نماذج
قصصية وشعرية لأدباء في بلاد الاغتراب والمهجر1
الوردة الجورية الحمراء
مسرحية من فصل واحد
بقلم الكاتب:
يحيى الصوفي
المشهد الأول:
شارع من شوارع جنيف... الوقت قريب منتصف النهار والشارع هادئ بعض الشيء...
والطقس جميل والشمس مشرقة... والمقاهي قد فرشت مقاعدها على الرصيف..... رجل في
عقده الخامس تبدو عليه ملامح الإرهاق يمشي ببطء... إلى قربه فتاة في عقدها
الثاني، متوسطة القامة وثيابها بسيطة وجميلة وألوانها هادئة... يبدو على وجهها
مسحة حزن لا تخفى على احد... تنظر إلى واجهة المحلات الكبيرة الأنيقة بشيء من
اللامبالاة.
الرجل يتوقف قليلا... يلتفت إلى الفتاة بإشفاق... يحاول أن يشغلها بالحديث
ريثما يعبرا بائع الأزهار:
-هل تعرفين يا ابنتي بأنني أتمنى أن أتناول طعامي في المطعم العائم هناك،...
القائم على ضفاف البحيرة... تصوري أنني وكلما اعبر جسر "مون بلان" (الجبل
الأبيض) تصعد إلى انفي رائحة السمك المشوي... انه يقدمه بطريقة خاصة جدا...
تذكرني بالسمك المشوي هناك على شاطئ البحر... في الوطن !؟.
الفتاة تحاول أن تحبس الدموع في عينيها... لا تستطيع... تسيل عبراتها الدافئة
على خديها بسرعة... ترتجف... تحاول أن تخنق بكائها في صدرها... لم تستطع...
تشهق بسرعة... تهز رأسها موافقة أبيها على كلامه... تخبئ وجهها بيديها من
المارة الذين أثارهم منظرها الحزين... يلفها أباها بيديه الكبيرتين يحتضنها...
يأخذ رأسها بيده اليمنى إلى صدره وهو يقول:
-تبكي يا ابنتي !... تبكي يا حنان !... مرة أخرى تبكي وقد وعدتني ألا تفعلي هذا
!؟... رايتها أليس كذلك !... رأيت الوردة الجورية الحمراء ؟!.
حنان... لم تستطع أن تمسك نفسها عن البكاء... تبكي (صمت)...
-نعم يا أبي رايتها !.
-أنها على كل حال وردة جميلة كبقية الورود !... يشترونها الناس ليزينوا بها
الردهات وموائد الطعام !...
حنان مقاطعة:
-أنهم يزينون بها المقابر أيضا يا أبي ؟!.
-نعم... نعم يا ابنتي... يزينون بها الموائد والمقابر... الم تنسي بعد ذلك
اليوم المشئوم !؟.
-أنساه يا أبي !... كيف أنساه وأنا لم استطع أن أودع أمي كما يفعل كل الناس
!؟... أن أضع الأزهار على قبرها... والوردة الحمراء... الوردة الجورية التي
تحبها أمي... لم استطع أن أرافقها بها إلى مثواها الأخير... رحلت وحيدة...
وحيدة يا أبي.
-كان يوما قاسيا على كل حال والقنص لم يرحم احد... وشظايا القنابل الكثيرة
تتطاير في كل مكان... كان الأحسن أن تلتزمي البيت وان أرافقها إلى مثواها
الأخير لوحدي... لا تعتبي نسيت الأزهار... والورود... نعم... أنت تعرفي كم هو
صعب أن تتذكري كل شيء وفي ذلك اليوم الصعب... الصعب جدا... رحمها الله.
حنان وقد هدأت بعض الشيء... وهي تحاول أن تتخلص من أباها وتمسح دموعها ...
-رحمها الله.
الأب يحاول أن يأخذ بيدها... تتوقف حنان ثانية... تنظر إلى الورود والأزهار
بتأمل وشغف... يحاول أباها أن يخاطبها... يتردد... يتوقف... يتركها لحظة...
يعود إليها وهو يقول:
-تعالي... تعالي يا ابنتي ..
تسير حنان برفقته... تتوقف ثانية... تحاول أن تجمع شعرها بيديها الاثنتين ليعود
كما كان
-يا ابنتي تعالي ... تعالي... لا تغرقي نفسك في متاهات الأيام المظلمة التي
عرفتها ولا تبحثين عن الحلول والسلوى... لا يهم... لا يهم كل ما يجول في بالك
من خواطر... لا يهم في هذا العالم من تكوني... ومن أي بلد أنت قادمة مهجرة...
مئات الناس مثلك يتحركون فوق هذه الأرض الغريبة يبحثون عن الأمان بعيدا عن
الخوف والقتل ؟!.
حنان وقد عاد إليها هدوءها ثانية... تنظر إلى أبيها... تتوقف أمام احد مقاهي
الرصيف تلقي بنفسها على احد المقاعد القريبة
-اجلس يا أبي لنرتاح قليلا... وأنا اعتذر، فلقد تصرفت كالحمقى أمام الناس !.
الأب وهو يتناول احد المقاعد يجلس بهدوء... يحاول أن يجمع نظره بنظرات ابنته
التي تحاول أن تتحاشاها
-أبدا يا ابنتي... ولكن أكثر ما يحزنني أن تكوني هكذا باستمرار... خائفة حزينة
!؟.
-ولكن يا أبي لم استطع أن أتخلص منه... لم استطع... ذلك الخوف كامن في جسدي...
