سحر القصة والحكاية
البحث عن النسغ الصاعد في نصوص حكائية ونصوص قصصية للأطفال
بقلم الكاتب:
محسن ناصر الكناني*
تمهيد
يلوح لي، أن التوغل في نقد قصة للأطفال، يكتبها قاص عراقي أو عربي
أو عالمي، تثير عدة إشكالات وحواجز. أولى الإشكالات: هي افتقادنا لتقاليد
منهجية نقدية، بالرغم من تجربتنا الطويلة في كتابة قصة الأطفال –أي منذ
ظهور مجلتي والمزمار في العام 1969..
وبالرغم من الدراسات النفسية والثقافية التي تنحو منحىً تربوياً،
فإن النقد يظل بعيداً عن القصة، والأنماط الإبداعية الأخرى المتصلّة
بالأطفال.
إذن كيف يستطيع الناقد أن يتوغل في دراسة نص أدبي للأطفال، دون أن
يمتلك تراثاً في نقد أدب الأطفال؟ إنه بلا شك يعتمد على تذوقه الخاص،
ويحاول أن يؤسس لنفسه أسلوباً تجريبياً في التحليل والنقد، رغم ما يعترضه
من مطبّات.
والمقالات التي كتبتها في هذا الكتاب هي نتاج قراءة في نصوص موجّهة
للأطفال، عراقية وعربية وعالمية، كما يجد القارئ نصوص حكايات لها جذر عراقي
قديم، أولها جذر في عيون التراث العربي: ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة،
انتقلت هذه الحكايات إلى أوربا، وتأثر بها كتابها، مثل حكاية (الأرنب
والسلحفاة) وحكاية (الأسد والبعوضة) وحكاية (خطأ البطة). وكلها حكايات
عربية أصيلة.
حاولت عند قراءتي، أن أبيّن أوجه التماثل والتطابق والإبداع في
الحكاية، مبيّناً الأثر الذي تركته الحكاية الأصل في الكتابات الحكائية
الأخرى، وكيف حولّت إلى نص جديد موجّه للأطفال.
يعني إننا نستطيع أن نحوّل حكايات أدبنا العربي، إلى قصص موجّهة
للأطفال تظل محتفظة بقوتها، وديمومتها وسحرها، وهذا مرتبط بالمبدع الذي
يستطيع أن يضع أصبعه على النسغ الصاعد بين الحكاية والقصة، ويكتب نصاً
جديداً يحتفظ بسحرهما معاً.
قصة الأطفال: التوصيل والتلّقي
لاشك أن الكتابة إلى الأطفال ليست عملية سهلة أبداً. فما أن يبادر
الكاتب في عمله، حتى يصطدم بالصعوبة الكبيرة: السهل الممتنع، حسب رأي
النقاد.
وقد ظلّ الكتّاب يتهيبّون من خوض التجربة زمناً طويلاً، حتى استطاع
نفرٌ منهم، أن يخوضوها بصبر وجلد، واعتماد شديد على النفس، إن النصوص
الأولى قد رفضها الجيل السابق، ثم قبلها بعد حين، بعد أن وجد فيها أصالة
وثراء، وتوضّحت هويتها، فانتشرت في أوربا، بعد إهمال.
إن الدانماركي هانز إندرسن، ظلّ مهملاً في بلده، زمناً طويلاً، حتى
صنع لنفسه مجداً لا يوازيه مجد. فقد دخل التاريخ الأدبي من باب قلوب
الصغار، حتى عُدَّت (عروسة البحر الصغيرة) أسطورة تتربّع على قلوب الصغار
والكبار..
***
صعوبة الكتابة للأطفال تتأتى حسب رأي علماء النفس والتربية، من أن
الفترات الأولى من حياة الطفل صعبة؛ إذ ليس من السهولة فهم دوافع الطفل أو
سلوكه، أو حصر مدركاته، وتوجهاته. إلاّ أن الكبار قد وضعوا محطات لمساعدة
الصغار، ومن هذه المحطات: الأفلام، الرسوم، ألعاب الدمى، والكارتون.
غاية هذه المحطات تنمية مقدرة الطفل الفكرية، وتوسيع دائرة خياله،
ومجسّاته. وقد وجد العلماء أن الأطفال يقبلون على مشاهدة السينما، وأفلام
الدمى والكارتون بشكل مذهل في سنوات أعمارهم الأولى. وتأتي المحطة الثانية:
القصة التي تشكّل أساساً لهم، إن السنوات الأولى ما قبل المدرسة تشكّل
خزيناً يمهّد الطريق لفن القصة، واستيعابها، وفهمها، وقراءتها.
نخلص إلى القول: إن قصة الأطفال ليست أدباً فرعياً من أدب الكبار أو
فعالية هامشية، أو أدب من الدرجة الثانية، كما يتوهم البعض، بل ثقافة
أساسية تخصّ الأطفال ككيان مستقل له مداركه، ومراحل نموه، وميوله، وثقافته،
وهو مكمن الصعوبة في أدب الأطفال.
العلاقة بين القصة والحكاية في أدب الأطفال:
ثمة فرق جوهري بين القصة والحكاية. القصة تتوجه بالدرجة الأولى إلى
الطفل، وتأخذ بنظر الاعتبار مراحل نموه، وميوله ومداركه، ولها قوانين بناء
خاصة: (حدث، شخصية، حبكة، لغة توصيل، نهاية) بينما نرى الحكاية تمتلك هي
الأخرى قوانين خاصة (حدث منطقي أو غير منطقي التطور، شخصية أو عدة شخصيات
ليست لهم ملامح معينة /زمان مطلق/ مكان غير محدّد غير مشخّص/ الشخصية
تحكمها قوى خارجية قدرية وليست هي ناتج فعلها أو تحركها الأحداث أو تتفاعل
معها، صحيح، قد تتوفر على قدر من البساطة، والشاعرية، والحكي أو القص
التقليدي، إلاّ أنها تختلف بنائياً عن فن القصة.
وصحيح أن التجارب الأولى من القصة الأوربية قد اعتمدت على الحكاية:
بساطتها، تسلسل حدثها، خيالها، عوالمها المدهشة، إلاّ أن قصة الأطفال
استطاعت أن تقف على قدميها، وتدخل الساحة بأسماء مبدعة، وتثبّت شخصيتها
وهويتها، فظهر هانز إندرسن الدانماركي، وتولستوي الروسي، وتشارلس ديكنز
الإنكليزي، وجول فيرن الفرنسي، وآخرون.
التوصيل والتلقّي: ما هي الأساليب الجديدة التي تتوسل بها للوصول
إلى قلب القارئ وعقله.
بكلمة أخرى: كيف نحبَبّ القراءة إلى الأطفال وبأي الأساليب الجديدة
المناسبة، هذا هو السؤال الجوهري الذي يبحث عنه القاص المبدع، وهل بقيت
أساليب غير مطروقة؟ الجواب كله عند الكاتب، فهو وحده القادر على فتح نوافذ
جديدة نحو القارئ الصغير، وتحبيب القراءة إليه، واختيار الأساليب التعبيرية
الجديدة المناسبة، إن الأساليب الجديدة زائداً للأفكار الهادفة عملاً
إبداعياً تساوي عمل إبداعي ناجح.
القاص الأمين على إبداعه، يعرف كيف يدفع القارئ الصغير إلى نصه،
وكلما كان البيت طبيعياً معافى، يمنح الطفل الدفء والحنان، فسوف يمنحه جواز
المرور إلى فن القصة بشكل طبيعي ويساعد المبدع كاتب القصة أن يحوّله من
تلميذ بيتي إلى تلميذ مدرسي ناجح إنْ صحَّ التعبير.
إن فترة ما قبل المدرسة، ستحدد مستقبله، فهي فترة خصبة، وخزين معرفي
لا ينضب، تطبع شخصية الطفل وتحدّدها في المستقبل وهي بلا شك ستحُفز الصغير
إلى اجتياز عالمه بنجاح، وتُتيح الفرصة له. أن ينميّ مدركاته، ومجسّاته،
دون أن يشعر بالنقص والارتباك، وسيجد الحياة مفتوحة أمامه.
إن فن القصة لقادر حقاً على بناء شخصية الطفل نفسياً وثقافياً،
وتوسيع خياله باتجاه آفاقٍ رحبة.
أدب الأطـفال:
مدخــل نــظري
أدب الأطفال لون إبداعي موجّه إلى الطفل، يأخذ بنظر الاعتبار خصائص
الطفولة ومراحلها، وميول الأطفال، وأحاسيسهم وانفعالاتهم، وأدب الأطفال جزء
من ثقافة الأطفال التي هي بلا شك ثقافية أساسية، وليست ثقافية فرعية من
ثقافة الكبار.
أسباب تأخر أدب الأطفال في الظهور:
ظهر هذا اللون الإبداعي عندنا متأخراً لأسباب موضوعية كثيرة.
أهمها:
1- إن هذا اللون، يحتاج إلى استقرار سياسي واجتماعي، بينما نلاحظ أن
المرحلة السابقة قد اتسمت بصراع ضد الاستعمار، وضد الأنظمة الدكتاتورية،
مما جعل الأديب في قطرنا، يعزف عن الكتابة ويكرّس جل اهتماماته في النضال
السياسي، وفي ممارسة أنماط كتابية أخرى تخص الكبار. فبرزت في تلك الفترة:
المقالة السياسية والقصيدة التحريضية، والقصة الانتقادية، وحتى لو التفت
يوماً إلى الكتابة إلى الأطفال، فإنه يكتب تحت سيف الإرهاب وعدم الاستقرار.
2- إن أدب الأطفال، يراعي كما قلنا خصائص الطفولة ومراحلها، وميول
الأطفال، والتعامل معهم على أساس شخوصهم المستقلة عن الكبار، في حين أن
الكاتب لم يمتلك قدراً من الإطلاع على كشوفات علم النفس، ولم يدرس الطفولة
ومراحلها وميول الأطفال، ومداركهم، لهذا السبب جاءت الكتابات الأولى في
العشرينات والثلاثينات؛ كتابات تقليدية، تعليمية جافة تتسم بروح التربية
القديمة، ونظرتها القاصرة إلى الأطفال.
وثمة أسباب ثانوية منها: أن الكاتب عندنا تهيمن عليه نظرة قاصرة، إذ
ينظر إلى أدب الأطفال نظرة ثانوية، ويعتبر الخوض فيه منقصة له!
أدب الأطفال ما قبل صدور (مجلتي والمزمار):
لقد وجدنا أنفسنا محاطين بكتابات تملأ السوق الأدبي، وتتغذّى على
الأفكار السلبية، منطلقة من روح فردية، واتكالية، ومثالية. ويمكن أن نعتبر
مجلات (سوبرمان) و (الوطواط) و (لولو) من النماذج السيئة التي حفلت بها
مكتباتنا. وقد لعبت السوق التجارية دورها في إشاعة هذا اللون السيء، وانعكس
تأثيره على أطفالنا بشكل مباشر. و يمكن أن نشير هنا إلى أن الكتّاب
العراقيين كانوا يعتمدون على ثقافتهم الخاصة، وعلى قراءاتهم في أدب الأطفال
المصري وبالذات كتابات كامل كيلاني. وبتقديري إن كتّاباً مثل: رشدية
الحلبي، وأحمد عبد الباقي، وأحمد محمد الشحاذ، وسعدي لغتة يمثلون الجيل
الأول الذين خرجوا من معطف (الكيلاني) إلى الحياة الثقافية، وهو جيل عصامي،
مجتهد، قدم ما عنده بإخلاص.
ويمكن أن نشير هنا، إلى نوع جيد كان يصلنا عبر المترجمات عن الأدب
الاشتراكي، ولكنه كان نوعاً محاصراً لكمّ رهيب من الإصدارات السيئة، رغم
تجاوبه معنا، إذ كان يؤكد على القيم الإنسانية الهادفة، احترام العمل،
والحرية.
هل كان لنا تراث في أدب الأطفال؟.
يجمع المهتمون في أدب الأطفال، أن تراثنا العربي، يكاد يخلو من أدب
موجه إلى الأطفال.. ويفرّق هؤلاء المهتمون بين أدب موجه للأطفال، وبين أدب
يصوّر حياة الطفولة.
جلّ ماوصلنا: كتابات للكبار، صيغت بأسلوب يقترب من نفسية الصغار.
ونستطيع أن نقرب مثلاً بالسير الشعبية المتداولة، كسيرة عنترة بن شداد،
والزير سالم، والحكايات الشعبية المبثوثة في (ألف ليلة وليلة) و(كليلة
ودمنة) والحكايات الشعبية الشفاهية. ويتسم هذا التراث الحي بأسلوب الحكاية
والسرد والتحدث على ألسنة الحيونات. إن هذا الفيض من الحكايات لم يكن
موجهاً إلى الأطفال، بل هو أدب عام موجه للكبار أصلاً، صيغ بأسلوب شعبي
مبسّط، وقد استفاد منه كتابنا في فترة ماقبل صدور (مجلتي والمزمار) والفترة
اللاحقة.
الفترة اللاحقة: (بعد صدور مجلتي والمزمار)
بدأت هذه الفترة بعد ظهور مجلتي والمزمار في العام 1969. وهي فترة
متميزة، وجديدة، شكلّت بداية نوعية في الإبداع الشعري والقصصي والمسرحي.
وقد بنيتْ على أكتاف رهط مثقف من الشباب، الذين وثبوا إلى الميدان بعدّة
فنية ناضجة. وإذ ندخل السبعينيات تكون أمامنا مجموعة متألقة من الشعراء
والقصاصين والمسرحيين والكتّاب والرسامين: عبد الرزاق المطلبي، فاروق سلوم،
فاروق يوسف، عزي الوهاب، قاسم محمد، محمد شمس، جعفر صادق محمد، طلال حسن،
حسن موسى، محسن ناصر الكناني، حسن زبون، حميد ناصر، ناجح المعموري، خضير
عبد الأمير، عبد الستار ناصر، فهد الأسدي، سعيد جبار فرحان. خالد يوسف، عبد
الرزاق عبد الواحد، نبيل ياسين، بيان صفدي، عبد الإله رؤوف؛ ممن ساهموا في
الصحافة، وفي فنون الإيصال الأخرى.
