بعنوان il Sacrum commercium beati Francisci cum domina Paupertate حيث العلاقة بين فرانشيسكو والفقر قد ارتفعت إلي مستوي الرمز للزواج الروحي، وهو نفس الزواج الذي عقده المسيح بشخصه أثناء إقامته علي الأرض. وبتصفح الكتاب ندرك أن الإشارة إلي الفقر بهذا المعني يبعد المعني الحرفي لكلمة الفقر المادي إلي مرتبة ثانوية من المسالة، مع الأخذ جوهريا بمعني آخر للفقر، وهو نفسه الذي يشير إليه الإنجيل عندما يقول: طوبي لفقراء الروح لأنه منهم تتألف مملكة السموات: ومن هذا أن المنتمين للتصوف والممارسين للطريقة يسمون الفقراء (14)، وهو الأمر الذي يذكرنا علي الفور بفقراء القديس فرانشيسكو، وهذا النوع من الفقر، تفريغ النفس الطوعي من جانب المخلوق لكي يحل فيها الله، طبقا للتصوف هو الذي يقود إلي التلاشي (15). ويمكن الإشارة إلي أن صفة الفقر التي أعطاها الشاعر للعذراء في المطهر النشيد العشرون البيت الثاني والعشرون يمكن أن يكون لها معنيان، فمن ذا الذي يمكن أن يكون أكثرا تفريغا لنفسه حتي يستطيع أن يتلقي كلمة الله علي الأرض؟

وعودة للأدب رأينا كيف أن إحدي القواعد الرئيسية هي طاعة الشيخ، ونستطيع أن نلاحظ أن دانتي كان منتبها انتباها شديدا لهذه القاعدة:

إن ذلك الذي يعرف كيف اغتذت عيناي

من محياها المبارك

حينما انتقلت إلي شأن آخر

سوف يدرك كم كنت سعيدا

بطاعتي لمرشدتي السماوية

حينما وازنت بين أحد الجانبين والآخر (16)

وبالفعل فإنه حتي يطيع إرشادها فهو يتوقف عن تأمل وجهها السماوي، وهو التأمل الذي كان يوفر له إشباعا روحيا كبيرا، وهو بهذا يعطي لطاعتها أهمية أكبر من التأمل في الله منعكسا، رغم أنها مرآة ملائكية مثل بياتريتشه. بالإضافة إلي هذا فقد كان ينتظر منها الإذن دائما حتي يتكلم.

اتجهت إلي جانبي الأيمن

لكي أعرف واجبي من بياتريتشه

سواء كان ذلك بكلمة أم بإشارة منها (17)

ووقفت كمن يكتم في قلبه

حفز رغبته، فلا يجترئ

علي السؤال إذ يخشي أن يتجاوز حدوده (18)

وحيث يقدم دانتي شخصية القديس بنديتو، والذي يشير إليه في عجالة، تظهر مشابهات طريفة مع الشخصية الروحية للنبي محمد، من حيث أن القديس، مثل رسول رب الإسلام، يقضي في الغار لحظات طويلة في التأمل ويظهر كداعية متحمس ضد عبادة الأصنام:

وإنني من حمل هناك في أعلاه

اسم من أتي إلي الأرض

بالحقيقة التي تسمو بنا كثيرا

وقد أفاضت علي النعمة الإلهية بأنوارها

حتي اجتذبت القري المحيطة بي

من العقائد الباطلة التي أفسدت الدنيا (19)

وفي الحكاية عن حياة جريجوريو مانيو (Gregorio Magno, Dial. Mirac., II,) يقول:

وصل اسم الرب ذلك وحطم الأصنام وهدم المذبح ودمر الغابات وفي معبد أبوللو نفسه بني كنسية تكريما للسيدة مريم العذراء، وهناك حيث معبد الرب بني كنسية للقديس جوفاني، وواصل دعوته حتي نجح في تحويل الناس الذين كانوا يسكنون حوله إلي الإيمان.

وهو مشهد يذكرنا بقصة المسيح الذي يطرد تجار المعبد، وأيضا وصول النبي محمد إلي الكعبة بعد فتح مكة وتحطيم الأصنام بداخلها باستثناء صورة للسيدة العذراء مع المسيح طفلا والتي تركت كما هي لم تمس ثم إقامة دين الله الواحد بعد ذلك.

وهناك خاصية أخري من خواص العلاقة العميقة بين المعلم وتلميذه طبقا للتصوف هي أن التلميذ، بفضل زهده، يصبح شفافا من الناحية الروحية بالنسبة للمعلم والذي يكون في مقدوره قراءة ما يدور بذهنه وتقديم ردود دون أن يحتاج التلميذ لأن يلقي عليه بأسئلته وشكوكه: ونستطيع أن نلمح مواقف شديدة الشبه بذلك في الكوميديا:

ولكنه أدرك ما أردت بصمتي أن أقوله

ولذلك لم ينتظر أن أتجه إليه بسؤالي

بل قال: تكلم وكن موجزا والزم موضوعك (20)

ولكن ذلك الأب الصدوق الذي أدرك

رغبتي الحائرة التي لم تفصح عن ذاتها

منحني بحديثه الشجاعة حتي أتكلم (21)

وفي النشيد الرابع عشر يصل الأمر إلي أن بياتريتشه ترد علي سؤال لم يكن دانتي قد وجهه بعد، وليس هذا وحسب وإنما لم يكن حتي قد تشكل السؤال تماما في صورته النهائية في ذهنه.

إن هذا الرجل في حاجة

إلي أن يبلغ أصل حقيقة أخري

ولو أنه لا يذكر لك ذلك بصوته أو حتي بفكره (22)

وفي النشيد التاسع عشر من المطهر يحدث العكس فدانتي يحلم بالأنثي المتلعثمة، وهي امرأة مشوهة أساسا ولكنها تزداد إثارة للعيون حتي تصبح عروس بحر جميلة تسحره (23)، ولكن امرأة أخري تصل لمساعدته، وهو يقول أيا فيرجيليو، من هذه يا فيرجيليو؟، وينزع الرداء الذي يغطي البطن الفاسد لعروس البحر، فتوقظ الرائحة غير المتحملة الشاعر الذي يجد أمامه فيرجيليو يقول له _ بقسوة ملحوظة _ إنه قد ناداه علي الأقل ثلاث مرات قبل أن ينجح في إيقاظه. في هذا الموقف، بغض النظر عن هوية المرأة الثانية، والتي اختلفت الآراء في تفسيرها، قد يكون فيرجيليو هو الذي أنقذ الشاعر، لأنه، كما يحدث أحيانا في حالات مكثفة من الحلم، لا يكون النداء الواحد كافيا لإخراج الحالم من حلمه، ولكن الأصوات الخارجية لها القدرة علي التداخل مع الحلم نفسه، والنداءات الثلاثة تتجسد تدريجيا في فعل المرأة الثانية التي تنقذ الشاعر، وفي تأكيده، الذي يظهر فيه رمز الغيرة (24)، يعين اسم فيرجيليو، كما لو أنه يؤنبه علي أنه لم يؤد واجب الحماية كاملا تجاه دانتي، ولكن في الحلم يأخذ كل شيء قالبا مشوها للقالب الحقيقي، وفي كثير من الأحيان بالمقلوب.

والعدو الذي يشير إليه دانتي في هذه الرؤية _ الحلم هو النزوع إلي الخيرات الأرضية علي حساب الخيرات الروحية (25)، وذلك الذي يخلق الكذب في الحياة ويحافظ عليه موقعا بالأرواح في فخ التكاثر هو عدونا في المطهر النشيد الثامن البيت الخامس والتسعون، العدو القديم للمطهر في النشيد الرابع عشر البيت السادس والأربعون بعد المائة، الشيطان بنفسه، وهو نفسه العدو الذي يتخذه المتصوفون، والشيطان يعني بالعربية العدو.

والتمثيل الرائع لما يجب أن تكون عليه وظيفة المرشد الروحي، يقدمه لنا دانتي بعد ذلك في الفردوس في النشيد الثاني من البيت العاشر حتي الخامس عشر، وفي هذه الأبيات كان هو نفسه الذي يعرض علينا أن يقوم بهذه الوظيفة تجاه البعض من قرائه.

أيها القلائل الآخرون، يا من بادرتم إلي رفع رؤوسكم

إلي خبز الملائكة،

الذي يغتذي به هنا دون أن يشبع أبدا

إنه من الميسور لكم أن تدفعوا سفينتكم

مقتفين مخر سفينتي من قبل

أن تمحو المياه آثاره.

حيث صورة الماء الذي ينغلق علي نفسه خلف المركب تمثل بدقة حالة الامتياز الذي تحظي به مسيرة التلميذ والذي يستطيع أن يحافظ علي اتباع المعلم الروحي.

 

بالإضافة إلي هذا فإن دانتي يكمل رحلته بالجسد، ومن ثم يعترف بأن الممكن أن يحدث له تطهير روحي حتي قبل الموت، وهو التطهير الذي يحدث بطريقة طبيعية بالنسبة لأرواح المطهر، والذين انجذبوا نحو دانتي في الهجر التام لإراداتهم الخاصة، وهي الحالة التي يتقاسمونها مع أرواح الفردوس:

وفي مشيئته سلام نفوسنا:

وهذا هو البحر الذي تيممه كل الكائنات

كل ما هو إياه خالق, وكل ما الطبيعة له صانعة. (26)

ولكن الذي يستلزم علي العكس جهودا ضخمة إذا تم القيام به في الحياة الأرضية بواسطة الصيام والقيام والذي يتحدث عن في المطهر النشيد التاسع و الثلاثون البيت الثامن والثلاثون، بطريقة تتضمن الصعود الحقيقي ضد التيار، فإن جهاد النفس الذي يحاول المتصوف أن يتمه في كل لحظة من لحظات وجوده، وهو يساعد نفسه هو أيضا بالصيام والقيام، وبالذكر الذي لا يتوقف لاسم الله تعالي، والذكر هو الممارسة الروحية الأولي عند المتصوفين: ويشير دانتي إلي تقنية مشابهة لها تماما في الفردوس النشيد الخامس والعشرون الأبيات من الثالث والسبعين وحتي الخامس والسبعين عندما أورد بيتا من المزمور التاسع (البيت الحادي عشر):

إنه يقول في مزمورهفليؤمل

فيك العارفون اسمك:

ومن ذا الذي لا يعرفه إذا توفر له إيماني.

حتي نصل كما رأينا سابقا إلي التلاشي التام للأنا الفردية وإلي الحلول في الله، هذا الاتحاد الذي يتحدث عنه دانتي في الوليمة III,II 3:

"الحب... ليس إلا اتحادا روحيا بين الروح والشيء المحبوب، وفي هذا الاتحاد الذي له طابعه الخاص تجري الروح بسرعة أو ببطء حسبما إذا كانت حرة أو معطلة.

وأيضا في الكوميديا:

... لكي أنظر إلي ذلك الجوهر

الذي يري فيه كيف اتحدت طبيعتنا بالله. (27)

... وإذ لا يمكننا أن نتصور وجود كائن

قائم بذاته منفصل عن الموجود الأول (28)

وفي الفردوس النشيد الثالث والثلاثون الأبيات من 124­132، المحملة بالإشارات الميتافيزيقية وبالتشابهات العديدة مع الميتافيزيقيا الإسلامية (29)، فإن الإشارة إلي إمكانية اتحاد الإنسان مع الله من الوضوح بحيث ربما مرت دون ملاحظة، وأولها المعلقون علي أنها خاصية تخص المسيح وحده:

أيها النور الأبدي الساكن إلي ذاتك وحدها

والذي تدرك ذاتك بذاتك وبكونك مدركا من ذاتك

ومدركا إياها فإنك تحب ذاتك وتبتسم!

وتلك الدائرة التي ارتسمت علي هذا النحو

وتبدو فيك كأنها نور منعكس

حينما تأملتها بعيني قليلا،

ظهرت لي في باطنها وبذات لونها

أنها علي مثال صورتنا البشرية المرسومة

وبذلك امتد بصري بكليته إليها.

عن هذه الحالة التي تلي ذروة التحقق الروحي يتحدث المعلم (الشيخ) ايكارت Eckhardt، وهو الميتافيزيقي الألماني العظيم الذي مات عام 1328، يتحدث بطريقة مشابهة جدا في مواعظه:

تصبح الروح واحدة مع الرب وليست متحدة. خذوا هذا التشبيه: لو ملأنا برميلا بالماء، فإن الماء يكون في البرميل المتحد معه، ولكنه ليس واحدا معه، حيث أن الخشب ليس ماء، والماء ليس خشبا. ولو ألقيتم بخشبة وسط الماء يتحد الخشب مع الماء ولكن لا يصبح واحدا معه. وهذا ليس مع الروح: فهي تصبح واحدة مع الرب، وليست متحدة معه، حيث أنه عندما يوجد الرب توجد الروح وحيث توجد الروح يوجد الرب.

بينما يصف دانتي التحول الذي تتعرض له الروح في عملية التحقق الروحي، في نهاية رحلته في الأنشودة الثالثة والثلاثين من الفردوس، بالصورة الرائعة للجليد الذي يذوب في الشمس ويحول حالته إلي سائل (وهي صورة سبق استخدامها في الفردوس الأنشودة الثانية البيت السادس بعد المائة)، في صورة ماء يضيع في البحر يتحرك فيه كله (30)، ونفس الصورة مستخدمة في القصيدة الرائعة للشيخ الجزائري أحمد العلوي، وهو شيخ إحدي الطرق الأكثر تطورا في العالم وهي الطريقة الشاذلية العلوية، والمتوفي في عام 1934 (31):

أيها الرجال الذين اختفوا في حضرة الله!

كأنها حبات ثلج ذابت لله لله (32)

عند هذه النقطة، إذا شئنا أن نبحث _ مع الجزء الأغلب من النقد الغربي _ بكل السبل عن تأثير مادي في التشابهات جميعها التي يمكن أن نصادفها في مختلف جوانب التراث الروحي، لابد أن نصل إلي نتيجة مؤداها أن هذا الشيخ الجزائري ربما عرف الكوميديا، وهو المستحيل بعينه (33)، إلي هذا يمكننا أن نقتبس عن تيتوس بورخارت Titus Burckhardt والذي يهتم فيما يهتم بالطريقة الروحية لذكر الرب المذكورة سابقا:

التماثل بين الذكر الإسلامي ويابا يوجا الهندية، و أيضا الطرق الساحرة للمسيحية الإيزيكاستية وأحد مذاهب البوذية يسمي الأميدية، ظاهر جدا، ولكن سوف يكون من الخطأ الشديد أن نعيد الذكر الإسلامي إلي أصل غير إسلامي، وذلك لأنه قبل كل شيء فإن هذه الفرضية لا ضرورة لها، ثم لأن الحقائق تكذبها، وأخيرا لأن الواقع الروحي الأساسي بمختلف أشكاله لا يمكن ألا يظهر داخل كل حضارة تراثية (34)

ومن ثم يكون معها أيضا الرموز المستخدمة من أبرز ممثليها.

وهناك جانب طريف أيضا نود الكشف عنه لخدمة أغراض هذا العرض، وهو أن المشاهد كثيرة، في الفردوس، والتي يتأمل فيها دانتي بعض الأرواح الطوباوية والتي تبدأ في الدوران حول نفسها علي شكل دوامة حتي تعرض حالتها الروحية المكثفة.

... رأيت نورا آخر ينطلق وهو يدور

وكانت البهجة له كالسوط للدوامة. (35)

.... حتي جعل ذلك النور من وسطه لنفسه محورا

ودار حول نفسه كحجر الرحي السريع. (36)

.... وتجمع الرفاق ثم اتجهوا صاعدين في حركة دوارة. (37)

... واتخذت هذه الأرواح السعيدة هيئة دوائر تدور علي أقطاب ثبتة. (38)

ونستطيع أن نلاحظ بالفعل في هذا الوصف تماثلا قويا مع تقنية روحية خاصة يستخدمها من يسمون المولوية أو الدراويش الدوارة وهي طريقة تأسست في كونيا بالأناضول في القرن الثالث عشر بواسطة جلال الدين الرومي وهو من أكبر مشايخ الطرق الصوفية في تاريخها ومعروف بشكل خاص بقصائده وبقصيدته النثرية الضخمة المثنوي (39) : وبالفعل فإن أعضاء الطريقة المولوية يؤدون رقصة مقدسة يدور كل مشارك فيها حول نفسه بطريقة الدوامة حسب طرق معينة وتحت رقابة ومتابعة أحد الشيوخ فيخلقون معا حركة تشبه حركة الكواكب، وهذه تدخل ضمن التفاصيل المثيرة التي يمكن أن نستنتجها من الفردوس أيضا في الأنشودة الرابعة والعشرين بعد أن نقرأ الوصف التالي:

وكما يدور ترسان في الساعة،

حتي أن من يتأملهما

يري أحدهما ساكنا علي حين يبدو الآخر طائرا

هكذا جعلتني هذه الحلقات

أقدر مستوي ما لها من غني

بتفاوت رقصها بين البطء والسرعة.

 

حيث المقارنة بين الأرواح التي تدور حول نفسها وتروس الساعة، فالأول وهو الأكبر يأخذ حركته مباشرة من محرك الساعة يبدو كأنه واقف بالنسبة للتروس الأخري التي ينقل إليها الحركة والتي تزيد باطراد كلما خرجت إلي الخارج (40)، يمكن أن تجعلنا نفكر في حقيقة أن المنتمين للطريقة المولوية يقللون سرعة دورانهم شيئا فشيئا كلما تقدموا في درجات التحقق الروحي حتي _ من يصبح شيخ طريقة عندما يصل إلي ذروة هذا التحقق _ أي يتحول إلي الشخص الذي تنتقل الحركة من خلاله إلي الآخرين _ يصبح محركا ساكنا حقيقيا ملموسا، في وظيفته المرتبطة بالقطب الذي يدور حوله جميع المريدين علي المستوي الروحي.

وختاما من الهام أن نورد مقطعا من مواعظ القديس برناردو الذي يبدو كأنه يلخص من زاوية معينة بعض الموضوعات التي عرضنا لها في هذه الدراسة:

لقد تأكد علي هذا أنه بسبب الخطيئة الأولي، قبل ظهور المسيح كان الجميع قد هبط إلي الجحيم. ولكن بنفس الطريقة، وبصدق مماثل، يمكن أن نقول أنه سواء قبل ظهوره أو بعد فليس هناك إنسان لم يهبط إلي الجحيم قبل أن يصعد إلي السماء. والحقيقة أن هناك ثلاث صور من الجحيم. الأول هو جحيم الهلاك حيث توجد دودة لا تموت أبدا ونار لا تطفأ أبدا: في هذا الجحيم لا يوجد أي خلاص. والثاني هو جحيم الاستغفار المخصص للأرواح التي يجب أن تتطهر بعد الموت. والثالث هو جحيم الابتلاء، أي الفقر الاختياري، والذي نتخلي فيه عن الدنيا فنصيب أرواحنا بالابتلاء حتي تستطيع أن تشفي، وهكذا لا تنتقل من الموت إلي الحساب ولكن من الموت إلي الحياة.. أما من لا يهتم أن يهبط هذا الجحيم وهو في هذه الحياة، فسوف ينزل بالتأكيد في أحد النوعين الآخرين فإما أن يجد خلاصا منه أو لا يجد أي خلاص علي الإطلاق.

 

الهوامش:

1) فيما يتعلق بالمسيحية الأرثوذكسية فإن الفروق مع التراث الشرقي أقل، والصفة الشرقي التي غالبا ما تلتصق بهذا المذهب هي إشارة واضحة علي ذلك، علي الرغم من أن المسألة أكثر تعقيدا وتحتاج إلي دراسة منفصلة.

(2) المقطع الأكثر دلالة في هذا الخصوص، والمحير في وضوحه، هو ذلك المقطع الذي يستشهد فيه الملائكة بالأناجيل والإنيادة في المطهر الأنشودة الثلاثون البيت الحادي والعشرون.

(3) راجع: دراسات حول جوفاني باسكولي ولويجي فاللي الخ، وفيها يتأكد أنه في قصائد شعراء مدرسة الأسلوب الجديد يمكن اكتشاف معني رمزي يتعلق بمسيرة التحقق الروحي (دانتي نفسه في الوليمة يتحدث عن حاسة عليا)، وأن دانتي ربما انضم إلي الطبقة الثالثة من جماعة المعبد (وهم وجه إليهم الإتهام في القضية التي أدت إلي تدمير الطريقة علي يد فيليب الجميل بأنهم أقاموا علاقات مع بعض الأوساط الإسلامية في ذلك العصر)، وأنه ربما كان أيضا من المنضمين إلي الفرانشيسكان، وأن اسم المؤمنين بالحب يرجع تقنيا إلي الطريقة المحددة التي ينتمي إليها. وفي هذه الدراسات يفهم أيضا أن هذه الطرق قد تبنت لغة قريبة جدا من لغة التروبادور البروفنساليين، ولغة الطرق الإسلامية والتي كانت موجودة في بعض أنحاء أوروبا مثل أسبانيا وبروفانس وصقلية في فترة التوسع الكبير للدولة الإسلامية حتي القرن الثاني عشر.

(4) في هذا الشأن يورد أسين بلاثيوس في كتابه تاريخ ونقد مسألة جدلية جملة لأحد دارسي دانتي هو برونو ناردي مأخوذة من مقال له في جورناله دانتيسكو عام 1923 يقول فيها: بعض التأثيرات الثقافية المؤكدة تأكيدا مطلقا لم تكتشف حتي اليوم الطريقة التي تحققت بها.

(5) يورد بوكاتشو في كتابه حياة دانتي علي سبيل المثال في شأن كتاب De monarchia": "هذا الكتاب بعد موت المؤلف بسنوات عديدة أدين بواسطة السيد بليرتراندو كاردينال بوجيتو... والذي جاء بالكتاب علي العلن وقام بإحراقه، وكأنه يحتوي علي زندقة وإلحاد. وحاول جاهدا أن يفعل نفس الشيء مع عظام المؤلف ليجعله في العار من الخالدين ويشوه ذكراه لولا أن تصدي له فارس نبيل فاضل من فلورنسا اسمه بينو ديللا توزا.

(6) في مقدمة كتاب أسين بلاثيوس (في ترجمته الإيطالية) يؤكد المترجمون أن كتاب العالم الأسباني لقي في العالم العربي استقبال المنتصرين: علي سبيل المثال في كتاب أثر الثقافة الإسلامية في الكوميديا الإلهية لدانتي لصلاح فضل، والمنشور في القاهرة عام 1980 حيث يقول المؤلف: دانتي صوفي أصيل، أو علي الأقل صوفي الحديث والسلوك.

(7) في الحقيقة فإن المذاهب الشرقية تختلف في التأثيرات التي يمكن ممارستها علي الشخص الذي يتبع طريقة التحقق الروحي، وبعضها لا ينتقل بالضرورة من خلال حالة إنسانية، ولكن هذا الحديث ينبغي معالجته علي نحو مستقل لتعقده.

(8) الغزالي، رسالة إلي تلميذ ­ Lettera al discepolo - Edizioni Sellerio, Palermo

(9) المطهر 11/10.

(10) المطهر 4/33.

(11) المطهر 12/108

(12) راجع ­Sulam”, I custodi del segreto - Edizioni Luni, Milano

وصف شخصية بيير بيتينايو، الذي يظهر في المطهر 13/128 وأورده سابينيو في تعليقه علي الكوميديا، مهم للغاية في هذا الاتجاه: عاش في سيينا حيث كان يملك دكانا للأمشاط، وكان من أتباع الفرانشيسكان ومات في ديسمبر عام 1289 بشهرة القداسة. وتحكي حكايات كثيرة حول أمانته غير العادية وعن زهده ومعجزاته وتجلياته. وهذا الوصف في الحقيقة مشابه للوصف الذي ينقله التراث الإسلامي عن الملامتية ومن أهمها نذكر ما يرتبط بها من ذكر المهن التي يعملون بها، والمهنة تكون دائما مهنة متواضعة جدا، وربما يكون من المهم تعميق البحث في هذه التشابهات خاصة علي ضوء مقال رينيه جوينون عن التنكر الشعبي في Iniziazione e Realizzazione Spirituale, Edizioni Luni, Milano.

(13) من لا يستقبل بداخله مملكة الرب كطفل لا يدخلها لوقا 18،19، أخفيت كل هذه الأشياء عن العارفين وكشفتها للبسطاء والمساكين متي 11،25 ولوكا 10،21.

(14) فقراء جمع فقير وجاءت منها الكلمة الإيطالية Fachiro، والتي حرف معناها الأصلي مثل كلمات كثيرة منها califfo (أي خليفة النبي) أو sceicco (أو الشيخ وهي في الأصل الرجل المسن ولكنها أصبحت تطلق علي المعلم الروحي) وهو إرث لمعرفة إجمالية وجمالية من العالم الإسلامي.

(15) راجع مقال الفقر لرينيه جوينون في Considerazioni sull_esoterismo islamico e il Taoismo, Edizioni Adelphi, Milano

(16) الفردوس 12/13­42

(17) الفردوس 18/52­54

(18) الفردوس 22/25­27

(19) الفردوس 22/40­45

(20) المطهر 13/76­78

(21) المطهر 18/7­9

(22) في الأنشودة التالية تشرح بياتريتشه لدانتي أن الطوباويين جميعا لديهم هذه السلطة.

(23) صورة يعرض أسين بلاثيوس مثيلا لها أسبق في مقطع من الحكاية الشهيرة التي ينقلها التراث الإسلامي للمعراج أو الرحلة الليلية للنبي محمد بإرشاد من الملاك جبريل من جهنم وحتي التأمل المباشر في الله والتي يؤكد أنها أوحت بجزء كبير من الكوميديا (راجع دانتي والإسلام Dante e l_Islam, Edizioni Est, Milano, pag. 71)

(24) من التفاصيل التي تجعلنا نعتقد أن تطابق هذه المرأة مع بياتريتشه لم يكن بعيدا جدا عن الحقيقة.

(25) الرجال أصحاب المتعة الذين يسكنون العالم يجدون هنا جحيمهم حتي وإن لم يدركوا هذا لأنهم ينامون سكاري كما هم بهذه الخمر التي هي الحب المميت للعالم؟. سان برناردو Sermoni Vari _ Opere di San Bernardo, IV, Edizioni Cittˆ Nuova.

(26) الفردوس 3/85­87

(27) الفردوس 2/41­42

(28) المطهر 17/ 109­110

(29) في هذه الدراسة تم تجاهل جميع المراجع الميتافيزيقية الخالصة التي تفيض بها الكوميديا والتي لها تشابهات قوية مع الميتافيزيقا الإسلامية نظرا لعمق وتعقد المقارنة التي يجب عقدها.

(30) سان برناردو San Bernardo, Sermoni Vari _ Opere di San Bernardo, IV, Edizioni Cittˆ Nuova.

(31) راجع مارتين لنجس Cfr. Martin Lings, Un santo sufi del XX secolo, Edizioni Mediterranee, Roma.

(32) الشيخ أحمد العلاوي، ديوان.

(33) تعود الترجمة الأولي نثرا للكوميديا إلي اللغة العربية لأعوام الثلاثينيات أثناء الاحتلال الإيطالي لليبيا ولكنها لم تنتشر انتشارا كبيرا علي اعتبار أنها كانت عملا رمزيا من الحكومة الإيطالية، بينما ظهرت أول ترجمة حقيقية، شعرا هذه المرة، مؤخرا في العالم العربي.

(34) مقدمة للمذاهب المبهمة في الإسلام، Introduzione alle dottrine esoteriche dell_Islam, Edizioni Mediterranee, Roma.

(35) الفردوس، 18/41­42، وPaleo هي لعبة من الخشب أو الحديد دوارة للأطفال وتطلق ثم تضرب بالسوط حتي تدور.

(36) الفردوس، 21/80­81، تدور بعد ذلك حول مركزها.

(37) الفردوس، 22/99، حيث تعني الزوبعة بوضوح الحركة الدوارة.

(38) الفردوس، 24/10­11، دارت ككرات حول مركزها نفسه.

(39) ترجم جزء منها إلي الإيطالية في Il canto dello spirito, Edizioni Mimesis, Milano.

(40) في تفسير هذا المقطع يميل المعلقون إلي إعطاء عظمة روحية أكبر حسب زيادة سرعة الروح، حتي وإن كان دانتي لا يؤكد ذلك صراحة، ولكن يبدو أن المقارنة مع التروس قد تجعلنا نفكر في العكس، آخذين في الاعتبار بالإضافة إلي هذا أن دانتي عندما يصف الدوائر الملائكية _ في الأنشودة الثامنة والعشرين من الفردوس _ يؤكد أن الدائرة القريبة من الله هي تلك التي تدور أسرع حوله، ولكنه يقول أيضا إن هذا يحدث في هذه الحالة فقط، بينما في السماوات (ومن ثم علي الأرض أيضا) يحدث العكس تماما، ومن ثم فإن الأرواح القريبة من الله هي التي تتحرك ببطء أكثر. 

أضيفت في 07/06/2006/ خاص القصة السورية / من مصادر مختلفة / أنظر (شخصيات صوفية)

 

 

شيء من النقد الجديد للشعر الصوفي

 

بقلم الكاتب: د. عبد الله أبو هيف

 

شاع في ربع القرن الأخير درس الأدب العربي القديم بنهاجيات حديثة، بتأثير المثاقفة، بالدرجة الأولى، وامتد هذا الدرس إلى أكثر المبدعات العربية القديمة أصالة، أعني به فن الشعر، وكان هذا واضحاً، على درجات، في تكييف المناهج الحديثة لدراسة الشعر العربي القديم، في أعمال باحثين علميين ونقاد أمثال كمال أبو ديب ووهب رومية وفهد عكام ويوسف اليوسف والطاهر لبيب وعبد السلام المسدي وريتا عوض وسعيد السريحي، فاستخدم علم النفس والبنيوية واللسانية والأساطيرية والشعيرة والسيميائية على نطاق واسع أو ضيق في تحليل الشعر العربي القديم. وكانت بدأت هذه المحاولات على استحياء، لدى رواد الشعر العربي الحديث، أمثال أدونيس وصلاح عبد الصبور، الأول في مختاراته وفي أبحاثه اللاحقة، والثاني في كتابه ذي العنوان الدال "قراءة جديدة لشعرنا القديم" (1968). غير أن الملاحظة الأبرز على هذه الحال الرائجة اليوم في وفرة الدراسات هي مقايسة مدى التعسف في إخضاع الشعر العربي القديم لأدوات وتقانات المناهج النقدية الحديثة، دخولاً في نظرية نقدية عربية تتأصل في الثقافة العربية الحديثة، بما هي دوران مع تقاليد هذه المبدعات، فلا تنتهكها، بل تكشف عن ثرائها وكينونتها وصيرورتها وطوابعها الخاصة والباقية. ولا أريد في هذه المقالة أن أناقش هذه الجهود الكبيرة والنبيلة، لأنه يحتاج إلى بحث طويل، ولكنني ألمحت إلى هذا الدأب لمناسبة قراءتي لكتابين يندرجان في هذا الاشتغال النقدي على القراءة الجديدة لشعرنا العربي القديم، والكتابان لوفيق سليطين، الأول هو "الشعر الصوفي بين مفهومي الانفصال والتوحد، (وقد قدم له نصر حامد أبو زيد- القاهرة 1994) والثاني هو "الزمن الأبدي- الشعر الصوفي: الزمان، الفضاء، الرؤيا" (دار نون- اللاذقية 1997).

 

ولعل الملاحظة الأولى على شغل وفيق سليطين هو أنه وسع مجال قراءة الشعر القديم بالمناهج النقدية الحديثة إلى نصوص شعرية هي الأكثر التباساً، والأكثر تعبيراً عن خصوصية الثقافة العربية القديمة، والأكثر اندغاماً في تقاليد الشعر العربي القديم، وهو الشعر الصوفي، لاتصاله الحميمي، ربما أكثر من بقية أنواع الشعر الأخرى، باللغة العربية، وبالدين الإسلامي، وبأنساق الثقافة العربية الداخلية، طريقة الكتابة، وطريقة التفكير الأدبي بعد ذلك، ناهيك عن أن الشعر الصوفي عصي على المنطق، لأنه يشكل معرفة خاصة به.

 

ولقد توسل وفيق سليطين، وهو شاعر بارز في جيله، إلى دراسة الشعر الصوفي بأدوات منهج حديث، هو البنيوية التكوينية، مستعيناً ببعض كتابات لوسيان غولدمان، مع العلم أن الأخير ومنهجه عصي أيضاً على درس الشعر، لأن إنجازات هذا المنهج الهامة اتجهت إلى نقد السرد والدراما بالدرجة الأولى، ومكمن الإشكالية هي أن هذا المنهج، كما تنبه له سليطين بالذات، لا يكتفي بالدراسة النصية: "يجد مرتكزه في النص، ويعمل على اكتشافه من الداخل، فينفذ إلى علاقات الباطنية المتأتية من ترابط الوحدات اللغوية المكونة له" (ص16 الشعر الصوفي). بل يتجاوز ذلك إلى "رؤيته في سياقه الاجتماعي والتاريخي" (ص16 نفسه).

 

وثمة ملاحظة متصلة بسابقتها هي أن علاقات النص الباطنية لا تتأتى من ترابط الوحدات اللغوية المكونة له فحسب، بل تتعداها إلى اكتشاف مكانة الوحدات اللغوية بشبكة العلاقات الأخرى المكونة لبنيته. وكان أشار نصر حامد أبو زيد إلى محذور تبسيط استعمال هذا المنهج، حيث الوقوع في ميكانيكية تستسهل فهم الفكري والشعري في الشعر الصوفي، وفي الاضطراب المخل برؤية جمالية الشعر الصوفي في فضائها الفكري، كما في قوله: "إن انحياز الباحث في الشعر المعبر عن مفهوم التوحد، على حساب الشعر المعبر عن مفهوم الانفصال نابع من تلك القسمة الثنائية من جهة، ويؤكد سيطرة النزعة الفكرية على الحاسة النقدية عنده من جهة أخرى" (ص8 الشعر الصوفي).

 

وقد اعترف سليطين نفسه بخطر هذا المحذور في مقدمته لكتابه الثاني "الزمن الأبدي"، ووجه نقداً لشغله النقدي، متفقاً مع ملاحظات نصر حامد أبو زيد، فأقر سليطين بالملاحظات والمآخذ بقوله: "لعل في المقدمة منها ما قام به من رصد المراجع والانطلاق إلى التفتيش عنها في بنية النصوص، وهو ما قاد إلى ضرب من التكلف والتعمل، وأوقع في شيء من الاضطراب هنا وهناك، وانتهى إلى ما يشبه النزعة الجبرية في الربط بين الشعري والفكري والاجتماعي" (ص10 الزمن الأبدي).

 

والملاحظة الثانية على شغل وفيق سليطين هي أن نقده وتحاليله للشعر الصوفي وفق المنهج الذي اختاره لا يوافي طبيعة الشعر الصوفي وخصائصه، مما خرج بهذا النقد وبهذا التحليل إلى مزيج من النقد اللغوي الجديد في مياسمه اللسانية، والنقد الدلالي، ولنأخذ على سبيل المثال تحليله لجانب من قصيدة ابن سوار:

يا ناق ما دون الأثيل معرس

 جدي فصيحك قد بدأ يتنفس

واستصحبي عزماً يبلغك الحمى

 لتظل تغبطك الجواري الكنس…… الخ

وقد احتل التحليل أكثر من صفحتين (ص57-58-59)، ونقتطف منه هذا الشاهد للتعرف على طريقته في النقد والتحليل:

 

"من الملاحظ أن النداء الذي كان موجهاً إلى الحادي سائق الظعن في النص السابق يغدو موجهاً، هنا، ليس إلى النوق "المطايا". ولما كان العنصران متلازمين داخل وضعية العتبة، اقتضى أن يستحضر أحدهما الآخر، فالمطايا، من حيث هي وسيط، تتحرك لبلوغ وضع أرقى يتحدد بـ"الأثيل"، حيث يمكن للسالك أن يلقي عصاه ويعرس. فالأثيل، بهذا المعنى، يشكل معلماً فارقاً ومركزاً حقيقياً ونقطة انعطاف. وإذا كان النداء يحدد هدف الرحلة ويعينه، ويشير إليه، فيواجه بذلك دلالات البلى التي يبعثها الفقر، من الناحية الأخرى، حافزاً لحركة المطايا يمدها بالطاقة، ويحملها على مواصلة المسير، إذ يلوح لها بقرب الهدف ودنو الغاية، فإن هذا الفعل، من حيث هو مواجهة وتحفيز، يعمقه النص بآلية المشابهة والتضاد التي تحكم العلاقة بين محوريه الأساسيين" (ص57 الزمن الأبدي).