في قلبي ها هنا... انه يسكن في كل خلية من خلايا بدني... يمسك علي أطرافي...
أبت أن تساعدني... البارحة... أتذكر البارحة يا أبي عندما مددت يدي إلى ذلك
الشاب لأصافحه ... شعرت وكأنها كتلة حجر ثقيلة تتحرك نحوه... لم تستطع أصابعي
أن تلتف حول كفه الأملس... لم تستطع عينتي أن ترى عيناه الباسمتين كعادته... لم
استطع أبدا !!!... هل يمكن أن يحدث هذا يا أبي ؟... هل يمكن أن ينقلب الإنسان
إلى كتلة صلبة خالية من كل شيء ؟... حتى من المشاعر؟...
-انه ابن عمك على كل حال... وهو لطيف للغاية... لا اعرف كيف تصرفت معه هكذا
؟... لقد بدا لي منزعجا عندما ابتعدت عنه وأنت بهذه الحالة السيئة... دائما؟!
-الخوف ... أتعني الخوف حالة سيئة وأنت تدرك أكثر مني بان الجدران... الجدران
الصامتة أبدا هي التي وشت بأخي... نسيت كيف تسلقوا الجدران... طوقوا البيت
واختطفوه من بيننا... نسيت ذاك الصباح المظلم البارد... نسيت بكائنا... موت
أمي... نسيت قهقهة الجدران الصامتة أبدا... نسيتها وأنت الذي أشرفت على بنائها
حجرا حجرا !... هل يسامحني أخي الميت أبدا... العائش أبدا... القابع في مكان
ما... بارد تحت الأرض ؟!... هل تسامحني أمي... أمي يا أبي التي بكت أخي حتى
ماتت... نسيت مذلتها تلعق أحذية الرجال الأقوياء أبدا... القادرون على فعل كل
شيء أبدا... أبدا ؟!.
- يا ابنتي ...يا ابنتي.. ...( صمت )
-اعرف يا أبي... اعرف ماذا تريد أن تقول... سواء امسك البكاء الكلام عنك
أم...... (صمت) ... أبي ... أتبكي حقا يا أبي ؟.
الأب وهو يحاول أن يخفي دموعه
-انسي ذلك الماضي يا ابنتي... أنت تعيشي خارج كل تلك الآلام... عيشي سعيدة...
أنا فعلت كل هذا لأجل أن تعيشي سعيدة وتنسي ما حدث... أنت في جنيف يا ابنتي...
في بلدة السلام... بعيدة عن القتل... بعيدة عن الكره ؟!.
-جنيف... كم حلمت بها... وها أنا ذا مقيمة فيها... ولا من متعة في رؤيتها ولا
من اطمئنان ... ظلموها عندما قالوا عنها بأنها ملجأ الهاربين من الظلم... فهي
مليئة به... مليئة بالعيون الباحثة عن قربان جديد لسيد القصر... ها أنا ذا
لازلت خائفة أن أتكلم عنه... لقد اسكن الرعب في نفسي طيلة أعوام ثلاثة قاسية
ومريرة... كيف تستطيع إنسانة مثلي تحمل حزن سنوات القهر الطويلة أن تمرح ؟...
وتنسى... أكون بلا ضمير ولا مذهب إن فعلت هذا ؟!.
- يا بنتي
-دعني يا أبي... لقد كرهت جنيف... كرهت الشوارع النظيفة... الحدائق العامرة
بشتى أنواع الزهور... بمئات القادمين... المغادرين.... حقائب... حقائب... عربات
كثيرة... مطاعم كثيرة وخدم... ملصقات عن احتفالات وألعاب وأعياد... عشرات
المجانين يعزفون ... يرقصون... وكلاب وفقراء وعبيد... سئمت رؤيا الوجوه الشابة
كابن عمي الهاربة من الموت... لماذا يهرب الإنسان من الموت إذا كان الموت قدره
؟... وقد علمتني بان الحذر لا يمنع القدر... قلي يا أبي لماذا ؟.
-أن يهرب الإنسان من الموت مثلنا يا ابنتي حبا بالحياة وأملا بالعودة لبناء
الوطن من جديد،... وصحيح بان الحذر لا يمنع القدر ولكن الحذر قد يكون في بعض
الأحيان جزء من القدر !؟.
حنان... تهز رأسها...
-أشكرك يا أبي على تلك الثقة... أشكرك لأنك تعلمني الصبر... وتمنحني وفي كل يوم
جديد من خوفك كل أمان... ومن ضعفك كل قوة؟!.... اشكر عطائك لي يا أبي... إنني
أبدا لن أنساه... وهل بعد أن يعطي الإنسان من ضعفه قوة عطاء ؟... لا أظن... لا
أظن.
المشهد الثاني: نفس المكان في المقهى
يقترب نادل المقهى يسأل بالفرنسية:
-سيدتي، سيدي، نهاركم سعيد... هل تريدون طلب الشراب ؟.
الأب وهو ينظر إلى حنان:
-نعم من فضلك... واحد قهوة لي يلتفت إلى ابنته
-هل تأخذين القهوة مثلي؟.
حنان تهز برأسها
-من فضلك.
-اثنين قهوة من فضلك.
ينصرف النادل... يصحح الأب من جلسته السابقة... يتفقد علبة السجائر في جيوبه...
يبدو من حركاته بأنه منزعج لأنه لم يجدها... ينهض من مكانه
الأب محدثا حنان
-سأتركك قليلا لاشتري علبة سجائر .!