إن هذا الرهط الشاب، جاء متزامناً مع تحولات ثقافية كبيرة، وشهد
الميدان الثقافي، عودة إلى التيار الواقعي، ورفض نزوات التجريب التي كانت
سائدة في الستينيات. إن إنجازات هذا التيار لايمكن التشكيك بها، أو التقليل
من أهميتها. فهو تيّار أصيل مجاهد اعتمد على نفسه وجدارته. وقد أفرزت
الفترة مابعد صدور مجلتي والمزمار العديد من المجموعات الشعرية والقصصية
والمسرحية التي تمتلك شروطها الإبداعية الناجحة.
إن تجربة أدب الأطفال في قطرنا، تستأهل دراسات تُخضعها إلى النقد
والدراسة. وبالرغم من الدراسات الأكاديمية الممتازة التي ظهرت أخيراً، فإن
أدب الأطفال يبقى أرضاً بكراً لم تطأه يد النقد بعد..
الاقتراب من نص معاصر للأطفال
(الصغار يضحكون) لزكريا تامر
النص: (الصغار يضحكون)*
شاهد الملك يوماً عدداً من الأولاد يلعبون في أحد الحقول، ويضحكون
بمرح فسألهم: لماذا تضحكون؟ قال أحد الأولاد: أنا أضحك لأن السماء زرقاء،
وقال ولد ثان: وأنا أضحك لأن العصافير تطير. وقال ولد ثالث: أنا أضحك لأن
الأشجار خضراء.
فنظر الملك إلى السماء والعصافير والأشجار، فألفاها لا تضحك، فاقتنع
بأن ضحكات الأولاد لاهدف لها سوى الهزء بهيبته الملكية. فعاد إلى قصره
وأصدر أمراً بمنع أهل مملكته من الضحك فأطاع الناس الكبار السن الأمر وكفوا
عن الضحك غير أن الأولاد الصغار لم يبالوا بأمر الملك وظلوا يضحكون لأن
الأشجار خضراء والسماء زرقاء والعصافير تطير.
إضاءة النص: قصة (الصغار يضحكون) قصة قصيرة جداً بحدود مائة كلمة،
مرتبطة كلماتها، ومركّزة أشد التركيز، وتثير قيمة معرفية، أو مغزى معيناً.
اعتمدت القصة على حدث بسيط جداً، وبنت بيتها عليه. هذا الحدث يبدو بديهياً.
فالأشجار الخضراء، والسماء الزرقاء، والعصافير التي تطير بديهيات. أما
الملك فقد اعتبر لهوهم من قبيل الهزء بهيبته الملكية. لذا فإنه عندما عمد
إلى منع أهل مملكته من الضحك، فإن الكبار هم أول الطائعين، أما الصغار فلم
يبالوا لأن البديهيات قائمة: الأشجار خضراء والعصافير تطير والسماء زرقاء!
***
عندما يقرأ الصغار النص فإنهم يضحكون، يضحكون من الملك الصلف
المتجهم. أما عندما يقرأ الكبار النص، فإن (السخرية) ترتسم أمامهم،
والسخرية من الملك بداية الثورة عليه.
وقد استغل القاص (البديهيات) كسلاح للصغار في ردهم الطبيعي. وقد
تحوّل الملك إلى صغير أمامهم، لأنه لم يفهم البديهيات، لكنه بقي كبيراً
أمام الكبار، يُخْرسهم، ويُسكتهم أمام أمره الغبي: إنه أمر الملك المُطاع.
إن النص قد ثبّت (الضحك) كقيمة كبيرة. فهو ضرورة من ضرورات الحياة،
ووجه من وجوه الحرية، وثمة قيم أخرى يمكن أن تُسْتَشف من القراءة وهي:
التفاؤل بمواجهة التشاؤم. الذكاء بمواجهة الغباء الحياة أمام الموت، الحرية
أمام الظلم.
**
والنص يخاطب أيضاً، لأنه يتوفر على ضربة كبيرة في نهايته بدت مثل
قنبلة موقوتة في عقل وضمير القارئ الكبير، استطاعت أن تضيء عقله، وتزيد من
فطنته وذكائه ويقظته، وتفتح من أفقه، وقد أراد القاص زكريا تامر، أن يوصل
أفكاره إلى القارئ الكبير، ويقرّب الهوة التي تفصل بين الصغار والكبار.
ويذيب الثلج المتراكم بينهما، وهي مهمة صعبة دون شك.
تولستوي يقرأ كليلة
ودمنة
تولستوي روائي معروف عالمياً، باعتباره علماً من أعلام الرواية
العالمية، فهو صاحب الروايات الروائع: الحرب والسلام، وآنا كرنينا وغيرهما
كثير، هنا لانبحث عن الوجه المعروف للروائي (1828-1910) بقدر ما تنبه
القارئ إلى وجهه الآخر: وجه تولستوي كاتب الأطفال.
**
كتب تولستوي خلال حياته الأدبية عدداً لايستهان به من القصص القصيرة
للأطفال والأحداث، عُدّت من عيون الأدب العالمي، وهذا يعكس اهتمام الكتاب
العظام بالأطفال، في حين يعتبر الآخرون؛ الخوض في هذا الأدب منقصة لهم تؤثر
في مستواهم الإبداعي أو تقلّل من منزلتهم الأدبية.
إن اهتمام تولستوي بالأطفال، يرجع إلى طفولته الفلاحية، وإحساسه
المرهف بثقل الإقطاعية كنظام اجتماعي متخلف، بالرغم من أن والده كان مالك
ثروة، وأراض زراعية، وفلاحين أيضاً!
كتب تولستوي أقاصيصه في أواخر القرن التاسع عشر، وبالذات في فترة
ظهور أدب الأطفال الأوربي الذي كان يمر آنذاك بفترة التجريب. ويمكن اعتبار
(قصص للأطفال من تولستوي) من المجموعات الفريدة التي صدرت في بحر السنوات
الأخيرة، وقام بالترجمة الروائي العراقي الراحل غائب طعمة فرمان. كما يمكن
اعتبار مجموعة (البطة والقمر) التي صدرت عن دار ثقافة الأطفال العراقية من
المجموعات الفريدة أيضاً، وقد قام بالترجمة الأديب كامل يوسف حسين.
لا أستطيع أن أتوغل بعيداً في تحليل قصصه ضمن المجموعتين لأنهما
تستأهلان دراسة تحليلية وافية، إلاّ إن هذا لايمنع من التأشير على الملامح
الأساسية لفن تولستوي، ثم دراسة أنموذج تطبيقي للكشف عن تأثر بيّن وواضح
بالأدب العربي، وبالتخصيص في (كليلة ودمنة).
ملامح عامة: أولى هذه الملامح: هو أن القصص موجهّة للصغار والكبار
(الأحداث). يعني أن قصة الأطفال ترتكز على حدث بسيط غير متشعب، ومرسوم من
الخارج بعناية، ويطغى عليه الوصف. يعني أن القاص معني بالمشهد العام
وتفاصيله..
ثاني هذه الملامح: هو الجو الرومانسي الذي يخلقه تولستوي في عوالم
قصصه البريئة. إلاّ أن القارئ يلاحظ بذوراً لوعي جنيني دفّاق، يتحكم بهذه
العوالم. ويكشف أن الشخوص الذين رسمهم الكاتب بعناية ليسوا بعيدين عن
همومهم الاجتماعية أو فاقدين لوعيهم الطبقي بل ينسجمون مع القارئ ويحملون
همومه. وباعتقادي إن هذا راجع إلى تأثر تولستوي بعالم رواياته الاجتماعية،
وتأثره بالمدرسة الرومانسية التي تلف بمعطفها الآثار الأدبية في تلك
الفترة.
ثالث هذه الملامح: هو اعتماد تولستوي في أغلب قصصه على الحكايات
الشعبية السائدة في تلك الفترة، فهو لم يكتف بنقل الحكاية فقط بل وظّف
روحها الدرامي كعنصر من عناصر تطور قصته الجديدة، أي أن الحكاية بدت غير
مقحمة، بل هي جزء من العمل الفني والبناء العام.
رابع هذه الملامح: هو لغة تولستوي الصافية المركّزة المتألقة ذات
المسحة الشفافة الحزينة الشاعرة التي تأخذك بسحرها إلى مكامن الإبداع. وحين
تلج معه عالمه يصعب عليك التخلص والانقلاب ثانية.
نموذج تطبيقي: لا أريد مقدماً أن أقرّر، بل أستفهم إلى أي حد،
استطاع تولستوي، أن يستفيد من (كليلة ودمنة).
وأنا أقرأ في كليلة ودمنة حكاية عن (خطأ البطة) ص124 وجدت مايشابهها
روحاً وعالماً واحداً في قصة من قصص تولستوي عنوانها البطة والقمر ضمن
إصدارات دار ثقافة الأطفال العراقية وبالعنوان نفسه من ترجمة كامل يوسف
حسين. سأحاول أن أعرض النصين للمناقشة كما ورد في المصدرين:
1-نص كليلة ودمنة ص124 بعنوان: (خطأ البطة)
(إنها رأت في الماء، ضوء كوكب فظنته سمكة، فحاولت أن تصيدها، فلما
جرّبت ذلك مراراً علمت أنه ليس بشيء يُصاد فتركته ولم تطلب صيدها).
2-نص تولستوي بعنوان (البطة والقمر) من مجموعة قصصية بالعنوان نفسه من ترجمة كامل يوسف حسين، إصدار دار
ثقافة الأطفال العراقية.
(كانت بطة تسبح يوماً في النهر، باحثة عن السمك، وانقضى اليوم
بأسره، دون أن تعثر على سمكة واحدة، حينما أقبل الليل شاهدت البطة القمر
منعكساً على سطح الماء، واعتقدت أنه سمكة، فغطست في الماء لتمسك به، ورأتها
البطات الأخريات، فاندفعن ضاحكات منها. ومنذ ذلك اليوم، غرقت البطة في
الخجل، إلى حد أنها عندما ترى سمكة تحت الماء لا تحاول الإمساك بها. ولم
يمضِ وقت طويل حتى ماتت جوعاً).
مقاربة النصين:
لأجل أن ندرس النصين، ونقارن بينهما يجب الاعتراف بالحقائق التالية:
1 ـ النص الأول الذي ورد في كليلة ودمنة يقع في باب الحكاية الشعبية التي كانت سائدة في تلك الفترة، وهي
نمط أدبي مكتوب بلسان الحيوانات، وقد أكد هذا الشيء الدكتور داود سلوم، عند
دراسته لقصص الحيوان في كتابه (قصص الحيوان في الأدب، العراقي القديم). أما
النص الثاني الذي كتبه تولستوي، فهو ينتمي إلى نمط (قصة الأطفال)، وهو نمط
فني، غير الحكاية، وإن كان يستند على عناصرها. وقد ظهر هذا النمط في القرن
التاسع عشر في أوربا، ولعل في مقدمتهم هانز اندرسن الدانماركي، وتشارلز
ديكنز البريطاني، وتولستوي الروسي.
2 ـ بعد أن قررنا إن النص الأول: حكاية، والنص الثاني: قصة، فمن الطبيعي أن يستند الكاتب على
الحكاية، ويطوّرها، أو يضيف عليها، أو يحذف منها. من القراءة الثانية،
نلاحظ، أن الكاتب قد حافظ على روح الحكاية الشعبية الأصل، وأضاف إليها
إضافات نوعية، لأجل أن يظهرها بثوب جديد، أضاف إليها عناصر قصصية جديدة.
وهذا جدول يحاول أن يستقصي عناصر العملين..
1 ـ الحكاية : (خطأ البطة):
الموضوع: بطة تبحث عن السمك.
المكان : الماء.
الزمان : ضوء كوكب (في الليل).
الشخصيات: البطة/ السمكة.
الحوار: معدوم.
الحدث : حركة البطة فقط: (البحث عن السمك).
عالم الحكاية: بطة + ماء + ضوء كوكب + فشل في الصيد.
2 ـ القصة: (البطة والقمر).
الموضوع: بطة تبحث عن السمك.
المكان : الماء (النهر).
الزمان: ضوء القمر (في الليل).
الحوار: معدوم.
الشخصيات: البطة/ السمكة/ البطات.
الحدث :حركة البطة في النهر+ ضحكات البطات+ موت البطة.
عالم القصة: بطة + ماء + القمر + ضحكات البطات + موت البطة.
يتضح من الجدول، إن روح الحكاية الأولى كانت واضحة في الثانية، لكن
الكاتب لم يبق الحكاية على حالها، بل حولها من مشهد عادي أو لقطة، إلى قصة
كاملة، بأن أضاف إليها أحداثاً جديدة صعّدت من دراما الحدث وهو (ضحكات
البطات الآخريات)، وجعلتها ـ أي البطة ـ تفقد ثقتها بنفسها، وفي قدرتها على
الصيد، فتموت جوعاً، وهي ذروة القصة.
***
إن تولستوي في قصته هذه، قد نقح في روح الحكاية، الأولى وحافظ على
قوتها؛ قوة المخيلة الشعبية، وأصالتها، وعناصر بنائها، وأزال الشوائب عن
جسد الحكاية، وحولّها إلى نمط إبداعي جديد، يمتلك مقوّماته، وعناصر بنائه
الداخلي اسمه قصة الأطفال.
وبتقديري أن تولستوي، يمتلك رؤية جديدة تلتقي مع رؤية الشاعر
الأمريكي أونترماير في كتابه أو إعادة كتابة الحكاية حينما يقول: في سردي
لها تخيلَّت بعض الأحداث وزودته بشيء من التفاصيل، لتساغ قراءتها، مضيفاً
إليها بعض الحوار، إلاّ أن أصولها على أية حال لم تتغير، لأنها تملك قوة
استمرارها وحفاظها على حيويتها، ولهذا تبقى دائماً جديدة).