 

من الواضح، أن نقد سليطين وتحليله لا يندرج في المنهج البنيوي- التكويني، وإنما يقارب طرائق النقد اللغوي الجديد ممتزجاً بالنقد الدلالي الذي يعتمد على اللغة، ومن أبرز ممارسي هذا النقد للشعر العربي القديم وهب رومية في كتابيه "الرحلة في القصيدة الجاهلية" (1975) و"قصيدة المدح حتى نهاية العصر الأموي بين الأصول والإحياء والتجديد" (1981)، لأننا نعثر بصعوبة في نقد سليطين على الفكري والاجتماعي في صلب تحليله، أو في الأدوات التي يستعملها.

 

لقد حاول سليطين أن يسوغ حدود المنهج الذي استخدمه على أن المرجعية الاعتقادية ما تلبث أن تظهر بشكل تال، أو غير مباشر، أو ضمني، بقوله:

 

"وعلى الرغم من انكباب هذا العمل على معالجة النصوص وتحليلها وتبين دلالاتها- وهو ما يجري من خلال إنشاء البرهان على اشتراكها معاً في الخصائص والمكونات- فإنه لم يخل، ضمنياً، من التأسيس لسؤال القيمة، ومن إشعار هذه النصوص، وبحث خصوصيتها على نحو معمق، والكشف عما انتهت إليه في ضوء علاقتها بالمرجعية الاعتقادية وأطرها الثابتة" (الزمن الأبدي ص242).

 

لا شك أنني شديد الإعجاب ببراعة سليطين في تحليل النصوص، وبثرائه اللغوي مما يسعفه في مقاربة رؤاه الفكرية والجمالية، ولكنني أعتقد في الوقت نفسه أن تأطير سليطين لشغله النقدي بالمنهج الذي سماه، هو نوع من التعسف أصاب الشعر الصوفي بقيود، وهو الشعر الذي يتحرك في حرية مطلقة. ولا أبالغ إذا قلت: إن شغل سليطين النقدي والتحليلي أرحب من حدود المنهج الذي اختاره. ثم إنني لا أعتقد أن المناهج المجتلبة تنفع تماماً في درس أدبنا القديم، ولا سيما الشعر، والشعر الصوفي على وجه الخصوص. إن مثل هذه المغامرة تتطلب تراكماً معرفياً ومنهجياً ونقدياً يفضي إلى نظرية نقدية عربية يثبت اختبارها مع سيرورة الأدب العربي من عصر لعصر. ولهذا السبب لا أحبذ أن يجري الاستشهاد بنص لمرسيا ألياد لتفسير الشعر الصوفي العربي القديم على سبيل المثال. ويقودنا هذا إلى مناقشة المصطلح، فثمة مصطلح صوفي نابع من التجربة العربية، مما لا يخفى على سليطين، وحبذا لو عني سليطين بوضع معجم صغير لمصطلحات بحثه الأساسية والفرعية.

 

خصص سليطين الفصل الثاني للفضاء الصوفي، ولكننا لا نقع على تعريف للمصطلح، وهو متداخل بمصطلح الفضاء في علوم إنسانية وأساسية أخرى، ومتداخل مع ما يحاوره من مصطلحات مثل الكون أو الفسحة وسواهما، وكان بدأ الفصل المذكور بما يفيد أن الفضاء هو الكون بقوله: "انطلاقاً من المستوى التصوري لتجربة التصوف، يلاحظ أن الكون عامة لا ينفصل عن الصوفي، بل هو ذاته وجذره الأنطولوجي، ولذلك فإن علاقته به ما هي إلا علاقته بنفسه وبكونه الخاص" (ص119 الزمن الأبدي).

 

والملاحظة الثالثة تتصل بارتهان سليطين لضغوط المنهج على أدواته في النقد والتحليل، فقد حفل كتابه الثاني "الزمن الأبدي" بالكثير من الخطوط البيانية والدوائر والتقاطعات والمستطيلات والمساحات المظللة أو البيضاء وغير ذلك من الأشكال الشارحة. والسؤال: ماذا لو شطبنا هذه الأشكال من كتابه الثاني، وهي موجودة على نحو أقل في كتابه الأول؟ إنني أجازف وأبادر إلى القول: لن يضير ذلك كتابة سليطين بشيء، بل ربما كسبت أشياء كثيرة حين يغدو النقد أميناً لسبله عن طريق الكلمة. لقد أثقلت هذه الأشكال كتابة سليطين بانقطاعات في تحليله المشرق والواضح والمتألق في غالبية مواقعه ومفاصله. ثمة من يدافع عن مثل هذه الأشكال، باسم المثاقفة، أو باسم المقاربة العملية.. الخ، غير أن هذه الأسباب أو سواها لا تعدو أن تكون ألهية أو تظاهراً علمياً لا طائل وراءه.

 

والملاحظة الرابعة معنية بمصادر الشعر الصوفي ومراجعه، إذ لا يعرض سليطين لها إلا إشارة في متن البحث، بينما يكون ذلك غالباً في مقدمة البحث، حين يمحص الباحث مصادر بحثه، وهذا الأمر مطلوب في حالة الشعر الصوفي، ولا سيما المخطوط منه، وشعر ابن سوار مخطوط على سبيل المثال.

 

ولعل هذه الملاحظة مما تعاني منه دراسات الشعر الصوفي على وجه العموم، فعندما طبع علي صافي حسين كتابه عن "الأدب الصوفي في مصر: ابن الصباغ القوصي- شيخ التصوف المصري في القرن السابع الهجري" (مكتبة الدراسات الأدبية 61- دار المعارف- القاهرة- 1971) لم يشر إلى مصادر ديوان القوصي، وإن كان جمعه من مصادر متعددة.

 

أما المصادر المطبوعة والمراجع باللغة العربية فعناية سليطين بها مما يدعو إلى التقدير، على أني أتساءل أيضاً عن استكمال توثيقه لبعض المراجع، فقد أشار إلى مرجع "شطحات الصوفية" (ص61) دون أن يذكر شيئاً عن مؤلفه أو تدقيق عنوانه، أو مكان طبعه وتاريخه، واكتفى في المتن بما يشير إلى صلة عبد الرحمن بدوي بهذا الكتاب، ولعل سليطين يقصد كتاب "شطحات الصوفية: أبو يزيد البسطامي" لعبد الرحمن بدوي.

 

إن وفيق سليطين أهل للحفاوة التي قوبلت بها أبحاثه في القاهرة، والكتابان بالأصل أطروحتان لنيل شهادتي الماجستير والدكتوراه من جامعة القاهرة، حتى أن عبد المنعم تليمه رئيس قسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة القاهرة قال عن الكتاب الثاني: "أهم رسالة دكتوراه نوقشت بالكلية خلال عام 1995"، غير أنني أجد في كتابي سليطين أكثر من كونهما أطروحتين لنيل شهادتين، فهما بحثان يؤشران إلى ناقد أدبي محلل ذواقة تحتاجه حركة نقد الشعر العربي بالتأكيد، في الوقت الذي يتجه فيه غالبية النقاد المجيدين إلى السرديات. ولعل سليطين، بالكثير المبدع الذي فيه، ينقد المنهج الذي يستخدمه، وكان طوّره في كتابه الثاني، ويؤصل منهجه الدلالي اللغوي في التقليد الثقافي العربي، وفي تدعيم أبحاث الناقد العربي بنظريته الأدبية والنقدية.

أضيفت في 10/06/2006/ خاص القصة السورية / أنظر (شخصيات صوفية)

 

 

الصوفي والفقيه

سلطة التأويل في التاريخ العربي الإسلامي

 

بقلم الكاتب: سعيد جاب الخير *

 

هذا بحث مقدم إلى الملتقى الدولي الرابع "تصوف ثقافة موسيقى" المنعقد في الجزائر العاصمة من 09 إلى 11 سبتمبر 2007

 

 

مقدمة عامة للبحث:

ثبت من خلال الدراسات الأصولية الإسلامية أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مجتهدا في بعض جوانب النصوص التي كانت توحى إليه، كما حدث في قبوله الفداء في أسرى بدر بعد استشارته لأبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما. كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في أكثر من مناسبة أنه اجتهد رأيه في بعض المسائل الدنياوية أيضا وأخطأ فيها، كما حدث في قضية تأبير النخل التي لم تؤبر بتوجيه منه. فما جاء التمر شيصا تلك السنة قال لهم :

"أنتم أعلم بشؤون دنياكم" أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

وفي مناسبة أخرى قال :

"ما قلت لكم قال الله فلن أكذب على الله وما قلت لكم من نفسي فإنما أنا بشر" أو كما قال.

وقد كان الصحابة يجتهدون  في حياته صلى الله عليه وسلم ويقرهم على ذلك. وقد حدث ذلك في أكثر من مناسبة كما في قضية صلاة العصر في المسير إلى بني قريظة حيث قال لهم صلى الله عليه وسلم :

"لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة"

فتأول كل واحد النص بشكل مختلف.

وإذا كان (التأويل) مشروعا بل ومرتبطا بالنص ارتباطا عضويا على أساس أن النص لا ينطق بنفسه وأنه لا بد له من عقل بنطق من خلاله، فإننا نطرح الإشكالية التالية :

إلى أي حد يمكن القول إن آليات (التأويل) تم توظيفها تاريخيا من طرف مختلف الأجهزة السلطوية الحاكمة من أجل إقصاء كل من له علاقة بالمعارضة الأيديولوجية أو السياسية للسلطة القائمة سواء تعلق الأمر بالمعتزلة أو الصوفية أو الفلاسفة أو غيرهم ؟

وإلى أي مدى يمكن القول إن الآلة الفقهية أو السلطة التأويلية للفقية (التأويل المضاد كمقابل للتأويل المعارض) أو بتعبير آخر : التحالف بين الفقيه والسلطة، كل ذلك أسهم في تكريس القطيعة بين السلطة وبين المعارضة في جميع أشكالها من جهة، وبين الصوفي و الفقيه من جهة أخرى ؟

 

العلاقة التاريخية بين الفقيه والسلطة:

ينطلق مضمون التحالف التاريخي "المقدس" في التاريخ العربي الإسلامي بين الفقيه التقليدي أو "الأورثوذكسي" بتعبير محمد أركون، وبين السلطة التاريخية الحاكمة بمختلف الأنظمة الخلافوية (من الخلافة) التي مثلتها، من الحادثة التي اصطلح المشتركون فيها على تسميتها بـ(عام الجماعة) وهي سنة 40 أربعين للهجرة التي تنازل فيها الحسن بن علي بن أبي طالب إلى معاية بن أبي سفيان عن الحكم. وانطلاقا من هذه الحادثة انقسمت الأمة الموحدة قبل ذلك سياسيا، إلى فريقين كبيرين : الفريق الأول أموي الاتجاه أو موال للحكم الأموي ومن جاء بعده من أنظمة حكمت باسم "السنة والجماعة" من بعده (الموالاة)، والفريق الثاني معارض للحكم الأموي ولمن جاء بعده من أنظمة.

ومنذ عام الجماعة، اختار الفقيه التقليدي "الأورثوذكسي" الذي ينتمي غالبا إلى "السنة والجماعة" أن يكون في صف السلطة وأن يدعمها ويبرر وجودها واستمرارها مهما كان الثمن. بل إنه من خلال الحركة المعرفية للفقيه التقليدي، أصبح الخطاب الفقهي يمثل البنية الفوقية للنظام الحاكم أو لنقل إنه أصبح يمثل الأيديولوجيا السائدة التي يفرضها الحاكم على الناس بقوة القمع والإكراه. ولمعرفة تفاصيل هذه المرحلة من وجهة نظر علمية تاريخية محايدة وعميقة، يمكن الرجوع إلى الدراسة القيمة التي كتبها أبو الأعلى المودودي بعنوان "الخلافة والملك".

في تلك المرحلة والمراحل التاريخية التي تلتها وقف الصوفية دائما موقف المعارضة، حيث إنهم كانوا يحرمون تحريما قاطعا غشيان السلطان أو مخالطته أو حتى إتيان بابه أو المرور من أمامها حيث كان ذلك عندهم مثار شبهة كبيرة يعرض المريد للطرد من حضرتهم. وعن ذلك يقول العلامة الشيخ محمد عبده :

  

"قد اشتبه على بعض الباحثين في تاريخ الإسلام وما حدث فيه من البدع والعادات التي شوهت جماله، السبب في سقوط المسلمين في الجهل، فظنوا أن التصوف من أقوى الأسباب لوقوع المسلمين في الجهل بدينهم وبعدهم عن التوحيد الخالص الذي هو أس النجاة ومدار صحة الأعمال. وليس الأمر كما ظنوا، فنذكر لك الغرض منه على وجه الإجمال وما آل إليه أمره بعد ذلك. ظهر التصوف في القرون الأولى للإسلام فكان له شأن عظيم. وكان المقصود منه في أول الأمر تقويم الأخلاق وتهذيب النفوس وترويضها بأعمال الدين وجذبها إليه، وجعله وجدانا لها، وتعريفها بحكمه وأسراره بالتدريج. وكان الفقهاء الذين وقفوا عند ظواهر الأحكام المتعلقة بأعمال الجوارح والمعاملات، ينكرون عليهم (أي على الصوفية) معرفة أسرار الدين، ويرمونهم بالزيغ والإلحاد. وكانت السلطة للفقهاء لحاجة الأمراء والسلاطين إليهم، فاضطر الصوفية إلى إخفاء أمرهم (لأنهم كانوا في المعارضة) ووضع الرموز والاصطلاحات الخاصة بهم، وعدم قبول أحد معهم إلا بشروط واختبار طويل، فقالوا : لا بد فيمن يحب أن يكون معنا، أن يكون أولا طالبا فمريدا فسالكا. وبعد السلوك إما أن يصل وإما أن ينقطع. فكانوا يختبرون أخلاق الطالب وأطواره زمنا طويلا ليعلموا أنه صحيح الإرادة صادق العزيمة، لا يقصد مجرد الوقوف على أسرارهم. وبعد الثقة يأخذونه بالتدريج شيئا فشيئا". (1)

 

العلاقة التاريخية بين التأويل والمعارضة في الإسلام المبكر:

 

المعنى اللغوي للتأويل: 

في الجانب اللغوي لمعنى (التأويل) يقول الزمخشري في "أساس البلاغة" (كتاب الهمزة) في مادة

(أ و ل) :

 

"آل الرعية يؤولها إيالة حسنة وهو حسن الإيالة، أي ساسها وحكمها.

ويقال أول الحكم إلى أهله : رده إليهم.

وفي الدعاء للمضل : أول الله عليك أي رد عليك ضالتك.

وخرج في أوائل الليل وأولياته.

ومن المجاز : فلان يؤول إلى كرم، ومالك تؤول إلى كتفيك : إذا انضم إليهما واجتمع.

وتقول : لا تعول على الحسب تعويلا، فتقوى الله أحسن تأويلا أي عاقبة.

وتأملته فتأولت فيه الخير : أي توسمته وتحريته". (2)

 

وجاء في "القاموس المحيط"  للفيروزابادي (حرف الراء، فصل الظاء) :

 

"الظَّهْرُ‏ :‏ خِلافُ البَطْنِ..

والظهرُ لَفْظُ القُرْآنِ، والبَطْنُ تأويلُه".

 

وقال في (حرف اللام، فصل الهمزة) :

 

"آلَ إليه أوْلاً ومَآلاً‏:‏ رَجَعَ.

وآل عنه‏:‏ ارْتَدّ..َ

وآل المَلِكُ رَعِيَّتَهُ إيالاً‏:‏ ساسَهُمْ.

وآل على القومِ أوْلاً وإِيالاً وإيالَةً‏:‏ ولِيَ.

وآل المالَ‏ وائتاله :‏ أصْلَحَهُ وساسَهُ

وأوَّلَهُ إليه‏:‏ رَجَعَهُ‏.‏

 

وأوَّلَ الكَلامَ تَأْويلاً، وتَأَوَّلَه‏ :‏ دَبَّرَهُ وقَدَّرَهُ وفَسَّرَهُ‏.

والتأويلُ‏:‏ عبارَةُ الرُّؤْيا.‏

والآلُ‏:‏ خاصٌّ بما في أَوَّلِ النَّهارِ، وعَمَدُ الخَيْمَةِ.

والآل : أهْلُ الرجُلِ، وأتْباعُهُ وأوْلِياؤُه، ولا يُسْتَعْمَلُ إلا فيما فيه شَرَفٌ غالِباً، فلا يقالُ‏:‏ آلُ الإِسْكافِ كما يقالُ‏:‏ أهلُهُ.‏

وأوِلَ، كفرِحَ‏ :‏ سَبَقَ‏. (3)‏

 

ومن مجموع ما ورد في كلام الزمخشري والقيروزابادي يتضح أن الفعل (أول يؤول تأويلا) ومفردة (التأويل) وهي المصدر، تتضمن المعاني التالية :

السيادة

الحكمة

الرجوع إلى الأصل الأول أو الأصول الأولى

الرجوع إلى البدايات

ما تصير إليه الأمور أو عواقب الأمور أو نهاياتها

الولاية

الإصلاح

التدقيق

التدبر أو التدبير

التقدير

التفسير.

كما يتضح أن (التأويل) هو (باطن) النص، وأن (التأويل) هو عماد النص وروحه وجوهره الأساس أو هو (حقيقة) النص.

 

وليتضح أكثر كيف أن ثنائية السلطة/ الفقيه يشوبها الكثير من الارتباك حتى لا نقول التلاعب، في التحريك الفقهي لمفردة (التأويل) نتابع مع ابن قدامة المقدسي في "المغني" :

 

"قال مهنا‏ :‏ سألت أحمد‏ عن رجل له امرأتان اسم كل واحدة منهما فاطمة فماتت واحدة منهما‏، فحلف بطلاق فاطمة ونوى التي ماتت‏ ؟‏ 

قال‏ :‏ إن كان المستحلف له ظالما فالنية نية صاحب الطلاق‏، وإن كان المطلق هو الظالم فالنية نية الذي استحلف.

وقد روى أبو داود بإسناده عن سويد بن حنظلة‏ قال‏ :‏ خرجنا نريد رسول الله  صلى الله عليه وسلم ومعنا وائل بن حجر فأخذه عدو له فتحرج القوم أن يحلفوا‏، فحلفت أنه أخي فخلي سبيله فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال ‏:‏ ‏"أنت أبرهم وأصدقهم‏، المسلم أخو المسلم"‏.

وقال النبي  صلى الله عليه وسلم  ‏: "إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب‏".

يعني سعة المعاريض التي يوهم بها السامع غير ما عناه. قال محمد بن سيرين ‏:‏ الكلام أوسع من أن يكذب ظريف. يعني لا يحتاج أن يكذب لكثرة المعاريض، وخص الظريف بذلك يعني به الكيس الفطن فإنه يفطن للتأويل.

‏وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم  يمزح ولا يقول إلا حقا ومزاحه أن يوهم السامع بكلامه غير ما عناه‏، وهو التأويل فقال لعجوز‏ :‏ ‏"لا تدخل الجنة عجوز‏" يعني أن الله ينشئهن أبكارا عربا أترابا. وقال أنس ‏:‏ "إن رجلا جاء الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ‏:‏ يا رسول الله احملني.

فقال رسول الله‏:‏ ‏إنا حاملوك على ولد الناقة.

قال ‏:‏ وما أصنع بولد الناقة‏؟‏

قال ‏:‏ وهل تلد الإبل إلا النوق‏؟‏‏" رواه ابو داود.

وقال لامراة وقد ذكرت له زوجها‏ :‏ أهو الذي في عينه بياض ؟

فقالت‏ :‏ يا رسول الله‏، إنه لصحيح العين.

وأراد النبي صلى الله عليه وسلم البياض الذي حول الحدق.

وقال لرجل احتضنه من ورائه ‏:‏ ‏"من يشتري هذا العبد‏؟‏

فقال‏ :‏ يا رسول الله تجدني إذا كاسدا.

قال‏ :‏ لكنك عند الله لست بكاسد‏".

وهذا كله من التأويل والمعاريض وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم  حقا‏، فقال ‏"لا أقول إلا حقا‏"‏ وروي عن شُريح أنه خرج من عند زياد وقد حضره الموت‏، فقيل له‏ :‏ كيف تركت الأمير‏؟‏

قال‏ :‏ تركته يأمر وينهى. فلما مات قيل له : كيف قلت ذلك‏؟‏ قال‏ :‏ تركته يأمر بالصبر وينهى عن البكاء والجزع.

ويروى عن شقيق أن رجلا خطب امراة‏ وتحته (أي في ذمته)أخرى فقالوا‏ :‏ لا نزوجك حتى تطلق امرأتك.

فقال‏:‏ اشهدوا أني قد طلقت ثلاثا.

فزوجوه فأقام على امرأته‏ فقالوا‏ :‏ قد طلقت ثلاثا.

قال‏:‏ ألم تعلموا أنه كان لي ثلاث نسوة فطلقتهن ؟

قالوا‏ :‏ بلى.

قال : قد طلقت ثلاثا.

فقالوا‏ :‏ ما هذا أردنا.

فذكر ذلك شقيق لعثمان فجعلها نيته.

وروي عن الشعبي أنه كان في مجلس فنظر إليه رجل ظن أنه طلب منه التعريف به والثناء عليه‏، فقال الشعبي‏ :‏ إن له بيتا وشرفا.

فقيل للشعبي بعد ما ذهب الرجل‏ :‏ تعرفه‏ ؟‏

قال ‏:‏ لا ولكنه نظر إلي.

قيل‏ :‏ فكيف أثنيت عليه ‏؟‏

قال‏ :‏ شرفه أذناه وبيته الذي يسكنه.

وروي أن رجلا أخذ على شراب‏، فقيل له‏ :‏ من أنت ‏؟‏

فقال :‏

 

أنا ابن الذي لا ينزل الدهر قدره 

وإن نزلت يوما فسوف تعود

ترى الناس أفواجا على باب داره

فمنهم قيام حولها وقـعود

 

فظنوه شريفا فخلوا سبيله فسألوا عنه‏ فإذا هو ابن الباقلاني.

وأخذ الخوارج رافضيا فقالوا له ‏:‏ تبرأ من عثمان وعلي.

فقال‏ :‏ أنا من علي ومن عثمان بريء.

فهذا وشبهه هو التأويل الذي لا يعذر به الظالم‏،‏ ويسُوغ لغيره مظلوما كان أو غير مظلوم لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك في المزاح من غير حاجة به اليه"‏. (4)

 

العلاقة بين التأويل والمعارضة في الإسلام المبكر:

عندما ندرس المعنى الأصلي لمصطلح (التأويل) في الكلام العربي اليومي، نجد أنه كان في الصدر الأول للإسلام أو في مرحلة الإسلام المبكر، يعني (التفسير) بما يقابل (باطن) النص لا ظاهره.. لأن ظاهره هو (التنزيل) أي النص كما ينزل بحرفيته قبل (تأويله) أي إرجاعه إلى أوليته أو بداياته أو معناه الباطني أو الأصلي.. وورد لفظ (التأويل) في القرآن الكريم في قوله تعالى من سورة يوسف :

"هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا".

وقوله تعالى عن القرآن الحكيم من سورة آل عمران :

"وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا".

على اختلاف في الوقف على "الراسخون في العلم" أو "إلا الله".

وسنرى فيما بعد كيف ارتبط مفهوم (أهل التأويل) بالمعارضين للسلطة المركزية (سواء في العهد الأموي أو العباسي) مثل المعتزلة والصوفية والفلاسفة والشيعة وغيرهم. ويبدو من الروايات التاريخية أن سلطة (التأويل) من خلال آلية الاجتهاد والفتوى، تركز منذ عهد مبكر بين أيدي الخلفاء والسلاطين. فقد روى عبد الرزاق في الجامع والدينوري في المجالسة وابن عبد البر في العلم وابن عساكر :   

"عن ابن سيرين أن عمر قال لأبي موسى ‏:‏ أما بلغني أنك تفتي الناس ولست بأمير‏؟‏

قال‏:‏ بلى

قال‏:‏ فول حارها ‏من تولى قارها". (أي اترك الأمر لأهله)‏

كنز العمال برقم : 29505.  (5 )‏

 

وروى ابن عساكر عن حذيفة قال :‏ "إنما يفتي أحد ثلاثة‏ :‏ من عرف الناسخ والمنسوخ أو رجل ولي سلطانا فلا يجد من ذلك بدا، أو متكلف‏".‏

كنز العمال برقم : 29526.

000000000000000

السابق.

000000000000000

 

وفي سياق الحديث عن المعنى الأصلي لكلمة (التأويل) يمكن أن نذكر الحادثة التالية التي يرويها ابن الأثير الجزري في كتابه "أسد الغابة في معرفة الصحابة" في (حرف القاف، ترجمة  قدامة بن مظعون وهو أحد البدريين) حيث يقول :

 

"واستعمل عمر بن الخطاب قدامة بن مظعون على البحرين، فقدم الجارود العبدي من البحرين على عمر بن الخطاب فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين، إن قدامة شرب فسكر، وإني رأيت حداً من حدود الله حقاً علي أن أرفعه إليك‏.‏

قال عمر‏:‏ من شهد معك

قال‏:‏ أبو هريرة‏.‏ فدعا أبا هريرة فقال‏:‏ بم تشهد؟

فقال‏:‏ لم أره يشرب، ولكني رأيته سكران يقيء‏.‏

فقال عمر‏:‏ لقد تنطعت في الشهادة‏.‏ ثم كتب إلى قدامة أن يقدم عليه من البحرين‏.‏ فقدم، فقال الجارود لعمر‏:‏ أقم على هذا كتاب الله‏.‏

فقال عمر‏:‏ أخصم أنت أم شهيد؟ فقال‏:‏ شهيد‏.‏

قال‏:‏ قد أديت شهادتك‏.

فسكت الجارود، ثم غدا على عمر فقال‏:‏ أقم على هذا حد الله عز وجل‏.‏

فقال عمر‏:‏ لتمسكن لسانك أو لأسوءنك‏.‏

فقال‏:‏ يا عمر‏:‏ والله ما ذلك بالحق، يشرب ابن عمك الخمر وتسوءني‏.‏

فقال‏ أبو هريرة‏:‏ إن كنت تشك في شهادتنا، فأرسل إلى ابنة الوليد- امرأة قدامة- فسلها‏.‏

فأرسل عمر إلى هند بنت الوليد ينشدها، فأقامت الشهادة على زوجها.

فقال عمر لقدامة‏:‏ إني حادك‏. (أي مقيم عليك الحد)‏

قال :‏ لو شربت، كما يقولون، ما كان لكم أن تحدوني.

فقال عمر‏: لم؟

قال قدامة‏ :‏ قال الله عز وجل‏ :‏ ‏"‏ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات‏"‏.

فقال عمر‏:‏ أخطات التأويل، لو اتقيت الله اجتنبت ما حرم الله.

ثم أقبل عمر على الناس فقال‏ :‏ ما ترون في حد قدامة ؟

فقال القوم‏ :‏ لا نرى أن تجلده ما كان مريضاً.

فسكت على ذلك أياماً ثم أصبح يوماً- وقد عزم على جلده- فقال لأصحابه : ما ترون في جلد قدامة؟ فقالوا : لا نرى أن تجلده ما كان مريضاً.

فقال عمر‏:‏ لأن يلقى الله تحت السياط أحب إليّ من أن ألقاه وهو في عنقي، ائتوني بسوط تام‏.‏

فأمر عمر بقدامة فجلد، فغاضب عمر وهجره. فحج عمر وقدامة معه مغاضباً له، فلما قفلا من حجهما ونزل عمر بالسقيا نام، فلما استيقظ من نومه قال‏ :‏ عجلوا علي بقدامة، فوالله لقد أتاني آت في منامي فقال‏ :‏ سالم قدامة، فإنه أخوك، فعجلوا علي به‏.‏ فلما أتوه أبى أن يأتي، فأمر به عمر إن أبى أن يجروه إليه. فكلمه عمر واستغفر له، فكان ذلك أول صلحهما‏.‏

روى ابن جريج، عن أيوب السختياني قال‏ :‏ لم يحد أحدٌ من أهل بدر في الخمر إلا قدامة بن مظعون".

 

والشاهد في هذا الأثر قول عمر بن الخطاب لقدامة "أخطأت التأويل" أي أخطأت فهم وقراءة النص القرآني. والقصة نفسها يذكرها ابن حجر أيضا في كتابه "الإصابة في تمييز الصحابة" وابن عبد البر في كتابه "الاستيعاب في تمييز الأصحاب".  (6)

 

القصة نفسها يذكرها ابن قدامة المقدسي الحنبلي في "المغني" (كتاب الأشربة) بتفاصيل مهمة تدل على أن حالة قدامة بن مظعون لم تكن تمثل حالة منعزلة بين الصحابة :

 

"حكي عن قدامة بن مظعون وعمرو بن معد يكرب وأبي جندل بن سهيل‏، أنهم قالوا‏ :‏

هي (أي الخمر) حلال لقول الله تعالى ‏:‏ ‏"‏ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا‏"‏ الآية. فبين لهم علماء الصحابة معنى هذه الآية وتحريم الخمر، وأقاموا عليهم الحد لشربهم إياها‏،‏ فرجعوا إلى ذلك فانعقد الإجماع (لاحظ هذا الإجماع الذي ينعقد شرعا بحد السيف برأي هذا الفقيه الحنبلي) فمن استحلها الآن فقد كذب النبي صلى الله عليه وسلم لأنه قد علم ضرورة من جهة النقل تحريمه‏، فيكفر بذلك ويستتاب فإن تاب‏ وإلا قتل.

روى الجوزجاني بإسناده عن ابن عباس أن قدامة بن مظعون شرب الخمر‏ فقال له عمر‏:‏ ما حملك على ذلك‏ ؟‏

فقال‏ :‏ إن الله عز وجل يقول :‏ ‏"‏ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا‏"‏ وإني من المهاجرين الأولين من أهل بدر وأحد.

فقال عمر للقوم‏ :‏ أجيبوا الرجل.

فسكتوا عنه. فقال لابن عباس :‏ أجبه.

فقال‏ :‏ إنما أنزلها الله تعالى عذرا للماضين لمن شربها قبل أن تحرم وأنزل‏ :‏ ‏"إنما الخمر والميسر والأنصاب‏" حجة على الناس.

ثم سأل عمر عن الحد فيها فقال علي بن أبي طالب‏ :‏ إذا شرب هذى‏ وإذا هذى افترى فاجلدوه ثمانين. فجلده عمر ثمانين جلدة.

وروى الواقدي أن عمر قال له‏ :‏ أخطأت التأويل يا قدامة، إذا اتقيت اجتنبت ما حرم الله عليك.

وروى الخلال بإسناده عن محارب بن دثار‏، أن أناسا شربوا بالشام الخمر فقال لهم يزيد بن أبي سفيان‏ :‏ شربتم الخمر‏؟‏

قالوا‏ :‏ نعم بقول الله تعالى‏ :‏ ‏"‏ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا‏"‏ الآية.

فكتب فيهم إلى عمر بن الخطاب‏، فكتب اليه‏ :‏ إن أتاك كتابي هذا نهارا فلا تنتظر بهم إلى الليل وإن أتاك ليلا‏ فلا تنتظر بهم نهارا حتى تبعث بهم إلي لئلا يفتنوا عباد الله.

فبعث بهم الى عمر‏، فشاور فيهم الناس فقال لعلي‏ :‏ ما ترى‏ ؟‏

فقال‏:‏ أرى أنهم قد شرعوا في دين الله ما لم يأذن الله فيه. فإن زعموا أنها حلال‏ فاقتلهم فقد أحلوا ما حرم الله وإن زعموا أنها حرام‏ فاجلدوهم ثمانين ثمانين فقد افتروا على الله وقد أخبرنا الله عز وجل بحد ما يفترى بعضنا على بعض‏.‏

فحدهم عمر ثمانين ثمانين". (7)

 

ويقول ابن الأثير الجزري أيضا في (حرف العين، ترجمة عبد الله بن عباس بن عبد المطلب) :

"وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة‏:‏ كان ابن عباس قد فات الناس بخصال‏ :‏ بعلم ما سبقه، وفقه فيما احتيج اليه من رايه، وحلم، ونسب، ونائل، وما رايت احداً كان اعلم بما سبقه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، ولا بقضاء ابي بكر وعمر وعثمان منه، ولا افقه في راي منه، ولا اعلم بشعر ولا عربية ولا بتفسير القران، ولا بحساب ولا بفريضة منه، ولا اثقب راياً فيما احتيج اليه منه، ولقد كان يجلس يوماً ولا يذكر فيه الا الفقه، ويوماً التأويل، ويوماً المغازي، ويوماً الشعر، ويوماً ايام العرب، ولا رايت عالماً قط جلس اليه إلا خضع له، وما رايت سائلاً ‏"‏قط‏"‏ ساله غلا وجد عنده علماً"‏.‏

‏والشاهد في قوله "ويوما التأويل" وهذا معناه تحليل وقراءة وفهم معاني النص. أما (التفسير) فقد كان المقصود منه شرح معاني المفردات داخل النص كما سيتضح أكثر فيما بعد. (8)

 

وعن الخليفة عمر بن الخطاب أيضا، يسوق الواقدي في الجزء الثاني من "فتوح الشام" تحت عنوان "فتوح الإيوان ودخول المسلمين في الدجلة وفتوح اسبانير" النص التالي الذي يوجه فيه عمر رضي الله عنه الخطاب للحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء رضي الله عنهم جميعا :

".. ثم إنه (يقصد عمر) نظر الى الأخوين الزاهدين والغصنين النضرين سيدي شباب أهل الجنة وريحانتي نبي هذه الأمة وقال لهما‏ (أي الحسن والحسين) :‏ يا حبيبي ما الذي أخركما ؟ من مثلكما يفتخر؟ وقال‏ :‏ ألستما سبطي الرسول ؟ أليست أمكما فاطمة البتول ؟ أليس أبوكما سيف الله المسلول ؟ أليس في بيتكما نزل التأويل ؟ أليس كان سادسكما تحت العباء ة جبريل ؟ أليس فيكما أنزل الله

الجليل ‏: ما على المحسنين من سبيل ‏(التوبة‏:‏ 91‏)". (9)‏

 

ويبدو من هذه الرواية أن (التأويل) هو نفس (التنزيل) أو هو (حقيقة) التنزيل، لأن الخليفة عمر رضي الله عنه في هذا النص يعوض (التنزيل) بـ(التأويل). ولا يخفى في هذا السياق أن القول بأن (التأويل) نزل، يمنحه طابع القداسة على قدم المساواة مع (التنزيل). كما أن قوله "نزل التأويل" بالتعريف فيه دلالة أيضا على أن (التأويل) في الأصل واحد إذا اعتبرنا أن الألف واللام للعهد كما يقول النحاة. وفي هذه الحالة يكون هذا (التأويل) الأصلي غير معروف لجميع الناس بل لبعضهم فقط.