يتحرك ببطء داخل المقهى وهو يتمتم بعبارات غير مفهومة تعبيرا عن امتعاضه من
نسيانه لأشيائه الخاصة باستمرار.
المشهد الثالث: نفس المكان
شاب اسمر وسيم أنيق يبتسم للمارة... يستوقف فتاة شقراء... يحيها ... يقبلها على
الخدين كمن سبق أن عرفها... تبتسم الفتاة له وهي تحاول أن تتخلص منه وهي تعتذر
بأنها لم يسبق أن عرفته من قبل... يعتذر هو الآخر على انه تصور بأنه يعرفها...
يبتسم بشدة وهو يحرك يديه بطريقة طريفة... تضحك حنان من المشهد... يقترب الشاب
من طاولة حنان يحيها
الشاب بالفرنسية
-نهارك سعيد...
وهو يشير إلى المقعد
-هل المقعد خال ؟.
حنان تعود إلى وضعها السابق متجهمة وترد بعصبية بالفرنسية:
-لا !.
يقف الشاب مرتبكا مترددا لا يعرف كيف سيرد على هذه الفتاة الجميلة... لقد تصور
بأنها كانت تبتسم له.
يعود الأب وهو ينزع عن علبة السجائر غلاف النايلون... يحيى الشاب باحترام ويحرك
حاجبيه مستغربا وقوفه مرتبكا بهذا الشكل ... ينظر إلى حنان ... يعود بنظره إلى
الشاب ... يبتسم وهو يقول بالفرنسية
-تفضل بالجلوس.
الشاب بالفرنسية
-آه... نعم... وهو يشير إلى المقعد الفارغ
-غير مشغول ... شكرا جزيلا...
يجلس الشاب... يجلس الأب... تنظر حنان إلى أباها بعتب !.
الأب موجها حديثه لحنان بالعربية
-إنني أتضايق جدا من نسياني لأشيائي !... لماذا لا تذكرينني بسجائري يا حنان ؟.
حنان لا تجيب (صمت).
الشاب بفرح يتكلم العربية وهو يشد على مقاطع حروفها:
-انتم عرب ؟...
ودون أن ينتظر جوابهم:
-مرحبا... مرحبا بكم... العرب كلهم إخواني...آني من المغرب العربي... وانتم ؟.
الأب يلتفت إلى الشاب وهو يبتسم:
-نحن من لبنان.
الشاب بلهجة مغربية
-بالحق... من لبنان... بيروت... الكلاب الصهاينة يقتلوا اللبنانيين هناك والعرب
يتفرجون... بالله عليك شوف... شوف أحنا مئة وخمسون مليون ما نقدر نعمل حاجة...
أحنا بالجزائر حاربنا الفرنسيين.... قتلوا مليون جزائري... الجزائر بلد المليون
شهيد... أهلا... أهلا... آني بحزن لما نسمع الصهاينة يقتلوا بالشعب اللبناني...
"شوف"... "شوف" بالله عليك بلد الحرية والثقافة والحضارة يقتلوها... ويفجروها
والعالم يتفرج ؟؟؟.
الأب يهز برأسه وهو يلتفت إلى الشاب بهدوء:
-الخطأ كان خطأنا منذ البداية... لم نتدارك الفوارق الشاسعة التي حصلت مابين
طبقات الشعب نتيجة النهضة الواسعة التي حصلت في لبنان، فلبس الفقير ثوب
الاشتراكية في حين تمسك الغني بأملاكه الواسعة التي تعب في تحصيلها... وتداخلت
الأمور بعد ذلك مع دخول الدول الكبرى المعركة فاختلطت الأوراق... وأوراقنا صعبة
جدا يا بني !.
-تريد أن تقول بان الحرب بين غني وفقير ؟.
وقبل أن ينتظر الجواب:
-صحيح... صحيح الصهاينة الكلاب بدن يحتلوا لبنان... نعرف... نعرف بدن ينقلوا
المصانع والشركات والبنوك إلى بلادهم الميتة... شعلوا نار الفتنة واستفادوا من
الحرية... لكن ما يقدروا... الشعب اللبناني بطل... والله... والله آني بحب
الشعب اللبناني... انتم ناس طيبين جدا... أنا عندي أصحاب بالجامعة من لبنان
يتكلمون كثيرا عن الحرب... الكلاب الصهاينة يكرهوننا ويقتلوا بأهلنا... إحنا في
الجزائر بقي الفرنساوي مية وعشرين سنة ...طلعناهم... الصهاينة عندهم ثلاثين سنة
فقط في فلسطين ... الشعب الفلسطيني بطل ...نعرف كتير ناس بالجامعة من فلسطين...
الفلسطينيين أبطال... وسينتصروا... نعرف... نعرف... الصهاينة يحبوا ياخدوا
بلادنا لأنه فيها خيرات كتير... عيونهم على النفط... نعرف... نعرف... وربي ما
يقدروا يعملوا حاجة... نحن شعب نصبر... ولكن ناخد حقنا ولو بعد مية عام ؟؟؟!!!.
الأب مترددا وكأنه شعر بأنه لا يستطيع أن يتابع مع هذا الشاب المتحمس فهو يأخذ
الأمور ويحللها ويجيب عليها بسرعة... يبتسم... يشعل سيكارة يمصها بعمق وينفثها
وكأنه ينفث هموم العالم كله.