هذه الكلمات المركّزة، المقتصدة، تلخّص رؤية الشاعر أونترماير في
كتابة الحكاية بأسلوب جديد، وتلتقي مع رؤية تولستوي، بالرغم من أنّ بينهما
قرن من الزمان .
التماثل والتطابق
والإبداع
في (الأرنب والسلحفاة).
الحكاية الشعبية من أكثر الأنواع الأدبية الشعبية شيوعاً؛ وذيوعاً
وهيمنة، وتأثيراً على الناس، ويجمع مؤرخو الأدب، على أن قصص الحيوان التي
تحدّثت على ألسنة الحيوانات، تعتبر النواة الحقيقية للحكاية، والإنسان الذي
عاش في الغابة، وفي الكهوف، قبل أن يستقر في التجمعات السكانية، الأولى، قد
أثرّت عليه حياة الغابة المعقّدة، الضاجّة، فخلق أول الرسوم، وأولى
الحكايات.
وقصص الحيوان، كنمط أدبي نما وترعرع منذ فجر الإنسان الأول وتناقلته
الألسن، وسافر عبر الذاكرة البشرية من جيل إلى جيل، وما زلنا نحتفظ في
ذاكرتنا بكنوز الحكايات الأولى.
**
ولقد آثر الأستاذ الراحل جبرا إبراهيم جبرا، أن يترجم (55) نصاً
حكائياً، من حكايات الشاعر الفرنسي لافونتين (1621 ـ 1995)، ويقدم لها
بمقدمة ضافية، تعرّف بالشاعر وإنجازاته. وقد اعتمدت ترجمة الأستاذ جبرا
على الحكايات التي تأثر بها الشاعر لافونتين بأيسوب: الحكيم اليوناني الذي
جمعت حكاياته في القرن الرابع قبل الميلاد، وهي الفترة التي ازدهرت فيها
الحكايات البابلية، ويجمع نقاد الأدب ومؤرخوه؛ على أن العديد من حكايات
أيسوب كان مصدرها في الواقع التراكم المعرفي البابلي نفسه1-.
يعني أن الأدب البابلي القديم كان المصدر الأساسي الذي بنى عليه
أيسوب حكاياته، وجاء لافونتين ليعتمد عليه، فكتبها، أو أعاد كتابتها برؤية
جديدة، بعد أن اطلّع على ترجمة كليلة ودمنة لعام 1664، 2-. لذلك بقيت قصة
الحيوان تسافر على مر الأجيال، قبل أن تستقر في أرض بابل صانعة أولى
الحكايات، وقد عثر الآثاريون العراقيون على نصوص مهمة، تفيد الدارسين3-.
السؤال الذي يحضرني وأنا أقرأ حكاية (الأرنب والسلحفاة). لـ(لافونتين)
هو إلى أي حد استفاد من أيسوب؟ وإلى أي حد استفاد أيسوب من الحكاية الأصل
في بابل. وعندما يأتي قاص أوروبي معاصر وآخر عراقي، ليكتب (الأرنب
والسلحفاة)، فماذا يتبّقى من الحكاية بعد أن أخذوها مكتوبة أو
مروّية؟4-.
في البداية أود أن أقولك إن من حق أيسوب أن ينقل ويدوّن (الأرنب
والسلحفاة)، ومن حق لافونتين أن يتأثر ويكتب (الأرنب والسلحفاة)، مرة
ثانية. ومن حق سرغي مارودين الأوروبي المعاصر أن يُعيد إنتاج الحكاية
ثانية، ويأتي القاص العراقي، ليعيد الاعتبار لحكايته، ويمجد ّبها القصّاص
الشعبي البابلي المجهول.
يعني أن الجميع قد انكبوا، كلٌ حسب روايته على تطوير الحكاية
الشعبية الأصلية، وبعث الدم في عروقها.
لابد إذن من عرض الحكايات، لنستكمل لذة القراءة، ونحتكم إليه في
أوجه التماثل والتطابق.
التماثل والتطابق:
الشخصيات في (الأرنب والسلحفاة) هي الأرنب والسلحفاة في جميع القصص.
والنعام (بدلاً من الأرنب لدى سرغي بارودين)، (والدبة في قصة طلال
حسن)، يعني أن (الأرنب والسلحفاة)، شخصيتان رئيسيتان، مضافاً إليها الدبة
والنعامة كشخصيتين رئيسيتين أيضاً.
أما الفكرة الرئيسية في النصوص كلها هي أن يتفق الأرنب والسلحفاة
على السباق. ويبدو الأرنب مستهزئاً، ساخراً من السلحفاة. أما السلحفاة فهي
تبدو بطيئة، لكنها واثقة من نفسها، حريصة على بلوغ الهدف.
قدم لافونتين فكرة الحكاية منذ البداية: (لا فائدة من الركض إن لم
نُبكر في الشروع)، في حين وضع (سرغي بارودين)، الفكرة في النهاية: (استعمل
عقلك ـ الحيلة ـ في بلوغ الهدف، بعد اتفاق مسبق مع السلاحف، أما القاص
العراقي طلال حسن فقد ركّز على سباق الأرنب على أساس الروح الرياضية التي
تتمتع بها السلحفاة، يعني أن الكاتب كان معتمداً على التصميم زائداً الروح
الرياضية اللتين تتمتع بهما السلحفاة.
أما الحوار فقد كان بين الأرنب والسلحفاة عند لافونتين. وبين النعام
بدلاً من الأرنب والسلحفاة. عند سرغي بارودين. أما عند طلال حسن فقد كان
بين السلحفاة والعمة دبة (بدلاً من الأرنب). الحوار في النصوص كلها يسيطر
على متن النصوص، وتنتهي به النصوص.
حوار السلحفاة مركز يرتبط ببطء السلحفاة، وذكائها، ويكشف عن ثقة
عالية بالنفس، أما حوار الأرنب، فيبدو ثرثاراً، مترهلاً، مسهباً، متسرعاً،
يكشف عن سرعة في الأحكام، وخلخلة في الشخصية.
مناخ الحكايات:
يتماثل مناخ الشخوص في جميع الحكايات. فعند لافونتين تجري أحداث
الحكاية بين الأعشاب، وعند (بارودين) في طرف الصحراء. وعند طلال حسن عند
الشاطئ الرملي. في النصوص كلها تفوز السلحفاة على الأرنب، ماعدا نص طلال
حسن إذ (يتهيأ الطرفان للمباراة في الصباح الباكر، لكننا نعثر على ـ لسان
الدبةـ مايشير إلى أنّ ثمة سباقاً كان قد حدث في الزمن الماضي بين (جدة
السلحفاة)، و(جد الأرنب)، وأسفر عن فوز السلحفاة!…
ثيمات أخرى متناثرة:
1
ـ السلحفاة تحمل بيتاً على ظهرها: تظهر هذه الثيمة في نهاية حكاية أيسوب للتأكيد على ثقل السلحفاة من
جهة، وتحملّها الأعباء من جهة ثانية، وتجيء لإظهار التضاد بين الخفة
والعقل، وتظهر هذه الثيمة على لسان الدبة في قصة طلال حسن: (.. فأنت تحملين
بيتك على ظهرك)، إن هذا الحوار يكشف عن تحمل المسؤولية من لدن السلحفاة، في
حين يفتقد الأرنب مثل هذه الصفة، وكم تظهر هذه الثيمة في قصة (بارودين).
2 ـ إن عمرها ضعف عمري: تظهر هذه الثيمة في نهاية قصة بارودين، بعد انتصار السلحفاة على
الأرنب، يعني أن السلحفاة قد احتالت مع أمها في الإيقاع بالأرنب. وظهرت هذه
الثيمة عند (طلال حسن) في حوار العمة دبة: (إنه يهزأ منك بالرغم من أن جدتك
سبقت جده) ليرمز بالحوار إلى (وجود سباق ماض كان قد حدث، وانتصرت فيه
السلحفاة: الجدة على الأرنب: الجد. ولم يظهر هذا الحوار في (الأرنب
والسلحفاة)، لـ (لافونتين).
الإبداع في (الأرنب والسلحفاة):
(الأرنب والسلحفاة) هذا النص البابلي، استطاع أن يصمد أمام الزمن،
لقد تأثر به أيسوب في خرافاته، وتأثر به لافونتين أيضاً، ثم يأتي قاصان
ماهران، ليبعثا به الروح أو بالأحرى ليمسكا بالحبل السري للنص. لكن أين
الإبداع؟
ـ في النصوص كلها إبداع ـ إبداع في المحافظة على جوهر الحكاية،
والمحافظة على حيويتها؛ وقوة الأصالة، والديمومة المتوفرة مضافاً إليها سحر
جديد يضيفه المبدع نفسه من أحداث، وخيال، ولمسات، والألوان، ورهافة
وشاعرية.
نص (الأرنب والسلحفاة) يمتلك قوة الاستمرار كنمط حكائي. وعندما تحول
إلى قصة أطفال وهو نمط حديث له استقلاله الفني عن الحكاية أُضيف إلى النص،
إبداع يتمثل برؤية المبدع إلى وظيفة النص القصصي للأطفال، وطبيعة القارئ
الصغير، واختلاف البناء والوظيفة بين الحكاية الموجّهة إلى المتلقي الكبير،
وبين قصة الأطفال الموجهة إلى المتلقي الصغير، ويجمع نقاد الأدب على أن ثمة
قسمات مشتركة وخصائص بنائية وشكلية مشتركة ومتشابهة بين النمطين.
إن الفكرة، والحادثة، والشخصية والحوار تمثل قسمات مشتركة بين
الحكاية وقصة الأطفال، إلاّ أن الكيفية التي يبنى على أساسها النوع الأدبي
هو الذي يقرّر نجاح العمل الأدبي، وهويته أيضاً، بكلمة أخرى، فإن عناصر
القصة والحكاية تقرران (أسلوباً أدبياً ) يهيئ لنا أن نعامل هذه العناصر
معاً لتكوين بناء فني متكامل)(5) وما يميز أسلوب قصة الأطفال هو توفر ثلاث
عناصر أساسية هي الوضوح، والقوة، والجمال. (فوضوح الأسلوب يعني أن يكون في
مقدور الأطفال استيعاب الألفاظ والتراكيب وفهم الفكرة. وهذا لا يتيسر ما لم
يكن النسيج اللفظي بسيطاً وشفافاً وخالياً من الزخرفات والتنميقات) أما
العنصر الثاني، فهو قوة الأسلوب (ويتمثل في إيقاظ حواس الطفل وإثارته وجذبه
كي يندمج وينفصل بالقصة عن طريق نقل انفعالات الكاتب في ثنايا عمله القصصي
وتكوين الصور الحسية والذهنية) أما العنصر الثالث فهو جمال الأسلوب الذي هو
(عنصر جمالي يسري في توافق نغمي وتآلف صوتي واستواء موسيقي) مع العنصرين
السابقين) وقد وجدت في نص الأرنب والسلحفاة الذي كتبه الأوربي سرغي بارودين،
بترجمة منير عبد الأمير، والثاني الذي كتبه القاص العراقي طلال حسن، توفر
العناصر الأساسية من وضوح، وقوة وجمال، مضافاً إليها أسلوب خاص مرتبط
بشخصية الكاتب نفسه أستطيع أن أقول؛ إن الكاتب قد خلّص النص الأصلي من
(الحكمة) التي غالباً ما تأتي في بداية القصة أو في نهايتها، لتعطي عبرة،
أو رأي الكاتب. وهذا مما يضعف من بناء القصة، ويقرّبها من التقريرية أو
(الوعظية) أو(الإرشاد). القاص الحديث في بحثه عن الشاعري، والخيالي، وغير
المباشر قد أخفى (الحكمة)، ليجعلها معبراً مخفياً يدركه المتلقي الصغير
نفسه. يعني أن المتلقي الصغير يشارك، وينفعل، ويصل إلى فكرة القصة دون أن
نعطيه (عكازاً)!
الهوامش:
1-من مقدمة الأستاذ جبراً في كتابه (حكايات من لافوتين)
إصدار دار ثقافة الأطفال- وزارة الثقافة والإعلام العام 1981.
2-المصدر السابق
3-نصوص ترجمها الأستاذ فاضل عبد الواحد عن ألواح طين في
بابل.
4-أنا مدين هنا للأستاذ الراحل جبرا في ترجمته لحكايات
لافونتين، وإلى النافذة الثقافية التي قدمت ترجمة منير عبد الأمير (النعام
والسلحفاة ومدين أيضاً لدار ثقافة الأطفال التي نشرت قصة (روح رياضية)
للقاص العراقي طلال حسن.
5-هذا القوس والأقواس التي تليها مستل من كتاب الدكتور هادي
نعمان الهيتي (أدب الأطفال- فلسفته- متونة- ووسائطه). ص 143- 144/ وزارة
الثقافة والإعلام 1978
لومي تقهر لصوص البحر*
قراءة في قصة (محمد شمسي)
ثمة أعمال إبداعية قد تجاهلتها الصحافة الأدبية في وضح النهار.
ولصوص البحر قصة للأطفال كتبها الشاعر الراحل، وكاتب الرحلات محمد شمسي،
وتجاهلتها الصحافة، أو أغفلتها، بالرغم من فوزها بالجائزة الأولى لدى
الجامعة العربية العام 1984. ماذا نجد في (لصوص البحر) كقصة موجهّة للأطفال
والأحداث معاً. لقد قرأتها أكثر من مرة، وأنا لا أكاد أشبع منها. وهذه صفة
من صفات القصة الناجحة، التي تشد القارئ، وتمتعّهُ، باعتمادها على
المغامرة، ولذة الاكتشاف، وخفايا الطبيعة، بكل ما تحمل من أسرار، وسحر،
وخيال غني.
لقد كان خط القاص محمد شمسي كبيراً، حين سَحبَنا إلى عالم قصته (46
صفحة وأدخلنا قريته لومي- المرمية في الغابات، وعلى الأشجار تقع أكواخها،
وتحتها البرك والمستنقعات. إنه يعيدك إلى عالم (ألف ميل بين الغابات) حيث
يلعب شخصياته الخمسة (إيشاكو- دول- شوينكو- ألوري اكمبا) أدواراً مُغامرة،
مثيرة واستطاعوا من خلال مغامرتهم أن يخلّدوا أسماءهم، واسم قريتهم –لومي-
التي كبرت وصارت واسعةً، ممتدة إلى البحر.