 

ويروي ابن كثير في تاريخه المسمى "البداية والنهاية" حادثة عبد الله بن رواحة حين دخل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة يوم عمرة القضاء وهو يقول :

"خلوا بني الكفار عن سبيله

اليوم نضربكم على تأويله

كما ضربناكم على تنزيله"

ويتضح هنا جليا كيف أن (التأويل) أي (الباطن) يقابله (التنزيل) أي (الظاهر) في التصور الديني الإسلامي المبكر. أي نضربكم على معناه الباطن الذي تشككتم فيه كما رفضتم الإيمان بقدسية نصه الظاهر. ويعلق ابن كثير على ذلك بقوله :

 

" أي هذا تأويل الرؤيا التي كان رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءت مثل فلق الصبح‏"

ويقصد بالرؤيا طبعا ما ورد في القرآن الكريم من سورة الفتح "لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين مطمئنين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا" (الفتح : 27). (10)

 

ويرى ابن كثير انطباق مفهوم مصطلح (التأويل) في معناه الأصلي على مفهوم مصطلح (التفسير) الذي أصبح شائعا في عصره أي في القرن الثامن ( ت 750 هـ) بعد أن أخذ معنى (التأويل) حيث يسوق رواية البيهقيّ عن ابن عبَّاس "أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وضع يده على كتفي - أو قال‏:‏ منكبي - ثمَّ قال ‏:‏ ‏اللَّهم فقِّهه في الدِّين وعلِّمه التأويل‏.‏

وقد استجاب الله لرسوله صلَّى الله عليه وسلَّم هذه الدَّعوة في ابن عمه، فكان إماماً يهتدى بهداه ويقتدى بسناه في علوم الشَّريعة، ولا سيما في علم التأويل وهو التَّفسير فانَّه انتهت اليه علوم الصَّحابة قبله، وما كان عقله من كلام ابن عمه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏". (11)

 

يتضح من إحدى روايات البخاري في "الجامع الصحيح" أن أهل المدينة وعلى الخصوص بني هاشم، كانوا يتوقعون نوعا من التعسف أو الاستبداد على الناس كان سيظهر بعد التحاق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى. وفي هذا الإطار يروي عبد الله بن عباس :

 

"أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي توفي فيه، فقال الناس : يا أبا حسن، كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟

قال : أصبح بحمد الله بارئا.

فأخذ بيده العباس فقال : ألا تراه ؟ أنت والله بعد ثلاث عبد العصا، والله إني لأرى رسول الله صلى الله عليه وسلم سيتوفى في وجعه، وإني لأعرف في وجوه بني عبد المطلب الموت، فاذهب بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسأله : فيمن يكون الأمر، فإن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا أمرناه فأوصى بنا.

قال علي : والله لئن سألناها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعناها لا يعطيناها الناس أبدا، وإني لا أسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم أبدا". (12)

 

والشاهد هنا، هو في قول العباس بن عبد المطلب لعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما :"أنت والله بعد ثلاث عبد العصا" أي بمعنى أن الناس بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم سيعيشون سياسة التعسف والقبضة الحديدية. ولا يخفى أن العباس هو عم الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه كان مسلما وظل يخفي إسلامه لأسباب أمنية كما كانت حال الكثير من المسلمين الذين لم يهاجروا إلى المدينة واستمروا على إخفاء إسلامهم حيث كانوا يشكلون شبكة الأمن والاستعلامات للمسلمين في المدينة.

وحتى بعض المسلمين في المدينة كانوا عيونا للرسول صلى الله عليه وسلم لدى الحركة النفاقية أو حركة الثورة المضادة أو بكلمة واحدة وبالاصطلاح القرآني : المنافقون. من هنا كان يبدو من السلوك الظاهر لهؤلاء المسلمين، نوع من الموالاة للمنافقين وهي مسلكية تفرضها الطبيعة الأمنية لموقعهم الحركي. لهذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرفض أن يوضع هؤلاء المسلمون المكلفون بمهمات أمنية، في السلة نفسها مع المنافقين.

 

ويذكر ابن كثير أيضا قصة تؤكد أن (التأويل) ارتبط منذ عصر مبكر بالخطاب الرسمي للسلطة / الخلافة التي كانت تتجه تدريجيا بشكل وبآخر، وسواء بقصد أو بغير قصد، نحو إقصاء كل محاولة غير رسمية لـ(التأويل) من أجل تكريس القراءة الأحادية "الأورثوذكسية" للنص، في مسلكية جديدة على النموذج المبكر للإسلام والتي أصبحت فيما بعد مبررا للسلوك السلطوي المتعسف ضد الرأي الآخر الذي وجد نفسه بالتدريج مدفوعا بحكم الأمر الواقع، نحو الهامش السياسي والاجتماعي وحتى الديني من خلال آليات التكفير الإقصائي، وبالتالي نحو المعارضة السياسية السرية والمسلحة في أغلب الأحيان. وليس أدل على ذلك من أن الخليفة الثاني مات مقتولا وكذلك الثالث والرابع، وحتى الخليفة الأول نفسه (أبو بكر الصديق) ثمة روايات تقول إنه مات مسموما.

ولنتأمل جيدا ما قاله ابن كثير في الجزء السابع من "البداية والنهاية" وهو يذكر أحداث سنة 18 للهجرة :

 

"ذكر ابن جرير في هذه السنة من طريق سيف بن عمر، عن أبي المجالد، والربيع، وابي عثمان، وأبي حارثة، وعن عبد الله بن شبرمة، عن الشعبي قالوا‏:‏ كتب أبو عبيدة الى عمر بن الخطاب أن نفراً من المسلمين أصابوا الشراب، منهم ضرار، وأبو جندل بن سهل، فسألناهم فقالوا‏ :‏ خُيرنا فاخترنا‏، قال "فهل أنتم منتهون‏ ؟‏" ولم يعزم‏.‏

فجمع عمر الناس فأجمعوا على خلافهم، وأن المعنى‏ :‏ فهل أنتم منتهون‏؟‏ أي‏ :‏ انتهوا‏.‏

وأجمعوا على جلدهم ثمانين ثمانين‏.‏

وأن من تأول هذا التأويل وأصر عليه يقتل‏". (13)‏

 

وفي موقف مناقض، يعترف ابن خلدون بأن ترك (التأويل) لظواهر الشريعة يؤدي إلى التجسيم، بما يحول (التأويل) من طابو أو محرم إلى ضرورة دينية، حيث يقول في الجزء الأول من تاريخه "ديوان العبر" تحت عنوان "الفصل الحادي والثلاثون في الخطط الدينية الخلافية" في سياق الحديث عن المهدي ابن تومرت مؤسس الدولة الموحدية :

 

"وجاء المهدي (ابن تومرت) على أثرهم داعياً الى الحق آخذاً بمذاهب الأشعرية ناعياً على أهل المغرب عدولهم عنها الى تقليد السلف في ترك التأويل لظواهر الشريعة وما يؤول اليه ذلك من التجسيم كما هو معروف من مذهب الاشعرية‏". (14)

 

ويتطرق ابن رشد الحفيد القاضي المالكي، في "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" (الجزء الأول/ الباب الخامس في الصلاة على الجنازة/ الفصل الثاني فيمن يصلى عليه ومن أولى بالتقديم) إلى هذا الموضوع (أي مسألة ارتباط التأويل بالمعارضة السياسية) حيث يقول :

 

"أجمع أكثر أهل العلم على إجازة الصلاة على كل من قال لا إله إلا الله، وفي ذلك أثر أنه قال عليه الصلاة والسلام ‏"‏صلوا على من قال لا إله إلا الله‏".‏ وسواء كان من أهل الكبائر أو من أهل البدع (وهم أهل التأويل) إلا أن مالكا كره لأهل الفضل الصلاة على أهل البدع (أي أهل التأويل).‏. ومن العلماء من لم يُجز الصلاة على أهل الكبائر ولا على أهل البغي والبدع‏ (أي أهل التأويل أو المعارضة السياسية).‏ والسبب في اختلافهم في الصلاة : أما في أهل البدع فلاختلافهم في تكفيرهم ببدعهم. فمن كفرهم بالتأويل البعيد لم يُجز الصلاة عليهم، ومن لم يكفرهم إذ كان الكفر عنده إنما هو تكذيب الرسول لا تأويل أقواله عليه الصلاة والسلام، قال‏ :‏ الصلاة عليهم جائزة". (15)

 

وفي هذا النص العديد من التناقضات، ليس فيما يقوله ابن رشد، بل في السياقات التاريخية التي أنتجت مثل هذه الرؤى الفقهية التي تحركت (بشكل وبآخر ومن خلال العديد من الاختراقات النصية الحديثية التي سبقت عصر التدوين فيما يُعرف بظاهرة الوضع) ضمن استراتيجيات وتوجهات الخطاب السلطوي الرسمي المكرس لأحادية الرؤية والقراءة والتأويل للنصوص الدينية.

يؤكد ابن رشد في هذا النص أن تكذيب أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، في حال ثبوتها سندا ومتنا على سبيل اليقين عند المكذب، هذا هو الذي يؤدي إلى الكفر. أما مجرد (تأويل) كلامه صلى الله عليه وسلم، فلا يمكن أن يؤدي إلى الكفر بحال من الأحوال.

ومن جهة أخرى يقول ابن رشد إن "أكثر أهل العلم" أجمعوا على إجازة الصلاة على من قال لا إله إلا الله، أي على من كان من أهل القبلة مهما كان انتماؤه الفقهي والمذهبي والعقدي (الأيديولوجي). بمعنى آخر حتى ولو كان من أهل البدع (وهم أهل التأويل). ويقول لنا إن هؤلاء الذين يمثلون "أكثر أهل العلم" يستندون في هذه الرؤية أو في هذا (التأويل) إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.

ثم يذكر ابن رشد الموقف الذي اتخذه الإمام مالك من أهل البدع (أهل التأويل) وأنه لا ينبغي حسب رأيه وفتواه، أن يصلي عليهم "الفضلاء" من الناس. ومعنى ذلك أن (أهل التأويل) ليسوا من الفضلاء بل هم من شرار الناس. وهذا موقف سلبي إقصائي ضدهم، يدفع بهم بالضرورة إلى هامش المجتمع.

ثم يقول ابن رشد إن بعض العلماء لم يجيزوا الصلاة أصلا على أهل البغي والبدع. وهذا في حد ذاته موقف أحادي إقصائي عنيف. ولكن الأدهى والأمر منه هو التبرير الذي يقدمه هؤلاء، حيث يقول ابن رشد إن من لم يجيزوا الصلاة على (أهل التأويل) أو "أهل البغي والبدع" إنما فعلوا ذلك لأنهم يكفرونهم.

ولكن بماذا ومن أي منطلق يكفرونهم ؟

يقول ابن رشد إنهم يكفرونهم من منطلق (تأويل بعيد).

وأما من لم يكفروا (أهل التأويل) أو "أهل البغي والبدع" من العلماء وأجازوا الصلاة عليهم، فإنهم فعلوا ذلك انطلاقا من (تأويل) آخر لهم مختلف عن (تأويل) الفريق الأول. ويقتضي هذا (التأويل) القول بتكفير من كذب الرسول صلى الله عليه وسلم، لا من (تأول) أقواله.

ويظهر من كلام ابن رشد أن من لم يكفروا (أهل التأويل) أو "أهل البغي والبدع" يرفضون تكفير المسلم لمجرد (تأويل) تأوله في النص الديني (قرآن أو سنة) ويرون أن التكفير يكون بسبب التكذيب بالنص عندما يثبت على سبيل اليقين، وليس (التأويل) للنص.

وكلام ابن رشد فيه دلالة واضحة على أن جميع السلط التي رفعت سلاح التكفير والإقصاء من خلال الفقهاء الرسميين، ضد (التأويل) و(أهل التأويل) أو أهل "البغي والبدع" أو المعارضة، إنما فعلوا ذلك انطلاقا من آلية (التأويل) نفسها. لأنهم لو لم (يتأولوا) أو (يؤولوا) النصوص بوجه من الوجوه، لم يكن لهم أن يقصوا الآخرين تحت عنوان رفض (التأويل) وهي الآلية نفسها التي ينطلقون منها  والسلاح نفسه الذين يحاربون به الآخرين ويرفعونه في وجوههم.

ولعل من المفيد هنا الإشارة إلى أن مسألة اتخاذ آلية أو سلاح (التأويل) من طرف السلطة المركزية ممثلة في "الخلاقة" وسيلة إقصاء وتهميش وتكفير وقمع ضد المعارضة، هي نفسها الآلية / السيناريو التي نفذها الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان (الذي أدرجه الفقهاء ضمن خانة أهل التأويل أيضا في الوقت الذي كان باغيا على الخليفة الشرعي آنذاك وهو علي بن أبي طالب) وحليفه عمرو بن العاص ضد جيش علي بن أبي طالب في موقعة صفين، وهي آلية رفع المصاحف على السيوف وطلب الاحتكام إلى  "كتاب الله" أي (التنزيل). فهنا كانت الحجة المعلنة في (الظاهر) هي (التنزيل) ولكن الآلية والاستراتيجية التي حركت هذا السيناريو في (الباطن) لم تكن سوى (التأويل).

ولهذا رفض علي بن أبي طالب هذا الأسلوب المزدوج والمتناقض في التعامل مع النصوص وقال قولته الشهيرة التي ذهبت مثلا : "إنها كلمة حق يراد بها باطل".

وبالفعل، كان موقف جماعة معاوية متناقضا، لأنه ليس بالإمكان المطالبة بالاحتكام إلى (التنزيل) الظاهر من منطلق (تأويل) باطن مناقض له. وهنا وجه الخدعة والمكيدة.

وسنرى بعد قليل تفصيلا في كلام الشافعي يدل على أنه ما من أهل "بدعة" أو "بغي" أو خارجين على السلطة بالسلاح أو بغير سلاح، إلا ولهم (تأويل) أي وجه من وجوه قراءة النص الديني، فيما يعتقدونه وما يفعلونه.

  

وإذا أردنا أن نقرأ بشكل دقيق حادثة عمر بن الخطاب مع قدامة بن مظعون، والتي ذكرنا متونها سابقا بشكل مفصل، ينبغي أن نرجع إلى كلام ابن رشد في "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" حيث نجد بيانا تفصيليا لمفردات (التأويل) الذي انطلق فيه بعض الصحابة (وبعضهم من أهل بدر وأحد) الذين شربوا الخمر وهم يرون أن ذلك غير محرم شرعا. وقبل ذلك لا بد من التوضيح التالي :

إن ابن رشد يعتبر(التأويل) آلية ضرورية في مجال الاجتهاد وإبداء الرأي الفقهي. بل إن (التأويل) عنده هو الاجتهاد نفسه. وكل الآراء الفقهية مهما بدت متعارضة أو متناقضة، فهي بالنسبة إليه مبنية على (التأويل) ولكل (متأول) وجه شرعي كما لكل (تأويل) وجه شرعي. فمثلا يقول ابن رشد في الجزء الثاني من كتابه "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" (كتاب الفرائض/ ميراث الإخوة للأم) :

 

".. ولا يليق هذا التأويل بمذهب مالك، لأنه لا يقضي القاضي عنده بعلمه، ويليق بمذهب الشافعي على قوله الاخر، أعني الذي لا يثبت فيه النسب‏.‏ والذين قالوا بهذا التأويل قالوا‏:‏ إنما أمر سودة بالحجبة احتياطا لشبهة الشبه، لا أن ذلك كان واجبا، وقال لمكان هذا بعض الشافعية‏:‏ إن للزوج أن يحجب الأخت عن أخيها".. (16)

 

ولم نذكر هذا المثال للدخول في تفاصيل المسألة في مفرداتها وامتداداتها الفقهية، وإنما لبيان لغة ابن رشد الاستدلالية أو الاجتهادية فحسب. وللتعرف أكثر على رؤية ابن رشد لـ(التأويل) كآلية ضرورية في الاستدلال الفقهي بل ومنتجة للتعدد والاختلاف، يمكن أن نذكر مثالا آخر :

 

يتحدث ابن رشد في "بداية المجتهد" أيضا عن آراء واجتهادات أو(تأويلات) الفقهاء لمسألة مسح أو غسل الأرجل في الوضوء استنادا إلى قوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين" الآية من سورة النساء.  ومعروف أن "أرجلكم" قرئت بفتح اللام عطفا على "وجوهكم وأيديكم" وقرئت بكسرها عطفا على "رؤوسكم". فيقول ابن رشد في الجزء الأول (كتاب الوضوء/ الباب الثاني/ المسألة العاشرة من الصفات) :

 

".. فمن ذهب الى أن فرضهما واحد (أي الرجلان) من هاتين الطهارتين على التعيين، إما الغسل وإما المسح، ذهب الى ترجيح ظاهر إحدى القراءتين على القراءة الثانية، وصرف بالتأويل ظاهر القراءة الثانية الى معنى ظاهر القراءة التي ترجحت عنده".. (17)

 

وفي قراءته لـ(تأويل) من تأول من الصحابة في مسألة الخمر وحكمها الشرعي، يورد ابن رشد في "بداية المجتهد" (كتاب الأطعمة والأشربة/ الجملة الأولى/ المسألة الثالثة) رؤية اجتهادية جديرة بالتأمل العميق :

 

"النبات الذي هو غذاء فكله حلال إلا الخمر وسائر الأنبذة المتخذة من العصارات التي تتخمر ومن العسل نفسه‏.‏

أما الخمر فإنهم اتفقوا على تحريم قليلها وكثيرها‏ :‏ أعني التي هي من عصير العنب‏.‏

وأما الأنبذة فإنهم اختلفوا في القليل منها الذي لا يُسكر، وأجمعوا على أن المسكر منها حرام، فقال جمهور فقهاء الحجاز وجمهور المحدثين‏ :‏ قليل الأنبذة وكثيرها المسكرة حرام‏.‏

وقال العراقيون إبراهيم النخعي من التابعين وسفيان الثوري وابن أبي ليلى وشريك وابن شبرمة

وأبو حنيفة وسائر فقهاء الكوفيين وأكثر علماء البصرين‏ :‏ إن المحرم من سائر الأنبذة المسكرة هو السُكر نفسه لا العين‏.‏

وسبب اختلافهم تعارض الآثار والأقيسة في هذا الباب، فللحجازيين في تثبيت مذهبهم طريقتان‏ :‏

الطريقة الأولى الآثار الواردة في ذلك‏.‏

والطريقة الثانية تسمية الأنبذة بأجمعها خمرا‏.‏

فمن أشهر الآثار التي تمسك بها أهل الحجاز ما رواه مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة عبد الرحمن عن عائشة أنها قالت ‏: "‏سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع وعن نبيذ العسل‏ ؟‏

فقال‏ :‏ كل شراب أسكر فهو حرام‏"‏ خرجه البخاري‏.‏

وقال يحيى بن معين‏ :‏ هذا أصح حديث روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في تحريم المسكر.

ومنها أيضا ما خرجه مسلم عن ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال ‏"‏كل مسكر خمر، وكل خمر حرام‏"‏ فهذان حديثان صحيحان‏.‏ أما الاول فاتفق الكل عليه‏.‏ وأما الثاني فانفرد بتصحيحه مسلم‏.‏ وخرج الترمذي وأبو داود والنسائي عن جابر بن عبد الله صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ما أسكر كثيره فقليله حرام‏"‏ وهو نص في موضع الخلاف‏.‏

وأما الاستدلال الثاني من أن الأنبذة كلها تسمى خمرا، فلهم في ذلك طريقتان ‏:‏

إحداهما من جهة إثبات الأسماء بطريق الاشتقاق، والثانية من جهة السماع‏.‏

فأما التي من جهة الاشتقاق فإنهم قالوا إنه معلوم عند أهل اللغة أن الخمر إنما سميت خمرا لمخامرتها العقل، فوجب لذلك أن ينطلق اسم الخمر لغة على كل ما خامر العقل‏.‏

وهذه الطريقة من إثبات الأسماء فيها اختلاف بين الأصوليين، وهي غير مرضية عند الخراسانيين‏.‏ وأما الطريقة الثانية التي من جهة السماع، فإنهم قالوا إنه وإن لم يسلم لنا أن الأنبذة تسمى في اللغة خمرا شرعا، واحتجوا في ذلك بحديث ابن عمر المتقدم، وبما روي أيضا عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏الخمر من هاتين الشجرتين‏ :‏ النخلة والعنبة‏"‏ وما روي أيضا عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏: "‏إن من العنب خمرا، وإن من العسل خمرا، ومن الزبيب خمرا، ومن الحنطة خمرا وأنا أنهاكم عن كل مسكر‏"‏ فهذه هي عمدة الحجازيين في تحريم الأنبذة‏.‏ وأما الكوفيون فإنهم تمسكوا لمذهبهم بظاهر قوله تعالى ‏: "‏ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا‏" وبآثار رووها في هذا الباب، وبالقياس المعنوي‏.‏

 

أما احتجاجهم بالآية فإنهم قالوا‏:‏ السكر هو المسكر ولو كان محرم العين لما سماه الله رزقا حسنا‏.‏

وأما الآثار التي اعتمدوها في هذا الباب، فمن أشهرها عندهم حديث أبي عون الثقفي عن عبد الله بن شداد عن ابن عباس عن النبي عليه الصلاة والسلام قال ‏:

"‏حرمت عليكم الخمر لعينها‏ والسكر من غيرها".

وقالوا‏ :‏ هذا نص لا يحتمل التأويل، وضعفه أهل الحجاز لأن بعض رواته روى ‏"‏والمسكر من غيرها‏"‏.

ومنها حديث شريك عن سماك بن حرب بإسناده عن أبي بردة بن نيار قال‏ :‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏إني كنت نهيتكم عن الشراب في الأوعية فاشربوا فيما بدا لكم ولا تسكروا‏"‏ خرجها الطحاوي‏.‏

ورووا عن ابن مسعود أنه قال‏ :‏ "شهدت تحريم النبيذ كما شهدتم، ثم شهدت تحليله فحفظت ونسيتم"‏.‏ ورووا عن أبي موسى قال ‏: "‏بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا ومعاذا الى اليمن، فقلنا‏:‏

يا رسول الله إن بها شرابين يصنعان من البر والشعير‏:‏ أحدهما يقال له المزر، والآخر يقال له البتع، فما نشرب‏؟‏ فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ اشربا ولا تسكرا‏"‏. خرجه الطحاوي أيضا الى غير ذلك من الآثار التي ذكروها في هذا الباب‏.‏

وأما احتجاجهم من جهة النظر فإنهم قالوا‏ :‏ قد نص القرآن أن علة التحريم في الخمر إنما هي الصد عن ذكر الله ووقوع العداوة والبغضاء كما قال تعالى ‏: "إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة"‏. وهذه العلة توجد في القدر المسكر لا فيما دون ذلك، فوجب أن يكون ذلك القدر هو الحرام إلا ما انعقد عليه الاجماع من تحريم قليل الخمر وكثيرها، قالوا‏ :‏ وهذا النوع من القياس يُلحق بالنص، وهو القياس الذي ينبه الشرع على العلة فيه‏.‏

وقال المتأخرون من أهل النظر‏:‏ حجة الحجازيين من طريق السمع أقوى، وحجة العراقيين من طريق القياس أظهر‏.‏ وإذا كان هذا كما قالوا فيرجع الخلاف الى اختلافهم في تغليب الأثر على القياس، أو تغليب القياس على الأثر إذا تعارضا، وهي مسالة مختلف فيها، لكن الحق أن الأثر إذا كان نصا ثابتا، فالواجب أن يغلب على القياس‏.‏ وأما إذا كان ظاهر اللفظ محتملا للتأويل فهنا يتردد النظر هل يجمع بينهما بأن يُتأول اللفظ أو يُغلب ظاهرُ اللفظ على مُقتضى القياس‏؟‏ وذلك مختلف بحسب قوة لفظ من الالفاظ الظاهرة، وقوة قياس من القياسات التي تقابلها ولا يدرك الفرق بينهما إلا بالذوق العقلي كما يدرك الموزون من الكلام من غير الموزون، وربما كان الذوقان على التساوي؛ ولذلك كثر الاختلاف في هذا النوع حتى قال كثير من الناس‏ :‏ كل مجتهد مصيب‏".

ثم يبين ابن رشد رأية في المسألة بقوله:

"قال القاضي‏ :‏ والذي يظهر لي والله أعلم أن قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏كل مسكر حرام‏"‏ وإن كان يحتمل أن يراد به القدر المسكر لا الجنس المسكر، فإن ظهوره في تعليق التحريم بالجنس أغلب على الظن من تعليقه بالقدر لمكان معارضة ذلك القياس له على ما تأوله الكوفيون، فإنه لا يبعد أن يحرم الشارع  قليل المسكر وكثيره سدا للذريعة وتغليظا، مع أن الضرر إنما يوجد في الكثير. وقد ثبت من حال الشرع  بالإجماع أنه اعتبر في الخمر الجنس دون القدر الواجب، فوجب كل ما وجدت فيه علة الخمر أن يلحق بالخمر، وأن يكون على من زعم وجود الفرق إقامة الدليل على ذلك، هذا إن لم يسلموا لنا صحة قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏ما أسكر كثيره فقليله حرام‏"‏ فانهم إن سلموه لم يجدوا انفكاكا فإنه نص في موضع الخلاف، ولا يصح أن تعارض النصوص بالمقاييس، وأيضا فإن الشرع قد أخبر أن في الخمر مضرة ومنفعة، فقال تعالى ‏: "قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس‏" وكان القياس إذا قصد الجمع بين انتقاء المضرة ووجود المنفعة أن يحرم كثيرها ويحلل قليلها. فلما غلب الشرع حكم المضرة على المنفعة في الخمر ومنع القليل منها والكثير، وجب أن يكون الأمر كذلك في كل ما يوجد فيه علة تحريم الخمر، إلا أن يثبت في ذلك فارق شرعي‏". (18)

ويلاحظ هنا أن ابن رشد قام بتوضيح جيد لبعض الجوانب المهمة التي كانت ملغاة أو مقصاة أو في حكم المقصاة من سياق قصة الخليفة عمر مع فريق الصحابة الذي لم يكن يرى تحريم الخمر. فبدأ ابن رشد بتحديد محل الاتفاق بين الفقهاء حيث قال :

"أما الخمر فإنهم اتفقوا على تحريم قليلها وكثيرها‏ :‏ أعني التي هي من عصير العنب‏".

وهذا يعني أن التي ليست من عصير العنب من الممكن ألا تكون داخلة تحت مسمى "الخمر" بل هي حسب هذا الكلام، غير داخلة تحت مسمى "الخمر".

ثم أوضح المنطلقات الاستدلالية والاجتهادية للمدرسة الفقهية العراقية في هذا الجانب، والتي ترى أن المحرم في الشرع هو السُكر نفسه لا عين المشروب (باستثناء الخمر التي تتخذ من العنب خاصة والتي هي حسب ابن رشد محل اتفاق على تحريمها). فهو يقول :

 

"وقال العراقيون إبراهيم النخعي من التابعين وسفيان الثوري وابن أبي ليلى وشريك وابن شبرمة

وأبو حنيفة وسائر فقهاء الكوفيين وأكثر علماء البصرين‏ :‏ إن المحرم من سائر الأنبذة المسكرة هو السُكر نفسه لا العين‏.‏ وسبب اختلافهم تعارض الآثار والأقيسة في هذا الباب، فللحجازيين في تثبيت مذهبهم طريقتان‏ :‏ الطريقة الأولى الآثار الواردة في ذلك‏.‏ والطريقة الثانية تسمية الأنبذة بأجمعها خمرا‏".‏

ويؤيد ذلك الرواية الصحيحة التالية:

 

عن عبد الله بن عمر بن الخطاب قال : "شرب أخي عبد الرحمن بن عمر وشرب معه أبو سروعة عقبة بن الحرث وهما بمصر في خلافة عمر فسكرا. فلما أصبحا انطلقا إلى عمرو بن العاص وهو أمير مصر فقالا : طهرنا فإنا قد سكرنا من شراب شربناه.

قال عبد الله (يعني أخاه) : فذكر لي أخي أنه سكر، فقلت : ادخل الدار أطهرك. قال : ولم أشعر أنهما أتيا عمرا. فأخبرني أخي أنه قد أخبر الأمير بذلك. فقال عبد الله : لا تحلق اليوم رؤوسهم بين الناس، أدخل الدار أحلقك. وكانوا إذا ذاك يحلقون مع الحدود".

قال الحافظ السخاوي في "الأجوبة المرضية" 3/ 935 : إسناده صحيح. (19)

 

والشاهد في هذا الحديث هو قول عبد الرحمن بن عمر وأبو سروعة عقبة بن الحرث لعمرو بن العاص : "طهرنا فإنا قد سكرنا من شراب شربناه". وهذا يعني أن المحرم والموجب لحد الجلد في مفهوم هذين الصحابيين، لم يكن مجرد الشرب، بل السكر من الشرب، أو الشرب الذي يوصل صاحبه إلى حالة السكر.

 

وفي استدلال الفقهاء العراقيين والآثار التي خرجها الطحاوي ونقلها ابن رشد دلالة واضحة على أن قول من قال بعدم تحريم الخمر من الصحابة في زمن الخليفة عمر، كان له وجه شرعي من (التأويل) استمر بعد ذلك عند الفقهاء من خلال النصوص القرآنية والحديثية، ولم يكن مجرد نزوة أو هوى سولت لهم به أنفسهم أو نزعاتهم الغريزية كما توحي الصورة التي ألصقتها بهم الرواية التاريخية الرسمية. وابن رشد يوضح ذلك بشكل منهجي ومقنع. ومع تصريحه برأيه الشخصي في المسألة فإنه يحتفظ لنفسه بتلك المسافة التي يتركها كل فيلسوف ومفكر جدير بهذا الاسم، بينه وبين "الحقيقة" في معناها المطلق. ولهذا قال :

 

"ولذلك كثر الاختلاف في هذا النوع حتى قال كثير من الناس‏ :‏ كل مجتهد مصيب‏".

لأن الاجتهاد في أساسه مبني على قراءة النصوص وتأويلها، وكل من القراءة والتأويل نسبيان.

 

وحول نسبية (التأويل) كرؤية اجتهادية لا تعبر عن حقيقة النص وإنما عن مجرد قراءة محتملة فيه بين قراءات أخرى، يقول الحافظ الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" :

 

"بَابٌ بَيَانُ مُشْكِلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَوْلِهِ الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ لاَ يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ وَلاَ ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ"

وبعد ذكره لأحاديث الباب قال :

 

"ثُمَّ تَأَمَّلْنَا قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم لاَ يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ وَلاَ ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ فَوَجَدْنَا أَهْلَ الْعِلْمِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ‏:‏ فَطَائِفَةٌ مِنْهُمْ تَقُولُ ذَلِكَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِي الْمَعْنَى لاَ يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ وَلاَ ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ بِكَافِرٍ فَيَكُونُ الْكَافِرُ الْمُرَادُ بِذَلِكَ هُوَ الْكَافِرُ غَيْرُ ذِي الْعَهْدِ‏,‏ وَهُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ الْمُؤْمِنَ يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ إذَا قَتَلَهُ عَمْدًا‏,‏ وَمِمَّنْ يَقُولُ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَطَائِفَةٌ مِنْهُمْ تَقُولُ الْكَافِرُ الَّذِي لاَ يُقْتَلُ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ هُوَ الْكَافِرُ الْمُعَاهَدُ لاَ يُقْتَلُ فِي عَهْدِهِ عَلَى كَلاَمٍ مُسْتَقْبَلٍ بَعْدَ لاَ يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ‏,‏ وَبَعْدَ انْقِطَاعِ مَعْنَاهُ وَمِمَّنْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ مِنْهُمْ‏,‏ وَتَأَوَّلَ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الشَّافِعِيُّ فَلَمْ يَقْتُلْ الْمُؤْمِنَ بِالْكَافِرِ الْمُعَاهَدِ". (20)‏

 

وعقد الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" بابا بعنوان :

"بَابٌ بَيَانُ مُشْكِلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فِي سَتْرِ الْعَوْرَةِ"

وبعد إيراده الأحاديث ومختلف الآراء حولها قال :

 

"وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّ الَّذِي فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ قِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا كَانَ لِيَلْقَى رَجُلاً لاَ يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يَلْقَاهُ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ" إلى آخر كلامه. وهو يدل على أن (التأويل) بالنسبة للفقيه ما هو سوى رأي اجتهادي يقيم عليه الدليل الشرعي كما يقيم غيره الدليل الشرعي أيضا. (21)‏

 

ويعقد الطحاوي بابا آخر بعنوان :

"بَابٌ بَيَانُ مُشْكِلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم مِنْ قَوْلِهِ لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ". وبعد ذكر الأحاديث الواردة ومختلف الآراء حولها يقول :

"وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ الْقَوْلِ". (22)‏

 

ويعقد بابا آخر بعونوان :

"بَابٌ بَيَانُ مُشْكِلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي خِطَابِهِ لأَبِي أَبِي الأَحْوَصِ الْمُخْتَلَفِ فِي اسْمِهِ فَقَائِلٌ يَقُولُ‏:‏ إنَّهُ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ وَقَائِلٌ يَقُولُ إنَّهُ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ عَوْفُ بْنُ مَالِكِ بْنِ نَضْلَةَ وَلاَ يَخْتَلِفُونَ أَنَّهُ مِنْ بَنِي جُشَمٍ بِقَوْلِهِ لَهُ إذَا آتَاك اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَالاً فَلْيُرَ عَلَيْك".

وبعد ذكر الأحاديث ومختلف الآراء حولها، يُصرح بنسبية الحقيقة الاجتهادية التأويلية حيث يقول :

"فَهَذَا أَحْسَنُ مَا قَدَرْنَا عَلَيْهِ مِنْ تَأْوِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ بِالْحَقِيقَةِ فِيهِ مَا هِيَ‏، وَإِيَّاهُ نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ‏". (23)

 

ويعقد الطحاوي بابا آخر بعنوان :

"بَابٌ بَيَانُ مُشْكِلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ نَهْيِهِ عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ".

وبعد ذكر الأحاديث ومختلف الآراء والاجتهادات حولها يقول :

 

"وَكُلُّ هَذِهِ التَّأْوِيلاَتِ مُحْتَمَلَةٌ لِمَا أُرِيدَ فِي إضَاعَةِ الْمَالِ غَيْرَ أَنَّ أَقْوَاهَا فِي قُلُوبِنَا التَّأْوِيلَ الأَوَّلَ مِنْهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا أَوْ مِمَّا سِوَاهَا". (24)‏

 

 

ويبدو أن توظيف المعارضة في التاريخ الإسلامي لآلية (التأويل) كان في وجه من وجوهه نوعا من رد الفعل الطبيعي على التوظيف السلطوي للآلية نفسها. وإذا كانت آلية (التأويل) عند المعارضة، تنطلق من رؤى وقواعد وأسس واضحة من الناحية الاجتهادية بمعنى إنها تستند إلى أدلة اجتهادية، فإن (التأويل) الذي كانت تلجأ إليه السلطة لا علاقة له بالاجتهاد إطلاقا، والدليل على ذلك هو الاستنكار المباشر الذي كان يلقاه من طرف بعض الصحابة والتابعين والعلماء في القرون الأولى حيث كانوا يعتبرونه تحريفا صارخا للدين. وفي هذا الإطار يروي البخاري في صحيحه الحادثة التالية :

 

"عن أبي سعيد الخدري قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، فأول شيء يبدأ به الصلاة. ثم ينصرف، فيقوم مقابل الناس، والناس جلوس على صفوفهم، فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم. فإن كان يريد أن يقطع بعثا قطعه، أو يأمر بشيء أمر به، ثم ينصرف. قال أبو سعيد : فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجتُ مع مروان (ابن الحكم) وهو أمير المدينة، في أضحى أو الفطر. فلما أتينا المصلى، إذا منبر بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي. فجبذت بثوبه، فجبذني، فارتفع فخطب قبل الصلاة.

فقلت له : غيرتم والله.

فقال : أبا سعيد، قد ذهب ما تعلم.

فقلت : ما أعلم والله خيرٌ مما لا أعلم.

فقال : إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة ، فجعلتها قبل الصلاة". (25)

 

ومن ذلك أيضا ما رواه أحمد في مسنده (5/115 ) وصححه الشيخ أحمد شاكر، عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث قال : 

"أرسلني أمير من الأمراء إلى ابن عباس أسأله عن الصلاة في الاستسقاء فقال ابن عباس : ما منعه أن يسألني ؟ خرج النبي صلى الله عليه وسلم متواضعا متبذلا متخشعا مترسلا متضرعا فصلى ركعتين كما يصلي في العيد لم يخطب خطبتكم هذه". (26)

 

وفي السياق نفسه، أنكر عبد الله بن الزبير بن العوام ألا يجهر الأمراء بالبسملة عندما يصلون بالناس، واعتبر ذلك من التكبر حيث يروي ابن حجر العسقلاني في "الدراية" (1/ 135 ) عن بكر بن عبد الله المزني قال :

"صليت خلف عبد الله بن الزبير فجهر بالبسملة وقال : ما يمنع أمراءكم من الجهر بها إلا الكبر".