المشهد الرابع والأخير: نفس المكان في المقهى
نفس المكان يقترب النادل وهو يضع القهوة على الطاولة مع فاتورة صغيرة يدفعها
تحت صحن السجائر... يتوجه إلى الشاب سائلا بالفرنسية:
-سيدي هل ترغب بالشراب ؟.
الشاب يجيب بالفرنسية:
-قهوة من فضلك
النادل يرد بالفرنسية:
-حاضر بدون تأخير.
يذهب النادل... ينشغل الأب وحنان بتحلية القهوة وإفراغ علب الحليب الصغيرة
فيها...
الشاب... يحرك يده ورأسه بشكل يوحي بأنه يريد أن يقول شيئا... يتردد... يصلح من
جلسته... يبدو انه شعر بتسرعه... يلتزم الصمت.
حنان تنظر إلى الشاب لأول مرة... ترد نظرها عنه باتجاه أبيها... تتناول فنجان
القهوة لترشف منه قليلا:
-أبي... لا تنسى أن تشتري الجرائد... عمتي تنتظرها كل يوم بشغف لتقرا أخبار
الوطن.
-تولي الأمر عني اليوم يا حنان... أرجوك.
الشاب يقتحم الحديث كعادته:
-اسمي "بلقادر"... أنا أتشرف بمعرفتكم... اسمحوا لي "راهو" أنا ما بعرف "نهدر"
بالعربية زيكم... نتكلم شوي فصحى !.
الأب وهو ينظر إليه باهتمام:
-لا يهم يا بني، اللغة وسيلة للتعبير وطالما انك تستطيع أن تعبر ... فبأي لهجة
كانت نسمعك.
-أنا اشكر لطفك وسعة صدرك.
يلتفت إلى حنان ثم يتابع:
-أحسدك على أباك... أنا بعرف كتير من بلاد الشام، من سوريا ولبنان وفلسطين، ناس
يمتازوا بالثقافة والهدوء، وأنا أحبهم جدا !.
موجها حديثه للأب:
-وصدقني يا عم نحن في الوطن العربي نعيش حالة واحدة... الجميع يحاربوننا..
الجميع يدفعوننا للهجرة من أوطاننا.
حنان مستغربة:
-ولكن نحن هجرنا غصبا عن أنوفنا ؟.
"بلقادر" يقطع الحديث:
-أنا اعرف كيف ينظر الناس إلينا... وكيف يلصقون بنا صورة الإنسان الذي لا يعرف
اللباقة أو الأدب أو الاحترام، أنا اعترف -ربما- كان هناك البعض منا سيء ولكن
لسنا جميعا كذلك !؟.
حنان وهي تبتسم:
-وهل تستطيع أن تنكر ما رأيتك تفعله منذ قليل ؟.
-لي عذري يا آنستي فانا لا افعل ما أنا به، ولكن افعل ما يحبون وما علموني هم
إياه... أنا مثلا لا افعل هذا في بلدي... وعندما كنت عاقلا خسرت كل أصحابي...
لا احد يريد أن يعترف بالعقل ؟!... والناس هنا يحبوا المجانين... وأنا اجن معهم
بعض الوقت لارتاح من اسري ومن هجرتي... أنا أيضا ككل الذين تلتقيهم... مهجر
!...ولكن بأسلوب مختلف، نحن نهاجر أيضا غصبا عن أنوفنا... تحت ضغط الكبت والأسر
والحرمان... ولبنان عندما كان حرا يعيش حالة ديمقراطية فريدة كان الجميع
متمسكون به ويبنون به... ولان تهجير المواطن مسألة صعبة في هذه الحالة اخترعوا
له الحرب... فهجروه وسرقوا وطنه وحضارته وديمقراطيته رغما عنه !.
ثم تابع:
-فالهجرة واحدة والأسباب تختلف !!... وكما تحنين للوطن احن إليه... وكما فقدت
من اهلك فردا فقدت من أهلي فردا
حنان مقاطعة وكأنها تفاجئت:
-وهل قتل احد من أفراد عائلتك ؟.
-لم يقتلوا بالفعل... ولكن هم ميتون !... أنا من وجهة نظري الإنسان الذي لا
ينتج ميت... وأصعب من الموت أن تعيشي وأنت غير قادرة على أن تفعلين شيئا...
والإنسان -في العادة- تواق لان يفعل ما يبرز ذكائه وأحلامه وطموحاته ويترك
بصمته الخاصة به ليأخذ حقه من الحياة ومن نجاحه فيها.
حنان تنظر إليه بإعجاب:
-لم أكن أتصور هذا ؟!.
الأب وقد انبسطت أسارير وجهه لان حنان تناست كآبتها:
-أن "عبد القادر" على حق يا ابنتي فانا أثق بكم... بالشباب جميعا، لأنهم باتوا
يدركون الكثير من الحقائق الغامضة وهذا يلغي الكثير من المسافات مابين شاب عربي
من هنا وشاب عربي آخر من هناك.
بلقادر يقتحم الحديث مرة ثانية:
-أصعب شيء يعاني الإنسان منه انه يعلم بان له أب أو أخ أو أم وأصدقاء أحياء
يرزقون ولكن لا يستطيع أن يكلمهم أو يساعدهم أو يدافع عنهم، وهذا ما يزيد
الهجرة ألما وكآبة وحزنا... صدقني يا عم... صدقيني يا آنسة إن هجرتنا أصعب
بكثير... وإذا كان عندكم أمل بالعودة بعد شهر فلسنا على أمل حتى ولو بعد عام...