محمد شمسي يأخذ من الأسطورة روحها، ويحرّك اللاشعور في دواخل أبطاله
الصغار، ويثير الرغبة في التخيل، وتستفزك بأحلام اليقظة استجابة للضغوط
الداخلية لأبطاله. فيعزز فيهم قدرتهم على مواجهة الحياة، ثم تشذّب مشاعرهم،
وتغرس في روحهم حب الخير. وتلك لعمري مهمة الأديب التي تلتقي مع المربي،
وعالم النفس.
نعود إلى قصة (لصوص البحر) وكيف استطاع الأطفال في قرية لومي أن
يطردوا لصوص البحر القادمين من بلاد أخرى، قصد استعباد القرية، إنهم (قوم
بيض) أمام (قوم سود). قوم يرتدون ملابس ملونة ويعتمرون (قبّعات) ويخفون
سلاحهم أمام قوم حفاة لا يرتدون سوى (.تبان.) يلفون به وسطهم، يدافعون بعصي
ونبال مدببة، وأقواس صيد وشراك ضد المعتدي ضد الحيوانات المفترسة أيضاً.
قوم بيض، يأتون في (زوارق بيضاء) من (مدن كبيرة) إلى (قرية صغيرة) في (غابة
كبيرة). بهذه الطريقة يدخلك القاص إلى عالم قصته السحرية، وإلى بيوتها
(المعلّقة) على الأشجار، المصنوعة من القصب والأغصان، والألياف المربوطة
بسلالم من الحبال. أي أن كل عائلة تعيش في كوخ على شجرة عالية!
أما تحت الأشجار فقد انتشرت البرك والسيول ، والأعشاب، والطيور،
والأرانب والغزلان.
ثم يعرج القاص على العادات والطقوس في القرية حيث (يهبط الرجال من
أكواخهم ويتجولون في الغابة، يحملون معهم نبالهم المدببة، وأقواسهم ويبحثون
عن الطيور والأرانب والغزلان.) و(ينصبون الشراك، يصنعون حفرة كبيرة في
الطريق، ويغطونها بالأغصان، وأوراق الأشجار، ويضعون فوقها قطعة من اللحم،
ثم يختبئون في مكان ما.. وينتظرون) والنساء (يحمصن المحار اللذيذ والأصداف
اللامعة).
إن القصة حاولت أن تقول أشياءها بتلقائية وألفة. ورسم القاص شخصياته
ببساطة ومهارة. وتركهم يقدّرون مصائرهم أمام البحر الساحر المدهش. وكيف أن
القرية كلها خرجت من أكواخها، تبحث عنهم في الغابة. إلا إنّ الأبطال الخمسة
يكتشفون لصوص البحر قادمين من البحر السحيق، فيصنعون بطرائقهم البدائية،
وتفكيرهم الطفولي خطة لإنقاذ قريتهم لومي حيث يقعون في شباك صيد الحيوانات)
وتفرح القرية بالأبطال الخمسة، ويُخلّدون، وتخلّد قريتهم..
البناء الفني في (لصوص البحر): لصوص البحر، قصة قصيرة نسيجها العام
مبني على حدث رئيسي مركزي على شخصية مركزية، ثم يتصاعد هذا الحدث، ويأخذ
بالتصاعد، تعاونه وتبلوره أحداث جانبية.
فالقاص يعتمد على حدث مركزي هو قيام الطفل إيشاكو بطل القصة (نسج
أول خيوط هذه الحكاية) بأن يسأل أمه عن البحر: موطن الأسرار والمجهول. ولم
تستطع أمه أن تثنيه عن القيام بدخول (عالمه المجهول) فيبدأ برحلته الخطيرة
إلى البحر، يترسّم خطى أمه، وفي الطريق تتكشف له الطبيعة بكل عنفوانها
وتناقضاتها.
لقد أدخلنا القاص إلى عالمه، وصرنا مشاركين فيه. فهو إذن أول نجاح
في عمله. لقد أدخل إيشاكو- وهو راغب- في قلب الأحداث عبر وسائل إثارة
وتشويق، وعبر لغة مترعة بالغنائية، وروح الموسيقى. وهي ثاني نجاح يحققه
القاص. أما النجاح الثالث فهو الروح الاسطورية التي تنضوي بداخلها روح
البطل، المتيقظّة: روح البحث عن المجهول. فالرحلة الطويلة عند إيشاكو، بحثُ
عن روح الحياة في قلب الغابة. وهذه الميزة: ميزة الروح الأسطورية تطبع قصة
(لصوص البحر) بطابعها الخاص.
أما الشخصية الرئيسية، فهي تحمل روح التمرد، إذ لا يكتفي بالبحر، بل
يتعداه إلى مجابهة (القوى البيضاء) التي قدمت عبر البحر في (سفن بيض).
إن الروح التي يحملها بطل القصة ليست روحاً سوبرمانية، تتوسل بالعنف
والقوة، بل هي شخصية إيجابية تدافع عن الحق والخير، منطلقة من حب وطنها.
**
والقصة تخاطب الأطفال والأحداث، تخاطب الأطفال الذين يمرّون من
الطفولة إلى المراهقة، الذين يخفون عالماً متصارعاً في دواخلهم، لذا جاءت
لغتها شفافة مدهشة، متألقة، ومقتصدة، خالية من الحشو والانشاء. لنلاحظ هذه
الجمل: (الوقت صباحاً وقرية لومي الصغيرة تصحو من النوم مبكراً) تعبير
رصين، ومفردات مأنوسة، وتركيب معبّر ميسّر.
**
- هل توضح هدف القصة أثناء القراءة؟
- نعم. أطفال لومي يدافعون عن قريتهم ضد الأعداء. ولومي القرية
أصبحت مدينة، بعد أن امتدت صوب البحر. (البحر السر) أصبح (منفذاً) للومي
المدينة.
(أهل لومي السود) يطردون (البيض).
في أدب الحكاية المقارن
(الأسد والبعوضة) بين لافونتين وتولستوي
أو نص (الأسد والبعوضة)*
لافونتين (1621- 1695)
"إليك عني يا حشرة حقيرة، يا حثالة المخلوقات جميعاً" هكذا خاطب
الأسد يوماً البعوضة، فجاء ردها عليه في الحال، إذ قالت: أتحسب أن اسمك
الملكي سيجعلني أرجف خوفاً من الرأس حتى القدم؟
فالثور الذي يربو عليك بحجمه أسوقه حثيما أريد!"
ولم تتمهّل لحظة، وصوتَّت نفيرها كأنه الفارس والبوقي معاً، وراحت
تئز وهي تدور الدوائر فوق رأسه تتحيّن فرصتها، ثم انقضّت عليه، ولدغته في
عنقه. فجُّنَ الأسد العظيم، واشتعلت عيناه بالغضب، وأطلق زئيراً، ارتعشت له
أوصال جيرانه، واختبأوا في الأوكار والحجور، وعمّ الرعب أرجاء الغابة كلها.
وما السبب إلا بعوضة صغيرة.
وراحت البعوضة العفريتة تندس كشيطانة في كل عضو معرّض في الليث
الهصور فهي مرة تخرق بوزه، ومرة قدمه، ومرة تنخز مؤخرته، ثم خاصرته. ومرة
تتوغل في أعماق منخريه. وطغى هياج الأسد، وأزبد شدقاه، والمعذّبة الماكرة
تضحك منه وهو يعمل كامل عدته من ناب ومخلب للشرب من دمها، عبثاً!
أدمى الملك بالحك جنبيه، وراح يخبط بالذيل ردفيه، ويصارع الهواء
المحيط به- إلى أن خارت قواه، وأنهكه السخط والصياح، وتهاوى على الأرض
أخيراً، عاجزاً عن كل حراك. وطارت البعوضة المظفرة بعيدة عنه في هالة
المجد، ونفيرها الذي أعلن في البدء تحديها، أعلن الآن انتصارها، ولكنها إن
حلقت هنا وهناك إذ لتسمع الجميع أنباءها، اصطدمت بشبكة نسجتها العنكبوت
وسقطت فريسة فيها، في هذه الحكاية درسان: من الغباء أن تحكم على الخصم
قياساً على حجمه، والمرء قد ينجو من أنياب خطر عظيم، ليلقى مصرعه في عارض
حقير..".
2 ـ البعوضة والأسد (تولستوي)، (1928-1910):
طارت بعوضة ذات يوم نحو ملك الغابة وقالت له: إنك تظن إنك أقوى مني،
ألا تظن ذلك؟ طيب. إنك مخطئ تماماً: ماطبيعة القوة التي تمتلكها؟ إنك تمزّق
بمخالبك وتعض بأنيابك على نحو ما تتشاجر النسوة الفلاحات مع أزواجهن، أما
أنا فإنني أقوى منك هيا بنا لنتقاتل.".
أصدرت البعوضة طنينها، وشرعت تلدغ الأسد في أنفه، وخديه المجردين
من الشعر، أخذ الأسد يضرب بمخالبه، فخمش وجهه ومزّقه، حتى تدفق الدم، وحلّ
به الإرهاق.
طارت البعوضة بعيداً، وهي تطن في انتصار، ولكن الوقت لم يطل بها إذ
سقطت في خيط العنكبوت الذي شرع في مصّ دمها.
مضت البعوضة تحدث نفسها قائلة: "لقد تغلبت على الأسد أقوى
الحيوانات، أما الآن فقد وقعت فريسة لعنكبوت بائس سيقضي عليَّ حتماً!".
إضاءة النصين:
هذان النصان، لهما جذرٌ في بابل، فأيسوب الذي عاصر الحضارة والأدب
البابلي، وزار بابل عدة مرات، تأثر إلى حد كبير بالحكاية البابلية. وقد
جمعت (خرافات أيسوب) في مجلدات ضخمة، خلدته بين الأجيال. وفي القرن السابع
عشر للميلاد يأتي لافونتين، أحد الشعراء الأفذاذ، ليكتب الحكاية بإطار
جديد، وبأسلوب شعري أخاذ، وقد استطاع الناقد الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا، أن
يترجم (55) حكاية من حكايات لافونتين التي تتأثر أو تحمل ملامح بابلية،
ويأتي تولستوي في القرن التاسع عشر ـ أي بعد قرنين ـ ليعيد كتابة (البعوضة
والأسد) بأسلوبه الخاص.
بعد قرون عديدة، وأجيال متعاقبة، ماذا حلَّ بـ(الأسد والبعوضة)، بعد
سفرات متلاحقة في الذاكرة الشعبية؟ ماذا طرأ على الحكاية عبر الزمان
والمكان؟ هل تغيَّرت وهل حافظة على روحها؟
نقول: بكل ثقة: إن الحكاية قد حافظت على عناصرها، فالشخوص هم
أنفسهم: الأسد، والبعوضة، والعنكبوت، في معركة مخيفة لها دوي، والفكرة
واضحة، أعطاها أو أعلنها لافونتين، في نهاية حكايته، بينما أخفاها تولستوي
بين طيات السرد والوصف، ويجيء الحوار المتصّل الطويل بين الأسد والبعوضة،
عميقاً، ساخراً أن استخدمه الواحد ضد الآخر ليعمّق بين الأحداث، والأفعال
المتصارعة، ويرفع من درجات الحقد والكراهية.
وقد استطعت أن أحصي الأفعال في النصين، فوجدت تشابهاً ، وهذا الجدول
يبيّن ذلك:
الأفعال في النص الأول: صوّتت / تئّز / أسوق/ تدور/ تعضّ، لدغته/
جُن/ اشتعل/ أطلق/ ارتعش/ اختبأ/ طغى/ أزبد/.
أفعال النص الثاني:
طار/ تمرق/ تعضّ/ أصدرت/ شرعت/ تلدّغ/ مزّق/ تطن/ أدمى/ يخبط/
يصارع/ أنهك/ تهاوى/ طار.
هذه الأفعال القليلة التي استخدمها تولستوي، تدلّل على سلسلة من
المواجهات بين الأسد والبعوضة، بدأها بالفعل طار، وأنهاها بالفعل (طار):
لصالح البعوضة. أي أن البطولة كانت من نصيب البعوضة، والهزيمة للأسد: ملك
الغابة!
**
أين مكمن الاختلاف والإبداع في نصّين يوفرّان المتعة، والحكمة،
والخيال، كأي حكاية أصيلة تتوفر فيها هذه الصفات؟
الإبداع في الكيفية أو الأسلوب الجديد المبتكر الذي صبّ فيه تولستوي
قصته (الموجهة للأحداث)، وأخفى المغزى العام أو (الحكمة) من نص لافونتين
المحشور والزائد في نهاية القصة، ليحل معه حوار الموت للبعوضة، مع حشرة
العنكبوت، بدون مقاومة: (لقد تغلبّت على الأسد أقوى الحيوانات، أما الآن
فقد وقعت فريسة لعنكبوت بائس سيقضي عليَّ حقاً).
هذا المونولوج المعبّر، قد أنقذ القصة من الوعظ والمباشرة، ومال بها
نحو الإبانة، وقرّبها نحو الإيحاء والتكثيف…
الهامش:
* الأسد والبعوضة ـ ترجمة: جبرا إبراهيم جبرا ـ من كتاب
(حكايات لافونتين)، إصدار دار ثقافة الأطفال ـ وزارة الثقافة والإعلام
العام 1981.
* البعوضة
والأسد ترجمة كامل يوسف حسين من كتاب (البطة والقمر)، لتولستوي ـ ودار
ثقافة الأطفال لعام 1984.
قصة الأطفال الصهيونية الحقد والحرب في
(الأمير والقمر):
للكاتب الصهيوني يوري إيفانس.
لا ضير في أن نتناول نصاً صهيونياً للأطفال، ونحلّل عناصره، ونكشف
عن بنائه الفني والقيم التي ينطوي عليها النص، بهذه الطريقة نضمن لأنفسنا،
ولأطفالنا حصانة من مخاطر النص التدميرية.