قال ابن حجر : رواته ثقات. (27)

 

بل إن بعض الأمراء كانوا يخطبون خطبة عيد الأضحى في اليوم الثاني..

وفي ذلك يروي ابن حجر في "فتح الباري" (3/675 ) عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري قال :

"كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم النحر، فشُغل الأمراء فأخروه إلى الغد".

قال ابن حجر : حديث مرسل له عاضد. (28)

 

بل إن بعض المسلكيات السلطوية الأمبراطورية والغريبة عن عرف الإسلام والإرشاد النبوي الإنساني، كانت قد بدأت تدخل على هيكل السطلة / الخلافة منذ عقودها الأولى، حيث وجدنا الخليفة عمر بن الخطاب مثلا يأمر أمراءه في المناطق الإسلامية "بختم رقاب أهل الجزية".

وفي ذلك يروي  أسلم مولى عمر يقول :

"كتب عمر بن الخطاب إلى أمراء الأجناد أن اختموا رقاب أهل الجزية في أعناقهم".

قال الشيخ ناصر اليدن الألباني : إسناده صحيح. راجع "إرواء الغليل" : 5/ 104

(29)

 

الجرح والتعديل كآلية إقصائية ضد أهل التأويل (المعارضة):

ينقل القاضي الشافعي تاج الدين عبد الوهاب السبكي في كتابة "طبقات الشافعية" في الحديث عن الطبقة الأولى وتحت عنوان "قاعدة في الجرح والتعديل" عن الحافظ ابن عبد البر ما يفيد أن الصراع السياسي في العصر الأول أو في مرحلة الإسلام المبكر، كان سببه الاجتهاد واختلاف (التأويل) أي الاختلاف في قراءة النص الديني وإصرار الخطاب الرسمي السلطوي على تكريس أحادية القراءة:

 

"قال أبو عمر (الحافظ ابن عبد البر) : الصحيح فى هذا الباب (أي الجرح والتعديل) أن من ثبتت عدالته وصحت فى العلم إمامته وبالعلم عنايته لم يلتفت فيه إلى قول أحد إلا أن يأتي في جرحته ببينة عادلة تصح بها جرحته على طريق الشهادات. واستدل بأن السلف تكلم بعضهم في بعض بكلام منه ما حمل عليه الغضب أو الحسد ومنه ما دعا إليه التأويل واختلاف الاجتهاد فيما لا يلزم المقول فيه (أي المتكلم فيه بفتح اللام) ما قال القائل فيه. وقد حمل بعضهم على بعض بالسيف تأويلا واجتهادا".

(30)

 

وهذا واضح في أن الاختلاف في (التأويل) أي في تفسير وقراءة النصوص الدينية كان هو سبب الصراعات السياسية حيث كان (التأويل) و(التأويل المضاد) أو القراءة الرسيمة للنصوص، في تناقض دائم وموضوعا للصراع بين من يتبنون الخطاب الرسمي للسلطة وفي مقدمهم الفقهاء، وبين المعارضة.

ويعقد السُبكي في كتابه المذكور فصلا بعنوان "ذكر ما وقع من التخبيط في كلام شيخنا الذهبي والتحامل على هذا الإمام العظيم في أمر هذا الامام الذي هو من أساطين هذه الملة المحمدية نضرها الله" يوضح فيه أن (التأويل) عند الفقهاء يقابله (التفويض) أي ترك النص على أصله كما كان في حالة (التنزيل) دون محاولة للقراءة أو التحليل، مع اعترافه بأن كلا من (التفويض) و(التأويل) هو اجتهاد في النهاية، وأن (الظاهر) أي ظاهر النص وهو ما يقابل (الباطن) غير مراد من الله تعالى، بل إن السبكي يؤكد على أن الاعتقاد بأن (ظاهر) بعض النصوص هو مراد الله تعالى يعتبر مصيبة عظمى وداهية كبرى بل قد يكون من قبيل عبادة الأوثان. وهذا اعتراف صريح بضرورة التأويل وبأن النصوص لها (ظاهر) يدل عليه (التنزيل) و(باطن) يدل عليه (التأويل) وأن (ظاهر) النص ليس دائما قابلا لـ(التفويض) أو إمراره كما جاء مع اعتقاد ظاهره :

 

للأشاعرة قولان مشهوران في إثبات الصفات : هل تمر على ظاهرها مع اعتقاد التنزيه أو تؤول. "

والقول بالإمرار مع اعتقاد التنزيه هو المعزو إلى السلف وهو اختيار الإمام (شيخه الذهبي) في الرسالة النظامية وفي مواضع من كلامه فرجوعه معناه الرجوع عن التأويل إلى التفويض، ولا إنكار في هذا ولا في مقابلة فإنها مسألة اجتهادية أعني مسألة التأويل أو التفويض مع اعتقاد التنزيه. إنما المصيبة الكبرى والداهية الدهياء الإمرار (أي إمرار النص) على الظاهر والاعتقاد أنه المراد وأنه لا يستحيل على الباري فلذلك قول المجسمة عباد الوثن الذين في قلوبهم زيغ يحملهم الزيغ على اتباع المتشابه ابتغاء الفتنة عليهم لعائن الله تترى واحدة بعد أخرى ما أجرأهم على الكذب وأقل فهمهم للحقائق". (31)

ويعترف السبكي أيضا بوجود شيء اسمه (علم الظاهر) وشيء آخر اسمه (علم الباطن) حيث يذكر في الطبقة الثانية ترجمة "الحارث بن أسد المحاسبي أبو عبد الله" ويقول :

 

"علم العارفين فى زمانه واستاذ السائرين الجامع بين علمي الباطن والظاهر، شيخ الجنيد". (32)

 

وقد كان للجانب السياسي المتمثل في الارتباط أو عدم الارتباط بالخطاب الرسمي للسلطة المركزية، دور كبير في بلورة أدوات الجرح والتعديل التي دخل فيها الجانب السياسي. هذا الأسلوب الذي رفضه الشافعي (محمد بن إدريس صاحب المذهب) بشدة وبشكل صريح كما سنرى فيما بعد. ومن الذين تم تصنيفهم وتبشيعهم (أي شيطنتهم) والتشنيع عليهم من طرف آلة الجرح والتعديل، نجد الحافظ أبو عبد الله الحاكم صاحب "المستدرك على الصحيحين" حيث يقول السُبكي في ترجمته التي أوردها ضمن الطبقة الرابعة في كتابه "طبقات الشافعية الكبرى" تحت عنوان "ذكر البحث عما رُمي به الحاكم من التشيع وما زادت أعداؤه ونقصت أوداؤه رحمه الله تعالى والنصفة بين الفئتين" :

 

"أول ما ينبغي لك أيها المنصف إذا سمعت الطعن في رجل أن تبحث عن خلطائه والذين عنهم أخذ ما ينتحل وعن مرباه وسبيله ثم تنظر كلام أهل بلده وعشيريته من معاصريه العارفين به بعد البحث عن الصديق منهم له والعدو الخالي عن الميل الى إحدى الجهتين وذلك قليل في المتعارصرين المجتمعين في بلد.

وقد رُمي هذا الإمام الجليل بالتشيع وقيل إنه يذهب الى تقديم علي من غير أن يطعن في واحد من الصحابة رضي الله عنهم فنظرنا فإذا الرجل محدثٌ لا يختلف في ذلك وهذه العقيدة تبعد على محدث فإن التشيع نادرٌ وإن وُجد في أفراد قليلين.

ثم نظرنا مشايخه الذين أخذ عنهم العلم وكانت له بهم خصوصية فوجدناهم من كبار أهل السنة ومن المتصلبة في عقيدة أبي الحسن الأشعري كالشيخ أبي بكر بن إسحاق الصبغي والأستاذ أبي بكر بن فورك والأستاذ أبي سهل الصعلوكي وأمثالهم وهؤلاء هم الذين كان يجالسهم في البحث ويتكلم معهم في أصول الديانات وما يجري مجراها.

ثم نظرنا تراجم أهل السنة في تاريخه فوجدناه يعطيهم حقهم من الإعظام والثناء مع ما ينتحلون. وإذا شئت فانظر ترجمة أبي سهل الصعلوكي وأبي بكر بن إسحاق وغيرهما من كتابه، ولا يظهر عليه شيء من الغمز على عقائدهم. وقد استقريت فلم أجد مؤرخا ينتحل عقيدة ويخلو كتابه عن الغمز ممن يحيد عنها، سنة الله في المؤرخين وعادته في النقلة ولا حول ولا قوة إلا بحبله المتين.

ثم رأينا الحافظ الثبت أبا القاسم بن عساكر أثبته في عداد الأشعريين الذين يبدعون أهل التشيع ويبرءون إلى الله منهم فحصل لنا الريب فيما رمي به هذا الرجل على الجملة.

ثم نظرنا تفاصيله فوجدنا الطاعنين يذكرون أن محمد بن طاهر المقدسي ذكر أنه سال أبا إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري عن الحاكم أبي عبد الله فقال : ثقة في الحديث رافضي خبيث. وأن ابن طاهر هذا قال إنه كان شديد التعصب للشيعة في الباطن وكان يظهر التسنن في التقديم والخلافة وكان منحرفا غاليا عن معاوية وأهل بيته يتظاهر به ولا يتعذر منه.

فسمعت أبا الفتح ابن سمكويه بهراة يقول سمعت عبد الواحد المليحي يقول سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول دخلت على أبي عبد الله الحاكم وهو في داره لا يمكنه الخروج الى المسجد من أصحاب ابي عبد الله بن كرام وذلك أنهم كسروا منبره ومنعوه من الخروج فقلت له لو خرجت وأمليت في فضائل هذا الرجل حديثا لاسترحت من هذه الفتنة.

فقال : لا يجيء من قلبي. يعني معاوية".. (33)

 

ثم يقول السبكي مؤكدا على أن التجريح في الحاكم أيديولوجي (ينطلق من رؤية المجسمة وهم في الأساس حنابلة) ومغرض وغير برئ من الناحية العلمية:

"هذا ما يذكره الطاعنون. وقد استخرت الله كثيرا واستهديته التوفيق وقطعت القول بأن كلام أبي إسماعيل وابن الطاهر لا يجوز قبوله في حق الإمام، لما بينهم من مخالفة العقيدة. وما يُرميان به من التجسيم أشهر مما يُرمى به الحاكم من الرفض. ولا يغرنك قول أبي إسماعيل قبل الطعن فيه إنه ثقة في الحديث، فمثل هذا الثناء يقدمه من يريد الإزراء بالكبار قبل الإزراء عليهم ليوهم البراءة من الغرض وليس الأمر كذلك.

والغالب على ظني أن ما عزي الى أبي عبد الرحمن السلمي كذب عليه ولم يبلغنا أن الحاكم ينال من معاوية ولا يظن ذلك فيه وغاية ما قيل فيه الإفراط في ولاء علي كرم الله وجهه ومقام الحاكم عندنا أجل من ذلك. وأما ابن كرام فكان داعية الى التجسيم لا ينكر أحد ذلك. ثم إن هذه حكاية لا يحكيها إلا هذا الذي يخالف الحاكم في المعتقد فكيف يسع المرء بين يدي الله تعالى أن يقبل قوله فيها او يعتمد على نقله ؟ ثم أنى له اطلاع على باطن الحاكم حتى يقضي بأنه كان يتعصب للشيعة باطنا ؟" (34) 

ويتحدث السبكي أيضا في "طبقات الشافعية الكبرى" حول آلة الجرح والتعديل التي طحنت العديد من الأسماء اللامعة ونكاد نقول إنها لم تستثن أحدا من الأعلام حتى البخاري نفسه (أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الإمام صاحب الجامع الصحيح).. وذلك من منطلقات سياسية لها علاقة مباشرة بإشكالية (التنزيل) و(التأويل) أو (الظاهر) و(الباطن) حيث يورد ضمن الطبقة الأولى من كتابه في ترجمة "أحمد بن صالح المصري أبو جعفر الحافظ"( ت 248 هجرية) تحت عنوان "قاعدة في الجرح والتعديل" ما يلي :

 

"إذا سمعت أن الجرح مقدم على التعديل ورأيت الجرح والتعديل وكنت غرا بالامور أو مقتصرا على منقول الأصول حسبت أن العمل على جرحه. فإياك ثم إياك والحذر كل الحذر من هذا الحسبان بل الصواب عندنا أن من ثبتت إمامته وعدالته وكثر مادحوه ومزكوه وندر جارحه وكانت هناك قرينة دالة على سبب جرحه من تعصب مذهبى او غيره فإنا لا نلتفت الى الجرح فيه ونعمل فيه بالعدالة وإلا فلو فتحنا هذا الباب أو أخذنا تقديم الجرح على إطلاقه لما سلم لنا أحد من الائمة، إذ ما من إمام إلا وقد طعن فيه طاعنون وهلك فيه هالكون.

وقد عقد الحافظ أبو عمر بن عبد البر فى كتاب العلم بابا في حكم قول العلماء بعضهم في بعض، بدأ فيه بحديث الزبير رضي الله عنه (دب اليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء) الحديث.

وروى بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : استمعوا علم العلماء ولا تصدقوا بعضهم على بعض فوالذي نفسي بيده لهم أشد تغايرا من التيوس في زروبها.

وعن مالك بن دينار:  يؤخذ بقول العلماء والقراء في كل شيء إلا قول بعضهم فى بعض.

قلت ورأيت في كتاب معين الحكام لابن عبد الرفيع من المالكية : وقع فى المبسوطة من قول عبد الله بن وهب أنه لا يجوز شهادة القارئ على القارئ يعني العلماء لأنهم أشد الناس تحاسدا وتباغيا.

وقاله سفيان الثوري ومالك بن دينار. انتهى

ولعل ابن عبد البر يرى هذا ولا باس به. غير أنا لا نأخذ به على إطلاقه ولكن نرى أن الضابط ما نقوله من أن ثابت العدالة لا يلتفت فيه الى قول من تشهد القرائن بأنه متحامل عليه، إما لتعصب مذهبي (أيديولوجي) أو غيره.

 

ثم قال أبو عمر بعد ذلك : الصحيح فى هذا الباب أن من ثبتت عدالته وصحت فى العلم إمامته وبالعلم عنايته لم يلتفت فيه الى قول أحد إلا أن ياتي في جرحته ببينة عادلة تصح بها جرحته على طريق الشهادات. واستدل بأن السلف تكلم بعضهم في بعض بكلام، منه ما حمل عليه الغضب أو الحسد ومنه ما دعا اليه التأويل واختلاف الاجتهاد فيما لا يلزم المقول (بفتح اللام) فيه ما قال القائل فيه. وقد حمل بعضهم على بعض بالسيف تأويلا واجتهادا.

ثم اندفع ابن عبد البر فى ذكر كلام جماعة من النظراء بعضهم في بعض وعدم الالتفات اليه لذلك الى ان انتهى الى كلام ابن معين في الشافعي وقال انه مما نقم على ابن معين وعيب به وذكر قول أحمد بن حنبل : من أين يعرف يحيى بن معين الشافعي ؟ هو لا يعرف الشافعي ولا يعرف ما يقوله الشافعي ومن جهل شيئا عاداه.. ثم ذكر ابن عبد البر كلام ابن أبى ذيب وإبراهيم بن سعد فى مالك بن أنس قال : وقد تكلم أيضا فى مالك عبدُ العزيز بن أبى سلمة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ومحمد بن إسحاق وابن أبي يحيى وابن أبي الزناد وعابوا أشياء من مذهبه". (35)

 

ثم يصرح السبكي في السياق نفسه بتأثير (التأويل) والاختلافات الأيديولوجية الدينية (العقائد) في تحريك آلة الجرح والتعديل ضد بعض الرموز التي قد تمثل خطوطا حمراء بالنسبة إلى هذا الفريق أو ذاك حيث يقول :

    

"ومما ينبغى أن يُتفقد عند الجرح حال العقائد واختلافها بالنسبة الى الجارح والمجروح فربما خالف الجارح المجروح فى العقيدة فجرحه لذلك واليه أشار الرافعي بقوله : وينبغى أن يكون المزكون برآء من الشحناء والعصبية في المذهب خوفا من أن يحملهم ذلك على جرح عدل أو تزكية فاسق. وقد وقع هذا لكثير من الائمة جرحوا بناء على معتقدهم وهم المخطئون والمجروح مصيب. وقد أشار شيخ الإسلام سيد المتأخرين تقي الدين ابن دقيق العيد فى كتابه الاقتراح الى هذا وقال : أعراض المسلمين حفرة من حفر النار وقف على شفيرها طائفتان من الناس المحدثون والحكام (لاحظ كيف يربط ابن دقيق العيد هنا بين المحدثين والحكام أي بين رجل الدين والسياسي)

قلت (رجع كلام السبكي) : ومن أمثلة ما قدمنا قول بعضهم فى البخاري : تركه أبو زرعة وأبو حاتم من أجل مسألة اللفظ. فيالله والمسلمين، أيجوز لأحد أن يقول البخاري متروك وهو حامل لواء الصناعة ومقدم أهل السنة والجماعة ؟ ثم يالله والمسلمين، أتجعل ممادحه مذام ؟ فان الحق فى مسألة اللفظ معه، إذ لا يستريب عاقل من المخلوقين فى أن تلفظه من أفعاله الحادثة التي هي مخلوقة لله تعالى وإنما أنكرها الإمام أحمد رضي الله عنه لبشاعة لفظها (ولا يخفى على القارئ أن هذه مسألة داخلة ضمن الاختلافات الأيديولوجية الدينية أو الكلامية بالمصطلحات القديمة) 

ومن ذلك قول بعض المجسمة فى أبى حاتم ابن حبان : لم يكن له كبير دين، نحن أخرجناه من سجستان لأنه أنكر الحد لله. فياليت شعري من أحق بالإخراج، من يجعل ربه محدودا أم من ينزهه عن الجسمية ؟ وأمثلة هذا تكثر". (36)

 

بل إن السُبكي في السياق نفسه يذهب أبعد من ذلك بكثير ويصل إلى حد إسقاط شيخه الذهبي في موضوع (التأويل) والاختلافات الأيديولوجية (العقائدية أو الكلامية) الناتجة عنه، وينقل عن علماء وحفاظ آخرين آراء في هذا الجانب :

 

"وهذا شيخنا الذهبي رحمه الله من هذا القبيل له علم وديانة وعنده على أهل السنة تحامل مفرط فلا يجوز أن يعتمد عليه. ونقلت من خط الحافظ صلاح الدين خليل بن كيكلدي العلائي رحمه الله ما نصه: الشيخ الحافظ شمس الدين الذهبي لا أشك فى دينه وورعه وتحريه فيما يقوله الناس ولكنه غلب عليه مذهب الإثبات ومنافرة التأويل والغفلة عن التنزيه حتى أثر ذلك في طبعه انحرافا شديدا عن أهل التنزيه وميلا قويا الى أهل الإثبات، فإذا ترجم واحدا منهم يطنب في وصفه بجميع ما قيل فيه من المحاسن ويبالغ في وصفه ويتغافل عن غلطاته ويتأول له ما أمكن، وإذا ذكر أحدا من الطرف الآخر كإمام الحرمين والغزالي ونحوهما لا يبالغ في وصفه ويكثر من قول من طعن فيه ويعيد ذلك ويبديه ويعتقده دينا وهو لا يشعر ويعرض عن محاسنهم الطافحة فلا يستوعبها، وإذا ظفر لأحد منهم بغلطة ذكرها وكذلك فعله فى أهل عصرنا إذا لم يقدر على أحد منهم بتصريح يقول فى ترجمته "والله يصلحه" ونحو ذلك، وسببه المخالفة في العقائد. انتهى

والحال فى حق شيخنا الذهبي أزيد مما وصف وهو شيخنا ومعلمنا غير أن الحق أحق أن يتبع. وقد وصل من التعصب المفرط الى حد يُسخر منه. وأنا أخشى عليه يوم القيامة من غالب علماء المسلمين وأئمتهم الذين حملوا لنا الشريعة النبوية، فإن غالبهم أشاعرة، وهو إذا وقع بأشعري لا يُبقى ولا يذر..

والذى أدركنا عليه المشايخ النهي عن النظر فى كلامه وعدم اعتبار قوله، ولم يكن يستجرئ أن يظهر كتبه التاريخية إلا لمن يغلب على ظنه أنه لا ينقل عنه ما يعاب عليه.

وأما قول العلائي رحمه الله "دينه وورعه وتحريه فيما يقوله" فقد كنت أعتقد ذلك وأقول عند هذه الأشياء إنه ربما اعتقدها دينا، ومنها أمور أقطع بأنه يعرف بأنها كذب وأقطع بأنه لا يختلقها وأقطع بأنه يحب وضعها في كتبه لتنتشر وأقطع بأنه يحب أن يعتقد سامعها صحتها بغضا للمتحدث فيه وتنفيرا للناس عنه مع قلة معرفته بمدلولات الألفاظ ومع اعتقاده أن هذا مما يوجب نصر العقيدة التي يعتقدها هو حقا ومع عدم ممارسته لعلوم الشريعة. غير أني لما أكثرت بعد موته النظر فى كلامه عند الاحتياج الى النظر فيه، توقفت فى تحريه فيما يقوله ولا أزيد على هذا غير الإحالة على كلامه فلينظر كلامه من شاء ثم يبصر هل الرجل متحر عند غضبه أو غير متحر، وأعنى بغضبه وقت ترجمته لواحد من علماء المذاهب الثلاثة المشهورين من الحنفية والمالكية والشافعية (ولم يتعرض للحنابلة لأنهم من أشد أعداء التأويل وهو منهم أو يرى رأيهم على الأقل في جانب التجسيم) فإني أعتقد أن الرجل كان إذا مد القلم لترجمة أحدهم غضب غضبا مفرطا ثم قرطم الكلام ومزقه وفعل من التعصب مالا يخفى على ذي بصيرة. ثم هو مع ذلك غير خبير بمدلولات الالفاظ كما ينبغي فربما ذكر لفظة من الذم لو عقل معناها لما نطق بها، ودائما أتعجب من ذكره الإمام فخر الدين الرازي في كتاب الميزان فى الضعفاء وكذلك السيف الآمدي وأقول يالله العجب هذان لا رواية لهما ولا جرحهما أحد ولا سمع من أحد أنه ضعفهما فيما ينقلانه من علومهما فأي مدخل لهما فى هذا الكتاب ؟ ثم إنا لم نسمع أحدا يسمى الإمام فخر الدين بالفخر بل إما الإمام وإما ابن الخطيب. واذا ترجم كان فى المحمدين فجعله فى حرف الفاء وسماه الفخر ثم حلف فى اخر الكتاب انه لم يتعمد فيه هوى نفسه.. واذا وصل الى هذا الحد والعياذ بالله فهو مطبوع على قلبه". (37)

 

وفي السياق نفسه يقول السبكي حول العلاقة بين المجسمة والمذهب الحنبلي:

"بلغني أن كبيرهم استفتى في شافعي أيشهد عليه بالكذب فقال : ألست تعتقد أن دمه حلال ؟ قال نعم قال : فما دون ذلك دون دمه فاشهد وادفع فساده عن المسلمين. فهذه عقيدتهم ويرون انهم المسلمون وانهم اهل السنة ولو عدوا عددا لما بلغ علماؤهم ولا عالم فيهم على الحقيقة مبلغا يعتبر ويكفرون غالب علماء الامة ثم يعتزون الى الامام احمد بن حنبل رضى الله عنه وهو منهم برئ". (38)  

 

وفي التصور الفقهي التقليدي أن الخلاف الذي بين الصوفية (وهم من أهل الباطن والتأويل) والفقهاء يدخل في دائرة الاختلافات العقائدية (الأيديولوجية) التي تندرج كما قلنا تحت العنوان العريض لـ(التأويل) بل إن تأثير حركة آلة الجرح والتعديل كأداة جهنمية من أدوات هذه الحرب الأيديولوجية، وصل إلى حد أن بعض المجسمة (الحنابلة) حرفوا كتاب "شرح صحيح مسلم" للنووي بأن حذفوا منه المقاطع المتعلقة بأحاديث الصفات والتي تدل على انتساب النووي إلى العقيدة الأشعرية. وعن ذلك يقول السبكي في السياق نفسه :

 

"ومما ينبغى أيضا تفقده وقد نبه عليه شيخ الاسلام ابن دقيق العيد الخلاف الواقع بين كثير من الصوفية وأصحاب الحديث فقد أوجب كلام بعضهم فى بعض كما تكلم بعضهم فى حق الحارث المحاسبي وغيره وهذا فى الحقيقة داخل في قسم مخالفة العقائد وإن عده ابن دقيق العيد غيره.

والطامة الكبرى إنما هي في العقائد المثيرة للتعصب والهوى، نعم وفي المنافسات الدنيوية على حطام الدنيا وهذا في المتأخرين أكثر منه في المتقدمين وأمر العقائد سواء في الفريقين. وقد وصل حال بعض المجسمة فى زماننا إلى أن كتب شرح صحيح مسلم للشيخ محيي الدين النووي وحذف من كلام النووي ما تكلم به على أحاديث الصفات فإن النووي أشعري العقيدة فلم تحمل قوى هذا الكاتب أن يكتب الكتاب على الوضع الذى صنفه مصنفه. وهذا عندي من كبائر الذنوب فإنه تحريف للشريعة وفتح باب لا يؤمن معه بكتب الناس وما فى أيديهم من المصنفات، فقبح الله فاعله وأخزاه، وقد كان في غنية عن كتابة هذا الشرح وكان الشرح فى غنية عنه". (39)

 

وفي السياق نفسه يؤكد السبكي مرة أخرى الارتباط العضوي بين آلة الجرح والتعديل ومسألة (التأويل) وذلك عندما يتحدث عن الأسباب التي تدفع الجارح إلى الجرح حيث يقول:

"أحدها أن يكون واهما، ومن ذا الذي لا يهم ؟ والثاني أن يكون مؤولا قد جرح بشيء ظنه جارحا ولا يراه المجروح كذلك كاختلاف المجتهدين. والثالث أن يكون نقله اليه من يراه هو صادقا ونراه نحن كاذبا وهذا لاختلافنا فى الجرح والتعديل، فرب مجروح عند عالم معدل عند غيره فيقع الاختلاف في الاحتجاج حسب الاختلاف في تزكيته". (40)

 

وفي السياق نفسه أيضا يتحدث السبكي عن حركة آلة الجرح والتعديل ضد الصوفية:

"وأما تاريخ شيخنا الذهبى غفر الله له فانه على حسنه وجمعه مشحون بالتعصب المفرط لا واخذه الله فلقد اكثر الوقيعة فى أهل الدين أعني الفقراء (أي الصوفية) الذين هم صفوة الخلق واستطال بلسانه على كثير من أئمة الشافعيين والحنفيين ومال فأفرط على الأشاعرة ومدح فزاد في المجسمة هذا وهو الحافظ المدره والإمام المبجل فما ظنك بعوام المؤرخين ؟.. ولقد وقفت فى تاريخ الذهبى رحمه الله على ترجمة الشيخ الموفق بن قدامة الحنبلي والشيخ فخر الدين بن عساكر وقد أطال تلك وقصر هذه وأتى بما لا يشك لبيب أنه لم يحمله على ذلك إلا أن هذا أشعري وذاك حنبلي". (41)

 

كما أن الاشتغال بالفلسفة وهي باب واسع جدا من أبواب (التأويل) كان أيضا من أسباب تعرض الشخصيات العلمية لغضب آلة الجرح والتعديل حيث يقول السبكي في السياق نفسه:

"وقع كثيرون لجهلهم بهذا وفى كتب المتقدمين جرح جماعة بالفلسفة ظنا منهم ان علم الكلام فلسفة الى أمثال ذلك مما يطول عده. فقد قيل في أحمد بن صالح الذي نحن فى ترجمته إنه يتفلسف والذي قال هذا لا يعرف الفلسفة. وكذلك قيل فى أبي حاتم الرازي وإنما كان رجلا متكلما. وقريب من هذا قول الذهبي في المزي كما سيأتي إن شاء الله تعالى في ترجمة المزي في الطبقة السابعة إنه يعرف مضايق المعقول ولم يكن المزي ولا الذهبي يدريان شيئا من المعقول. والذي أفتي به أنه لا يجوز الاعتماد على كلام شيخنا الذهبي في ذم أشعري ولا شكر حنبلي". (42)

 

 

وكلما جاء الحديث عن أهل (التأويل) من الصوفية أو الفلاسفة، تحركت آلة الجرح والتعديل لتصب جام غضبها عليهم وتحرض على قتلهم بل وتصدر الفتاوى به في أغلب الأحيان، وهي في غمرة ذلك الغضب تقع لا محالة في التناقض الذي يفضح تحاملها وتبعيتها للسلطة (على الأقل من خلال بعض رموزها) ومن أبرز الأمثلة على ذلك ترجمة أبي حيان التوحيدي التي يوردها السُبكي في الطبقة الرابعة، ترجمة رقم 512 تحت اسم "علي بن محمد بن العباس أبو حيان التوحيدي" حيث يقول :

 

"المتكلم الصوفي صاحب المصنفات.. كان إماما في النحو واللغة والتصوف فقيها مؤرخا صنف البصائر والإشارات وغيرهما، وتفقه على القاضي أبي حامد المروروذي وسمع الحديث من أبي بكر الشافعي وأبي سعيد السيرافي وجعفر الخلدي ولعله أخذ عنه التصوف وغيرهم.. قال ابن النجار له المصنفات الحسنة كالبصائر وغيرها قال وكان فقيرا صابرا متدينا قال وكان صحيح العقيدة. وقال شيخنا الذهبي : بل كان عدو الله خبيثا. وقال الذهبي أيضا : كان سيء الاعتقاد. ثم نقل قول ابن فارس في كتاب الفريدة والخريدة : كان أبو حيان كذابا قليل الدين والورع عن القذف والمجاهرة بالبهتان تعرض لأمور جسام من القدح في الشريعة والقول بالتعطيل. ولقد وقف سيدنا الصاحب كافي الكفاة على بعض ما كان يدغله ويخفيه من سوء الاعتقاد فطلبه ليقتله فهرب والتجأ الى أعدائه ونافق عليهم بزخرفه وإفكه ثم عثروا منه على قبيح دخلته وسوء عقيدته وما يبطنه من الإلحاد ويرومه في الإسلام من الفساد وما يلصقه بأعلام الصحابة من القبائح ويضيفه إلى السلف الصالح من الفضائح فطلبه الوزير المهلبي فاستتر منه ومات في الاستتار وأراح الله منه ولم يؤثر عنه إلا مثلبة أو مخزية.

وقال أبو الفرج بن الجوزي في تاريخه : زنادقة الإسلام ثلاثة، ابن الراوندي وأبو حيان التوحيدي وأبو العلاء. قال وأشدهم على الإسلام أبو حيان لأنه مُجمعٌ ولم يُصرح.

قلت (رجع كلام السُبكي) : الحامل للذهبي على الوقيعة في التوحيدي مع ما يبطنه من بغض

الصوفية. ولم يثبت عندي الى الآن من حال أبي حيان ما يوجب الوقيعة فيه، ووقفت على كثير من كلامه فلم أجد فيه إلا ما يدل على أنه كان قوي النفس مزدريا بأهل عصره لا يوجب هذا القدر أن ينال منه هذا النيل. وسئل الشيخ الإمام الوالد رحمه الله عنه فأجاب بقريب مما أقول". (43)

 

ومن الأمثلة التطبيقية التي تؤكد أيضا توظيف أهل الحديث من خلال آلة الجرح والتعديل في إقصاء المعارضة، ذلك الصراع النظري الحاد الذي  جرى بين المحدثين المؤيدين للصوفية وبالتالي لثنائية (ظاهر/ باطن) أمثال السبكي والمناوي والسيوطي والسخاوي وشيخه ابن حجر وغيرهم، وبين المحدثين المعادين للصوفية ولثنائية (ظاهر/ باطن) والرافضين لهما رفضا مسبقا أمثال الذهبي شيخ السُبكي وابن تيمية وغيرهما. وقد دار ذلك الصراع حول ثبوت أو عدم ثبوت بعض الأحاديث النبوية التي تمنح الشرعية الدينية للرؤية الصوفية أو للخط الصوفي في عمومه. ومنها أحاديث "حقيقة الإيمان" وأحاديث "الأبدال" لأن مفردة "الحقيقة" كما وردت في تلك الأحاديث، جاءت في سياق أن "لكل شيء حقيقة" ولأن "الحقيقة" عند الصوفية هي ما يقابل "الشريعة" عند الفقهاء، ولأن مصطلح "الأبدال" كما ورد في الحديث لا يمكن أن يصدق إلا على الزهاد وورثتهم من الصوفية وهذا ما يقوله أيضا شراح الحديث.

يقول المناوي في التعليق على الحديث رقم 947 من "الجامع الصغير" وهو قوله عليه السلام

"ارفع إوارك فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك" :

 

‏"إن ما تقرر في هذا الخبر وما قبله من أن الرفع والازار حقيقة، هو ما عليه المحدثون والفقهاء. وقال أهل الحقيقة : رفع الثوب وتطهيره كناية عن طهارة النفس من الدنس والأغيار. قال الشاذلي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر يقول : يا علي طهر ثيابك من الدنس تحظ بمدد الله في كل نفس.

قلت : وما ثيابي يا رسول الله ؟

قال : قد خلع عليك خمس خلع، خلعة المحبة وخلعة المعرفة وخلعة التوحيد وخلعة الايمان وخلعة الاسلام. فمن أحب الله هان عليه كل شيء.

ففهمت حينئذ قوله ‏: وثيابك فطهر‏".‏

فالمناوي كما ترى يجعل المحدثين والفقهاء (أهل الشريعة) مقابل الصوفية (أهل الحقيقة).

 

وحول مسألة "الأبدال" يقول المناوي في شرح الحديث رقم  2202 من "الجامع الصغير":

"أبو الحسن القزويني‏، بفتح القاف وسكون الزاي نسبة الى قزوين إحدى المدائن العظيمة المشهورة خرج منها جماعة من أكابر العلماء في كل فن منهم أبو الحسن هذا وهو علي بن عمر الحربي من أهل بغداد وكان زاهداً عابداً من الأبدال وروى عن ابن مكرم وغيره وعنه خلقٌ منهم الخطيب ‏في‏‏ أماليه‏ الحديثية ‏عن أبي أمامة‏ الباهلي.

 

وفي تعليقه على الحديث رقم 3032   وهو قوله صلى الله عليه وسلم :

"الأبدال في هذه الأمة ثلاثون رجلا قلوبهم على قلب إبراهيم خليل الرحمن. كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلا". الحديث رواه أحمد في مسنده عن عبادة بن الصامت. قال الهيثمي : رجاله رجال الصحيح غير عبد الواحد بن قيس وقد وثقه العجلي وأبو زرعة وضعقه غيرهما.