وعندما يعود احدنا -إن استطاع- لا يجد أباه ولا أخاه ولا أمه ولا أصحابه وتستمر
هجرته مرة ثانية بشكل أو بآخر وفي وطنه هذه المرة !.
حنان معقبة:
-يبقى لديكم أمل بان تعودوا وتجدوا أحدا !.
-نعم نجد أحدا !... ولكن غريبا ليس كما تركناه... فالأسر يعلم الإنسان السرقة
والكذب والنفاق.
الأب يهز برأسه موافقا:
بلقادر متابعا:
-إن هجرتنا ليست أكثر من محاولة لكي نمنع عن أنفسنا السقوط !.
-ولكن هذا ليس حلا !.
-هناك حل.... أن نتوجه إلى الصحراء ونبحث عن تربة طرية نستطيع أن ندفن رؤوسنا
بها... المليئة بكل شيء !؟.
حنان تبتسم:
-أتسخر ؟.
"بلقادر" وقد سره ان يثير اهتمامها:
-وهل بعد حالنا من سخرية .؟!
يلتفت بطريقة مسرحية باتجاه الشارع، تظهر فتاة جميلة تبتسم له وتحييه... "بلقادر"
موجها حديثه للفتاة بالفرنسية:
-يوم سعيد.
ينهض من على الطاولة وقبل أن يغادرها يلتفت إلى الأب وحنان وباحترام ظاهر يقول:
اعذروني سأرحل عنكم ولكن بودي أن أقول لكم شيئا أخيرا، الخطأ كان خطانا، فنحن
من ادخل الدب إلى حديقة بيتنا الهادئة !.
وهو يتحرك بعيدا يتمم كلامه وبصوت عال:
-وفوق ذلك دللناه على وعاء العسل ؟!.
يرحل الشاب بعيدا برفقة الفتاة في حين يلتفت الأب إلى ابنته وهو يهز رأسه:
-أرأيت يا حنان... أرأيت شبابنا كيف يضيع... انه على حق، لقد أدخلنا الدب إلى
حديقة بيتنا الهادئة ودللناه على وعاء العسل، فلم نعد نستطيع أن نخرجه منها ولا
أن نخلص وعاء العسل من يديه ؟!.
حنان مستغربة وهي توجه حديثها لأباها:
-بدأت تحكي بالألغاز يا أبي ؟.
-الأحسن أن نرحل، فلقد حان موعد الغذاء... هيا بنا يا حنان.
ينهض الأب... يضع بعض النقود على الطاولة... تنهض حنان تتأبط ذراع والدها بشيء
من الألفة والحنان ويرحلوا مبتعدين عن المقهى حتى يختفوا عن الأنظار.
(ستار) تمت. يحيى الصوفي جنيف في / 08 /11 /1981
كتبت هذه المسرحية في إحدى مقاهي الرصيف في جنيف تأثرا بأحداث الحرب اللبنانية
خلال عام 1981 أي منذ أربع وعشرين عاما ولقد قمت بنقلها وطبعها كما كتبت دون أي
إضافة بالرغم من أنني كنت قد تركت الكثير من الحواشي والملاحظات للتوسع في
فصولها على الورقة الأصلية وارتأيت نقلها وطبعها كما هي وأنا أتساءل هل تغير
شيء ؟ وقد أصبح العرب أكثر من ثلاثة مئة مليون، أم أن الأسماء فقط تغيرت.
يحيى الصّوفي جنيف في 19/09/2004
أضيفت في18/05/2006/ خاص
القصة السورية / المصدر الكاتب
عين صابتنا
بقلم الكاتبة:
نجمة خليل حبيب
دخلت عالمنا على حين غرة , بعثرت ما كان معلبا من ثوابت ومعتقدات
فوق رفوف وعينا منذ عهد عاد. . . بعد دخولها لم تعد الامور على ما كانت عليه .
لماذا حصل هذا ؟ لماذا هفت قلوبنا الى كل حركة وكل ساكنة فيها لست ادري . ابي
يغضب وينهانا عن التفوه باسمها . اخرجوها من افكاركم . هي ضلالة وشر . ولكنها
دائما بيننا اقرب من رفة الجفن , وان كان لا يزال في انفسنا خشية من ان نلهج
باسمها على الملأ, إلا انها دائما بين اي اثنين منا تلاقيا على سمر .
كلنا مولود في استراليا , كلنا ترعرع في سدني بالذات,.ولكننا في
الحقيقة ما فارقنا جلود اجدادنا يوما. فخورين بحسبنا ونسبنا، نكن احتقارا اخرس
لهذه المدنية الغريبة عن نهجنا ووصايانا، قانعين بكل ما يرسمه لنا الاب فهو
أدرى بمصلحتنا .
قضى رأيه, الذي لا يعلوه رأي, ان اكتفي من الدراسة بالشهادة
الثانوية فلم اطمع بمزيد.
قال: هيك بيكّفي .الفتاة العاقلة بنت الاصول يكفيها من العلم ما
ينفع عائلتها. فرضيت
ما وعيت امي إلا قابعة في مطبخها, ولم ينته الى وعيّ أنه دار يوما
في خلدها ان تقتدي بجاراتها او حتى ببعض بنات جاليتها, فتسعى او حتى تطالب في
نشاط خارج دائرة العمل المنزليّ. قانعة راضية باقتفاء اثر امها وجدتها في
الانصباب على تأمين حاجياتنا وكسب شوط السبق في اتقان الاطيب والاكثر تعقيدا من
انواع الطعام. تحرص على تلبية طلبات كل فرد في الاسرة. لا تشكو ولا تتذمر ولا
حتى يغريها ما حققته نسيبتها بهيّة من امتياز على زوجها في الاونة الاخيرة .