فالصهيونية منذ زمن، وبالتحديد بعد الحرب العالمية الثانية قد
التفتت إلى هذا الميدان، وبدأت تضع السم في الدسم بذكاء، وتسمّم عقول
الناشئة، لتجعلهم مهيئين لتقبل إيديولوجيتها المتخلفة.
النص الذي اخترت، بعنوان (الأمير والقمر)، هو قصة قصيرة كتبها
الصهيوني يوري إيفانز. (وقدترجم النص الأستاذ محمد الظاهر، وقدّم له الناقد
طراد الكبيسي في مجلة الأقلام 1979).
في قراءة النص بتمعن، يمكن أن نكشف عن القيم التي نهض عليها، فهو
معبأ بالحقد والكره للعرب منذ السطور الأولى:
قالت الصغيرة لي:
ـ من الذي سرق القمر؟
قلتُ:
ـ العرب.
يبدو من المقطع، أن الكاتب يعي لعبته جيداً، إذ وضع مُسْبقاً مضمون
القصة التدميرية، ودفع النص ليتكئ عليه، يعني أن سرقة القمر من قبل العرب،
كان: (مضموناً مفضوحاً) ومحسوباً بدقة.
قالت: ماذا يفعلون به؟
قلتُ: يعلّقونه علىجدران بيوتهم.
قالت: ونحنُ؟
قلتُ: نحوله إلىمصابيح صغيرة تُضيء أرض إسرائيل كلها.
في هذا المقطع تتضّح القيمة الثانية في النص: الأنانية.
حيث يعلق العرب القمر علىجدران بيوتهم، بينما تحوّله الصهاينة إلى
مصابيح مضيئة. وقد أشار الناقد طراد الكبيسي في مقدمته، حيث حلّل النص، وما
أراد الكاتب أن يوحي به إلى الأطفال؛ (بأن العرب لا يتذوقون الجمال،
ويضحّون به من أجل أنانيتهم).
أما القيمة الثانية فهي تثبيت الحلم الصهيوني: إسرائيل الكبرى. إذ
يشحن الكاتب كقارئ بالعداء والكره، لكل من يحاول (سرقة حلمها وحلم أبنائها،
لكن من يستطيع أن يسترد الحلم المسروق من (الأعداء العرب)؟! الكاتب وضع
المهمة على عاتق (الأمير الصغير)، المحارب القديم في أرض إسرائيل.
أما القيمة الرابعة، وهي قيمة أساسية في نظري، وهي (الحرب)، أي أن
قيمة الحرب، تأتي لتحصيل حاصل لكل القيم الأخرى.
وقد ألقى المهمة على عاتق (الأمير الصغير) أيضاً.
الأمير الصغير، يستطيع أن يحقق حلم المحارب القديم، ويُبسط سيطرته
على أرض (إسرائيل الكبرى) ليعيش عليها (شعب الله المختار)، حسب رأي الكاتب.
يحاول الكاتب هنا أن يمزج بين التعاليم الصهيونية والمعتقدات
الدينية، أي أن يمزج بين المغزى السياسي والمغزى الديني، أليست الصهيونية
فلسفة سياسية بثياب دينية..
اختار الكاتب (الأمير الصغير)، لتنفيذ أفكاره، وبهذا الاختيار يكمن
لب القصة، والمثل الأعلى للجيل الصهيوني الجديد الذي يحاول استرداد القمر
المسروق. فماهي ملامح هذا البطل؟
ـ إن البطل يؤمن بالقوة، والعنف، والحرب، والتفوق، ألا يمثل هذا
البطل الوجه البشع للامبريالية والنازية معاً؟ ألا يمثل هذا النموذج:
السوبرمان الذي لا يقهر في القصة الأمريكية؟
البناء الفني للحكاية:
قصة (الأمير والقمر) قصة قصيرة بـ(370 كلمة)، وينهض بناؤها على حدث
بسيط، غياب أو سرقة القمر، وحاولت أن تستغني عن الأحداث الجانبية، والوصف
الزائد، وتلجأ إلى التركيز، والترميز وإلى إيصال الفكرة بيسر، بحيث لا تؤدي
إلى تراكم الأحداث، يزعزع الفكرة، أو يشتت انتباه الطفل، لذا لجأت القصة
إلى الارتكاز على فكرة (سرقة القمر)، ويمكن أن نصف القصة، بأنها قصة موقف،
لا قصة أحداث، وهذا الموقف مرسوم بدقة في ذهن الكاتب، أي أنها فكرة ذهنية
مُسْبَقَة، وفق رؤية صهيونية جاهزة، وبكلمة أخرى، إن الفكرة لا تطوّرها
الأحداث، أو تبلورها، فبدت القصة مهزوزة، لا توسّع من خيال القارئ الطفل،
ولا تُثير انتباهه، ولا تشدّه إلى آفاقها، بل تشحنه (بخيال مريض)، إن صحّ
التعبير.
**
ظهور الأمير الصغير، هل هو تصعيد الحدث الرئيسي: سرقة القمر؟
ـ أعتقد أن الأمير الصغير لا يملك التأثير القوي على القارئ. صحيح
أنه يمتلك فعلاً خارقاً، لكنه غير منطقي، ولا يتحرك وفق قوانين العمل
الداخلي، أي أنه يصنع الأحداث صنعاً ميكانيكياً، ولا تصنعه الأحداث
بديناميكية طبيعية. أفعاله تذكّرنا بالحكايات الخرافية التي تتوسّل بالقدر
والصدفة والمعجزة. إنه لا يربح القارئ، وإذا ما حاولت أن تربح قارئاً،
فإنها تربح (قارئاً مريضاً).
بقراءة النص مرتين، يمكن أن نلمس ظاهرة (تجزئة الذروات) وتوزيعها
بين ثنايا، ونسيج القصة. إذ أراد الكاتب أن يعوّض عن البداية، والعقدة
والحبكة المتوفرة في القصة، بحيلة فنية ألا وهي تجزئة الذروات، لشد القارئ.
أي أنه قدم ذروته على شكل جرعات، لكنه فشل إذ اصطدم بأفكاره المسبقة
الجاهزة. ويستطيع القارئ النبه، أن يؤشر على ذروتين في النص الأولى تنتهي
في المقطع التالي: (ومنذ ذلك الوقت والصغيرة تحلم بالقمر، وتكره العرب،
لأنهم سرقوا حلمها، وحلم أبنائها).
أما الذروة الثانية، فتتمثل باستعادة الأمير الصغير للقمر. هل
استطاع الكاتب أن يبدع عالماً خصباً؟ باعتقادي أن الكاتب استطاع أن (يصنع)
عالماً مريضاً مرعباً تحت كابوس الانتظار والحرب والحقد الدفين. صحيح أن
القصة تتوفر على مفردات القمر والليل والسكون والسماء. إضافة إلى الحوار
المتقن بين الطفلة ووالدها، إلاّ أن عالم القصة، عالم يعيش في (إنذار) شديد
لا ينتهي في يوم أو سنة، أو جيل، إنما هو إنذار لا نهائي، وحرب لا نهاية
لها ضد عدو قادم إليهم في كل لحظة!
ملاحظة أخيرة:
إذا كان الكاتب قد استمد أفكاره من فلسفة عتيقة، فهل يستطيع أن يخلق
نصاً إبداعياً، يعيش عبر الأجيال القادمة؟
لا أعتقد. والسبب أن الكاتب لم يعتمد على فلسفة، أو أفكار إنسانية،
والعلاقة واضحة بالطبع بين النص وبين الأفكار التي يحملها.
إن نص (الأمير والقمر)، إذ يشيع القيم البالية المتخلفة عن روح
العصر: الحقد والأنانية والكره، والحرب، يكشف عن تمويه فظيع للأجيال
القادمة، والقيم المريضة في الأدب الصهيوني وعالمها المكتظ بالدمار، والقتل
والموت والحرب.
إن الصهيونية لا تريد من كتابها أن يكتبوا عن الزهور،والفراشات،
والجمال والحب، خوفاً من جيرانهم العرب المدججين بالسلاح الذين سيقتحمون
منازلهم ذات ليلة، كما يصرّح كتابهم!
إنه مأزق القصة الصهيونية.
الاقتراب من نص
أوروبي للأطفال
يعيدنا بوريس زاخودير في قصته (لماذا يصوت الديك ثلاث مرات في
الليل)(1) إلى الطبيعة، أمنا، صانعة الحكم والأساطير، وملهمة الإنسان
الأول، وقد وجد فيها (بيته الكبير)، الذي لا تحدَّه حدود، تلتقي فيه السماء
بالأرض، ممتلئاً بالأجمات، والفرح، والحزن، والخوف!..
برويس زاخودير، كاتب أوروبي، تنتمي قصته إلى الآداب الشرقية،
السوفيتية، المحاددة للدولة العربية الإسلامية، وتقترب منا في العادات
والتقاليد.
إنه ابن شرعي، للحكاية العربية الإسلامية، ذات الوعاء الكبير الذي
يستوعب حكايات العالم كلها.
وقد تعرَّفت عليه من خلال ترجمات دار التقدم ـ موسكو. وأمعنت فيه عن
كثب مع تلامذتي الصغار، في مدارس الريف العراقي ذات الغرف الطينية
المشرَّعة: للريح والفضاء الفسيح، الريف الذي يحمل إرث الماضي وحكايات
الأجداد الساحرة.
عندما قرأت قصته الرائعة، على مسامع تلامذتي، سُحروا بها، وسُحِرْتُ
بها أيضاً. إذن القصة الناجحة، تنقل السِحر والعالم المدهش الجذاب.
***
ساخودير: مأخوذ بالطبيعة، ومسكون بها؛ فصنع لنا، أو أبدع لنا حكاية
جميلة، ورفعها إلى درجة الأسطورة.
القصة قطعة نثر ناصعة البياض، رقيقة، دافئة، وعميقة، قوية الحبكة،
لا يمكن للقارئ أن يستغني عن كلمة واحدة منها.
هي قصيدة حزينة، مكتوبة بأسلوب النثر الصافي العالي، وبالرغم من
أفعالها الماضية، على طريقة الحكاية فإنها تحفرُ في الذاكرة، عميقاً،
وتوسّع من المخيلةعالماً أسطورياً، مكتنزاً بالصور..
أما مكان القصة، فهو (حظيرة الدجاج) أو بيت الدجاج، أقامه على تخوم
غابة متشابكة الأغصان، عميقة الغور، مجهولة. وأسكن في الحظيرة ديكاً مع
دجاجاته. يبدو المكان أسطورياً وخيالياً؛ فالحظيرة ليست بعيدة عن المنحلة.
إذن الحظيرة، مكان نفسي قبل أن يكون لها وجود حقيقي، إنه مكان
يستدعي كل أمكنة الطفولة الساحرة، وحكاياتها الغريبة.
***
يستطيع القارئ الصغير، أن يُنصتُ إلى جلبة الغابة، تأتيه من بعيد،
ويتسمّع إلى أغاني العرس الممراح التي تمتزج مع حفيف الريح، وعندما تحدث
أحداث القصة في الليل، فإن الحوار، يبدو بليغاً، صافياً، ذا وقع أخاذ،
وإيقاع موسيقي متوازن.
والحوار الذي يحدث بين الديك والطاووس، يُثير مخاوف الديك على ذيله
الطويل، الذي استعاره الطاووس ليحضر العرس مرة واحدة، أثار الحوار مخاوف
الديك، فبات قلقاً، مُؤرِّقاً. طيلة ليله، ساهراً إلى الصباح، مما أدى إلى
إصابته بالأرق، وأحلام اليقظة، التي سدت عليه، أو أفسدت عليه أحلامه
الوردية. هذا العالم الذي قدمه القاص جعلنا نشاطر الديك قلقه، وجعلننا نرثي
للديك، حاله، فيؤلمنا أن نرى الديك ذا الذيل الطويل، تسخر منه الدجاجات في
الصباح! هذا القلق المتصل، كان منولوجاً ذاتياً، متصاعداً، حزيناً، قوياً..
كأنه يحدث في رأس إنسان!..
إن الكاتب قد وُفِقَ في إبداع عالم أسطوري، مدهش مجهول، لقد صنع
أسطورة الديك الذي يصيح ثلاث مرات في الليل! لعل صديقه الطاووس يسمعه ذات
يوم، عائداً من بلاد الأفيال..
ملامح عربية في النص.
يكشف المتلقي الصغير، عند القراءة، لمسات الحكاية الشعبية وروح
الجدات، قد بثت في جسد النص أو متنه، وسيطرت عليه إلى النهاية، ويمكن
التأشير على التراكيب العربية الآتية:
1 ـ في قديم الزمان… كان.
2 ـ بلى كان له ذيل، ولكنه هزيل لا يملأ العين..
3 ـ وفي ذات يوم: ذهب الطاووس إلى الديك.
4 ـ فهّب من رقدته، وأخذ يصيحُ من قلب جريح.
5 ـ ولكن هيهات، أن يعرف نوم الليل.
6 ـ وقد رأى فيما يرى النائم.
7 ـ لم يسمع صيحة تعال.. من شدّ الرحال.
ومضى إلى الهند بلاد الأفيال..
هذه التراكيب، تقترب إلى فن التراكيب وتقنياتها، وسحر ألف ليلة
وليلة، وتصاعد أحداثها، باتجاه الذروة البالغة في الإثارة، والشد،
والإدهاش، وهذه اللغة، هي لغة سماعية تقوم على رهافة الحس، وحس الاستماع.
والسبب معروف، إذ عاشت حكايا الليالي حقباً متعددة، تعيش في الأذان،
وتنتقل عبر الألسن.
والنهاية تجيء، مقتربة من فن الليالي، الذي يتدخل فيها الراوي،
لينهي القصة بضربة فنية مثيرة..
(لقد مرّت الشهور والأعوام، وتدفَّق إلى الأنهار ماء كثير ـ كما
يُقال ـ ونبت للديك ذيل جديد…)..