قال المناوي :

 

‏"الأبدال‏ بفتح الهمزة جمع بدل بفتحتين خصهم اللّه تعالى بصفات منها أنهم ساكنون الى اللّه بلا حركة ومنها حسن أخلاقهم. قيل سموا أبدالاً لأنهم إذا غابوا تبدل في محلهم صور روحانية تخلفهم. ‏قلوبهم على قلب إبراهيم خليل الرحمن‏ عليه السلام، أي انفتح لهم طريق الى اللّه تعالى على طريق إبراهيم عليه السلام. وفي رواية : قلوبهم على قلب رجل واحد. قال الحكيم‏ :‏ إنما صارت هكذا لأن القلوب لهت عن كل شيء سواه فتعلقت بتعلق واحد فهي كقلب واحد. قال في الفتوحات‏ (أي ابن عربي) :‏ قوله هنا على قلب إبراهيم وقوله في خبر آخر على قلب آدم وكذا قوله في غير هؤلاء ممن هو على قلب شخص من أكابر البشر أو من الملائكة، معناه أنهم يتقلبون في المعارف الإلهية بقلب ذلك الشخص إذ كانت واردات العلوم الإلهية إنما ترد على القلوب، فكلّ علم يرد على قلب ذلك الكبير من ملك أو رسول، يرد على هذه القلوب التي هي على قلبه. وربما يقول بعضهم فلان على قدم فلان ومعناه ما ذكر. وقال القيصري الرومي عن العارف ابن عربي ‏:‏ إنما قال على قلب إبراهيم عليه السلام لأن الولاية مطلقة ومقيدة. والمطلقة هي الولاية الكلية التي جميع الولايات الجزئية أفرادها والمقيدة تلك الأفراد. وكل من الجزئية والكلية تطلب ظهورها. والأنبياء قد ظهر في هذه الأمة جميع ولاياتهم على سبيل الإرث منهم، فلهذا قال هنا على قلب إبراهيم عليه السلام. وفي حديث آخر على قلب موسى عليه السلام وفلان وفلان. ونبينا محمد صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم صاحب الولاية الكلية من حيث إنه صاحب دائرة الولاية الكلية لأن باطن تلك الولاية النبوية الكلية، الولاية المطلقة للكلية. ولما كان لولاية كل من الأنبياء في هذه الأمة مظهرٌ، كان من طرائف الأنبياء أن يكون في هذه الأمة من هو على قلب واحد من الأنبياء. والأبدال كلما مات رجل‏ منهم، ‏أبدل اللّه مكانه رجلاً‏‏ فلذلك سموا أبدالاً أو لأنهم أبدلوا أخلاقهم السيئة وراضوا أنفسهم حتى صارت محاسن أخلاقهم حلية أعمالهم. وظاهر كلام أهل الحقيقة (أي الصوفية) أن الثلاثين مراتبهم مختلفة. قال العارف المرسي ‏:‏ جُلت في الملكوت فرأيت أبا مدين (سيدي بومدين دفين تلمسان وشيخ ابن عربي) معلقاً بساق العرش، رجل أشقر أزرق العين فقلت له‏ :‏ ما علومك ومقامك ؟

قال‏ :‏ علومي أحد وسبعون علماً ومقامي رابع الخلفاء ورأس الأبدال السبعة.

قلت‏ :‏ فالشاذلي ؟

قال‏ :‏ ذاك بحرٌ لا يُحاط به.

وقال العارف المرسي ‏:‏ كنت جالساً بين يدي أستاذي الشاذلي، فدخل عليه جماعة فقال‏ :‏ هؤلاء أبدال فنظرت ببصيرتي فلم أرهم أبدالاً فتحيرت.

فقال الشيخ ‏:‏ من بدلت سيئاته حسنات فهو بدل.

فعلمت أنه أول مراتب البدلية.

وأخرج ابن عساكر أن ابن المثنى سأل أحمد بن حنبل‏ :‏ ما تقول في بشر الحافي بن الحارث ؟

قال‏ :‏ رابع سبعة من الأبدال‏". (44)‏

 

وفي سياق التعليق على الحديث رقم 3033 وهو قوله عليه السلام :

"الأبدال في أمتي ثلاثون. بهم تقوم الأرض وبهم تمطرون وبهم تنصرون"

الحديث رواه الطبراني في الكبير عن عبادة بن الصامت.

قال السيوطي : سنده صحيح.

 

‏قال المناوي:

"بهم تقوم الأرض‏ أي تعمر. وبهم تمطرون وبهم تنصرون‏ على عدوكم، لأن الأنبياء كانوا أوتاد الأرض فلما انقطعت النبوة أبدل اللّه مكانهم هؤلاء فبهم يغاث أهل الأرض ويكثر إدرار الفيض.

وفي بعض الآثار أن الأرض شكت إلى اللّه ذهاب الأنبياء عليهم السلام وانقطاع النبوة فقال‏ :‏ سوف أجعل على ظهرك صديقين ثلاثين فسكتت‏.‏ 

تنبيه: في خبر لأبي نعيم في الحلية بدل قوله هنا : بهم تقوم الأرض إلخ، بهم يحيى ويميت ويمطر وينبت ويدفع البلاء. قال‏ :‏ وقيل لابن مسعود راوي الخبر‏:‏ كيف بهم يحيي ويميت ويمطر؟

قال‏:‏ لأنهم يسألون اللّه عزّ وجلّ إكثار الأمم فيكثرون ويدعون على الجبابرة فيقصمون ويستسقون فيسقون ويسألون فتنبت لهم الأرض ويدعون فيدفع بهم أنواع البلاء‏.‏ ‏

روى الحكيم الترمذي أن الأرض شكت إلى ربها انقطاع النبوة فقال تعالى ‏:‏ فسوف أجعل على ظهرك أربعين صديقاً كلما مات رجل منهم أبدلت مكانه رجلاً ولذلك سموا أبدال اللّه، فهم أوتاد الأرض وبهم تقوم الأرض وبهم تمطرون‏". (45)

وفي تعليقه على الحديث رقم 3034  وهو قوله عليه السلام :

"الأبدال في أهل الشام وبهم ينصرون وبهم يرزقون"

الحديث راوه الطبراني في الكبير عن عوف بن مالك.

قال السيوطي : سنده حسن.

قال المناوي :

 

"قال العارف ابن عربي رضي اللّه عنه في كتاب حلية الأبدال‏ :‏

إذا رحل البدل عن موضع ترك بدله فيه حقيقة روحانية يجتمع اليها أرواح أهل ذلك الموطن الذي رحل عنه هذا الولي‏.‏ فإن ظهر شوقٌ من أناس ذلك الموطن شديدٌ لهذا الشخص، تجسدت لهم تلك الحقيقة الروحانية التي تركها بدله فكلمتهم وكلموه وهو غائبٌ عنهم. وقد يكون هذا من غير البدل لكن

الفرق بينهما أن البدل يرحل ويعلم أنه ترك غيره، وغير البدل لا يعرف ذلك وإن تركه". (46)

 

3035وفي التعليق على الحديث رقم : ‏

وهو قوله عليه السلام :

"‏الأبدال بالشام وهم أربعون رجلاً كلما مات رجل أبدل اللّه مكانه رجلاً يسقى بهم الغيث وينتصر بهم على الأعداء ويصرف عن أهل الشام بهم العذاب‏"‏.

زاد الحكيم في رواية عن أبي الدرداء : "لم يسبقوا الناس بكثرة صلاة ولا صوم ولا تسبيح ولكن بحسن الخلق وصدق الورع وحسن النية وسلامة الصدر. أولئك حزب اللّه الا ان حزب اللّه هم المفلحون‏".

الحديث أخرجه أحمد في المسند عن عليّ بن أبي طالب كرم اللّه وجهه.

قال السيوطي ‏:‏ أخرجه عنه أحمد والحاكم والطبراني من طرق أكثر من عشرة‏.‏

قال المناوي :

 

"سُموا أبدالاً لأنهم قد يرحلون إلى مكان ويقيمون في مكانهم الأول شخصاً آخر يشبههم كما تقرر. وإذا جاز في الجن أن يتشكلوا في صور مختلفة فالملائكة والأولياء أولى. وقد أثبت الصوفية عالماً متوسطاً بين عالم الأجسام وعالم الأرواح سموه عالم المثال وقالوا‏ :‏ إنه ألطف من عالم الأجساد وأكثف من عالم الأرواح وبنوا على ذلك تجسد الأرواح وظهورها في صور مختلفة من عالم المثال وقد وُجه تطورُ الولي بثلاثة أمور‏ :‏

الأول : أنه من باب تعدد الصور بالتمثيل والتشكل كما يقع للجان.

الثاني : من طي المسافة وزوي الأرض من غير تعدد فيراه الرائيان كل في بنية وهي بنية واحدة لكن اللّه طوى الأرض ورفع الحجب المانعة من الاستغراق فظن به أنه في مكانين وإنما هو في واحد وهذا أجود ما حُمل عليه حديثُ رفع بيت المقدس حتى رآه النبي صلى اللّه عليه وسلم.

الثالث : أنه من باب عظم جثة الولي بحيث ملأ الكون فشوهد في كل مكان"‏. (47)‏

 

وفي التعليق على الحديث رقم 3036 

وهو قوله عليه السلام :

‏"‏الأبدال أربعون رجلاً وأربعون امراة، كلما مات رجل أبدل اللّه تعالى مكانه رجلاً وكلما ماتت امراة أبدل اللّه تعالى مكانها امراة‏.‏ فإذا كان عند قيام الساعة ماتوا جميعاً"

‏الحديث رواه الخلال في كرامات الأولياء والديلمي في مسند الفردوس عن أنس.

يفضح المناوي الآلية المغرضة التي اشتغل من خلالها بعض المحدثين أمثال ابن الجوزي في الحكم على أحاديث "الأبدال" لمجرد كونها مستندا شرعيا للرؤية الصوفية. يقول المناوي :

 

‏"وأورده ابن الجوزي في الموضوع  ثم سرد أحاديث الأبدال وطعن فيها واحداً واحداً وحكم بوضعها وتعقبه المصنف ‏(أي السيوطي) بأن خبر الأبدال صحيح وإن شئت قلت متواتر وأطال. ثم قال :

مثل هذا بالغ حد التواتر المعنوي بحيث يقطع بصحة وجود الأبدال ضرورة.‏

وقال السخاوي ‏:‏ خبر الأبدال له طرق بالفاظ مختلفة كلها ضعيفة ثم ساق الأحاديث المذكورة هنا‏

(انظر الأحاديث 3032، 3033، 3034، 3035، 3037‏ من الجامع الصغير للسيوطي) 

والحاصل كما ذكر السيوطي أن وجود الأبدال تواتر معنويا، حيث إن تعريف الخبر المتواتر هو ما بلغت طرقه حدا يستحيل معه التواطؤ على الكذب، وذلك بصرف النظر عن صحة تلك الطرق‏.‏ فكيف وقد حُكم بصحة بعض هذه الطرق أو حسنه‏.‏ فنسأل الله أن يوفقنا لقبول الحق ويعصمنا من التعصب آمين‏.‏‏ ثم قال ‏(أي السخاوي) :‏ وأصح مما تقدم كله خبر أحمد عن عليٍّ مرفوعاً :

البدلاء يكونون بالشام وهم أربعون رجلاً كلما مات رجل أبدل اللّه مكانه رجلاً يُسقى بهم ‏(أي بدعائهم‏) الغيثُ ويُنتصر بهم على الأعداء ويُصرف بهم عن أهل الشام العذاب. ثم قال السخاوي

رجاله رجال الصحيح غير شريح بن عبيد وهو ثقة.

وقال شيخه ابن حجر (أي شيخ الحافظ السخاوي) في فتاويه‏ :‏

الأبدال وردت في عدة أخبار منها ما يصح وما لا. وأما القطب فورد في بعض الآثار. وأما الغوث بالوصف المشتهر بين الصوفية فلم يثبت‏". (48)‏

 

وفي التعليق على الحديث رقم 3037

وهو قوله عليه السلام :

"الأبدال من الموالي".

يظهر من خلال ما ينقله المناوي عن الغزالي، العداوة القطيعة والهوة الكبيرة والمبررة التي كانت موجودة عبر التاريخ وما تزال إلى اليوم، بين عموم الفقهاء وعموم الصوفية أو بين الصوفي

والفقيه. يقول المناوي  :

 

‏"ظاهره أن ذا هو الحديث بتمامه وليس كذلك بل بقيته عند مخرجه الحاكم ‏:‏ ولا يبغض الموالي إلا منافق اهـ‏.‏ وفي بعض الروايات إن من علامتهم أيضاً أنه لا يولد لهم وأنهم لا يلعنون شيئاً

قال الغزالي ‏:‏ إنما استتر الأبدال عن أعين الناس والجمهور لأنهم لا يطيقون النظر إلى علماء الوقت لأنهم عندهم جهال باللّه وهم عند أنفسهم وعند الجهلاء علماء‏.‏ ‏

قال ابن عربي ‏:‏ الأوتاد الذين يحفظ اللّه بهم العالم أربعة فقط وهم أخص من الأبدال. والإمامان أخص منهم والقطب أخص الجماعة. والأبدال لفظ مشترك يطلقونه على من تبدلت أوصافه المذمومة بمحمودة ويطلقونه على عدد خاص وهم أربعون وقيل ثلاثون وقيل سبعة‏".‏

وحول سند الحديث يضيف المناوي :

 

‏"الحديث ‏أخرجه الحاكم في‏ كتاب ‏‏الكنى‏‏ له ‏‏عن عطاء‏‏ بن أبي رباح ‏‏مرسلاً‏.‏ وظاهر صنيع المصنف (السيوطي) أن هذا لا علة له غير الإرسال والأمر بخلافه بل فيه الرحال بن سالم قال في الميزان‏ :‏

لا يُدرى من هو والخبر منكر.‏ وخرجه عنه ‏(أي عن عطاء‏)‏ أيضاً أبو داود في مراسيله. وإنما خالف المصنف ‏عادته باستيعاب هذه الطرق إشارة الى بطلان زعم ابن تيمية أنه ‏‏لم يرد لفظ الأبدال في خبر صحيح ولا ضعيف إلا في خبر منقطع‏.‏ فقد أبانت هذه الدعوى عن تهوره ومجازفته ‏(‏أي ابن تيمية‏) وليته نفى الرواية ‏(أي ليته حكم بعدم صحة الأحاديث‏)‏ بل نفى الوجود ‏(‏أي نفى أن يكون قد ورد لفظ الأبدال في خبر صحيح أو ضعيف‏) وكَذّبَ من ادعى الورود..‏

وهذه الأخبار وإن فُرض ضُعفها جميعها لكن لا يُنكر تقوّي الحديث الضعيف بكثرة طرقه وتعدد مخرجيه إلا جاهلٌ بالصناعة الحديثية أو معاند متعصب، والظن به (أي بابن تيمية) أنه من القبيل الثاني." ما بين الأقواس مضاف لغرض التوضيح. (49)

خلاصة البحث:

حاولت من خلال هذا البحث أن أضع الخطوط التعريفية الفاصلة لغة وشرعا بين (الشريعة/التنزيل/ الظاهر) من جهة و(الحقيقة/ التأويل/ الباطن) من جهة ثانية، وأبين التطور التاريخي لهذه المصطلحات. وانطلاقا من العلاقة التاريخية للسلطة المركزية (الخلافة) مع كل من الفقيه والصوفي، ومن خلال نصوص وتحليلات وافية، حاولت الطرق لمسألة (التأويل) وعلاقتها بـ(الباطن) والحقيقة الصوفية من خلال الحالة الصراعية التي سادت بين السلطة المركزية ومختلف الأجهزة الفقهية الموالية لها من جهة، وبين الفئات المعارضة لها من خوارج ومعتزلة وفلاسفة ومن بينهم الصوفية.

من خلال هذا البحث حاولت أن أبين أنه كما ارتبطت ثنائية (الشريعة/الظاهر) بالمنظومة السلطوية، كذلك ارتبطت ثنائية (الحقيقة/ الباطن) بالمعارضة من خلال آليات التأويل وأدواته، حيث أوضحت كيف أن السلطة التاريخية عملت على توظيف مفردات النص الديني (المقدس) في إخضاع الشعب (الرعية) وكيف أن آلية (الجرح والتعديل) عند علماء وفقهاء الظاهر، ارتبطت بحالة الإقصاء المنظم التي كانت مسلطة ضد (أهل التأويل) أو المعارضين للسلطة عموما والصوفية منهم.

 

الهوامش:

1- (راجع : حقائق عن التصوف لعبد القادر عيسى، ديوان برس، بريطانيا بدون تاريخ،       ص ص 586 – 587 ) 

2- الزمخشري، أبوالقاسم محمود بن عمر : أساس البلاغة، الطبعة الإلكترونية على موقع :

www.al-eman.com

3- الفيروزابادي، مجد الدين محمد بن يعقوب : القاموس المحيط، الطبعة الإلكترونية، موقع :

www.al-eman.com

4- ابن قدامة، موفق الدين أبو محمد عبد الله المقدسي الحنبلي : المُغني، الطبعة الإلكترونية، موقع :

www.al-eman.com

5- المتقي الهندي : كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، الطبعة الإلكترونية على موقع :

www.al-eman.com

6- ابن الأثير، عز الدين أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الكريم الجزري : أسد الغابة في معرفة الصحابة، الطبعة الإلكترونية على موقع :

www.al-eman.com

7-  ابن قدامة، موفق الدين أبو محمد عبد الله المقدسي الحنبلي : المغني، الطبعة الإلكترونية على موقع :

www.al-eman.com

8- أسد الغابة في معرفة الصحابة، ابن الأثير، عز الدين أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الكريم الجزري، الطبعة الإلكترونية على موقع :

www.al-eman.com

9- الواقدي، أبو عبد الله محمد بن عمر : فتوح الشام، الطبعة الإلكترونية على موقع :

www.al-eman.com

10- البداية والنهاية لابن كثير، الجزء الرابع ، عمرة القضاء، الطبعة الإلكترونية على موقع :

www.al-eman.com

11- ابن كثير، البداية والنهاية ،ج 6 ، قصة الصبي الذي كان يُصرع فدعا له عليه السلام فبرأ، الطبعة الإلكترونية على موقع :

www.al-eman.com

12- الجامع الصحيح للبخاري برقم : 6266 . راجع الموسوعة الإلكترونية "تيسير الوصول إلى أحاديث الرسول" برقم : 116505 على موقع "الدرر السنية" :

www.dorar.net

13- ابن كثير، البداية والنهاية، ج 7 ، أحداث سنة 18 ثماني عشرة، الطبعة الإلكترونية على موقع :

www.al-eman.com

14- ابن خلدون، عبد الرحمن : ديوان العبر، الطبعة الإلكترونية على موقع :

www.al-eman.com

15- ابن رشد القاضي الشهير بالحفيد : بداية المجتهد ونهاية المقتصد، الطبعة الإلكترونية، موقع :

www.al-eman.com

16- ابن رشد، القاضي أبو الوليد : بداية المجتهد ونهاية المقتصد، الطبعة الإلكترونية

www.al-eman.com

17- السابق.

18- السابق.

19- الموسوعة الإلكترونية "تيسير الوصول إلى أحاديث الرسول" برقم : 26552 على موقع "الدرر السنية" :

www.dorar.net

20- الطحاوي، أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي : شرح مشكل الآثار، النسخة الإلكترونية على موقع :

www.al-eman.com

21- السابق.

22- السابق.

23- شرح مشكل الآثار للطحاوي، مرجع سابق.

24- السابق.

25- الحديث رواه البخاري في "الجامع الصحيح" برقم 956 . راجع الموسوعة الإلكترونية "تيسير الوصول إلى أحاديث الرسول" على موقع "الدرر السنية" حيث ورد الحديث برقم :

112929 .

www.dorar.net

26- راجع الموسوعة الإلكترونية "تيسير الوصول إلى أحاديث الرسول" برقم : 146704   

www.dorar.net

27- السابق برقم : 69746

28- السابق برقم : 119114

29- السابق، برقم : 151661

30- السبكي، تاج الدين عبد الوهاب : طبقات الشافعية الكبرى، الطبعة الإلكترونية على موقع :

www.al-eman.com

31- السابق.

32- السابق.

33- السابق.

34- السابق.

35- السابق.

36- السابق.

37- السابق.

38- السابق.

39- السابق.

40- السابق.

41- السابق.

42- السابق.

43- السابق.

44- المناوي، عبد الرؤوف : فيض القدير شرح الجامع الصغير. الطبعة الإلكترونية على موقع :

www.al-eman.com

45- السابق.

46- السابق.

47- السابق.

48- السابق.

49- السابق.

أضيفت في 30/01/2008/ خاص القصة السورية / المصدر الكاتب / أنظر (شخصيات صوفية)

 

 

في الأدب الصوفي

قراءة تحليلية في السيرة الشخصية للحلاّج

 

بقلم الكاتب: رضوان السّح

 

- تحتل السيرة الشخصية للحلاج- وهي المعروفة بـ(قصة حسين الحلاج)(1)- موقعاً خاصاً في السير الشعبية المحلية كالزير سالم وعنترة وتغريبة بني هلال.. - وإن تكن أقل شهرة- وذلك لطبيعة البطل الصوفي، وما تجرّ من طبيعة خاصة للصراع وأطرافه، وللخير والشر، والقيم المطروحة عامة.‏

ولن نلج في تحليل هذه السيرة لرسم ملامح الوعي الصوفي الشعبي ولا يمكننا ذلك إلا بعد إطلالة سريعة على موجز لهذه السيرة.‏

 

- موجز السيرة:‏

عندما كانت أم الحلاج حاملاً به، نذرت إن جاء مولودها ذكراً أن تهبه لخدمة رجال التصوف، ولكنها عندما ولدته لم يهن عليها فراقه فأحبت أن تعلمه صنعة، ولكنه لم يفلح في تعلم صنعة، وفي يوم من الأيام ذكّرها بنذرها، فحملته إلى الشيخ أبي القاسم الجنيد، فصار يخدم هناك، وبينما هو في أحد الأيام ينفض السجادة وإذ بورقة مطوية كان قد كتب عليها الجنيد (اسم الله الأعظم) ليشربه فأخذ الحلاج الورقة وبلعها ليتبرك بها، وهو لا يعلم ما فيها وحين دخل الجنيد وفتش عن الورقة لم يجدها فسأل عنها وهدّد المريدين، وفي هذه الأثناء كان الحلاج واقفاً يبكي وقد التهب قلبه بنور الحق، وتغيرت أحواله، وصار يشطح بالكلام. فقال له الجنيد بضرورة كتمان السر، ولكن الحلاج ظل يتكلم كلاماً غريباً في السوق، حتى شكاه الناس إلى الخليفة بتهمة تكذيب المؤذن. فقال: أنا ما كذبته في المقال، فلو قال (الله أكبر) بصدق الإشارة لما حملته المنارة. وجمع الخليفة العلماء لمناظرته فطلب الحلاج أن يحفروا حفرة، ويوقدوا فيها النار، ويضعوا عليها هاوناً من نحاس، وحين أصبح الهاون جمرة حمراء قام الحلاج وجلس فيه، وقال: يا علماء بغداد من أراد أن يناظرني فليقعد معي. فهربوا فقال: أتهربون من نار الدنيا ولا تهربون من نار الآخرة، وصاح: (الله أكبر). فتطايرت النار، وتفتت الهاون، وعندها قال للخليفة: يا خليفة الله في أرضه، لو قال المؤذن (الله أكبر) بصدق الإشارة، لما حملته المنارة، وكانت تفسخت من تحت أقدامه الحجارة.‏

 

وفي تلك الليلة، والحلاج عند شيخه أفتى علماء بغداد والشام ومصر بقتله، ونفذ الحكم فقطعت أوصاله وأحرق وذرّي رماده في النهر، وكان أوصى أخته أن تأخذ من رماده لتذرّه في النهر لأنه سيفيض ليغرق بغداد، وأن تقول له: عد إلى مجراك لأن أخي سامح قاتليه كرمى لشيخه الجنيد(2). ويحدث ذلك وتراه في منامها بثياب خضر، وحدّثها بأنه نال ما يريد حيث كشف عنه الحجاب ليرى جمال الحق في أي وقت شاء.‏

 

- الصراع.. ومفهوم الشر والبطولة:‏

- إن البناء الأساسي لأية حكاية إنما هو الصراع، وغالباً ما يتجلى عبر تناقض المصالح بين طرفين يمثلان الخير والشر. فإذا جربنا أن نفتش عن عناصر للصراع في قصة الحلاج هذه فماذا نجد؟‏

 

وجه الصراع الأول يتبدى في الحصول على السر الإلهي أو التميمة (اسم الله الأعظم) إلا أن هذا الصراع يبقينا على تعاطف مع طرفيه، لأحقية الشيخ من جهة، وللنية الطيبة للمريد من جهة أخرى.‏

 

بعد هذا ينتقل الصراع إلى مستوى آخر قطباه الحلاج والناس، وهنا يتعمق ويزداد حدة، ولكن دون ظهور قطب لتمثيل الشر، فعلى الرغم من تعاطفنا مع الحلاج يبقى الناس مدافعين عن شريعتهم وليسوا وجهاً عدائياً، بل يدافعون عن العقل والمنطق أيضاً في وجه كلام كله "لحن وتبديل". إلا أننا على هذا المستوى من الصراع نستطيع أن نكتشف أن المحور الحامل له ليس أخلاقياً بقدر ما هو معرفي فالناس تعادي لأنها تجهل، وهذه قيمة يريد النص ترسيخها، والوجه الأعم لها معاداة أي نظام معرفي للنظام المعرفي الآخر. ومن هنا نشرف على الصراع الأول فنراه بين شيخ عارف ومريد ساذج، أي أن الصراع ليس بين الخير والشر.‏

 

في سيرتنا لا يوجد قطب شرير، الحلاج يرهق الناس بكلمات غريبة تبدو مخالفة للشريعة، والعلماء يكفرونه، والخليفة يأمر بقتله بناء على حكم قضائي من الشريعة، والجنيد يكبله بالقيود والجلاد يقطع أطرافه ويصلبه ويقتله، ويحرق جثته، وقبل ذلك يرجمه الناس، ولكن ما من ثنائية للخير والشر، والسر في ذلك أن وحدة الوجود الصوفية لا ترى الشر في شيء، فلا وجود للشر، أو أن الشر في اللاشيء ، فـ"الوجود .. خير، والشر هو العدم"(3).‏

 

إن البطولة في هذه السيرة إنما هي تحدي العدم المتمثل بالتافه والعادي، وصياغة اللوحات المذهلة عبر المواقف التراجيدية العظيمة، ولا شيء وراء ذلك في وحدة الوجود التي لا ترى وجوداً للشر، إذ ما من ثنائية اسمها (الله- الشيطان) لأن الله هو خالق كل شيء، وهو خير مطلق لا يصدر عنه إلا الخير(4).‏

 

- المعرفة والسلطة:‏

- كنت قد حددت في دراستي التي قدمت بها لكتاب (الطواسين وبستان المعرفة) للحلاج، مصطلحين اثنين متجادلين هما: (النقد) و(الفعل). حيث يشير الأول إلى تقصي الخلل المنطقي وبناء النتائج على مقدماتها بهندسية صارمة، ويشير الثاني إلى العمل بموجب المنفعة مع إغفال ما يتضمن ذلك من خلل منطقي(5). وأعود الآن لاستخدام هذين المصطلحين لفهم العلاقة بين المعرفة والسلطة في هذا النص إن السلطة تقوم بتحويل التراث المعرفي إلى أيديولوجيا تسوّغ وجودها، وتستخدم في هذا التحويل الديماغوجية والقوة، وهما من سلالة (الفعل) مقابل (النقد)، وأمام هذه السلطة التي اتخذت من الدين الإسلامي أيديولوجيا تسوّغ لها نهب قوت الشعب عبر الضرائب وغيرها يمكن أن تقدم المعرفة غير المؤدلجة عقلانية الفلاسفة والمعتزلة أو اجتهاد الفقهاء، ولكن الجمهور لا يخاطب بهندسية المنطق ودقة تشعبات العقل، إضافة إلى ما في ذلك من غرابة على التراث المنقول، وهذا ييسر للديماغوجية التلاعب اللفظي، كما أن اللغة الغريبة على النقل تقدم بذاتها مسوغات نسفها بالقوة، أما الاجتهاد فقد توقف وساد تغليب النقل على العقل. والنقل حمّال أوجه، وأمام التأويل لا يبقى منه غير الوجه المناسب لمصالح ذوي السلطان.‏

 

ولا يمكن فهم الحركة الصوفية في فترات كثيرة من تاريخها إلا من خلال إحساس أصحابها بتناقضات هذا الواقع وخطورته. حين يدعى الحلاج لمناظرة العلماء أمام الخليفة- وقد دعي تاريخياً- فإن هذه الدعوة تبدو عادلة في مظهرها، أما في حقيقتها فهي أشبه بإلقاء مصارع مكبل أمام خصمه- أو خصومه- فالأرضية التي تقوم عليها المناظرة ليست في مصلحة الحلاج، كما أن أخلاق الأثينيين ومعتقداتهم لم تكن في مصلحة سقراط عند محاكمته، مع أن الأجواء كانت تبدو ديمقراطية، وقد جاء الحكم بتصويت الأكثرية، وذلك لأن الأيديولوجيا قد حددت الحقيقة بشكل مسبق. إنها المعرفة التي تجسدت فعلاً وقوة، أمام المعرفة التي ما تزال خطوطاً هندسية في الفراغ.‏

 

ويأتي امتياز الصوفية على العقلانيين بامتلاك (الفعل) - أو الحلم بامتلاكه- عبر الاتصال المباشر بالمطلق، وإنتاج النص الذي يكافىء النقل، ويظهر هذا الامتياز بالكرامة، وهي شقيقة المعجزة، فحين يدعو الحلاج مناظريه أمام الخليفة للجلوس معه في الهاون المحمر على الجمر فإنه يشهر سلاح القوة والفعل، لأن الدعوة للمناظرة في أساسها كانت صراع قوة وسلطان، وليست مناظرة معرفية، وبعبارة أخرى، إن القوة هنا هي الشكل المعتمد للبرهان.‏

 

إن اشتراك الولي والوالي في الجذر الاشتقاقي يحمل مشاركة في الدلالة كثيراً ما نلمسها في الكتابات الصوفية، وهي كون الولي سلطاناً في الخفاء، ونكتفي لتجنب الإطالة بمثالين على ذلك من المعجم الصوفي للدكتورة سعاد الحكيم: "إن الولاية دولة قائمة باطنة في مقابل دولة الظاهر.. وهذه الدولة يترأسها القطب أو الغوث"(6).‏

 

"في بدء عهد الخلافة في زمن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي كان الخليفة الظاهر أي أمير المؤمنين هو نفسه الخليفة الباطن أي القطب. ولكن بعد انقضاء عهد الخلفاء الراشدين ضعف الخليفة الباطن عن الظهور بصورة خلافته، فانقسمت الخلافة إلى باطنة وظاهرة، الباطنة: مرتبة ولاية. والظاهرة: مرتبة سياسية"(7).‏

 

- رموز.. وتحليل:‏

- اختتمت سيرة الحلاج بالحلم كما بدأت بالحلم، اختتمت بالحلم الرؤيا حيث اطمأنت (المرأة- الأخت) إلى رؤية أخيها سعيداً في القرب.‏

وكانت البداية بالحلم- الرغبة، رغبة (المرأة- الأم) بأن ترزق طفلاً، وبين هذا الحلم وذاك حلم ينسجه الوعي الشعبي على شكل حكاية مليئة بالرموز يودعها عقائده وهواجسه وأمنياته.‏

إن الماء رمز أنثوي غالباً، وهو الأم، ويمثل الخصب، والعودة إليه هي عودة إلى الرحم ونعيم ما قبل الولادة(8).‏

وهكذا كانت حكاية الحلاج، من الماء إلى الماء، من مياه الأم، إلى مياه النهر، وهذه الحركة الدائرية للأشياء، الانتهاء في نقطة البداية، وهي تعبير عن أهم معتقد صوفي، وهو وحدة الوجود.‏

 

لقد بدأت الحكاية بامرأة حامل، والحمل إشارة ضمنية إلى وجود الأب، وعدم ذكر الأب صراحة ربما يعود إلى رغبة في محاكاة سيرة المسيح، هذه المحاكاة التي جاءت في عدد من الروايات التاريخية إلى درجة القول إن الحلاج لم يصلب وإنما شبيهه. إلا أن السيرة الشعبية لم تتوغل كثيراً في هذا المنحى، وإن جاءت الإشارة في حلم الأخت إلى أنه لم يعان من تقطيع أوصاله لأن قلبه كان مشغوفاً بالمحبة، وأنه عندما خنقوه نزلت ملائكة حسان الوجوه، ورفعته إلى ما تحت العرش.‏

إنني أرى عدم ذكر الأب يأتي لحاجة أخرى، وهي أن المريد ينبغي أن يكون بلا أب، والمعنى (سلوكياً) أنه ينبغي ألا يكون متعلقاً بأبيه الطيني إلا إذا كان أبوه وشيخه شخصاً واحداً (9)، والحكاية تريد أن تجعل من الحلاج نموذجاً مثالياً في (السلوك).‏

والأب في البداية- طينياً أو إلهياً أو روحياً- تقابله النار في النهاية فهي رمز للأب والإله، والنار والماء من أعظم الرموز الكلية، ولهما قدرات إنتاج الحياة وتدميرها معاً(10). ففي الجانب التدميري نرى ثورة (النار= الأولياء) تنوي هدم بغداد، ونرى ثورة (الماء- الفرات أو دجلة) تفيض لإغراقها.‏

 

الجنيد الناري يمارس سلطته لتهدئة الأولياء، والأخت المائية تمارس سلطتها لإعادة المياه إلى مجرى النهر، وذلك كله بتسامح الابن التموزي الذي يناصر ازدهار الحياة، ويقدم نفسه قرباناً(11).‏

تأتي الأخت ثائرة سافرة عن وجهها إلى ساحة الإعدام، والسفور الذي يأخذ معنى الإغراء الجنسي وإنتاج الحياة، ينقلب في المعركة إلى معنى التحريض وإثارة النخوة في نفوس الرجال من أجل مزيد من الفتك والتدمير، والأخت في مشهد الإعدام تقوم بالدور الثاني، إنه سفور يتحدى الرجال لتذكيرهم بأصلهم الذي يجري تزييفه بالقمع والتجهيل، وحين يطلب منها أخوها أن تستر وجهها أمام الرجال، تقول: "أين الرجال.. لو كانوا رجالاً ما أنكروا حال الرجال"(12).‏

 

وبهذه العبارة ندخل مستوى آخر للتحليل:‏

إن السيرة الشعبية هذه تكتب نسخها وتروى في أجواء الاستبداد العثماني، والسيرة الشعبية عموماً إنما تصور زمن كتابتها وروايتها، وإن كانت تستخدم أشخاصاً ووقائع من الماضي(13)، فماذا تود أن تقول هذه السيرة عن عصرها؟ أو ماذا يمكن أن نقرأ في هذا الذي سميناه حلماً أنتجه الوعي الشعبي(14).‏

 

إن السيرة بما تخلق من تعاطف مع شخصية الحلاج وتسويغ لكلامه وسلوكه الغريبين إنما تشكو واقعاً جامداً ومقولباً، وهي إن لم تكن نشداناً للمدنية والتطوير فإنها بكل تأكيد نزوع واضح للحرية والكرامة الإنسانيتين، إنها مطالبة صريحة بتقدير أحوال الرجال. والموقف الذي جئنا على ذكره في المناظرة أمام الخليفة هو تأكيد على مطلب الحرية عبر إظهار الفروق الفردية، وهو في الآن ذاته دعوة لتقدير أحوال الرجال.‏

 

والرموز التي تؤكد ما ذكرنا كثيرة وأهمها السجن، فالسجن تظهر دلالته الرمزية عندما نقرأ "دخل السجن فوجد فيه خلقاً كثيراً"(15) والسجن قد يكون (الدنيا)(16) بمستوى رمزي أعمق تقتضيه سيرة صوفي، إلا أن هذا المستوى لا يلغي نزعة الحرية على مستوى أقل عمقاً، فماذا يعني قوله للسجناء- وهو واحد منهم-: "ما حبسكم هنا إلا ذنوبكم، وغفلة قلوبكم عن محبوبكم"(17) سوى التأكيد على رفضه شرعية هذا السجن، ثم يأتي خروجه مع المساجين بشكل غير شرعي تأكيداً على عدم شرعية الإدخال، وإذا كان الإدخال بشرعية الشريعة كما يريدها السلطان(18) فالخروج كان بشرعية الحقيقة أو الكرامة، وقد جاءت الكرامة تحمل رموز الحرية: المركب والبحر..‏

 

وحين ننظر في التهمة الكبرى الموجهة للحلاج وهي تكذيب المؤذن نلمس من السيرة تحرّقاً إلى حرية القول، وإن كانت تحمل في الوقت ذاته تحرقاً لا يقل عنه في احتقار الكذب والتزييف وتفريغ الألفاظ من المعنى، وكلا الأمرين واحد فإنه يعمل على إنتاج قول مزيف فارغ المحتوى.‏

 

في موقف المناظرة تم عرض نموذج للكلمة الصادقة وأثرها وفي هذا إيقاظ للكرامة الإنسانية، وتنبيه إلى خطر انحطاط الإنسان من برج اللغة والكلام إلى درك اللغو والتصويت.‏

 

وقد يكون من المفيد جداً النظر في دلالة (اسم الله الأعظم) الذي يشكل مركزاً تدور الأحداث في فلكه لنرى مدى التأكيد على أهمية الجوهر الإنساني، ومدى التأكيد على الصدق كطريق إلى هذا الجوهر.‏