"سندي وتاج راسي ابو فيصل".
من جهتي ما طالبت يوما بالخروج الى العمل كمعظم زميلاتي . . .
طلباتي الاساسية مؤمنة. هي تصطحبني الى السوق كلما دعت الحاجة. خروجي من البيت
منظم مقنن , فما انا سجينة ولا في حل متروك لي الحبل على الغارب. قد اساهم في
مساعدة اخوتي الصغار في بعض واجباتهم المدرسية او اعمل "بابي ستر " لابناء
خالتي عندما تدعوني الى ذلك ـ طبعا بدون مقابل ـ فالمقابل ما زال عيبا في
قبيلتنا نّعف عنه ظاهريا ونتلقاه بطريقة مواربة (على شكل هدية يعني) تكون في
الكثير من الاحيان غبناً . قد اذهب مع بنات الاعمام او الاخوال لمشاهدة مسرحية
او فيلم كثر الحديث عنه, ولكن بعد ان نعد لذلك اياما او حتى اسابيع ونقدم عرضا
مفصلا "للجهات المختصة " عن الفيلم وموضوعه ومشاهده ومتى واين يعرض وكل
التفاصيل المهمة وغير المهمة.
لم يكن الامر ليزعجني فقد اسلمت له القيادة واستكنت هادئة البال
بعيدة عن وجع الراس. رضخت لكل اوامره.
ما احسست غبنا ولا عنّ لي أنّ حالي خليقة بالشكوى. لا اذكر انني
خدشت وصاياهم وما جال بخاطري ابدا ان اتساءل وماذا لو اكلنا اللحم يوم الجمعة
! !
ثم دخلت حياتنا . . . جاء بها اخي الاكبر زميلة في الجامعة. هكذا
بدون مقدمات ـ كما يفسرـ
ـ حصل الامر بعفوية تامة . ما دعوتها ولا حاجة . . . كنا في نقاش,
سرقنا الحديث, ما حسينا ودرينا الا واحنا "كدام" الباب .
ـ وبدك ياني"اصدكك"! ! . . . وتدرس هندسة عمار كمان . . . مسترجله
يعني . . . من "كلّة" ما حدا يردها . . . .هذي بنت فلتانه . . .
لا ! ! . . . لم تكن فلتانه . . . كانت ابنة عائلة محترمة متماسكة
, نواتها اب وام واطفال , والاب هو راس عشيرته دون منازع . كانت واحدة منا,
لها نفس لون جلدتنا وغزارة شعورنا حتى انها تتكلم لغتنا الام بطلاقة افضل من اي
واحد منا . . . اذهلتنا جرأتها . . . صدمتنا . . . لو كانت شقراء الشعر زرقاء
العينين لكان الامر اختلف. لو انها ممن يرطنون في كلامهم . . . لو انها مولودة
في هذه الحضارة . . . لو انها من عائلة مفككة . . . لو انها تعيش بعيدة متمردة
على اوامر القبيلة . . . لو ان فيها شيئا من هذا لاختلف الامر
أما ان تكون سمراء الجلدة , عسلية العينين , لم تات الى استراليا
الا قبل سنوات لا تتعدى اصابع اليد الواحدة ومن قرية لا تبعد سوى بضع مئات من
الكيلومترات عن قريتنا, ففي الامر عجب . . . تذهب الى الجامعة, تعود في ساعة متاخرة . اختصاصها مما هو مقصور في
عرفنا على الذكور. لها زملاء يزورونها وتزورهم في بيوتهم . . . فهذا مدهش وغريب
! ! . . . . . . أعجب اخي الصغير بجدائلهاالكثيفة المضفورة الى الوراء وبّعلآقة المفاتيح الزئبقية
التى لا تفارق يدها . وكانت امي تطلق شهقات خافتة وهي تسمعها تناقش هؤلاء
الشبان ـ ابنها ورفاقه ـ وتتحمس لحقوق الشاذين جنسيا ولمسالة الموت الرحيم . .
. وكانت تعتريني دهشة وانا اراها تقارع هؤلاء الرجال. كل واحد يفصل منها ثلاثة
فيعلو صوتها اصواتهم دون ان تحس ازاءهم باي دونية. تصر على رأيها تحارب
لاثباته دون مواربة او مجاملة كاذبة .
وانتهت زيارتها ليبدأ شيء ما داخل حظيرتنا . بدأ منطق والدي يبدو
لامنطقيا. فأسواره التي قضى ثلاثين عاما في استراليا يحصنها ويعلي مداميكها
طاولها اهتزاز . . . صرت اتساءل عن سر خنوعي . . . اصبحت اكثر تبرما وتأففا.
لماذا لا اكون مثلها ! ! ها هي متألقة كزنبقة حقل. واثقة لا يجفلها زميل ولا
تقعدها الاقاويل. ما همها ما يدور في ذهن الاخرين عنها! خائضة في هذه المدنية
حتى الثمالة دون ان تخدش انيابها الشرسة سوى القشرة المهترئة من أصالتها.
وما
عادت الايام كسابقاتها. . .
قلت : اخرق
بروتوكولهم وارفض اصطحاب الجوقة الى الكنيسة هذا الاحد , فثارت ثائرته . . .