هذه النهاية تجيء تتويجاً للقصة، لكي تثبت معنى الأسطورة في ذاكرة
المتلقي الصغير، إنها قد حدثت في أزمان بعيدة، منذ أن تدفق في الأنهار، ماء
كثير، إلا أن الديك ظل يصيح ثلاث مرات في الليل!…
(الوصول)
كيف وصلت إلى المتلقي الصغير؟..
حب الأطفال وحده، لا يخلقُ قصة أطفال ناجحة، فـ(الدجاجة تحب
أفراخها، ولكن هل تستطيع أن تربيهم؟)، حسب رأي الروائي مكسيم غوركي.
إن أحسن الأفكار، تموت لحظة ولادتها، إن هي وصلت إلى الأطفال بأسلوب
غير فني، يفتقد إلى عناصر الجمال، لذا يجب على قاص الأطفال، أن يعرف سر
الكتابة.
إن الفكرة الهادفة زائداً: الأسلوب المناسب، نحصل على عمل فني
إبداعي ناجح.
ويقول سليمان العيسى في هذا الشأن: (أن نقول هدفاً، بكلمة مجنّحة
للأطفال، لأن فيها سر أدب الأطفال)..
***
وحسن موسى، القاص العراقي، يقف في صف المجدّدين، في الكتابة القصصية
الجديدة؛ تؤرقه الحكاية الشعبية منذ بواكير قصصه، (بعد ظهور مجلتي والمزمار
1968).
فكتب قصصاً جديدة، يستلهم فيها الحكاية الشعبية. وفي قصته:
(الوصول)، حاول القاص أن يعيد خلق الحكاية الشعبية الشفاهية؛ فأعاد كتابة
حكاية (أبو الزعر) المعروفة شعبياً، والذي حاول عبور (مسافة بين الأشجار في
يوم ممطر) مختفياً تحت جنح الإوزّة، وما إن يصل إلى الجهة المقابلة من
الأشجار،حتى يعلن نفسه ملكاً على الطيور يعني أن (أبو الزعر قد كسب السباق
في اجتياز المسافة ولا يبتّلُ بالمطر!..
***
أحاول أن أعطي فكرة مركّزة أساسية، لقصته (الوصول)، قبل أن نجري
مقارنة بينها وبين الحكاية الشفاهية.(الطيور أرادت أن تنتخب ملكاً، لحل
مشاكلها، فتجتمع، ويُطرح رأي مفاده، من يعبر المحيط فهو الملك. وبعد
مناقشات مستفيضة تتفق الطيور على أن يكون المحيط هو الحكم، والأسماك
مراقباً. وعندما توشك الأوزّة على الوصول إلى الضفة الثانية، تُفاجَئ بوجود
أبو الزعر، الذي يطلق نفسه ملكاً! إلاّ أن المحيط يكشف اللعبة ويعلن
للطيور: أن أبا الزعر هو طير طارئ، كان متشبّثاً فوق كتف الأوزة)..
ألا يرى القارئ، أن ثمّة بناء جديد، قد جرى تشييده، وروحية جديدة،
تسري في جسد الحكاية وتحولها من (نص مشهدي) إلى عمل درامي، يحمل عناصر
نجاحه وديمومته؟
مقارنة بين النصين:
1 ـ إن الحكاية الشفاهية قد اعتمدت على حدث وَهُو (أن تتسابق من أجل
الوصول إلى الجهة المقابلة للفوز بلقب الملك)..
يعني أن السباق من أجل الفوز بلقب الملك هو القاسم المشترك بين
الحكاية والقصة. إلاّ أن مكان السباق كان مختلفاً؛ فمكان الحكاية هو: مسافة
بين الأشجار في يوم ممطر.) وبشرط أن لا يبتّل بالمطر، بينما يكون المكان
مختلفاً في قصة الوصول؛ فالسباق يجري في المحيط؛ يعني أن الطير القوي الذي
يجتاز المحيط إلى ضفته الثانية هو الجدير بلقب الملك. إذن ثمة فرق واضح بين
الرؤيتين.. ولم تترك الطيور المسألة بدون تحكيم، بل تركت مسألة التحكيم إلى
المحيط نفسه، الذي يكشف لعبة (أبو الزعر) والذي أراد الوصول بوسيلة دنيئة
إلى غايته..
(التشبّث فوق كتف الأوزة).
2 ـ لجأ القاص إلى المحيط، وهو مكان واسع، أوسع من البحر، مما أدى
إلى إثارة تساؤلات كثيرة عن المحيط، وعالمه، وسَمكه، وطيوره، أجاب عنها
القاص في مفاصل قصته..
3 ـ الحكاية حاولت أن (تُضحْك) الأطفال، فركّزت على ذكاء (أبو الزعر)
الطائر الصغير الذي استطاع بذكائه؛ وحيلته، أن يعبر المسافة بين الأشجار،
في يوم يزّخُ بالمطر، مختفياً تحت جنح الأوزة، وفوزه بلقب (ملك الطيور)،
يعني أن الحكاية كانت معينة بمشهد كاريكاتيري مُضْحك، وهي منحازة إليه.
أما في قصة (الوصول) فإنها تنتصر للبطل الحقيقي الأوزة التي تعبر
المحيط بجدارة، معتمدة على قوتها وصبرها..
بكلمة أخرى: إن القصة قد خلقت لنا وسائل هادفة ونبيلة، للوصول إلى
أهداف نبيلة..
يعني أن القصة قد خلقت لنا قيماً جديدة، في حين تفتقد الحكاية
الشعبية للقيم، بل تبرّر الوصول إلى الأهداف النبيلة بوسائل دنيئة… ويمكن
كشف قيم أخرى، منها: قيمة (التحكيم)، وقيم معرفية أخرى؛ كالسباحة،
والاعتماد على النفس، والشجاعة في اجتياز الأماكن الشاسعة، وثبّتت القصة
قيم معرفية: كأصوات الطيور، والألوان، وأنواع الطيور، وألوانها، والأسماك
وأنواعها…
4 ـ لجأت القصة إلى (الأنسنة)، أي أن الطيور تتحاور، وتتألم، وتفرح،
وتحزن، وتقلق، وتتخاصم، في حين تفتقد الحكاية الشعبية إليها، واكتفت
بالتركيز على مشهد عبور الطيور المسافة بين الأشجار في يوم ممطر.
5 ـ الحكاية ركّزت على طيرين هما (الأوزة، أبو الزعر) بينما كانت
القصة تكتنز، بعالم الطيور الجذاب الغني، يعني أن عالم القصة ثري، وعالم
الحكاية فقير، مُختزل، لا يُثري خيال الطفل ولا يوسّع من أفقه الثقافي
والمعرفي.
يعني أن القصة قد نجحت في تحقيق حلم الأطفال في الوصول إلى الأهداف
النبيلة، بالاعتماد على وسائل مشروعة، ونبيلة أيضاً..
***
وخلاصة القول، إن قصة (الوصول) قد حققت شرطها الإبداعي، إذ حولت
حكاية شفاهية ذات رؤية، ضيِّقة، إلى قصة ذات رؤية واسعة ومحتوى هادف،
وابتداع أساليب قص، مشوِّقة مثيرة، وصلت إلى المتلقي الصغير، بيسر، وبساطة
وشاعرية..
في جماليات السرد القصصي للأطفال
ـ قراءة في نصوص قصصية عراقية حديثة
حكايات الصغار التي استمعنا إليها مسحورين، مشدودين، نجهل مدى
تأثيرها فينا، إلاّ أنها بقيت راسبة في اللاوعي..
ويعود علم النفس، ليحلل طبيعة إعجاب الأطفال بالحكاية، وانشدادهم
إليها، إلى أنها لونٌ من ألوان اللعب الإيهامي الذي يحتاج إليه الصغار
وتشبّعه بعنصر الخيال.
ويرى آخرون؛ بأن القصة إضافة إلى كونها لون من اللعب الإيهامي، فهي
تشبه الحلم بالنسبة إلى الصغار، ففيها مجال رحب لإعادة التوازن في حياتهم،
يعني أن الأطفال من خلال اندماجهم مع أحداث القصة، يستطيعون أن يكتشفوا
أنفسهم، ومن خلال الحلم يدفعون حدود عالمهم المحدود إلى الخلف، وينطلقون
إلى عالم آخر، عالم الحلم والخيال.
وعند قراءتنا كليلة ودمنة، وألف ليلة وليلة، نلمس القوة الكامنة لدى
القاص الشعبي العربي، وهو يرسم بمهارة، آفاق الحلم والخيال وسحر اللعب
الإيهامي في تشكيل نصّه الحكائي، ليسحر الصغار والكبار على مر الأزمان،
بحكايات تتناقلها الأجيال.
في ألف ليلة وليلة، نلمس مهارة شهرزاد في سرد حكاياتها على مسامع
الملك شهريار طيلة ألف ليلة وليلة، من القص، والحكي، فتبهر الملك وتُعيد
إليه اتزانه، وثقته بنفسه، وتحوِّله إلى إنسان عادل، وأصبحت شخصيّات علي
بابا، وعلاء الدين، والسندباد البحري، من الشخصيات الفريدة، الحيّة،
وتتفوّق على شخصيات أيسوب اليوناني، ولافونتين الفرنسي، وبيديا الهندي،
والسوبرمان الأمريكي الحديث.
إن مهارة القاص العربي، قادته (إلى الأنسنة)، قبل أن يكتشفها عالم
النفس الحديث.
الأنسنة،كاصطلاح، تعني نقل صفات الإنسان إلى الحيوان، والجماد، بعد
أن (أنس) الطبيعة، والحيوان، وطوعهما من أجل خدمته. ورد هذا الاصطلاح في
كتابات الجاحظ، وأبو حيان التوحيدي، ثم اكتشفه الغربيون، مؤخراً إبان
الثورة الصناعية الحديثة. وعندما بدأ أدب الأطفال، بدايته التجريبية، على
يد نخبة مختارة من الكتاب، كهانز أندرسن الدانمراكي، وجول فيرن الفرنسي،
وتولستوي الروسي، وتشارلز ديكنز البريطاني، كانوا كلهم قد كتبوا تحت ظل
الحكاية الشفاهية والمكتوبة، بل أن أبرزهم يعترف بفضل الحكاية العربية،
وسحرها، وخيالها، عليه…
*****
ثمة سؤال عن الفرق بين القصة والحكاية، السؤال الجوهري والجواب:
إن الفكرة، والحادثة، والشخصية، والحوار، تمثل قسمات مشتركة بينهما،
إلاّ أن ما يفرّق بينهما هو: الكيفية التي يُبنى على أساسها النوع الأدبي
فهو الذي يعزّز نجاح العمل الأدبي وهويته أيضاً. فعناصر القصة والحكاية
تقرران: (أسلوباً أدبياً يهيئ لنا أن نعامل هذه العناصر لتكوين بناء عمل
فني متكامل)(1)
وما يميّز قصة الأطفال هو توفّر ثلاث عناصر أساسية هي (الوضوح
والقوة والجمال) فوضوح الأسلوب يعني أن يكون بمقدور الأطفال استيعاب
الألفاظ والتراكيب، وفهم الفكرة، وهذا لا يتيّسر مالم يكن النسيج اللفظي
بسيطاً وشفافاً وخالياً من الزخرفات، أما العنصر الثاني فهو قوة الأسلوب،
ويتمثل في إيقاظ حواس الطفل وإثارته وجذبه كي يندمج وينفعل بالقصة، عن طريق
نقل انفعالات الكاتب في ثنايا عمله القصصي، وتكوين الصور الحسية والذهنية،
أما العنصر الثالث فهو جمال الأسلوب الذي هو عنصر جمالي يسري في توافق نغمي
واستواء موسيقي مع العنصري السابقين.)(2)..
أما من الناحية البنائية، فثمة فرق نوعي بين النوعين الأدبيين
فللقصة قوانين بناء خاصة بها: (حدث، شخصية، حبكة، توصيل مناسب، وفكرة هادفة
محددة). أما الحكاية فلها قوانين بناء خاصة أيضاً: (حدث منطقي أو غير منطقي
التطور ـ شخصية أو عدة شخصيات تحكمها قوى خارجية، قدرية أو سحرية (جان ـ
عفاريت). شخصيات ليست ناتج فعلها، أو تحركها الأحداث أو تتفاعل معها، أما
الأفكار فهي ليست واقعية، بل مثالية، تجريدية عسيرة الفهم على المتلقي
الصغير…
وبالرغم من تقدم التقنيات الحديثة، وظهور الإلكترون، وبرامجه التي
غزت العالم من خلال الإلكترون، وظهور ما يسمى بالطفل الإلكتروني الذي يتغذى
إلكترونياً، وسيادة السوبرمان الأمريكي، إلاّ أنه لم يتمكن من طرد (علي
بابا) أو (السندباد البحري) من مخيلة المتلقي الصغير، إن تأثير الشخصية،
وسحرها، باتاً أداة توصيل لا غنى عنها. ومن خلاله نستطيع أن نوصل قيمنا
النبيلة، وسعيدٌ جداً من الكتاب الذين يستطيعون خلق خارق أو سوبر مان
محكي، يتفوق على السوبرمان الأمريكي، إن حالة كحال الباحثين عن الذهب، وقد
اكتشفوا كنزاً ثميناً….