 

جاء في فصوص الحكم لابن عربي: "الإنسان هو اسم الله الأعظم لأنه أعظم دليل على المسمى"(19) كما جاء فيه: "قيل لأبي يزيد: أرنا (اسم الله الأعظم) فقال: أسماء الله كلها عظيمة، فما هو إلا الصدق. أصدق، وخذ أي اسم شئت فإنك تفعل به ما شئت"(20).‏

 

وأخيراً بقيت نقطة يثيرها تساؤلنا عن الأسلوب الذي تعتمده السيرة في مواجهة الظلام القائم، ولا أرى الإجابة تحتاج إلى كثير عناء، فالسيرة تجنح إلى التسامح والسلام، وقد جاء التسويغ الفني لهذا التسامح على شكل إكرام المريد لشيخه "ولأجل عين تكرم ألف عين" ولا أرى تعليل هذا الجنوح السلمي مقتصرا على أن الواقعة التاريخية تمت بدون أية مظاهر للعنف، فالتاريخ يروي حدوث بعض مظاهر العنف- وإن كانت بسيطة- كإحراق بعض الدكاكين(21).‏

ولكن من الأرجح أن الذي أسهم في تشكيل هذا الموقف المتسامح في السيرة هو كثرة القلاقل والفتن وما كانت تجرّ على البلاد من دمار وإفقار(22)، ومن ناحية أخرى مفهوم البطولة الذي يجعل من القاتل موضوعاً للشفقة، بدل أن يكون موضوعاً للثأر والانتقام.‏

 

هوامش ومراجع:‏

1- اعتمدنا في هذه الدراسة على النسخ التالية من (قصة حسين الحلاج):‏

أ- قصة حسين الحلاج- دمشق- مطبعة الترقي 1357هـ- 1939م ونرمز لها (ت).‏

ب- قصة حسين الحلاج- مخطوطة محفوظة في مكتبة الأسد بدمشق برقم /11282/ منقولة من المكتبة الظاهرية، ونرمز لها (ظ).‏

جـ- قصة حسين الحلاج- مخطوطة محفوظة في مكتبة الأسد بدمشق برقم /18251/ منقولة من المكتبة المولوية بحلب. ونرمز لها (م). وجميع النسخ مجهولة المؤلف.‏

2- من المعروف أن الجنيد توفي قبل محنة الحلاج، والحلاج سلك الطريق ولبس الخرقة على يدي عمرو بن عثمان المكي وليس على يدي الجنيد، ولكن السيرة كغيرها من السير الشعبية تجري الكثير من التحويرات في الزمان والمكان والأشخاص.. وهذا موضوع فصل في دراسة ستنشر مع نص السيرة محققاً، ضمن كتاب بعنوان "السيرة الشعبية للحلاج".‏

3- المعجم الصوفي- الدكتورة سعاد الحكيم- دندرة- بيروت- الطبعة الأولى 1981- ص208.‏

4- انظر مقدمة (الطواسين وبستان المعرفة- رضوان السح- دار الينابيع- دمشق- 1994) و(نقد الفكر الديني- د. صادق جلال العظم- دار الطليعة- بيروت- الطبعة الخامسة 1982- ص55- 87).و (منطق الطير- فريد الدين العطار- دراسة وترجمة د. بديع محمد جمعة- دار الأندلس- الطبعة الثانية 1979- ص359- 361).‏

5- انظر مقدمة الطواسين وبستان المعرفة ص12.‏

6- المعجم الصوفي ص129.‏

6- المعجم الصوفي ص129.‏

7- المصدر نفسه ص421.‏

8- انظر تفسير الأحلام- بييرداكو- ترجمة وجيه أسعد- منشورات وزارة الثقافة- دمشق 1985- ص387- 389. والرموز في الفن والأديان والحياة- فيليب سيرنج- ص350- 360. والعنصر الأعظم في المعجم الصوفي ص826 وما يليها.‏

9- جاء في (الأنوار القدسية في معرفة قواعد الصوفية- الشعراني- تحقيق طه بعد الباقي سرور والسيد محمد عيد الشافعي- مكتبة المعارف بيروت 1975): "من كان له أبوان لا يفلح في الطريق لأنه يصير مذبذباً بين ما يريد هذا، وما يريد هذا، ثم إن أبا التربية لا يدعو الولد دائماً إلا إلى الآخرة، وأبوه الطيني الغالب أنه لا يدعو ولده إلا إلى الأمور الدنيوية. وكان سيدي أبو السعود الجارحي يقول لمن يريد صحبته: هل لك أب؟ فيقول له: نعم. فيقول: أين هو؟ فيقول في البلاد مثلاً. فيقول: اذهب إليه، أنا لا أصحب من له أب غيري" ج2ص60.‏

10- تفسير الأحلام لداكو ص395.‏

11- انظر (مغامرة العقل الأولى- فراس السواح- دار الكلمة- بيروت- الطبعة الثانية 1981) ص259- 265 وص303.‏

12- نسخة (ظ) ورقة 36.‏

13- فأبو زيد الهلالي هو الفدائي عند الراوي الفلسطيني، وذياب الهلالي هو عمر المختار عند الراوي الليبي. انظر (الآداب الشعبية والتحولات التاريخية الاجتماعية. مثال سيرة بني هلال- مجلة عالم الفكر- عدد خاص عن الملاحم والسير الشعبية- الكويت- المجلد الثامن عشر- ابريل- مايو- يونيو 1986) ص37و ص39.‏

14- انظر (اللغة المنسية- إيريك فروم- ترجمة محمود منقذ الهاشمي- منشورات اتحاد الكتاب العرب- دمشق 1991) ص231 وما يليها.‏

15- النسخة (ت) ص8، وجاء في النسخة (ظ): "فلما دخل وجد في السجن خلقاً كثيراً" ورقة 30.‏

16- جاء في الحديث: "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر" (طبقات الصوفية- السلمي- تحقيق نور الدين شريبة- مكتبة الخانجي الطبعة الثانية 1969) ص17.‏

17- النسخة (ت) ص8، وفي (ظ): "ما حبسكم إلا ذنوبكم، وغفلة قلوبكم عن محبوبكم" ورقة 30. وعبارة (ظ) نفسها في (م) ورقة 15.‏

18- تبدو أنها رغبة الجمهور والفقهاء وهم في حال التعبير عن أيديولوجيا السلطة.‏

19- المعجم الصوفي ص609.‏

20- المصدر نفسه ص611.‏

21- انظر (المنحى الشخصي لحياة الحلاج شهيد الصوفية في الإسلام- ماسينيون- منشور في كتاب شخصيات قلقة في الإسلام لعبد الرحمن بدوي- وكالة المطبوعات- الكويت- الطبعة الثالثة 1978) ص78.‏

22- يقول ماسينيون معلقاً على رحيل الحلاج إلى مكة: "ويلوح أن هذا الرحيل كان في نفس الوقت الذي أخمدت فيه فتنة الزنج، وقضي عليها فيه نهائياً، مما أكد عند الحلاج هذا اليقين، وهو أن وحدة الأمة الإسلامية لا يمكن أن تتم عن طريق الحرب الدنيوية، لكن عن طريق الصلوات والتضحيات في حياة الزهد والمجاهدة" المنحنى الشخصي ص65.‏

أضيفت في 10/06/2006/ خاص القصة السورية / أنظر (شخصيات صوفية)

 

 

لماذا الصوفية... وكيف؟.

بقلم الكاتب: حسام مطلق*

 

الإنسان كائن مؤمن قبل كل شيء.

 لهذا كثيرا ما بحث الإنسان عن الصحيح, والخير والشر. بل حتى في ممارسته للشر هو يصبغه بطابع أخلاقي لكي يستمر بتحقيق التوازن النفسي اللازم لمتابعة الحياة بإحساس إنساني ( نظرية لفرود ) . ولهذا قام المصلحون وعبر الأزمنة بابتداع نظريات بعضها صيغ أساساً على شكل نظرية أخلاقية وحورته الأجيال اللاحقة إلى دين. وبعضه وضع أساساً ضمن قالبٍ ديني وذلك لسببين : الأول أن الدين كان العامل الأكثر جذباً للقواعد الجماهيرية التي يحتاجها كل مصلح,خصوصا في الشرق, فهو أولا وأخراً يسعى لإصلاح هؤلاء. والثاني ما يمكن أن نسميه باليقين الوهمي ( فرويد ) حيث تتداعى الوقائع لتؤيد نظرية النبوة حتى يمتزج في عمق المُدعي ما هو صحيح مع ما هو مأمول فلا يمكن للإنتاج الإنساني حينها إلا أن يكون مغايراً للحقيقة, ولو كانت الحقيقة هي أصلاً مقصد هذا المبدع.

 

إلا أن المراجعة الذاتية لأتباع كل دين كانت تقود إلى اكتشاف هذا اللبس, فيسعى المصلحون الجدد إلى تعديل المسار, ولا يكون أمامهم سوى طريقين : الأول هو التبشير بأنفسهم (  الحلاج: أنا الحق ) مقدمين بأنفسهم مثلاً جلياً على طبيعة النبوة غير الاستثنائية بأساسها. أو الاعتزال ومحاولة إشباع غريزة التدين عبر طقوس جديدة لا يصطدمون بها مع المجتمع دون أن يقروه على ما هو عليه . وهؤلاء هم من عرف بالمتصوفة . ولكن الحسم النهائي جاء عن طريق المنطق والمحاكمة العقلية. فالارتكاز إلى الفلسفة والمنطق, وخصوصاً في الغرب, حسم قضية النبوة بين النخب الفكرية. ولكن هذا الحسم يبقى ناقصاً وذلك لسببين : الأول أننا لسنا في مسابقة أو معركة والمطلوب هو تسجيل انتصار على الآخر, فالسبب الأساسي لظهور الأديان لم تتم معالجته ( غريزة التدين-الإصلاح ) والثاني أن هذا الحسم تم على صعيد النخب الفكرية فيما ما تزال أعداد كبيرة تؤمن بالأساس الديني ولكنها فقط تحررت من ممارسة الطقوس الدينية فيما ما يزال المحرك الأساسي لقراراتها السياسية والاجتماعية مرتكزاً على أسس دينية بحتة ومعلنة ( المسيحيون الجدد في الولايات المتحدة و إسرائيل ) . 

إذن يمكن القول أن الفكر الصوفي, أو المحاولات الصوفية كانت بمثابة المحاولات الأولى للتحرر من الفكر الديني عبر تجسيد رمزي بسيط وهو التمرد على مبدأ النبوة أو فكرة النزول.

 

لذا عُدت الصوفية خروجا عن الدين لدى دخولها إلى الأديان جميعاً, ولكنها في ارتقاء بالفهم الإنساني الشائع للدين, فهي تجسيد لغريزة التدين الإنساني بعيداً عن القولبة المسبقة, وهي سير بالإنسان إلى طبائع الألوهية التي عليه أن يتمثلها لكي يحقق غريزة التدين .

 

ليس تمثل الطبائع الإلهية بإدعاء التأله بل هو في ممارسة سلوكية في الحياة اليومية تتوافق والوازع الداخلي الذي غالبا ما تمثله التعاليم الدينية تخت بند الاوامر الإلهية الموجهة للإنسان .أي أن الصوفية عبور فوق مرحلة شعائر خاصة وصولاً إلى النفح الإلهي.

 

كما أنها في مكان ما منها نقطة جامعة للاديان, بل هي توحيد عملي لشعار التوحيد الذي نادت به الرسالات السماوية جميعاً, وعودة بها إلى أصلها الداعي إلى ارتقاء الإنسان ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ).

 

فالذات الأولى (الله في الاسلام ويهوى في اليهودية والأب في المسيحية)  كحقيقة وجودية واحدٌ لدى كل أتباع الرسالات جميعها, ولكنه كفهم لهذه الحقيقة مختلفٌ عليه بين ثالوث مسيحي وإشكالية اسلامية وقبلية يهودية, مما جعل أسم الله مدلولا لايماء مختلف للمتلقي, كلٌ وفق تراثه, الكل يعبد ذات الذات ولكنه يدركها ادراكاً مستقلاً عن الأخرين ويشخصنها عبر اسقاطات مثيلوجية خاصة به.

وهنا تكمن عظمة الصوفية لأنها تسير بالمؤمنين إلى أفق آخر, إلى عالم الوحي الإلهي المباشر الذي عايشه الأنبياء ومن ذاك التعايش فهموا رسالاتهم , فهي معراج ذاتي أو وقفة خاصة في جبل النور.

 

الفهم الصحيح للرسالات السماوية هو المفتاح لتطبيقها تطبيقاً ينسجم وجوهرها, أما تفسيرها وفقاً لظاهرها فإنه يحمل مخاطرة الإنزلاق العصبي لأنه يتأثر بالتباينات الإجتماعية وتقلباتها مما يقود إلى إلتباسات واضحة في فهم المقاصد الأساسية للرسالات.

 

فالفرق والطوائف التي مزقت أنصار الرسالات جعلت من الذات الاولى أشبه بشيخ قبيلة , جوده في أعماق أتباعها مرتبط بإنتصاره لهم انتصاراً سياسياً بالدرجة الأولى. وطبيعة هذا الإنتصار الممنتظر تُخرج الإيمان عن حقيقته  المتمثلة في الحب المطلق بين الناس والسعي للخير والصلاح -  وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم – أي التعارف لا الأمبراطورية هو اساس الديانة.

 

إن الصوفية تنقل الإنسان في رحلة ذاتية بعيدة المدى, عمقها عمق الكون ولكنها في جغرافيتها لا تخرج عن حدود الأنا, إنها رحلة كشف الأعماق التي كلما مضت أبعد كلما اقتربت البادىء المحرك أكثر, وكلما اقتربت النفس البشرية من الذات الاولى التي هي مصدر الذوات اقتربت أكثر و أكثر من فهم مقصاد رسالات الدينية في جوهرها. التي هي في النهاية رسالة واحد وتعاليم من جاءوا بها هي ذات مقصد واحد .

 

فالكتب المقدسة هي تسجيل مفترض لكلام البادىء المحرك, ولكن الفهم الصحيح لهذا الكلام مرتبط لا بظاهر اللفظ بل بمعرفة طبيعة القائل وصولاً لفهم دوافعه لهذا الكلام. وهنا يبرز العنصر الذاتي في تفسير المقاصد, فتصبح الذات الاولى مجرد صنم مصنوع من اسقاط مباشر لاحتياجاتنا المحدودة والزمنية المبنية على الخوف والرغبات العاجزة. ومن يشك في ذلك عليه ان يلاحظ الارتباط المباشر بين مقدار المعرفة الجمعية لشعب وعلاقة تلك المعرفة بالذات المعبودة لديه وتصويرها في اساطير ذاك الشعب. الاسقاط على الذات الاولى دائما مرتبط بالمدرك المحسوس لا بالمجرد, وهو ما يجعل تلك الذات عرضة لتناقضات تعجز الالسنة الدينية عن الاجابة عليها بغير الجواب المشهور : ان الله اكبر من ان يدرك. 

 

من تلك الاسقاطات صَنَعَتْ كل الطوائف والفرق الدينية على امتداد التاريخ الإنساني لنفسها إلهاً قبلياً ,هو أقرب إلى الآلهة التي آمنت بها الشعوب القديمة منه إلى الذات التي يفترض بنا عبادتها.

 

هذه الذاتية في الاسقاط جعلت كل الفرق والطوئف مغلقة على نفسها غير قادرة على رؤية المشترك بينها وبين الآخرين فصارت تحاكم وتهمش وتدين وتجرم بدل أن تحقق القصد الأساسي من الرسالات وهو الحب والخير وتغليبه على كل العناصر الأخرى المحركة للسلوك الإنساني .

 

وهنا تبرز أهمية الصوفية في تصحيح  فهم الديانات السماوية لأنها رحلة باتحاه واحد وبطريقة واحدة, لا يجتاز المتصوف فيها السماء ليلاقي ربه, ولا يحتاج إلى وسطاء, بل هي صعود عقلي إلى العمق الذاتي .

 

فالمعرفة الصوفية لله ذات خصائص ثابتة بين جميع الأديان لأنها معرفة ذاتية وليست فهماً موضوعياً لحقيقة خارجية ويتم الوصول إليها عبر الجزء المولد للصور في العقل ألا وهو المخيلة.

 

 فهي شيء يخلقه المتصوف في ذاته عمداً عبر تدريبات عقلية و جسدية محددة قد تتضمن ألفاظاً أو حركات هي من أدبيات هذا الدين أو ذاك ولكنها في حقيقتها ليست أكثر من وسيلة عبور لتحقيق تعالٍ ذاتي يؤدي في نهاية المطاف إلى رؤيا هي اقرب ما تكون إلى نزول الوحي .

تكون في أول مرة قهرية بحيثياتها ثم تصبح اختيارية, يستطيع المتصوف الولوج من خلالها في عالم الماورائيات كلما أراد ذلك وتبعاً للوقائع اليومية لحياته فيرى الحلول من خلال هذا التواصل المستمر بينه وبين علة الوجود.

 

هي رحلة تبدأ بفصل الذات عن المحيط ايعازاً ببدأ الغوص, عبر احساس بالسلام اللامتناهي الذي يقود وللحظات لا محدودة إلى السعادة المطلقة التي تعلو كل أشكال الأحساسيس التي قد تعتري الإنسان العادي. إنه ولوج في نفحات الإلوهية من خلال العبادة بمعناها المطلق لا يحققه المتصوف مالم يقم بفطام كامل ومنهجي عن انفعالات الاستعلاء و الجشع و الحزن و الغضب وكل ما يقيد الأنا بالعالم الكوني المحيط, إنه إبراز كامل للذات على حساب رغبات هذه الذات الدنيوية .

 

فرغبات الأنا تدخلنا في متاهات البحث الدنيوي الذي يعزز الفصل بين الطبيعة الروحية الالهية للانسان وماديته البشرية وذلك لصالح الأخيرة .

في حين أن كل ما تحتاج إليه للاتحاد مع علة الوجود هو الرحيل إلى ذاتك, ولكن ليس عبر رغباتها بل فوقها, متجاوزاً لها, رحيلاً بعد رحيل إلى أن يتحقق القصد .

 

هذا الرحيل المتكرر ينمي الاحساس الروحي على حساب الرغبات المادية مما يجعل المتصوف أقدر على فهم الكتب المقدسة من الرجل العقلاني المعتاد في الحياة اليومية .

 

فالرحيل المتكرر يحقق تصاعداً عقلياً منهجياً هو في حقيقته نزولٌ عقلي عميق إلى ما وراء العقل العادي السطي بغرض استنباط البعد الغيبي لهذا العقل المتسطح, أو بتعبير أخر هو اعادة تفعيل الذاكرة الوجودية لعقلٍ عطلته الانشغالات الدنيوية بجزئياتها المتكررة عن الاتصال مع ذاته و ادراكها .

هذه الاستنباطات الذاتية التي يتبناها المتصوف لبلوغ غايته البادىء المحرك تقوده إلى حال من الوحدة الكونية عبرَ عودةٍ بالذاتِ إلى أصلها في مزج تام مع مصدرها لترميم العجز الذي اعتادته ذات المتصوف في حياتها اليومية .

 

والعجز هو سبب الشر كله. فالشر ناتج عن صراع داخلي بين الأنا المستعلية التي تدرك أصلها الإلهي وترغب في تحقيقه ولكن العجز يقف حائلاً بينها وبين الوصول الى مرادها, فتسعى لتسيس الآخرين لأغراضها مستمدةً من استغلالهم قوة اضافية علها ترمم بها العجز الذي تحس به, وهذا الاستغلال هو عنوان الشر الذي يقترفه البشر .

 

أما المتصوف فهو يرمم عجزه بإدراك ذاته ومزجها مع مصدرها متجاوزاً بذلك الصغائر التي تحرك الأشرار. ولا يصل المتصوف إلى ادارك البادىء المحرك من رحلته الأولى, وهو قد لا يصل نهائياً, ولكنه في كل رحلة يشعر أنه يقترب أكثر. فيزداد بعد كل عودة سمواً وقدرةً على الحب, ويتحرك به دافعٌ يدفعه للمزيد من هذا الغوص, في عملية تدمير منهجي للأنا بإمتصاصها إلى الداخل حتى مرحلة الفناء الكامل, الذي يقود في لحظة تمامه إلى الإتحاد مع علة الوجود .

 

إلا أن هذا الإتحاد المنتهي بالفناء لا يقود إلى خروج المتصوف عن الطبيعة الإنسانية كما قد يتوهم البعض, بل  هو انتقال انساني الى انسانية أكثر سمواً كما سبق التقديم.

 

فهو لا يدمر القدرات الطبيعية العقلية للمتصوف بل هو يحققها و يسير بها إلى مقصد خلقها, ولعل هذا ما يفسر أن يكون المتصوفة هم أصحاب السبق في المطالبة بالتغيرات الإجتماعية نصرةً للفقراء و المساكين عبر العصور وفي جميع الأديان ودون تقيد العرق او القبيلة.

إن هذه الريادة هي تعبير كامل عن الارتقاء بالفهم الديني من القبلي إلى القصدي, ألا وهو سعادة الإنسان . إن الله لا يأمركم بذبيحة ولكن يأمركم  بالرحمة  كلمة لنبي إسرائيلي كانت كل رسالته, هذه الجملة كانت القرآن الذي نادى به. أي أن الصوفية تنقل المتدين من الفهم الغوغائي للدين إلى التوحد والتوحيد وفقاً للقصد الأساسي للأديان .

 

والصوفية ممكنة للجميع دون قيود على العقيدة الآنية السابقة للتصوف, بل القيد هو على طبيعة الذات المريدة للتصوف, فالتصوف يتحقق بشرطين الأول أن تكون مؤمناً لا ملحداً و الثاني أن تكون ذا مخيلة, ولاشك أن الشرط اللازم غير الكافي السابق لكلا الشرطين هو الإرادة .

1- ذا إيمان : لأن التجربة الصوفية تقودك إلى الفهم الصحيح للذات الاولى ولكنها لاتنشىء هذا الفهم, فالبادىء المحرك ليس ظاهرة فيزيائية يمكن البرهنة عليها بالقوانين العقلية الصرفة تمتلك الصوفية معادلاتها , إن الإيمان بوجود الذات الاولى مصدر الذوات جميعها يبدأ من القلب, ثم يناقشه العقل, وليس العكس .

 

2- ذا مخيلة : لأن المريد الذي يسعى للصوفية اذا كان ذا قدرة محدودة على التخيل قديؤدي به ذلك  إلى تعظيم المثيلوجيا على حساب القصد.

 

وهنا يقع مكمن الخطر في الصوفية لأنها لا تؤدي إلا إلى نهايتين حتميتين, إما إيمان سامي لا يرقى  إليه من درج على تسميتهم بالمؤمنين عادةً أو إلى تعميقٍ للفهم الوثني ناتجٌ عن استحضار صورٍ مختزنة وفهم مسبق مصدره المثيلوجيا التي صنعهتا الفرقة التي ينتمي إليها هذا المريد .

 

فهو عندها الرب جالساً مع المسيح وقربهما مريم كأنهم اسرة واحدة إن كان مسيحياً أو أي صورة أخرى استحضرها من ذاكرته وفقاً لأساطير فرقته ولم تنشئها مخيلته انطلاقا من احساسه الوجودي المجرد.

 

والإنشاء هنا ليس صناعة لإله شخصي بل هو استنهاض للصور الفطرية للخالق فالذات الأولى لها اثر في كل ذات, هي في قلب كل مؤمن (...لا تسعني السموات والأرض ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن... ).

 

وهذا التصور الألهي ليس تصوراً مادياً كما قد يفهم البعض, فلايكون الاتحاد أو الرؤيا بين الذات وبين والذات الاولى على شكل اتحاد مع رجل عظيم مهما بلغت عظمته واقفاً أمام المريد أو يخاطبه , فهذا كما سبق ذكره, هو اسقاط لذاتية ما مرتبطة بتاريخ أو ثقافة المريد . ولكن الاستحضار الحقيقي يكون عبر حالة من النشوة غير مسبوقة, دلالتها الاحساس بالسلام والسرور لا التصوير المباشر, هي احساسٌ بالاغتسال الروحي, بالطهر والتسامي .

 

 فنحن لا نستطيع أن نرى الذات الاولى ولكننا نحس بها كما تريد هي أن نحس بها وبالقدر الذي تحدده عبر ما اعطي لنا منها اساسا من ملكات .أما استخدامنا لتعابير مثل ( التخيل - استحضار الصور ) في سياق الحديث فهو ليس استخدام للدلالة المباشرة للكلمة بل هو لتقريب اللامادي إلى الفهم المادي.

 

المخيلة, إذن, ضرورية لأنها معيار العمق الإلهي للفرد. وهي ما يجعل من الإنسان أكثر سمواً من باقي المخلقات. كما أنها الوسيلة الوحيدة لادخال الذات الإنسانية في عالم المثل. فهي امتياز ان جمع مع العلم والقدرة على الحب صار فضلاً عظيماً ( ...ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي فضلاً عظيما... ) .

 

وهكذا نجد أن الصوفية دون سواها من نظريات الخطاب الروحي لا تضع قيداً مسبقاً لمتبنيها ولكنها تحاكي امتيازاً ذاتياً, فلا عبرة لدينك ولا عبرة لمنبتك ما دام بحثك هو عن الحقيقة. فليس ضرورياً أن تقيد نفسك بعقيدة وحيدة وتُكذب العقائد الأخرى, لأنك بهذا تفترض مسبقاً أين تقع الحقيقة, وكأنك بهذا تسير إلى الحقيقة بطريق دائري سوف يصل بك إلى حيث بدأت . كما أن كل الأديان مقصدها التدليل على الذات الأولى بل إن بعض ما نعتبره وثنياً صار وثنياًَ من تحزب مناصريه لأعرافهم القَبَلية عبر العصور, ولكن هذا لا يلغي سمو مقصده اصلا ,فلا بد أن يبقى بحثك عن الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة خالياً تماماً من الأحكام المسبقة.

 

هذه الحقيقة التي حين تتجرد من رغباتك الذاتية ترتسم لك بحرفين فقط انها الحب الذي عليه أن يحركك ويقودك في كل سولكياتك. وبادراكك للحب وسيطرته على أفعالك يصبح فهمك لمرتكب الخطيئة فهماً مختلفاً وحكمك عليه صادرٌ عن قصدٍ أخر هو غير الانتقام حتماً.

فمتى بلغت ذلك تكون قد ولجتَ الصوفية من بابها الذهبي واستطعت ان تفهم مقاصد الأديان .

 

أما كيف تبدأ المشوار, فإن له مرحلة سابقة لمرحلة الغوص الى الأعماق, تسمى الإنقسام  الذاتي. حيث تجعل من ذاتك ذاتين, الأولى تتابع مسار حياتك المعتاد فيما تكون الأخرى رقيباً عليها .

 

في البداية لا يتجاوز الأمر الرقابة والتقيم لردود أفعالك وسلوكك الإجتماعي , اذ سرعان ما سوف تبدأ الأنا المراقبة بتقريعك على أفعالك وذلك وفقاً للمعاير الأخلاقية التي تنتمي إليها اجتماعياً وعقائدياً لذلك يمكن أن نسميها مرحلة التقيم الذاتي. ولايشترط أن تكون المعاير الأخلاقية التي تنتمي إليها مثالية أو صحيحة, بل هي حتماً قَبلية صرفة, ولكنها تحقق الغرض المرحلي ألا وهو تقييد الذات بالنظم البالنظم الإجتماعية.

كما أنك في مرحلة متقدمة أخرى من الانقسام الذاتي سوف تجد نفسك مستاءً من كل ما هو حولك بفعل التقريع المستمر من الذات المراقبة للذات الفاعلة, وتبدأ شيئاً وشيئاً بدفعها للانفصال عن المحيط الذي تجذرت فيه سلوكيات قبلية صارت مرفوضة من الذات الفاعلة ايضا نظراً لتغير الزاوية التي صارت ترى منها الوقائع بتغير دوافعها. أي بعد أن كانت الأحكام القبلية تحرك سلوكك أصبح حب الخير هو ما يحرك أفعالك, و هذه المرحلة سوف نطلق عليها أسم مرحلة السقوط القَبَلي .

 

هذا النفور سوف يقود تلقائياً إلى حال من المراجعة شبيه بالمرحلة الأولى التي أسميناها مرحلة التقييم الذاتي,  ولكن التقيم هذه المرة هو ليس للذات بل للمحيط وقيمه انظلاقاً من معايير قِيَميّةَ جديدة مصدرها الفطرة ( ... يولد الرجل على الفطرة فأبواه يهوداه أو ينصرانه ... ) .

فالإنسان يختزن بداخله وفي منطقة بالغة العمق قاموساً وجودياً يساعده على تفسير الظواهر الخارجية وهو بوصلة توجهك لطريق الخير وسبل السعادة, إلا أنه وكما سبق القول فإن الإنشغالات المستمرة بمتطلبات الأنا تطمس على هذا القاموس وتُكثر من السواتر بينه وبين الوصول إلى السلوك اليومي للإنسان. وليست عملية الإنقسام الذاتي إلا وسيلة لازاحة تلك السواتر لتمهد الطريق بين النفس و الحقيقة.

 

وهنا نحن لسنا بصدد اتباع الهوى, فأنت لن تتجاوز المرحلة السابقة, أي مرحلة التقييم الذاتي, مالم تكن باحثاً صادقاً عن الحقيقة. اذ سرعان ما سوف يفتيك قلبك بها  ( ... الأثم ما حاك في نفسك وكرهت أن تطلع الناس عليه ... ). وهكذا سوف تصبح ذاتك الفطرية والتي قوامها القاموس الوجودي هي الموجه الحقيقي لكلا الذاتين اللتين إنقسمت إليهما سابقا, وتكون عندها قد أنجزت مرحلتين الأولى هي مرحلة الانقسام والثانية هي مرحلة الاتحاد مع الذات الفطرية .

 

باتمامك لمرحلة التوحد مع الذات الفطرية تكون قد خطوت أهم خطواتك نحو الصوفية. فما سبق هو رحلة اصلاحٍ ذاتي, وهي أساسية, تشبه الى حد كبير مرحلة الكمون التي يعيشها الأنبياء قبل نزول الوحي عليهم. وهذه الرحلة قد تستغرق منك سنين فلا تيأس لأن الإرادة شرط لازم للمريد .

 

من الضروي أن ترتفع خلال المرحلتين السابقتين السوية المعرفية للمريد ارتفاعاً مميزاً , نعم إن الذات الأولى لا يمكن  إدراكها من خلال الفهم العقلي المجرد, ولكن لممارسة الصوفية انت بحاجة الى تعلم الفكر النقدي ومبادىء الفلسفة كي لا تصبح تجربتك فوضوية. وهذا التعلم بدروه  لايقوم الا على معرفة واسعة ولو غير عميقة لمجمل العلوم .

 

فلا  قيود بدايةً على نوع المعرفة, بل المصلحة تتطلب تنوعها تنوعاً قد يبدو لأول وهلة أهوجاً, ولكن كل تلك الغوغاء المعرفية سرعان ما سوف تصيغ الأسئلة التي للاجابة عليها تُستَنهَضُ المخيلة الوجودية من سباتها العميق, ومتى بدأت الأسئلة بدأ البحث عن الإجابة.

هذا البحث, بحكم الإرادة والقصد, سوف يكون مرتكزاً على أساسٍ من القيم الأخلاقية الفطرية والفهم العام للكون, تسانده قاعدة معرفية لمبادىء الفلسفة والفكر النقدي, وإن كان بشكل متدرج, فالصوفية غرضها الوصول النهائي للحقيقة وليس الامتناع الفوري عن الخطيئة.

أما عمق التجربة الصوفية فمرتبط بالمميزات الخاصة لذات المريد .

 

ويبقى السؤال كيف تصل لأعماق ذاتك؟. بعد الاعدادت السابقة يكون كل شيء مهيء لرحلة الغوص الذاتي, وهنا يأتي دور الشعائر, وقد قلنا بداية ان الصوفية هي عبور فوق مرحلة الشعائر ولكن من خلال شعائر خاصة وصولاً إلى النفح الإلهي .

أما متى يبدأ أول غوص فهذا أمرٌ لا يقرره أحد لك بل تجد نفسك فيه إن كنت ذا إرادة صلبة .

مع الشكر والتقدير .

*حسام مطلق سوري مقيم في الأردن

Jordan Amman

Alrabia IbnAbuBalta’a St b9 f2

00962777986775

أضيفت في 20/11/2006/ خاص القصة السورية / المصدر الكاتب / أنظر (شخصيات صوفية)

 

 

التأثير الصوفي في الفنون والثقافة الشعبية الجزائرية

 

 

بقلم الكاتب: سعيد جاب الخير *

 

مقدمة عامة للبحث :

لا شك أن التصوف بوجه عام والطرق الصوفية بشكل خاص،كان لها تأثير كبير على الثقافة الشعبية والفنون في الجزائر والمغرب العربي أو المنطقة المغاربية عمومًا،وقد توسّلت المرجعيات الصوفية من الزهاد والعارفين وشيوخ الطرق،منذ وقت مبكر بالفنون والثقافة الشعبية لتقوم بوظيفتها في نشر و تجذير خطابها الديني والروحي والاجتماعي وحتى السياسي أحيانًا في الطبقات السفلى من المجتمع (البسطاء والفقراء) التي شكّلت الخزّان الذي لا ينضب والمحرّك الأقوى لدواليب الحركة الصوفية من خلال تركيز شيوخ الطرق عليها والتصاقهم بها في اليومي المعيش وحتّى في الشعار الذي اختاروه لأنفسهم وتسموا به (الفقراء)، والدليل على عمق التأثير الصوفي في الفنون و الثقافة الشعبية الجزائرية،أننا ما نزال إلى اليوم نجد في لغتنا العامية كلمات وتعابير من أمثال (بابانا،بابا سيدنا، مول الزمان، مول الساعة، مول السر، مول الحال، الوالي، القبة، الديوان، الحضرة، القناوية..الخ)

 

1ـ تعريف التصوف والثقافة الشعبية :

-يعرف أبو بكر محمد بن إسحاق الكلاباذي، التصوف في كتابه (التعرف لمذهب أهل التصوف) بقوله : " إنما سميت الصوفية صوفية لصفاء أسرارها ونقاء آثارها".. وينقل أيضا عن بشر بن الحارث الحافي قوله : " الصوفي من صفا قلبه لله"..(1) ولعل أشهر ما يتميز به الصوفية من الصفات، هو تسامحهم وسماحتهم، فقد سأل رجل لسهل بن عبد الله التستري :

" من أصحب من طوائف الناس ؟ فقال : عليك بالصوفية، فإنهم لا يستكثرون ولا يستنكرون شيئا، ولكل فعل عندهم تأويل، فهم يعذرونك على كل حال" (2) 0

ومن هذه النصوص تظهر أهم المفردات التعريفية للتصوف فيما نرى وهي : صفاء القلب والسريرة (صفاء النية) والتسامح والانفتاح على الآخر وقبوله كما هو، لا كما نريده نحن أن يكون..

-        أما الثقافة الشعبية : فنقصد بها كل ما هو خاص بالطبقات الشعبية ( أي العامة أو ما يقابل النخبة المثقفة) من إنتاج ثقافي معنوي في مجالات الشعر، الموسيقى، الغناء، الرقص، الحكاية والأسطورة، الحكمة، المثل .... إلخ)

 

2ـ السماع بين الصوفية والفقهاء - الرؤية الدينية

إذا كان الصوفية قد عرفوا منذ الزمن القديم بانفتاحهم الديني والفكري و ابتعادهم عن التزمت الفقهي فإن ذلك راجع بالدرجة الأولى إلى عشقهم للحرية وحسهم الفني والجمالي المرهف،وفي باب الحرية ينقل القشيري في رسالته أن (الحرية أن لا يكون العبد تحت رق المخلوقات،ولا يجري عليه سلطان المكونات) (3) وفي هذا السياق كان الصوفية دوما يستشعرون الحرية في العديد من المائل التي يفتي فيها من يطلقون على أنفسهم (فقهاء الرسوم) أو الفقهاء الرسميون، ومن ذلك مسألة السماع أو الموسيقى ...حتى و عن كانت للصوفية أصولهم الدينية في هذا الموضع،فالقشيري  في رسالته يستدل بقوله تعال ( فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه)  و يقول "إن اللّام في قوله تعالى ( القول) تقتضي التعميم والاستغراق، والدليل عليه أنه مدحهم باتباع الأحسن، وقال تعالى ( فهم في روضة يحبرون) وجاء في التفسير أنه السماع،واعلم أن سماع الأشعار بالألحان الطيبة و الأنغام المستلذة إذا لم يعتقد المستمع محظورًا...مباحٌ في الجملة.ولا خلاف أن الأشعار أنشدت بين يدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ و انّه سمعها ولم ينكر عليهم في إنشادها، فإذا جاز استماعها بغير الألحان الطيبة فلا يتغير الحكم بأن تسمع بالألحان، هذا ظاهر من الأمر" (4)

هذا كلام صوفي ولكنه أيضا قبل ذلك فقيه شافعي كبير،جامع بين الشريعة الفقهية و الحقيقة الصوفية من  أعيان القرن الخامس (ت 465هـ).