ورأيتني اكسر الشر واذهب , إلا ان ذهابي هذه المرة كان مختلفا . . .
أصّر اخي على عدم تناول الطعام الذي اعدته والدتي فعلا صراخه, وراح
يشتمنا جملة وتفصيلا, تهيب الصغير وسكت على مضض بعد ان وشوشت هي في اذنه شيئا
ما .
وتساءلت امي عن سبب قبوعها الدائم في البيت, فأرغى وازبد وكاد يصاب
بذبحة قلبية, فاستكانت ولكنها اصبحت بعدها دائمة التذمر والتشكي . . . لم تعد
ترتب غرفنا عن رضى بل صارت تطلب منا باصرار غاضب ان نقوم نحن بهذا العمل . . .
اصبحت تنهرنا إذا ما طلبنا منها كوب ماء او كوب عصير .
كف
"فيصل" عن الطلب اليّ أن أكوي له قمصانه وصار يحضر سندويتشاته بنفسه كل صباح.
. . فضرب والدي كفا بكف وقال بصوت فجيعائي ناحب : " . . . عين صابتنا "
سدني استراليا
أضيفت في25/05/2006/ خاص
القصة السورية / المصدر الكاتبة
اختطاف
بقلم :
نزار ب. الزين
بعد يوم حافل بالدراسة ونشاط التمثيل المنتسبة إليه، ودعت ( ويلما
) ذات الحادية عشر معلمتها وانصرفت مع زميلاتها متجهات إلى بوابة المدرسة في
انتظار ذويهن، كن ثماني فتيات، ثم أصبحت لوحدها بعد أن غادرت الواحدة إثر
الأخرى، وبينما كانت تنتظر قدوم والدها، كانت تتلهى بروعة التشكيل الغيمي
الذي ارتسم في عرض السماء وطولها ، بألوان مختلف درجات اللون الأحمر، في حين
تحول قرص الشمس إلى طبق أحمر قانٍ كبير الحجم كأنه كتلة من اللهب المتراقص على
حافة الأفق البعيد.
(ويلما) عاشقة للطبيعة و تتفاعل مع متغيراتها من جمال إلى جمال،
وهي إضافة لموهبتها في التمثيل فإنها موهوبة أيضا بالرسم، هذا بخلاف تقدمها
الدراسي المتواصل بدرجات لا تقل عن مستويي (آ. و ب.)؛ وعلى العموم فإن (ويلما) طفلة سعيدة وهي محور إهتمام أبويها وجديها.
(ويلما) تملك هاتفا جوالا كمعظم زميلاتها ، ضغطت على رقم والدها،
عاتبته برقة بسبب تأخره فقد بدأت خيوط الظلام تنسج ملاءتها وقد بدأت تشعر ببعض
الخوف ، فأجابها معتذرا ، أنه عالق في اختناق مروري بسبب حادث مروع ، وأكد لها
أنه حاول مرارا الإتصال بها قبل الآن دون جدوى ، ثم طلب منها أن تعود إلى
الداخل قرب غرفة رجل الأمن المعين لحراسة المدرسة في الحال ، فاستدارت ثم تحركت
نحو الداخل.
لم تكد تخطو خطوتين أو ثلاثا، إذا بسيارة تتوقف إلى جوارها وتكاد
تلتصق بها، نزل منها شابان، وبلمح البصر أمسكاها، كمم أحدهما فاها ، وانتزع
الآخر هاتفها الجوال من يدها فألقاه بعيدا ثم انتزع حقيبتها المدرسية من فوق
ظهرها بشراسة و ألقاها أرضا ، ثم تعاونا معا على جرها عنوة إلى سيارتهما، ثم
اختفت.
*****
عندما شاهد والدها كتب ابنته مبعثرة، أدرك أن في الأمر سوءاً...
هرع إلى غرفة رجل الأمن، الذي أخبر لفوره مركز النجدة ( 911 )، ولم يضيعا
الوقت فابتدءا معا بحثا في غرف المدرسة ودورات مياهها، بلا طائل.
في هذه الأثناء كانت عدة سيارات للشرطة قد وصلت إلى المدرسة... ثم
وصلت الوالدة ملهوفة... ثم وصل الجدان وكانا في أوج الإضطراب، ثم لحق بهم عدد من أفراد العائلة والأصدقاء.. بينما أخذ أفراد
الشرطة يقرعون أبواب البيوت المجاورة ، في محاولة لالتقاط أية معلومات ومنذ
صبيحة اليوم التالي ، نُشرت صورة (ويلما) المسكينة في الصحف المحلية مع رصد
جائزة كبرى لمن يدلي بأية معلومات قد تفيد بتتبع أثرها ، كما قامت محطات
الإذاعة المرئية والمسموعة بنفس الدور. كان الحزن والقلق والإضطراب والرعب
يخيم على جو العائلة – أما عيونهم التي لم تعرف طعم النوم والتي لم تجف دموعها
– كانت شاخصة نحو الهاتف في انتظار أي خبر متوقع أو غير متوقع. وقرب باب الدار
تجمع بعض الصحافيين ومراسلي التلفزة بعرباتهم وكمراتهم ، في انتظار أي خبر
جديد، أو في محاولة إجراء أية مقابلة مع أي من أفراد العائلة أو أي زائر من
زوارها المتكاثرين الذين أتوا مستطلعين مواسين. وتجمع حولهم الفضوليون، وهم
يتهامسون حول فاجعة أسرة ( ويلما ) المنكوبة. عندما قدم ( بيتر ) شقيق ( ويلما
) ، الذي يتمم تحصيله العالي في جامعة مدينة أخرى من مدن الولاية، وقد سمع
بالخبر عن طريق التلفزة، هُرع الوالدان لاستقباله وقد ارتفعت أصوات نحيبهم معا. ولكن.. لم تفلح بحوث الشرطة ولا نداءات الصحافة ولا الصور التي طبعت وتم
توزيعها في جميع أنحاء المدينة وضواحيها ثم مدن الولاية وضواحيها ، لم تفلح
جميعا بالعثور على ( ويلما ) التعيسة أوعلى أي أثر لها. تجلد الوالد وعاد إلى عمله بعد أسبوع.... استقالت الوالدة من عملها، وتسمرت بجوار الهاتف والتلفاز، في انتظار بارقة أمل. عاد الجدان إلى بيتهما حزينين. وعاد (بيتر) إلى جامعته دون أن
تفارقه صورة شقيقته. ثم تحولت (ويلما) إلى ذكرى مؤلمة ، كلما طفت تندلع نيران الحسرة
وينبثق ماء العيون مدراراً.