****
القصص التي يتجّه إليها نور النقد، يجمعها قاسم مشترك واحد، أو
مزايا مشتركة واحدة، فهي تنتمي فنياً إلى نمط القصة القصيرة جداً، ذات
الحدث الواحد وتحرص على أن يكون بسيطاً يقود إلى دلالة محدّدة، كما تحرص
على التركيز، والاقتصاد في استخدام الألفاظ، وتستبعد كل وصف لا يقدم شيئاً
لطريقة عرض الحدث ولا يضيف شيئاً إلى الدلالة، وتطرق غرضها مباشرة، الميزة
الثانية هي لجوء القاصين: هي لجوء القاصين إلى الأنسنة)، يعني أن أبطال
القصص من الحيوانات والنباتات والجماد، مما يجعلها قريبة من مدارك المتلقي
الصغير فبطل قصة (الساقية) لسالم شاهين هي الأشجار والطيور والساقية. وبطل
قصةحلم فراشة لسعدي العقابي هي الفراشة والصغار، والأب والأم وأبطال قصة
(نخلة أحمد) لشاكر الكناني هي النخلة والأب، وأبطال قصة سلحفاة لحيدر غازي
هي السلحفاة والصبي، يعني أن الأبطال قد ارتبطوا بالطبيعة، باستثناء قصة
نخلة أحمد ـ التي واجهت قنابل الحرب ـ
نماذج قصصية:
الساقية ـ لسالم شاهين:
الأشجار شاخصات إلى الساقية التي كانت تحمل الماء كل يوم، لتروي
عطشهن، ولتغتسل به الطيور الجميلة، أما الآن فقد مسَّ الجميع العطش الشديد
ونفضت أكثر الأشجار ثمارها، فامتقع وجه الساقية، تتشاور الأشجار للخروج من
المأزق، وعندما تطرح شجرة الزيتون فكرة إرسال رسالة إلى المطر، تبادر شجرة
الرمان، بأن تعطي ورقة للكتابة.
وتتفق الأشجار، أن تعطي كل واحدة ورقة لكتابة الرسالة، ويبادر
الغراب والحمامة بإيصالها، هذه خلاصة لفكرة، وتوصيف لمشهدها العام، أما
المعنى العام فهو(انحباس المطر) مما يؤدي إلى انقطاع الماء في الساقية،
التي تحمله إلى الأشجار والطيور (مجتمع الغابة) مما يؤدي إلى خلخلة لنظام
العلاقات، ويصبح الموت قاب قوسين منهم، يعني أن الماء كان يمثل عندهم
الحياة، وجعلنا من الماء كل شيء حي) هذه الحالة أملت عليهم التشاور:
(وأمرهم شورى بينهم)، وأملت على الجميع الصبر والتحمل، وانتظار الأمل،
وأعطت القصة (قيمة التعاون)، أهمية، تعطي كل شجرة ورقة، ومبادرة الغراب
والحمامة بإيصال الرسالة..
عنصر الحوار، تغلّب على المتن القصصي، لكي يشد القارئ إليه،
ويثيره، ويشوّقه، دون أن يخيب أمله، أو يفسد عليه توقّعاته البريئة، لقد
ربط الكاتب القارئ بالانتظار، انتظار المطر؛ فعودة الحياة..
حلم فراشة ـ سعدي الـعقابي:
تحلم الفراشة أن تطير فوق الأزهار في حديقة المدينة، حلم صغير
بالنسبة إلى الكبير، وكبير بالنسبة إلى فراشة صغيرة تحلم بالربيع، والزهور
وإذ تكتمل رحلتها المثيرة، تنتقل مزهوّة، سعيدة، محلقّة، مبتعدة، في عمق
الحديقة، وما أن تداعب زهرة، حتى يفاجئها الخطر: مجموعة الأطفال الذين
يتصيّدون بشباكهم، ويقطفون الأزهار وتتذكر تحذير أبويها. وتفكر أن تقف على
يد صبي هادئ، فتجد عنده الأمان، فلما شاهد الأطفال ما جرى، منحوها الأمان،
بشرط أن تلعب معهم، وأصبحت هذه الواقعة تاريخاً، للعب الآمن بين الأطفال
والفراشات في الحدائق العامة، يعني أن الحدائق العامة، أصبحت ملاذاً
للفراشات والأطفال، ومكاناً فسيحاً للعب..
الكاتب قد انتصر للعب كقيمة تربوية إنسانية، وهو وجه من وجوه
الحرية، لا يستغني الكائن عنه..
انتقل الكاتب من حدث إلى آخر، دون أن يفقد حبكته، أو الحبل السري
لتطور الحدث، لقد تركنا الـعقابي نحلم بحديقة جميلة مع أسراب الطيور
والفراشات على أطراف مدينته الجميلة؛ إنه حلم الحرية….
نخلة أحمد ـ لشاكر الكناني:
في (130) كلمة، يرسم شاكر لوحة فنية جميلة، بالرغم من مناخ الحرب،
حيث تتعرّض العائلة العراقية الآمنة إلى قصف معادي، فتحترق نخلتهم الوحيدة،
يحدث ذلك في صباح كانون بارد، إلاّ أن أحمد ابن العائلة يظلّ يسقيها
ممتثلاً لنصيحة أبيه، وفي الربيع تفرح العائلة، لنخلتهم التي دبّت فيها
الحياة، وتكلّلت قامتها بتاج من السعف الأخضر، هذه هي الفكرة الأساسية،
ومشهدها العام، استطاع أن يرسمه القاص بكلمات قليلة، مُقْتَصدة ذات دلالة،
وإبلاغ فني مناسب. وترك في القارئ أثر نفسي، فالشخصية العراقية تتمثل
بالنخلة، تقف متحدّية، صابرة، صامدة، بالرغم من الحرب التي تخرّب، وتهدم.
إلى أقسى مافي الحرب، إنها تخرّب النفوس؛ أما في قصة (نخلة أحمد) فإن جذوة
الحياة تظلّ مشتعلة. فنخلة أحمد، أثمرت في الصيف وما زالت تثمر بالرغم من
جذعها الأسود…
القصةحاولت تكثيف الزمان والمكان، إذ جمعت الشتاء والربيع والصيف
والخريف في بيت عراقي، تنتصب في باحته نخلة هي سيدة الشجر.
أما البناء الفني، فقد جاء متوازناً، عرض لنا لوحتين: شتائية، حدث
فيها دوي مفزع، وقصف، ودخان كثيف، ولغط، وحريق. ولوحة ربيعية؛ حدث فيها
سرور وحبور وسعادة
النخلة العراقية قد اخضرّت، وبدت قمتها، متوّجة بتاج من السعف
الأخضر، إنه يجمع بين المدن والحياة، لكنه انتصر للحياة: إدامة السقي،
والمقاومة ضد الحرب والموت، أما جذعها الأسود، فهو شاهد على بشاعة الحرب
وهولها.
إن القصة قد انتصرت لكل القيم النبيلة من تفاؤل ومقاومة وبناء، إنها
قصة حرم وسلام في الوقت عينه.
قصة(سلحفاة) لحيدر غازي
يلتقط حيدر حدثاً يومياً عابراً، ويحوّله إلى لوحة فنية غير عابرة
تُثير فضولنا، فبطل قصته لا يلعب وحده، إنما يلاعب سلحفاة وقد (حملها بيديه
فرحاً، بينما أخفت السلفحاة رأسها وأطرافها داخل درعها الحصين)..
وعندما يُفاجئ الصبي بسكونها يهمس: (ماذا أفعل بسلحفاة ميتة؟)..
أعاد الصبي السلحفاة إلى الماء، فتحركت، ثم شكرته على فعله، فأطلق
هو الآخر ضحكة فرح)..
في القصة تبرز قيمة اللعب، واضحة، فالصبي أراد أن يلهو ويلاعب
السلحفاة، ولكن هذا اللهو اصطدم (بالسكون) فالموت، وعندما أعادها إلى
الماء، عادت إليها الحياة: (الحركة واللعب، أدرك الصبي أن اللعب معناه
إدامة الحياة للطرفين؛ هو يتمتع بالحياة خارج الماء، وهي تتمتع بحياتها
داخله.
الأفعال التي استعملها الكاتب، تُفيد التجسيد والحس، حمل، أقعى،
فعل، انتظر، قلّب، أعاد، أخرج، اندفع، أطلق، شارك، هذه الأفعال عززت من
الارتباط بين الصبي والمكان (بيئة النهر).. وبين الصبي والسلحفاة ككائن حي،
متكافئ الصفات مع النماذج البشرية.**…
الهوامش:
(1) انظر: هادي نعمان الهيتي. أدب الأطفال ـ ثقافته، فنونه،
وسائطه، وزارة الثقافة والإعلام ـ العراق ـ بغداد ـ 1978 ـ ص 118.
(2) المصدر نفسه: ص 119-120-121.
* يجد القارئ ملحقاً للنصوص المدروسة، وهي نصوص حديثة لكتاب
ظهروا في التسعينات، فازت قصصهم في المسابقات التي أقامتها دار ثقافة
الأطفال، وهيئة رعاية الطفولة. فقد فازت قصة (الساقية لسالم شاهين،
وبالجائزة التقديرية لعام 94، عن هيئة رعاية الطفولة، وفازت قصة حيدر
غازي:سلحفاة، بالجائزة التقديرية لعام 1998، عن دار ثقافة الأطفال..
** الساقية: سالم شاهين/1950/ خريج أكاديمية الفنون
الجميلة، كاتب أطفال ومخرج مسرحي، سعد العقابي،شاعر بحر 1955، خريج معهد
النفط، كاتب أطفال شاكر الكناني، طالب جامعي/ كاتب أطفال / 1960.
حيدر غازي / خريج المعهد الفني/ 1975، كاتب أطفال.
ملحق بالنصوص المدروسة
1 ـ الساقية ـ سالم شاهين:
صاحت النخلة بصوت حازم:
ـ لا تصرخ أيها الغراب، ودع الساقية تنام بسلام..
وقالت شجرة الزيتون : يجب ألا نبقى مكتوفي الأيدي..
وقالت شجرة أخرى: ـ وماذا نفعل أيتها الأشجار؟:..
وساد الصمت من جديد، وهنّ ينظرن إلى الساقية التي مسَّها المرض،
وقطعت شجرة التوت صمت الأشجار: يا عيني… لكم هو شاحب وجهها…
كلهن شاخصات إلى الساقية، التي تحمل الماء كل يوم لتروي عطشهن،
ولتغتسل به الطيور. أما الآن، فقد مسَّ الجميع العطش الشديد، ونفضت الأشجار
ثمارها قبل النضوج، مرت الأيام، وامتقع وجه الساقية.
صاحت شجرة التين بعزم: إذا بقينا فسنموت جميعاً..
وقالت شجرة التوت: ارحمنا يارب فأنت الرحمن الرحيم..
وقالت شجرة الرمان بصوت يائس: ما أتعس حظنا…
فقالت شجرة الزيتون بوقار: لنبعث إلى المطر علّه ينقذنا من المحنة..
فرحت شجرة التفاح: أجل لنرسل رسالة إلى المطر. وهذه ورقة مني..
وقالت شجرة التين: ورقتي أكبر..
أجابت ورقة الزيتون: بل ستقدم كل منكن ورقة لكتابة الرسالة..
فرحت الأشجار، وكتبن الرسالة، وتقدم الغراب قائلاً:
وسأحملها إلى المطر، وقالت الحمامة: سأكون معك أعينك على حملها وطار
الاثنان، بعد أن ودّعا الأشجار، واختفيا عن الأنظار وبقين ينتظرن مجيء
المطر..
2 ـ حلم فراشة ـ سعدي الـعقابي:
استعدت الفراشة الصغيرة التي اكتملت أجنحتها للطيران صباح غد.
هو اليوم الأول الذي تحلّق فيه فوق الأزهار في الحديقة التي تقع في
أطراف المدينة، كانت تملؤها الرغبة في الطيران، والرقص فوق الأزهار، وتحت
ضياء الشمس الدافئة في ربيع دافئ جميل، سألت الفراشة الصغيرة أبواها:
ـ أهناك خطر على الفراشات في الحديقة؟
فأجابا:
ـ نعم يا فراشتنا الجميلة. ثمة أطفال صغار يعبثون فاحذري أن تقعي في
شباكهم..
أخذ الفراشة، حلم جميل، فقد استيقظت في صباح ربيعي ندي تنفسّت
مبكرة، وبدأت رحلتها الأولى بين الأزهار، تنتقل مزهوّة، سعيدة، محلّقة،
وتوغلّتْ في عمق الحديقة، مبتعدة وهي تداعب زهرة، طرق سمعها ضجيجاً، سدَّ
عليها طريقها، فعرفتْ، أنه الخطر الذي حذّرها منه أبواها.
حدقّت، فرأتهم يقتلعون الغرسات الصغيرة، ويقطعون الأزهار، شعرت
بالخوف، فحاولت الطيران، والإفلات منهم، إلاّ أن فكرة قد ارتسمت في ذهنها،
وهي أن تستنجد بطفل هادئ الطبع، يسير بتمهل، فاستقرت على يد الطفل تعبة،
خائفة حزينة، فوجدت عنده الأمان، فقال لها: لا تحزني، ولا تخافي فلما شاهد
الأطفال ما جرى، منحوها الأمان، بشرط أن تلعب معهم كلهم…
ومنذ ذلك الحين، اعتادت الفراشات أن تلعب، وتمرح مع الأطفال في
الحدائق العامة..
3 ـ سلحفاة ـ حيدر غازي سلمان.
حملها بيديه فرحاً، بينما أخفت السلحفاة رأسها، وأطرافها داخل درعها
الحصين.
ظلّت ساكنة تنتظر خلاصها، فقال: (ماذا أفعل بسلحفاة ميتة؟) وقلبّها
مفكراً..
طرأت فكرة في رأسه وقال: لماذا لا أعيدها إلى الماء؟!..
أحسَّت ببرودته، فأخرجت رأسها وأطرافها رامقة الصبي بنظرة شكر،
واندفعت بقوة..
أطلق الصبي ضحكته فرِحاً ليشارك السلحفاة فرحها بعودتها إلى الماء.
4 ـ نخلة أحمد ـ شاكر الكناني:
ذات يوم، في صباح كانون بارد، تستيقظ العائلة على دوي مفزع، فتهرع
إلى باحة الدار، وتسمع لغطاً في الشارع القريب، ونداء:
ـ إلى الملاجئ.. إلى الملاجئ… قصف…قصف…قصف…
ويسود صمت، ثم ينتشر دخان كثيف.. ينبئُ عن حريق، فيصرخ ابن العائلة:
ـ لقد احترقت نخلتنا.. لقد ماتت…
فيردّ والده بثقة:
ـ ألم أقل قبل أيام أن النخلة لا تموت أبداً.. اسقها يا بني..
ظلّ الصبي أحمد مواظباً على سقي نخلته يومياً، بدلو من الصفيح،
ممتثلاً لنصيحة أبيه..
وفي يوم من أيام الربيع، ينادي أحمد أباه فرحاً:
ـ في نخلتنا خوصة خضراء..
يحتضن الأب ولده، ويقبّله بين عينيه، ثم يرسل نظراته إلى قمة النخلة
ليرى خوصة خضراء فعلاً، تتبعها خوصتان. فثلاث خوصات، فسعفة خضراء، فسعفتان،
فثلاث سعفات متصّلات بتاج من السعف الأخضر، يكلّل قمة النخلة.
ومرّ الربيع، وجاء الصيف، فأثمرت نخلة أحمد بالرغم من لون جذعها
الأسود..
تولستوي يقرأ ألف ليلة وليلة..
النص الثاني لتولستوي، الذي يظهر فيه تأثره بالحكاية
العربية وبالذات في ألف ليلة وليلة.
النص الأول كان متأثراً بـ(كليلة ودمنة)
انظر: مجلة الاستشراق.. وزارة الثقافة والإعلام .. بغداد
العام 1990 ـ مقالنا (تولستوي يقرأ كليلة ودمنة)..
مرة ثانية، يحالفني الحّظ باكتشاف أدبي ثانٍ، فقد وقع الروائي
المشهور ليو تولستوي (1828-1910)، تحت مظلة ألف ليلة وليلة، متأثراً بإحدى
حكاياتها الساخرة: حكاية الملك السندباد.
قصة تولستوي بعنوان (الصقر والملك)، وقد قام بالترجمة: كامل يوسف
حسني، وصدرت عن دار ثقافة الأطفال العراقية، العام 1981.
وقد أجريت مقارنة نصيّة، بيّنتُ فيها أوجه التشابه والتطابق،
والإبداع بين النصين، ووجدت أن النصين يتقاربان من حيث فضاء النص،
والشخصيات، والتيمة القصصية الأساسية، والفكرة الأساسية، لكنهما يختلفان؛
كون الحكاية الأولى، تسير في مجال الحكاية الشعبية، وقوانين بنائها
الداخلي، من حيث كونها تتوجه إلى القارئ العام. وتخضع لنمط الحكاية،
وخصائصها العامة التي تتصّف بها ألف ليلة وليلة.
فالحكاية في "ألف ليلة وليلة"، تخضع (لنمط الإطار) والإطار، تعني
القصة الخارجية التي تنطوي بداخلها قصص أخرى، فتوحدها، بحيث تبدو قصة إطار
كبرى تربط بدايات القصص، ونهاياتها في وحدة لا تنفصم، ولا يمكن فصمها، أو
إزالتها، وهذا النمط جاء، كحاجة ضرورية، فرضتها طبيعة السرد القصصي، والحكي.
لذا يجد القارئ لنصوص الليالي، أنه أمام بُنْية نصّية تُشيَّد
عمارتها الفنية بشكل راق.
والقارئ لنص: (حكاية الملك السندباد): يكشف حكايتين صغيرتين:
تتجاوران، وتُشيران بخط مستقيم من البداية إلى النهاية، دون أن يملّهما، بل
تبدوان كعنصرين متحدّيْن..
أما نص (الملك والصقر) لتولستوي، فهي موجهة للأطفال أو الأحداث،
وتأخذ شكلها الطبيعي من طبيعة قصة الأطفال وشروطها الفنية وقوانين بنائها
الداخلي. بحيث تظهر لنا؛ قصة متفرّدة، منتقاة، حية، شذّبها تولستوي، وأزال
المتخلف فيها، وأبقى من القصة الأولى: روحها وأصالتها، وسر الديمومة فيها،
ويلتقي تولستوي في هذا الصدد، برؤية أونترماير الشاعر الأمريكي الذي أعاد
الحياة إلى جسد (66 حكاية عالمية)، فأصبحت من الحكايات الكبرى في العالم..
أترك للقارئ المقارنة بين الحكاية الأم، والحكاية البنت، ليشارك في
كشف أوجه التشابه، والتأثير، والإبداع بنفسه، دون أن نثقله بالتنظير الذي
قد يفسد عليه، تذوّق النصّين.
ولكني على يقين، إن النصين يمتلكان شروط الإبداع والصور بالقارئ إلى
المستقبل.
النصان:
1 ـ حكاية الملك السندباد ـ ألف ليلة وليلة..
(حُكي إن ملكاً من ملوك الفرس، كان يُحبُ التنزه والصيد، وكان له
باز لا يفارقه ليلاً ولا نهاراً، وكان إذا خرج إلى الصيد يأخذه معه، وصنع
له إناءً من الذهب علقّه في رقبته ليسقيهُ منه.
وبينما الملك جالس ذات يوم إذا بأمير الرخة يقول: يا ملك الزمان،
هذا أوان الخروج إلى الصيد. فأمر الملك بالخروج، وأخذ الباز على يده،
وساروا جميعاً إلى أن وصلوا إلى واد، ضربوا فيه حلقة الصيد، وإذا بغزالة
وقعت في حلقة الصيد. فقال الملك: كُل من وثبت الغزالة من فوق رأسه ونجتْ،
قتلته، ضيقّوا عليها حلقة الصيد. قدمت الغزالة من الملك فوقفت على رجليها،
وحطت يديها على صدرها، كأنما تريد تقبيل الأرض أمام الملك، فطأطا لها، إذا
بها تثب من فوق رأسه، وتنطلق هاربة.
فالتفت الملك إلى رجاله، فوجدهم يتقافزون، فقال لوزيره:
ـ ماذا يقول هؤلاء؟
فقال: يقولون: إنك هدّدت بالقتل كل من تقفز الغزالة من فوق رأسه.
فقال الملك: والله لأتبعنها حتى أجيء بها.
وجرى الملك وراء الغزالة، ولم يزل يتبعها حتى وصلت إلى جبل من
الجبال، فأرادت أن تعبر إليه فأطلق الباز وراءها، فأخذ يلطمها في عينها إلى
أن أعماها ودوخّها، فضربها الملك بدبوس فقتلها، ثم ذبحها وسلخها وعلقها
بسرج جواده، وكان الحر شديداً والغابة مقفرة لا يوجد فيها ماء، فعطش الملك،
وعطش الحصان، ورأى الملك شجرة تتساقط منها قطرات من الماء، فأخذ الملك
الكأس من رقبة الباز وملأه من ذلك الماء، وأدناه من فمه ليشرب، وإذا
بالباز يلطم الكأس فيقلبه. فأخذ الملك الطاس ثانية وملأه من ذلك الماء
وقدّمه من الباز ليشرب فلطمه الباز مرة أخرى.
فانقبض الملك من الباز وقام للمرة الثالثة فملأ الكأس ماء وقدمه
للحصان فقلبه الباز بجناحه. فقال له الملك:
ـ يا اشأم الطيور حرمتني الشرب وحرمت نفسك حرمت الحصان!..
وضربة بسيفه فرمى جناحيه، وأخذ الكأس ليملأه من جديد، وإذا بالباز
يصرخ، ويشير إلى أعلى الشجرة، فرفع الملك بصره، فرأى فوق الشجرة حية كبيرة
يسيل سمّها، وإذا الماء يملأ منه الطاس قطرات من السم.
فعرف عند ذاك لماذا منعه الباز من شرب الماء، وندم على ضربه، وقص
جناحيه، وعاد بالغزالة إلى القصر فأعطاها للطبَّاخ ليشويها، ولم يكد يستقر
في مكانه حتى انتفض البازومات. فبكى الملك حزناً لأنه قتله ظلماً وقد خلصّه
من الهلاك.
2 ـ نص تولستوي (الصقر والملك).. من مجموعته ( البطة
والقمر)..
خرج أحد الملوك ذات يوم في رحلة صيد، وأطلق صقره الأثير، لينقضّ على
أرنب بري، وانطلق بجواده خلفه..
أمسك الصقر بأرنب بري، فأخذه الملك منه، ثم بدأ يبحث عن ماء ليروي
ظمأه، فعثر على ماء في صخور أحد التلال، لكنّ الماء، كان ينساب، قطرة
فقطرة، أخذ الملك قدحاً من سرج جواده، ووضعه تحت سيل الماء، أخذ الماء
يتساقط قطرة فقطرة، وحينما امتلأ القدح، رفعه الملك إلى فهمه وهمَّ
بالشرب..
فجأة، تحفّز الصقر الجاثم على رُسْغُ الملك، ورفَّ بجناحيه، فانسكب
الماء من القدح، ومرة أخرى وضع الملك القدح تحت سيل الماء، وانتظر وقتاً
طويلاً، حتى امتلأ القدح، إلى حِفافهِ ومن جديد، وبينما كان يهمُّ برفعه
إلى فمه، رفَّ الصقر بجناحيه، فسكب الماء..
وحينما ملأ الملك القدح للمرة الثالثة، وأوشك أن يرفعه إلى شفتيه،
سكبه الصقر، فاشتعل الملك غضباً، والتقط الملك غضباً، والتقط حجراً، ورجم
به الصقر بكل قوته فقتله. ثم لحق خدم الملك به، وصعد أحدهم عدْواً إلى أعلى
التل، حيث يوجد النبعُ، ويتدفقُ المزيد من الماء، فيمكنُ ملء القدح سريعاً،
وعادالخادم بالقدح فارغاً وهو يقول: ليس بوسع المرء أن يشرب من ذلك الماء،
فهناك ثعبان في النبع، وقد بثَّ سمه في الماء، ولو أن جلالتكم كنتم قد
شربتم منه لهلكتم: قال الملك:
ما أسْوأَ ما جزيت به الصقر. لقد أنقذ حياتي فقتلته…
ملحق دليل الأعلام:
1 ـ لافونتين (1621-1695) ـ شاعر فرنسي.
2 ـ تولستوي (1828-1910) ـ كاتب روسي.
3 ـ ابن المقفع: مترجم كليلة ودمنة.
4 ـ يوري إيفانز: كاتب صهيوني معاصر.
5 ـ هانز أندرسن ـ كاتب دانماركي
6 ـ جول فيرن ـ كاتب فرنسي
7 ـ تشارلز ديكنز ـ كاتب إنكليزي
8 ـ زكريا تامر ـ كاتب سوري .
9 ـ جبرا إبراهيم جبرا ـ كاتب وروائي فلسطيني مقيم في
العراق ـ راحل.
10 ـ أيسوب: كاتب حكايات يوناني له (خرافات أيسوب).
11 ـ سرغي بارودين: شاعر وكاتب هنغاري معاصر.
12 ـ طلال حسن ـ قاص للأطفال ـ عراقي معاصر ـ (1939- ).
13 ـ حسن موسى ـ قاص للأطفال ـ عراقي معاصر ـ (1953- ).
14 ـ فاضل عبد الواحد ـ أستاذ آثار مترجم ـ عراقي معاصرـ
(1930).
15 ـ منير عبد الأمير ـ روائي ومترجم عراقي معاصرـ (1935).
16 ـ كامل يوسف حسين ـ مترجم بحريني معاصر ـ (1940).
17 ـ محمد شمسي / كاتب أطفال عراقي راحل (1940-1996).
18 ـ محمد الطاهر ـ كاتب ومترجم ـ .
19 ـ بوريس زاخودير / كاتب أطفال روسي معاصر.
20 ـ لوريس أونترماير ـ شاعر، وكاتب أمريكي معاصر.
21 ـ غانم الدباغ ـ قاص وروائي ومترجم حكايات، راحل.
22 ـ هادي نعمان الهيتي: ناقد وباحث جامعي عراقي معاصر ـ
(1940).
23 ـ داود سلوم ـ أستاذ جامعي في الأدب المقارن ـ معاصر
(1935.)
24 ـ عبد الرزاق المطلبي ـ قاص أطفال وروائي عراقي معاصر
(1940).
25 ـ فاروق يوسف ـ شاعر وناقد تشكيلي معاصر (1950).
26 ـ عبد الإله رؤوف ـ قاص أطفال معاصر ـ (1935.)
27 ـ جعفر صادق محمدـ دكتور ـ قاص عراقي للأطفال معاصر
(1950).
28 ـ صلاح محمد علي ـ قاص أطفال معاصر (1948).
29 ـ خضير عبد الأمير ـ قاص وروائي عراقي معاصر (1930)..
30 ـ حسن زبون موسى ـ قاص أطفال عراقي معاصر (1948).
|
|
محسن ناصر الكناني / واسط / العراق1947.
-معلم /متقاعد.
من مواليد واسط 1947، قاص
وباحث وناقد، عضو اتحاد الأدباء والكتاب في العراق، له العديد من المجموعات
القصصية حيث صدرت مجموعته القصصية الأولى (اللامبالي) عام 1967 ، كما نشر
العديد من القص في الصحف والمجلات العراقية والعربية وقدم بحوثا ودراسات في
مجال قصة الطفل، وحاز على عدة جوائز تقديرية في مجال القصة القصيرة وأدب
الأطفال.
صـدر للمؤلف:
1 ـ اللا مبالي ـ مجموعة قصص 1968.
2 ـ تلك الليالي ـ مجموعة قصص 2000.
المخطوط:
1 ـ نهار محترق ـ قصص قصيرة.
2 ـ الديكة تهزم الملوك ـ قصص للأطفال.
3 ـ حكايات الموقد ـ قصص للأطفال.
4 ـ حلم كلكامش ـ مسرحية أطفال.
|
5 ـ الطفولة في المشهد القصصي العراقي منذ الحرب العالمية الثانية.
6 ـ قصاصون عراقيون.
دراسة ومختارات:
ـ فاز بجائزتين تقديرتين: الأولى عن هيئة رعاية الطفولة في العام
1994، عن قصته الجراد. والثانية عن دار ثقافة الأطفال في العام 1998 عن
قصته (الغابة)
ـ فاز بالمرتبة الثالثة في المسابقة القصصية التي أقامتها مجلة
التضامن في العام 1989، وفازت قصته (الصبي الريفي) ذات المئة كلمة.
أضيفت في02/03/2006/ خاص القصة السورية
|