ويعرّف الجنيد السماع على أنه " وارد حق يزعج القلوب إلى الحق،فمن أصغى إليه بحق تحقق ومن أصغى إليه بنفس تزندق"  (5) ، ويرى الشبلي  أن " السماع ظاهره فتنة وباطنه عبرة،فمن عرف الإشارة حلّ له استماع العبرة،و إلّا فقد استدعى الفتنة وتعرّض للبليّة" (6) ، أمّا الكُلّاباذي من أعيان القرن الرابع فيقول " السماع استجمام من تعب الوقت،وتنفّس لأرباب الأحوال ، واستحار الأسرار لذوي الأشغال.و إنما اختير على غيره ممّا تستروح إليه الطباع لبعد النفوس عن التشبث به والسكون إليه،فإنه من القضاء يبدو وإلى القضاء يعود...فالسماع إذا قرع الأسماع أثار كوامن أسرارها،فمن بين مضطرب لعجز الصفة عن حمل الوارد،ومن بين متمكّن بقوّة الحال" (7).

وينقل الكلّاباذي عن أبي القاسم البغدادي قوله " السماع على ضربين، فطائفة سمعت الكلام فاستخرجت منه عبرة،و هذا لا يسمع إلا بالتمييز وحضور القلب،وطائفة سمعت النغمة و هو قوت الروح،فإذا ظفر الروح بقوته أشرف على مقامه و أعرض عن تدبير الجسم،فظهر عند ذلك من المستمع الاضطراب والحركة" (8) ، وفي هذا إشارة واضحة إلى أن التواجد والحركة التي تصاحب الصوفية عند السماع هي كلّها أمور لا يملكونها، بل لعلّها فوق إرادتهم عندما يكونون في حالة تركيز حسّي وروحي مع السماع.

وينقل الكلّاباذي عن أبي عبد الله النباجي قوله " السماع ما أثار فكرة واكتسب عبرة،و ما سواه فتنة" (9) وفي هذا إشارة واضحة إلى التزام المضمون أو المحتوى في السماع الصوفي،وهذا فيما نرى تأسيس نظري لما يعرف اليوم بالغناء الملتزم،وينقل الكلّاباذي أخيرا عن الجنيد قوله " الرحمة تنزل على الفقير ـ أي الصوفي ـ في ثلاثة مواضع: عند الأكل فإنه لا ياكل إلا عند الحاجة،وعند الكلام فإن لا يتكلم إلا للضرورة،وعند السماع فإنه لا يسمع إلا عند الوجد" (10) وهذه الرؤية الجينيدية للسماع تجعل منه حالة تزّل للرحمة الإلهية وبالتالي حالة إلهية صرف، أي انه من الله تعالى، وهذا أقصى ما يمكن ان يقال فيه.

وقد اجتهد شهاب الدين عمر بن محمد السهروردي الشافعي المتوفى سنة 632 هـ، في كتابه (عوارف المعارف) لتأصيل السماع والاحتجاج لإباحته من الكتاب والسنة،كما فعل أبو حامد الغزالي في (الإحياء). وخلاصة القول في هذا الموضوع :

-إن الصوفية ومعهم بعض الفقهاء كابن حزم وغيره،يؤكّدون انه لم يرد نص صريح في القرءان حول تحريم السماع،لا بآلة ولا بغير آلة.

-إن الصوفية ومعهم بعض الفقهاء يؤكّدون أنه لم يرد نص صحيح ثابت في السنة يحرّم السماع،وقد احتجّ ابن حزم الظاهري مطوّلًا لهذه المسألة في كتابه الموسوعي (المحلّى) .

-و من هنا انطلق الصوفية في بحث هذا الموضوع على أساس المصلحة الإنسانية الشرعية والاعتماد أيضا على أن الأصل في أفعال العباد هو الإباحة حتّى يرد النص المانع

 

3ـ السماع بين الصوفية والفقهاء - الحالة الجزائرية

إن التصوف والطرق الصوفية التي كانت ظاهرة دينية اجتماعية حضارية عامّة في المجتمع الإسلامي، ظهرت في وقت مبكّر بالجزائر. ذلك أن أفكار محيي الدين بن عربي قد انتشرت فيها قبل العهد العثماني بزمن طويل، كما أن حسن بن باديس صاحب السينية، قد تحدّث عن الشيخ عبد القادر الجيلاني و طريقته في القرن الثامن الهجري. ومن جهة أخرى تحدّث محمّد الزواوي الفراوسني صاحب (المرائي الصوفية) عن الطريقة القادرية في القرن التاسع الهجري.

وقد شاع التصوف في الجزائر بفضل مدرسة سيدي عبد الرحمن الثعالبي ومحمّد بن يوسف السنوسي و أحمد زروق وغيرهم. ولم يكن الانتماء إلى طريقة من الطرق الصوفية يُعد نقصًا أو عيبًا، بل إن أخذ الطريقة كان شيئًا يعلن عنه ويشاع بين الناس ويمارسه العلماء والتجار والساسة والجنود فضلًا عن العامة. (11).

و من بين الفقهاء الجزائريين  الذين مالوا إلى التشدد في الحديث عن السماع او الموسيقى،احمد الونشريسي في كتابه (المعيار) حيث روى من جهة أن احد العلماء سئل في حكم الغناء فأجاب بأن سماع الإنشاد الذي يحرّك المشاعر السامية لا بأس به،بل هو مندوب عند فتور النفس (12)

غير أن الونشريسي يتشدّد على غرار غالبية الفقهاء عندما يتعلّق الأمر بتوظيف الآلات في السماع،حيث يقول " إن معظم العلماء يكرهون الغناء بغير آلة طرب،أمّا بآلة ذات أوتار كالعود والمزمار فممنوع... (13) وخلال المرحلة التاريخية نفسها كان الصوفية يجيزون بل يحبّذون السماع ـ الموسيقى والغناء ـ حيث اعتبروه من العلوم التي تجمع بين المعاملة والمكاشفة ونقلوا جوازه عن بعض العلماء والعارفين امثال أبي مدين شعيب بن الحسن الأندلسي،دفين تلمسان،و أبي القاسم الجموعي و أب الحسن الشاذلي والشطيبي وغيرهم، فقد أخبر محمّد بن سليمان عن جواز سماع الموسيقى للصوفي الحقيقي، و أخبر أن شيخه موسى بن علي اللّالتي كان حسن الإنشاد و أنّه إذا أسمع و أنشد يكاد قلب السامع من تأثيره ينفطر وينهدّ، و أن شيخه كان يقول " ورثنا هذا المقام عن داود عليه السلام" (14) .

و بعد حوالي قرن، فصل الورتلاني في هذه القضية ، فهو كرجل من اهل التصوف أباح استعمال الموسيقى والإنشاد لأهل التصوف، ومنعه عن غيرهم لأنه يؤدّي في نظره إلى الاختلاط والفساد..فالغناء في نظره دواء لأهل العشق الصوفي، ولكنه وسيلة من وسائل الشيطان لغيرهم..وهو يعني بأهل العشق الصوفي أصحاب الحضرة الصوفية" (15).

و هناك من الفقهاء غير الصوفية من كان يتذوّق الموسيقى في ذاتها ويحلو له الإنشاد وسماع آلات الطرب..فقد روي عن عبد الواحد الونشرسي (وهو لسخرية القدر ابن أحمد الونشريسي الفقيه المتشدّد في موضوع الغناء والموسيقى) أنّه كانت له أزجال و موشّحات و كان رقيق الطبع يهتز عند سماع الألحان وآلات الطرب،لاعتدال مزاجه وقوام طبعه...(16)

و اخبر ابن حمادوش في رحلته أنه يعلم علوما شتّى من بينها علم الموسيقى الذي قال إنه تعلّمه بطريق الإجازة.وفي (الرحلة القمرية) لابن زرفة أنّه قد ورد على الباي محمّد الكبير عالمان حنفيان من مليانة، أحدهما مفتي البلدة والثاني فقيه، و أن كليهما كانا من الموسيقيّين المهرة.و قد عرفنا من حياة المفتي أحمد بن عمّار أن بعض علماء مدينة الجزائر،وهو منهم، كانوا يصوغون الموشّحات المولدية ونحوها وينشدونها في المولد النبوي بالألحان المطربة.وتذكر المصادر ان الفقيه محمّد القوجيلي قد استأذنه أحد علماء تونس في سماع الموسيقى فأجابه بقوله : كلّ ذي كرم من شأنه الطرب. (17) ويذكر الورتلاني أن الشيخ علي المهاجري كان عازفا مشهورا على المزمار بلغ الغاية في صنعته حتى أصبح الناس يشترطونه في الأعراس (18).

 

4ـ الشعر الشعبي (أو الملحون) وعلاقته بالتصوف

وأشار العلّامة ابن خلدون في مقدّمته إلى الشعر الملحون او الشعبي فذكر أن واضعه هو رجل من أهل الاندلس كان يعرف بابن عُمَيِّر (بضم العين وفتح الميم وتشديد الياء المكسورة) الذي نزل مدينة فاس وعنه نقل الناس هذا الأسلوب في نظم الشعر بدون تكلّف.وهناك شخصية عظيمة أخرى ظهرت أيضًا في طليعة هذا الميدان، وهو محمّد بن عيسى الشهير بابن قزمان الأندلسي الزجّال (555 هـ ـ 1160م)الذي غمر الأدب الأندلسي بأزجاله وشعره الملحون، ويسّر بإبداعه هذا ما كان متعسّرًا على العامة،فأخذ كلّ واحد منهم ينظم كلماته شعرًا على النمط الجديد بلهجته الخاصة دون كلفة ولا تعاطٍ للأوزان الشعرية الخليلية التقليدية، وهذا ما سمي بعد ذلك في ارض الأندلس بالزجل،الذي نظموه على أوزان جديدة انتشرت بعد ذلك في المشرق أيضًا وجعلوا لها أسماء مثل (كان وكان) و (الموّالية) و (السلسلة)و (الدوبيت) و (المستطيل)و (المنسرد) و (المطرب)،ممّا عرف عند الأدباء بفنون الشعر السبعة، وقالوا "هذه لا تسمّى شعرًا لأن أوزانها مخالفة لأوزان العرب" وجعلوها من الأبحر المهملة  (19) .

إن الشاعر الشعبي (أو شاعر الملحون) يمتص جانبا من التصوف ثم يعيد نسجه وتنظيمه وفق ما تزود به من علوم ومعارف دينية. وهنا نلاحظ أن الشاعر الشعبي لا يجهل الأبعاد الحضارية لخطابه، فهو يستفيد مما تعطيه الجماعة الشعبية كما يستفيد من مؤهلاته الاجتماعية و الثقافية.

ويلاحظ المتتبع لقصائد الشعر الشعبي (الملحون) أن الحكاية التي يرويها الأدب الشعبي هي سبيل واضح لاستكشاف الوعي الصوفي في مستوى من مستوياته، والتعرف و لو بشكل أولي على ما يعتمل داخل المجتمع من نشاط ديني وثقافي. وغني عن القول أن الشاعر الشعبي الصوفي متأثر بالثقافة الدينية والشعبية التي أخذها من محيطه والوسط الذي عاش فيه، هذه الثقافة التي تعتبر زادًا معرفيًا متنوعًا تقدمه (الجامعة الشعبية) المتمثلة في المساجد والزوايا.

وفي هذا السياق ينبغي التأكيد على أن معظم شعراء الملحون الجزائريّين والمغاربيّين إن لم نقل جميعهم هم من الصوفية .و نذكر من بينهم على سبيل المثال لا الحصر :

سيدي لخضر بن خلوف، عبد العزيز المغرواي، الحاج محمّد النجّار،الحاج عيسى لغواطي، الشيخ عبد الرحمن المجدوب، الحاج مبارك بو لطباق، سيدي أحمد لغارابلي، عبد القادر بلوهراني،سيدي أمحمّد بن عودة، سيدي بلحسن  وغيرهم.

ومن الممكن أن نضيف إلى هؤلاء أسماء أخرى من الشعراء الذين كتبوا في المديح النبوي والوعظ ومدح الأولياء والصالحين، حتّى و إن لم يشتهروا كصوفية ولكن نصوصهم مشرّبة بالروح الصوفية والمصطلحات الصوفية.ومن بين هؤلاء الشاعر التلمساني  أبو عبد الله الحاج محمّد  بن أحمد بن مسايب الذي عاش في القرن 12 الهجري و أصله من الأندلس،كان يكتب في العديد من الأغراض غير أنّه عندما يكتب في المديح النبوي أو الوعظ أو مدح الأولياء، لا يستطيع القارئ أن يميّز بين شعره وشعر غيره من الشعراء المتصوّفين وذلك لشدّة غوصه في الأحوال و التعابير الصوفية.

ومن القصائد التي توحي بتبحّر محمّد بن مسايب في المجال الصوفي ومعرفته العميقة بالطريق و أهلها على الأقل في الجانب النظري،يمكن ذكر ما يلي:

( الوفاة) وهي قصيدة في وفاة الرسول  ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ( يا الوحداني) وهي في موضوع التوبة والاستغفار ، (ماوفاشي طلبي) وهي قصيدة يوحي ظاهرها للقارئ الساذج بأنها غرامية، غير أنه يقول في آخرها :

" نمدح جدّ الشرفا       صاحب الحوض أحمد سلطاني

   غفرانك يـا ربي        حرمة  النبي الماحي الطاهر

   فيه غاية رغبي           بيه راني متولّع يـــاسر   " (20).

والواقع أن المتمعّن في نص هذه القصيدة يجد فعلًا تعابير غرامية كثيرة شائعة في أجوائها، وعندما نقول تعابير "غرامية" فنحن لا نقصد العاطفية منها فحسب بل نقصد أيضًا التعابير الحسّية الجسدية مثل قوله :

" محبوبي كحل العين    والشفر والحاجب والسالف

حسنه مكمول الزين    يسحر العاشق بسر مخالف

ديما فوق الخدين        الورد فاتح لونه متخالف" (21)

 إلى غير ذلك من التعابير التي توحي للقارئ أن الشاعر يصف امرأة لا رجلًا، ما يجعله يتوهّم ان القصيدة غزلية  وهي غير ذلك. وهذه عادة الشعراء الصوفية في تعابيرهم العشقية الجيّاشة بالحب تجاه الله تعالى والرسول عليه الصلاة والسلام و الأولياء الصالحين.

وكذلك نجد بن مسايب في قصيدته أو بالأحرى زجله المسمّى (بدر الدجى عسّاس) ، الذي يغنّى في الطابع الأندلسي او النوبة (رهاوي) على إيقاع (الانصراف)،فإن المستمع يتصوّر أن هذا الزجل هو في الخمرة والغرام،فهو يقول :

" بدر الدجى عسّاس          والليل راح

يحلى الطرب والكاس         بين الملاح

قم يا نديم قم                دير الكيوس

فايق من النوم               تجلس جليس"

وهذا النص هو في الواقع في مدح الرسول ـ صلّى اله عليه وسلّم ـ ويعرف القارئ والمستمع ذلك عند قول الشاعر :

زهوي وعشقي فيه            سيد البشر

قلبي مولّع بيه                  ما لي صبر

في محبته خلّيه                  تفنى العمر" (22)

ويلاحظ في هذا الصدد ان محمّد بن مسايب يقتدي بالشعراء الصوفية الذين ليست لديهم مشكلة او عقدة من التحدّث عن ( العشق) وهو أعلى درجات المحبّة في حقّ الله تعالى، أو في حقّ الرسول عليه السلام أو الأولياء والصّالحين، ونلاحظ الأمر نفسه في قصيدة (هاض الوحش عليّ) و (سعدي بيك سعدين)و (الحرم يا رسول الله) و قصيدتي (هاج غرامك) و (أبو علام ) اللتين نظمهما في مدح سيدي عبد القادر الجيلاني، و (باسم العظيم الدايم) .

و يظهر تبحّر محمّد بن مسايب في معرفة الاولياء والصوفية في قصيدته (يا أهل الله غيثوا الملهوف).

و إذا علمنا بأن محمّد بن مسايب اشتهر أكثر كشاعر غرامي،عرفنا مدى التأثير الذي كان للمدرسة الشعرية الصوفية على الشعر الملحون باعتباره رافدًا هامًا من روافد ثقافتنا الشعبية، هذا إن لم يكن أهمها على الإطلاق.وهنا يحضرني قول المفكّر كولن ويلسون : (إن الفنانين والفلاسفة في أي عصر يجب أن يكونوا علماءه ورجال دينه في الوقت نفسه، ويجب أن يكون كل عالم قادرا على الحصول على الإدراك الديني كقدرة الراهب على فهم نظرية الكمّ في الفيزياء مثلًا). (23)

 ولا يرجع تأثير شعراء الملحون الصوفيين إلى مواهبهم الشعرية فحسب،بل يرجع بالأساس إلى كونهم صوفية،وتلاميذ لشيوخ صوفيين سواءٌ من مؤسّسي الطرق (مثل سيدي قدور العلمي الذي كان من تلاميذ سيدي أحمد بن عيسى مؤسّس الطريقة العيساوية ، دفين مكناس)، أو من خلفائهم .وبالفعل عندما ندرس قصائد هؤلاء الشعراء نجد فيها "أسرارًا" و أجواء خاصة لا نجدها في قصائد غيرهم من الشعراء،فقصائدهم تتميّز بجاذبية روحية لا يمتلكها غيرهم.

ومن المعروف أن أغلب الصوفية عبر التاريخ كانوا ينظمون الشعر، وكذلك الحال في الجزائر والمنطقة المغاربية،ومن بين مؤسّسي الطرق والصوفية المعاصرين الجزائريّين الذين كتبوا الشعر الملحون نذكر : الشيخ أحمد بن مصطفى العلاوي المستغانمي،وشيخه سيدي محمّد بن الحبيب البوزيدي المستغانمي،والشيخ الحاج عدّة بن تونس المستغانمي.وتتميز دواوين هؤلاء الشيوخ بعمق المعاني وسلاسة العبارة ومتانة التركيب في آن واحد.وقد نظم هؤلاء الشيوخ في الفصيح أيضًا كما نظموا في الملحون بجميع الأوزان وحتّى في الطبوع الغنائية الأندلسية.

ومن هؤلاء الشعراء أيضًا الشيخ عبد القادر بن طبجي ،شاعر سيدي عبد القادر الجيلاني ودفين مقامه بمستغانم، وله ديوان مطبوع جمعه الأستاذ عبد القادر غلام الله . وبن طبجي هو صاحب القصيدة المشهورة (عبد القادر يا بوعلام..ضاق الحال عليّ).

 

5ـ ثنائية (الطالب) و(المدّاح) في الثقافة الشعبية الجزائرية

ارتبطت ثنائية (الطالب) و (المدّاح) في ثقافتنا الشعبية برباط مقدّس،حيث لا يكاد يذكر (الطلبة) حتّى يذكر معهم (المدّاحون). ومن الشائع في الثقافة الشعبية الجزائرية والمغاربية قولهم (الطالب إذا جاح يرجع مدّاح)... وقد كان أغلب (المدّاحين) من (الطلبة) الذين عجزوا لسبب او لآخر عن اتمام حفظ القرءان الكريم.ومن ثمة يتجهون إلى المدح في الأسواق أو الأعراس أو المناسبات الدينية.وقد يكون بعض هؤلاء المدّاحين من الطلبة الذين لاحظ شيوخهم حسن أصواتهم فوجهوهم للتخصص في المديح.وعموما فإن الشعر الشعبي أو الملحون الذي كان أغلب ناظميه من الصوفية، كان بحاجة إلى من يلحّنه وينشده ويغنّيه للعامة والخاصة،على أساس أنه خطاب صوفي وعظي يكتسي أيضا نوعا من الطابع الدعوي،و أحيانا التعبوي أيضا..عندما يتعلّق الأمر بموضوع (الجهاد) ضد الأعداء.ولا توجد وسيلة أكثر فاعلية لإيصال هذا الخطاب إلى الناس من المديح أو الغناء. وهذا هو بالضبط الدور الذي كان يقوم به المدّاح.

 

ومن هذا المنطلق يمكن اعتبار ظاهرة (المداح) اختراقًا فنيا للمجتمع من طرف الصوفية، أو بتعبير آخر توظيفا للفن كوسيلة لتحريك الخطاب الديني الصوفي على مستوى الطبقات الاجتماعية المختلفة وخاصة البسيطة منها.ولهذا نلاحظ أن العديد من شعراء الملحون من الصوفية كان باستطاعتهم نظم الشعر الفصيح على الأوزان الخليلية التقليدية، غير أن ذلك لم يكن ليحقق لهم الهدف الذي يقصدونه من النظم، لأن شعرهم في هذه الحالة لن يكون في متناول الأغلبية ولن تفهمه سوى النخبة الذي تمثل الأقلية داخل المجتمع.

 

ومن المعروف أن ثنائية (الطالب) و (المدّاح) هي التي تقف في النهاية من وراء ظهور ما يعرف اليوم بالفن الشعبي أو الغناء الشعبي الجزائري، حيث أن مدرسة الشعبي ما هي إلا امتداد لظاهرة المدّاح المنطلقة أساسا من الفضاءات الصوفية المتمثلة في الزوايا.فالمدّاح من جانب المضمون كان يمدح عن الله تعالى،وعلاقة الانسان به من حيث الطاعة و المعصية والاستغفار بما يشمل جميع الانشغالات السلوكية الصوفية، ويمدح أيضا عن الرسول علية الصلاة والسلام، والصحابة رضي الله عنهم،والأولياء والصالحين،إضافة إلى أيام وغزوات العرب.

أما من ناحية الشكل فقد كان المداح يكتفي بالدف أو الرباب (الكمان التقليدي) فهو غالبا يركّز على الكلمة أكثر من اللحن،أي أنه يركز على المضمون أكثر من الشكل،لأن خطابه أكثر مباشرة من خطاب الحضرة الصوفية  التي تهتم بالشكل بقدر اهتمامها بالمضمون حيث يهمها توصيل خطابها في شكل فني جميل ومدروس كما هي الحال بالنسبة للمدرسة العيساوية التي سنتحدث عنها بعد قليل.

 

غير ان "طغيان" مدرسة الصنعة الأندلسية في العاصمة ومناطق الوسط، ومدرسة المالوف في الشرق الجزائري و المدرسة الغرناطية الأندلسية في تلمسان والغرب الجزائري،كل ذلك جعل شيوخ الطرق الصوفية ورجال الدين عموما من الفقهاء المتصوفين يفكرون جديا في اختراق المدارس الموسيقية وخاصة منها المدرسة الأندلسية من أجل توظيفها في خلق شكل فني جديد بمضمون ديني صوفي بالأساس. وهكذا أصبحت قصائد و أدعية الحضرة الصوفية منذ وقت مبكر تؤدى على الطبوع الأندلسية، ولهذا وجدنا الكثير من الفقهاء المتصوفين يهتمون بالموسيقى وطبوعها بشكل جدّي وبعضهم تعلّمها من شيوخ و أخذ عليها إجازة.

 

و في هذا الإطار أيضا،ظهر ذلك الاختراق الواسع لتلاميذ (المداحين) من آباء مدرسة الشعبي، للمدرسة الأندلسية،حيث أخذوا طبوعها وطبّقوها على المضامين الصوفية، لينتج عن هذا التفاعل فن جديد هو (الرهاوي) الذي ينطق بألحان أندلسية ومضامين دينية صوفية بعيدة عن المضامين الأندلسية التقليدية التي كانت وما تزال تعتبر عابثة بالنسبة للكثير من رجال الدين.

 

وعلى هذا المنوال أيضا،سارت الطريقة الحنصالية والطريقة العيساوية في الشرق الجزائري حيث أخذتا طبوع المالوف وطبّقتا عليها المضامين الصوفية، فظهر من ذلك طابع جديد هو الطابع العيساوي.ومن المعروف في هذا الصدد أن المدرسة الأندلسية كانت وربما ما تزال إلى اليوم تعيش ضمنيا حالة الحساسية وعدم الرضى عن هذا (الاختراق) الصوفي الذي حدث لها من طرف تلاميذ (المداحين) الذين تحولوا بعد ذلك إلى (شيوخ وعمداء الشعبي) من أمثال الشيخ مصطفى الناظور و الحاج منور و الحاج مريزق والحاج أمحمد العنقى وغيرهم.

 

لكن المدرسة الأندلسية تعترف مع ذلك ولا تنكر ان المدارس الفنية الصوفية استطاعت عبر التاريخ من خلال صرامة التزامها الديني من الناحية التنظيمية على الأقل، أن تحافظ على الكثير من مفردات التراث الموسيقي الأندلسي الذي ضاع مع حامليه من أصحابه الأصليّين (أصحاب الصنعة أو الآلاجية) الذين رحلوا عن الدنيا قبل أن يورّثوا فنهم،والدليل على ذلك أننا نجد الكثير من الألحان الأندلسية المفقودة من (أصحاب الصنعة ) ما تزال محفوظة عند القصادين التابعين للعديد من الأضرحة الصوفية ومنها ضريح سيدي عبد الرحمن الثعالبي بالعاصمة.

و قد يكون من بين أسباب الخصومة التقليدية بين مدرستي (المداح) و (الصنايعية أو الآلاجية) هو ان المداح يقدم فنا صوفيا موجها إلى الطبقات الشعبية الواسعة،بينما يقدم (الصنايعية) فنا موجها بالأساس إلى نخبة اجتماعية إذا لم نقل "طبقة ارستقراطية".

 

6ـ المدرسة العيساوية كطابع فني صوفي متميز

لعل قوة تأثير المدرسة الفنية العيساوية ترجع إلى تواجد الطريقة العيساوية على رقعة واسعة من التراب الوطني الجزائري و المنطقة المغاربية.ففي الجزائر تتواجد الطريقة العيساوية في العديد من المناطق نذكر منها : القل، قسنطينة، عنابة، سوق أهراس، بجاية، تيزي وزو، المسيلة، برج بو عريريج ، بشار، القنادسة، أدرار، تيقزمير، وهران، مستغانم، تلمسان، عين تموشنت، بني صاف وندرومة التي تحتضن الزاوية العيساوية المركزية بولهاصة.

 

وهناك أمر آخر زاد من قوة تأثير هذه المدرسة الفنية، وهو القدرات الكبيرة التي يتميز بها شاعر الشيخ بن عيسى (مؤسّس الطريقة العيساوية) مولاي إدريس بن دريس، صاحب أغلب إن لم نقل كل القصائد التي تتغنى بها الطريقة العيساوية شرقا وغربا.وقد كان الشاعر مولاي ادريس بن دريس ينظم  الشعر الملحون الغرامي كما الشعراء العاديين ، ثم فتح الله بصيرته بالتعرف على الطريقة العيساوية ليتحول بعد ذلك إلى مدح الشيخ بن عيسى حصريا.وكانت أول قصيدة قالها بعد "توبته" مطلعها:

" نستفتح باسم الغاني   

رب الأرض رب السما الحق المعين

من صورني وهداني

وكرمني بالملة الطاهرة واليقين

وبثوب الفضل كساني

ورشدني لابواب الرجال المقربين

وطلق للنظم لساني

وجعلني مداح الرسول والصالحين

آبن عيسى سلطاني

الغارة لله يا إمام الزائرين"

ففي الغرب الجزائري والمغرب الأقصى يتغنى العيساوة غالبا بأشعار مولاي ادريس بن دريس ، أو قصائد الشعراء الصوفيين الجزائريين من أمثال سيدي لخضر بن خلوف وغيره، أو حتى بقصائد الشعراء غير الصوفيين الذين نظموا في المديح الديني.

 

أما في الشرق الجزائري فإن أصل المدرسة الفنية العيساوية يرجع من الناحية التاريخية إلى الطريقة (الحنصالية) التي أسسها الشيخ يوسف الحنصالي (أصله من ضواحي قسنطينة) الذي اشتهر أمره في عهد البايات المتأخرين حتى كانت داره ملجأً لا يمسه أحد بسوء. والظاهر أن الطريقة الحنصالية لم يكتب لها الانتشار الواسع كغيرها من الطرق، ولاشك أن للحنصالية علاقة وطيدة بالشاذلية والخلوتية (الرحمانية). ومن أشهر رجال الطريقة الحنصالية الشيخ أحمد الزواوي الذي عاصر صالح باي، وقاد ثورة ضده، ثم أخذ عنه الطريقة بعض علماء قسنطينة من أمثال الشيخ أحمد المبارك الذي تولى التدريس والفتوى بهذه المدينة وترك بعض التآليف.وقد قيل إن عائلة المبارك (المعروفة أيضا باسم عائلة العطار)  أصبحت كلها حنصالية. ويبدو أن الطريقة الحنصالية لم تكن على علاقة طيبة مع العثمانيين،فبالإضافة إلى ثورة أحمد الزواوي ضد صالح باي، وجدنا أبا القاسم الرحموني الحداد يعرّض في شعره بسوء الأحوال السياسية والاقتصادية في عهده (24).

أما من الناحية الفنية الشكلية فقد ظهر الطابع العيساوي أول مرة في الزاوية الحنصالية عندما خشي شيوخ هذه الزاوية على ضياع قصائدهم وأشعارهم فقاموا بتلحينها وغنائها على طبوع المالوف. وقد كان أول من قام بذلك هو السي احمد بسطانجي (قصّاد أو شيخ عْمَلْ) حيث ركّب صنائع المالوف من نوبة وغيرها على كلام وقصائد حنصالة (الطريقة الحنصالية)، وهكذا أصبحت قصيدة (ظالمة) في المالوف هي (الشاذلية) في عيساوة أو حنصالة، فأخذوا لحن (ظالمة) وركّبوا عليه كلمات الشاذلية. وقد كان أهل المالوف يأتون إلى الزاوية الحنصالية ليأخذوا (الصنايع) أي العديد من الألحان التي فقدوها مع مرور الزمن وقلة التعليم، على خلاف الطرق الصوفية التي يعتبر التعليم عندها ونقل الثقافة و الاستمرارية، من الأمور ذات الأهمية القصوى.

 

وفي الجانب الاصطلاحي الفني نجد أن العيساوة ـ في الشرق الجزائري ـ عندما يتحدثون عن المالوف يسمونه (الرياض) وفي المقابل يطلق أصحاب الصنعة على المديح الديني اسم (المحجوز) عندما يؤدّونه بآلاتهم الموسيقية. وتقتصر المدرسة العيساوية الصوفية في أدائها الفني على الآلات الإيقاعية المعروفة (البندير والدربوكة والطار و النغرات) إضافة إلى المزمار (الغايطة).ومن المعروف في هذا الصدد أن أصحاب الصنعة في مجال النوبة يغنون كلمات لشعراء أو مؤلفين مجهولين في الغالب، أما (المدحة) التي تغنى في الطابع العيساوي أو في (المحجوز) فهي لشعراء معروفين ترد أسماؤهم في أواخر القصائد (بيت السلام).

وفي منطقة عنابة تعتمد المدرسة العيساوية أساسا على آلة البندير أما في الغرب الجزائري فتعتمد على الآلات الإيقاعية المختلفة حيث يغني العيساوة هناك غالبا على إيقاع الراي ( وقد تكون إيقاعات الراي مأخوذة من الطابع العيساوي). ويلاحظ على المدرسة العيساوية في منطقة الغرب الجزائري ميلها عموما إلى الطبوع المغربية،حتى وإن كانت تأخذ أيضا من الطبوع الشعبية المتجذرة في مستغانم على الخصوص.

أما في قسنطينة فإن المدرسة العيساوية تعتمد على الطبوع الأندلسية (المالوف) إضافة إلى التنوع الملاحظ في الآلات التي تستعملها.وهناك في الشرق كما في الغرب الجزائري مدارس فنية عيساوية جديدة، أصبحت تدخل الآلات الموسيقية الأخرى على أدائها مثل الكمان والعود وحتى علبة الإيقاعات الغربية (boite a rythme) لكن تلك المدارس ليست لها علاقة في الغالب بالطريقة الصوفية العيساوية ولا هي ملتزمة بها دينيا حتى و إن كانت تؤدي اللون الفني العيساوي، ومن هنا يمكن اعتبارها فرقا فلكلورية.

 

7ـ الفرق الفنية العيساوية في الشرق الجزائري

في الزمن القديم بقسنطينة كانت الحفلات العيساوية تقام في مناسبات الاختتان و اليوم السابع للمولود.أما ليلة الزفاف فكان يقام فيها المالوف . هذه العادة تغيرت اليوم حيث أصبحت حفلات العيساوة تقام حتى في ليلة الزفاف. ومن أشهر الفرق الفنية الفلكلورية العيساوية يمكن أن نذكر :

-زين الدين بن عبد الله (قسنطينة)

-منصف بن وهيبة (عنابة)

لكن الفرق الفلكلورية تؤدي الفن العيساوي دون أن تنطلق من الزاوية وهذا غير مقبول على مستوى الطريقة التي ينقل أتباعها عن الشيخ أحمد بن عيسى قوله وتأكيده من خلال عبارته المشهورة : "حزبي ثم وردي ثم حضرتي"..

ولم تهمل المدرسة الفنية العيساوية فضاءات المرأة حيث أنشأت ما يعرف ب (الفقيرات) وهن عبارة عن جوق نسائي يغني المديح الديني للنساء، وتدور كلماتهن غالبا حول الله والرسول والأولياء والصالحين، ويعتمدن أساسا على الدف والدربوكة والطار. ومن أشهر أجواق (الفقيرات) في قسنطينة :

-جوق دار بلفرطاس

-جوق دار السبيطار

-جوق نجمة

-جوق فقيرات مالك (الذي ينشط بفرنسا أيضا)

-جوق زلوخة الفرقانية (والدة زين الدين بوشعالة وهي الأخت التوأم للحاج محمد الطاهر الفرقاني )

أما الأجواق النسائية الأخرى في قسنطينة والشرق عموما فتسمى (البنوتات) وهي أجواق نسائية تغني للنساء في طبوع المالوف وبمحتوى ليس بالضرورة دينيا أو صوفيا، وهن يستعملن جميع الألات الموسيقية المستعملة في المالوف. ومن أشهر هذه الأجواق في قسنطينة :

-جوق الزهور الفرقاني (شقيقة الحاج محمد الطاهر الفرقاني)

-جوق فلة الفرقاني ( ابنة أخ الحاج محمد الطاهر الفرقاني )

وهناك أيضا ما يعرف ب (الوصفان ) فهي فرق تؤدي ما يشبه (القناوي) أو (الديوان). وأشهر هذه الفرق بقسنطينة :

-جوق دار البحري

-جوق دار هَوْصَة

-جوق دار بَرْنو

كما توجد فرق أخرى في مجال فن "الوصفان" أو ما يعرف أيضا ب"الديوان" في أغلب المناطق الجزائرية.

 

8ـ مدرسة (قناوة) أو (الديوان) في التراث الصوفي

إن المعلومات التي نملكها عن هذه المدرسة قليلة جدًّا.ومن ألسنة المتجذّرين فيها من خلال الممارسة الطويلة يمكن القول إن البعض ينسب مدرسة (قناوة) إلى غينيا.أمّا الطريقة التي تنتسب إليها فهي طريقة (سيدي بلال) القادمة من منطقة ما كان يعرف قديما بـالسودان الكبير (Le Grand Soudan) أمّا حضرتهم فهي التي يطلقون عليها اسم (الديوان) ولها طقوس عديدة وتعتمد على آلات : القمبري ، والطبل (الطامطام) والقرقابو. ويتقدم طريقة سيدي بلال اليوم بمستغانم سيدي الحاج عبد الهادي بن والي (مقدّم قناوة في مستغانم وزعيمهم الروحي)، ومقره بـالحي العتيق تيجديت. وهذا الموضوع يحتاج إلى بحث مستقل وموسع.