*****
بعد عشر سنوات أبت الإبتسامة أن تعود إلى شفاه أفراد العائلة، رغم
مرور السنوات العشر. ولكن بيتر الشاب، الذي كان قد تخرج مبرمجا ومنسقا في
مجال الحاسوب، والذي عثر على عمل مناسب فور تخرجه، وقع بحب زميلته في
الجامعة ثم زاملته في العمل.. تمكنت محبوبته من إبعاده جزئيا عن حزنه الكبير؛
ولكنه لم يتجرأ على البوح بحبه لوالديه، فقد ظن أنهما سيتهمانه بنسيان
شقيقته !. ثم قرر بيتر ومحبوبته أن يكللا حبهما برابطة الزواج .. ولكي لا يجرح
مشاعر والديه ، طار مع حبيبته إلى أكبرمدينة ميسر في العالم، وهناك تزوجا
بعيدا عن الأنظار . لم يرغب قط بتجريب حظه ورفض أن تطأ قدماه أيا من مائات
الكازينوهات المنتشرة في المدينة، بل اكتفى بمشاهدة المباني الفخمة وتأمل
النافورة الراقصة والتمتع بالعروض الفنية الشيقة. وفي مساء اليوم التالي
توجها إلى مركز المدينة القديمة، حيث يقام عرض ألكتروني مدهش في شارع مغطى
مخصص للمشاة. على جانبي الشارع توزعت الكازينوهات وكل منها يقدم المغريات
استدراجا للسواح المنتشرين، وفي وسط الشارع اقتعد الرسامون الأرض، يمارسون
فنونهم أمام جموع السواح المحتشدين حولهم، ثم لفت نظره ملهى كُتب على لافتته
المضيئة (عروض راقصات التعري)، ووقفت عند مدخله فتاتان جميلتان شبه عاريتين
تدعوان المارة للدخول إلى الملهى، بينما كانتا تقومان بحركات راقصة مغرية.
ابتسم ( بيتر) ثم همس بأذن عروسه ممازحا:
- دعيني أدخل وانتظريني هنا حتى أعود !
فعقصته من يده قائلة:
-إغمض عينيك، وإمشِ أمامي، وإلا سيكون عقابك قاسيا ! فضحك وضحكت، ثم تابعا سيرهما وقد تأبطت ساعده. إبتدأ العرض، توقفا، فالعرض شيق، إذ تحول سقف الشارع كله إلى
شاشة هائلة الحجم ثم ابتدأت المشاهد المذهلة تتتابع أمامهما.. ولكن حانت من بيتر إلتفاتة أخرى إلى الفتاتين، اللتين ما فتئتا -
بلا كلل أو ملل- تدعوان المارة لحضور العرض القادم الذي سيبتدئ بعد نصف ساعة ،
مستمرتين بحركاتهما الراقصة لإجتذاب السواح. لكزته عروسه قائلة :
- ما بك يا بيتر ؟ هل حقا تحب الدخول إلى ملهى راقصات التعري ؟
لم يجبها ... بل اقترب من الفتاتين أكثر وأكثر، غير مبالٍ بكلمات عروسه
المحتجة. ثم اقترب أكثر وأكثر وأكثر، ثم على حين غرة نادى :
- ( ويلما !!! )
التفتت إحدى الفتاتين نحوه مصعوقة ..
تقدم أكثر وأكثر وأكثر، أصبح الآن على بعد خطوتين منها ،
ثم كرر النداء ...
- ( ويلما !..)
فأجابته وهي تكاد تنهار:
- ( بيتر ؟ )
ثم اندفعا نحو بعضهما بعضا والتحما بعناق طويل.... تقدمت منهما زميلتها وأخذت تحضهما على المغادرة والفرار بأسرع ما
يمكن مغتنمين إزدحام الشارع بالمارة.
إلتفت ( بيتر ) نحو عروسه التي وقفت مشدوهة، وكان قد حدثها مرارا
بكارثة إختفاء شقيقته، فأدركت الموقف في الحال، فأمسكها بيسراه بينما ظل
ممسكا بشقيقته بيمناه ، واندفعوا جميعا ، نحو سيارتهم المستأجرة مهرولين.....
ومنها إلى أقرب مركز للشرطة...
أضيفت في25/05/2006/ خاص
القصة السورية / المصدر الكاتب
|