 

9ـ الغناء والشعر الصوفي بمنطقة القبائل

تجذّرت عدّة طرق صوفية بمنطقة القبائل منذ قرون طويلة، ونتيجة لذلك ظهرت العديد من المدارس الشعرية والفنية التي تؤدي (الحضرة الصوفية) بمضامين شعرية تحمل قيما روحية ما تزال حية معبرة عن أصالة الأولياء والصالحين، و أهمية التقوى والصفاء الروحي الداخلي الذي يمثّله الرسول عليه الصلاة والسلام بوصفه النموذج الأعلى للممارسة الدينية والروحية الإسلامية.

و يلاحظ على الأشعار الصوفية القبائلية أن ثلث كلماتها ذات أصل عربي (25). وقد تميّزت منطقة القبائل منذ القديم بالتّواجد المكثّف للمرابطين (المقصود بهم الأشراف ذووا الثقافة الدينية و الصوفية) الذين نشروا تعليم القرءان في الكتاتيب و الزوايا التي نشأ و تعلّم فيها العديد من فحول شعراء المنطقة، من امثال الولي الصالح الشيخ محند ولحسين، والشيخ الحاج أسعيذ مجدّد الشعر الديني بمنطقة القبائل والذي تعلّم في زاوية سيدي منصور، وكرّس شعره بعد ذلك للوعظ والإرشاد وتدعيم قيم التضامن والتآزر ومدح الرسول عليه السلام و أولياء الله الصالحين، ومن شعره قوله مترجمًا إلى العربية:

صلّوا على النبي

مرارًا وتكرارًا

أحبّه الله و أعطاه

فردوس وادي الكوثر

نترجّى شفاعته

رغم ذنوبنا

يا رسول محمد الأنيس

شريف بني طالب

حباك الله بجماله

وبلّغ لك المراد

وقرن اسمك به

المدوّن في عرش الرحمن

فاز من آمن به

وتعلّم وتأدّب

الصلاة على محمّد المدني

محمّد سيد الرجال

الهاشمي العدناني

 بنوره فاق الهلال (26)

وعن الأولياء والصالحين يقول الشاعر الحاج أسعيذ :

في زمن (الإخوان) الأتقياء

إن ذكروا الله وجلت قلوب المؤمنين

أيّام الولي الشيخ بن صالح

والمرحوم بن سحنون

أصلحوا الطالح فصار صالحًا

يزرعون الخير دون تقتير

الشيخ أعمر أمزيان غوث

هو وابنه محمّد صنوان

في صفّ الأولياء يرعون البلاد

ببركة الله يستظلون

في زمن الأولياء الصالحين

في قلوبهم بصيرة

إنّهم أقطاب الصوفية

منهم الشيخ أجذيذ و الشيخ أعمر

يا أصحاب المراتب السامية

أحفاد الرسول ـ ص ـ

المفاتيح في أياديكم

دعوتكم مستجابة

دعوتكم ودعوت الله

أن ينقشع السحاب عنّا (27)

ومن الشعر الصوفي القبائلي الذي قيل في مدح الشيخ محند ولحسين، وهو متداول في قرية عشّوبة بمنطقة أزفون بولاية تيزي وزّو :

يا شيخ (محند ولحسين)

يا من تاب في المهد

قصد عين الماء للوضوء

فوجدها مملوءة باللّحم

أيتها العين إني أريد الماء للوضوء

لأزور أولياء الله الصالحين

يا شيخ (محند ولحسين)

يا من تاب في الصغر

قصد عين الماء للوضوء

فوجدها مملوءة بالمال

أيتها العين إني أريد الماء للوضوء

فكل من عليها فان (28)

ويؤدى الشعر الصوفي ـ بمنطقة القبائل ـ كغناء أو مديح في (الحضرات) والمناسبات الدينية المختلفة، ويخصّ أهل منطقة تفريت بأزفون ـ ولاية تيزي وزو ـ ذكرى عاشوراء باحتفال كبير تذبح فيه الذبائح وتقام فيه الحضرة الصوفية التي يحضرها جميع أهل القرية و يأتيها الناس من كل مكان، وما يزال هذا الاحتفال يقام إلى يومنا هذا.

 

10ـ التأثير الصوفي على الأناشيد والأغاني الانكشارية في الجزائر العثمانية

لقد كان التصوف والطرق الصوفية وراء تقدّم الأتراك العثمانيين في منطقة الأناضول وفتحهم للقسنطنطينية، وكانت الطرق الصوفية والتعليم الصوفي هي الروح التي تحرّك الجندي التركي للجهاد والاستماتة فيه. ومن أهم شيوخ الصوفية الذين أشرفوا على التعليم والتربية الروحية لعناصر الجيش الانكشاري ، الحاج بكداش الذي عاش في القرن السابع الهجري و أتباع طريقته المعروفون بالبكداشية. وقد بلغت هذه الطريقة أوجّها في عصر السلطان سليمان القانوني وهو العصر الذي دخل فيه العثمانيون العالم العربي والجزائر. وكان رئيس البكداشية آنذاك يسمّى (شلبي) ويقيم في اسطنبول .  وكانت لهم مراكز ونظم سرية وعلنية في مختلف أنحاء الدولة العثمانية و خصوصًا في أناضوليا ورومينيا . و قد أصبحت الدولة العثمانية في تلك المرحلة تخشى الطريقة البكداشية التي ساهمت تأسيس هذه الدولة مساهمة فاعلة ، لذلك كان العثمانيون يساندون معها طريقة أخرى هي المولوية ـ نسبة إلى مولانا جلال الدين الرومي ـ لتحفظ بها التوازن .

وقد نشأت العلاقة بين التصوف والدولة العثمانية  من خلال احتضان الشيخ الحاج بكداش للجيش الانكشاري ، حيث إنه هو الذي أعطى الجنود اسمهم (انكشارية تعني الجيش الجديد بالتركية) و ألبسهم لباسهم المميز، ولم يدخل القرن السادس عشر الميلادي حتّى أصبح البكداشية هم الذين يسيطرون فعلًا على الانكشارية ، وهم الذين كانوا يستقبلونهم ويؤاخون بينهم دينيا وعسكريا . وهذه العلاقة الوطيدة بين الصوفية والانكشارية هي التي ستظهر أيضا في الجزائر (29).

و يذكر الأستاذ قدّور محمصاجي في كتابه (سلطان جزاير) أن عناصر الجيش الانكشاري في الجزائر كانوا يتعلّمون ـ إضافة إلى العلوم العسكرية ـ الكثير من المهن والفنون الأخرى ومن بينها الغناء والموسيقى.  وقد كان الجنود الماهرون في الموسيقى والغناء يسمّون (العشّاق)  وكانوا يؤدّون غالبا الأناشيد والأغاني الصوفية التي أخذوها عن الطريقة البكداشية (30)

 وقد كان جنود الانكشارية من أصول مختلفة ، فهم إما من شعوب آسيا الأناضول على الخصوص و إما من شعوب البلقان المغلوبة ، و إما من المرتدين عن المسيحية الذين و إن كانوا قد اعتنقوا الإسلام، فإنهم حافظوا على بقايا العقلية الأوروبية والتقاليد المسيحية كما يقول الدكتور سعد الله . وكان الجندي الانكشاري القادم إلى الجزائر يأتي معه بهذه الثقافة ثم يضيف إليها الثقافة الجزائرية وخصوصا الصوفية منها، حيث كان الانكشارية قبل كل خرجة عسكرية، يزورون الأولياء في العاصمة او في الثغور داعين الله تعالى عندهم بالنصر والظفر على أعداء البلاد والأمة (31).

ومن بين الرموز الدالة على الارتباط الوثيق بين الانكشارية والتصوف في الجزائر، رايتهم التي تحمل رسم (ذو الفقار) وهو سيف الإمام علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه ورضي عنه، الذي يعتبر بعد الرسول عليه الصلاة والسلام، قطب الرحى و المحور الذي يدور عليه الأمر كله عند الصوفية (32).

وقد كان الفنانون من الجنود الانكشارية يتنقّلون في أوقات فراغهم من المشاغل العسكرية ، من مقهى إلى مقهى وفي الأعراس حاملين معهم آلاتهم (الطبل، الكمان،المندولين،و آلات أخرى) حيث تدور أغانيهم غالبا حول مواضيع الحب والعشق الصوفي إضافة إلى ذكر أيّامهم الجهادية و حروبهم وانتصاراتهم و أحيانا خيباتهم (33) .

وقد كان الانكشارية أيضا يغنّون عن مدينة الجزائر و أهلها وجمالها وخاصة أوليائها الصالحين من أمثال (الوالي دادة) الذي يوجد ضريحه في قلب العاصمة حيث تقول كلمات إحدى أغانيهم مترجمة إلى العربية :

من البرج الحديدي تأمّلت قلعة الجزائر الرائعة

الرسل والأنبياء والأولياء يحيطونها من كل جانب

وفي قلب العاصمة، الوالي دادة هو السيد

الجزاير لها حرّاس أمثال عبد القادر وعبد الرحمن الثعالبي (34).

وقد كانت تكثر في أغاني الانكشارية الكلمات والعبارات الدينية و الصوفية مثل (الله، الرسول، الأنبياء، الصحابة،علي، ذو الفقار، الوالي، مول الساعة، الجهاد ، الجنة ، الغازي، القطب، الإيمان ، الشهيد...)

 

11ـ الخلاصة

من خلال ما سبق، يتبين مدى تأثير التصوف عموما والطرق الصوفية خصوصا، على الفنون و الثقافة الشعبية الجزائرية. ولأن المجال لا يسمح بذلك، فإننا لم نتوسع كما ينبغي في دراسة جميع إنتاجات الشعراء الشعبيين وخاصة الجانب الصوفي منها، هذا الجانب الذي تتجذر فيه ثقافتنا الشعبية. والكلام نفسه يمكن قوله عن تأثير التصوف والطرق الصوفية على الجانب الفني من ثقافتنا، حيث تقف وراء نشأة العديد من المدارس الفنية الجزائرية ومن بينها مدرسة الشعبي التي تعتبر اليوم من أكبر أعمدة التراث الجزائري، ومختلف مدارس المديح الديني المتفرع عن الحضرة الصوفية والتي من بينها المدرسة العيساوية.

وبعد، فإن البحث في هذا الجانب الهام من ثقافتنا، يبقى في بداياته الأولى بسبب قلة المصادر والمراجع، وقبل ذلك بسبب عدم تدوين المادة الشعرية والغنائية الخام المتعلقة بهذا الموضوع.

ويبقى المجال مفتوحا أمام الباحثين لجمع المادة الخام ودراستها بشكل منهجي علمي، بعيدا عن التأثيرات الأيديولوجية والسياسية المختلفة.  

 

الهوامش

    1ـ  الكلّاباذي (أبو بكر محمد بن إسحاق): التعرف لمذهب أهل التصوف، (بيروت : دار الكتب العلمية،2001)، ص 09-10.

   2 ـ   السابق، ص20.

    3 ـ القشيري (أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن): الرسالة في علم التصوف، (بيروت: دار الكتاب العربي،بدون تاريخ)، ص 100.

   4ـ السابق، ص 150.

  5ـ الحفني (عبد المنعم ) : معجم مصطلحات الصوفية(بيروت : دار المسيرة، 1980)،ص134.

  6 ـ السابق .

  7 ـ التعرف لمذهب أهل التصوف، ص 178.

 8 ـ  السابق .

 9 ـ السابق، ص 179.

10 ـ  السابق.

11ـ  سعد الله (أبو القاسم ) : تاريخ الجزائر الثقافي، (بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط1، 1998)، 1 / 187

  12 ـ  السابق ،2/437.

   13 ـ   السابق .

  14 ـ  السابق، 2/438.

  15 ـ   السابق، 2/439.

   16 ـ السابق.

   17ـ   السابق، 2/440

   18ـ  السابق،2 /442

    19 ـ  حشلاف  (الحاج محمد الحبيب):  الجفر في الشعر الشعبي الملحون المغاربي، (الجزائر،الديوان الوطني لحقوق المؤلّف والحقوق المجاورة،2004)،ص 09.

  20 ـ بن مسايب، (أبو عبد الله محمّد بن أحمد):الديوان، (تلمسان: مطبعة بن خلدون،1370 هـ)، ص 70.

  21ـ   السابق، ص69.

  22ـ   السابق، ص 70-71.

  23 ـ الطيبي (الجيلالي):  محاولة لقراءة لامنتمي كولن ولسن،مجلة رؤى ،العدد 25 ،2005، ص74.

   24 ـ   تاريخ الجزائر الثقافي، 1/518-519

  25 - NACIB(YOUSSEF) ;CHANTS RELIGIEUX DU DJURDJURA ;(PARIS,EDITIONS SINDBAD ,1988),P 16 .

    26 ـ فرّاد( محمد أرزقي ): أزفون تاريخ وثقافة، (الجزائر،دار الأمل للطباعة والنشر والتوزيع،ط1،2003)، ص 122-125.

    27 ـ  السابق، ص 130-132.

   28ـ  السابق، ص 246-247.

   29 ـ  تاريخ الجزائر الثقافي،1/185-186.

30 – M HAMSADJI (KADDOUR);SULTAN DJEZAIR  SUIVI DE CHANSONS DES JANISSAIRES TURCS D ALGER ;( ALGER,OPU,2005) ;P 22.

     31ـ   تاريخ الجزائر الثقافي،1/189-190

32 -  SULTAN DJEZAIR , P 60.

33 - SULTAN DJEZAIR , P 84.

34 - SULTAN DJEZAIR , P 143.

 

مراجع البحث :

أولا : باللغة العربية

   1ـ  الكلّاباذي (أبو بكر محمد بن إسحاق): التعرف لمذهب أهل التصوف، (بيروت : دار الكتب العلمية،2001).

   2 ـ القشيري (أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن): الرسالة في علم التصوف، (بيروت: دار الكتاب العربي،بدون تاريخ).

  3 ـ الحفني (عبد المنعم ) : معجم مصطلحات الصوفية(بيروت : دار المسيرة، 1980).

  4 ـ سعد الله (أبو القاسم ) : تاريخ الجزائر الثقافي، (بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط1، 1998).

  5 ـ  حشلاف  (الحاج محمد الحبيب):  الجفر في الشعر الشعبي الملحون المغاربي، (الجزائر،الديوان الوطني لحقوق المؤلّف والحقوق المجاورة،2004 ).

 6 ـ ابن مسايب، (أبو عبد الله محمّد بن أحمد):الديوان، (تلمسان: مطبعة بن خلدون،1370 هـ).

ـ فرّاد( محمد أرزقي ): أزفون تاريخ وثقافة، (الجزائر،دار الأمل للطباعة والنشر والتوزيع،2003).

الدوريات :

8 -  مجلة ( رؤى) ، تصدر عن مركز الدراسات الحضارية بباريس ، السنة السابعة ، العدد 25 _ 2005 .

 

ثانيا : باللغة الفرنسية

   09 NACIB(YOUSSEF) ;CHANTS RELIGIEUX DU DJURDJURA ;(PARIS,EDITIONS SINDBAD ,1988) .

10 – M HAMSADJI (KADDOUR);SULTAN DJEZAIR  SUIVI DE CHANSONS DES JANISSAIRES TURCS D ALGER ;( ALGER,OPU,2005) ;P 22.

 

ملاحظة :

نشر هذا البحث في صحيفة "القدس العربي" على حلقتين بتاريخ :

10 أفريل / نيسان2007    و11 أفريل / نيسان 2007

===================================

*سعيد جاب الخير                               

كاتب صحفي جزائري وباحث في مجال التصوف والطرق الصوفية

بكالوريا التعليم الثانوي في الشعبة العلمية من ثانوية ابن تومرت ببوفاريك الجزائر: 1983

شهادة الليسانس في الفلسفة وأصول الدين من جامعة الجزائر:  1994

له تجربة 10 سنوات في قطاع التعليم المتوسط والثانوي في مادتي الفلسفة واللغة العربية.

تعاون منذ 1989 مع الصحف التالية : الخبر اليومية، المسار المغاربي الأسبوعية، الحدث الأسبوعية.

تفرغ للعمل الصحفي ابتداء من سنة 2000 في الصحف التالية:

صحيفة "الفجر" اليومية  كصحفي دائم ثم رئيس للقسم الثقافي.

صحيفة "الجزائر نيوز" اليومية كصحفي ورئيس للقسمي الثقافة والمجتمع.

صحيفة "الشروق اليومي" كصحفي ورئيس للقسم الثقافي.

ويشتغل حاليا كمحرر في القسم الثقافي لصحيفة "الخليج" الإماراتية.

له تجربة في العمل الإذاعي حيث أنتج للإذاعة الجزائرية ثمانية برامج ثقافية.

باحث في الحركات الإسلامية والتصوف والطرق الصوفية وله عدة مقالات وأبحاث منشورة في هذا المجال كما شارك في العديد من الملتقيات الوطنية والدولية.

saidaho@yahoo.com

أضيفت في 10/05/2007/ خاص القصة السورية / المصدر الكاتب

 

 

 

التصوف والأدب

 

بقلم الكاتب د. جميل حمداوي

 

يعد التصوف من أهم المباحث الأساسية التي يدرسها الفكر الإسلامي إلى جانب علم الكلام والفلسفة والفكر العربي المعاصر. وقد قطع التصوف الإسلامي أشواطا كثيرة في تطوره إلى أن تحول إلى طرق وزوايا ورباطات دينية للسالكين والمريدين يقودهم شيخ أو قطب. وقد قامت هذه الطرق والزوايا بأدوار إيجابية تتمثل في خدمة الناس والفقراء والمحتاجين على مستوى الاجتماعي، والدعوة إلى الجهاد على المستوى السياسي، بيد أن هناك من الزوايا الطرقيةالتي كان لها دور سلبي يتمثل في مهادنة الاستعمار والتحالف معه ضد السيادة الوطنية ومصلحة الشعب.

هذا، وللتصوف علاقة وطيدة بالأدب نثرا وشعرا، إذ استعان المتصوفة بالشعر للتعبير عن مجاهداتهم وشطحاتهم العرفانية، كما استعانوا بالنثر لتقديم قبساتهم النورانية وتجاربهم العرفانية الباطنية. إذاً، ما هي علاقة التصوف بالأدب بصفة عامة والشعر بصفة خاصة؟

 

1- مفهـــوم التصوف:

من يتأمل الاشتقاقات اللغوية لكلمة التصوف، فإنه سيجد أن الكلمة تدل على عدة معان كالدلالة على الصفاء والصفو؛ لأن هم المتصوفهو تزكية النفس وتطهيرها وتصفيتها من أدران الجسد وشوائب المادة والحس، وقد تشير الكلمة إلى أهل الصفة الذين كانوا يسكنون صفة المسجد النبوي، ويعيشون على الكفاف والتقشف وشظف العيش، ويزهدون في الحياة الدنيا. وهناك من يربط التصوف بلباس الصوف ؛ لأن المتصوفة كانوا يلبسون ثيابا مصنوعة من الصوف الخشن، في حين ذهب البيرونيإلى أن التصوف مشتق من كلمة صوفيا اليونانية، والتي هي بمعنى الحكمة.

 

وعلى الرغم من تعدد معاني كلمة التصوف، فإن الدلالة الأميل إلى المنطق والصواب هي اشتقاقها من الصوف الذي يشكل علامة تميز العارف وتفرد الزاهد عن باقي الناس داخل المجتمع العربي الإسلامي، وقد يكون هذا تأثرا بالرهبان النصارى أو تأثرا بأحبار اليهود.

ويقصد بالتصوف في الاصطلاح تلك التجربة الروحانية الوجدانية التي يعيشها السالك المسافر إلى ملكوت الحضرة الإلهية و الذات الربانية من أجل اللقاء بها وصالا وعشقا، ويمكن تعريفه كذلك بأنه تحلية وتخلية وتجل، ويمكن القول أيضا بأن التصوف هو محبة الله والفناء فيه والاتحاد به كشفا وتجليا من أجل الانتشاء بالأنوار الربانية والتمتع بالحضرة القدسية.

 

ويلاحظ أن لكل متصوف تعريفا خاصا للتصوف حسب التجربة الصوفيةالتي يخوضها في حضرة الذات المعشوقة.

وإذا كان الفلاسفة يعتمدون على العقل والمنطق للوصول إلى الحقيقة، وعلماء الكلام يعتمدون على الجدل ، والفقهاء يستندون إلى الظاهر النصي، فإن المتصوفة يتكئون في معرفتهم على القلب والحدس الوجداني والعرفان اللدني متجاوزين بذلك الحس والعقل نحو الباطن. لذا يعتبر التأويل من أهم الآليات الإجرائية لفهم الخطاب الديني والصوفي على حد سواء.

 

ويقوم التصوف الإسلامي على موضوعات بارزة تغني عوالمه النظرية والعملية ، وهذه المواضيع هي: المجاهدات والغيبيات والكرامات والشطحات. أي ينبني التصوف على مجموعة من المقامات والأحوال والمراقي الروحانية عبر مجاهدة النفس ومحاسبتها ، والإيمان بالصفات الربانية ومحاولة استكشافها روحانيا ووجدانيا، ورصد الكرامات الخارقة التي قد تصدر عن العارف السالك أو المريد المسافر أو الشيخ القطب، فتبرز العوالم الفانطاستيكية، وتنكشف الأسرار الكونية ومفاتيح الغيب أمام العبد العاشق الذي انصهر في حب معشوقه النوراني . وتتحول الممارسات والأقوال والعبارات العرفانية عند بعض الصوفية إلى شطحات لا أساس لها من الصحة والواقع، وتكون اقرب من عالم التخريف والأسطورة والأحلام.

 

ويستعير التصوف مصطلحاته من عدة معاجم كالمعجم الفلسفي والمعجم الأدبي والمعجم النحوي والمعجم الصرفي والمعجم الكيميائي، والمعجم الفقهي، والمعجم الأصولي، والمعجم القرآني، والمعجم النبوي....

 

2- مراحل التصوف:

يمكن تقسيم أطوار التصوف إلى عدة مراحل أساسية يمكن إجمالها في المراحل التالية:

 

أ‌-مرحلة الزهـــد:

انطلق التصوف الإسلامي مع مجموعة من الزهاد والأتقياء الورعين الذين كانوا يعتكفون في المساجد، يقضون حياتهمفي عبادة الله وتنفيذ أوامره واجتناب نواهيه . وكان أهل الصفة في عهد الدعوة الإسلامية من الزهاد الذي ارتضوا حياة التقشف والفقر وسبيل الفاقة؛ لأن الدنيا زائلة بينما الآخرة باقية. وكان الرسول ( صلعم) نموذجا حقيقيا للزهد والورع والتقوى ، إذ لم ينسق مع مغريات الحياة الدنيا، بل كان يكبح نفسه من أجل نيل رضى الآخرة. ولقد سار الصحابة رضوان الله عليهم على نفس الطريق الذي سار فيه النبي المقتدى ، فآثروا حياة النسك والزهد والتقشف والورع من أجل نيل مرضاة الله وجنته العليا.

 

ب- مرحلة التصوف السني:

لم يظهر التصوف السني إلا بعد مرحلة الزهد والتقشف في الدنيا واختيار حياة الورع والتقوى والإخلاص في الاعتكاف والإكثار من الخلوة و التخلي عن الدنيا واستشراف الآخرة. وسمي بالتصوف السني ؛ لأنه كان مبنيا على الشريعة الإسلامية وأحكام الشرع الرباني، أي إن الصوفية كانوا يوفقون بين الباطن والظاهر أو يؤالفون بين الشريعة النصية والباطن العرفاني. وبتعبير آخر، كان المتصوفة السنيون يستندون إلى الكتاب أولا، فالسنة النبوية ثانيا مع الابتعاد عما يغضب الله و تمثل أوامره والابتعاد عن الحرام وارتكاب الذنوب والمعاصي والارتماء في أحضان الذات المعشوقة.

ومن أهم المتصوفة السنيين نذكر: الحسن البصري الذي عرف بالخوف الصوفي، والمحاسبي الذي أوجد أصول التصوف والمجاهدة، والقشيري المعروف بالرسالة القشيرية، والغزالي صاحب كتاب " منقذ الضلال" والذي يعد من السباقين إلى التوفيق بين الظاهر والباطن على ضوء الشريعة الإسلامية، ورابعة العدوية المعروفة بالمحبة الإلهية، والجنيد ، وأبو نصر السراج، وابن المبارك ، ومالك بن دينار، وعبد القادر الجيلاني، وأحمد البدوي، وأحمد الرفاعي، وابن عبدك....

 

ج- مرحلة التصوف الفلسفي:

انتعش التصوف الفلسفي إبان العصر العباسي في منتصف القرن الثالث الهجري مع انتشار الفكر الفلسفي، والاحتكاك بثقافات الشعوب المجاورة ، وترجمة الفكر اليونانيمن قبل علماء بيت الحكمة الذي بناه المأمون في بغداد لنقل تراث الفكر الهيليني وفكر المدرسة الإسكندرية إلى اللغة العربية. وبطبيعة الحال، سيتأثر التصوف الإسلامي بالمؤثرات الخارجية والمؤثرات الداخلية على حد سواء كما نجد ذلك واضحا لدى الحلاج صاحب نظرية الحلول، والبسطامي صاحب نظرية الفناء، وابن عربي صاحب فكرة وحدة الوجود، ناهيك عن شطحات غريبة في تصوف ابن الفارض والشريف الرضي وجلال الدين الرومي ونور الدين العطار والشبلي وذي النون المصري والسهروردي.

هذه النظريات الصوفية هي التي ستدفع المستشرقين لربط التصوف بالمعتقدات المسيحية واليهودية والعقيدة البوذية والنرڤانا الهندية والتصوف الفارسي.

 

3- الأدب الصوفي:

أ‌-الشعر الصوفي القديم:

يمكن تقسيم الأدب الصوفي إلى ثلاثة أطوار: الطور الأول يبدأ من ظهور الإسلام وينتهي في أواسط القرن الثاني للهجرة؛ " وكل ما بين أيدينا منه طائفة كبيرة من الحكم والمواعظ الدينية والأخلاق تحث على كثير من الفضائل، وتدعو إلى التسليم بأحكام الله ومقاديره، وإلى الزهد والتقشف وكثرة العبادة والورع، وعلى العموم تصور لنا عقيدة هذا العصر من البساطة والحيرة.

والطور الثاني يبدأ من أواسط القرن الثاني الهجري إلى القرن الرابع. وهنا يبدو ظهور آثار التلقيح بين الجنس العربي والأجناس الأخرى، وفيه يظهر اتساع أفق التفكير اللاهوتي، وتبدأ العقائد تستقر في النفوس على أثر نمو علم الكلام. وفيه يظهر عنصر جديد من الفلسفة.

والأدب الصوفي في طوريه الأول والثاني أغلبه نثر، وإن ظهر الشعر قليلا في طوره الثاني. وفي الطور الثاني هذا يبدأ تكون الاصطلاحات الصوفية والشطحات.

 

أما الطور الثالث فيستمر حتى نهاية القرن السابع وأواسط القرن الثامن، وهو العصر الذهبي في الأدب الصوفي، غني في شعره، غني في فلسفته، شعره من أغنى ضروب الشعر وأرقاها، وهو سلس واضح وإن غمض أحيانا."[i]

هذا، وقد تطور الأدب الصوفي نثرا وشعرا، وبلغ الشعر الصوفي ذروته مع ابن العربي وابن الفارض في الشعر العربي، وجلال الدين الرومي في الشعر الفارسي.

 

ولم يظهر الشعر الصوفي إلا بعد شعر الزهد والوعظ الذي اشتهر فيه كثيراأبو العتاهية ، و قد ظهر الشعر الصوفي كذلك بعد شعر المديح النبوي وانتشار التنسك والورع والتقوى بين صفوف العلماء والأدباء والفقهاء والمحدثين كإبراهيم بن أدهم، وسفيان الثوري، وداود الطائي، ورابعة العدوية، والفضيل بن عياض، وشقيق البلخي، وسفيان بن عيينة، ومعروف الكرخي ،وعمرو بن عبيد، والمهتدي. ويعني هذا أن الشعر الصوفي ظهر في البداية عند كبار الزهاد والنساك، ثم" أخذت معالمه تتضح في النصف الأول من القرن الثالث الهجري. فذو النون (ت245هــ) واضع أسس التصوف، ورأس الفرقة لأن الكل أخذ عنه وانتسب إليه، وهو أول من فسر إشارات الصوفية وتكلم في هذا الطريق.

 

ولم ينته القرن الثالث الهجري حتى أصبح الشعر الصوفي شعرا متميزا يحمل بين طياته منهجا كاملا للتصوف، وأما الذين جاؤوا بعدهم فإنهم تميزوا بالإفاضة والتفسير."[ii]

ويقول الدكتور شوقي ضيف في هذا السياق:" ومنذ أواخر القرن الثالث الهجري تلقانا ظاهرة جديدة في بيئات الصوفية، فقد كان السابقون منهم لاينظمون الشعر بل يكتفون بإنشاد ماحفظوه من أشعار المحبين وهم في أثناء ذلك يتواجدون وجدا لايشبهه وجد، أما منذ أبي الحسين النوري المتوفى سنة 295هـ فإن صوفيين كثيرين ينظمون الشعر معبرين به عن التياع قلوبهم في الحب آملين في الشهود مستعطفين متضرعين، مصورين كيف يستأثر حبهم لربهم بأفئدتهم استئثارا مطلقا، نذكر منهم سحنون أبا الحسين الخواص المتوفى سنة 303، وأبا علي الروذباري المتوفى سنة 322 ، والشبلي دلف بن جحدر المتوفى سنة 334 وجميعهم من تلامذة الجنيد.

وواضح أن العصر العباسي الثاني لم يكد ينتهي حتى تأصلت في التصوف فكرة المعرفة الإلهية ومحبة الله كما تأصلت فكرة أن الصوفية أولياء الله ،"[iii]

وقد ترتب عن هذا أن اشتهر كثير من الصوفية في العصر العباسي كالسري السقطي الذي يعد أول من تكلم في لسان التوحيد وحقائق الأحوال ، وهو أيضا أول من تكلم في المقامات والأحوال قبل ذي النون المصري[iv]، وسهل بن عبد الله التستري، والجنيد، والحسين بن منصور المشهور باسم الحلاج، والحسن بن بشر،ويحيى بن معاذ، وأبي سعيد الخراز، وحمدون القصار النيسابوري، والمحاسبي، وابن العربي ، وابن الفارض، والشريف الرضي، والنفري صاحب كتابي:" المواقف" و" المخاطبات".

ومن أصول التصوف عند هؤلاء العارفين: التمسك بكتاب الله تعالى، والاقتداء بسنة رسول الله( ص)، وأكل الحلال، وكف الأذى، واجتناب الآثام، والتوبة، وأداء الحقوق.[v] ويقول الجنيد:" طريقنا مضبوط بالكتاب والسنة، ومن لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث ولم يتفقه لا يقتدى به".[vi]

ومن الشعراء الذين مالوا إلى الكتابة الصوفية جحظة البرمكي إبان العصر العباسي حيث يظهرتجلده ومحاسبته للنفس وميله إلى التزهد والتقشف في الحياة وارتضاء عيش الفقر والضنك بدلا من الارتماء في أحضان الدنيا الفانية:

 

إني رضيت من الرحيق

بشراب تمر كالعقيق

ورضيت من أكل السميــ

ـــد بأكل مسود الدقيق

ورضيت من سعة الصحـــ

ــن بمنزل ضنك وضيق

 

وعرفت رابعة العدوية بكونها شاعرة فلسفة الحب ؛ لأنها حصرت حياتها في حب الذات الربانية والسهر المستمر من أجل استكشافها لقاء ووصالا:

 

أحبك حبين: حب الهوى

وحبا لأنك أهل لذاكـــــــا

فأما الذي هو حب الهوى

فشغل بذكرك عمن سواكا

وأما الذي أنت أهل له

فكشفك لي الحجب حتى أراكا

فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي

ولكن لك الحمد في ذا وذاكا

 

واعتبر ذو النون القرآن الكريم محرك القلوب والهمم والوجدان الروحي، وعده السبب لكل تذلل عرفاني يصدر عن المحب العاشق:

 

منع القرآن بوعده ووعيده

مقل العيون بليلها أن تهجعا

فهموا عن الملك الكريم كلامه

فه۫ما تذل له الرقاب وتخضعا

ويشيد ذو النون بمحبة الله التي توصل العارف السالك إلى النجاة والفوز برضى الله ووصاله اللدني:

 

من لاذ بالله نجــــا بالله

وسره مــــرّ قضاء الله

لله أنفاس جـــــــرت لله

لاحول لي فيها بغير الله

 

ويعظم الجنيد حضور الله في قلبه الذي يعمره بهواه ، ولا يستطيع أن ينساه مادام أن الله هو المستند والمعتمد:

 

حاضر في القلب يعمره

لســـت أنساه فأذكره

فهو مولاي ومعتمدي

ونصيبي منـــه أوفره

 

ويبين الجنيد شوقه نحو الذات الإلهية في لحظات اللقاء والفراق وتعظيمه للحضرة الربانية أثناء تواجدها في قلب العارف المحب:

 

وتحققتـــك في الســــر

فنــاجـــاك لســــــاني

فاجتمعــــــنا لمعان

وافترقـــــنا لمعـــــاني

إن يكن غيبك التعظـ

ـيم عن لحظ عياني

فلقد صيرك الوجد

من الأحشــــــاء داني[vii]

 

ويتبنى الجنيد في بعض الأبيات الشعرية نظرية الفناء في الذات الربانية على غرار أبي يزيد البسطامي، ويكون الفناء عن طريق تجرد النفس عن رغباتها وقمعها لشهواتها وانمحاء إرادتها والفناء في الذات الإلهية كما في هذا البيت الشعري:

 

أفنيتني عن جميعي

فكيف أرعى المحلا

 

وقد عمل الجنيد على إرساء نظام الطرق الصوفية وتحديد مسالك العارفين ونظام المريدين في التصوف الإسلامي.

ومن شعراء المحبة الإلهية وفكرة الفناء الصوفي عبر انمحاء الإرادة البشرية وذوبانها في الإرادة الربانية الشاعر الصوفي أبو الحسين سحنون الخواص الذي قال:

وكان فؤادي خاليا قبل حبكـــم

وكان بذكر الخلق يلهو ويمزح

فلما دعا قلبي هواك أجابه

فلست أراه عن فنائك يــــــبرح

رميت ببين منك إن كنت كاذبا

وإن كنت في الدنيا بغيرك أفرح

وإن كل شيء في البلاد بأسرها

إذا غبت عن عيني بعيني يملح

 

ومن الشعراء الذين تغنوا بفكرة الفناء والمحبة الإلهية الشاعر الصوفي أبو علي الروذباري:

روحي إليك بكلها قد أجمعت

لو أن فيها هلكها ما أقلعت

تبكي عليك بكلها عن كلها

حتى يقال من البكاء تقطعت

 

الهوامش:

[i] - أحمد أمين: ظهر الإسلام، المجلد الثاني، 3-4، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، ط 1969، ص:173؛

[ii] - د. علي جميل مهنا: الأدب في ظل الخلافة العباسية، الطبعة الأولى 1981، مطبعة النجاح الجديدة ، الدار البيضاء، ص:173؛

[iii] - د. شوقي ضيف: العصر العباسي الثاني، دار المعارف بمصر، ط 2، ص:113-114؛

[iv] - د. شوقي ضيف: العصر العباسي الثاني، دار المعارف بمصر، ط 2، ص:109؛

[v] - أبو عبد الرحمن السلمي: طبقات الصوفية، طبعة ليدن، 1960م، ص: 141؛

[vi] - أبو عبد الرحمن السلمي: طبقات الصوفية، طبعة ليدن، 1960م، ص: 141؛

[vii] - أبو نصر السراج: اللمع، طبعة دار الكتب الحديثة 1960م، ص:283؛

أضيفت في 10/05/2007/ خاص القصة السورية / المصدر الكاتب / أنظر (شخصيات صوفية)

 

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية